المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المسائل والرسائل المرويّة عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة - ج ٢

المؤلف:


المحقق: عبدالاله بن سلمان بن سالم الأحمدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

وإلى هذه الآيات والأحاديث ذهب «أهل السنة والجماعة» فأثبتوا عذاب القبر وأقروا به وهو من جملة عقيدتهم التى يدينون لله عزوجل بها ، وعندهم أن النعيم أو العذاب يقع على البدن والروح معا.

يقول شارح الطحاوية : وليس السؤال فى القبر للروح وحدها كما قال ابن حزم وغيره وأفسد منه قول من قال : إنه للبدن بلا روح والأحاديث الصحيحة ترد القولين. وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به (١). اه

والنعيم والعذاب حاصل سواء قبر الميت أو لم يقبر ، ولكن لما كان الغالب على الموتى أنهم يقبرون كان ألصق فى التسمية».

يقول شارح الطحاوية : «واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر أكلته السباع أو احترق حتى صار رمادا ونسف فى الهواء أو صلب أو غرق فى البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور» (٢).

وقد اختلف هل السؤال فى القبر خاص بمن يدعى الإيمان محقا كان أم مبطلا كالمنافق أم أنه يشمل الكافر.

والصواب ـ والله أعلم ـ أن السؤال يشمل الجميع ففى حديث أنس فى عذاب القبر ، قال عليه الصلاة والسلام : «وأما المنافق والكافر فيقال له : ما كنت تقول فى هذا الرجل» ...

وفى رواية له : «وأما الكافر أو المنافق» وفى رواية أبى داود من حديث أبى هريرة : «وإن الكافر إذا وضع» وفى رواية أحمد من حديث أبى سعيد : «وإن كان كافرا أو منافقا» وفى رواية عن أسماء : «فإن كان فاجرا أو كافرا» وفى رواية أخرى لها فى الصحيحين : «وأما المنافق أو المرتاب» ...

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٥١.

(٢) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٥١.

١٨١

يقول ابن حجر : فاختلفت هذه الروايات لفظا وهى مجتمعة على أن كلا من الكافر والمنافق يسأل ، ففيه تعقيب على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعى الإيمان إن محقا وإن مبطلا ومستندهم ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير (١) أحد كبار التابعين قال : «إنما يفتن رجلان مؤمن ومنافق وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه» وهذا موقوف. والأحاديث الناصة على أن الكافر يسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة فهى أولى بالقبول (٢). اه

قال ابن حجر : ومال ابن عبد البر إلى الأول ـ أى الرأى القائل أن الكافر لا يسأل ـ وقال : الآثار تدل على أن الفتنة لمن كان منسوبا إلى أهل القبلة وأما الكافر والجاحد فلا يسأل عن دينه.

قال ابن حجر : وتعقبه ابن القيم فى كتاب الروح ... (٣).

قلت : وقد أجلى ابن القيم المسألة وبين ـ بالأدلة الكثيرة ـ أن الكافر يسأل فراجع المصدر المذكور (٤). اه واختلف فى مسألة أخرى وهى : هل السؤال فى القبر خاص بهذه الأمة أم أنه وقع على الأمم قبلها على ثلاثة أقوال : أحدها التوقف (٥).

أما تسمية الملكين بمنكر ونكير فقد ورد فى حديث أبى هريرة مرفوعا والّذي رواه الترمذي (٦) وقال : حسن غريب وابن أبى عاصم (٧)

__________________

(١) هكذا فى الفتح والّذي فى المصنف لعبد الرزاق ٣ / ٥٩ : عن ابن جريح قال : قال عبد الله بن عمر فذكره. ثم ذكر بعده أثرا عن عبيد بن عمير فى موضوع آخر ولعله هو الّذي سبب الخطأ فى النقل. والله أعلم.

(٢) فتح البارى ٣ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٣) فتح البارى ٣ / ٢٣٩.

(٤) ص : ١١٦.

(٥) انظر : الروح لابن القيم ص : ١١٩ وشرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٥٣ وفتح البارى ٣ / ٢٤٠.

(٦) فى السنن ٣ / ٣٧٤.

(٧) فى السنة ٢ / ٤٠٢.

١٨٢

والآجرى (١).

قال الألبانى : جيد رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. وفى ابن إسحاق وهو العامرى كلام لا يضر (٢). اه

وبعد أن بينت موقف أهل السنة من هذه المسألة العظيمة ـ عذاب القبر ونعيمه ـ يجدر التنبيه إلى أن هنالك من عميت بصيرته فجحده أو أثبته إثباتا يوافق هواه (٣) أما الأحاديث المتواترة الصحيحة فلم يلتفتوا إليها وكثير منهم نظر إلى المسألة من زاوية عقلية صرفة مع أن العقل لا يحيل ذلك مطلقا فقدرة الله تبارك وتعالى عظيمة وهى فوق كل شيء ولم يرد فى الشريعة أمر تحيله العقول وقد يرد فيها ما تحار فيه العقول ، وفى هذا دافع على زيادة الإيمان والتسليم لله جل وعلا والمعرفة بعظيم قدرته وسلطانه.

فعذاب القبر ونعيمه بعد هذه النصوص لا ينكره إلا ضال مضل كما قال الإمام أحمد رحمه‌الله.

__________________

(١) فى الشريعة ص : ٣٦٥.

(٢) سلسلة الأحاديث الصحيحة ٣ / ٣٨٠.

(٣) انظر الروح ص : ٨٠ ـ ٨١ ، وفتح البارى ٣ / ٢٣٣.

١٨٣

قول الإمام أحمد فى زيارة القبور

فى مسائل أبى داود :

٦٧٦ ـ أخبرنا أبو بكر قال : حدثنا أبو داود قال : سألت أحمد عن زيارة النساء القبر؟ قال : لا ، قلت : الرجال أيسر؟ قال : نعم ثم ذكر حديث ابن عباس رحمهما‌الله : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوارات القبور (١) (٢).

وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ :

٦٧٧ ـ قلت : ما تقول فى زيارة القبور؟ قال : لا بأس بها. سئل عن النساء أيخرجن إلى المقابر؟ قال : لا تخرج المرأة إلى المقابر ولا إلى غيرها (٣).

٦٧٨ ـ قال أبو يعلى بن الفراء : ونقل محمد بن الحسن بن هارون وقد سئل عن المرأة تزور القبر؟ قال : أرجو أن لا يكون به بأس. واحتج بحديث عائشة (٤).

التعليق :

زيارة الرجال للقبور على الوجه المشروع من الأمور المشروعة لما يحصل من الاتعاظ للزائر والدعاء للميت فقد روى مسلم (٥) عن بريدة بن الحصيب

__________________

(١) رواه أحمد ١ / ٢٢٩ ، ورواه أيضا من حديث أبى هريرة ٢ / ٣٣٧ ومن حديث حسان بن ثابت ١ / ٤٤٢. ورواه عنهم غيره أيضا.

وفى بعض روايات الحديث : «لعن الله». انظر : السنن الكبرى للبيهقى ٤ / ٧٨.

(٢) مسائل أبى داود ص : ١٥٨.

(٣) مسائل ابن هانئ : ١ / ١٩٢.

(٤) الروايتان والوجهان ١ / ٢١٢ وحديث عائشة فيه : أنها زارت قبر أخيها وسيأتى.

(٥) فى الصحيح ٢ / ٦٧٢.

١٨٤

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».

وفى رواية لأحمد (١) زاد : «فإن فى زيارتها عظة وعبرة» وفى أخرى (٢) «ولا تقولوا هجرا» وهذه الزيادات عند غيره أيضا.

قال ابن الأثير : «الهجر : الفحش. يقال أهجر فى منطقه يهجر إهجارا إذا أفحش وكذلك إذا أكثر الكلام فيما لا ينبغى» (٣).

قلت : ومن هنا يتضح لنا بطلان ما يفعله بعض الجهلة من الصياح ورفع الأصوات عند المقابر فهذا كله مخالف للزيارة المشروعة ، أما ما يفعله البعض من الاستغاثة بأصحاب القبور والتضرع إليهم ودعائهم فهذا شرك.

فزيارة الرجال للقبور إن لم يتخللها محظور وكانت على الوجه المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهى مشروعة. وإن كان البعض قد كرهها فلعله لم تبلغه الأحاديث التى نسخت النهى لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن زيارتها فى بادئ الأمر (٤).

قال ابن قدامة : قال على بن سعيد : سألت أحمد عن زيارة القبور تركها أفضل عندك أو زيارتها؟ قال : زيارتها وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كنت نهيتكم ...» الحديث (٥).

هذا بالنسبة للرجال وأما زيارة النساء للقبور فقد اختلف فيها :

يقول النووى : فيها خلاف للعلماء وهى ثلاثة أوجه لأصحابنا أحدها : تحريمها عليهن لحديث : «لعن الله زوارات القبور» والثانى : يكره ، والثالث : يباح ويستدل له بهذا الحديث ـ يقصد حديث عائشة (٦) ـ وبحديث «كنت نهيتكم

__________________

(١) فى المسند ٥ / ٣٥.

(٢) فى المسند ٥ / ٣٦١.

(٣) النهاية ٥ / ٢٤٥.

(٤) انظر : فتح البارى ٣ / ١٤٨.

(٥) المغنى ٢ / ٥٦٥ ـ ٥٦٦.

(٦) وفيه : قالت : قلت : كيف أقول لهم يا رسول الله : قال «قولى السلام على أهل الديار ...» الحديث ..

١٨٥

عن زيارة القبور فزوروها» ويجاب عن هذا بأن «نهيتكم» ضمير ذكور فلا يدخل فيه النساء على المذهب الصحيح المختار فى الأصول (١).

ويقول ابن حجر : واختلف فى النساء فقيل : دخلن فى عموم الإذن وهو قول الأكثر ، ومحله إذا أمنت الفتنة. ويؤيد الجواز حديث الباب (٢) ، وموضع الدلالة منه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر ، وتقريره حجة.

وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة فروى الحاكم (٣) من طريق ابن أبى مليكة أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن فقيل لها : أليس قد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك؟ قالت : نعم ، كان نهى ثم أمر بزيارتها.

وقيل : الإذن خاص بالرجال ولا يجوز للنساء زيارة القبور وبه جزم الشيخ أبو إسحاق فى المهذب واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو (٤) وبحديث : «لعن الله زوارات القبور».

واختلف من قال بالكراهة فى حقهن هل هى كراهة تحريم أو تنزيه (٥). اه

__________________

ـ رواه مسلم ٢ / ٦٧١.

(١) مسلم بشرح النووى ٧ / ٤٥.

(٢) وهو ما رواه أنس قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بامرأة تبكى عند قبر. فقال : اتقى الله واصبرى. قالت : إليك عنى فإنك لم تصب بمصيبتى ولم تعرفه. فقيل لها : إنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم تجد عنده بوابين. فقالت : لم أعرفك. فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى». رواه البخارى ـ فتح البارى ـ ٣ / ١٤٨ ، ومسلم ٢ / ٦٣٧.

(٣) المستدرك ١ / ٣٧٦ قال الذهبى : صحيح.

(٤) قال ـ أى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة» قالت : أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ميتهم وعزيتهم. فقال : «لعلك بلغت معهم الكدى» قالت : معاذ الله أن أكون بلغتها معهم وقد سمعتك تذكر فى ذلك ما تذكر قال : «لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك». رواه أحمد ٢ / ١٦٩. والكدى : أراد بها المقابر. انظر النهاية ٤ / ١٥٦.

(٥) فتح البارى ٣ / ١٤٨ ـ ١٤٩.

١٨٦

قلت : ومن أقوى أدلة المانعين حديث لعن زوارات القبور وقد أجيب عنه بأنه منسوخ وهذا يحتاج إلى دليل قطعى.

وقد أجيب بجواب آخر ذكره ابن حجر عن القرطبى : «هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصفة من المبالغة ، ولعل السبب ما يفضى إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك فقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء» (١). اه

يقول ابن قدامة : والنهى المنسوخ كان عاما للرجال والنساء ويحتمل أنه كان خاصا للرجال ، ويحتمل أيضا كون الخبر فى لعن زوارات القبور بعد أمر الرجال بزيارتها فقد دار بين الحظر والإباحة ، فأقل أحواله الكراهة ، ولأن المرأة قليلة الصبر كثيرة الجزع ، وفى زيارتها للقبر تهييج لحزنها وتجديد لذكر مصابها ولا يؤمن أن يفضى بها ذلك إلى فعل ما لا يجوز بخلاف الرجل. ولهذا اختصصن بالنوح والتعديد وخصصن بالنهى عن الحلق والصلق ونحوهما (٢). اه

قلت : وكلام أحمد بمجموعه يدل على المنع. والله أعلم.

__________________

(١) نفس المصدر ٣ / ١٤٩.

(٢) المغنى ٢ / ٥٧٠.

١٨٧

قول الإمام أحمد فى مستقر الأرواح

ما بين الموت إلى يوم القيامة

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل :

٦٧٩ ـ سألت أبى عن أرواح الموتى أتكون فى أقبية قبورها ، أم فى حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد؟.

فقال : قد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نسمة المؤمن طائر يعلق بشجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه» (١).

وقد روى عن عبد الله بن عمرو قال : إن أرواح المؤمنين فى أجواف طير خضر كالزائر يتعارفون فيها ، ويرزقون من ثمرها (٢). وقال بعض الناس : أرواح الشهداء فى أجواف طير خضر ، تأوى إلى قناديل فى الجنة معلقة بالعرش (٣) قال ابن أبى يعلى : ذكر الوالد فى المعتمد قال : روى عبد الله (٤) عن أبيه قال : أرواح الكفار فى النار وأرواح المؤمنين فى الجنة (٥).

__________________

(١) سيأتى تخريجه فى التعليق.

(٢) الحديث الّذي سوف يأتى فى هامش (٣) قيل عن عبد الله بن عمرو وقيل عن ابن مسعود وقال النووى : والأخير هو الأصح اه. ولعل الإمام أحمد أراد بقوله : روى عن عبد الله بن عمرو ، هذا الحديث.

(٣) يعنى أن هذا القول أخذ من الحديث الّذي رواه مسلم ٣ / ١٥٠٢ عن مسروق قال : سألنا عبد الله (ابن مسعود) : عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ...) ، قال : أما إنا سألنا عن ذلك فقال : «أرواحهم فى جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل ... الحديث.

(٤) مسائل عبد الله ص : ١٤٥ ـ ١٤٦ وذكرها ابن أبى يعلى فى طبقات الحنابلة ١ / ١٨١ مختصرة.

(٥) طبقات الحنابلة ١ / ١٨١.

١٨٨

التعليق :

الكلام على هذه المسألة مبنى على ما ذهب إليه أهل السنة من أن الروح محدثة مخلوقة وهو ما دل عليه السمع والعقل خلافا لمن قال : بأنها قديمة (١).

وكذا مبنى على ما ذهبوا إليه أيضا من أن الروح لا تفنى بعد خروجها من الجسد عند الموت (٢).

وعلى هذا القول الصحيح اختلف في مستقر الأرواح وتعددت الأقوال وإن كان كثير منها لا يمكن الاعتماد عليه لأنه لا يمكن القطع بقول ما لم يكن مستندا إلى دليل صحيح صريح ، وقد لخص لنا شارح الطحاوية الأقوال في المسألة (٣). ولعل أصحها ما ذهب إليه أبو هريرة وعبد الله بن عمر أن أرواح المؤمنين عند الله تعالى فى الجنة شهداء كانوا أم غير شهداء إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم.

فقد روى مالك (٤) بإسناد صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما نسمة المؤمن طير يعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يوم يبعثه». والنسمة : الروح (٥).

فهذا القول مسند بحديث صحيح. وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد. والله تعالى أعلم (٦).

__________________

(١) راجع شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٤١ ـ ٤٤٢.

(٢) راجع المصدر السابق ص : ٤٤٦.

(٣) راجع المصدر السابق ص : ٤٥٣ ـ ٤٥٤.

(٤) فى الموطأ ١ / ٢٣٨.

(٥) انظر : النهاية ٥ / ٤٩.

(٦) لمزيد من المعرفة حول هذه المسألة راجع كتاب الروح لابن القيم ص : ١٢٥ ـ ١٢٩ ومسلم بشرح النووى ١٣ / ٣١ ـ ٣٢.

١٨٩

ما أثر عن الإمام أحمد من وجوب الإيمان بخروج الأعور

الدجال وقتل عيسى بن مريم له

فى رسالته إلى مسدد بن مسرهد قال :

٦٨٠ ـ والدجال خارج فى هذه الأمة لا محالة وينزل عيسى بن مريم ويقتله بباب لد (١).

وفى رسالة عبدوس بن مالك قال :

٦٨١ ـ والإيمان أن المسيح الدجال خارج مكتوب بين عينيه كافر وللأحاديث التى جاءت فيه والإيمان بأن ذلك كائن ، وأن عيسى بن مريم عليه‌السلام ينزل فيقتله بباب لد (٢).

وفى كتاب السنة له ورسالة الإصطخرى عنه قال :

٦٨٢ ـ والأعور الدجال خارج لا شك فى ذلك ولا ارتياب وهو أكذب الكذابين (٣).

التعليق :

قال ابن الأثير : أصل الدجل : الخلط. يقال : دجل إذا لبس وموه والدجال هو الّذي يظهر فى آخر الزمان يدعى الألوهية ، وفعال من أبنية المبالغة : أى يكثر من الكذب والتلبيس (٤). اه

__________________

(١) طبقات الحنابلة : ١ / ٣٤٤.

(٢) رسالة عبدوس (ق : ٢ / ب).

(٣) انظر : السنة ضمن شذرات البلاتين ص : ٤٦ ، والإصطخرى فى طبقات الحنابلة ١ / ٢٧.

(٤) النهاية ٢ / ١٠٢ وانظر فتح البارى ١٣ / ١١.

١٩٠

قلت : والأحاديث الصحيحة فى ذكر الدجال وخروجه من الكثرة بمكان أذكر منها :

ما رواه مسلم (١) عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه فى طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : «ما شأنكم» قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه فى طائفة النخل فقال : «غير الدجال أخوفنى عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتى على كل مسلم أنه شاب قطط عينه طافئة كأنى أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا» قلنا : يا رسول وما لبثه فى الأرض قال : «أربعون يوما. يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم». قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الّذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لا ، اقدروا له قدره» قلنا : يا رسول الله وما إسراعه فى الأرض؟ قال : «كالغيث استدبرته الريح فيأتى على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا ، وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ثم يأتى القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهى حيث ينتهى طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتى عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه

__________________

(١) فى الصحيح ٤ / ٢٢٥٠ ـ ٢٢٥٥.

١٩١

فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم فى الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أنى قد أخرجت عبادا لى ، لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادى إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج ...» هذا حديث صحيح عظيم أوضح فيه نبى الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الدجال وما سيكون عند خروجه ، ولا شك أن فتنة الدجال عظيمة حتى إنه كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله منه وأمر أمته بالاستعاذة منه.

فقد روى البخارى (١) ومسلم (٢) عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو فى الصلاة : «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال ...» الحديث.

وروى مسلم (٣) عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر المسيح الدجال».

والأحاديث الصحيحة فيما تقدم كثيرة فلتراجع فى مظانها فى كتب الحديث والعقائد.

وإلى هذا ذهب أهل السنة فالإيمان بخروج الدجال كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام من جملة عقائدهم التى يدينون لله عزوجل بها.

أما إنكار المبتدعة ومن سار فى ركابهم للدجال فلا يلتفت إليه فالنصوص عن رسول الهدى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضحة وصريحة وهو لا ينطق عن الهوى وليس فى عدم ذكر الدجال فى القرآن الكريم ما يقلل من الإيمان بخروجه كما أخبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالسنة الصحيحة صنو القرآن الكريم. علما بأن بعض العلماء قالوا إن الدجال قد ذكر فى القرآن ضمنا (٤).

__________________

(١) فى الصحيح ١٣ / ٩٠.

(٢) فى الصحيح ١ / ٤١٢.

(٣) فى الصحيح ١ / ٤١٢.

(٤) انظر : فتح البارى ١٣ / ٩١ ـ ٩٢.

١٩٢

قال القاضى عياض : هذه الأحاديث التى ذكرها مسلم وغيره (١) فى قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق فى صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الّذي يقتله ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه وجنته وناره ونهريه واتباع كنوز الأرض له وأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره ويبطل أمره ويقتله عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويثبت الله الذين آمنوا.

هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافا لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة (٢).

قلت : وكما مر بنا فإن عيسى بن مريم عليه‌السلام ينزل فيقتله ، ونزول عيسى من جملة عقائد أهل السنة وهو من أشراط الساعة الكبرى فقد روى مسلم (٣) عن حذيفة بن أسيد الغفارى قال : اطلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة فقال : «ما تذاكرون» قالوا : نذكر الساعة. قال : «إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ...». اه

وقد ذكر العلماء أن فى القرآن إشارة إلى نزوله وذلك فى قول الله تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبى عن هذه الآية فقال : ابن عباس وغيره قالوا عيسى ثم تلا : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) (٤).

__________________

(١) روى البخارى أحاديث الدجال فيما يقارب اثنى عشر حديثا.

(٢) مسلم بشرح النووى ١٨ / ٥٨ ، ويراجع ما بعدها إلى ص ٨٨. وانظر فتح البارى ١٣ / ٨٩ ـ ١٠٥.

(٣) فى الصحيح ٤ / ٢٢٢٥.

(٤) سورة النساء / ١٥٧ ـ ١٥٩.

١٩٣

قال : فهذا يدل على أنه عيسى ليس هو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو عيسى (١). اه

قلت : وإن كان كلام أحمد هذا ليس فيه ما يدل على أن المقصود بالآية نزوله عليه‌السلام لكن فيه موافقته على أن المقصود بالآية هو عيسى عليه‌السلام ، وإن كان استشهاده بقول ابن عباس يدل على أنه كان يرى أن فى الآية دلالة على نزوله لأن هذا قول ابن عباس (٢) ، والخلاف فى عود الضمير فى قوله (قَبْلَ مَوْتِهِ) :

يقول الشوكانى : والمعنى وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمنن به قبل موته والضمير به راجع إلى عيسى والضمير فى موته راجع إلى ما دل عليه الكلام وهو لفظ أحد المقدر أو الكتابى المدلول عليه بأهل الكتاب. وقيل : كلا الضميرين لعيسى. أى أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابى فى عصره وقيل : الضمير الأول لله ، وقيل : إلى محمد ، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير وقال به جماعة من السلف وهو الظاهر ، والمراد الإيمان به عند نزوله فى آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة (٣). اه

قلت : يؤيده ما رواه البخارى (٤) ومسلم (٥) عن أبى هريرة أنه قال : بعد ذكره لحديث نزول عيسى ـ الآتى ـ : واقرءوا إن شئتم (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). اه

كما أن فى قول الله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) إلى قوله جل وعلا : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٦) إشارة إلى ما ذكرته.

__________________

(١) مسائل عبد الله ص : ٤٤١ ، وأخرجه الخلال فى أحكام أهل الملل (ق : ٣٥ / ب).

(٢) انظر الدر المنثور ١ / ٢٤١.

(٣) فتح القدير ١ / ٥٣٤ ـ ٥٣٥ ، وانظر : تفسير ابن كثير ١ / ٦١٤ ـ ٦١٥.

(٤) فى الصحيح ٦ / ٤٩١.

(٥) فى الصحيح ١ / ١٣٦.

(٦) سورة الزخرف / ٥٧ ـ ٦١.

١٩٤

قال الشوكانى عند قول الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) : قال مجاهد والضحاك والسدى وقتادة : إن المراد المسيح وإن خروجه مما يعلم به قيام الساعة لكونه شرطا من أشراطها ، لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل قيام الساعة كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقال الحسن وسعيد بن جبير : القرآن ، لأنه يدل على قرب مجىء الساعة ، وبه يعلم أهوالها وأحوالها ، وقيل المعنى : أن حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث ، وقيل : الضمير لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأول أولى (١).

يقول ابن كثير : ... بل الصحيح أنه عائد ـ أى الضمير ـ على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن السياق فى ذكره ، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة (٢). اه

هذا ما ذكره العلماء عن هذه الآيات ولو رجعنا إلى السنة لوجدنا أن الأحاديث الصحيحة الصريحة فى شأن نزول عيسى من الكثرة بمكان من ذلك : ما رواه البخارى (٣) ومسلم (٤) عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذي نفسى بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب (٥) ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها». اه ، والأحاديث أوضحت أنه عليه‌السلام ينزل حاكما بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستقل بشريعة ولا رسالة فلا يقبل ذلك الوقت إلا الإسلام أو القتل (٦).

__________________

(١) فتح القدير ٤ / ٥٦٢.

(٢) تفسير ابن كثير ٤ / ١٤٢.

(٣) فى الصحيح ٦ / ٤٩٠ ـ ٤٩١.

(٤) فى الصحيح ١ / ١٣٥.

(٥) هذا لفظ البخارى قال ابن حجر : وفى رواية الكشميهنى «الجزية» اه. قلت : وعند مسلم «الجزية» وراجع ما ذكره ابن حجر فى شرحها فى الفتح ٦ / ٤٩١ ـ ٤٩٢.

(٦) راجع : فتح البارى ٦ / ٤٩٠ ـ ٤٩٤ ومسلم بشرح النووى ٢ / ١٨٩ ـ ١٩٤.

١٩٥

ما أثر عن الإمام أحمد من وجوب الإيمان بالنفخ فى الصور

والبعث والحساب والثواب والعقاب

فى رسالته لمسدد بن مسرهد قال :

٦٨٣ ـ والإيمان بالنفخ فى الصور. والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل (١).

وفى كتاب السنة له ورسالة الإصطخرى عنه قال :

٦٨٤ ـ والصور حق ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام فيموت الخلق ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون لرب العالمين عزوجل للحساب والقصاص والثواب والعقاب والجنة والنار.

ويعرض عليه العباد يوم الفصل الدين ، ويتولى حسابهم بنفسه لا يولى ذلك غيرهعزوجل (٢).

التعليق :

النفخ فى الصور ذكر فى القرآن فى عدة آيات ، قال تعالى (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) (٣) الآية وقال جل وعلا (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٤) وقال جل ذكره (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (٥) وقال تبارك وتعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ

__________________

(١) طبقات الحنابلة : ١ / ٣٤٤.

(٢) انظر : السنة ضمن شذرات البلاتين ص : ٤٧ ، والإصطخرى فى طبقات الحنابلة ١ / ٢٧.

(٣) سورة الأنعام / ٧٣.

(٤) سورة الكهف / ٩٩.

(٥) سورة طه / ١٠٢.

١٩٦

يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (١) وقال تعالى وتقدس (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) (٢) وقال سبحانه وتعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣) وقال تقدست أسماؤه (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٤) وقال تباركت أسماؤه (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٥) وقال جل جلاله (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (٦) وقال جل ذكره (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (٧) (٨) وذكر عن ابن عباس أن المراد بالناقور فى قول الله تعالى (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) (٩) الصور (١٠) والصور : قرن ينفخ فيه (١١).

وينفخ الملك الموكل بالصور مرتين الأولى نفخة الفزع يفزع الناس ويصعقون إلا من شاء الله ، والثانية نفخة البعث فيقوم الناس من قبورهم لله رب العالمين وبينهما أربعون (١٢). وقد جاء فى بعض الأحاديث أن الملك الموكل بالنفخ

__________________

(١) سورة المؤمنون / ١٠١.

(٢) سورة النمل / ٨٧.

(٣) سورة يس / ٥١.

(٤) سورة الزمر / ٦٨.

(٥) سورة ق / ٥٠.

(٦) سورة الحاقة / ٦٩.

(٧) سورة النبأ / ٧٨.

(٨) المرجع فى حصر هذه المواضع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

(٩) سورة المدثر / ٨.

(١٠) انظر : فتح البارى ٨ / ٣٦٧.

(١١) انظر : سنن أبى داود ٢ / ٥٣٧ ، والدر المنثور للسيوطى ٥ / ٣٣٧.

(١٢) لم تحدد بسنة أو شهر أو يوم فقد روى البخارى ٨ / ٥٥١ ومسلم ٤ / ٢٢٧٠ عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين النفختين أربعون» قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوما ، قال : أبيت ، قالوا : أربعون شهرا قال : أبيت قالوا : أربعون سنة قال : أبيت.

قال النووى : معناه أبيت أن أجزم وقد جاءت مفسرة من رواية غيره فى غير مسلم أربعون سنة.

مسلم يشرح النووى ١٨ / ٩١ ـ ٩٢.

وذكر ابن حجر : أن التحديد بأربعين سنة روى من أوجه ضعيفة فتح البارى ٨ / ٥٢٢.

١٩٧

فى الصور اسمه إسرافيل (١).

وقيل : هما ملكان (٢).

وقد ورد ذكر الصور والنفخ فيه فى أحاديث كثيرة منها :

ما رواه مسلم (٣) عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : «قال : فيبقى شرار الناس فى خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ، فيقولون : فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم فى ذلك دار رزقهم حسن عيشهم. ثم ينفخ فى الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا. قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض أبله قال : فيصعق ويصعق الناس ...» الحديث.

ثم بعد هذا البعث والخروج.

والبعث فى اللغة : الإثارة (٤) ، ويأتى بمعنى الإرسال كما فى قوله عزوجل : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) (٥).

وهو فى معنى الشرع : خروج الناس من قبورهم للحساب والجزاء. ولا حاجة لإيراد النصوص للدلالة عليه فالقرآن الكريم مملوء بالآيات الدالة عليه.

يقول شارح الطحاوية : الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة ، فأخبر الله سبحانه عنه فى كتابه العزيز وأقام الدليل عليه ورد على منكريه فى غالب سور القرآن ... فإن الإقرار بالرب عام فى بنى آدم وهو فطرى ، كلهم يقر بالرب ، إلا من عاند كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن منكريه كثيرون ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين ، وكان هو الحاشر المقفى ـ بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد

__________________

(١) انظر : الدر المنثور ٥ / ٣٣٨ وفتح البارى ١١ / ٣٦٨.

(٢) انظر : فتح البارى ١١ / ٣٦٨.

(٣) فى الصحيح ٤ / ٢٢٥٩.

(٤) انظر : النهاية ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

(٥) سورة الأعراف / ١٠٣.

١٩٨

فى شيء من كتب الأنبياء (١). اه

قلت : والإيمان بالبعث أحد أركان الإيمان الأساسية.

ثم بعد هذا الحساب الدقيق قال جل وعلا : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢) وقال جل ذكره (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٣) وقال تبارك وتعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٤) وقال : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٥) وقال : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) (٦) وقال : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٧) وقال : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) (٨) وقال : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٩) والآيات فى هذا كثيرة (١٠).

وروى البخارى (١١) ومسلم (١٢) عن ابن عمر قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يدنى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه : تعرف ذنب كذا؟ يقول : أعرف ، يقول: رب أعرف مرتين فيقول سترتها فى الدنيا وأغفرها لك اليوم ، ثم تطوى صحيفة حسناته ، وأما الآخرون ـ أو الكفار ـ

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية ص : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) سورة الزلزلة / ٧.

(٣) سورة الكهف / ٤٩.

(٤) سورة الانشقاق / ٧ ، ٨.

(٥) سورة الأنبياء / ٤٧.

(٦) سورة الرعد / ١٨.

(٧) سورة الرعد / ٢١.

(٨) سورة الرعد / ٤٠.

(٩) سورة الغاشية / ٢٦.

(١٠) راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ص : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(١١) فى الصحيح ٨ / ٣٥٣.

(١٢) فى الصحيح ٤ / ٢١٥.

١٩٩

فينادى على رءوس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم». اه ، هذا لفظ البخارى ، وعند مسلم : «وأما الكفار والمنافقون» ، ويستثنى من الحساب السبعون ألفا الذين استثناهم الحديث.

وقد اختلف فى الكفار هل يحاسبهم الله عزوجل بنفسه قيل هذا وقيل : يأمر الملائكة بحسابهم والأول أصح.

وقد استدل من قال : بأن الله عزوجل لا يحاسبهم بنفسه بقول الله جل وعلا : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١) وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٢) وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) (٣).

ولكن لو رجعنا إلى النصوص فى هذه المسألة لوجدناها تشمل الجميع قال تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) (٤) وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) (٥) وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦) وغير هذا من الآيات.

أما الآيات التى استدل بها المانعون فيمكن أن يجاب أن القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال وكلام وموطن لا يكون ذلك.

وهناك أجوبة أخرى ذكرها العلماء (٧).

__________________

(١) سورة المطففين / ١٥.

(٢) سورة القصص / ٧٨.

(٣) سورة البقرة / ١٧٤ ، وفى آل عمران / ٧٧.

(٤) سورة الأعراف / ٦.

(٥) سورة الأنعام / ٣٠.

(٦) سورة الحجر / ٩٢.

(٧) انظر : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب للشنقيطى ص : ١٣١.

وراجع ج : ٢ / ٧٢ ، ٧٣ ، ٧٤ من هذا البحث.

٢٠٠