المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

قول الإمام أحمد فى التبرك

٦١٧ ـ قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : ورأيت أبى يأخذ شعرة من شعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيضعها على فيه يقبلها ، وأحسب أنى قد رأيته يضعها على رأسه أو عينيه فغمسها فى الماء ثم شربه ، يستشفى به ، ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث بها إليه أبو يعقوب بن سليمان ابن جعفر (١) فغسلها فى حب (٢) الماء ثم شرب فيها ، ورأيته غير مرة يشرب من ماء زمزم يستشفى به ، ويمسح به يديه ووجهه (٣). اه

٦١٨ ـ قال ابن أبى يعلى فى ترجمة على بن عبد الله الطيالسى : نقل عن إمامنا أشياء (٤) منها قال : مسحت يدى على أحمد بن حنبل ثم مسحت يدى على بدنى وهو ينظر ، فغضب غضبا شديدا ، وجعل ينفض نفسه ويقول : عمن أخذتم هذا وأنكره إنكارا شديدا (٥) اه

التعليق.

الكلام حول هذه المسألة على شقين :

الأول : أنه كان يتبرك بآثار وجدت منسوبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) لم أستطع تحديده.

(٢) الحب : الجرة الضخمة. القاموس المحيط ١ / ٥١.

(٣) مسائل عبد الله ص : ٤٤٧. وأخرجه ابن الجوزى بسنده إلى عبد الله (مناقب الإمام أحمد ص : ٢٤٢) وأورده الذهبى فى سير أعلام النبلاء ١١ / ٢١٢ نقلا عن عبد الله.

(٤) ذكر له هذه المسألة فقط.

(٥) طبقات الحنابلة ١ / ٢٢٨. ونقلها العليمى كما فى الطبقات إلا أنه قال : «فجعل ينفض يده». المنهج الأحمد ١ / ٤٢٨.

١٢١

والثانى : التبرك بالأشخاص أنفسهم أو من يسمون بالصالحين أو بآثارهم.

أما الشق الأول : فإنه أثر عن بعض الصحابة التبرك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حياته.

والشق الثانى : مرتبط بالشق الأول فإذا كان بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبرك به عليه الصلاة والسلام إما بعرقه مثلا أو سؤر وضوئه ، فهذا لا يعنى بحال جواز ذلك على إطلاقه فى غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. لذلك نرى أن الإمام أحمد أنكر وبشدة على ذلك الرجل الّذي تمسح به.

يقول الشيخ سليمان بن عبد الله (ت ١٢٣٣ ه‍) : ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم والتمسح بهم أو بثيابهم ، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين والتبرك بعرقهم ونحو ذلك ، وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووى فى شرح مسلم فى الأحاديث التى فيها أن الصحابة فعلوا شيئا من ذلك مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) وظن أن بقية الصالحين فى ذلك كالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا خطأ صريح لوجوه :

منها : عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الفضل والبركة.

ومنها : عدم تحقق الصلاح ، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص ، كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله أو أئمة التابعين ، ومن شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك ، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم.

__________________

(١) انظر شرح مسلم ١٥ / ٨٦ ـ ٨٧.

١٢٢

ومنها : أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء ، والأعمال بالخواتيم فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره.

ومنها : أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا فى حياته ، ولا بعد موته ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، فهلا فعلوه مع أبى بكر وعمر وعثمان وعلى ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلى بن الحسين وأويس القرنى والحسن البصرى ونحوهم ... فدل أن ذلك مخصوص بالنبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها : أن فعل هذا مع غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء (١)

__________________

(١) تيسير العزيز الحميد ص : ١٨٥ ـ ١٨٦.

١٢٣

ما أثر عن الإمام أحمد فى معنى حديث

«أقروا الطير على مكناتها»

فى مسائل أبى داود :

٦١٩ ـ ص / ٢٦٧ أخبرنا أبو بكر (١) قال : حدثنا أبو داود قال : سمعت أحمد يقول فى حديث «أقروا الطير على مكناتها» (٢) أى أنها لا تضركم. قال : كان أحدهم ـ يعنى فى الجاهلية ـ يريد الأمر فيثير الطير. يعنى فيقال : إن جاء عن يمينه كان كذا وإن جاء عن يساره كان كذا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقروا الطير على مكناتها فإنها لا تضركم».

٦٢٠ ـ وقال فى رواية عبد الله : قال بعضهم : كانت العرب إذا أراد

__________________

(١) ابن داسة. راوى المسائل عن أبى داود.

(٢) رواه أحمد ٦ / ٣٨١ وأبو داود ٣ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨ والرامهرمزى فى المحدث الفاصل ص : ٢٥٨ وأبو نعيم فى الحلية ٩ / ٩٤ ـ ٩٥ عن سباع بن ثابت ، عن أم كرز رضى الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت الحديث وصححه الحاكم ٤ / ٢٣٧ وأقره الذهبى.

لكن فى الميزان ٢ / ١١٥ قال : سباع لا يكاد يعرف وآورد له هذا الحديث.

والأحاديث فى النهى عن التطير كثيرة سيأتى ذكر لبعضها فى التعليق.

يقول ابن الأثير : المكنات فى الأصل : بيض الضباب ، واحدتها : مكنة ، بكسر الكاف وقد تفتح يقال: مكنت الضبة وأمكنت.

قال أبو عبيد : جائز فى الكلام أن يستعار مكن الضباب فيجعل للطير كما قيل مشافر الحبش وإنما المشافر للإبل.

وقيل : المكنات : بمعنى الأمكنة يقال : الناس على مكناتهم ومسكناتهم أى على أمكنتهم ومساكنهم.

وقيل : المكنة : من التمكن ، كالطلبة والتبعة ، من التطلب والتتبع.

يقال : إن فلانا لذو مكنة من السلطان : أى ذو تمكن. يعنى أقروها على كل مكنة ترونها عليها ودعوا التطير بها. النهاية ٤ / ٣٥٠ وراجع مفتاح دار السعادة لابن القيم ص : ٥٨١ ـ ٥٨٢.

١٢٤

أحدهم أن يخرج نفر الطير ، فإن أخذ يعنى فى طريق أخذ منه كأنه من الطيرة. وقال بعضهم: لا بل هو «أقروا الطير على مكناتها» أن لا تؤخذ من أوطانها (١).

التعليق.

هذا الحديث كما تقدم اختلف فى المراد به لكن الّذي عليه أكثر العلماء أن المقصود به النهى عن التطير ، وهو المفهوم من عامة كلام أحمد.

والطيرة باب من الشرك منافية للتوكل لما فيها من الاعتماد والالتفات إلى غير الله تعالى ، حيث إن المتطير الّذي أحجم عما كان قد اعتزمه بسبب ما رآه أو سمعه ، اعتقد أنه بعمله هذا يمكنه أن يرد قضاء الله وقدره. وهذا خلاف التوكل المأمور به وهو أن يثق المسلم بالله عزوجل ويعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له وقدره.

روى أحمد (٢) وأبو داود (٣) وابن ماجة (٤) والترمذي (٥) والبخارى (٦) عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل».

وفى أحد إسنادى أحمد : «الطيرة شرك الطيرة شرك ولكن الله يذهبه بالتوكل».

قال الخطابى : قوله : «وما منا إلا» معناه إلا من يعتريه التطير وسبق إلى قلبه الكراهة فيه ، فحذف اختصارا للكلام واعتمادا على فهم السامع وقال

__________________

(١) مسائل عبد الله ص ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٢) فى المسند ١ / ٣٨٩ ، ٤٢٨.

(٣) فى السنن ٤ / ٢٣٠.

(٤) فى السنن ٢ / ١١٧٠.

(٥) فى السنن ٣ / ٨٤.

(٦) فى الأدب المفرد ح : ٩٠٩.

١٢٥

محمد بن اسماعيل : كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول : هذا الحرف ليس من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكأنه قول ابن مسعود رضى الله عنه (١).

قال ابن القيم : وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك ، كما هو فى أثر مرفوع : من ردته الطيرة فقد قارن الشرك ، وفى أثر آخر : «من أرجعته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا : وما كفارة ذلك؟ قال : «أن يقول أحدكم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك» (٢).

وفى صحيح مسلم (٣) من حديث معاوية بن الحكم السلمى أنه قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ومنا أناس يتطيرون فقال : «ذاك شيء يجده أحدكم فى نفسه فلا يصدنكم». فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو فى نفسه وعقيدته لا فى المتطير به فوهمه وخوفه وإشراكه هو الّذي يطيره ويصده ، لا ما رآه وسمعه ، فأوضح صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه لتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التى أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه ، وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار ، فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دارا للتوحيد وموجباته وحقوقه والنار دار الشرك ولوازمه وموجباته فقطع صلى‌الله‌عليه‌وسلم علق الشرك من قلوبهم ، لئلا يبقى فيها علقة منها ولا يلتبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة (٤) اه

هذا بالنسبة للطيرة أما الفأل فليس هو منها فى شيء وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الفأل.

__________________

(١) معالم السنن مع سنن أبى داود ٤ / ٢٣٠.

(٢) أخرجه أحمد ٢ / ٢٢٠ من حديث ابن عمر رضى الله عنهما.

(٣) مسلم ٤ / ١٧٤٨ ـ ١٧٤٩.

(٤) مفتاح دار السعادة ص : ٥٨١.

١٢٦

قال ابن الأثير : الفأل مهموز فيما يسر ويسوء ، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء ، وربما استعملت فيما يسر. يقال : تفاءلت بكذا وتفالت على التخفيف والقلب. وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفا.

وإنما أحب الفأل : لأن الناس اذا أملوا فائدة الله تعالى ، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوى فهم على خير ، ولو غلطوا فى جهة الرجاء فإن الرجاء لهم خير ، وإذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر.

وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله ، وتوقع البلاء. ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام ... (١).

وكما ذكر آنفا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب الفأل فقد روى البخارى (٢) ومسلم (٣) وأحمد (٤) عن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا طيرة وخيرها الفأل» قالوا : وما الفأل يا رسول الله؟ قال : «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم».

يقول ابن القيم فى شرح الحديث الآنف الذكر : أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها ، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ، ولكنه خيرها ، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ، ونفع أحدهما ومضرة الآخر ، ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك وإذنه فى الرقية إذا لم تكن شركا لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة ... فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا طيرة وخيرها الفأل» ينفى عن الفأل مذهب الطيرة من تأثير أو فعل أو شركة ويخلص الفأل منها وفى الفرقان بينهما فائدة كبيرة وهى أن التطير هو التشاؤم من الشيء المرئى أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفره وامتنع بها مما عزم عليها عليه فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرئ من التوكل على الله وفتح على

__________________

(١) النهاية : ٣ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٢) فى الصحيح ١٠ / ٢١٢.

(٣) فى الصحيح ٤ / ١٧٤٥.

(٤) فى المسند ٢ / ٢٦٦ ، ٤٥٣ ، ٥٢٤.

١٢٧

نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله والتطير مما يراه ويسمعه وذلك قاطع له من مقام : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) و (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) و (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) فيصير قلبه متعلقا بغير الله عبادة وتوكلا ... فأين هذا من الفأل الصالح السار للقلوب المؤيد للآمال الفاتح باب الرجاء المسكن للخوف الرابط للجأش الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه والاستبشار المقوى لأمله السار لنفسه. فهذا ضد الطيرة. فالفأل يفضى بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد ، والطيرة تفضى بصاحبها إلى المعصية والشرك ، فلهذا استحب صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفأل وأبطل الطيرة (١).

__________________

(١) مفتاح دار السعادة ص ٥٩٣ ـ ٥٩٥ ، وانظر المصدر نفسه ص ٥٩٢ ، والمنهاج فى شعب الإيمان للحليمى ٢ / ٢٥.

١٢٨

ما أثر عن الإمام أحمد فى الذبح لغير الله

وحكم أكل ما ذبح لغيره جل وعلا

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٦٢١ ـ سألت أبى عمن ذبح للزهرة (١)؟ قال : لا يعجبنى. قلت لأبى : أحرام أكله؟ قال : لا أقول حرام ، ولكن لا يعجبنى. قلت لأبى : فرجل يذبح للكوكب؟ قال : ولا يعجبنى ، أكره كل شيء يذبح لغير الله ، وقد كره بعضهم ما ذبح للكنيسة (٢).

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٦٢٢ ـ سألت أبا عبد الله عن ذبيحة الجنة؟ : قال : لا بأس بها (٣) (٤).

وقال أبو بكر الخلال :

٦٢٣ ـ أخبرنى عصمة بن عصام قال : حدثنا حنبل قال حدثنى أبو عبد الله قال : حدثنى الوليد بن مسلم قال (٥) : سمعت الأوزاعى (٦) قال : سألت ميمون بن مهران (٧) عن ما ذبح النصارى لأعيادهم وكنائسهم فكره

__________________

(١) كوكب معروف أضافوا إليه البهجة واللهو والحسن. انظر : عجائب المخلوقات للقزوينى ١ / ٣٧.

(٢) مسائل عبد الله ص : ٢٦٦.

(٣) سيأتى مراد الإمام أحمد في آخر التعليق.

(٤) مسائل ابن هانئ ٢ / ٣١.

(٥) القرشى ، مولاهم ، ثقة وثقه غير واحد من الأئمة لكن أخذوا عليه تدليس التسوية وهو أشد أنواعه.

ميزان الاعتدال ٤ / ٣٤٧ ، طبقات المدلسين ص ٢٠ ، تقريب ٢ / ٢٣٦.

(٦) عبد الرحمن بن عمرو ، ثقة جليل. سير أعلام النبلاء ١٧ / ١٠٧ ، تقريب ١ / ٤٩٣.

(٧) الجزرى ، ثقة فقيه ، وكان يرسل. تقريب ٢ / ٢٩٢.

١٢٩

أكله. قال حنبل : سمعت أبا عبد الله قال : لا تؤكل لأنه أهل لغير الله به وكل ما سوى ذلك ، وإنما أحل الله عزوجل من طعامهم ما ذكر اسم الله عليه. قال الله عزوجل : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (١) وقال : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (٢) فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه.

٦٢٤ ـ أخبرنى عصمة بن عصام قال : حدثنا حنبل قال : حدثنا أبو جعفر الأنبارى (٣) قال : حدثنا الهذيل بن بلال (٤) قال : سألت عطاء (٥) عن ذبيحة النصارى سمعته يقول : باسم المسيح؟ قال : كل. قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال : لا يؤكل. قال الله جل ثناؤه : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) فلا أرى هذا ذكاة. (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).

٦٢٥ ـ أخبرنى عبيد الله بن حنبل قال : حدثنى أبى قال : قال عمى : أكره كل ما ذبح لغير الله والكنائس إذا ذبح لها ، وما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به ، وإذا ذبح يريد به غير الله فلا تأكله وما ذبحوا فى أعيادهم أكرهه.

٦٢٦ ـ أخبرنا الميمونى قال : سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب فقال : إن كان مما يذبحون لكنائسهم. فقال : يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح.

٦٢٧ ـ أخبرنا أبو بكر المروزي أن أبا عبد الله قال : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (٦) قال : على الأصنام. وقال : كل شيء ذبح على الأصنام لا يؤكل.

__________________

(١) سورة الأنعام / ١٢١.

(٢) سورة المائدة / ٣.

(٣) لم أعرفه.

(٤) أبو البهلول الفزارى المدائنى. ليس بالقوى. انظر : ت / بغداد ١٤ / ٧٦ ، ميزان الاعتدال ٤ / ٢٩٤.

(٥) ابن أبى رباح ، ثقة فقيه فاضل ، لكنه كثير الإرسال. تقريب ٢ / ٢٢.

(٦) سورة المائدة / ٣.

١٣٠

٦٢٨ ـ أخبرنا أبو بكر فى موضع آخر قال : قرئ على أبى عبد الله (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ). فذكر مثله (١).

التعليق.

الكلام حول هذه المسألة على شقين :

الأول : حكم الذبح لغير الله تعالى.

الثانى : حكم أكل ما ذبح لغير الله تعالى.

وسوف أذكر إن شاء الله تعالى ما يفى بالغرض حول هاتين النقطتين مع تحليل ما أثر عن الإمام أحمد فى هذه المسألة.

قال الله تبارك وتعالى فى محكم التنزيل : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (٢).

قال العلماء : النسك الذبح فى الحج والعمرة.

ونقل عن سعيد بن جبير والضحاك فى قول الله عزوجل : (وَنُسُكِي) أى ذبحى (٣).

قال الشيخ سليمان بن عبد الله ـ [ت ١٢٣٣] ـ : وفي الآية دلائل متعددة على أن الذبح لغير الله شرك ، كما هو بين عند التأمل (٤).

وقال جل وعلا : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٥).

__________________

(١) أحكام أهل الملل ق ١٦٤.

(٢) سورة الأنعام / ١٦٢.

(٣) تيسير العزيز الحميد ص ١٨٧ ، وانظر مجموع الفتاوى ٧ / ٤٨٣ ـ ٤٨٥.

(٤) تيسير العزيز الحميد ص : ١٨٨.

(٥) سورة الكوثر / ٢.

١٣١

ذكر ابن كثير فى معنى الآية : أى أخلص له صلاتك وذبيحتك ، فإن المشركين يعبدون الأصنام ، ويذبحون لها ، فأمر الله بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى (١).

وروى مسلم (٢) وأحمد (٣) عن على بن أبى طالب رضى الله عنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من غير منار الأرض».

قال النووى فى شرح هذا الحديث :

وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا نص عليه الشافعى واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا (٤) اه

وقال جل وعلا : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (٥) الآية.

يقول ابن تيمية فى قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ).

ظاهره أن ما ذبح لغير الله مثل أن يقال : هذه الذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ. وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم ، وقال فيه : باسم المسيح ونحوه ، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحنا للحم ، وقلنا عليه : بسم الله. فإن عبادة الله بالصلاة

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ٤ / ٥٩٣ ، وتيسير العزيز الحميد ص : ١٨٧.

(٢) فى الصحيح ٣ / ١٥٦٧.

(٣) فى المسند ١ / ١١٨.

(٤) مسلم بشرح النووى ١٣ / ١٤١.

(٥) سورة البقرة / ١٧٣.

١٣٢

له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه فى فواتح الأمور ، فكذلك الشرك بالصلاة لغيره ، والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره فى فواتح الأمور ، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة ، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى ، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقى هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنجوم ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال ، لكن يجتمع فى الذبيحة مانعان. ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ، ولهذا روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن (١) (٢) اه

أما ما نقل عن الإمام أحمد عند ما سئل عمن ذبح للزهرة فقال : لا يعجبنى فيجب أن يعلم أن بعض الأئمة يطلقون لفظ الكراهة على سبيل التحريم ـ بعض الأحيان ـ وزيادة فى الإيضاح أنقل ما ذكره ابن القيم إذ يقول :

وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك حيث تورع الأئمة على إطلاق لفظ التحريم وأطلقوا لفظ الكراهة فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة ، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مئونته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه ، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى وهذا كثير جدا فى تصرفاتهم ، فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة ، وقد قال الإمام أحمد فى الجمع بين الأختين بملك اليمين : أكرهه ، ولا

__________________

(١) قال الشيخ سليمان بن عبد الله (ت ١٢٣٣ ه‍) هذا الحديث رواه البيهقى عن الزهرى مرسلا وفى إسناده عمر بن هارون ، وهو ضعيف عند الجمهور إلا أن أحمد بن سيار روى عن قتيبة أنه كان يوثقه ، ورواه ابن حبان فى الضعفاء من وجه آخر عن عبد الله بن أذينة عن ثور بن يزيد ، عن الزهرى ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبى هريرة مرفوعا.

قال ابن حبان : وعبد الله يروى عن ثور ما ليس من حديثه.

قال الزمخشرى : كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن فأضيفت الذبائح إليهم. اه. تيسير العزيز الحميد ص : ١٩١.

(٢) نقلا من المصدر السابق ص : ١٩٠ ـ ١٩١. وقد كان المرجع فى هذه المسألة لتفصيله إياها ، وكلام شيخ الإسلام فى اقتضاء الصراط المستقيم ص : ٢٥٩. وراجع من ص : ٢٥١ ـ ٢٦١ ففيه بحث جيد حول بعض جوانب هذه المسألة.

١٣٣

أقول هو حرام ، ومذهبه تحريمه ، وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان.

وقال أبو القاسم الخرقى فيما نقله عن أبى عبد الله : ويكره أن يتوضأ فى آنية الذهب والفضة ، ومذهبه أنه لا يجوز.

وقال فى رواية إسحاق بن منصور : إذا كان أكثر مال الرجل حراما فلا يعجبنى أن يؤكل ماله ، وهذا على سبيل التحريم.

وقال فى رواية ابنه عبد الله : لا يعجبنى أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة ، وكل شيء ذبح لغير الله ، قال الله عزوجل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فتأمل كيف قال : لا يعجبنى فيما نص الله سبحانه على تحريمه. واحتج هو أيضا بتحريم الله له فى كتابه. وقال فى رواية الأثرم : أكره لحوم الجلالة وألبانها ، وقد صرح بالتحريم فى رواية حنبل وغيره. وقال فى رواية عبد الله : أكره أكل لحم الحية والعقرب ، لأن الحية لها حمة ولا يختلف مذهبه فى تحريمه.

وقال فى رواية حرب : إذا صاد الكلب من غير أن يرسل فلا يعجبنى لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اذا أرسلت كلبك وسميت» (١).

فقد أطلق لفظة : «لا يعجبنى» على ما هو حرام عنده.

وسئل عن شعر الخنزير فقال : لا يعجبنى ، وهذا على التحريم ... وهذا فى أجوبته أكثر من أن يستقصى وكذلك غيره من الأئمة (٢) اه.

أما ما جاء فى رواية ابن هانئ فلا شك أنه لم يرد به جواز أكل ما ذبح للجن فكل ما ذبح لغير الله فأكله حرام. ولعل مقصوده جواز أكل ما يذبح لله عزوجل على سبيل التقرب إليه والاعتصام والالتجاء به وطلب صرف أذاهم. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر الحديث فى صحيح البخارى ٩ / ٦١٢ وفى صحيح مسلم ٣ / ١٥٢٩.

(٢) أعلام الموقعين ١ / ٣٩ ـ ٤١.

١٣٤

قول الإمام أحمد فيمن قال : لعمرى ولعمرك

٦٢٩ ـ قال إسحاق (١) قلت (٢) : يكره لعمرى ولعمرك؟ قال : ما أعلم به بأسا.

قال إسحاق (٣) : تركه أسلم لما قال إبراهيم (٤) : كانوا يكرهون أن يقولوا لعمر الله (٥) اه

التعليق.

«لعمرى ولعمرك لم يدخلها بعض العلماء فى باب الحلف بغير الله ورأى البعض إدخالها (٦) وسأفصل مسألة الحلف بغير الله عموما.

روى البخارى (٧) ومسلم (٨) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك عمر بن الخطاب ـ وهو يسير فى ركب ، يحلف بأبيه ـ فقال : «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».

وروى الترمذي (٩) عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». قال الترمذي : هذا حديث حسن

__________________

(١) الكوسج.

(٢) أى لأحمد.

(٣) ابن راهويه.

(٤) النخعى.

(٥) مسائل الكوسج (٢ / ٢١٤ ـ ٢١٥).

(٦) انظر : اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ص : ٤٢٠.

(٧) فى الصحيح ١١ / ٥٣٠.

(٨) فى الصحيح ٣ / ١٢٦٧.

(٩) فى السنن ٤ / ١١٠.

١٣٥

ورواه أحمد (١) وأبو داود (٢) بلفظ : «فقد أشرك». وفى رواية أخرى لأحمد (٣) «فقد كفر أو أشرك».

قال الشيخ سليمان بن عبد الله (ت ١٢٣٣ ه‍) : أجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله ، أو بصفاته ، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره.

قال ابن عبد البر : لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع اه

ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين إن ذلك على سبيل كراهة التنزيه ، فإن هذا قول باطل. وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كفر أو شرك ، بل ذلك محرم. ولهذا اختار ابن مسعود رضى الله عنه أن يحلف بالله كاذبا ، ولا يحلف بغيره صادقا. فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب ، مع أن الكذب من المحرمات فى جميع الملل فدل ذلك أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات.

فإن قيل : إن الله أقسم بالمخلوقات فى القرآن.

قيل : ذلك يختص بالله تبارك وتعالى فهو يقسم بما شاء من خلقه ... أما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى فالله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه. وقد نهانا عن الحلف بغيره فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند الله ... فإن قيل : قد جاء فى الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأعرابى الّذي سأله عن أمور الإسلام فأخبره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلح وأبيه إن صدق». رواه البخارى (٤).

__________________

(١) فى المسند ١ / ٤٧ ، ٢ / ٣٤.

(٢) فى السنن ٣ / ٥٧٠.

(٣) فى المسند ٢ / ١٢٥.

(٤) فتح البارى ١ / ١٠٦ وعنده : «أفلح إن صدق» وهى إحدى الروايتين عند مسلم ١ / ٤١ والأخرى ـ

١٣٦

وقال للذى سأله : أى الصدقة أفضل «أما وأبيك لتنبأنه» رواه مسلم (١) ، ونحو ذلك من الأحاديث.

قيل : ذكر العلماء عن ذلك أجوبة :

أحدها : ما قاله ابن عبد البر فى قوله : «أفلح وأبيه إن صدق». هذه اللفظة غير محفوظة ، وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر : «أفلح والله إن صدق» قال : وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ «أفلح وأبيه» لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح ، ولم تقع فى رواية مالك أصلا ، وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله : «وأبيه» من قوله : «والله» (٢).

وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط ولا يمكن أن يجاب به عن غيره.

الثانى : أن هذا اللفظ كان يجرى على ألسنتهم من غير قصد للقسم به ، والنهى إنما ورد فى حق من قصد حقيقة الحلف ذكره البيهقى وقال النووى : إنه المرضى.

قلت : هذا جواب فاسد ، بل أحاديث النهى عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد ، ويؤيد ذلك أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه حلف مرة باللات والعزى (٣) ، ويبعد أن يكون أراد حقيقة الحلف بهما ، ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك ومع هذا نهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. غاية ما يقال : إن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه ، أما أن يكون ذلك أمرا جائزا للمسلم أن يعتاده فكلا. وأيضا فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك كان يجرى على ألسنتهم

__________________

ـ كما هنا.

(١) ٢ / ٧١٦ من حديث أبى هريرة.

(٢) وانظر فى هذا أيضا المغنى لابن قدامة ٨ / ٦٧٨ وفتح البارى ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٣) سيأتى الحديث فى الصفحة التالية.

١٣٧

من غير قصد للقسم ، وأن النهى إنما ورد فى حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك؟.

الثالث : أن مثل هذا يقصد به التأكيد لا التعظيم إنما وقع النهى عما يقصد به التعظيم.

قلت : وهذا أفسد من الّذي قبله ، وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال ، فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له؟.

فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه.

وأيضا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق ، وأيضا فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معلوم.

الرابع : أن هذا كان فى أول الأمر ثم نسخ ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله فهو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهى عن الحلف بغير الله. وهذا الجواب ذكره الماوردى. قال السهيلى : أكثر الشراح عليه ، حتى قال ابن العربى : روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك. قال السهيلى : ولا يصح ذلك ، وكذلك قال غيرهم.

وهذا الجواب هو الحق ، يؤيده أن ذلك كان مستعملا سائغا حتى ورد النهى عن ذلك كما فى حديث ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدرك عمر ـ ذكر الحديث ـ وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» وكانت قريش تحلف بآبائها فقال : «ولا تحلفوا بآبائكم» رواه مسلم (١). وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال : حلفت مرة باللات والعزى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد». رواه النسائى (٢)

__________________

(١) فى الصحيح ٣ / ١٢٦٧.

(٢) سنن النسائى ٧ / ٧ ـ ٨.

١٣٨

وابن ماجة (١) ، وهذا لفظه. وفى هذا المعنى أحاديث ، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله ، فهو جار على العادة قبل النهى ، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهى عن ذلك. وقوله : «فقد كفر أو أشرك» أخذ به طائفة من العلماء فقالوا : يكفر من حلف بغير الله كفر شرك ، قالوا : ولهذا أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتجديد إسلامه بقول : لا إله إلا الله فلو لا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك.

وقال الجمهور : لا يكفر كفرا ينقله عن الملة ، لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره ، وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول : لا إله إلا الله ، فلأن هذا كفارة له مع استغفاره كما قال فى الحديث الصحيح : «ومن حلف فقال فى حلفه واللات والعزى فليقل : «لا إله إلا الله». وفى رواية : «فليستغفر» فهذا كفارة له فى كونه تعاطى صورة تعظيم الصنم ، حيث حلف به لا أنه لتجديد إسلامه ، ولو قدر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره ... فهذا هو تفصيل القول فى هذا المسألة (٢).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ / ٦٧٨.

(٢) تيسير العزيز الحميد ص : ٥٩٠ ـ ٥٩٤.

١٣٩

ما أثر عن الإمام أحمد فى الإسراء والمعراج

قال القاضى أبو يعلى بن الفراء :

لا يختلف أصحابنا فى إثبات ليلة الإسراء وأنها وحى من الله تعالى إلى نبيه وقد نص على هذا فى مواضع :

٦٣٠ ـ فقال أبو بكر المروزي : قلت لأبى عبد الله يحكى عن موسى ابن عقبة (١) أنه قال : أحاديث الإسراء منام. فقال : هذا كلام الجهمية. وقال : منام الأنبياء وحى.

٦٣١ ـ وكذلك نقل يعقوب بن بختان عنه وقد سئل عن المعراج فقال : رؤيا الأنبياء وحى. فقد نص على إثبات ذلك وأنه وحى (٢).

التعليق :

قال الله جل وعلا (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) (٣).

__________________

(١) قال أبو حاتم : قدم موسى بن عقبة الصورى بغداد فذكر لأحمد بن حنبل فقال : انظروا على من نزل وإلى من يأوى. الإبانة الكبرى ٣ / ٣٥٠. فلعله المراد وهناك موسى بن عقبة بن أبى عياش ، ثقة ، فقيه إمام فى المغازى تقريب ١ / ٢٨٦.

(٢) الروايتان والوجهان (ق : ٢٥٠ / أ) وفى إبطال التأويلات (ق : ٦٤ ـ ٦٥) قال : إن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس إلى السموات صحيح وأنه كان يقظة ، وقد نص أحمد على هذا فى رواية المروزي وحكى له عن موسى بن عقبة أنه قال : إن أحاديث الإسراء منام فقال : هذا كلام الجهمية وجمع أحاديث الإسراء فأعطانيها وقال : منام الأنبياء وحى.

وقال يعقوب بن بختان : سألت أبا عبد الله عن المعراج فقال : رؤيا الأنبياء وحى. فقد أثبت ليلة الإسراء وأنكر قول من قال إنها منام.

وقوله : رؤيا الأنبياء وحى : معناه : أنه لو كانت مناما لكانت وحيا.

(٣) الإسراء / آية : ١.

١٤٠