المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

سبحانه وتعالى (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

يقول ابن القيم : فجعل التوكل شرطا فى الإيمان ، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل ، وجعل دليل صحة الإسلام التوكل.

وقال تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فذكر اسم الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه ، وكلما قوى إيمان العبد كان توكله أقوى وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والهداية ... فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل (٢).

ويقول أيضا : وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها ، فأول ذلك : معرفة بالرب وصفاته : من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها من مشيئته وقدرته.

قال شيخنا : ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين : بأنه يكون فى ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات (٣). اه

وفى كتابه الفوائد يقول :

التوكل على الله نوعان :

أحدهما : توكل عليه فى جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع

__________________

(١) سورة المائدة / ٢٣.

(٢) طريق الهجرتين ص : ٢٥٥ ـ ٢٥٨.

(٣) مدارج السالكين ١ / ١٢٣.

٢٤١

مكروهاته ومصائبه الدنيوية.

الثانى : التوكل عليه فى حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.

وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله فمتى توكل عليه العبد فى النوع الثانى حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية ومن توكل عليه فى النوع الأول دون الثانى كفاه أيضا ، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه فأعظم التوكل عليه : التوكل فى الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل (١).

ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله (ت ١٢٣٣ ه‍) :

لكن التوكل على غير الله قسمان :

أحدهما : التوكل فى الأمور التى لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت فى رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى.

الثانى : التوكل فى الأسباب الظاهرة العادية كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك فهذا نوع شرك خفى. والوكالة الجائزة هى توكل الإنسان فى فعل مقدور عليه. لكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله. بل يتوكل على الله ويعتمد عليه فى تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الإسلام (٢). اه

وبهذه النقول تتضح لنا صور التوكل ومتعلقاته.

والروايات المتقدمة عن الإمام أحمد تناولت جانبا من الجوانب المتعلقة بالتوكل وهو العمل والكسب وضرورة اتخاذ الأسباب وأن ذلك لا ينافى مطلقا التوكل المأمور به ، وهذا هو المفهوم الصحيح للتوكل لا كما يفهمه البعض الذين

__________________

(١) المصدر المشار إليه ص : ٨٦.

(٢) تيسير العزيز الحميد ص : ٤٩٧ ـ ٤٩٨. وانظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية ١٠ / ٢٥٧.

٢٤٢

تركوا الأسباب المشروعة ظنا منهم أن فى الأخذ بها قدحا فى التوكل ، وهذا الفهم جهل بالتوكل ومعناه.

يقول ابن القيم بعد ذكره لعدة أحاديث أمرت بالتداوى.

فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والأمر بالتداوى وأنه لا ينافى التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التى نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح فى نفس التوكل كما يقدح فى الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافى التوكل الّذي حقيقته اعتماد القلب على الله فى حصول ما ينفع العبد فى دينه ودنياه ودفع ما يضره فى دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للأمر والحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا (١). اه

وما من شك أن الله سبحانه وتعالى قد كتب لكل إنسان رزقه وما هو مقسوم له فالرزق مضمون وما على المؤمن إلا أن يتوكل على الله عزوجل ويثق به ويتخذ الأسباب المشروعة والمأمور بها لتحصيل ما كتبه الله تعالى له.

وقد يعتقد البعض أن اتخاذ الأسباب المشروعة لا فائدة منه ويقول : إن كان قد قدر لى شيء حصل وإن لم يقدر لم يحصل سواء سعيت أم لم أسع وهذا مفهوم خاطئ فالله سبحانه وتعالى جعل السبب لحصول المطلوب ويقضى الله بحصوله بإذنه إذا فعل العبد السبب وقام به.

يقول ابن الجوزى : وقد تشبث القاعدون عن التكسب بتعللات قبيحة منها أنهم قالوا : لا بد أن يصل إلينا رزقنا وهذا فى غاية القبح فإن الإنسان لو ترك الطاعة وقال : لا أقدر بطاعتى أن أغير ما قضى الله عليّ فإن كنت من أهل الجنة فأنا إلى الجنة أو من أهل النار فأنا من أهل النار. قلنا له : هذا يرد

__________________

(١) زاد المعاد ٣ / ٦٧.

٢٤٣

الأوامر كلها ... ومعلوم أننا مطالبون بالأمر لا بالقدر (١). اه

والعمل والكسب إلى جانب مشروعيته فهو أيضا مما يؤجر ويثاب عليه المسلم وذلك لما يترتب عليه من اكتفاء المسلم ومن يعول عن سؤال الناس والتطلع إلى ما فى أيديهم.

فمن ترك العمل وقعد عن البحث عن مصادر الرزق التى أحلها الله عزوجل بحجة التوكل فقد جهل معنى التوكل بل جهل جانبا من مفهوم هذا الدين العظيم ، فالعجز والتواكل والتكاسل له آثار خطيرة على الفرد والمجتمع ، فمن بعض هذه الآثار تفشى الفقر والبطالة فى المجتمع الإسلامى ، وهذا يناقض أهداف الإسلام. فترك العمل سبيل للتخلف والضعف والهوان والإسلام دين العزة والمنعة.

والمطلوب من المسلم العمل فى هذه الحياة لما يحقق له ولأسرته الاكتفاء وعدم الحاجة إلى الغير لكن لا يجعل العمل وجمع الأموال هو هدفه الرئيس في هذه الحياة فالهدف من وجوده عبادة الله عزوجل قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وإنما شرع له العمل صيانة لنفسه ولأسرته وهو فى نفسه ـ أى العمل ـ عبادة إذا كان بنية خالصة وكان الدافع الاكتفاء عن الناس والتقوى بكسبه على طاعة الله عزوجل والإنفاق والتصدق ، وهذا تفيده أحاديث صحيحة كثيرة.

وأيضا جمع المال من الطرق المشروعة لا ينافى التوكل ولا يخالفه خلافا لما يعتقده البعض من أن فى جمع المال منافاة للتوكل وأنه لا يصح التوكل إلا بالخروج والتجرد من الأموال ، وهذا قصور فى فهم التوكل ، والأحاديث الدالة على شرف المال وجواز جمعه بالطرق المشروعة كثيرة ، والله عزوجل عظّم قدر المال وأمر بحفظه ونهى عن تبذيره فقال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) (٢) ، وقال : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ

__________________

(١) تلبيس إبليس ص : ٢٨٦.

(٢) سورة النساء / ٥.

٢٤٤

أَمْوالَهُمْ) (١).

فجمع المال ليس فيه منافاة للتوكل بأى حال من الأحوال ، بل قد يكون المال معينا لصاحبه فى التقرب إلى الله عزوجل ، فالمال بحد ذاته نعمة من نعم الله عزوجل على الإنسان ومن الحماقة رفض ما أنعم الله تعالى به وأباحه ، وإنما المهم هو كيفية التصرف بهذه النعمة فمن جمع المال من الطرق المشروعة وأنفقه فيما يحبه الله ويرضاه فهذا قد وفق إلى سلوك الصراط المستقيم ، وأما من يجمع المال ثم ينفقه فى معصية الله فسوف يعود عليه بالوبال وسوء الحال ، فالعلة إذا ليست فى جمع المال وإنما فى كيفية التصرف فيه. وبالله التوفيق.

__________________

(١) سورة النساء / ٦.

٢٤٥

قول الإمام أحمد فى المسألة

قال أبو داود :

٧٥٠ ـ سمعت أحمد سئل عن من تحل له المسألة. فقال : لا تحل لرجل عنده ما يبيته (١).

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٧٥١ ـ سمعت أبا عبد الله وسئل عن حديث عمر رضى الله عنه فى الاستشراف فقال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما آتاك الله عزوجل من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه وتموله» (٢).

قال أبو عبد الله : وإشراف النفس أن تقول : يبعث إلى فلان بكذا وكذا. ولا بأس أن يأخذ إذا كان من غير إشراف فله أن يرد أو يأخذ وهو بالخيار ، وإذا كان عن إشراف نفس فلا يأخذ (٣).

التعليق :

تقدمت الروايات عن الإمام أحمد والتى يحث فيها على العمل والكسب وأن هذا لا ينافى التوكل مطلقا ، وتقدمت الإشارة أيضا فى بعض تلك الروايات إلى النهى عن المسألة لما فيها من تعريض المسلم نفسه وأهله للذل والهوان خاصة إذا كان السائل مقتدرا على الكسب والعمل ، والإمام أحمد استلهم ذلك كله مما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى أحمد (٤) ، وأبو داود (٥) ،

__________________

(١) مسائل أبى داود ص : ٨٤.

(٢) رواه النسائى ٥ / ١٠٤. وصححه السيوطى انظر : فيض القدير ٥ / ٤٠٧ وهو مروى بنحوه عن عدد من الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر : مجمع الزوائد ٣ / ١٠٠ ـ ١٠١.

(٣) مسائل ابن هانئ ١ / ١١٩ وانظر ج : ٢ / ٢٣٩.

(٤) فى المسند ٣ / ١١٤.

(٥) فى السنن ٢ / ٢٩٢.

٢٤٦

وابن ماجة (١) ، والبيهقى (٢) عن أنس بن مالك : أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكى إليه الفاقة ثم رجع فقال : يا رسول الله جئتك من عند أهل بيت ما أرانى أرجع إليهم حتى يموت بعضهم قال : فقال له : «انطلق هل تجد من شيء؟» قال : فانطلق فجاء بحلس وقدح فقال يا رسول الله : هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه ويكتسون بعضه وهذا القدح كانوا يشربون فيه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يأخذها منى بدرهم» فقال رجل : أنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يزيد على درهم» فقال رجل : أنا آخذهما باثنين. فقال : «هما لك» فدعا الرجل فقال له : «اشتر بدرهم فأسا ، وبدرهم طعاما لأهلك» قال : ففعل ثم رجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «انطلق إلى هذا الوادى فلا تدع حاجا ولا شوكا ولا حطبا ولا تأتينى خمسة عشر يوما» قال : فانطلق فأصاب عشرة قال : «فانطلق فاشتر بخمسة طعاما لأهلك وبخمسة كسوة لأهلك». فقال : يا رسول الله لقد بارك الله لى فيما أمرتنى ، فقال : «هذا خير من أن تجيء يوم القيامة وفى وجهك نكتة المسألة إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة : لذى دم موجع وغرم مفظع وفقر مدقع» وهذا لفظ البيهقى.

وروى أحمد (٣) ، وابن ماجة (٤) ، والنسائى (٥) ، والحاكم (٦) ، وغيرهم عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى».

__________________

(١) فى السنن ٢ / ٧٤٠.

(٢) فى شعب الإيمان (ق ١٠٦ / أ).

(٣) فى المسند : ٢ / ٣٨٩.

(٤) فى السنة : ١ / ٨٩٥.

(٥) فى السنن : ٥ / ٩٩.

(٦) فى المستدرك : ١ / ٤٠٧.

٢٤٧

ورواه عبد الرزاق (١) وأبو داود (٢) والترمذي (٣) والدارقطنى (٤) والحاكم (٥). وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر.

ورواه أحمد (٦) ، وعبد الرزاق (٧) ، وأبو داود (٨) ، وابن ماجة (٩) ، والحاكم (١٠) ، من حديث أبى سعيد الخدرى وروى أبو داود (١١) ، والنسائى (١٢) عن عبيد الله ابن عدى بن الخيار أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن شئتما ولا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب».

وروى البخارى (١٣) ومسلم (١٤) وأحمد (١٥) وابن ماجة (١٦) عن الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتى الجبل فيجىء بحزمة من حطب على ظهره فيبيعه فيستغنى بها ، خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».

قال ابن حجر : وفيه الحث على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن

__________________

(١) فى المصنف ح : ٧١٥٥.

(٢) فى السنن : ٢ / ٢٨٥.

(٣) فى السنن ح : ٦٤٧.

(٤) فى السنن : ٢ / ١١٩.

(٥) فى المستدرك : ١ / ٤٠٧.

(٦) فى المسند : ٣ / ٥٦.

(٧) فى المصنف ح : ٧١٥١.

(٨) فى السنن : ٢ / ٢٨٨.

(٩) فى السنن ح : ١٨٤١.

(١٠) فى المستدرك : ١ / ٤٠٧.

(١١) فى السنن : ٢ / ٢٨٥.

(١٢) فى السنن : ٥ / ٩٩.

(١٣) فى الصحيح ٤ / ٣٠٤.

(١٤) فى الصحيح ٢ / ٧٢١.

(١٥) فى المسند ١ / ١٦.

(١٦) فى السنن ١ / ٥٥٨.

٢٤٨

المرء نفسه فى طلب الرزق وارتكب المشقة فى ذلك ... وذلك لما يدخل على السائل من ذل السؤال ومن ذل الرد إذا لم يعط ...

وأما قوله : «خير له» فليست بمعنى أفعل التفضيل إذ لا خير فى السؤال مع القدرة على الاكتساب (١). اه

فمن أهم نتائج العمل الترفع عما فى أيدى الناس وعدم سؤالهم فالسائل لغير الله عزوجل إذا كان قادرا على الكسب أو عنده ما يكفيه كأنه بسؤاله للناس متوكلا عليهم منتظرا منهم العطاء أو المنع وهذا مخالف للتوكل على الله عزوجل لما فيه من الذلة وإراقة ماء الوجه والالتفات إلى غير الله تعالى فى السؤال والطلب.

يقول النووى : مقصود الباب وأحاديثه النهى عن السؤال واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة واختلفوا فى مسألة القادر على الكسب على وجهين :

أصحهما : أنها حرام لظاهر الأحاديث.

والثانى : حلال مع الكراهة بثلاث شروط : أن لا يذل نفسه ، ولا يلح فى السؤال ، ولا يؤذى المسئول فإن فقد أحد هذه الشروط فهى حرام باتفاق. والله أعلم (٢).

__________________

(١) فتح البارى ٣ / ٣٣٦.

(٢) مسلم بشرح النووى ٧ / ١٢٧.

٢٤٩

قول الإمام أحمد فى الحب فى الله

قال ابن أبى يعلى :

٧٥٢ ـ أنبأنا أبو بكر المقرى (١) أخبرنا أحمد السوسنجردى (٢). أخبرنا أبو بكر بن بخيت (٣) حدثنا محمد بن عيسى (٤) حدثنا أبو بكر المروزي قال : قيل لأبى عبد الله : ما الحب فى الله؟ قال : هو أن لا تحبه لطمع فى دنياه (٥). اه

التعليق :

روى البخارى (٦) ، ومسلم (٧) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله : ... ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ...» الحديث.

وروى البخارى (٨) ، ومسلم (٩) عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان من كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ...» الحديث. فالتحاب فى الله عزوجل له منزلة عظيمة فهو دلالة على

__________________

(١) لعله : أحمد بن عمر الأشعث ، قال ابن النجار : كان مجودا متقنا عارفا بالروايات.

المستفاد من ذيل تاريخ بغداد ١٨ / ٦٤ ، طبقات القراء لابن الجوزى ١ / ٩٢.

(٢) هو : أحمد بن عبد الله بن الخضر. قال الخطيب : كان ثقة مأمونا دينا حسن الاعتقاد شديدا فى السنة ت / بغداد ٤ / ٢٣٧.

(٣) هو : محمد بن عبد الله بن خلف العكبرى ، محدث ثقة. ت / بغداد ٥ / ٤٦١ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٣٤.

(٤) لم أتمكن من تحديده.

(٥) ط / الحنابلة ١ / ٥٦ ـ ٥٧.

(٦) فى الصحيح ٢ / ١٤٣.

(٧) فى الصحيح ٢ / ٧١٥.

(٨) فى الصحيح ١ / ٦٠.

(٩) فى الصحيح ١ / ٦٦.

٢٥٠

حب الله.

يقول شارح الطحاوية : فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله ، وإن كانت المحبة التى لله لا يستحقها غيره ، فغير الله يحب فى الله لا مع الله ، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغضه ، ويوالى من يواليه ، ويعادى من يعاديه ، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه ، ويأمر بما يأمر به ، وينهى عما ينهى عنه ، فهو موافق لمحبوبه فى كل حال ، والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ونحن نحب من أحبه الله والله لا يحب المفسدين ولا يحب المستكبرين ونحن لا نحبهم أيضا ونبغضهم موافقة له سبحانه وتعالى (١). اه

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٣٢.

وانظر كتاب تيسير العزيز الحميد ص : ٤٦٦ ـ ٤٨٣.

٢٥١

قول الإمام أحمد فى الخوف والرجاء

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٧٥٣ ـ قال أبو عبد الله : ينبغى للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدا (١).

التعليق :

كما ذكر الإمام أحمد يجب أن يكون الخوف والرجاء من الله متوازنين فى قلب المؤمن فلا يطغى الخوف على الرجاء أو الرجاء على الخوف وكما قال أبو على الروذبارى : الخوف والرجاء كجناحى الطائر إذا استويا استوى الطائر وتم طيرانه وإذا نقص واحد منهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا جميعا صار الطائر فى حد الموت ، لذلك قيل : لو وزن المؤمن ورجاؤه لاعتدلا (٢). اه

وسأتكلم الآن عن كل واحد منها لتتضح لنا مكانتهما من الإيمان وضرورة تساويهما.

أما الخوف من الله تعالى فهو شرط فى تحقيق الإيمان وهو على ثلاثة أقسام ذكرها الشيخ سليمان بن عبد الله (ت ١٢٣٣ ه‍) ـ إذ يقول :

أحدها : خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته ، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة ، أو على سبيل الاستقلال ، فهذا لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا ، لأن هذا من لوازم الإلهية فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف فهو مشرك ، وهذا هو الّذي كان المشركون يعتقدونه فى أصنامهم وآلتهم ولهذا كان المشركون يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال لهم (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ

__________________

(١) مسائل ابن هانئ ٢ / ١٧٨.

(٢) شعب الإيمان للبيهقى (ق : ٩٥ / أ).

٢٥٢

بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

الثانى : أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس ، فهذا محرم وهو الّذي نزلت فيه الآية : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢). وهو الّذي جاء فى الحديث : «أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ما منعك إذا رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول : يا رب خشيت الناس فيقول : إياى كنت أحق أن تخشى». رواه أحمد (٣).

الثالث : خوف وعيد الله الّذي توعد به العصاة وهو الّذي قال الله فيه : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (٤) ... وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ونسبة الأول إليه كنسبة الإسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودا إذا لم يوقع فى القنوط واليأس من روح الله (٥). اه

قلت : وهذا هو ما عناه الإمام أحمد بقوله السابق ، وهذا الخوف باعث على القيام بما أمر الله تعالى به قال تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦).

يقول ابن القيم : ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به فأعرف الناس أخشاهم لله ... وهو ينشأ من ثلاثة أمور :

أحدها : معرفة الجناية وقبحها.

والثانى : تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.

__________________

(١) سورة الأنعام / ٨١ ، ٨٢.

(٢) سورة آل عمران / ٥٠.

(٣) فى المسند ٣ / ٤٧ ، وابن ماجة ٢ / ١٣٢٨.

(٤) سورة إبراهيم / ١٥.

(٥) تيسير العزيز الحميد ص : ٤٨٤ ـ ٤٨٦.

(٦) سورة النحل / ٥٠.

٢٥٣

والثالث : أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.

فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه (١). اه

قلت : ومن أسباب الخوف من الله ومن دواعيه المعرفة بعظيم قدرة الله وسلطانه وقوته ونفاذ مشيئته فى خلقه ، وهذه المعرفة موجبة للخوف منه سبحانه وتعالى لا محالة يقول تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢).

والخوف من الله تعالى يثمر الالتزام بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.

فترك المعصية ـ مثلا ـ والإقلاع عن مقارفتها مع قوة الداعى إليها من أعظم أنواع هذا الخوف من الله تعالى لما فى ذلك من مجاهدة النفس ومحاربتها وكبح جماحها ، وهذا ناتج عن العلم واليقين بأن الله عزوجل بكل شيء محيط. وبأنه لا يخفى عليه أحد من خلقه وأنه تعالى مطلع على ظواهرهم وبواطنهم. فمن كان هذا حاله وهو يعلم يقينا أن الله تعالى ناظر إليه سامع ما يقوله لا يغيب عنه لحظة واحدة أورثه هذا العلم الخوف منه والمداومة على طاعته وعدم التجرؤ عليه بالمعاصي وهو يراه وينظر إليه.

وفى الحديث الصحيح عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل ، وشاب نشأ فى عبادة ربه ، ورجل قلبه معلق فى المساجد ، ورجلان تحابا فى فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» (٣). اه

__________________

(١) طريق الهجرتين ص : ٢٨٣.

(٢) سورة الزمر / ٦٨.

(٣) رواه البخارى ٢ / ١٤٣ ، ومسلم ٢ / ٧١٥.

٢٥٤

فالإحجام عن الوقوع فيما حرم الله مع قوة الداعى إليه دليل على كمال الإيمان وامتلاء القلب خوفا من الله تعالى وقد أورثه هذا الخوف هذه المنزلة العظيمة بأن جعله الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله جزاء له على محاربته لشهوته وقمعها مع قوة تسلطها وهذا فى سبيل مرضاة الله تعالى والالتزام بأمره والانتهاء عما نهى عنه.

وفى الختام أقول : إن الخوف من الله سبحانه وتعالى من أعظم الدوافع لمراجعة العبد لنفسه ومحاسبتها وتقويم عمله فى هذه الحياة فإن كان محسنا ازداد وإن كان مسيئا رجع وتاب.

ولا بد مع ما ذكر أن لا يخرج الخوف بصاحبه عن الحد المألوف والصحيح وهو أن يكون باعثا على الالتزام بالأوامر والانتهاء عن النواهى مقترنا بالرجاء وحسن الظن بالله تعالى.

يقول ابن رجب : والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم ، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثا للنفوس على التشمير فى نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات كان ذلك فضلا محمودا ، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضا أو موتا أو هما لازما بحيث يقطع عن السعى فى اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عزوجل لم يكن محمودا ولهذا كان السلف يخافون على عطاء السليمى (١) من شدة خوفه الّذي أنساه القرآن ، وصار صاحب فراش ، وهذا لأن خوف العقاب ليس مقصودا لذاته إنما هو سوط يساق به المتوانى عن الطاعة إليها (٢). ومن هنا كانت النار من جملة نعم الله على عباده الذين خافوه واتقوه ولهذا المعنى عدها الله سبحانه من جملة آلائه على الثقلين فى سورة الرحمن ... ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته فى الصدور وإجلاله مقصود أيضا ، ولكن القدر النافع من ذلك ما كان عونا على التقرب إلى الله بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه ومتى صار الخوف مانعا من ذلك وقاطعا فقد انعكس

__________________

(١) البصرى العابد ، من صغار التابعين ، توفى بعد الأربعين ومائة. انظر : حلية الأولياء ٦ / ٢١٥ ، وسير أعلام النبلاء ٦ / ٨٦ ، وتبصير المنتبه ٢ / ٧٤٦.

(٢) لذا ذكر العلماء أنه من الأوفق تغليب الرجاء فى حالة المرض.

٢٥٥

المقصود منه (١). اه

ويقول ابن القيم : والخوف المحمود الصادق : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عزوجل فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله (٢). اه

أما الرجاء : فهو التوقع والأمل. تقول : رجوته أرجوه رجوا ورجاء ورجاوة ، وهمزته منقلبة عن واو ، بدليل ظهورها فى رجاوة وقد جاء فيها رجاءة (٣). اه

واختلف فى تعريف الرجاء فقيل : هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى ، والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. وقيل : هو الثقة بجود الرب تعالى.

والفرق بين الرجاء والتمنى : أن الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل ، أما التمنى فيكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد.

ولذا أجمع العلماء على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل (٤).

والعمل دافعه الخوف من الله عزوجل وتحقيق أمره والانتهاء عن نهيه خوفا من عقوبته وطمعا فى جنته.

والله عزوجل قرن الخوف بالرجاء فى غير آية وجعله من صفات المؤمنين قال تعالى : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥).

وقال جل وعلا : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (٦) ، وقال جل ذكره : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٧).

__________________

(١) التخويف من النار والتعريف بحال أهل البوار ص : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) مدارج السالكين ١ / ٥١١.

(٣) النهاية لابن الأثير ٢ / ٢٠٧.

(٤) انظر : مدارج السالكين ٢ / ٣٧.

(٥) سورة الأعراف / ٥٦.

(٦) سورة الإسراء / ٥٧.

(٧) سورة الأنبياء / ٩٠.

٢٥٦

يقول ابن القيم : والفرق بين الرغبة والرجاء أن الرجاء طمع والرغبة طلب ، فهى ثمرة الرجاء ، فإنه إذا رجا الشيء طلبه والرغبة من الرجاء كالهرب من الخوف فمن رجا شيئا طلبه ورغب فيه ومن خاف شيئا هرب منه (١). اه

روى البخارى (٢) ومسلم (٣) عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ، ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد». واللفظ لمسلم.

يقول ابن حجر فى شرح الحديث : اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف ، فمن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه ، وذلك باعث على مجانبة السيئة ولو كانت صغيرة وملازمة الطاعة ولو كانت قليلة (٤). اه

قلت : فالخوف والرجاء لا بد أن يكونا فى قلب المؤمن لأن انفراد الخوف يخاف منه القنوط واليأس وانفراد الرجاء قد يؤدى إلى الجرأة على اقتراف المعاصى والآثام وترك الفرائض.

يقول الكرمانى : إن المكلف ينبغى له أن يكون بين الخوف والرجاء حتى لا يكون مفرطا فى الرجاء بحيث يصير من المرجئة القائلين لا يضر مع الإيمان شيء ، ولا فى الخوف بحيث لا يكون من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة فى النار بل يكون وسطا بينهما كما قال تعالى (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) ومن تتبع دين الإسلام وجد قواعده أصولها وفروعها كلها فى جانب الوسط (٥). اه

__________________

(١) مدارج السالكين ٢ / ٥٨.

(٢) فى الصحيح ١١ / ٣٠١.

(٣) فى الصحيح ٤ / ٢١٠٩.

(٤) فتح البارى ١١ / ٣٠٢.

(٥) المصدر السابق.

٢٥٧

قلت : ولا يحسن بالمسلم أن يؤمل العفو من رب العزة والجلال وهو غارق فى المعاصى والذنوب مجترئ على الله تعالى بفعل ما نهى عنه وترك ما أمر به ، فالواجب على المسلم أن يكون بين الخوف والرجاء ، فخوفه من الله يمنعه من معصيته ورجاؤه من الله يورث الطمأنينة فى قلبه ، ورجاء المسلم لا بد أن يكون مبنيا على أساس صحيح وواضح فلا يمكن أن يصح الرجاء ممن أعرض عن سبيل الله القويم واقتحم المعاصى والآثام فإن هذا ليس من باب الرجاء بل من باب العجز والتفريط فلا بد للمسلم من الأخذ بالأسباب الموصلة للنجاة وذلك بالمداومة على طاعة الله والإقلاع عن المعاصى والتوبة منها. ثم يرجو الله ويحسن ظنه به وأنه بإذنه تعالى مجازيه على إحسانه واستقامته قابل لتوبته ، فهذا هو الرجاء الصحيح الّذي يورث صاحبه الاطمئنان والأمن.

يقول ابن القيم : ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ... ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه ، فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها ، فالذى حمله على العمل حسن الظن فكما حسن ظنه حسن عمله وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز (١).

ويقول أيضا : وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور وأن حسن الظن إن حمل على العمل وحث عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح وإن دعا إلى البطالة والانهماك فى المعاصى فهو غرور وحسن الظن هو الرجاء ، فمن كان رجاؤه جاذبا إلى الطاعة زاجرا له عن المعصية فهو رجاء صحيح ، ومن كانت بطالته رجاء أو رجاؤه بطالة وتفريطا فهو المغرور وقد قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) (٢) فتأمل كيف جعل رجاءهم بإتيانهم بهذه الطاعات ... وسر المسألة أن الرجاء وحسن الظن إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التى اقتضتها حكمة الله فى شرعه وقدره

__________________

(١) الجواب الكافى ص : ٢٦ ـ ٢٨.

(٢) سورة البقرة / ٢١٨.

٢٥٨

وثوابه وكرامته فيأتى العبد بها ثم يحسن ظنه بربه ويرجوه أن لا يكله إليها وأن يجعلها موصلة إلى ما ينفعه ويصرف ما يعرضها للحبوط ويبطل أثرها.

ويقول أيضا : ومما ينبغى أن يعلم أن من رجا شيئا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :

أحدها : محبته ما يرجوه.

والثانى : خوفه من فواته.

والثالث : سعيه فى تحصيله بحسب الإمكان ، وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأمانى والرجاء شيء والأمانى شيء آخر فكل راج خائف والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن (١).

ويقول أيضا : إن الرجاء حاد يحدو به فى سيره إلى الله ، ويطيب له المسير ويحثه عليه ، ويبعثه على ملازمته ، فلو لا الرجاء لما سار أحد ، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد وإنما يحركه الحب ويزعجه الخوف ويحدوه الرجاء (٢). اه

وما دعانى للتوسع فى هذا المبحث هو أهميته حيث نجد البعض يقنط الناس ـ بأسلوبه فى الدعوة ـ من رحمة الله وذلك بإبراز ما يتعلق بعذاب الله ، ولا يبرز الجانب الآخر ظنا منه أن ذلك أصلح الناس ، وهذا قد يؤدى إلى نتائج عكسية ، فإن العبد إذا أذنب ذنبا وعلم أن له ربا كريما محسنا يقبل التوب ويغفر الذنب تاب من ذنبه وأقلع بخلاف اليائس من رحمة الله القانط من مغفرته فإن قنوطه ويأسه سوف يؤدى به إلى الزيادة فى المعاصى واقتحام الذنوب.

وفى قول الله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) منهج عظيم فى هذا الموضوع وعلى الداعى إلى الله أن يضع هذه الآية نصب عينيه فالواجب التنبيه على سعة رحمة الله وعلى شدة عذابه أيضا دون

__________________

(١) نفس المصدر السابق ص : ٤٦ ـ ٤٨.

(٢) مدارج السالكين ٢ / ٥٢.

٢٥٩

التنبيه على أحدهما وإغفال الآخر حتى يجتمع الخوف والرجاء عند المؤمن وهذا هو المطلوب.

وكما تقدم أن للخوف أقساما فكذلك الرجاء وما ذكرته سابقا متعلق بنوع من أنواعه ، وهنالك الرجاء المتعلق بالحاجات فمن رجا شيئا من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك شركا أكبر ، سواء كان رجاؤه متعلقا بالأموات كما يفعله البعض أو متعلقا بغيرهم فالرجاء بهذا المفهوم عبادة لا يجوز صرف شيء منه لغير الله تعالى. وبالله التوفيق.

٢٦٠