المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) (١) وقوله تبارك وتعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢) ، وقال حكاية عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣) ، وقال عزوجل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٤).

وروى مسلم (٥) عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».

قال النووى : تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضا من النصيحة التى هى الدين ولم يخالف فى ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم كما قال أبو المعالى : لا يكترث بخلافهم فى هذا فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء ، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة ، وأما قول الله عزوجل : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٦) فليس مخالفا لما ذكرناه لأن المذهب الصحيح عند المحققين فى معنى الآية : أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم مثل قوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٧) وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه فإنما عليه الأمر والنهى لا القبول والله أعلم.

ثم إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس

__________________

(١) سورة التوبة / ١١٢.

(٢) سورة التوبة / ٧١.

(٣) سورة لقمان / ١٧.

(٤) سورة آل عمران / ١١٠.

(٥) فى الصحيح ١ / ٦٩.

(٦) سورة المائدة / ١٠٥.

(٧) سورة فاطر / ١٨.

٣٢١

سقط الحرج عن الباقين وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف ثم إنه قد يتعين كما إذا كان فى موضع لا يعلم به إلا هو أولا يتمكن من إزالته إلا هو.

قال العلماء : ولا يسقط الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكونه لا يفيد فى ظنه بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين وإن الّذي عليه : الأمر والنهى لا القبول كما قال الله عزوجل : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (١) (٢).

قال العلماء : ولا يشترط فى الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به والنهى وإن كان متلبسا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان : أن يأمر نفسه وينهاها ويأمر غيره وينهاه فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر.

قال العلماء : ولا يختص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين : والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة فى الصدر الأول والعصر الّذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم. اه

ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأن على أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم ، وعلى المذهب الآخر : المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه لكنه إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب

__________________

(١) سورة النور / ٥٤ ، وسورة العنكبوت / ١٨.

(٢) قال شيخ الإسلام فى اقتضاء الصراط المستقيم ص : ٤٥ : «ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر : لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهى فى إحدى الروايتين عن أحمد وقول كثير من أهل العلم.

٣٢٢

مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع فى خلاف آخر ...

واعلم أن هذا الباب ـ أعنى باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ـ قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة ولم يبق منه فى هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) فينبغى لطالب الآخرة والساعى فى تحصيل رضا الله عزوجل أن يعتنى بهذا الباب فإن نفعه عظيم لا سيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته فإن الله تعالى قال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (٢) وقال تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٤) وقال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٥).

واعلم أن الأجر على قدر النصب ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها ، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى فى عمارة آخرته وإن أدى ذلك إلى نقص فى دنياه وعدوه من يسعى فى ذهاب أو نقص آخرته وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع فى دنياه (٦). اه

__________________

(١) سورة النور / ٦٣.

(٢) سورة الحج / ٤٠.

(٣) سورة آل عمران / ١٠١.

(٤) سورة العنكبوت / ٦٩.

(٥) سورة العنكبوت / ٢ ، ٣.

(٦) مسلم بشرح النووى ٢ / ٢٢ ـ ٢٤ وانظر ما بعده. وراجع كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ـ

٣٢٣

وبعد هذا الكلام النفيس نقول : إن الروايات المتقدمة عن الإمام أحمد فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيها منهج شامل لهذه المسألة بجميع جوانبها : فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب فإذا أمكن إزالة المنكر باليد فهو أفضل وإن خاف على نفسه أنكر بلسانه وإن كان غير ممكن أيضا أنكر بقلبه والإنكار بالقلب معناه : الكراهة للمنكر ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكون برفق ولين قدر الإمكان حتى يتحقق المقصود ، وإن كان هذا راجعا فى المقام الأول لنوع المنكر. والله تعالى أعلم.

__________________

ـ لشيخ الإسلام ابن تيمية. وكتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر للقاضى أبى يعلى بن الفراء وهو مخطوط كما سبق الإشارة إليه ص : ٧٦٠ وتلبيس إبليس لابن الجوزى ص : ١٤٨ ـ ١٤٩. وغيرها من المؤلفات التى خصصت لبحث هذا الأصل العظيم.

٣٢٤

ما أثر عن الإمام أحمد فيما يجب اعتقاده فى الأنبياء والرسل

صلوات الله وسلامه عليهم

فى رسالته لمسدد بن مسرهد قال :

٨٦٦ ـ والأنبياء حق ، وعيسى بن مريم رسول الله وكلمته.

وفى موضع آخر :

٨٦٧ ـ والتصديق بما جاءت به الرسل (١).

وفى رسالة محمد بن حبيب الأندرانى قال :

٨٦٨ ـ وأقر بجميع ما أتت به الأنبياء والرسل (٢).

التعليق :

الإيمان بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم وبما جاءوا به من عند الله عزوجل أحد أركان الإيمان. قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٣) وقال تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) (٤) وقال جل وعلا : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (٥).

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٣٤٣ ، ٣٤٤.

(٢) المصدر السابق ١ / ٢٩٤.

(٣) سورة البقرة / ٢٨٥.

(٤) سورة البقرة / ١٧٧.

(٥) سورة النساء / ١٣٦.

٣٢٥

وفى حديث جبريل قال : أخبرنى عن الإيمان قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... (١). اه

والأصل الّذي جاءت به الرسل واحد وهو الدعوة إلى الله عزوجل وإخلاص العبادة له ، وإن اختلفت فى الفروع ، إلا أن هذه الشرائع والمناهج قد نسخت ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا شرعة إلا شرعة الإسلام قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢).

يقول شارح الطحاوية : وأما الأنبياء والمرسلون فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى فى كتابه من رسله والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الّذي أرسلهم فعلينا الإيمان بهم جملة لأنه لم يأت فى عددهم نص ، وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) (٣) وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٤).

وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به وأنهم بينوه بيانا لا يسع أحدا ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه. قال تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٥) وقال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٦) ....

وأما أولو العزم من الرسل ، فقد قيل فيهم أقوال أحسنها : ما نقله البغوى وغيره عن ابن عباس وقتادة : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. قال وهم المذكورون فى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ

__________________

(١) انظر : الحديث وتخريجه ج : ١ / ٧٥.

(٢) سورة آل عمران / ٨٥.

(٣) سورة النساء / ١٦٤.

(٤) سورة غافر / ٧٨.

(٥) سورة النحل / ٣٥.

(٦) سورة النحل / ٨٢.

٣٢٦

مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (١) وفى قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (٢) وأما الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالا وتفصيلا (٣). اه

قلت : ومما يجب اعتقاده فى الأنبياء والرسل أنهم بشر من خلق الله عزوجل أكرمهم الله سبحانه وتعالى واصطفاهم برسالته. فليس لهم من خصائص الألوهية والربوبية أى شيء. قال تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٤) وقال جل وعلا : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥) وقال : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٦). ولم يتميز عيسى عليه الصلاة والسلام عنهم إلا بكونه خلق من غير أب كما أن آدم عليه‌السلام خلق من طين فسبحان الخلاق العظيم. قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٧) وقال جل وعلا : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ

__________________

(١) سورة الأحزاب / ٧.

(٢) سورة الشورى / ١٣.

(٣) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٣٤٩.

(٤) سورة الإسراء / ٩٠ ـ ٩٣.

(٥) سورة الأعراف / ١٨٨.

(٦) سورة الجن / ٢١ ـ ٢١.

(٧) سورة آل عمران / ٥٩.

٣٢٧

النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) وقال عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٢) وقال جل ذكره : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣) وقال تبارك وتعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٤).

هذا هو عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام خلق من خلق الله وعبد من عباده فلعنة الله على المشركين.

__________________

(١) سورة آل عمران / ٤٥ ـ ٤٧.

(٢) سورة النساء / ١٧١.

(٣) سورة مريم / ٣٤ ـ ٣٥.

(٤) سورة المائدة / ١١٦ ـ ١١٧.

٣٢٨

إنكار الإمام أحمد على من قال : إن اليهود والنصارى من أمة

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٨٦٩ ـ سألت أبى عن اليهود والنصارى والمجوس من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم؟ فقال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث الشفاعة فأقول أمتى أمتى (١).

قال أبى : فليس يرى أن النبي يشفع إلا فى أمته المسلمين (٢). فقلت لأبى : فأمة من هم. فقال : قال عليه‌السلام : «بعثت إلى الأحمر والأسود» (٣) فمن أسلم منهم فقد دخل فى أمته (٤).

وقال أبو بكر الخلال :

٨٧٠ ـ أخبرنا محمد بن على قال : حدثنا يعقوب بن بختان أنه سأل أبا عبد الله عن اليهود والنصارى من أمة محمد. قال : فغضب وقال : يقول هذا مسلم؟! أو كما قال.

٨٧١ ـ أخبرنى محمد بن عبد الله بن إبراهيم أن أباه (٥) حدثه قال :

__________________

(١) أخرجه أحمد ٢ / ٤٣٥ والبخارى ٨ / ٣٩٥ ومسلم ١ / ١٨٥ من حديث أبى هريرة وأخرجه البخارى ١٣ / ٤٧٣ ومسلم ١ / ١٨٢ من حديث أنس.

(٢) فى أحكام أهل الملل للخلال ص : ٣٥ «فلست ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشفع إلا لأمته من المسلمين».

(٣) رواه أحمد ١ / ٢٥٠ من حديث ابن عباس و ٤ / ٤١٦ من حديث أبى موسى الأشعرى و ٥ / ١٤٥ من حديث أبى ذر.

ورواه مسلم من حديث جابر ١ / ٣٧١.

(٤) مسائل عبد الله ص : ٤٤١.

(٥) لم أجد ما يدل عليهما.

٣٢٩

حدثنى أحمد بن القاسم / وأخبرنى زكريا بن الفرج عن أحمد بن القاسم قال : ذكرت لأبى عبد الله من يقول إن اليهود والنصارى من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم / وأخبرنى محمد بن أبى هارون ومحمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم ولفظ بعضهم فى بعض قال : سألت أبا عبد الله عن اليهود والنصارى من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم أم لا فإن قوما قد اختلفوا فيهم فقال : أى شيء هذا؟! منكرا المسألة وغضب ، قلت : إن هاهنا من يقول هذا قال : دعنا وتغير لونه. قلت : نرد عليهم ننكر عليهم ما يقولون. قال : نعم شديد الرد والإنكار.

٨٧٢ ـ أخبرنى محمد بن على الوراق قال : حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال لأبيه : أحد يقول إن اليهود والنصارى من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سبحان الله! النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اختبأت شفاعتى لأمتى» (١) يشفع إذا لليهود والنصارى!! أحد يقول هذا (٢) (٣).

__________________

(١) روى أحمد ٢ / ٣٨١ ، ٤٨٦ ، والبخارى ١١ / ٩٦ ومسلم ١ / ١٨٩ عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل نبى دعوة مستجابة يدعو بها وأريد أن أختبئ دعوتى شفاعة لأمتى فى الآخرة».

(٢) أحكام أهل الملل ص : ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كما هو معلوم ـ مرسل إلى الناس كافة فمن صدقه وآمن به دخل فى أمته أمة الإجابة ومن لم يؤمن به فيدخل فى أمة الدعوة أما بالنسبة للشفاعة فالذى يفهم من الأحاديث الصحيحة أن شفاعته العظمى تشمل الخلق أجمعين وذلك لإراحتهم من كرب الموقف. وهى خاصة به عليه الصلاة والسلام.

٣٣٠

ما أثر عن الإمام أحمد فى معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» وقوله عليه الصلاة والسلام :

«لا يبقى دينان فى جزيرة العرب»

قال أبو بكر الخلال :

٨٧٣ ـ أخبرنى عبد الله بن محمد (١) قال : حدثنى بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن أبى عبد الله وسأله عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (٢) قال : إنما الجزيرة موضع العرب وأما موضع يكون فيه أهل السواد والفرس فليس هى جزيرة العرب ، موضع العرب الّذي يكونون فيه (٣).

٨٧٤ ـ أخبرنا أبو بكر المروزي قال : سئل أبو عبد الله عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» قال : هم الذين قاتلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست لهم ذمة مثل اليهود والنصارى أى يخرجون من مكة والمدينة ودون الشام (٤).

٨٧٥ ـ أخبرنى عبد الله بن حنبل (٥) قال : حدثنى أبى قال : قال عمى (٦) : جزيرة العرب هى المدينة وما والاها لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلى يهود فليس لهم أن يقيموا بها.

__________________

(١) ابن عبد الحميد القطان. تقدمت ترجمته ج : ١ / ١٧٤.

(٢) رواه البخارى ٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧١ ومسلم ٣ / ١٢٥٨ ـ ١٢٥٩ من حديث ابن عباس.

(٣) نقلها ابن الفراء فى الأحكام السلطانية ص : ١٩٦ وابن القيم فى أحكام أهل الذمة ١ / ١٧٧.

(٤) نقلها ابن القيم فى المصدر السابق ١ / ١٧٧.

(٥) ابن إسحاق بن حنبل قال الخطيب : رأيت فى موضع آخر رواية للخلال عن ابن حنبل هذا إلا أنه سماه عبيد الله. اه. وسكت عنه. انظر : ت / بغداد ٩ / ٤٥٠ ، ١٠ / ٣٤٧.

(٦) عند أبى يعلى فى الأحكام ص : ١٩٦ وابن القيم فى أهل الذمة ١ / ١٧٧ «قال : قال عمر : والصواب ما هو مثبت وهو أحمد بن حنبل.

٣٣١

٨٧٦ ـ أخبرنى عبد الله بن أحمد قال : سمعت أبى يقول : حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبقى دينان بجزيرة العرب» (١) تفسيره : ما لم يكن فى يد فارس والروم.

وقال الأصمعى : كل ما كان دون أطراف الشام.

٨٧٧ ـ أخبرنى الحسن عبد الوهاب (٢) قال : حدثنى إبراهيم بن هانئ قال : سئل أبو عبد الله عن جزيرة العرب فقال : ما لم يكن فى يد فارس والروم قيل له : ما كان خلف العرب قال : نعم (٣).

التعليق :

قبل الشروع فى الكلام حول هذا المسألة أود أن أورد ما ذكر حول حدود جزيرة العرب.

__________________

(١) قال ابن حجر : رواه مالك فى الموطأ عن ابن شهاب فذكره مرسلا. قال ابن شهاب : ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه اليقين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا فأجلى يهود خيبر. قال مالك : وقد أجلى عمر يهود نجران وفدك ثم ذكر ابن حجر له طرقا أخرى ، التلخيص الحبير ٤ / ١٢٤. وروى أحمد ١ / ١٩٥ ، ١٩٦ عن أبى عبيدة بن الجراح قال : آخر ما تكلم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب.

قال ابن حجر بعد ذكره للروايات المرسلة : ورواه أحمد فى مسنده موصولا عن عائشة قالت : «آخر ما عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان» أخرجه من طريق ابن إسحاق حدثنى صالح بن كيسان ، عن الزهرى ، عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة. المصدر السابق.

قلت : وللحديث شواهد : فقد روى البخارى ٦ / ٢٧٠ ومسلم ٣ / ١٣٨٧ عن أبى هريرة قال : «بينما نحن فى المسجد خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : انطلقوا إلى يهود ، فخرجنا حتى جئنا بيت المدارس فقال : «أسلموا تسلموا واعلموا أن الأرض لله ورسوله وإنى أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن يجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله». وروى مسلم ٣ / ٣٨٨ عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما».

(٢) ابن أبى العنبرى. تقدم التعريف به ج : ٢ / ٢٩٤.

(٣) أحكام أهل الملل للخلال ص ٢٤ ـ ٢٥ والروايتان الأخيرتان نقلهما ابن القيم فى أحكام أهل الذمة ١ / ١٧٧ والأولى منهما نقلها ابن الفراء فى الأحكام السلطانية ص : ١٩٦.

٣٣٢

يقول النووى : قال أبو عبيد : قال الأصمعى : جزيرة العرب ما بين أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق فى الطول وأما فى العرض فمن جدة وما والاها إلى أطراف الشام ... (١).

وحكى الهروى عن مالك أن جزيرة العرب هى المدينة والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة والمدينة واليمامة واليمن (٢). اه

ويقول ابن حجر : قال الزبير بن بكار فى أخبار المدينة أخبرت عن مالك ، عن ابن شهاب قال : جزيرة العرب : المدينة قال الزبير : قال غيره : جزيرة العرب ما بين العذيب إلى حضر موت ، قال الزبير : وهذا أشبه ، وحضر موت آخر اليمن (٣). اه

قلت : ومن المعلوم أن جزيرة العرب هى المنطقة الممتدة من سواحل حضر موت فى الجنوب إلى أطراف العراق والشام فى الشمال ومن سواحل البحر الأحمر فى الغرب إلى سواحل الخليج العربى فى الشرق.

هذا هو المتعارف عليه وهو ما ذكره الأصمعى وأبو عبيد وغيرهما.

لكن هل يمنع اليهود والنصارى من سكناها جميعها أم أن فى المسألة تفصيلا؟.

يقول ابن القيم : قال مالك : أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجتمع دينان فى جزيرة العرب». ثم ذكر حديث عمر السابق الّذي رواه مسلم.

وقال الشافعى : يمنعون من الحجاز ، وهو مكة والمدينة ، واليمامة وقراها.

__________________

(١) هذا القول جعله ابن حجر من قول أبى عبيد. فتح البارى ٦ / ١٧١ ، وجعله ابن القيم من قول الأصمعى وأبى عبيد. أحكام أهل الذمة ١ / ١٧٧ ولعله مراد النووى. سيما أن ابن حجر وغيره أورد مثله عن الأصمعى فيكون هذا القول لهما.

(٢) مسلم بشرح النووى ١١ / ٩٣.

(٣) فتح البارى ٦ / ١٧١. وقال البخارى بعد ذكره لحديث ابن عباس السابق : وقال يعقوب بن محمد : سألت المغيرة بن عبد الرحمن عن جزيرة العرب فقال : مكة والمدينة واليمامة واليمن.

٣٣٣

وأما غير الحرم منه فيمنع الكتابى وغيره من الاستيطان والإقامة به وله الدخول بإذن الإمام لمصلحة كأداء رسالة أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون وإن دخل لتجارة ليس فيها كثير حاجة لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئا ولا يمكن من الإقامة أكثر من ثلاث. وقد أدخل بعض أصحاب الشافعى اليمن فى جزيرة العرب ، ومنعهم من الإقامة فيها ، وهذا وهم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث معاذا قبل موته إلى اليمن ، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا ، وأقرهم فيها وأقرهم أبو بكر بعده ، وأقرهم عمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم ، ولم يجلوهم من اليمن مع أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلم يعرف عن إمام أنه أجلاهم من اليمن. وإنما قال الشافعى وأحمد يخرجون من مكة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع ومخاليفها ولم يذكر اليمن ....

وأما الحرم فإن كان حرم مكة فإنهم يمنعون من دخوله بالكلية (١).

فلو قدم رسول لم يجز أن يأذن له الإمام فى دخوله ويخرج الوالى أو من يثق به إليه ، ولا يختص المنع بخطة مكة بل بالحرم كله ، وأما حرم المدينة فلا يمنع من دخوله لرسالة أو تجارة أو حمل متاع ، فهذا تفصيل مذهب الشافعى.

وأما مذهب أحمد فعنده : يجوز لهم دخول الحجاز للتجارة ، لأن النصارى كانوا يتجرون إلى المدينة فى زمن عمر ، وحكى أبو عبد الله بن حمدان عنه رواية : أن حرم المدينة كحرم مكة فى امتناع دخوله ، والظاهر أنها غلط على أحمد (٢) ، فإنه لم يخف عليه دخولهم بالتجارة فى زمن عمر وبعده وتمكينهم من ذلك ولا يأذن لهم بالإقامة أكثر من ثلاثة أيام وقال القاضى : أربعة ... قال أصحاب الإمام أحمد : فإن دخلوا غير الحرم لم يجز إلا بإذن مسلم ، وأما الحرم فيمنعون دخوله بكل حال ولا يجوز للإمام أن يأذن فى دخوله فإن دخل أحدهم فمرض أو مات أخرج وإن دفن نبش. وهل يمنعون من حرم المدينة؟ حكى عن أحمد فيه روايتان كما تقدم.

__________________

(١) قال إسحاق الكوسج : قال أحمد : ليس لليهودى ولا النصرانى أن يدخلوا الحرم. مسائل الكوسج ٢ / ١٦٤ وأخرجه الخلال فى أحكام أهل الملل ص : ٢٤.

(٢) انظر الأحاديث فى حرمة المدينة النبوية فى البخارى ـ فتح البارى ٤ / ٨١ ومسلم ٣ / ٩٩١.

٣٣٤

وأما تفصيل مذهب مالك : فإنهم يقرون عنده فى جميع البلاد إلا جزيرة العرب وهى مكة والمدينة وما والاها وروى عيسى بن دينار دخول اليمن فيها ....

وأما أبو حنيفة فعنده : لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها ، ولكن لا يستوطنون به ، وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم ، وكأن أبا حنيفة رحمه‌الله قاس دخولهم مكة على دخولهم مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصح هذا القياس فإن لحرم مكة أحكاما يخالف بها المدينة (١) ، على أنها ليست عنده حرما ... (٢).

__________________

(١) انظر الأحاديث فى حرمة المدينة النبوية فى البخارى فتح البارى ٤ / ٨١ ومسلم ٣ / ٩٩١.

(٢) أحكام أهل الذمة ١ / ١٨٤ ـ ١٨٨ وراجع : الروايتين والوجهين ٢ / ٣٨٦ والأحكام السلطانية ص : ١٨٧ ـ ١٩٧ لأبى يعلى بن الفراء ، والأحكام السلطانية للماوردى ص : ١٦٧ ـ ١٦٨ والمغنى لابن قدامة ٨ / ٥٢٩ ـ ٥٣٢ ومسلم بشرح النووى ١١ / ٩٤ وفتح البارى ٦ / ١٧١ ، ٢٧١ ـ ٢٧٢.

٣٣٥

قول الإمام أحمد فى أعياد الكفار وخروج المسلمين فيها

قال أبو بكر الخلال

٨٧٨ ـ أخبرنى عمر بن صالح قال : قال أبو عبد الله فى معنى الحديث : لا يخرجون ـ يعنى أهل الذمة ـ إلى باعوث قال أبو عبد الله : الباعوث يخرجون كما تخرج فى الفطر والأضحى.

٨٧٩ ـ أخبرنا الحسن بن عبد الوهاب قال : حدثنا إبراهيم بن هانئ أن أبا عبد الله قال : ولا يتركوا أن يجتمعوا فى كل أحد ولا يظهروا لهم خمرا ولا ناقوسا.

٨٨٠ ـ أخبرنى إبراهيم بن رحمون (١) قال : حدثنا نصر بن عبد الملك (٢) قال : حدثنا يعقوب بن بختان أن أبا عبد الله قال : ولا يتركوا يجتمعون فى كل أحد ولا يظهروا لهم خمرا ولا ناقوسا فى كل مدينة بناها المسلمون. قيل له : يضربون الخيام فى الطريق يوم الأحد؟ قال : لا إلا أن يكون مدينة صولحوا عليها فلهم ما صولحوا عليه.

٨٨١ ـ أخبرنى محمد بن على قال : حدثنا مهنا قال : سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التى تكون عندنا بالشام يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه البقر والغنم وغير ذلك إلا أنه إنما يكون فى الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال : إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس (٣).

__________________

(١) لم أجد لهما ترجمة فيها نظرته من المصادر.

(٢) لم أجد لهما ترجمة فيها نظرته من المصادر.

(٣) أحكام أهل الملل للخلال ص : ١٥٤ ـ ١٥٥.

٣٣٦

التعليق :

نقل ابن القيم قول أحمد هذا فى تفسير الباعوث ، ونقل رواية الأثرم وقال : فإن اجتماعهم المذكور هو غاية الباعوث ونهايته فإنهم ينبعثون إليه من كل ناحية ، وليس مراد أبى عبد الله منع اجتماعهم فى الكنيسة إذا تسللوا إليها لواذا وإنما مراده إظهار اجتماعهم كما يظهر المسلمون ذلك يوم عيدهم ، ولهذا قال فى رواية يعقوب ابن بختان : وقد سئل هل يضربون الخيام ـ ذكر الرواية كما هنا ـ ثم قال : فإن ضرب الخيام على الطريق يوم عيدهم هو من إخراج الباعوث وإظهار شعائر الكفر ، فإذا اختفوا فى كنائسهم باجتماعهم لم يعرض لهم فيها ما لم يرفعوا أصواتهم بقراءتهم وصلاتهم.

وأما الشعانين فهى أعياد لهم أيضا ، والفرق بينها وبين الباعوث أنه اليوم والوقت الّذي ينبعثون فيه على الاجتماع والاحتشاد ....

قال أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن منصور الطبرى : ولا يجوز للمسلمين أن يحضروا أعيادهم لأنهم على منكر وزور وإذا خالط أهل المعروف أهل المنكر بغير الإنكار عليهم كانوا كالراضين به المؤثرين له ....

وقال أبو الحسن الآمدي : لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود نص عليه أحمد فى رواية مهنا ، واحتج بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (١) قال : الشعانين وأعيادهم (٢).

يقول ابن تيمية بعد ذكره لهذه الرواية : وإنما رخص أحمد رحمه‌الله فى شهود السوق بشرط أن لا يدخلوا معهم بيعهم فعلم منعه من دخول بيعهم. وكذلك أخذ الخلال من ذلك : المنع من خروج المسلمين فى أعيادهم ، فقد نص أحمد على مثل ما جاء عن عمر رضى الله عنه من المنع من دخول كنائسهم فى أعيادهم (٣). اه

__________________

(١) سورة الفرقان / ٧٢.

(٢) أحكام أهل الذمة ٢ / ٧٢١ ـ ٧٢٤.

(٣) اقتضاء الصراط المستقيم ص ٢٠١ ـ ٢٠٢.

٣٣٧

قلت : ونشاهد اليوم بعض السفهاء فى كثير من البلدان الإسلامية ـ عربية وغير عربية ـ قد اشتد ولعهم بحضور أعياد النصارى كالعيد الّذي يسميه النصارى عيد الميلاد وعيد رأس السنة بل إنهم يقيمونها بأنفسهم.

وهذه المسألة ـ أعنى مسألة أعياد الكفار ومتعلقاتها ـ بحثها شيخ الإسلام ابن تيمية بحثا مستفيضا فراجعه فى اقتضاء الصراط المستقيم ص ١٨٠ ـ ٢٢٠ وراجع ما بعده أيضا.

٣٣٨

قول الإمام أحمد فى : إظهار أهل الذمة للصليب وإقامة

الكنائس والبيع والضرب بالناقوس فى مدائن المسلمين

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٨٨٢ ـ سمعت أبى يقول : ليس لليهود ولا للنصارى أن يحدثوا فى مصر مصره المسلمون بيعة ولا كنيسة ولا يضربوا فيه بناقوس إلا ما كان لهم صلح وليس لهم أن يظهروا الخمر فى أمصار المسلمين على حديث ابن عباس : أيما مصر مصره المسلمون (١).

٨٨٣ ـ سألت أبى : ألأهل الذمة أن يحدثوا الكنائس فى أرض العرب وهل ترى لهم أن يزيدوا فى كنائسهم التى صالحوا عليها؟

فقال : لا يحدثوا فى مصر مصرته العرب كنيسة ولا بيعة ولهم ما صالحوا عليه فإن كان فى عهدهم أنهم يزيدون فى الكنائس فلهم وإلا فلا وما انهدم فلهم أن يبنوها (٢).

٨٨٤ ـ وهذه الرواية أخرجها الخلال عن عبد الله بن أحمد وعنده : وما انهدم فليس لهم أن يبنوها.

٨٨٥ ـ وفى رواية أخرى عنده : لا يقر لهم أن يحدثوا إلا ما صولحوا

__________________

(١) أورده بنصه ابن القيم فى أحكام أهل الملل ٢ / ٦٧٤ إذ يقول : قال الإمام أحمد : حدثنا معتمر بن سليمان التيمى ، عن أبيه ، عن حنش عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن أمصار العرب أو دار العرب هل للعجم أن يحدثوا فيها شيئا؟ فقال : أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن بينوا فيه ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا. وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله عزوجل على العرب فنزلوا فيه فإن للعجم ما فى عهدهم وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم ولا يكلفوهم فوق طاقتهم اه. والأثر رواه أبو عبيد فى الأموال ص ٩٨ والبيهقى فى السنن الكبرى ٩ / ٢٠١ وأورده ابن قدامة فى المغنى ٨ / ٥٣٦ وقال : رواه أحمد واحتج به.

(٢) مسائل عبد الله ص : ٢٦٠.

٣٣٩

عليه إلا أن بينوا ما انهدم مما كان لهم قديما (١) (٢).

وقال إسحاق الكوسج :

٨٨٦ ـ قلت للنصارى أن يظهروا الصليب ويضربوا بالناقوس؟ قال : ليس لهم أن يظهروا شيئا لم يكن فى صلحهم.

قال إسحاق (٣) : ليس لهم أن يظهروا الصليب أصلا لما نهى عمر بن الخطاب عن ذلك.

٨٨٧ ـ قلت : سئل عن قتل الخنازير وإفساد الخمر وكسر الصليب. قال : أكره قتل البهائم فأما الخمر والصليب فأفسد إن شئت (٤).

قال أبو بكر الخلال :

٨٨٨ ـ أخبرنى محمد بن أبى هارون ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا أبو الحارث قال : سئل أبو عبد الله عن البيع والكنائس التى بناها أهل الذمة وما أحدثوا فيها ما لم يكن ، قال : يهدم وليس لهم أن يحدثوا شيئا من ذلك فيما مصره المسلمون يمنعون من ذلك إلا ما صولحوا عليه.

قيل لأبى عبد الله : أيش الحجة فى أن يمنع أهل الذمة أن يبنوا بيعة أو كنيسة إذا كانت الأرض ملكهم وهم يؤدون الجزية ، وقد منعنا من ظلمهم وأذاهم؟

__________________

(١) أحكام أهل الملل ص ١٥٣.

(٢) قال الخلال : يعنى يرمون. أما إن انهدمت كلها بأسرها فعنده أنه لا يجوز إعادتها ونقل هذا رواية عن حنبل. المصدر السابق.

قال أبو يعلى بن الفراء : واختلفت الرواية عن أحمد فى بناء ما استهدم من بيعهم وكنائسهم القديمة فروى عنه : أنه ليس لهم ذلك نقلها عبد الله والثانية : لهم ذلك. والثالثة : إن خرب جميعها لم يكن لهم ذلك وإن استهدم بعضها جاز.

الأحكام السلطانية ص ١٦١.

(٣) ابن راهويه.

(٤) مسائل الكوسج ٢ / ١٧١ وأخرجه الخلال فى أحكام أهل الملل ص : ١٥٤.

٣٤٠