المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

ما أثر عن الإمام أحمد من وجوب الإيمان بالحوض

فى رسالته لمسدد بن مسرهد قال :

٦٨٥ ـ والإيمان بالحوض (١).

وفى رسالة عبدوس بن مالك قال :

٦٨٦ ـ والإيمان بالحوض وأن لرسول الله حوضا يوم القيامة ترد عليه أمته عرضه مثل طوله مسيرة شهر آنيته كعدد نجوم السماء على ما صحت به الأخبار من غير وجه (٢).

وفى رسالة محمد بن عوف الطائى قال :

٦٨٧ ـ وإن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حوضا آنيته أكثر من عدد نجوم السماء (٣).

وفى رسالة محمد بن حبيب الأندرانى :

٦٨٨ ـ صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة ... والإيمان بالحوض (٤).

وفى كتاب السنة له ورسالة الإصطخرى عنه قال :

٦٨٩ ـ وحوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ترده أمته وله آنية يشربون بها منه (٥).

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٣٤٤.

(٢) رسالة عبدوس (ق : ٢ / ب) ومناقب أحمد لابن الجوزى ص : ٤ ، وطبقات الحنابلة ١ / ٢٤٢.

(٣) طبقات الحنابلة ١ / ٣١٢.

(٤) المصدر السابق ١ / ٢٩٥.

(٥) انظر : السنة ضمن شذرات البلاتين ١ / ٢٧ ، والإصطخرى فى طبقات الحنابلة ١ / ٢٧.

٢٠١

التعليق :

الأحاديث التى وردت فى ذكر الحوض كثيرة بلغت حد التواتر كما بينه العلماء ، فقد رواها أكثر من ثلاثين صحابيا (١). وذكر شارح الطحاوية أن الحافظ ابن كثير قد استقصى طرقها فى آخر كتابه البداية والنهاية.

ومن تلك الأحاديث : ما رواه البخارى (٢) ومسلم (٣) عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوضى مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منه فلا يظمأ أبدا».

قال شارح الطحاوية : والّذي يتلخص من الأحاديث الواردة فى صفة الحوض : أنه حوض عظيم ومورد كريم يمد من شراب الجنة ، من نهر الكوثر الّذي هو أشد بياضا من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل وأطيب ريحا من المسك ، وهو فى غاية الاتساع عرضه وطوله سواء كل زاوية من زواياه مسيرة شهر (٤).

قال ابن حجر : قال القرطبى فى المفهم تبعا للقاضى عياض فى غالبه : «مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه فى الأحاديث الصحيحة الشهيرة ... وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة ...».

قلت : أنكره الخوارج وبعض المعتزلة (٥). اه

__________________

(١) انظر : فتح البارى ١١ / ٤٦٧ وفيه : «منهم فى الصحيحين ما ينيف على العشرين».

(٢) فى الصحيح ١١ / ٤٦٣.

(٣) فى الصحيح ٤ / ١٧٩٣ ـ ١٧٩٤.

(٤) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٢٥١ ، وانظر أحاديث الحوض التى جاءت فى الصحيحين فى فتح البارى ١١ / ٤٦٣ ـ ٤٦٦ ، ومسلم ٤ / ١٩٧٢ ـ ١٨٠٣.

(٥) فتح البارى ١١ / ٤٦٧ ، وانظر : مسلم بشرح النووى ١٥ / ٥٣.

٢٠٢

ما أثر عن الإمام أحمد من وجوب الإيمان بالميزان

وفى رسالته لمسدد بن مسرهد قال.

٦٩٠ ـ والميزان حق (١).

وفى رسالة عبدوس بن مالك قال :

٦٩١ ـ والإيمان بالميزان يوم القيامة كما جاء : يوزن العبد يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة ، وتوزن أعمال العباد كما جاء فى الأثر ، والتصديق به والإعراض عمن رد ذلك وترك مجادلته (٢).

وفى رسالة محمد بن عوف الطائى قال :

٦٩٢ ـ وأن العباد يوزنون بأعمالهم فمنهم من لا يزن جناح بعوضة (٣) :

وفى كتاب السنة له ورسالة الإصطخرى عنه قال :

٦٩٣ ـ والميزان حق توزن به الحسنات والسيئات كما شاء أن توزن (٤).

قال ابن حجر : وحكى حنبل بن إسحاق فى كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال ردا على من أنكر الميزان ما معناه : قال الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، وذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الميزان يوم القيامة فمن رد على النبي فقد رد على الله عزوجل(٥).

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٣٤٤.

(٢) رسالة عبدوس بن مالك (ق : ٢).

(٣) طبقات الحنابلة ١ / ٣١٢.

(٤) انظر : السنة ضمن شذرات البلاتين ص : ٤٧ والإصطخرى فى طبقات الحنابلة ١ / ٢٧.

(٥) فتح البارى ١٣ / ٥٣٨.

٢٠٣

التعليق :

وضع الموازين يوم القيامة لوزن أعمال العباد دل عليه الكتاب والسنة يقول الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (١) ويقول جل علا : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) (٢) ، ويقول جل ذكره (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٣).

وروى البخارى (٤) ومسلم (٥) عن أبى هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم». وإلى هذا وغيره من الأدلة ذهب أهل السنة فأثبتوا الميزان ، وهو من جملة عقائدهم وأنكره المبتدعة من المعتزلة وغيرهم معللين هذا الإنكار بأن الله عزوجل لا يحتاج إلى الميزان.

قلت : ومن قال إن الله عزوجل محتاج إليه فأهل السنة لم يثبتوا الميزان على هذا الأساس ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ بل هو عزوجل أعلم بعباده وما عملوا من خير أو شر لكن ـ وكما قال شارح الطحاوية ـ : «لو لم يكن من الحكمة فى وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه» (٦). اه

ويقول أيضا : والّذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان (٧).

__________________

(١) سورة الأنبياء / ٤٧.

(٢) سورة المؤمنون / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٣) سورة القارعة / ٦ ـ ٨.

(٤) فى الصحيح ١٣ / ٥٣٧.

(٥) فى الصحيح ٤ / ٢٠٧٢.

(٦) شرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٣ ، وانظر : الفصل فى الملل لابن حزم ٤ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٧) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٧٢.

٢٠٤

قلت : أما الموزون فقيل صحائف الأعمال. فقد روى الترمذي (١) والحاكم (٢) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سيخلص رجلا من أمتى على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتى الحافظون؟ فيقول : لا يا رب. فيقول : أفلك عذر؟ فيقول : لا يا رب. فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة ، فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول : أحضر وزنك ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء». قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم. اه

وأخرجه أحمد (٣) أيضا بلفظ مقارب.

وقيل : يوزن العامل مع عمله ، فقد روى البخارى (٤) عن أبى هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه ليأتى الرجل السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة. وقال : اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٥).

وروى أحمد (٦) عن ابن مسعود أنه كان يجتنى سواكا ... فضحك الصحابة من دقة ساقيه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... «والّذي نفسى بيده لهما فى الميزان أثقل من أحد».

وقيل : إن العمل نفسه يوزن بحيث تحال من أعراض إلى أجسام. فقد روى

__________________

(١) فى السنن ٥ / ٢٤.

(٢) فى المستدرك ١ / ٦.

(٣) فى المسند ٢ / ٢١٣.

(٤) فى الصحيح ٨ / ٤٢٦.

(٥) سورة الكهف / ١٠٥.

(٦) فى المسند ١ / ٤٢٠.

٢٠٥

مسلم (١) عن أبى مالك الأشعرى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان» اه. وقال عليه الصلاة والسلام : «ما من شيء أثقل فى الميزان من حسن الخلق» (٢) وليس فى قلب العرض إلى جسم إحالة عقلية ، فقدرة الله عزوجل أعظم من كل شيء والسنن الكونية المشاهدة فى الحياة الدنيا لا يصح أن نجعلها مقياسا فى كل شيء وقد ورد فى عدة أحاديث ما يدل على قلب الأعراض إلى أجسام منها : ما تقدم : أن القرآن يأتى يوم القيامة فى صورة شاب شاحب اللون (٣).

والحديث الآخر : تأتى البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان (٤).

والمراد : الثواب ، كما سبق بيانه.

قال شارح الطحاوية بعد ذكره لهذه الأقوال الثلاثة : «فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال وثبت أن الميزان له كفتان. والله أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات» (٥).

ويقول ابن كثير : وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا ـ يقصد الأقوال الثلاثة المتقدمة ـ فتارة توزن الأعمال ، وتارة توزن محالها ، وتارة يوزن فاعلها ، والله أعلم (٦). اه

واختلف هل توزن أعمال الكفار أم لا. وهذا الخلاف مبنى على ما قيل فى مخاطبة الكفار بفروع الشريعة.

والراجح : أن حسنات الكفار إن وزنت فإنما توزن قطعا للحجة فالكافر

__________________

(١) فى الصحيح ١ / ٢٠٣.

(٢) رواه الترمذي ٤ / ٣٦٢ وأبو داود ٥ / ١٥٠ من حديث أبى الدرداء قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) انظر : الحديث وتخرجه ج : ١ / ٢٢٠.

(٤) انظر : الحديث وتخريجه ج : ١ / ٢٢١.

(٥) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٧٥ ، وانظر : فتح البارى ١٣ / ٥٣٩.

(٦) تفسير ابن كثير ٢ / ٢١٨.

٢٠٦

لا تنفعه حسناته.

قال جلا وعلا : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١) (٢). اه

قال القرطبى : واختلف فى الميزان والحوض أيهما قبل الآخر فقيل : الميزان قبل وقيل : الحوض ، قال أبو الحسن القابسى : والصحيح أن الحوض قبل.

قلت : والمعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم فيقدم قبل الصراط والميزان. والله أعلم (٣). اه

__________________

(١) سورة الفرقان / ٢٣.

(٢) راجع لهذه المسألة شعب الإيمان للبيهقى (ق : ٣٦ / ب ـ ٣٧ / ب) ، وفتح البارى ١٣ / ٥٣٨.

(٣) التذكرة فى أحوال الموتى وأمور الآخرة ص : ٣٦٢.

٢٠٧

ما أثر عن الإمام أحمد من وجوب الإيمان بالصراط

فى رسالته لمسدد بن مسرهد قال :

٦٩٤ ـ الصراط حق (١).

وفى كتاب السنة له ورسالة الإصطخرى عنه قال :

٦٩٥ ـ والصراط حق يوضع على شفير جهنم ويمر الناس عليه والجنة من وراء ذلك نسأل الله عزوجل السلامة فى الجواز (٢).

التعليق :

الصراط ورد ذكره صريحا فى السنة وذكر العلماء أن فى قول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٣) إشارة إليه.

قال شارح الطحاوية : اختلف المفسرون فى المراد بالورود المذكور فى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ما هو؟ والأظهر الأقوى أنه المرور على الصراط ، قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

وفى الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والّذي نفسى بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة». قالت حفصة : فقلت يا رسول الله أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) فقال : «ألم تسمعيه قال : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)» (٤).

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٣٤٤.

(٢) انظر : السنة ضمن شذرات البلاتين ص ٤٧ والإصطخرى فى طبقات الحنابلة ١ / ٢٧.

(٣) سورة مريم / ١٧.

(٤) رواه مسلم ٤ / ١٩٤٢ عن جابر بن عبد الله قال : أخبرتنى أم مبشر أنها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند حفصة ... باختلاف يسير ، ورواه أحمد ٦ / ٣٦٢ ، ٤٢٠.

٢٠٨

قلت : وهذا الّذي ذكره شارح الطحاوية هو الراجح ـ والله أعلم ـ خلافا لمن قال : إن المراد بالورود الدخول الحقيقى لجهنم وإن أذاها وحرها يصرف عن المؤمنين.

قال شارح الطحاوية ـ بعد ذكره للحديث السابق ـ أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها ، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله بل تستلزم انعقاد سببه ، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال : نجاه الله منهم ، ولهذا قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً) (١) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً) (٢) (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً) (٣) ولم يكن العذاب أصابهم ولكن أصاب غيرهم ، ولو لا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك وكذلك حال الوارد فى النار. يمرون فوقها على الصراط ... فقد بين صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث جابر المذكور : أن الورود هو الورود على الصراط (٤). اه

قلت : وقيل : إن المراد بالورود : حضورها والقرب منها (٥).

قال الشوكانى : وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود وحمله على ظاهره لقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٦) ... ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط ... فيه جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة فينبغى حمل الآية على ذلك (٧) ... هذا ما قيل حول الصراط فى القرآن الكريم ، أما السنة فقد ذكر فيها الصراط موصوفا بصفات عديدة من ذلك :

__________________

(١) سورة هود / ٥٨.

(٢) سورة هود / ٦٦.

(٣) سورة هود / ٩٥.

(٤) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٧١.

(٥) انظر : أقوال أخرى فى التذكرة للقرطبى ص : ٤٠١.

(٦) سورة الأنبياء / ١٠١.

(٧) فتح القدير ٣ / ٣٤٤ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٣ / ١٤٠ ـ ١٤٢ ، ومسلم بشرح النووى ١٦ / ٥٨.

٢٠٩

ما رواه البخارى (١) فى الحديث الطويل عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه : «... ويضرب جسر جهنم فأكون أول من يجيز ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم ، وبه كلاليب مثل شوك السعدان ... فتخطف الناس بأعمالهم منهم الموبق بعمله ...»

وفى رواية مسلم (٢) : «ويضرب الصراط بين ظهرى جهنم».

وفى الحديث الطويل الّذي رواه البخارى (٣) ومسلم (٤) عن أبى سعيد الخدرى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والّذي فيه : «... ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ، ويقولون : اللهم سلم سلم» قيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال : «دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك ... فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس فى نار جهنم ...».

وفى حديث عبد الله بن مسعود المرفوع : «فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الّذي نوره على قدر إبهام قدمه يجر يدا وتعلق يد ويجر رجلا وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار فيخلصون فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الّذي نجانا منك بعد الّذي أراناك».

رواه الحاكم (٥) وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وأقره الذهبى.

__________________

(١) فى الصحيح ١١ / ٤٤٥.

(٢) فى الصحيح ١ / ١٦٤.

(٣) فى الصحيح ١٣ / ٤٢١.

(٤) فى الصحيح ١ / ١٦٧ ـ ١٧٠.

(٥) فى المستدرك ٢ / ٣٧٦ و ٤ / ٥٨٩ ـ ٥٩٢.

٢١٠

ما أثر عن الإمام أحمد فى الشفاعة

فى رسالته لمسدد بن مسرهد قال :

٦٩٦ ـ والإيمان بالشفاعة (١).

ومثل هذا نقل عنه : عبدوس بن مالك (٢) ومحمد بن حبيب الأندرانى (٣).

وفى موضع آخر قال :

٦٩٧ ـ وأن الله يخرج أقواما من النار بشفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

ومثل هذا نقل عنه : محمد بن عوف الطائى (٥).

التعليق :

قال أبو السعادات : قد تكرر ذكر الشفاعة فى الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة ، وهى السؤال فى التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم. يقال شفع يشفع فهو شافع وشفيع ، والمشفع الّذي يقبل الشفاعة ، والمشفع الّذي تقبل شفاعته (٦) اه

والشفاعة ثابتة بنص الكتاب والسنة.

وهى على قسمين : مثبتة : ولها شرطان : إذن الله عزوجل للشافع أن يشفع ورضاه تعالى وتقدس عن المشفوع له ، قال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٣٤٤.

(٢) رسالة عبدوس (ق ٢ / ب).

(٣) طبقات الحنابلة ١ / ٢٩٥.

(٤) نفس المصدر ١ / ٣٤٤.

(٥) نفس المصدر ١ / ٣١٢.

(٦) النهاية ٢ / ٤٨٥.

٢١١

السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (١) وقال جل وعلا (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٢).

وهذا القسم يندرج تحته شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة وكذا شفاعة المؤمنين لبعضهم.

وشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنواع فمنها :

الشفاعة الكبرى العظمى فى أهل الموقف التى يتأخر عنها أولو العزم من الرسل. قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٣).

قال العلماء : المقام المحمود هى شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة للناس فى الموقف ، ليريحهم الله مما هم فيه من شدة.

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة فى ذكر هذه الشفاعة العظمى من ذلك :

ما رواه البخارى (٤) ومسلم (٥) عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا قال : فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الخلق ... اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا .. فيأتون عيسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأتونى فأقول : أنا لها ...» الحديث. انظر أحاديث الشفاعة فى كتب الحديث والعقائد.

ومنها : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الجنة أن يدخلوها :

روى مسلم (٦) عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أول الناس

__________________

(١) سورة النجم / ٢٦.

(٢) سورة طه / ١٠٩.

(٣) سورة الإسراء / ٧٩.

(٤) فى الصحيح ١٣ / ٤٧٢.

(٥) فى الصحيح ١ / ١٨٠.

(٦) فى الصحيح ١ / ١٨٨.

٢١٢

يشفع فى الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا».

ومنها : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض العصاة من أمته قد استوجبوا النار أن لا يدخلوها.

ومنها : شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم.

أما شفاعة المؤمنين لبعضهم فقد دلت عليها عدة أحاديث.

هذه بعض أنواع الشفاعة المثبتة.

وأما الشفاعة المنفية الباطلة فهى التى تطلب من غير الله عزوجل أو بغير إذنه أو لأهل الشرك ، قال تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١) وقال تبارك وتعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٢) وقد أنكر الخوارج والمعتزلة شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الكبائر بناء على أصلهم الفاسد فى تخليد أهل الكبائر من أهل التوحيد فى النار ، وحصروا معنى الشفاعة فى زيادة الأجر والثواب لمن أطاع الله عزوجل ، واحتجوا بما تقدم من الآيات ونحوها النافية للشفاعة ، وهذه الآيات ـ كما ذكر أهل العلم ـ فى حق الكافرين دون المؤمنين بدليل قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٣). وبقوله عزوجل (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٤) (٥).

__________________

(١) سورة غافر / ١٨.

(٢) سورة المدثر / ٤٨.

(٣) سورة سبأ / ٢٣.

(٤) سورة الأنبياء / ٢٨.

(٥) راجع لما تقدم : شرح العقيدة الطحاوية ص : ٢٥٢ ـ ٢٦٥ ، وتفسير القرطبى ١ / ٣٥٨ ، وتيسير العزيز الحميد ص : ٢٧٣ ـ ٢٩٩.

٢١٣

ما أثر عن الإمام أحمد من وجوب الإيمان

بخروج الموحدين من النار

فى رسالة محمد بن حبيب الأندرانى قال :

٦٩٨ ـ والإيمان بأن الموحدين يخرجون من النار بعد ما امتحشوا كما جاءت الأحاديث فى هذه الأشياء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

٦٩٩ ـ ومثله فى رسالة عبدوس وزاد : فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة (٢).

٧٠٠ ـ وفى كتاب السنة له ورسالة الإصطخرى عنه قال :

ويخرج قوم من النار برحمة الله عزوجل بعد ما لبثوا فيها ما شاء الله عزوجل وقوم يخلدون فيها أبدا ، وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله عزوجل (٣) (٤).

التعليق :

تعرضت عند الكلام عن الفاسق الملى لهذه المسألة (٥). وقد أجمعت الأمة ـ للأحاديث الصحيحة الصريحة (٦) ـ أن من أدخل النار من أهل التوحيد بسبب ذنوبه لا بد له أن يخرج منها بفضل الله وكرمه. ولم يخالف فى هذا إلا الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم فقالوا : بتخليد أهل الكبائر فى النار إن لم يتوبوا وما طرحوه من شبه لا يمكن أن تقاوم النصوص الواضحة والله تعالى أعلم.

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٢٩٥ ومناقب أحمد لابن الجوزى ص : ٢١٦.

(٢) رسالة عبدوس (ق : ٢ / ب).

(٣) انظر : السنة ضمن شذرات البلاتين ص : ٤٧ والإصطخرى فى طبقات الحنابلة ١ / ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) وانظر ما ذكر من الروايات عن أحمد فى الفاسق الملى ج : ١ / ١٢٦.

(٥) انظر : ج : ١ / ١٢٩.

(٦) انظر : بعض هذه الأحاديث فى ج : ١ / ٩٧.

٢١٤

قول الإمام أحمد فى : رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٧٠١ ـ رأيت أبى رحمه‌الله يصحح الأحاديث التى تروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الرؤية ويذهب إليها ، وجمعها أبى رحمه‌الله فى كتاب وحدثنا بها (١) (٢).

قال أبو بكر الخلال :

٧٠٢ ـ حدثنا أبو بكر المروزي رحمه‌الله قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التى تردها الجهمية فى الصفات والرؤية وقصة العرش فصححها أبو عبد الله وقال : قد تلقتها العلماء بالقبول. نسلم الأخبار كما جاءت. قال : فقلت له : إن رجلا اعترض فى بعض هذه الأخبار كما جاءت فقال : يجفى وقال : ما اعتراضه فى هذا الموضع يسلم الأخبار كما جاءت (٣).

* النقول كثيرة عن الإمام أحمد فى إثبات رؤية الله عزوجل للمؤمنين يوم القيامة وممن نقل عنه :

٧٠٣ ـ ابن هانئ قال : قيل له : وإن الله عزوجل يرى فى الآخرة قال : نعم (٤).

٧٠٤ ـ عبدوس بن مالك قال : سمعت أحمد يقول : والإيمان بالرؤية يوم القيامة كما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحاديث الصحاح (٥).

٧٠٥ ـ مسدد بن مسرهد كتب له أحمد ... وإن أهل الجنة يرون ربهم

__________________

(١) فى «خ» وحدث بها.

(٢) السنة (ظ : ق ٢٢ / ب) وفى المطبوع ص ٤٤.

(٣) تقدم الكلام حول هذه الرواية عند قول الإمام أحمد فى الصفات ج : ١ / ٢٧٨.

(٤) مسائل ابن هانئ ٢ / ١٥٦.

(٥) رسالة عبدوس (ق ٢ / أ).

٢١٥

لا محالة (١). ومثله نقل محمد بن عوف الطائى (٢) ـ وعنده عيانا ـ ومحمد بن حبيب الأندرانى (٣) وأحمد بن جعفر الإصطخرى (٤).

٧٠٦ ـ حنبل بن إسحاق قال : قلت لأبى عبد الله فى الرؤية؟ قال : أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر وكل ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر (٥).

٧٠٧ ـ يوسف بن موسى : أن أبا عبد الله قيل له : أهل الجنة ينظرون إلى ربهم ويكلمونه ويكلمهم قال : نعم. ينظر إليهم وينظرون إليه ويكلمهم ويكلمونه كيف شاء (٦).

قال أبو داود السجستانى :

٧٠٨ ـ سمعت أحمد وذكر له عن رجل شيء فى الرؤية فغضب وقال : من قال إن الله لا يرى فهو كافر (٧).

ونقل نحو هذا :

٧٠٩ ـ أبو بكر المروزي قال : سمعت أحمد يقول : من زعم أن الله لا يرى فى الآخرة فهو كافر (٨).

٧١٠ ـ حنبل بن إسحاق قال : سمعت أبا عبد الله يقول : من زعم أن الله لا يرى فى الآخرة فقد كفر بالله وكذب بالقرآن ورد على الله أمره والله تعالى لا يرى فى الدنيا ويرى فى الآخرة (٩).

__________________

(١) طبقات الحنابلة ١ / ٣٤٤.

(٢) المصدر السابق ١ / ٣١٢.

(٣) نفس المصدر ١ / ٢٩٥.

(٤) نفس المصدر ١ / ٢٩.

(٥) شرح أصول السنة للالكائى ٣ / ٥٠٧.

(٦) اجتماع الجيوش الإسلامية ص ٨٣ نقلا من كتاب السنة للخلال.

(٧) مسائل أبى داود (ظ : ص : ٢٤٦ وفى المطبوع ص ٢٦٣).

(٨) طبقات الحنابلة ١ / ٥٩.

(٩) المصدر السابق ١ / ١٤٥.

٢١٦

٧١١ ـ ابن هانئ قال : سمعت أبا عبد الله يقول : من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمى والجهمى كافر (١).

٧١٢ ـ شاهين بن السميذع قال : سألت أبا عبد الله عمن يبطل الرؤية ويقول : إن الله تبارك وتعالى لا يرى فى القيامة؟ فقال : هذا من الجهمية من زعم أن الله لا يرى فى القيامة فقد أبطل حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

٧١٣ ـ الفضل بن زياد أنه : بلغه ـ أى أحمد ـ عن رجل أنه قال : إن الله لا يرى فى القيامة فقال : لعنه الله من كان من الناس أليس الله يقول (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٣).

__________________

(١) مسائل ابن هانئ ٢ / ١٥٢.

(٢) طبقات الحنابلة ١ / ١٣.

(٣) المصدر السابق ١ / ٢٥٣.

٢١٧

قال الإمام أحمد فى كتابه الرد على الجهمية

٧١٤ ـ ق ١٩ / ب باب بيان ما جحدت الجهمية من قول الله سبحانه (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١).

قال أحمد رحمه‌الله تعالى : فقلنا لهم : لم أنكرتم أن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم قالوا : لا ينبغى لأحد أن ينظر إلى الله لأن المنظور إليه (معلوم موصوف لا يرى إلا شيء يفعله) (٢).

فقلنا : أليس قال الله سبحانه وتعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قالوا معناها :إلى ربها ناظرة «ينتظرون» (٣) الثواب من ربها وإنما ينظرون إلى فعله وقدرته وتلوا آية من القرآن : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (٤) (فقالوا) (٥) : إنهم لم يروا ربهم ولكن معنى ذلك : ألم تر إلى فعل ربك.

فقلنا لهم : إن فعل الله لم يزل العباد يرونه وإنما قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فقالوا : إنما ينتظرون الثواب من ربهم (ق ٢٠ / أ).

فقلنا لهم : إنها مع ما تنتظر الثواب من ربها هى ترى ربها.

فقالوا : إن الله لا يرى فى الدنيا ولا فى الآخرة وتلوا آية من المتشابه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٦).

فقلنا : أخبرونا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «إنكم سترون

__________________

(١) سورة القيامة / ٢٣.

(٢) فى الأصل المخطوط : «معدود موصوف لا ترى الأشياء بفعله» ولعل ما أثبته أوفق وهو المثبت فى بعض النسخ المطبوعة وفى بعضها «محدود» بدل «معلوم» وفى بعضها «إنما نرى الأشياء بفعله».

(٣) فى نسخ أخرى : «تنظر».

(٤) سورة الفرقان / ٤٥.

(٥) ما بين القوسين ليس من الأصل وهو فى المطبوع ، ويقتضيه السياق.

(٦) سورة الأنعام / ١٠٣.

٢١٨

ربكم كما ترون القمر» (١) أليس النبي كان يعرف قول الله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) وقال: سترون ربكم وإنما قال لموسى : (لَنْ تَرانِي) ولم يقل لم أرى فأيما أولى أن يتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «سترون ربكم» أو قول الجهمى حين قال : لا ترون ربكم.

والأحاديث فى أيدى أهل العلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل الجنة يرون ربهم لا يختلف فيه أهل العلم وهو من حديث سفيان ، عن أبى إسحاق ، عن عامر بن سعد (٢) : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٣) قال : النظر إلى وجه الله تعالى (٤).

ومن حديث ثابت البنانى ، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى ، عن صهيب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إذا استقر أهل الجنة فى الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن الله قد وعدكم الزيادة قال : فيكشف الحجاب فيتجلى لهم ، وذكر الحديث (٥).

قال أحمد رضى الله عنه (ق ٢٠ / ب) وأنا أرجو أن يكون الجهمى

__________________

(١) سيأتى الحديث وتخريجه ج : ٢ / ٢٢٣.

(٢) عامر بن سعد البجلي ، الكوفى ، مقبول ، يرسل عن أبى بكر. تقريب ١ / ٣٨٧ ، وتهذيب ٥ / ٦٤.

(٣) سورة يونس / ٢٦.

(٤) رواه عبد الله بن أحمد فى السنة ص : ٦٠ وابن خزيمة فى التوحيد ص : ١٨٣ والآجرى فى الشريعة ص : ٢٥٧ ، وابن مندة فى الرد على الجهمية ص : ٩٥ وغيرهم : عن عامر بن سعد قال : قرأ أبو بكر رضى الله عنه : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : النظر إلى وجه الله عزوجل. ورواه عبد الله بن أحمد وابن خزيمة واللالكائى فى شرح أصول السنة ٣ / ٤٦١ وغيرهم موقوفا عليه. قال ابن كثير فى تفسيره ٢ / ٤٤٤ : وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبى بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبى ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدى ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف. ثم ذكر حديث صيهب. انظر بعض أقوال هؤلاء وغيرهم بأسانيدها فى السنة لعبد الله بن أحمد ص ٥٩ ، وشرح أصول أهل السنة للالكائى ٣ / ٤٥٤. وحديث صهيب سيأتى فى الصفحة التالية.

(٥) رواه أحمد ٤ / ٣٣٢ ، ٦ / ١٥ ، ومسلم ١ / ١٦٣ والترمذي ٤ / ٦٨٧ وابن ماجة ١ / ٦٧ وابن خزيمة فى التوحيد ص : ١١٨.

٢١٩

وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم ويحجبون عن الله يقول للكفار : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١) فإذا كان الكافر يحجب عن الله والمؤمن يحجب عن الله فما فضل المؤمن على الكافر فالحمد لله الّذي لم يجعلنا مثل جهم وشيعته وجعلنا ممن اتبع ولم يجعلنا ممن ابتدع والحمد لله وحده.

التعليق :

رؤية المؤمنين لله عزوجل يوم القيامة أمر أجمعت عليه الأمة للأدلة الصريحة الكثيرة من الكتاب والسنة ولم يخالف فى هذا إلا من عميت بصائرهم من الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم (٢) متمسكين بما يرون فيه إحالة للرؤية كقول الله عزوجل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ).

يقول ابن القيم : والاستدلال بهذا أعجب فإنها من أدلة النفاة وقد قرر شيخنا ـ يقصد ابن تيمية ـ وجه الاستدلال به أحسن تقرير وألطفه وقال لى : أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفى ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله ، فمنها هذه الآية وهى على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها فإن الله سبحانه وتعالى إنما ذكرها فى سياق التمدح ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال ولا يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم إلا إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفى السنة والنوم المتضمن كمال القيومية ... فقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يدل على غاية عظمته وأنه أكبر

__________________

(١) سورة المطففين / ١٥.

(٢) انظر : مقالات الإسلاميين ١ / ٢٣٨ والفصل فى الملل لابن حزم ٣ / ٢ وشرح العقيدة الطحاوية ص ٢٠٤ ، والمغنى لعبد الجبار ٤ / ٢٢٤.

٢٢٠