دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

عن الشيخ قدس‌سره في الاستطاعة.

فعلى هذا إذا رجع القيد إلى الهيئة ـ وحيث يكون أكثر القيود الراجعة إليها من قبيل الشرط المقارن ـ فيترتّب عليه : أوّلا : أنّ التكليف لا يتحقّق قبل تحقّق القيد ، وثانيا : أنّ مقدّماته أيضا ليست بواجبة.

وإذا رجع القيد إلى المادّة فيترتّب عليه : أوّلا : أنّ التكليف يتحقّق قبل تحقّق القيد ، وثانيا : أنّ القيد يلزم تحصيله ، ومرّ أن ذكرنا أنّ القيد الراجع إلى الهيئة لا يلزم تحصيله أصلا فإنّه قيد الوجوب ، وهو خارج عن محلّ البحث في مقدّمة الواجب ، هذا على المشهور.

إذا عرفت هذا فتصل النوبة إلى ملاحظة مسألة اخرى ، وهي عبارة عن صورة الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة.

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : إن علم حال القيد فلا إشكال ، وإن دار ثبوتا أمره بين أن يكون راجعا إلى الهيئة ـ مثل الشرط المتأخّر أو المقارن ـ وأن يكون راجعا إلى المادّة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب ، فإن كان في المقام ما يعيّن حاله وأنّه راجع إلى أيّهما من القواعد العربيّة فهو ، وإلّا فالمرجع هو الاصول العمليّة ، ومعلوم أنّ مقتضاها البراءة عن الوجوب واستصحاب عدم الوجوب.

وتوضيح ذلك : أنّ الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة يرجع إلى أنّه هل يكون هناك قبل تحقّق القيد تكليف بذي المقدّمة أم لا؟ فيجري استصحاب عدم التكليف ، وهكذا يجري الأصل في نفس القيد ؛ إذ الشكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة يرجع إلى أنّ نفس هذا القيد يجب تحصيله

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٦٧.

٨١

أم لا؟ فيجري استصحاب عدم وجوب تحصيل القيد قبل صدور الكلام المشتمل على القيد عن المولى.

على أنّه يجري في كلا الموردين أصل البراءة عن التكليف في رتبة متأخّرة من الاستصحاب ، فما يستفاد من الاصول العمليّة موافق مع رجوع القيد إلى الهيئة من حيث النتيجة ، وهي عدم لزوم تحصيل القيد ، وعدم تحقّق التكليف قبل تحقّق القيد.

ولكن استدلّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) ـ على ما في تقريراته في هذه المسألة ـ لرجوع القيد إلى المادّة بوجهين ، ولكن قبل الخوض في البحث يرد عليه أنّه كيف يقول بالترديد بين الأمرين بعد قوله باستحالة تقييد الهيئة ورجوع جميع القيود في الواجبات المشروطة إلى المادّة؟!

قال المشكيني قدس‌سره (٢) في حاشيته على الكفاية : إنّ مقصوده من الرجوع إلى الهيئة الرجوع إليها في الظاهر ، مع كونه في الواقع قيدا اختياريّا غير لازم التحصيل للمادّة ، ومن الرجوع إلى المادّة الرجوع إليها على نحو يكون لازم التحصيل ، وتظهر ثمرة هذا النزاع في لزوم تحصيل القيد وعدمه فقط.

وفيه ـ مع عدم صحّة كون الهيئة بمعنى المادّة ـ : أنّه مخالف لما استدلّ به الشيخ قدس‌سره من الفرق بين إطلاق الهيئة والمادّة من حيث الشموليّة والبدليّة ؛ إذ لا معنى للإطلاق البدلي في المادّة ، فيكون الإطلاق الشمولي فيما إذا كان المراد من الهيئة نفسها لا المادّة ، فيحتمل قويا أنّه قدس‌سره ذكر المسألة على مبنى المشهور وفرض رفع اليد عن مسلكه ومبناه ، ولذا قال في دليله الأوّل : إنّ إطلاق الهيئة

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) كفاية الاصول ١ : ١٦٨.

٨٢

يكون شموليّا كما في شمول العامّ لأفراده ، فإنّ وجوب الإكرام في مثل : «أكرم العالم» على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التي يمكن أن تكون تقديرا له كالفقير والغني والهاشمي وغيره.

أو في مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فإنّ نتيجة جريان مقدّمات الحكمة هاهنا هي الإطلاق ؛ بمعنى أنّ كلّ ما يصدق عليه عنوان البيع فقد أحلّه الله ، وهذا الإطلاق شمولي ، وأمّا إطلاق المادّة فيكون بدليّا غير شامل لفردين في حالة واحدة كما في مثل : «أكرم الرجل» أو «رجلا» ، فإنّ نتيجة جريان مقدّمات الحكمة فيه أيضا هي الإطلاق ، لكن الإطلاق من حيث انتخاب كلّ فرد من أفراد الرجل للإكرام ، ويعبّر عن هذا بالإطلاق البدلي إذا دار الأمر بينهما ، والترجيح مع الأوّل ، ويرجع القيد إلى المادّة.

ففي مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» إذا شكّ في رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة فيستفاد من هذه القاعدة أنّ إطلاق الهيئة شمولي ؛ إذ الوجوب ثابت في جميع الحالات ، سواء تحقّق المجيء أم لا ، وإطلاق المادّة لو فرض إطلاقه بدلي ، فيرجع قيد المجيء في صورة الشكّ إلى الثاني.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ مفاد إطلاق الهيئة وإن كان شموليّا بخلاف المادّة إلّا أنّه لا يوجب ترجيحه على إطلاقها ؛ لأنّه أيضا كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، غاية الأمر أنّها تارة تقتضي العموم الشمولي واخرى البدلي ، وربما يقتضي التعيين أحيانا كاقتضاء الصيغة كون الوجوب نفسيّا إذا دار الأمر بينه والوجوب الغيري ، أو عينيّا فيما إذا دار الأمر بينه والوجوب الكفائي ، أو تعيينيّا فيما إذا دار الأمر بينه والوجوب التخييري ، فإنّ وجوب

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٦٩.

٨٣

مقابلها يتوقّف على بيان قيد زائد مثل وجوب ذي المقدّمة ، والواجب النفسي قبله في الأوّل، وعدم إتيان شخص آخر بالواجب في الثاني ، وعدم الإتيان بعدله الآخر في الثالث.

وترجيح عموم العامّ على إطلاق المطلق إذا دار الأمر بين تخصيص الأوّل وتقييد الثاني إنّما هو لأجل كون دلالته بالوضع لا لكونه شموليّا ، بخلاف المطلق فإنّه بمقدّمات الحكمة يكون العامّ أظهر منه دلالة ، ولذا يقدّم عليه.

وعلى هذا لو فرض دوران الأمر بين تقييد الإطلاق الشمولي وتخصيص عموم العامّ البدلي فالترجيح مع الثاني بلحاظ ارتباطه بالدلالة الوضعيّة اللفظيّة ، بخلاف الأوّل.

والتحقيق في الجواب : أنّه ليس للإطلاق إلّا معنى واحد في جميع الموارد ، ولا ترتبط الشموليّة والبدليّة بالإطلاق.

توضيح ذلك : أنّ الإطلاق يستفاد من مقدّمات الحكمة ، ولكنّها تستفاد من كون المولى في مقام بيان جميع الخصوصيّات الدخيلة في المتعلّق ، لا في مقام الإجمال والإهمال بعد التفاته وتوجّهه إليها وعدم كونه مكرها ، كما إذا قال : اعتق الرقبة ، ونحن نستفيد بعد التوجّه إلى جميع الجهات أنّ المولى الحكيم بيّن بهذه الجملة تمام المتعلّق للتكليف ؛ بأنّه جعل متعلّق الحكم طبيعة عتق الرقبة ، من دون أخذ خصوصيّة اخرى فيه ، ولا بدّ لنا من ملاحظة أنّ الشموليّة والبدليّة وصفان للإطلاق أم لا.

ومثال إطلاق الشمولي : قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) ، ومعنى الإطلاق الشمولي عبارة عن استيعاب جميع الأفراد والدلالة عليها ، ولا شكّ في أنّ لفظ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٨٤

البيع لا يدلّ على هذا المعنى ولا يحكي عنه ؛ إذ لا فرق بينه وبين لفظ الإنسان في عدم الدلالة على الأفراد ، فإنّ معنى الإنسان عبارة عن الحيوان الناطق ، ومعنى زيد ـ مثلا ـ عبارة عن الحيوان الناطق المتخصّص بالخصوصيّات الفرديّة ، وهما متباينان ، فكيف يمكن أن يدلّ لفظ الإنسان على زيد المتخصّص بهذه الخصوصيّة مع أنّ وجود الطبيعي عين وجود أفراده خارجا؟! ولكنّ مرحلة الاتّحاد في الوجود غير مرحلة الدلالة والحكاية والمرآتيّة ، فكما أنّ لفظ الصلاة لا يحكي عن الغصب مع اتّحادهما من حيث الوجود في الدار المغصوبة ، وكذلك لفظ الإنسان لا يحكي عن زيد أبدا بلحاظ وضعهما للمعنيين المتغايرين ، وهكذا في لفظ «البيع» فإنّه لا يدلّ إلّا على أنّ تمام الموضوع للحكم بالحلّيّة والصحّة هو طبيعة البيع ، وفي كلّ مورد تحقّقت هذه الطبيعة يصدق عليه أنّه بيع ، سواء صدر عن زيد أو عن عمرو ، وسواء صدر بصيغة العربيّة أو غيرها ، لا أنّ لفظ البيع يدلّ على بيع صادر عن زيد ، وكما أنّ صدق الإنسان على زيد لا يدلّ على أنّ لفظ الإنسان يدلّ على التكثّر والتعدّد ، ولذا لا يصحّ جعل كلمة الشمول وصفا للإطلاق.

ومثال الإطلاق البدلي هو قولنا : «أكرم عالما» ، ولا فرق بين لفظ «العالم» ولفظ «البيع» من حيث الدلالة على الطبيعة والإطلاق ، إلّا أنّ تنوين التنكير هاهنا يدلّ على الوحدة والبدليّة ، ويكون كقولنا : «أكرم العالم العادل» من جهة تعدّد الدال والمدلول. وبالنتيجة ليس للإطلاق نوعان ومعنيان. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من استدلال الشيخ الأنصاري قدس‌سره لرجوع القيد إلى المادّة.

الوجه الثاني في كلامه قدس‌سره : أنّ تقييد الهيئة يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة ويرتفع به مورده ، بخلاف العكس ، وكلّما دار الأمر بين تقييدين كذلك

٨٥

كان التقييد الذي لا يوجب بطلان الآخر أولى ، أمّا الصغرى فلأجل أنّه لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ حاجة وبيان لإطلاق المادّة ؛ لأنّها لا محالة لا تنفكّ عن وجود قيد الهيئة ، فإنّ وجوب الإكرام ـ مثلا ـ إذا قيّد بمجيء زيد فلا يبقى للمادّة ـ وهي الإكرام ـ إطلاق ؛ إذ الإكرام قبل المجيء ليس بواجب ، فدائرة الواجب تتضيّق قهرا بتقيّد الوجوب ، بخلاف تقييد المادّة فإنّ محلّ الحاجة إلى إطلاق الهيئة على حاله ، فيمكن الحكم بالوجوب على تقدير وجود القيد وعدمه ، أي قبل تحقّق المجيء وبعده.

وأمّا الكبرى فلأنّ التقييد وإن لم يكن مجازا إلّا أنّه خلاف الأصل ، ولا فرق في الحقيقة بين تقييد الإطلاق وبين أن يعمل عملا يشترك مع التقييد في الأثر وبطلان العمل بالإطلاق.

والحاصل : أنّ تقييد الهيئة يستلزم ارتكاب خلافي الظاهر ، وتقييد المادّة يستلزم ارتكاب خلاف ظاهر واحد ، ولا ريب في تقدّم الثاني على الأوّل.

وجوابه : ما يستفاد من ذيل كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ القيد إمّا متّصل وإمّا منفصل ، فإن كان متّصلا ـ كما في مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» ـ فلا ينعقد إطلاق لا للهيئة ولا للمادّة ؛ لاحتفافهما بما يصلح للقرينيّة ، وقد قرّر في محلّه أنّ البيان وكذا نصب القرينة لتقييد المراد مانع من جريان مقدّمات الحكمة ، فلا مجال للإطلاق والتقييد في القيد المتّصل أصلا ، كما أنّه لا مجال لهما في قول المولى : «اعتق رقبة مؤمنة».

وإذا قيل : إنّه لا يجوز المقايسة بين ما نحن فيه وهذا المثال ؛ إذ لا شكّ هاهنا في رجوع قيد الإيمان إلى الرقبة ، بخلاف مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» ؛ إذ يحتمل فيه رجوع القيد إلى المادّة ، ويحتمل رجوعه إلى الهيئة ، وفي الصورة

٨٦

الثانية يوجب ارتكاب خلافي الظاهر.

قلنا : إنّ هذا المعنى مسلّم لا شكّ فيه ، ولكن بعد رجوع القيد إلى الهيئة وبطلان محلّ الإطلاق في المادّة لا يمكن تحقّق مقدّمات الحكمة ، فكأنّ المولى صرّح من الابتداء بتضييق دائرة المادّة ، فلا يكون من جهة المادّة ارتكاب خلاف الأصل أبدا ، فنفس رجوع القيد إلى الهيئة قرينة على تقييد المادّة ، فلا فرق بين رجوع القيد إلى المادّة ورجوعه إلى الهيئة في عدم استلزام خلاف الظاهر إذا كان القيد متّصلا فلا ترجيح في البين.

وأمّا إذا كان القيد منفصلا فلا شكّ في صحّة بيانه ؛ إذ المولى بعد أن قال : «أكرم زيدا» وبعد تماميّة مقدّمات الحكمة في الهيئة والمادّة ثمّ ذكر قيد المجيء ـ مثلا ـ وعرض الشكّ للمكلّف في أنّه يرجع إلى الهيئة أو المادّة فلا محالة تقييد الهيئة يوجب ارتكاب خلافي الظاهر بخلاف الثاني ، وأشار المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى صحّة هذا البيان في ذيل كلامه.

وأمّا قوله : «فتأمّل» فقد اختلف المحشّون في أنّه إشارة إلى أيّ وجه من الوجوه المحتملة هاهنا ، واختار المرحوم المشكيني (١) وجها واستاذه المرحوم القوچاني قدس‌سرهما وجها آخر ، ولكن يحتمل قويّا أنّه إشارة إلى التهافت الواضح بين صدر كلامه وذيله ، فإنّه قال في ذيل كلامه (٢) : نعم ، إذا كان التقييد بمنفصل ودار الأمر بين الرجوع إلى المادّة أو الهيئة كان لهذا التوهّم ـ أي ثبوت الإطلاق في الهيئة والمادّة معا ـ مجال ؛ لاستقرار الظهور وإن كان بقرينة مقدّمات الحكمة.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٧٠.

(٢) المصدر السابق.

٨٧

ولازم الاستدراك أنّ ما ذكر قبله من الأحكام بالنسبة إلى التقييد بقيد متّصل لا يجري إلى ما بعده ، وقال في الصدر : إنّ التقييد وإن كان خلاف الأصل إلّا أنّ العمل الذي يوجب عدم جريان مقدّمات الحكمة وانتفاء بعض مقدّماته لا يكون على خلاف الأصل أصلا ؛ إذ معه لا يكون هناك إطلاق كي يكون بطلان العمل به في الحقيقة مثل التقييد الذي يكون على خلاف الأصل.

قلنا : إنّ المثال الأوضح لعدم جريان مقدّمات الحكمة نفس التقييد بقيد متّصل ، فلا يصحّ التفكيك بينهما ، والقول بأنّ التقييد خلاف الأصل بخلاف العمل الذي أثره أثر التقييد ، فإنّ عدم جريان مقدّمات الحكمة أقوى وأولى في التقييد من عدم جريانها فيه. هذا تمام الكلام في الواجب المعلّق والمنجّز.

٨٨

الأمر الثالث

الواجب النفسي والغيري

ذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في ابتداء الأمر تعريفا ثمّ أشكل عليه ، والتزم بعد ذلك بتعريف آخر ، وما ذكره عبارة عن أنّ طلب الشيء وإيجابه حيث لا يكاد يكون بلا داع ـ بعد كونه من الأفعال الاختياريّة للمولى ـ فإن كان الداعي فيه التوصّل به إلى واجب فلا يمكن التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه ، فالواجب غيريّ ، وإلّا فهو نفسي ، ولا فرق في الواجب النفسي بين محبوبيّته في نفسه كمعرفة الله تعالى ، أو محبوبيّته بما له من فائدة مترتّبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليّات.

وتوضيح ذلك : أنّه لا بدّ في الطلب الإنشائي كسائر الأفعال الاختياريّة من الداعي والمحرّك ، ولكنّه على نوعين ؛ إذ الداعي لإيجاب شيء قد يكون مقدّميّة هذا الشيء لواجب آخر وتوقّفه عليه ؛ بحيث إن لم يتحقّق الشيء المذكور لا يتحقّق الواجب ، مثل دخول السوق لشراء اللحم في جملة «ادخل السوق واشتر اللحم» ؛ إذ يتوقّف تحقّق الثاني على الأوّل ، ويسمّى هذا بالواجب

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٧١.

٨٩

الغيري.

وقد يكون الداعي محبوبيّة الشيء بنفسه كمعرفة الله تعالى ، ويؤيّده تفسير كلمة «يعبدون» (١) ب «يعرفون» في لسان الروايات.

وقد يكون الداعي ترتّب الآثار والخواصّ على الواجب كترتّب النهي عن الفحشاء والمنكر على الصلاة ، ويسمّى هذان القسمان بالواجب النفسي.

ومن هنا أشكل بأنّه يلزم على هذا التعريف اندراج جميع الواجبات سوى المعرفة بالله في الواجب الغيري لصدق تعريفه عليها ؛ لأنّ الفوائد المترتّبة على الواجبات النفسيّة ـ كالصلاة والصوم والحجّ ونحوها ـ لو لم تكن مطلوبة وواجبة التحصيل لما دعت إلى إيجابها ، فمطلوبيّة تلك الواجبات إنّما هي لأجل التوصّل إلى فوائدها ، فما الفرق بين وجوب الوضوء ووجوب الصلاة ، ولم سمّي الأوّل بالواجب الغيري بخلاف الثاني؟!

ثمّ دفع الإشكال بقوله : فإن قلت : نعم ، وإن كان ما يترتّب على الصلاة ـ مثلا ـ محبوبا لزوما ، إلّا أنّه حيث كان من الخواصّ المترتّبة عليها ، ولذا لا يكون داخلا تحت قدرة المكلّف حتّى يتعلّق الأمر به بنفسه ، بخلاف الصلاة التي يتوقّف تحقّقها على تحقّق الوضوء ، فإنّ فعل الصلاة كفعل الوضوء يكون مقدورا للإنسان ، فلا يكون الوضوء قابلا للمقايسة مع الصلاة.

وأجاب عنه بقوله : قلت : بل هي ـ أي الفوائد المترتّبة على الصلاة ـ داخلة تحت القدرة ؛ لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبّب ، وهو واضح ، وإلّا لما صحّ وقوع مثل التطهير والتمليك والتزويج والطلاق والعتاق إلى غير ذلك من المسبّبات موردا لحكم من الأحكام التكليفيّة.

__________________

(١) في قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

٩٠

ثمّ قال : فالأولى أن يقال : إنّ الأثر المترتّب على الواجب وإن كان لازما إلّا أنّ ذا الأثر لمّا كان معنونا بعنوان حسن يستقلّ العقل بمدح فاعله ، بل وبذمّ تاركه صار متعلّقا للإيجاب بما هو كذلك ، ولا ينافيه كونه مقدّمة لأمر مطلوب واقعا ، بخلاف الواجب الغيري لتمحّض وجوبه في أنّه لكونه مقدّمة لواجب نفسي ، وهذا أيضا لا ينافي أن يكون معنونا بعنوان حسن في نفسه ، إلّا أنّه لا دخل له في إيجابه الغيري ، ولعلّه مراد من فسّرهما بما أمر به لنفسه وما أمر به لأجل غيره. هذا تمام كلامه قدس‌سره في هذا المقام مع التوضيح.

ويرد عليه إشكالات متعدّدة :

الأوّل : أنّه لو فرضنا أنّه يتحقّق في الواجبات النفسيّة عنوان حسن أوجب تعلّق الأمر بها ، بخلاف الواجبات الغيريّة ، إلّا أنّه لا يمكن القول به في الواجبات النفسيّة التوصّليّة ، مثل : أداء الدين ودفن الميّت ونحو ذلك ؛ إذ لا يصحّ الالتزام بتحقّق عنوان حسن لا يدركه العقل في هذه الموارد قطعا ، سوى إيصال حقّ الدائن إليه في الأوّل ، والدفاع عن عروض الأمراض التي تحصل بتعفّن بدن الميّت. نعم ، يجري هذا الكلام في الواجبات النفسيّة التعبّديّة على الظاهر.

الثاني : أنّ علّيّة العنوان الحسن المذكور لوجوب الأحكام مخالف للآيات والروايات التي تكفّلت لعلل الأحكام ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١) وسائر الأدلّة التي ذكرها الصدوق قدس‌سره في كتاب علل الشرائع من الروايات المشتملة لهذا المعنى.

الثالث : أنّ مع قطع النظر عن الإشكالين المذكورين هل يكون حسن

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٩١

العنوان الحسن ـ الذي تكون الصلاة معنونة به ـ لنفسه أو لترتّب الآثار والخواصّ عليه؟ فإن كان حسنه ذاتيّا ـ كعنوان معرفة الله ـ يصحّ القول به ، ولكن لا يتحقّق مثل هذا العنوان في الواجبات ، بل يكون حسنه لترتّب الآثار عليه ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا نقول من الابتداء أنّ إيجاب الصلاة يكون لترتّب الخواصّ عليه ، فلا يصحّ الأكل من القفا؟! والقول بأنّ إيجابها يكون لتحقّق عنوان حسن فيها ، وحسنه يكون لترتّب الآثار عليه.

والتحقيق في تعريف الواجب النفسي والغيري مبتن على التحقيق في حقيقة الوجوب ، فإنّ المقسم في التقسيمات هو الوجوب في الواقع لا الواجب ؛ إذ الوجوب قد يكون مطلقا وقد يكون مشروطا ، وهكذا في سائر التقسيمات ، فالمقسم في هذا التقسيم ـ أي النفسي والغيري ـ أيضا هو الوجوب.

واختلفوا في حقيقة الوجوب في أنّه عبارة عن الإرادة المتحقّقة في نفس المولى ، أو عبارة عنها بشرط إظهارها بواسطة هيئة «افعل» ونحوها ، أو عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري يعني مفاد هيئة «افعل» كما اخترناه سابقا.

ونقول : لا بدّ لنا من اختيار التعريف الأوّل الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره هاهنا بعد التوجّه إلى حقيقة الوجوب ، وأنّ هيئة «افعل» إن تعلّقت بشيء لنفسه لا للتوصّل إلى واجب آخر فهو واجب نفسي ، وإن تعلّقت به للتوصّل إلى واجب آخر لا لنفسه ـ كالوضوء ونحوه ـ فهو واجب غيريّ.

وأشكل عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره بأنّ الآثار المترتّبة على الصلاة أيضا واجبة التحقّق ، فنسبة الصلاة إلى الآثار تكون مثل نسبة الوضوء إلى الصلاة ، فكما أنّ وجوب الوضوء غيريّ ، كذلك وجوب الصلاة أيضا غيريّ.

وجوابه : أنّ وجوب الوضوء يكون للتوصّل إلى الصلاة الواجبة ، بمعنى أنّها

٩٢

مبعوث إليها بالبعث والتحريك الاعتباري ، فهي تكليف مستقلّ ، بخلاف ما يترتّب على الصلاة من الآثار والخواصّ كالنهي عن الفحشاء والمنكر وقربان كلّ تقي ، مع أنّ تحقّق المصلحة فيها ممّا لا شبهة فيه ، ولكن لم يتعلّق بها الوجوب مستقلّا ولا يكون في الفقه بابا بهذه العناوين ولا تقع متعلّقا للأمر ، ولذا لا نقول : إنّ الصلاة وجبت للتوصّل إلى واجب آخر ، فما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره ممّا نقطع بخلافه.

والثمرات المترتّبة على الواجب النفسي والواجب الغيري متعدّدة ، والعمدة منها ثمرتان:

الاولى : أنّ الوجوب في الواجب النفسي لا يكون تابعا لوجوب شيء آخر ، ولا يتوقّف وجوبه على وجوب شيء آخر ، بخلاف الوجوب في الواجب الغيري ، فإنّ وجوبه تابع لوجوب غيره.

والثانية : أنّ مخالفة الواجب النفسي توجب استحقاق العقوبة ، بخلاف مخالفة الواجب الغيري فإنّها لا توجب استحقاق العقوبة أصلا ، فإن أوجب ترك المقدّمة أو المقدّمات لترك ذي المقدّمة يكون استحقاق العقوبة لترك ذي المقدّمة فقط.

وإذا دار الأمر بين الواجب النفسي والواجب الغيري بعد إحراز أصل الوجوب هل تثبت النفسيّة بالاصول اللفظيّة ـ مثل أصالة الإطلاق أو حكم العقل ـ أم لا؟ وفي الصورة الثانية ما تقتضيه الاصول العمليّة ما هو؟

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : وأمّا إذا شكّ في واجب أنّه نفسيّ أو غيري ، فالتحقيق أنّ الهيئة وإن كانت موضوعة لما يعمّهما ـ أي لجامع الطلب ـ إلّا أنّ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٧٣.

٩٣

إطلاقها يقتضي كونه نفسيّا ، فإنّه لو كان شرطا لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم ؛ لكون شرطيّته قيدا زائدا على نفس الطلب.

وجوابه : ـ كما مرّ سابقا ـ : أنّ لازم التقسيم أن تكون الأقسام غير المقسم ، والمقسم هاهنا عبارة عن مطلق الوجوب وطبيعته ، فكما أنّ الواجب الغيري قسم من هذا المقسم كذلك الواجب النفسي قسم منه ، ويتحقّق في كلّ من القسمين بعد تحقّق أصل الوجوب خصوصيّة زائدة ، ولا يعقل أن يكون أحد القسمين عين المقسم ، إلّا أنّه يكون قيد أحدهما قيدا وجوديّا ، والآخر قيدا عدميّا بناء على التعريف الذي اخترناه ، وهو أنّ وجوب الواجب النفسي لا يكون للتوصّل إلى واجب آخر ، ووجوب الواجب الغيري يكون للتوصّل إلى واجب آخر ، وكلاهما قيدان وجوديّان بناء على التعريف الذي اخترناه ، فلا يمكن التمسّك بأصالة الإطلاق لإثبات النفسيّة بعد اشتراكهما في التقييد ؛ إذ يثبت به المقسم لا الأقسام كما لا يخفى.

ولمّا كان الشيخ الأنصاري قدس‌سره في صدد الجواب عن التمسّك بالإطلاق في تقريراته يظهر أنّ بعض الأعاظم تمسّك به قبل صاحب الكفاية قدس‌سره لإثبات النفسيّة ، ومحصّل كلام الشيخ (١) أنّه : لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهيئة لدفع الشكّ المذكور ؛ إذ الهيئة ملحقة بباب الحروف من حيث الوضع وكيفيّته ، والوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ ، فمفاد الهيئة عبارة عن الأفراد والمصاديق التي لا يعقل فيها التقييد.

نعم ، لو كان مفاد الأمر هو المفهوم ـ أي كان الموضوع له عامّا ـ صحّ القول بالإطلاق ، لكنّه بعيد عن الواقع بمراحل ؛ إذ لا شكّ في اتّصاف الفعل بالمطلوبيّة

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٦٧.

٩٤

بسبب الطلب المستفاد من الأمر ، مثلا نقول بعد تعلّق الأمر بالصوم : إنّ الصوم مطلوب ، ولا يعقل اتّصافه به بواسطة مفهوم الطلب ، فإنّ الفعل يصير مرادا أو مطلوبا بواسطة واقع الإرادة وحقيقتها لا بواسطة مفهومها ، فالصوم مطلوب بالطلب الحقيقي ، وهذا دليل على وضع هيئة «افعل» لمصاديق الطلب لا لمفهومه وماهيّته المطلقة ، فلا مجال للتمسّك بأصالة الإطلاق.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : أوّلا : بأنّ مفاد الهيئة ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ ليس الأفراد ، بل هو مفهوم الطلب ، ومرّ أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في باب الحروف وما يشبه بها عامّ كالأسماء ، بل لا فرق بينهما إلّا في موارد الاستعمال بواسطة شرط الوضع.

وثانيا : بأنّ هيئة «افعل» وضعت لإنشاء الطلب ، ولا شكّ في أنّه لا يتعلّق بفرد الطلب الخارجي ؛ لأنّه قائم بالنفس إنّما يوجد بأسبابه الخاصّة ، بل هو يتعلّق بمفهوم الطلب وطبيعته وماهيّته ، فتكون المفاهيم قابلة للإنشاء لا المصاديق ، ولا جميع المفاهيم بل بعضها ، فهيئة «افعل» وضعت لأن ينشئ بها مفهوم الطلب ، فيكون لمفاد الهيئة إطلاق وقابل للتمسّك فيما نحن فيه.

والتحقيق : أنّ كلامهما لا يخلو عن مناقشة كما مرّ مفصّلا في المباحث السابقة ، ولا بدّ من الإشارة إليها ، فنقول بعنوان المناقشة في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره : إنّ مفاد هيئة «افعل» عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري ، وهو قائم مقام البعث والتحريك التكويني ، ويجب على المكلّف إطاعته إذا صدر عن المولى عند العقلاء ، ولا دخل له أصلا بمصداق الطلب ولا بمفهوم الطلب.

والمناقشة في كلام الشيخ قدس‌سره أنّه لا نسلّم كبرى كلامه ، فإنّه قال : بأنّ مفاد

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٩٥

الهيئة جزئي بلحاظ كونه من ملحقات المعاني الحرفيّة ، وكلّ معنى حرفي لا يكون قابلا للتقييد ، فمفاد الهيئة لا يكون قابلا للتقييد.

فنقول : إنّ الجزئي أيضا يكون قابلا للتقييد بلحاظ حالاته وأوصافه ، مثل : تقييد زيد بقيد المجيء ، بل يرجع نوع التقييدات في الجملات إلى المعاني الحرفيّة والجزئيّة ، مثل : قولنا : «ضربت عمروا يوم الجمعة في المدرسة» ، ومعلوم أنّ قيد يوم الجمعة يرجع إلى الضرب الصادر من زيد ـ مثلا ـ والواقع على عمرو ، ولا شكّ في أنّ الضرب الكذائي يكون معنى حرفيّا.

وللمحقّق النائيني قدس‌سره (١) بيان آخر للتمسّك بالإطلاق في دوران الأمر بين النفسيّة والغيريّة.

وتوضيح بيانه يتوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّ الواجب الغيري لمّا كان وجوبه مترشّحا عن الوجوب النفسي يصحّ التعبير بأنّ الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي ، فوجوب الصلاة علّة لوجوب الوضوء ، وحينئذ يصحّ التعبير بأنّ وجوب الصلاة شرط لوجوب الوضوء ، ووجوبه مشروط بوجوبها ، فكما أنّ وجود ذي المقدّمة مشروط بوجود المقدّمة ، وكذلك وجوب المقدّمة مشروط بوجوب ذي المقدّمة ، فيتوقّف وجود الصلاة على وجود الوضوء ، ويتوقّف وجوب الوضوء على وجوب الصلاة ، فالوضوء بالنسبة إلى الصلاة يكون من قيود المادّة ، ووجوب الصلاة بالنسبة إلى الوضوء يكون من قيود الهيئة ، ومن البديهي أنّ الدوران بين النفسيّة والغيريّة يكون فيما لو صدر عن المولى أمران واحرز وجوب واجبين ، وكان الشكّ في وجوب الثاني من حيث إنّه واجب نفسي كالواجب الأوّل أو غيريّ.

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢٢ ، أجود التقريرات : ١٦٩.

٩٦

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ للمسألة ثلاثة صور ، فقد يكون لكلا الدليلين إطلاق ، وقد يكون لأحدهما إطلاق ، وقد لا يكون لكليهما إطلاق.

أمّا في الصورة الاولى فلا إشكال في صحّة التمسّك بكلا الإطلاقين ، وتكون النتيجة هو الوجوب النفسي للوضوء وعدم كونه قيدا وجوديّا للصلاة ـ مثلا ـ فإنّ إطلاق دليل الوضوء يقتضي عدم تقييده من حيث الهيئة ، وإطلاق دليل الصلاة يقتضي عدم تقييده من حيث المادّة ؛ إذ المشكوك في الأوّل التقييد من حيث الهيئة ، وفي الثاني التقييد من حيث المادّة.

وأمّا في الصورة الثانية فإن كان دليل الصلاة مطلقا تكون نتيجة جريان أصالة الإطلاق هاهنا أنّ تحقّق الصلاة ووجودها لا يكون مقيّدا بوجود الوضوء وتحقّقه ، فينتفي أحد الاشتراطين المقوّمين للواجب الغيري ، ولازم ذلك انتفاء اشتراط الثاني ، وأنّ وجوب الوضوء أيضا لا يكون مقيّدا بوجوب الصلاة.

ومعلوم أنّ مثبتات الاصول اللفظيّة أيضا حجّة كما ثبت في محلّه ، وهكذا إن كان دليل الوضوء مطلقا تكون نتيجة جريان الإطلاق هاهنا أنّ وجوب الوضوء لا يكون مقيّدا بوجوب الصلاة ، ولازم ذلك عدم توقّف وجود الصلاة على وجود الوضوء ؛ إذ ينتفي بانتفاء أحد الاشتراطين اشتراط الآخر أيضا.

والحاصل : أنّ التمسّك بالإطلاق في هاتين الصورتين ينتج النفسيّة في دوران الأمر بين النفسيّة والغيريّة.

وأمّا في الصورة الثالثة فلا مجال للتمسّك بالإطلاق ؛ إذ لا إطلاق في البين ؛ لعدم جريان مقدّمات الحكمة. هذا تمام كلامه قدس‌سره مع التوضيح.

وهذا البيان مع أنّه بيان دقيق لا يخلو عن مناقشتين :

٩٧

الاولى : أنّ التعبير الرائج في باب مقدّمة الواجب بناء على القول بالملازمة : أنّ وجوب المقدّمة يترشّح عن وجوب ذي المقدّمة ، وهي عبارة اخرى عن العلّيّة والمعلوليّة ، فقد ذكرنا مفصّلا أنّ هذا لا ينطبق مع الواقعيّة لا في الأفعال المباشرة ولا في الأفعال التسبيبيّة ، فإنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة لا تكون علّة للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ، وإلّا تنتقض قاعدة كلّيّة توقّف الإرادة على المبادئ ؛ لأنّ معنى العلّيّة والمعلوليّة هو تحقّق المعلول قهرا بعد تحقّق العلّة ، فتنتقض القاعدة فيما نحن فيه ، مع أنّها ليست قابلة للتخصيص.

على أنّ لازم ذلك تحقّق الإرادة المتعلّقة بنصب السلّم بعد إرادة الكون على السطح لمن كان غافلا عن مقدّميّته ، مع أنّه ليس كذلك ؛ إذ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة كالإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة تحتاج إلى التصوّر والتصديق بالفائدة وسائر المبادئ ، إلّا أنّ الفائدة المترتّبة على ذي المقدّمة مطلوب نفسي للمريد ، والفائدة المترتّبة على المقدّمة مطلوب غيري له.

وهكذا في الأوامر الصادرة عن الموالي ؛ إذ النزاع في الوجوب الشرعي للمقدّمة لا في لابدّيّتها العقليّة ، فهو ليس قابلا للإنكار ، ومعنى العلّيّة تحقّق إيجاب المقدّمة من ناحية المولى بمجرّد إيجاب ذي المقدّمة وإن كان المولى غافلا عن مقدّميّتها ، ولا طريق لنا لإثبات هذا المعنى ، مع أنّه على القول بالعلّية لا بدّ من الالتزام بذلك.

المناقشة الثانية : أنّه اعتقد بتحقّق الاشتراطين المذكورين للواجب الغيري بالنسبة إلى الواجب النفسي ، ومعلوم أنّ تحقّق أحدهما يكفي للتمسّك بالإطلاق ، ولذا لا بدّ لنا من نفيهما معا ، وهو في اشتراط وجود الواجب النفسي بوجود الواجب الغيري ظاهر ؛ إذ المقصود منه إن كان هي المقدّميّة ـ بمعنى

٩٨

عدم تحقّق الأوّل بدون الثاني في الخارج ـ فهذا لا يستلزم التقييد ، فإنّ معنى المقدّميّة هو عدم إمكان كونه على السطح عادة بدون نصب السلّم ، ولكنّ النزاع في التقييد ودخالة نصب السلّم بعنوان القيد في مادّة «كن على السطح» ، وانتفاؤه بأصالة الإطلاق ، لا في المقدّمة.

ومن البديهي أنّ التقيّد لا يكون لازم المقدّميّة والتوقّف ، وليس معنى قوله : «كن على السطح» أنّ الواجب هو الكون على السطح المقيّد بنصب السلّم ، وإلّا يلزم أن تتحقّق لواجب قيود خمسة ـ مثلا ـ بالنسبة إلى مادّته إذا توقّف على مقدّمات خمسة ، ولا يمكن الالتزام بذلك.

نعم ، الأمر كذلك في كثير من المقدّمات الشرعيّة كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، ولكن تقيّد ذي المقدّمة بالمقدّمة أمر زائد على المقدّميّة ، والمقدّميّة بنفسها لا تقتضي التقييد ، فكلامه قدس‌سره ناش من الخلط بين المقدّميّة والقيديّة ، فلا يصحّ هذا الاشتراط.

وأمّا اشتراط وجوب الواجب الغيري بوجوب الواجب النفسي فهو يستفاد من مسألة الترشّح والعلّيّة والمعلوليّة ، كأنّه يدّعي أنّه تتحقّق ضابطة عقليّة هاهنا ، وهي أنّ كلّ معلول مقيّد ومشروط بوجود العلّة.

ولكنّ التحقيق : أنّ ما ثبت عقلا عبارة عن عدم تحقّق المعلول بدون تحقّق العلّة ، وأمّا اشتراط المعلول بوجود العلّة فهو أمر زائد بل خلاف الواقع ؛ لأنّ المعلول المعدوم مشروط بوجود العلّة أو المعلول الموجود. والأوّل لا يصلح للاتّصاف بوصف الشرط والقيد ، فإنّ القاعدة الفرعيّة تشمل جميع موارد الثبوت ، سواء كانت بصورة قضيّة حمليّة أو بصورة ثبوت الوصف ، فالمشروطيّة في حال عدم المعلول أمر غير معقول.

٩٩

والثاني لا يصحّ أيضا ، فإنّ رتبة الوصف متأخّرة عن ذات الموصوف دائما ، والمقدّم بالرتبة هاهنا عبارة عن المشروطيّة التي كانت وصفا للمعلوليّة ؛ إذ يتحقّق بها مورد المعلوليّة ، ورتبة المعلوليّة التي كانت موصوفة لها متأخّرة ، وهذا يكشف عن عدم تحقّق الاشتراط والمشروطيّة أصلا ، والمسلّم أنّ وجوب الواجب الغيري لا يتحقّق قبل تحقّق وجوب الواجب النفسي ، وهذا لا يستلزم أن يكون الوجوب النفسي شرطا لتحقّق الوجوب الغيري ولو فرضنا العلّيّة هاهنا ؛ إذ الشرطيّة أمر زائد على العلّيّة التامّة ، فليس في الواجب الغيري من الشرطين المذكورين أثر ولا خبر حتّى ينفى بأصالة الإطلاق ، فلا يصحّ التمسّك به لإثبات النفسيّة.

واختار استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) طريقا آخر لإثبات النفسيّة ، وهو أنّه : كما مرّ في البحث عن هيئة «افعل» أنّ البعث المتعلّق بشيء حجّة على العبد ، ولا يجوز له المخالفة اعتذارا بعدم إثبات كونه للوجوب أو الاستحباب ، وهذا لا يكون عذرا له لمخالفة العقلاء ، بل العقل والعقلاء يحكم بلزوم امتثال هذا الأمر ، وهذا يشبه بالاحتياط الوجوبي العقلي ، وهكذا فيما نحن فيه لا يكون احتمال كون الواجب مقدّمة للغير عذرا للمخالفة عند العقل والعقلاء ، بل المكلّف ملزم بالامتثال عند العقلاء ، ولكن لا يترتّب عليه أثر سوى لزوم الإتيان به ، ولا يثبت عنوان النفسيّة حتّى يثمر ثمرة عند حصول الوفاء بالنذر ونحو ذلك بإتيانه ، وهو جيّد.

وإذا دار الأمر بين النفسيّة والغيريّة مع فقدان أصل لفظي وحكم العقل تصل النوبة إلى الاصول العمليّة.

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٣٧٢ ، تهذيب الاصول ١ : ٢٤٣.

١٠٠