دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

تمسّكهم بالعامّ ، ولا أقلّ من الشكّ في تمسّكهم بعد عدم الترديد في مراد المتكلّم ، فإنّ زيدا لا يكون واجب الإكرام قطعا ، وسائر العلماء يكون واجب الإكرام قطعا ، فلا مجال للتمسّك بأصالة العموم هنا ، ولا يمكن لنا إحراز عدم عالميّة زيد ، وعدم نجاسة الغسالة بها.

ولذا قال صاحب الكفاية قدس‌سره : إنّ مورد التمسّك بأصالة الحقيقة هو الشكّ في مراد المتكلّم ، لا الشكّ في كيفيّة الاستعمال ، ويتحقّق هذا المعنى في أصالة العموم أيضا.

وأمّا إذا قال المولى : «أكرم العلماء» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا» ولكنّه كان مردّدا بين زيد العالم وزيد الجاهل ، فيجوز التمسّك بالعامّ ، والحكم بأنّ مراد المولى هو وجوب إكرام زيد العالم ، وانطباق الدليل الثاني على زيد الجاهل ، فاستفيد من أصالة العموم لاستكشاف مراد المولى.

ومعلوم أنّه لا مانع من ترتّب اللوازم والملزومات العقليّة والعاديّة على الاصول العقلائيّة ، بخلاف الاصول التعبّديّة ، نظير الاستصحاب ، ولذا يثبت فيما نحن فيه بأصالة العموم وجوب إكرام زيد العالم ، وهكذا يرفع بها الإبهام عن دليل «لا تكرم زيدا» ، وينطبق على زيد الجاهل ، هذا تمام الكلام في هذا الفصل.

٥٠١
٥٠٢

فصل

في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص

هل تكون أصالة العموم متّبعة مطلقا أو بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به؟ ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من بيان امور بعنوان المقدّمة وتحرير محلّ النزاع :

الأوّل : أنّ ملاك حجّيّة أصالة العموم هو الظنّ النوعي أو الظنّ الشخصي ، بمعنى أنّ حجّيّتها متوقّفة على حصول الظنّ الشخصي ، أم يكفي فيها حصول الظنّ النوعي؟ والتحقيق أنّ الملاك هو الظنّ النوعي ، كما يكون كذلك في سائر الاصول ، وإن كان المراد من الاصول العقلائيّة هي القواعد العقلائيّة ، ولا يكون لها أساسا يقينيّا ، ولذا تصل النوبة إلى المظنّة ، ويقع البحث بأنّ أيّ نوع منها يكون ملاك الحجّية؟

الأمر الثاني : أنّ حجّيّة أصالة العموم مختصّة بالمخاطبين والمشافهين أم لا؟ والتحقيق أنّها لا تختصّ بهم ، كما أنّ حجّيّة الظواهر تكون كذلك لجواز تمسّك غير المشافهين أيضا بهما.

الأمر الثالث : أنّ محلّ النزاع هنا العامّ الصادر عن المولى ، واحتمال كونه مخصّصا بدون أيّ علم تفصيلا أو إجمالا بالتخصيص ، وإلّا لا يبقى مجال

٥٠٣

لجريان أصالة العموم ، كما أنّه لا يبقى مجال لجريان أصالة الإباحة مع العلم الإجمالي بخمريّة أحد الإناءين.

الأمر الرابع : أنّ محلّ النزاع يختصّ بالمخصّصات المنفصلة ، فإنّ احتمال كون مراد المولى إكرام العلماء العدول أو غير الفسّاق ، وعدم ذكره المخصّص المتّصل خطأ مندفع بأصالة عدم الخطأ والاشتباه ، كما أنّ احتمال كون المراد في مثل : «رأيت أسدا» هو المعنى المجازي ، وعدم ذكر القرينة خطأ مندفع بأصالة عدم القرينة التي هي من فروع أصالة عدم الخطأ ، فلا يجري هذا النزاع في المخصّص المتّصل.

إذا عرفت ذلك فنقول : التحقيق في المسألة التفصيل الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ، وتوضيحه : أنّ العمومات على قسمين : قسم منها ما يكون في معرض التخصيص ويستعمل في مقام التقنين كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة ، بعد القطع باستفادة الشارع في مقام التفهيم والتفهّم من طريق العقلاء ـ أي بيان مقاصده من طريق الظواهر ـ وهكذا في مقام التقنين ، والطريق المتعارف بين العقلاء في هذا المقام هو جعل القانون بصورة كلّي في الابتداء ، ثمّ تقييده وتخصيصه بعنوان التبصرة بلحاظ الموانع الموجودة ، أو ترتّب المفاسد عليه في مقام الإجراء ؛ لعدم إحاطتهم علما بتمام جهات القانون بحسب الأزمنة والموارد ، إلّا أنّ الملاك في الشريعة هي المصالح المقتضية لجعل القانون بهذه الكيفيّة ، مثل ما اقتضى بيان القوانين والأحكام في صدر الإسلام بصورة التدريج والتدرّج ، ولذا نرى بيان العامّ في لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان مخصّصة في لسان الصادقين عليهما‌السلام ، وهذا دليل على عدم اتّخاذ الشارع طريقا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٥٠٤

خاصّا في مقام التقنين.

ففي هذا القسم من العمومات لا يجوز التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، وذلك لأجل أنّه لو لا القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل به قبله فلا أقلّ من الشكّ ، كيف وقد ادّعى الإجماع على عدم جوازه فضلا عن نفي الخلاف عنه؟! وهو كاف في عدم الجواز كما لا يخفى.

وأمّا إذا لم يكن العامّ كذلك كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات ، سواء كان بصورة الخبر ، مثل : «ما أجد أحدا في المدرسة» أم بصورة الإنشاء ، مثل : «واقرأ سلامي على العلماء» ، فلا شبهة في أنّ سيرة العقلاء على العمل به بلا فحص عن المخصّص ، فإنّ تخصيص هذا القسم من العامّ يوجب التناقض عندهم ، كما يكون العامّ والخاصّ متناقضين بحسب المنطق ؛ لأنّ نقيض الموجبة الكلّيّة هي السالبة الجزئية ، ولكنّهما في مقام التقنين لا يكونا كذلك عندهم.

ثمّ ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره الفرق بين الفحص عن المخصّص والفحص في الاصول العمليّة الجارية في الشبهات الحكميّة ؛ بأنّ الفحص عن المخصّص فحص عمّا يزاحم الحجّة ؛ لأنّ ظهور العامّ في العموم مقتض للحجّيّة إن لم يكن المزاحم الأقوى في البين ، فالفحص هنا فحص عمّا هو مزاحم للحجّة ، بخلافه في الاصول العمليّة فإنّه هنا محقّق لموضوعها ، ولا يتحقّق بدونه حجّة ، ضرورة أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مثلا متوقّف على إحراز كون المورد بلا بيان ، وهكذا حكمه بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين متوقّف على عدم الدليل المشخّص ولو أمارة ظنّية في البين ، وهكذا حكمه بالاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، ومعلوم أنّ إحراز عدم البيان وعدم الدليل

٥٠٥

المشخّص موقوفان على الفحص ، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان والمؤاخذة على المخالفة من غير برهان.

وإطلاق دليل الاصول الشرعيّة ـ مثل : لا تنقض اليقين بالشكّ ورفع ما لا يعلمون ـ وإن دلّ على الاستصحاب والبراءة في موردهما من غير تقييد بالفحص وجواز العمل بهما بدونه ، إلّا أنّ الإجماع بكلا قسميه قائم على تقييد الدليل به وعدم جواز العمل بهما قبل الفحص ، فالفحص هنا فحص عن وجود الحجّة ، وفي أصالة العموم فحص عن مزاحم الحجّة.

ولكنّك قد عرفت : أنّ اتّصاف الدليل بالحجّيّة متوقّف على تحقّق ثلاثة مراحل :

الاولى : تحقّق أصل ظهور اللفظ في معناه.

المرحلة الثانية : تحقّق أصالة الظهور بمعنى استعمال اللفظ في معناه الحقيقي.

المرحلة الثالثة : تحقّق أصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة والإرادة الجدّيّة ، وقد عرفت أيضا أنّ تخصيص العامّ مانع عن جريان أصالة التطابق ، واتّصاف الدليل العام بالحجّيّة متوقّف على عدم المخصّص ، ومع عدمه يتّصف بذلك ، فيرجع الفحص عن المخصّص أيضا إلى الفحص عن وجود الحجّة ، ولا تتحقّق الحجّة بدونه.

واستدلّ بعض العلماء (١) على عدم جريان أصالة العموم قبل الفحص بأنّا نعلم إجمالا بصدور المخصّصات والمقيّدات عن لسان الأئمّة عليهم‌السلام للعمومات والإطلاقات الواردة في الكتاب والسنّة ، ولا يصحّ ادّعاء تحقّق مجموعة من الروايات الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام في الكتب الأربعة ، بل عدّة منها لم تصل

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٢٠٢.

٥٠٦

إلينا قطعا.

ودليل عدم إيصالها جميعا إلينا أمران :

الأوّل : عدم توفّر وسائل الطبع والنشر.

الثاني : عداوة الخلفاء الغاصبين لحقوق الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام واتّخاذهم سياسة خاصّة تجاههم أدّت إلى محو الكثير من آثارهم وآثار أتباعهم عمدا ، وجعل أئمّة الضلال في مقابلهم ، ونحن نلمس الآثار السيّئة لهذا العمل الشنيع إلى الآن ، بل هو باق إلى زمان ظهور بقيّة الله الأعظم روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.

والحاصل : أنّا نعلم إجمالا بتحقّق المخصّصات والمقيّدات في لسان الأئمّة عليهم‌السلام للعمومات والإطلاقات ، وعدّة منها موجودة في الكتب الأربعة ، فلذا لا يصحّ التمسّك بها قبل الفحص عن المخصّص والمقيّد ؛ إذ العلم الإجمالي مانع عن جريان أصالة العموم ، كما أنّه مانع عن جريان استصحاب الطهارة وأصالة الطهارة في الإناءين المشتبهين ، كما أنّه مانع عن قيام البيّنة لنفي خمرية الإناءين المشتبهين ، فهذا العلم الإجمالي مانع عن التمسّك بأصالة العموم في جميع العمومات الواردة في الكتاب والسنّة ، وهكذا في بعضها ؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح.

وجوابه : أنّ هذا الاستدلال لا ينطبق على جميع موارد المدّعى ، بل يثبت به قسمة منه ، فإنّ العلم الإجمالي بورود مقيّدات ومخصّصات فيما بأيدينا من الكتب وإن كان مانعا من جريان أصالة العموم قبل الفحص ، إلّا أنّه بعد الفحص والعثور على المقدار المتيقّن منها الذي هو الأقلّ يوجب انحلال العلم الإجمالي ، ويكون الأكثر شبهة بدوية تجري فيه أصالة العموم ، كما هو الشأن

٥٠٧

في كلّ علم إجمالي تردّدت أطرافه بين الأقلّ والأكثر ، فإنّه لو سئل عن مقدار معلومه الإجمالي بأنّه يصل إلى حدّ وعدد يكون الزائد عليه مشكوكا لكان الجواب بأنّه لا علم لي بأزيد من ذلك ، ومقتضى ذلك هو أنّه لو عثر على ذلك المقدار المتيقّن ينحلّ العلم الإجمالي، ولا يجب الفحص في سائر الشبهات ، بل ينبغي أن تجري أصالة العموم بلا فحص ، مع أنّه واجب لدى العقلاء عند كلّ شبهة شبهة ، فلا بدّ أن يكون الملاك لوجوب الفحص غير العلم الإجمالي.

وقال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) في مقام الدفاع عن المستدلّ : بأنّ المعلوم بالإجمال تارة يكون مرسلا غير معنون بعنوان يشار إليه بذلك العنوان ، واخرى يكون معنون بعنوان يشار إليه بذلك العنوان ، وانحلال العلم الإجمالي بالاطّلاع على المقدار المتيقّن إنّما يكون في القسم الأوّل ، وأمّا القسم الثاني فلا ينحلّ بذلك ، بل حاله حال دوران الأمر بين المتباينين.

وضابط القسمين هو : أنّ العلم الإجمالي كلّيا إنّما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلوّ المنحلّة إلى قضيّتين حمليّتين ، وهاتان القضيّتان تارة تكونان من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والاخرى مشكوكة ؛ بحيث يكون العلم الإجمالي قد نشأ منهما ، ويكون العلم الإجمالي عبارة عن ضمّ قضيّة مشكوكة إلى قضيّة متيقّنة ليس إلّا ، كما إذا علم إجمالا بأنّه مديون لزيد وتردّد الدّين بين أن يكون خمسة دراهم أو عشرة ، فإنّ هذا العلم الإجمالي ليس إلّا عبارة عن قضيّة متيقّنة ، وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم ، وقضيّة مشكوكة ، وهي كونه مديونا لزيد بخمسة دراهم زائدا على الخمسة المتيقّنة ، ففي مثل هذا العلم الإجمالي ينحلّ قهرا بالعثور على المقدار المتيقّن ؛ إذ لا علم حقيقة بسوى ذلك ،

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٥٤٢ ـ ٥٤٦.

٥٠٨

والزائد عليه مشكوك من أوّل الأمر ، ولم يتعلّق العلم به أصلا ، وذلك واضح.

واخرى لا تكون القضيّتان على هذا الوجه ، بل تعلّق العلم بالأطراف على وجه تكون جميع الأطراف ممّا تعلّق العلم بها بوجه بحيث أنّ الأكثر على تقدير ثبوته في الواقع يكون ممّا أصابه العلم ، وذلك في كلّ ما يكون المعلوم بالإجمال معنون بعنوان كان قد تعلّق العلم به بذلك العنوان ، فيكون كلّ ما اندرج تحت هذا العنوان وانطبق عليه ممّا تعلّق العلم به ، سواء في ذلك الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم أنّه مديون لزيد بما في الدفتر ، فإنّ جميع ما في الدفتر من دين زيد قد تعلّق العلم به ، سواء كان دين زيد خمسة أو عشرة ، وفي مثل هذا ليس له الاقتصار على المقدار المتيقّن ؛ إذ لا مؤمّن له على تقدير ثبوت الأكثر في الواقع بعد ما أصابه العلم ، فحال العلم الإجمالي في مثل هذا الأقلّ والأكثر حال العلم الإجمالي في المتباينين في وجوب الفحص والاحتياط.

إذا عرفت ذلك فنقول : ما نحن فيه من العلم الإجمالي المعنون المقتضي للفحص التامّ الغير المنحلّ بالعثور على المقدار المتيقّن ؛ لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ في الكتب التي بأيدينا مقيّدات ومخصّصات ، فيكون نظير تعلّق العلم بأنّه مديون لزيد بما في الدفتر ، فتعلّق العلم بكلّ مقيّد ومخصّص وصل إلينا في الكتب ، وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم الإجمالي لا ينحلّ بالعثور على المقدار المتيقّن ، بل لا بدّ فيه من الفحص التامّ في جميع ما بأيدينا من الكتب. هذا تمام كلامه قدس‌سره ويكون قابلا للاستفادة في موارد متعدّدة بعنوان القاعدة.

ولكن استشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) : أوّلا بالنقض ، وهو : أنّ

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

٥٠٩

عنوان ما في الدفتر علامة وخصوصيّة للدين ، ومعلوم أنّه يتحقّق في جميع الديون نظير هذه الخصوصيّة من حيث زمان الدين ومكانه وغايته ، مثل : تردّد الدين الذي أخذه في أوّل الشهر أو في سفر مكّة بين خمسة دراهم وعشرة دراهم ، ولا شكّ في أنّ نسبة هذين العنوانين إلى الأقلّ والأكثر أيضا على السواء ، فلا فرق بين هذه العناوين وعنوان ما في الدفتر ، ولازم بيانه قدس‌سره لزوم الاحتياط في جميع موارد الديون المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، مع أنّه لم يلتزم بذلك.

وثانيا بالحلّ ، وهو : أنّ المعلوم بالإجمال قد يكون عنوانا متعلّقا بنفسه للحكم الشرعي ، وضعيّا كان أم تكليفيّا ، وقد لا يكون كذلك ، بل يكون مقارنا أو ملازما لما هو الموضوع للحكم الشرعي ، وعلى الأوّل قد يكون العنوان أمرا بسيطا غير مقدور للمكلّف بلا واسطة ـ بل مقدور له بالواسطة ـ وقد يكون أمرا مركّبا مقدورا له بلا واسطة.

ومثال الأوّل : هو الطهور في قول الشارع : لا صلاة إلّا بطهور ، بناء على كونه عبارة عن الحالة النفسانيّة التي تحصل عقيب الوضوء والغسل ، فهو متضمّن لبيان الحكم الشرعي الوضعي باسم الشرطيّة للطهور ، فإن شككنا في أجزاء سببه بين الأقلّ والأكثر فلا شكّ في لزوم الاحتياط ، فإنّه شكّ في المحصّل ، وبراءة الذمّة متوقّفة على إحراز الشرط ، وهو لا يحصل إلّا بإتيان الأكثر فلا بدّ من الاحتياط.

ومثال الثاني : هو الصلاة في صورة الشكّ في جزئيّة السورة مثلا لكونها مركّبة مردّدة بين الأقلّ والأكثر ، وتعلّق التكليف بنفسها ومقدورة للمكلّف بلا واسطة ، وهذا من موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين الذي

٥١٠

اختلف القوم في جريان أصالة الاشتغال فيه أو البراءة ، وصاحب الكفاية قدس‌سره قائل بجريان البراءة الشرعيّة فيه دون البراءة العقليّة (١).

ومثال الثالث عبارة عمّا نحن فيه.

والتحقيق : أنّه يعتبر في منجّزيّة العلم الإجمالي أن يكون المعلوم بالإجمال ـ نظير المستصحب ـ حكما شرعيّا أو موضوعا للحكم الشرعي ، مثل : العلم الإجمالي بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، أو العلم الإجمالي بخمريّة أحد المائعين ، ولا بدّ هاهنا من الاحتياط.

وأمّا إذا كان المعلوم بالإجمال مقارنا مع موضوع الحكم الشرعي أو ملازما له فلا منجّزيّة للعلم الإجمالي ، ولا يترتّب عليه في الشريعة حكم ، ففي مثال الدين موضوع الحكم الشرعي هو أداء الدين في صورة مطالبة الدائن وقدرة المديون على الأداء ، ولا أثر لإثباته في الدفتر ، وهذا لا يوجب للاحتياط ، أو الموضوع عبارة عن اشتغال الذمّة بالدين ، سواء كان مضبوطا في الدفتر أم لا ، وهكذا فيما نحن فيه ؛ إذ المانع من جريان أصالة العموم عند العقلاء هو العلم الإجمالي بالمخصّصات والمقيّدات ، لا العلم الإجمالي بوجود المخصّصات في الجوامع الروائيّة والكتب التي بأيدينا ، والعلم بالمخصّص نظير العلم بأصل الدين ، والفحص عن القدر المتيقّن منها كاف لجريان أصالة العموم ، والشكّ بالنسبة إلى المخصّصات الزائدة بدويّ ومجرى للبراءة ، فلا يصحّ دفاع المحقّق النائيني قدس‌سره عن المستدلّ بالعلم الإجمالي ، فإنّ عنوان ما في الدفتر وما في الجوامع الروائيّة لا يكون حكما شرعيّا ولا موضوعا له ، فكيف يكون موجبا للاحتياط؟

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٨ ـ ٢٣٥.

٥١١

نعم ، إذا علم الحال بأدنى فحص ومراجعة الدفتر بدون أيّ مشكلة يجب الفحص ولو كان الشكّ بدويّا ، إلّا في باب النجاسات ؛ لما رواه زرارة (١) في الصحيحة الثالثة.

__________________

(١) انظر : الوسائل ٣ : ٤٦٦ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٥١٢

فصل

في الخطابات الشفاهيّة

هل الخطابات الشفاهيّة ـ مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ تختصّ بالحاضر في المجلس التخاطب ، أو تعمّ غيره من الغائبين بل المعدومين؟

هذا ما جعله الاصوليّون عنوانا لمحلّ البحث ، ولكنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) يقول : إنّه يحتمل أن يكون محلّ النزاع أحد وجوه ثلاثة :

الأوّل : أن يقال : هل يصحّ تعلّق التكليف المتكفّل له الخطاب بالمعدومين كما يصحّ تعلّقه بالموجودين أم لا؟ وهذا العنوان يشمل ما لا يكون مقرونا بأداة الخطاب أيضا ، مثل : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٢) ، ففي هذا الفرض لا يعتبر عنوان خطاب المشافهة ، كما أنّه لا فرق في الموجودين في زمان التكليف بين الحاضرين والغائبين ، ويكون النزاع على هذا الاحتمال نزاعا عقليّا ، والحاكم فيه هو العقل.

الثاني : أنّه هل يصحّ خطاب المعدومين بالأداة الموضوعة له كالنداء وضمير الخطاب عقلا أم لا؟ فيكون محور البحث في هذا الفرض هو المخاطبة ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢) آل عمران : ٩٧.

٥١٣

وينطبق عنوان الاصوليّين عليه ، ويجري هذا النزاع في الغائب الموجود في زمان التكليف أيضا ، ويكون النزاع على هذا الاحتمال أيضا نزاعا عقليّا.

الثالث : أنّ الألفاظ العامّة ، مثل : «الذين» و «الناس» الواقعة عقيب أداة الخطاب ، مثل : «يا أيّها» ، هل تعمّ الغائبين ـ بل المعدومين ـ بالوضع أم لا؟

توضيح ذلك : أنّ الظاهر من أداة الخطاب هو الاختصاص بالحاضرين الموجودين ، والظاهر من العناوين العامّة المذكورة هو شمول جميع المكلّفين إلى يوم القيامة ، والبحث في أقوائيّة ظهور أيّ منهما ، فيكون النزاع على هذا الوجه لغويّا. هذا تمام كلامه قدس‌سره.

ولكن سلّمنا أنّ المسألة على الاحتمالين الأوّلين مسألة عقليّة ، إلّا أنّ المسألة العقليّة قد تكون بديهيّة ، وقد تكون نظريّة ، وما يبحث عنه في علم الاصول هي العقليّة النظريّة ، فلا يصحّ تحرير محلّ النزاع بمثل ما ذكره في الاحتمال الأوّل والثاني ، فإنّ بطلان تعلّق البعث والزجر بالمعدوم مع وصف كونه معدوما ، وهكذا خطابه بالخطاب الحقيقي من البديهيّات العقليّة ، ولا يكون قابلا للبحث فضلا عن النزاع فيه في الأعصار والأمصار ، والاختلاف هنا يرشدنا إلى عدم صحّة تحرير محلّ النزاع بهذه الكيفيّة.

ولكن نسب إلى بعض علماء الحنابلة ـ كما ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (١) ـ قولهم بجواز خطاب المعدوم وتكليفه في حال المعدوميّة ، واستدلّوا بقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٢) ، بأنّه تعالى يوجّه التكليف قبل إيجاد شيء ووجوده بواسطة لفظ «كن» وبعد جعله مخاطبا

__________________

(١) الفصول الغروية : ١٧٩ ـ ١٨٣.

(٢) يس : ٨٢.

٥١٤

يصير موجودا ، فيصحّ خطاب المعدوم وتكليفه في حال المعدوميّة.

ويستفاد من هذا الاستدلال جعلهم أيضا محلّ النزاع أحد الاحتمالين المذكورين في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره مع أنّه يرد عليه.

أوّلا : أنّ المسألة العقليّة لا تحتاج إلى الاستدلال بالكتاب والسنّة بعد استقلال العقل في الدليليّة ، فلا يصحّ التمسّك بالآيات والروايات في المسائل العقليّة.

وثانيا : أنّ الآية الشريفة تكون في مقام بيان الإرادة التكوينيّة ـ يعني إذا تعلّقت إرادته التكوينيّة بإيجاد شيء فيوجد ـ ولا تكون في مقام بيان إرادته التشريعيّة حتّى تحتاج إلى الخطاب.

وثالثا : أنّ معنى الآية الشريفة معنى كنائي ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره والفلاسفة ، وهو أنّه لا يمكن تخلّف المراد عن الإرادة في الإرادة التكوينيّة ، بخلاف الإرادة التشريعيّة ، فلا يصحّ استدلال بعض الحنابلة حتّى نحتاج إلى جعل محلّ النزاع أحد الاحتمالين المذكورين في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

وهكذا لا يصحّ الاحتمال الثالث المذكور في كلامه قدس‌سره ، فإنّ كون المسألة لغويّة وإن كان لا ينافي البحث عنها في الاصول ككون هيئة «افعل» موضوعة للوجوب ومثله ، ولكنّها تحتاج إلى جعل العنوان أنّ أداة الخطاب هل تكون قرينة للتصرّف في العناوين العامّة أو العناوين العامّة تكون قرينة للتصرّف في أداة الخطاب؟

والحال أنّه لا يرى في الكلمات جعل العنوان بهذه الكيفيّة ، بل جعل العنوان في الكتب الاصوليّة أنّ الخطابات الشفاهيّة هل تعمّ الغائبين والمعدومين نظير الحاضرين أم لا؟ فلا تصحّ جميع الاحتمالات المذكورة في كلامه قدس‌سره أن يجعل

٥١٥

محلّا للنزاع.

والتحقيق : بعد امتناع تكليف المعدوم ومخاطبته معه عقلا أن يجعل محلّ النزاع أنّ شمول الأدلّة المتضمّنة للأحكام للمعدومين هل يستلزم توجّه التكليف إليهم ومخاطبتهم ، نظير الحاضرين والموجودين في زمان الخطاب أم لا يستلزم ذلك ؛ إذ يستفاد شمولها لهم من قاعدة الاشتراك في الحكم المستندة إلى الإجماع أو الضرورة؟

ولا بدّ لنا من ملاحظة كيفيّة جعل الأحكام في الشريعة بأنّها مجعولة بصورة القضيّة الخارجيّة أو بصورة القضيّة الطبيعيّة أو بصورة القضيّة الحقيقيّة ، ومعلوم أنّ الموضوع في القضيّة الطبيعيّة هو نفس الطبيعة والماهيّة ، بدون دخالة أيّ نوع من الوجود فيه ، وعلامتها جواز إضافة كلمة الماهيّة إلى الموضوع ، مثل : «الإنسان حيوان ناطق» ، وإن احتاج تشكيل القضيّة إلى الوجود الذهني ـ يعني تصوّر الموضوع والمحمول ـ ولكن لا مدخليّة له في أصل القضيّة ، وإلّا تكون القضيّة كاذبة ؛ لعدم إمكان حمل الإنسان الموجود في الذهن على الحيوان الناطق الموجود فيه ؛ لكونهما فردين من الوجود.

والموضوع في القضيّة الخارجيّة هو الموجود بالفعل والمحقّق في الخارج ، مثل : أن يقول المرجع الواجب الإطاعة : «إنّ مشاركة العلماء في تشييع جنازة المرحوم الگلپايگاني قدس‌سره واجبة» ، ومن البديهي أنّ هذا الحكم يختصّ بالأفراد الموجودين بالفعل ، ولا يشمل الموجودين في الماضي والمستقبل.

والموضوع في القضيّة الحقيقيّة أفراد الطبيعة القابلة للصدق على الموجود في الحال والاستقبال ، مثل : «كلّ نار حارّة» ، فإنّ لفظة «نار» بوحدتها لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة ، وقد ذكرنا مكرّرا أنّ الطبيعة وإن كانت متّحدة مع الأفراد

٥١٦

بالوجود الخارجي ، ولكنّها لا تدلّ عليها ولا تحكي عنها ، بخلاف الأفراد فإنّها تدلّ بالدلالة التضمّنيّة على الطبيعة ، فكلمة «النار» لا تحكي إلّا عن ماهيّة النار ، ولكن بعد جعلها مضاف إليه لكلمة الكلّ الذي يدلّ بحسب الدلالة الوضعيّة على استيعاب أفراد مدخوله يكون معناها : أنّ كلّ فرد من أفراد طبيعة النار حارّة ، وهذا الحكم لا يختصّ بالأفراد الموجودة بالفعل ، بل يشمل الأفراد التي تتحقّق في المستقبل أيضا.

لا يقال : إنّ هذا المعنى يتنافى مع القاعدة الفرعيّة ، أي ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ؛ بأنّه كيف يمكن اتّصاف النار التي لم تتحقّق بعد بأنّها حارّة؟

فإنّا نقول : إنّ المراد من قضيّة «كلّ نار حارّة» هو تحقّق الاتّحاد بين النار الواقعيّة والحقيقيّة والحرارة ، يعني إذا تحقّقت النار في الخارج تتّصف بأنّها حارّة.

نكتة :

أنّ دلالة كلمة «كلّ» على استيعاب الأفراد تكون بمعنى نظارتها إلى الكثرة بدون خصوصيّاتها الفرديّة ، فمعنى «كلّ نار حارّة» أنّ كلّ النار الموجودة بالفعل أو فيما يأتي تتّصف بأنّها حارّة ، بلا فرق بين أنواع منشأها ، وخصوصيّاتها الزمانيّة والمكانيّة ، فلا يمكن التفكيك بين النار والاتّصاف بالحرارة.

نكتة اخرى :

إذا قال قائل : «كلّ إنسان حيوان ناطق» هل هي قضيّة طبيعيّة أم حقيقيّة؟ مع أنّ الحيوان الناطق وصف لماهيّة الإنسان.

٥١٧

وجوابه : أنّ مثل هذا التعبير لا يصدر من الحكيم الملتفت ؛ إذ لا تترتّب على الإتيان بلفظة «كلّ» فائدة ، ولا تحتاج الطبيعة إليها ، ولا يصحّ اتّصاف الوجود خاصّة بالوصف المذكور.

ولكن يقتضي ظاهر عبارة المحقّق النائيني قدس‌سره أنّ نسبة المعدومين والموجودين في القضيّة الحقيقيّة على السواء ؛ إذ المعدومون ينزّلون بمنزلة الموجودين ، وهذا الفرض والتقدير يكون مجوّزا لحمل المحمول عليها نظير حمله على الموجودين ، فالموضوع في القضيّة الحقيقيّة عبارة عن الأفراد الموجودة ، سواء كانت موجودة بالحقيقة أم بالتنزيل.

والتحقيق : أنّ الاستعمالات العرفيّة لا تساعد على هذا التفسير ، فإنّ القضيّة الحقيقيّة ممّا يكون متداولا في الاستعمالات ، ولكن لا يلتفت أحد من المستعملين إلى أنّ لها أفرادا موجودة بالفعل وأفرادا موجودة بالتنزيل ، وما يساعده الوجدان ونظر أهل المعقول أنّه لا بدّ في القضيّة الحقيقيّة من وجود الموضوع ، وكلمة الكلّ في مثل : «كلّ نار حارّة» تدلّ على استيعاب الأفراد ، ومعلوم أنّ الاتّصاف بالفرديّة يتوقّف على وجود النار خارجا ، وإذا تحقّقت الفرديّة تكون متّحدة مع الحرارة.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى أصل البحث ، وأنّ الأحكام الشرعيّة هل تختصّ بالموجودين والحاضرين وتشمل المعدومين من باب الاشتراك في الحكم ، أم لا؟ وحلّ المعضلة في الأدلّة الغير المشتملة على أداة الخطاب ، مثل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) يكون بصورة القضيّة الحقيقيّة ، ولا يتوهّم اختصاص الحكم فيها بالمستطيعين عند الخطاب ؛ لشموله لكلّ

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٥١٨

إنسان مستطيع بالاستطاعة الماليّة والبدنيّة والزمانيّة والسربيّة.

وأمّا في الأدلّة المشتملة على أداة الخطاب بعد شرطيّة وجود المخاطب وحضوره في مجلس التخاطب في الخطابات الحقيقيّة ، فقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في مقام حلّ المعضلة هنا : إنّ منشأ الإشكال هو توهّم وضع أداة الخطاب للخطاب الحقيقي ، ولكن كما أنّ الطلب يكون على قسمين : قسم منه طلب حقيقيّ ، وهو يرتبط بعالم النفس كارتباط العلم بها ، وقسم منه طلب إنشائي ، وهو إنشاء مفهوم الطلب بواسطة هيئة «افعل» وأمثال ذلك ، والموضوع له هو الطلب الإنشائي ، والداعي قد يكون الطلب الحقيقي وقد يكون الاختبار ونحو ذلك ، كذلك في أداة الخطاب يكون الموضوع له هو الخطاب الإنشائي ، ولكنّه يكون مقارنا ومتّحدا مع الخطاب الحقيقي ، وقد لا يكون كذلك ، إلّا أنّها تنصرف إلى الخطاب الحقيقي عند الإطلاق بدون القرينة ، ولا فرق في الخطاب الإنشائي بين الموجود والمعدوم ، بل بين النباتات والجمادات من حيث صحّة الاستعمال ، ولذا لا يكون خطاب المؤمنين الغير الموجودين بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) مستحيلا.

وهكذا في أداة الاستفهام يكون الموضوع له هو الاستفهام الإنشائي ، والداعي قد يكون الاستفهام الحقيقي ، وقد يكون الإنكار ، وقد يكون التقرير وأمثال ذلك ، وهكذا في باب التمنّي والترجّي ، ولذا لا يصحّ الإشكال على الاستفهام والتمنّي والترجّي الواردة في القرآن ؛ بأنّ لازم هذه العناوين جهل المستفهم والمتمنّي والمترجّى لاستعمالها في معناها الحقيقي. هذا تمام كلامه قدس‌سره

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦٥.

(٢) المائدة : ١.

٥١٩

بتلخيص وتوضيح.

والتحقيق : أنّ عنوان البحث بأنّ الخطابات الشفاهيّة هل تختصّ بالحاضرين أم تشمل الغائبين والمعدومين أيضا ، ثمّ التمثيل لها بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ليس بصحيح ؛ إذ المخاطب في الخطابات القرآنية هو الباري تعالى ، ولا دخل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها إلّا تبليغها وتبينها بعد الوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّه لا شاهد لتشكيل مجلس التخاطب عند نزول كلّ آية منها حتّى يكون الحاضرون القدر المتيقّن من المخاطبين ، والحال أنّ الخطاب الشفاهي بمعنى كون المخاطب في مقابل المخاطب واستماع الخطاب من لسانه مستحيل في حقّ الباري ؛ لاستلزامه الجسميّة ، فلا محالة تكون الخطابات القرآنيّة خارجة عن دائرة هذه المسألة.

على أنّ ذكر كلمة «قل» في الخطابات المصدّرة بها أقوى شاهد لعدم كونها من الخطابات الشفاهيّة المرتكزة في أذهاننا ، مع أنّه لا دليل لتشكيل مجلس التخاطب من الكافرين بعد نزول سورة «الكافرون» ، وذلك لأنّ القرآن كتاب الله ، كما عرّف نفسه بكتاب مبين ، وكتاب لا ريب فيه ، ونحو ذلك.

ولا بدّ من الالتفات إلى أمرين :

الأوّل : أنّه لا بدّ لكلّ نبيّ من المعجزة المناسبة لما هو شائع في عصره وزمانه مثل : جعل العصا ثعبانا بيد موسى عليه‌السلام في عصر شيوع السحر ، وإحياء الأموات وشفاء الأبرص والأكمه على يد عيسى عليه‌السلام في عصر شيوع الطبابة ، وإتيان القرآن بواسطة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصر شيوع الفصاحة والبلاغة في أوساط العرب.

الأمر الثاني : أنّ دليل كون القرآن المعجزة البارزة والكاملة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

٥٢٠