المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

ما أثر عن الإمام أحمد فى الخوف من

الوقوع فى النفاق

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٧٥٤ ـ قلت لأبى عبد الله : ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق.

قال : ومن يأمن على نفسه النفاق (١).

٧٥٥ ـ وأخرج ابن الجوزى فى مناقب الإمام أحمد بسنده ـ عن أبى بكر المروزي قال: سمعت رجلا يقول لأبى عبد الله ـ وذكر الصدق والإخلاص ـ فقال أبو عبد الله : بهذا ارتفع القوم (٢).

التعليق :

قال ابن الأثير : قد تكرر فى الحديث ذكر النفاق وما تصرف منه اسما وفعلا وهو اسم إسلامى ، لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به وهو الّذي يستر كفره ويظهر إيمانه وإن كان أصله فى اللغة معروفا (٣). اه

قلت : والنفاق كما حققه غير واحد من العلماء نوعان : اعتقادى وعملى.

والأول هو ما أشار إليه ابن الأثير : إظهار الإيمان وإبطال الكفر.

وهو ما عناه الإمام أحمد بقوله : والنفاق هو الكفر أن يكفر بالله ويعبد غيره ويظهر الإسلام فى العلانية مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤). اه

__________________

(١) مسائل ابن هانئ ٢ / ١٧٦.

(٢) مناقب الإمام أحمد ص ٢٥٣.

(٣) النهاية ٥ / ٩٨.

(٤) رسالة عبدوس بن مالك (ق ٦ / أ) ورواية محمد بن عوف الطائى ط / الحنابلة ١ / ٣١١.

٢٦١

وهذا يوجب لصاحبه الخلود فى الدرك الأسفل من النار قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١).

وأما الثانى : فهو ما جاء به الحديث الّذي رواه الشيخان (٢) عن عبيد الله ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر».

ومقصود الروايات عن الإمام أحمد ـ المثبتة تحت العنوان السابق ـ الخوف من الرياء الّذي ذكر فى الحديث الّذي رواه أحمد (٣) عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء. يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فى الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء» فى هذا الحديث حث على معاهدة النفس وتطهير العمل وإخلاصه لله عزوجل وتحذير شديد من صرف أى عمل لسواه قل أو كثر

__________________

(١) سورة النساء / ١٤٥.

(٢) عند البخارى ومسلم.

(٣) المسند ٥ / ٤١٩.

٢٦٢

قول أحمد فى الدعاء

٧٥٦ ـ قال ابن أبى يعلى فى ترجمة : أحمد بن إبراهيم الكوفى نقل عن إمامنا أشياء منها قال : إن دعا فى الصلاة بحوائجه أرجو (١).

وهذا محمول على ما عاد بمصالح دينه ، يوضح ذلك :

٧٥٧ ـ ما نقله حنبل : لا يكون من دعائه رغبة فى الدنيا.

٧٥٨ ـ وقال أيضا فى رواية الحسن بن محمد (٢) : يدعو بما قد جاء ، ولا يقول : اللهم أعطنى كذا ، وقال الخرقى (٣) : وإن دعا فى تشهده بما ذكر فى الأخبار فلا بأس (٤).

قال ابن أبى يعلى : وهذه مسألة سطرها الوالد فى كتبه ، وقال خلافا للشافعى فى قوله : يجوز أن يدعو بحوائج دنياه ، وذكر الدلالة عليه (٥).

التعليق :

قال الخطابى : أصل هذه الكلمة ـ أى الدعاء ـ مصدر من قولك : دعوت الشيء ، أدعوه ، دعاء ، أقاموا المصدر مقام الاسم ، تقول : سمعت دعاء كما تقول : سمعت صوتا وكما تقول : اللهم اسمع دعائى ، وقد يوضع المصدر موضع

__________________

(١) ولم يذكر له غيرها.

(٢) لم أتمكن من تحديده فهناك أكثر من واحد بهذا الاسم نقلوا عن الإمام أحمد. راجع طبقات الحنابلة ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٣) هو : عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد ، أبو القاسم الخرقى ، صاحب المختصر ، أحد أئمة المذهب كان عالما بارعا فى مذهب أبى عبد الله ، وكان ذا دين ، وأخا ورع. اه. ذكر هذا صاحب المنهج الأحمد ٣ / ٦١. وانظر : طبقات الحنابلة ٢ / ٧٥ ـ ١١٨ ، ت / بغداد ١١ / ٢٣٤ ، البداية والنهاية ١١ / ٢١٤ ، وتذكرة الحفاظ ٨٤٧.

(٤) انظره فى المغنى لابن قدامة ١ / ٥٤٦ وكما هو معروف فالمغنى ألف على المختصر للخرقى.

(٥) طبقات الحنابلة ١ / ٢٢.

٢٦٣

الاسم. كقولهم : رجل عدل.

ومعنى الدعاء : استدعاء العبد ربه عزوجل العناية واستمداده إياه المعونة (١). اه

قلت : وللدعاء الدرجة العظمى فى صلة العبد بربه ففى الدعاء يظهر التجاء المؤمن وافتقاره وتذلله لله عزوجل ولقد أمر سبحانه وتعالى عباده بالدعاء فقال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢) ، وقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (٣) وغير ذلك من الآيات التى تحض على الدعاء كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحث على الدعاء والترغيب فيه.

فكل ما يعرض لمسلم من حاجة عليه أن يسأل الله أن يعينه على قضائها وإن كانت صغيرة فالدعاء ليس مخصوصا بما كان عظيما فى نظر الداعى فالكل عند الله عزوجل سواء وللمسلم أن يدعو الله بما شاء ما لم يكن فى ذلك إثم أو قطيعة رحم كما جاء فى الحديث وسواء كان المدعو به أمرا دينيا أو دنيويا فى الصلاة وفى غيرها.

فالمطلوب من المسلم أن يكون دائم الالتجاء إليه وفى جميع الأوقات مستعينا به فى جميع أموره ما تعلق منها بمعاشه أو مآله أما قول ابن أبى يعلى ـ تعليقا على رواية أحمد بن إبراهيم ـ وهذا محمول على ما عاد بمصالح دينه.

فلست على يقين من معرفة مراده بهذا القول فإن أراد بقوله هذا أنه لا يجوز له أن يدعو بحوائجه الدنيوية فى الصلاة ـ وهو الظاهر من كلامه ـ فهو غير مسلم به ، فكما قدمنا أن الأحاديث متواترة فى أن للمسلم أن يدعو الله بما شاء إذا لم يكن هناك محظور شرعى فى الدعاء سواء فى الصلاة أو فى غيرها وإن كان هناك بعض الأدعية المأثورة عند الانتهاء من التشهد مثلا ، لكن هذا

__________________

(١) شأن الدعاء ص : ٣ ـ ٤.

(٢) سورة غافر / ٦٠.

(٣) سورة الأعراف / ٥٥.

٢٦٤

لا يمنع أن يدعو المسلم بغير ذلك وكما جاء فى الحديث : «إن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (١).

وعلى كل فالمؤمن يستعين بدنياه على آخرته ولعل توفر بعض الأمور الدنيوية للمؤمن سبب لزيادة العبادة والتوجه إلى الله عزوجل.

أما ما جاء فى رواية حنبل والحسن بن محمد السابقتين وخاصة فى رواية محمد بن الحسن فى أنه لا يدعو فى التشهد إلا بما ورد فقد أوضح ابن قدامة الخلاف عند تعليقه على كلام الخرقى السابق إذ يقول :

وجملته : إن الدعاء فى الصلاة بما وردت به الأخبار جائز. قال الأثرم : قلت لأبى عبد الله : إن هؤلاء يقولون : لا يدعو فى المكتوبة إلا بما فى القرآن ، فنفض يده كالمغضب وقال : من يقف على هذا؟ وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف ما قالوا قلت لأبى عبد الله : إذا جلس فى الرابعة يدعو بعد التشهد بما شاء؟ قال : بما شاء لا أدرى ، ولكن يدعو بما يعرف وبما جاء ، فقلت : على حديث عمرو بن سعد قال : سمعت عبد الله (بن مسعود) يقول : إذا جلس أحدكم فى صلاته ـ ذكر التشهد ـ ثم ليقل : ....

وقول الخرقى : بما ذكر فى الأخبار يعنى أخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والسلف رحمة الله عليهم ، فإن أحمد ذهب إلى حديث ابن مسعود فى الدعاء وهو موقوف عليه ، وقال : يدعو بما جاء وبما يعرف ولم يقيده بما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... وقال الشافعى : يدعو بما أحب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث ابن مسعود فى التشهد «ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه» متفق عليه (٢). ولمسلم : «ثم ليتخير من المسألة ما شاء أو ما أحب» وفى حديث أبى هريرة : إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع ثم يدعو لنفسه ما بدا له (٣) ...

(قال ابن قدامة) : فأما الدعاء بما يتقرب به إلى الله عزوجل مما ليس

__________________

(١) رواه مسلم ١ / ٣٥٠ وأبو داود ١ / ٥٤٥ وغيرهما.

(٢) صحيح البخارى (فتح البارى ٢ / ٣٢٠) وصحيح مسلم ١ / ٣٠١).

(٣) صحيح مسلم ١ / ٤١٢ وكذا عند أبى داود ١ / ٦٠١ وابن ماجة ١ / ٢٩٤ وغيرهم.

٢٦٥

بمأثور ، ولا يقصد به ملاذ الدنيا. فظاهر كلام الخرقى وجماعة من أصحابنا : أنه لا يجوز ويحتمله كلام أحمد لقوله : ولكن يدعو بما جاء وبما يعرف وحكى عنه ابن المنذر أنه قال : لا بأس يدعو الرجل بجميع حوائجه من حوائج دنياه وآخرته وهذا هو الصحيح إن شاء الله لظواهر الأحاديث (١). اه

قلت : والمؤمن إذا استعان بما يتوفر له من أمور الدنيا ووظفه لما ينفعه فى آخرته فهذا محمود أما إن كانت الرغبة فى الدنيا ومطالبها للدنيا ذاتها مع اللهو والانصراف عن الله عزوجل فهذا يختلف والأجدر فى الدعاء أن يكون متوجها الوجهة الصحيحة فإن طلب المال ـ مثلا ـ لا يطلبه لأجل التفاخر والتعالى على خلق الله بل يطلبه ليستعين به على أمر دينه ودنياه وهكذا.

وقد جهل البعض المعنى الكبير للدعاء وزعموا أن الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء والقدر فإن الشيء المدعو به إن كان قد قدر فما فائدة الدعاء ، فلا بد من وقوعه إذن دعا أو لم يدع ولا يخفى بطلان زعمهم هذا.

يقول ابن تيمية : زعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أنه لا فائدة فيه أصلا فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء ، أو لا تكون قد اقتضته وحينئذ فلا ينفع الدعاء.

وقال قوم : بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق ، والصواب ما عليه الجمهور من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة وسواء سمى سببا أو شرطا أو جزءا من السبب فالمقصود هنا واحد فإذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الّذي قضاه له (٢). اه

قال الخطابى : ومن أبطل الدعاء : فقد أنكر القرآن ، ورده ولا خفاء بفساد قوله ، وسقوط مذهبه (٣). اه

__________________

(١) المغنى ١ / ٥٤٦ ـ ٥٤٩.

(٢) اقتضاء الصراط المستقيم ص : ٣٥٨.

(٣) شأن الدعاء ص : ٩ ، وانظر ما ذكره ابن القيم فى مدارج السالكين ٣ / ١٠٦ ـ ١١٠ حول هذا الموضوع.

٢٦٦

ويجدر التنبيه إلى مسألة مهمة فى الدعاء وهو ما يحدث من البعض من صرف الدعاء إلى غير الله تعالى وهذا شرك ، فالدعاء عبادة بل هو من أعظم العبادات وأجلها وصرفه لغير الله تعالى هو من أعظم الشرك ، فالمدعو لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر وإن لم يكن كذلك فدعاؤه وسؤاله من أعظم الشرك وأبطل الباطل ولا يملك النفع والضر إلا الله سبحانه وتعالى فلزم من ذلك أن يكون هو سبحانه المدعو دون سواه والمؤمل فى حصول النفع ودفع الضر دون غيره ، فمن توجه إلى غير الله بالسؤال والرجاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (١) ويقول تعالى : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٢) ويقول جل ذكره : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (٣).

يقول ابن القيم : الدعاء نوعان : دعاء العبادة ودعاء المسألة ، فإن الدعاء فى القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ، ويراد به مجموعهما وهما متلازمان ، فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعى وطلب كشف ما يضره أو دفعه ، وكل من يملك الضرر والنفع فإنه هو المعبود حقا ، والمعبود لا بدّ أن يكون مالكا للنفع والضر ، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا ... وهذا فى القرآن كثير. بين أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء مسألة ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان ، فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة مستلزم لدعاء العبادة (٤).

__________________

(١) سورة الأحقاف / ٥٠.

(٢) سورة يونس / ١٠٦ ، ١٠٧.

(٣) سورة فاطر / ١٣.

(٤) بدائع الفوائد ٣ / ٤٠٣.

٢٦٧

قول الإمام أحمد فى العزلة

قال ابن أبى يعلى فى ترجمته : الحسن بن محمد بن الحارث السجستانى : نقل عن إمامنا أشياء منها قال :

٧٥٩ ـ قلت لأبى عبد الله : التخلى أعجب إليك؟ فقال : التخلى على علم. وقال : يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الّذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم» (١) ثم قال أبو عبد الله : رواية شعبة عن الأعمش ، ثم قال : من يصبر على أذاهم.

وقال فى ترجمة يحيى بن يزداد الوراق ، أبو الصقر : ذكر أبو بكر الخلال فقال : عنده مسائل حسان (٢).

٧٦٠ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون أن أبا الصقر : سأل أبا عبد الله عن حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الفتن ، ثم قال : «خير الناس مؤمن معتزل فى شعب من الشعاب» (٣). هل على الرجل بأس أن يلحق بجبل مع أهله وولده فى غنيمة له ينتقل من ماء إلى ماء يقيم صلاته ويؤدى زكاته ، ويعتزل الناس ، يعبد الله حتى يأتيه الموت وهو على ذلك هذا عندك أفضل أو يقيم بالأمصار وفى الناس ما قد علمت وفى العزلة من السلامة ما قد علمت قال إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء. وأما إذا لم تكن فتنة فالأمصار خير (٤).

__________________

(١) رواه أحمد ٢ / ٤٣ وابن ماجة ٢ / ١٣٣٨ والترمذي ٤ / ٦٦٢ من حديث ابن عمر.

(٢) طبقات الحنابلة : ١ / ١٣٩. وقال ابن حجر : مقبول. تقريب ٢ / ٣٦٠.

(٣) انظر صحيح البخارى (فتح البارى ١١ / ٣٣٠) ومسلم ٣ / ١٥٠٣ وابن ماجة ٢ / ١٣١٦.

(٤) طبقات الحنابلة : ١ / ٤٠٩. وانظر : روايات أخرى عن الإمام أحمد فى العزلة والتوحد فى سير أعلام النبلاء ١١ / ٢١٦ ، ٢٢٦.

٢٦٨

التعليق :

تكلم العلماء فى أمر العزلة بين مادح لها وذام ، وقد صنف بعضهم فى ذلك كالخطابى فله كتاب ـ مطبوع ـ أسماه «العزلة».

والّذي يظهر أن الأمر ليس على إطلاقه فليس من الصواب مدح العزلة مطلقا ولا ذمها مطلقا ففى بعض الأحيان تكون العزلة مذمومة إذا أدت إلى الانقطاع عما شرعه الله عزوجل من الجمع والجماعات ونحو ذلك.

وأما الاعتزال عن أهل الشر ... فلعل فى ذلك فائدة إذ يتحصن المؤمن من أذاهم فقد يكون فى مخالطتهم تأثير ينعكس عليه فيغرق فيما غرقوا به ، وإن كان فى مقدوره دعوتهم إلى الله عزوجل وتنبيههم إلى خطورة ما هم فيه من البعد عن الله فذلك ـ ولا شك ـ أولى وأفضل من اعتزالهم والله تعالى أعلم.

٢٦٩

قول الإمام أحمد فى بعض مظاهر التصوف

السياحة :

قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٧٦١ ـ سئل عن الرجل يسيح يتعبد أحب إليك أو المقام فى الأمصار؟

قال : ما السياحة من الإسلام فى شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين (١).

التعليق :

هذا الأمر الّذي اتخذه البعض مسلكا لم يؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عن صحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان ، ذلك بأنهم كانوا على النهج القويم مستمدين عقيدتهم من النبع الصافى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس فى ترك الأهل والأوطان والهيام فى كل مكان نوع عبادة خلا أن يكون خروج الإنسان للعلم النافع والدعوة إلى الله على بصيرة. أما أن تكون السياحة بالمعنى المفهوم والّذي اتخذه البعض دينا وطريقا فهذا مرفوض تماما ولا يمكن أن يقر.

الجوع :

قال ابن أبى يعلى فى ترجمة عقبة بن مكرم (٢) قال : ـ أى عقبة ـ.

٧٦٢ ـ سألت أبا عبد الله فقلت : هؤلاء الذين يأكلون قليلا ويقللون مطعمهم فقال : ما يعجبنى ، سمعت عبد الرحمن بن مهدى يقول : فعل قوم هكذا فقطعهم عن الفرض (٣).

__________________

(١) مسائل ابن هانئ ١ / ١٧٦.

(٢) لعله : عقبة بن مكرم العمى ، ثقة ، من الحادية عشرة ، ت / بغداد ١٢ / ٢٨٨ ، تقريب ٢ / ٢٨.

(٣) طبقات الحنابلة ١ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٢٧٠

التعليق :

ترك ما أحل الله عزوجل من طعام وشراب ليس مفتاحا للآخرة ولا طريقا إلى الفوز بها بل مفتاح ذلك الإخلاص فى عبادة الله عزوجل وحده على هدى وبصيرة وفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والتقرب إليه بالنوافل وبما يحبه ويرضاه ، وترك ما أحله الله تعالى من الطيبات ليس فيه جنس عبادة أو تقرب إليه تعالى ، بل هو منهى عنه. قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) (١) وقال جل وعلا : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (٢) وقال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣).

يقول ابن الجوزى فى معرض حديثه عن مسالك بعض الزهاد (٤) : ومن تلبيسه عليهم : أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات فمنهم من لا يزيد على خبز الشعير ، ومنهم من لا يذوق الفاكهة ، ومنهم من يقلل المطعم ويعذب نفسه ، وما هذه طريقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا طريقة أصحابه وأتباعهم ، وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا شيئا فإذا وجدوا أكلوا وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأكل اللحم ويحبه ويأكل الدجاج ويحب الحلوى. اه

ويقول فى موضع آخر : ونحن لا نأمر بالشبع إنما ننهى عن جوع يضعف البدن ويؤذى البدن وإذا ضعف البدن قلت العبادة (٥).

__________________

(١) سورة المائدة / ٨٧.

(٢) سورة الأعراف / ٣١.

(٣) سورة الأعراف / ٣٢.

(٤) فى كتابه : تلبيس إبليس ص : ١٥١.

(٥) نفس المصدر ص : ٢١٦.

٢٧١

ترك النكاح : قال أبو بكر المروزي :

٧٦٣ ـ سمعت أبا عبد الله يقول : ليس العزوبة من أمر الإسلام فى شيء ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج أربع عشرة ، ومات عن تسع ، ثم قال : لو كان بشر بن الحارث (١) تزوج ، لكان قد تم أمره كله. لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ، ولم يحجوا ، ولم يكن كذا ولم يكن كذا. فقال: كان النبي يصبح وما عندهم شيء ويمسى وما عندهم شيء ، ومات عن تسع ، وكان يختار النكاح ويحث عليه.

٧٦٤ ـ وسمعت أبا عبد الله يقول : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التبتل فمن رغب عن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو على غير الحق. ومن رغب عن فعل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمهاجرين والأنصار ، فليس هو من الدين فى شيء. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى مكاثر بكم الأمم» (٢) ويعقوب فى حزنه ، قد تزوج وولد له ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «حبب إلى النساء» (٣) وأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوجوا. قلت : إنهم يقولون : قد ضاق عليهم الكسب من وجهه. فقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوج على خاتم لمن ليس عنده شيء. قلت : وعلى سورة قال : ينبغى أن يتزوج الرجل ، فإن كان عنده أنفق عليها ، وإن لم يكن عنده صبر. قلت : أنتم تقولون لى ، إن لم أجد ما أنفق أطلق ، وقع لى عمل ، وكان مهرها ألف درهم وليس عندى شيء فضحك ثم قال : تزوج على خمسة دراهم ، ابن المسيب زوج ابنته على درهمين. قلت : لا يرضى أهل بيتى أن أتزوج على خمسة دراهم. قال : ها جئتنى بأمر الدنيا. فهذا شيء آخر. قلت : إن إبراهيم بن أدهم (٤) يحكى عنه أنه قال : لروعة صاحب عيال. فما

__________________

(١) أبو نصر الحافى / الزاهد ، ثقة مات سنة سبع وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء ١٠ / ٤٦٩ ، تقريب ١ / ٩٨.

(٢) انظر : المسند ٣ / ٣٥٤ ، ٤ / ٣٤٩ ، ٣٥١.

(٣) انظر : المسند ٣ / ١٢٨ ، ١٩٩ ، ٢٨٥.

(٤) أبو إسحاق البلخى الزاهد ، صدوق توفى سنة اثنتين وستين ومائة. تقريب ١ / ٣١.

٢٧٢

قدرت أن أتم الحديث ، حتى صاح بى وقال : وقعنا فى بنيات الطريق انظر عافاك الله ما كان عليه محمد وأصحابه (١).

قال صالح بن أحمد بن حنبل :

٧٦٥ ـ سألته عن رجل يعمل بالخوص وليس يصيب منه أكثر من قوته هل يقدم على التزوج قال أبى : يقدم على التزوج فإن الله يأتى برزقها وقال : يتزوج ويستقرض (٢).

قال ابن أبى يعلى :

٧٦٦ ـ نقلت أنا من خط أبى حفص البرمكي (٣) حدثنا أبو محمد الخطبى (٤) حدثنا أبو على بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة (٥) حدثنا أبو عبد الله أحمد بن حنبل وسألته عن التزوج؟ فقال : أراه ، ورأيته يحض عليه. وقال : إلى رأى من يذهب الّذي لا يتزوج؟ وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له تسع نسوة ، وكانوا يجوعون. ورأيته لا يرخص فى تركه (٦).

٧٦٧ ـ قال إسحاق الكوسج :

قلت : الرجل يأتى أهله وليس له شهوة فى النساء أيؤجر على ذلك؟ قال : إي والله يحتسب الولد. قلت : وإن لم يرد الولد إلا أنه يقول : هذه امرأة شابة؟ قال : لم لا يؤجر(٧).

__________________

(١) الورع ص : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) مسائل صالح ص : ٤٧.

(٣) عمر بن أحمد. قال الخطيب : كان ثقة دينا صالحا. ت / بغداد ١١ / ٢٦٨ ، طبقات الحنابلة ٢ / ١٥٣.

(٤) إسماعيل بن على. وثقة الدارقطنى وغيره. ت / بغداد ٦ / ٣٠٤.

(٥) قال أبو بكر الخلال : عنده عن أبى عبد الله مسائل حسان. وقال الخطيب : كان ثقة أمينا. ت / بغداد ٧ / ٨٦ ، طبقات الحنابلة ١ / ١٢١.

(٦) طبقات الحنابلة : ١ / ١٢١ ـ ١٢٢.

(٧) مسائل الكوسج ٢ / ١٨٤ وذكرها القاضى أبو يعلى بن الفراء فى المسائل التى حلف عليها الإمام ص : ٣٥ وابن القيم فى إعلام الموقعين ٤ / ١٦٧.

٢٧٣

التعليق :

من الأمور الخاطئة التى وقع فيها البعض : ترك النكاح اعتقادا منهم أن فى ذلك زهدا وتقربا إلى الله عزوجل فعطلوا سنة من سنن الله فى هذا الكون.

ونبى هذه الأمة ـ عليه‌السلام ـ رغب فى هذا الأمر وحض عليه.

فكيف يسوغ ترك أمر شرعه الله عزوجل وحض عليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة إذا صاحب ذلك اعتقاد أن فى ذلك تقربا إلى الله عزوجل.

أما إن كان ترك النكاح ليس رغبة عن سنة الله ورسوله ولا اعتقادا بأنه قربة إلى الله وإنما لأمور أخرى كالانشغال عنه بالعلم مثلا كما حصل من بعض العلماء الأجلاء. فذلك أمر لا شيء فيه فإن النكاح فى حد ذاته ليس واجبا (١) ، وإنما أنكر على من تركه معتقدا فيه خلاف ما شرع الله وسن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله الهادى إلى سواء السبيل.

التغبير :

٧٦٨ ـ قال إسحاق : قلت يكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم. قال : ما أكرهه للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا. قال إسحاق (٢) : كما قال وإنما يعنى أن لا يكثروا يقول : لا يتخذونها عادة يعنى يعرفوا بها (٣).

٧٦٩ ـ وقال أبو بكر الخلال : حدثنا صالح بن على الحلبى (٤) من آل ميمون بن مهران قال : سمعت أحمد بن حنبل وجعل الناس يسألونه عن التغبير وهو ساكت حتى دخل منزله.

__________________

(١) وقد يتوجب عند خوف العنت. انظر : تلبيس إبليس لابن الجوزى ص : ٢٩٤.

(٢) ابن راهويه.

(٣) مسائل إسحاق الكوسج ٢ / ٢١٢.

(٤) فى المطبوع «عن» والصواب ما هو مثبت وقد ترجم له ابن أبى يعلى فقال : روى عن الإمام أحمد أشياء. طبقات الحنابلة ١ / ١٧٧.

٢٧٤

٧٧٠ ـ وأخبرنى محمد بن على والحسين بن عبد الله (١) أن محمد بن حرب حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن التغبير؟ فقال : كل شيء محدث ، كأنه كرهه.

٧٧١ ـ وأخبرنى محمد بن على أن أبا بكر الأثرم حدثهم قال : سمعت أبا عبد الله يقول : التغبير هو بدعة محدثة.

٧٧٢ ـ وأخبرنى يوسف بن موسى أنه سأل أبا عبد الله عن التغبير فقال : لا تسمعه. قيل له : هو بدعة؟ قال : حسبك.

٧٧٣ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال : سألت أبا عبد الله : ما ترى فى التغبير أنه يرقق القلب؟ فقال : بدعة.

٧٧٤ ـ أنا الحسين بن صالح العطار (٢) ، حدثنا هارون بن يعقوب الهاشمى (٣) قال : سمعت أبى أنه سأل أبا عبد الله عن التغبير فقال : هو بدعة محدث.

٧٧٥ ـ وأخبرنى محمد بن على السمسار أن يعقوب بن بختان : سأل أبا عبد الله عن التغبير فكرهه ، ونهى عن استماعه.

٧٧٦ ـ وأخبرنى سليمان بن الأشعث قال : سمعت رجلا ضريرا سأل أبا عبد الله عن التغبير ، ما يقول فيه؟ فقال : لا يعجبنى (٤).

٧٧٧ ـ وأخبرنى إسماعيل بن إسحاق الثقفى (٥) ، أن أبا عبد الله سئل عن استماع التغبير ، فكرهه (٦).

__________________

(١) لم أتمكن من تحديده.

(٢) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من المصادر.

(٣) قال ابن أبى يعلى : سمع من الإمام أحمد أشياء. طبقات الحنابلة ١ / ٣٩٦.

(٤) مسائل أبى داود ص : ٢٨٢.

(٥) كان له اختصاص بأحمد. قال الدارقطنى : ثقة. ت / بغداد ٦ / ٢٩٣ ، طبقات الحنابلة ١ / ١٠٣.

(٦) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ص : ١٠٦.

٢٧٥

الاجتماع لسماع القصائد والمدائح :

قال أبو بكر الخلال :

٧٧٨ ـ أخبرنا إسماعيل بن إسحاق الثقفى أن أبا عبد الله سئل عن سماع القصائد فقال : أكرهه.

٧٧٩ ـ أخبرنى محمد بن موسى قال : سمعت عبدان الحذاء (١) قال : سمعت عبد الرحمن المتطبب قال : سألت أحمد بن حنبل قلت : ما تقول فى أهل القصائد؟ قال : بدعة لا يجالسون (٢).

التعليق :

مجمل الروايات عن الإمام أحمد تفيد نهيه عن هذه الأمور بل وصفها بالبدعة ولا شك أن ما ذهب إليه الإمام أحمد هو عين الصواب ، ففى كتاب الله عزوجل وفى سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغنية عن كل هذا ولله الحمد ، وليس فى الشريعة نقص حتى نبتدع أمورا لتكميلها فالأمر واضح والنهج مستقيم فمن حاد عنه حاد عن الصواب والحق.

وهذا الاجتماع الّذي كان يسمى بالتغبير أو الاجتماع لسماع القصائد والمدائح كان موجودا بكثرة وكان بعض الجهلة يعتقدون أن فى فعل ذلك قربة إلى الله تعالى.

أما فى العصر الحاضر فهذا موجود أيضا بكثرة بين أصحاب الطرق الصوفية التى ضلت الطريق وكذا يتواجد فيما يسمى بالمولد النبوى وكان الأحرى بهؤلاء أن ينبذوا هذه البدع التى قد يتخللها الشرك فى كثير من الأحيان وأن يعودوا

__________________

(١) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من المصادر.

(٢) نفس المصدر ص : ١٠٥.

٢٧٦

إلى النبع الصافى السليم إلى كتاب الله وسنة رسوله والاقتداء بهما وبما كان عليه سلف هذه الأمة.

قال ابن رجب : سماع القصائد الرقيقة المتضمنة للزهد والتخويف والتشويق (كان) كثير من أهل السلوك والعبادة يستمعون ذلك وربما أنشدوها بنوع من الألحان استجلابا لترقيق القلوب بها ثم صار منهم من يضرب مع إنشادها على جلد ونحوه بقضيب ونحوه وكانوا يسمون ذلك التغبير (١) وقد كرهه أكثر العلماء.

قال يزيد بن هارون : ما يغبر إلا فاسق ومتى كان التغبير؟ وصح عن الشافعى من رواية الحسن بن عبد العزيز الجروى (٢) ويونس بن عبد الأعلى (٣) أنه قال : تركت بالعراق شيئا يسمونه التغبير وضعته الزنادقة يصدون به الناس عن القرآن.

قال ابن رجب : إن الله تعالى أمر عباده فى كتابه وعلى لسان رسوله بجميع ما يصلح قلوب عباده ويقربها منه ونهاهم عما ينافى ذلك ويضاده ولما كانت الروح تقوى بما تسمعه من الحكمة والموعظة الحسنة وتحيا بذلك شرع الله لعباده سماع ما تقوى به قلوبهم وتتغذى وتزداد إيمانا ، فتارة يكون ذلك فرضا عليهم كسماع القرآن والذكر والموعظة يوم الجمعة فى الخطبة والصلاة وكسماع القرآن فى الصلوات الجهرية من المكتوبات ، وتارة يكون ذلك مندوبا إليه غير مفترض كمجالس الذكر المندوب إليها فهذا السماع حاد يحدو قلب المؤمن إلى الوصول إلى ربه يسوقه ويشوقه إلى قربه وقد مدح الله المؤمنين بوجود مزيد أحوالهم بهذا السماع وذم من لا يجد منه ما يجدونه فقال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ

__________________

(١) ولعل الضرب على القضيب ونحوه حدث بعد زمن أحمد وقد يكون موجودا فى عصره لكن الروايات السابقة عن أحمد فى الاجتماع وما يحدث فيه من كلاء لا ضرب فيه بقضيب ولا غيره وقد نهى عنه وبدع فاعله فكيف بهذا.

(٢) ثقة ثبت. تقريب ١ / ١٦٧.

(٣) الصدفى ، ثقة. تقريب ٢ / ٣٨٥.

٢٧٧

اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (١) وقال : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢) وقال : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) (٣) ... فهذه الآية تتضمن توبيخا وعتابا لمن سمع هذا السماع ولم يحدث له فى قلبه صلاحا ورقة وخشوعا فإن هذا الكتاب المسموع يشتمل على نهاية المطلوب وغاية ما تصلح به القلوب وتنجذب به الأرواح فيحيا بذلك القلب بعد مماته ويجتمع بعد شتاته وتزول قسوته بتدبر خطابه وسماع آياته فإن القلوب إذا أيقنت بعظمة ما سمعت واستشعرت شرف نسبة هذا القول إلى قائله أذعنت وخضعت فإذا تدبرت ما احتوى عليه من المراد ووعت اندكت من مهابة الله وجلاله وخشعت فإذا هطل عليها وابل الإيمان من سحب القرآن أخذت ما وسعت فإذا بذر فيها القرآن من حقائق العرفان وسقاه ماء الإيمان أنبتت ما زرعت ومتى فقدت القلوب غذاءها وكانت جاهلة به طلبت العوض من غيره فتغذت به فازداد سقمها بفقدها ما ينفعها والتعوض بما يضرها فإذا سقمت مالت إلى ما فيه ضررها ولم تجد طعم غذائها الّذي فيه نفعها فتعوضت عن سماع الآيات بسماع الأبيات وعن تدبر معانى التنزيل بسماع الأصوات.

قال عثمان بن عفان رضى الله عنه : لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم(٤).

__________________

(١) سورة الأنفال / ٢.

(٢) سورة الزمر / ٢٢ ، ٢٣.

(٣) سورة الحديد / ١٦.

(٤) نزهة الأسماع فى مسألة السماع ص : ٨٠ ـ ٨٣.

٢٧٨

الخطرات :

قال ابن أبى يعلى :

٧٨٠ ـ أنبأنا المبارك (١) عن الحسن بن محمد الحافظ (٢) أخبرنا أبو عمر ابن حيويه (٣) ـ إجازة ـ قال : حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد الزهرى (٤) حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن حية الأعمش (٥) قال : سمعت أحمد بن حنبل سئل عن الوساوس والخطرات. فقال : ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون (٦).

التعليق :

إن ما يسمى بالخطرات أو تلك المصطلحات الصوفية الموجودة بكثرة فى كتب التصوف لم تعرف عن الصحابة والتابعين كما ذكر الإمام أحمد وفى الحقيقة ليس هنالك حاجة لهذه الأمور.

يقول ابن الجوزى : ... ثم جاء أقوام فتكلموا لهم فى الجوع والفقر والوسواس والخطرات وصنفوا فى ذلك ...

__________________

(١) هو : ابن الطيورى. مضت ترجمته ج : ١ / ٣٥.

(٢) هو : أبو محمد الخلال. قال الخطيب : كان ثقة.

ت / بغداد ٧ / ٤٢٥.

(٣) سبق التعريف به ج : ١ / ٤٢.

(٤) قال الخطيب : ثقة. ت / بغداد ١٠ / ٢٨٩.

(٥) ذكر فيمن روى عن أحمد.

انظر : ط / الحنابلة ١ / ١١٣.

(٦) طبقات الحنابلة ١ / ١١٣ وأخرجها ابن الجوزى فى مناقب أحمد ص ٢٣٢.

٢٧٩

وصنف لهم عبد الكريم بن هوزان القشيرى (١) كتاب الرسالة (٢) فذكر فيه العجائب من الكلام فى الفناء والبقاء والقبض والبسط والوقت والحال والوجد والوجود والجمع والتفرقة والصحو والسكر والذوق والشرب والمحو والإثبات والتجلى والمحاضرة والمكاشفة واللوائح والطوالع واللوامع والتكوين والتمكين والشريعة والحقيقة (٣).

__________________

(١) الخراسانى النيسابورى ، انظر مصنفاته فى هدية العارفين : ١ / ٦٠٧ ، وثقه الخطيب. توفى سنة خمس وستين وأربع مائة وعاش تسعين سنة.

ت / بغداد ١١ / ٨٣ ، الأنساب : ١٠ / ١٥٦ ، والمنتظم : ٨ / ٢٨٠ ، السير : ١٨ / ٢٢٧ ، مرآة الجنان : ٣ / ٩١ ، البداية والنهاية : ١٢ / ١٠٧.

(٢) المسماة : الرسالة القشيرية ، وهى مطبوعة وقد ذكر محقق الجزء الثامن عشر من سير أعلام النبلاء أنها ترجمت إلى اللغة الفرنسية.

(٣) تلبيس إبليس ص : ١٦٣ ـ ١٦٤.

٢٨٠