دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

الأوّل : أن يكون الوجوب عبارة عن نفس البعث والتحريك الاعتباري أو الوجوب ينتزع عنه ، وهو يكون منشأ لانتزاع حكم المولى.

الثاني : أن يكون الحكم عبارة عن الإرادة المتحقّقة في نفس المولى ومتعلّقة بهذا البعث والتحريك الاعتباري ، ويعبّر عنها بالإرادة التشريعيّة ؛ إذ البعث والتحريك فعل اختياري للمولى ، وكلّ فعل اختياري مسبوق بالإرادة ، فنفس الإرادة المطلقة الكائنة في نفس المولى هو الحكم والتكليف.

الثالث : أن يكون الحكم عبارة عن الإرادة المذكورة ، ولكنّها تكون مقيّدة بقيد الإظهار والإبراز ، لا مطلقا كما قال به المحقّق العراقي قدس‌سره.

وتظهر نتيجة الاحتمالات في ما نحن فيه بأنّه على القول بالاحتمال الأوّل يصحّ التعبير على المبنى المشهور في الواجب المشروط ؛ بأنّه كما لا يتحقّق البعث والتحريك الاعتباري قبل تحقّق الشرط كذلك لا يتحقّق الحكم والتكليف قبله.

وأمّا على القول بالاحتمال الثاني والثالث فلا بدّ من القول بأنّ البعث والتحريك لا يتحقّق قبل تحقّق الشرط ، فإنّه يكون من قيود الهيئة لا المادّة ، ومفادها عبارة عن البعث والتحريك الاعتباري ، فلا يتحقّق المقيّد قبل تحقّق قيده ، ولكنّ الحكم والتكليف يتحقّق قبله ، فإنّه عبارة عن الإرادة المتعلّقة بالبعث والتحريك ، وإن كان المراد معلّقا ومقيّدا بقيد المجيء ـ مثلا ـ إلّا أنّه لا يرتبط بالإرادة ، والشاهد على تحقّقه صدور الأمر في ضمن الجملة الشرطيّة عن المولى ، ولذا قال المحقّق العراقي قدس‌سره بعد تسليم نظر المشهور في الواجب المشروط بثبوت الحكم قبل تحقّق القيد ، وتترتّب على هذه المسألة ثمرات متعدّدة.

٦١

ولكن قبل البحث في تلك الثمرات لا بدّ من التحقيق في حقيقة الحكم ، وأنّه في الواقع عبارة عن الإرادة المذكورة أو عبارة عن نفس البعث والتحريك الاعتباري؟ وتدلّ عدّة مؤيّدات على أنّه لا يكون سوى البعث والتحريك الاعتباري شيئا نسمّيه الحكم والتكليف ، مع أنّ تحقّق الإرادة في نفس المولى لا يكون قابلا للإنكار :

الأوّل : عبارة عن ارتكاز العقلاء ، فإنّهم بعد السؤال عن الوجوب في قول المولى : «إن جاءك زيد فأكرمه» يقولون : إنّه عبارة عن مفاد هيئة «أكرم» ، وليس ملاك الحكم في ارتكازهم غيره.

المؤيّد الثاني : أنّه لا فرق بين الإيجاد والوجود بحسب الواقع والماهيّة عند الفلاسفة ، إلّا بإضافة الإيجاد إلى الفاعل بخلاف الوجود ، وهذه النسبة تتحقّق بين الإيجاب والوجوب أيضا ، ولا فرق بينهما إلّا بالاعتبار ، ولا شكّ في أنّ الإيجاب يتحقّق بهيئة «افعل» ، وبقول المولى : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، لا بالإرادة الحاصلة في نفسه ، فالوجوب أيضا يتحقّق بهيئة «افعل» ، ولازم ذلك أن يكون الوجوب عبارة عن مفاد هيئة «افعل» ، وإلّا يلزم أن يتحقّق بين الوجوب والإيجاب فرقا ماهويّا.

المؤيّد الثالث : أنّ الحكم على قسمين : تكليفي ووضعي ، ولو كان الحكم عبارة عن الإرادة التشريعيّة فهل يمكن الالتزام بهذا المعنى في الأحكام الوضعيّة؟ فإنّ الملكيّة ليست بحكم للشارع ، بل الحكم عبارة عن الإرادة التشريعيّة المتعلّقة بثبوت الملكيّة عقيب البيع الصحيح وإن لم يكن هذا المعنى ممتنعا ولكنّه مخالف لارتكاز أهل الشرع ، ولا وجه للتفكيك بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة من هذه الجهة ، ولعلّ هذا الكلام كان مستهجنا عند

٦٢

المتشرّعة.

وعلى هذا المبنى لا تكليف ولا حكم ولا بعث ولا تحريك قبل تحقّق الشرط ، بخلاف مبنى الشيخ والعراقي قدس‌سره ، وإذا كان الأمر كذلك يرد على المشهور إشكال ، وهو أنّ المأمور به إن كان متوقّفا على مقدّمة لو لم نحصّلها قبل تحقّق الشرط لا يمكن تحصيلها بعده ، فعدم تحصيلها قبل تحقّق الشرط يوجب تفويت المأمور به ، كقول المولى لعبده : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، وعلم العبد بأنّ مجيئه يتحقّق في يوم الجمعة ، وفي صورة عدم شراء الطعام في يوم الخميس لا يمكن تحصيله يوم الجمعة لتعطيل السوق وانسداده ، وفي الشرعيّات مثل علم العبد بعدم إمكان تحصيل الطهارة بعد الوقت إن لم يحصّلها قبله ، وما وظيفة العبد في أمثال هذه الموارد؟ فهل يجب عليه تحصيل المقدّمة قبل تحقّق الشرط أم لا؟ ومعلوم أنّه لا يصحّ القول بالوجوب ؛ إذ لا معنى لاتّصاف المقدّمة به قبل اتّصاف ذي المقدّمة به وإن قلنا بعدم الوجوب ، والمفروض أنّه لا يمكن له أن يصلّي بعد الغروب ـ مثلا ـ ويعبّر عن هذه المقدّمات بالمقدّمات المفوّتة.

وجوابه يتوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّه كما ذكرنا سابقا عند التطرّق إلى ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره ـ بأنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة تترشّح من الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ، أو أنّ الوجوب يسري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة ـ أنّه ليس المراد من الترشّح أنّ إرادة المقدّمة لا تحتاج إلى المبادئ من التصوّر والتصديق بفائدة وأمثال ذلك ، بل لا بدّ فيها من تحقّق جميع المبادئ كالإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ، والمقصود من الترشّح أنّ الغرض المتعلّق بذي المقدّمة غرض أصلي ، والغرض المتعلّق بالمقدّمة غرض تبعي ، فإنّها تجب لتحصيل

٦٣

إمكان الوصول إلى الغرض الأصلي.

وهكذا في كلمة «السريان» فإنّه ليس المراد أنّه يسري الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة بحيث لا يحتاج وجوبها إلى الإرادة ومبادئها ، فإنّ كليهما يحتاج إلى الإرادة التشريعيّة ، والقائل بالملازمة يقول : إنّا نستكشف من إيجاب المولى لذي المقدّمة عن اختيار وإرادة إيجابه المقدّمة أيضا عن اختيار وإرادة ، ومنكر الملازمة ينكره.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ ملاك وجوب المقدّمة عبارة عن أنّ المأمور به لا يمكن تحقّقه في الخارج بدونها ، وحينئذ إذا رجعنا إلى العقل فهو يحكم بوجوب المقدّمة قبل تحقّق المجيء في المثال ، فإنّ الإهمال في المقدّمة يوجب تفويت المأمور به ويكشف العقل أنّ المولى أيضا أوجب المقدّمة قبله ؛ لتحقّق هذا الملاك. هذا على القول بالملازمة ، وأمّا على القول بإنكار الملازمة فتكفي اللابدّيّة العقليّة المتحقّقة في المقام ، فالإشكال مدفوع ، والحقّ مع المشهور.

الثاني : المعلّق والمنجّز

اخترعه صاحب الفصول (١) بقوله : إنّ الوجوب إذا تعلّق بالمكلّف به ولم يتوقّف على أمر غير مقدور ـ كالمعرفة ـ فيسمّى منجّزا ، وما تعلّق وتوقّف حصوله في الخارج على أمر غير مقدور ـ كالوقت في الحجّ ـ فيسمّى معلّقا ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة ، ويتوقّف فعله على مجيء وقته ، وهو غير مقدور له.

ويحتمل أن يكون المراد من المعرفة في كلامه معرفة أحكام الله تعالى

__________________

(١) الفصول الغروية : ٧٩ ـ ٨٠.

٦٤

والتكاليف ، ويحتمل أن يكون المراد منه معرفة الله تعالى ومعرفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعرفة الأئمّة عليهم‌السلام ، والأقوى هو الأخير. وعلى كلا الاحتمالين لا تتوقّف المعرفة على أمر غير مقدور ، فالواجب المعلّق والمنجّز مشتركان في خصوصيّة واحدة ، وهي فعليّة التكليف فيهما ، ويفترقان في توقّف أحدهما على أمر غير مقدور ، وعدم توقّف الآخر عليه.

وقال في آخر كلامه : إنّ قلت : ما الفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط؟ قلت : إنّ التعليق في الواجب المشروط يرتبط بأصل التكليف والوجوب ، وفي الواجب المعلّق يرتبط بالواجب. هذا تمام كلامه بتصرّف منّا.

ولا بدّ لنا قبل البحث عن إمكان الواجب المعلّق واستحالته من بيان نكتة ، وهي : أنّ بحثنا يكون في مقدّمة الواجب ، ومن مقدّمات هذا البحث مسألة تقسيم الواجب إلى أقسام كما ذكرنا ، ولا بدّ لكلّ تقسيم من أثر ونتيجة في بحث مقدّمة الواجب ، وإلّا لكثرت تقسيماته لكثرة الخصوصيّات ، مثل : أنّ الواجب إمّا بدني وإمّا مالي ، وإمّا مختلط من الأمرين ، وأنّ الواجب إمّا جوانحي ـ كاصول العقائد ـ وإمّا جوارحي كالصلاة ، إلى غير ذلك.

وأثر تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط أنّ الواجب إن كان مطلقا فتجب مقدّمته بناء على القول بالملازمة بلحاظ فعليّة وجوب ذي المقدّمة ، وإن كان مشروطا فلا تجب المقدّمة قبل تحقّق الشرط ؛ إذ لا وجوب قبل تحقّق الشرط لذي المقدّمة على القول المشهور ، فلا معنى لوجوب المقدّمة قبله.

إذا عرفت هذا فنسأل صاحب الفصول : ما الذي يترتّب على تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز من الفائدة في بحث مقدّمة الواجب؟ ويمكن أن يجيب بأنّه إذا ثبت التكليف بمجرّد الاستطاعة في باب الحجّ فيجب تحصيل

٦٥

مقدّماته ، وإن لم يتحقّق وجوب الحجّ بمجرّدها فلا يجب تحصيل المقدّمات ، وهذا أثر يترتّب على هذا التقسيم.

ولكنّ التحقيق : أنّه ليس بجواب عن الإشكال ، فإنّ الأثر المذكور يترتّب على الخصوصيّة المشتركة التي كانت بمنزلة الجنس لهما وهي فعليّة التكليف ، لا على الخصوصيّة المميّزة ، ولا بدّ من ترتّب الأثر على الفصل المميّز ؛ إذ التقسيم يدور مداره ، فلا أثر لهذا التقسيم في بحث مقدّمة الواجب ، وهذا الإنكار من المحقّق الخراساني قدس‌سره (١).

وأنكر الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز بنحو آخر ، بلحاظ أنّه اختار في الواجب المشروط أنّ الشرط لزوما من قيود المادّة ، وادّعى امتناع كونه من قيود الهيئة ثبوتا وإثباتا ، على خلاف القواعد العربيّة وظاهر المشهور ، ولذا قال : إنّ المعلّق بما فسّره صاحب الفصول يكون من مصاديق المشروط وأقسامه مع إضافة في المعلّق ، وهي كون الشرط غير مقدور للمكلّف ، فصحّة هذا التقسيم مبني على مغايرة المشروط للمعلّق ، والمفروض اتّحادهما ، فتقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط يغني عن تقسيمه إلى المعلّق والمنجّز.

ولكنّ التحقيق : أنّه بناء على القول المشهور في الواجب المشروط ، ومع قطع النظر عن إنكار صاحب الكفاية قدس‌سره يرد على التقسيم المذكور إشكال آخر ، وتوضيحه يتوقّف على مقدّمتين :

الاولى : أنّ الظاهر من قضيّة «إن جاءك زيد فأكرمه» عدم تحقّق وجوب

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٦١.

(٢) مطارح الأنظار : ٥١.

٦٦

الإكرام قبل تحقّق المجيء ، فلا معنى لوجوب المقدّمات أيضا ، إلّا أنّ المكلّف علم بتحقّق المجيء غدا ، وعلم أيضا امتناع تحصيل المقدّمات فيه عادة بلحاظ تعطيل السوق ، وحينئذ يلزمه العقل بتحصيل المقدّمات قبل فعليّة وجوب ذي المقدّمة ، فإنّ ذلك لا يكون عذرا له عند العقلاء لترك الإكرام في ظرفه.

الثانية : أنّ المرتكز في أذهاننا بما أنّنا متشرّعة أنّ ارتباط الوقت بالحجّ عين ارتباطه بالصلاة ، كما أنّ قبل تحقّق الوقت لا يكون تكليف بصلاة أصلا كذلك في الحجّ قبل تحقّق الوقت لا يوجد تكليف بحجّ أصلا ، فلا فرق بينهما في نحو الإضافة إلى الوقت ، ومعلوم أنّه لا معنى للواجب المعلّق في الصلاة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّما اخترع صاحب الفصول التقسيم المذكور في المقام لأنّه لاحظ المستطيع ورأى أنّه لو قلنا بعدم وجوب الحجّ بعد الاستطاعة ، وبتبعه قلنا بعدم وجوب تحصيل المقدّمات ينتهي إلى تفويت الحجّ على من كان في بلاد بعيدة ، ولذا قال : لا بدّ لنا من القول بفعليّة وجوب الحجّ بمجرّد الاستطاعة ووجوب تحصيل المقدّمات بتبعه من حينه ، مع أنّه لا إلزام في اختيار هذا القول.

وبعد التوجّه إلى المقدّمتين فإنّ الاستطاعة أحد الشرطين لوجوب الحجّ ، والشرط الثاني عبارة عن الوقت ، فلا يتحقّق الوجوب قبل تحقّق الوقت أصلا ، ولمّا كان الوقت بلحاظ كونه قطعي التحقّق ـ بخلاف الاستطاعة ـ يكون المكلّف ملزما من جهة العقل بتحصيل المقدّمات بمجرّد الاستطاعة ، مع أنّ الحجّ لا يجب قبل الموسم ، وهو توهّم أنّ طريق حلّ الإشكال منحصر بالالتزام بهذا التقسيم ، والحال أنّه لا ضرورة تقتضي لذلك بعد وجود طريق آخر لحلّه كما بيّناه.

٦٧

ولا يخفى أنّ جميع الإشكالات المذكورة على التقسيم المذكور مشتركة في جهة واحدة ، وهي عبارة عن عدم ادّعاء استحالة الواجب المعلّق في كلام المستشكلين ، بل يستفاد من تعبيراتهم إمكان تحقّقه كما لا يخفى.

البحث في إمكان الواجب المعلّق واستحالته :

قال جماعة من المحقّقين الاصوليّين باستحالته ، ومنهم المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) في حاشيته على الكفاية ، ولكن لا بدّ لنا قبل الخوض في هذا البحث من مراجعة الوجدان بعد التوجّه إلى الإلزامات المعمولة بين العقلاء ، فإنّا حين ملاحظة الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة لا نرى من الاستحالة فيها أثر ولا خبر ؛ إذ المراد المربوط بالإرادة التكوينيّة قد يكون أمرا فعليّا ، مثل إرادة القعود حين القيام ، وهو يتحقّق بمجرّد تحقّق الإرادة ، وقد يكون أمرا استقباليّا ، مثل إرادة الحضور في جلسة الدرس غدا وإرادة إتيان صلاة المغرب ، ومعلوم أنّ تحقّقه يتوقّف على مضي الزمان ، مع أنّ تحقّق حقيقة الإرادة في كلا الموردين لا يكون قابلا للإنكار وجدانا.

وهكذا في الإرادة التشريعيّة إذا لاحظنا أوامر الآباء بالنسبة إلى الأبناء وأوامر الموالي بالنسبة إلى العبيد ، فنرى أنّ المبعوث إليه قد يكون أمرا فعليّا ، وقد يكون أمرا استقباليّا كقولنا : «سافر غدا» و «ادخل السوق» و «اشتر اللحم ساعة اخرى» ، والوجدان أقوى شاهد على عدم استحالة هذه الأوامر وأن يكون الوجوب فعليّا ومطلقا والواجب استقباليّا ومقيّدا بمعنى زمان خاصّ ، فيكون الواجب المعلّق من حيث الإمكان مسألة وجدانيّة.

وما قال به المحقّق الأصفهاني قدس‌سره من استحالته ينقسم إلى قسمين : قسم منه

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٧٣ ـ ٧٩.

٦٨

يرتبط بالإرادة التكوينيّة ، وقسم آخر بالإرادة التشريعيّة ، ويعتقد بأنّه يمتنع تعلّق الإرادة التكوينيّة بالأمر الاستقبالي ، ومنشأ كلامه عبارة عن تعريف المشهور للإرادة بأنّها الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد.

وتفصيل كلامه بتصرّف : أنّ النفس في وحدتها كلّ القوى ، فهي مع وحدتها ذات منازل ودرجات ، وكلّ منها باسم خاصّ ، منها : القوّة العاقلة التي تدرك في الفعل فائدة عائدة إلى جوهر ذاتها أو إلى قوّة من قواها. ومنها : ما يعبّر عنه بالقوّة الشوقيّة ، وهي مرتبة ينبعث للنفس عندها شوق إلى ذلك الفعل ، وهذه القوّة أيضا ذات مراتب ودرجات من حيث النقص والكمال ، فإذا لم يجد مزاحما ومانعا يخرج ذلك الشوق من حدّ النقصان إلى حدّ الكمال الذي عبّر عنه تارة بالإجماع ، واخرى بتصميم العزم ، وثالثة بالقصد والإرادة ، فينبعث من هذا الشوق البالغ حدّ نصاب الباعثيّة تحريك وهيجان في مرتبة القوّة العاملة المنبثّة في العضلات ، فتحصل منها حركة في مرتبة العضلات.

ومن الواضح أنّ الشوق وإن أمكن تعلّقه بأمر استقبالي إلّا أنّ الإرادة ليس نفس الشوق بأيّة مرتبة كان ، بل الشوق البالغ حدّ النصاب بحيث صارت القوّة الباعثة باعثة بالفعل ، وحينئذ فلا يتخلّف عن انبعاث القوّة العاملة المنبثّة في العضلات ، وهو هيجانها لتحريك العضلات الغير المنفكّ عن حركتها ، ولذا قالوا : إنّ الإرادة هي الجزء الأخير من العلّة التامّة لحركة العضلات.

فمن يقول بإمكان تعلّقها بأمر استقبالي إن أراد حصول الإرادة التي هي علّة تامّة لحركة العضلات ، إلّا أنّ معلولها حصول الحركة في ظرف كذا ، ويكون التأخّر دخيلا في ذات المعلول ، كالسفر المقيّد بكونه غدا ، فلا بدّ من تأخّر المعلول ، وإلّا فليس بمعلول.

٦٩

فنقول : هذا عين انفكاك العلّة عن المعلول ، بل هو أولى بالفساد ؛ لتأخّر المعلول عن علّته ، فهو كاعتبار أمر محال في مرتبة ذات الشيء.

وإن أراد أنّ ذات العلّة وهي الإرادة موجودة من قبل ، إلّا أنّ شرط تأثيرها حضور وقت المراد ، وحيث لم يكن موجودا ما أثّرت العلّة في حركة العضلات.

ففيه : أنّ حضور الوقت إن كان شرطا في بلوغ الشوق حدّ التأكّد والنهاية وخروجه من النقص إلى الكمال ، فهو عين ما رمناه من أنّ حقيقة الإرادة لا تتحقّق إلّا حين إمكان انبعاث القوّة المحرّكة للعضلات.

وإن كان شرطا في تأثير الشوق البالغ حدّ التأكّد الموجود من أوّل الأمر فهو غير معقول ؛ لأنّ بلوغ القوّة الباعثة في بعثها إلى حدّ التأكّد مع عدم انبعاث القوّة العاملة تناقض بيّن ، ولا يخفى أنّ الإرادة تفارق سائر الأسباب ، فإنّ الأسباب الأخر ربما يكون لوجودها مقام ولتأثيرها مقام آخر ، فيتصوّر اشتراط تأثيرها بشيء دون وجودها ، بخلاف الإرادة فإنّها عبارة عن الميل والشوق المؤكّد النفساني ، فهو إن تحقّق في حدّ التأكّد والكمال لا ينفكّ عن التأثير في القوّة العاملة ، وإن لم يتحقّق في هذا الحدّ فلا تكون هناك إرادة.

وأمّا ما في الكفاية من لزوم تعلّق الإرادة بأمر استقبالي إذا كان المراد ذا مقدّمات كثيرة ، فإنّ إرادة مقدّماته قطعا منبعثة عن إرادة ذيها ، وتوضيح الحال فيه : أنّ الشوق إلى المقدّمة بما هي مقدّمة لا بدّ من انبعاثه إلى الشوق إلى ذيها ، لكنّ الشوق إلى ذيها لمّا لم يمكن وصوله إلى حدّ تتحرّك القوّة العاملة به لتوقّف فعل المراد على مقدّمات ، فلا محالة يقف في مرتبته حتّى يمكن الوصول ، وهو بعد حصول المقدّمات ، فالشوق إلى المقدّمة لا مانع من بلوغه حدّ

٧٠

الباعثيّة الفعليّة ، بخلاف الشوق إلى ذيها.

وأمّا الإرادة التشريعيّة فهي ـ كما عرفت في محلّه ـ إرادة فعل الغير منه اختيارا ، وحيث إنّ المشتاق إليه فعل الغير الصادر باختياره فلا محالة ليس بنفسه تحت اختياره ، بل بالتسبيب إليه بجعل الداعي إليه وهو البعث نحوه ، فالشوق المتعلّق بفعل الغير إذا بلغ حدّا ينبعث منه الشوق نحو البعث الاعتباري الفعلي كان إرادة تشريعيّة ، وإلّا فلا. ومن المعلوم أنّه إذا تحقّق البعث من المولى ولم يتحقّق الانبعاث في العبد فليس بلحاظ كونه في مقام العصيان ، بل بلحاظ كون الواجب أمرا استقباليّا ، فليس ما سمّيناه بعثا في الحقيقة بعثا ؛ إذ لا يعقل الانفكاك بينهما عند انقياد المكلّف وتمكينه ، وعليه فلا يعقل البعث نحو أمر استقبالي. هذا تمام كلامه ملخّصا.

ويرد عليه إشكالات متعدّدة ، منها : أنّ أساس كلامه مبتن على أنّ للنفس مراتب ودرجات ، وللقوّة الشوقيّة أيضا مراتب ومنازل ، وأعلى درجة الشوق عبارة عن الإرادة ، ولذا عرّفها المشهور بالشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد.

ولكن التحقيق بعد عدم كون تعريف المشهور أمرا تعبّديّا : أنّه لا سنخيّة بين الشوق والإرادة أصلا ؛ إذ الشوق بجميع مراتبه حالة انفعاليّة للنفس ؛ لأنّ الإنسان بعد وقوعه تحت تأثير فوائد أمر ـ مثلا ـ يحصل له الشوق إليه ، والإرادة حالة فعليّة وقوّة عاملة للنفس ، وتؤيّده التعبيرات العرفيّة ، مثل قولنا : «هل تريد شراء الدار؟» وقولنا : «هل لك شوق إلى شراء الدار؟» ، إذ لا شكّ في أنّه يتحقّق بينهما كمال الفرق عند العرف ، ومنشأ الإرادة ـ كما بيّناه مفصّلا ـ عبارة عن النفس التي أعطاها الله تعالى ، وشعبة من الخلّاقيّة كخلقها

٧١

الإرادة والموجود الذهني.

وقال بعض العلماء بأنّه لا دخل للشوق حتّى في مبادئ الإرادة بعنوان ضابطة كلّيّة ، وإن لم يكن تحقّقه كثيرا ما قابلا للإنكار ، ثمّ استدلّ بأنّ الإنسان قد يريد أمرا في حال كونه كارها له وغير مشتاق إليه كشرب الدواء للمريض ، ومثل إرادة قطع اليد أو الرجل المعيوبة لحفظ النفس عن خطر الموت وأمثال ذلك ؛ إذ لا شكّ في عدم كون المراد في هذه الموارد مشتاق إليه ، فلا ضرورة تقتضي لأن يكون الشوق جزء مبادئ الإرادة.

ولكنّه مخدوش بأنّه سلّمنا أنّ المراد في الموارد المذكورة لا يكون مشتاقا إليه ، إلّا أنّ مبادئ الإرادة عبارة عن تصوّر الشيء المراد والتصديق بفائدته ، والشوق إلى هذه الفائدة بحيث يكون المشتاق إليه عبارة عن الفائدة ، لا الشيء المراد بلحاظ كون الشوق أمرا انفعاليّا يوجد في النفس بواسطة الفائدة. ومعلوم أنّ فائدة قطع اليد والرجل ـ أي سلامة نفس الإنسان ـ متعلّق للشوق ، فيتحقّق الشوق في هذه الموارد أيضا ، إلّا أنّ متعلّقه ليس نفس المراد ، بل هو عبارة عن فائدة المراد.

والإشكال المهمّ ـ كما مرّ ـ أنّ سنخ الإرادة والشوق ومقولتهما متغايران ؛ إذ يتحقّق في الشوق جنبة التأثّر والانفعال ، وفي الإرادة جنبة المؤثّريّة ، ولذا لا يصحّ تعريف المشهور للإرادة بوجه ، كما يؤيّده العرف أيضا.

وأمّا قوله قدس‌سره : بأنّ الإرادة الجزء الأخير للعلّة التامّة ، وإذا تحقّقت الإرادة لا بدّ من ترتّب المعلول عليها ـ أي تحريك العضلات نحو المراد ـ إذ لا يعقل الانفكاك بين العلّة والمعلول» ، ففيه : أوّلا : أنّه ما الدليل على هذا المدّعى؟ فهل يكون أمرا تعبّديّا بدلالة الآية أو الرواية ، أم ثبت هذا المدّعى في علم الفلسفة

٧٢

والمباحث العقليّة؟ ولا بدّ من استناد المسألة إلى دليل ، والحال أنّه ليس في كلامه من البرهان أثر ولا خبر.

وثانيا : أنّه لا بدّ لنا من ملاحظة الواقعيّات والحقائق الخارجيّة ، وهل يتحقّق هذا المعنى في المراد الخارجي أم لا؟ لعلّ أفضل مورد لتحقيقه فيما لو تعلّقت إرادة الإنسان بنفس تحريك العضلات ؛ إذ المراد لا يحتاج إلى المقدّمة والفاصلة من حيث الزمان نحو إرادة حركة اليد والقيام أو القعود وأمثال ذلك ، فإنّه تتحقّق حركة اليد بمجرّد إرادة حركة اليد. هذه واقعيّة لا شكّ فيها ، إلّا أنّ تحقّق شيء عقيب شيء آخر بلا فاصلة ليس معناه تحقّق العلّيّة والمعلوليّة بينهما ، وأنّ الإرادة علّة لتحقّق المراد بعنوان الجزء الأخير للعلّة التامّة ، فإنّه يشترط لحركة اليد بعد الإرادة سلامة اليد أوّلا ، وعدم المانع من حركته ثانيا ، وواقعيّة ثالثة باسم تعلّق الإرادة بحركة اليد المقيّدة بكونها في الحال لا بمطلق الحركة وإن تحقّقت في زمان الاستقبال ، ومع هذا لا يرتبط وقوع حركة اليد عقيب الإرادة ؛ بأن تكون الإرادة الجزء الأخير للعلّة التامّة في هذا المورد أيضا ، بل يرتبط عدم الانفكاك المذكور بأمر آخر ، وهو أنّ الله تعالى جعل من باب التفضّل والعناية أعضاء الإنسان وجوارحه مقهورة لنفسه ، والنفس قاهرا لها ، بحيث إنّ النفس إذا أرادت حركة اليد لا تقدر اليد على العصيان والطغيان في مقابلها ، فلا يكون في هذا المورد من العلّيّة والمعلوليّة أثر ولا خبر ، فإنّ معنى تحقّق الجزء الأخير للعلّة ليس إلّا تحقّق المعلول بلا فاصلة ، والحال أنّا نرى توقّف حركة اليد بعد الإرادة على تحقّق الشرط وعدم المانع ونحو ذلك.

وأمّا إذا تعلّقت الإرادة بغير حركة العضلات ـ مثل إرادة شرب الماء الذي

٧٣

يتوقّف على أخذ ظرف الماء من الأرض وجعله محاذيا للفم ـ فالتحقيق هاهنا يحتاج إلى مقدّمتين :

الاولى : أنّ تقدّم العلّة على المعلول تقدّم رتبي لا زماني كما قال به الأعاظم ، بل يتحقّق بينهما التقارن من حيث الزمان.

الثانية : أن تشخّص الإرادة بواسطة المراد وتعذّر الإرادة ووحدتها تابع لتعذّر المراد ووحدته ، كما أنّ العلم تعدّده ووحدته تابع لتعدّد المعلوم ووحدته ، فلا يمكن تعلّق إرادة واحدة بمرادين متعدّدين ، حتّى أنّ الأمر في المقدّمة وذي المقدّمة أيضا كان كذلك ، مثلا : الكون على السطح يتوقّف على نصب السلّم ، ولا يمكن عادة بدونه ومع ذلك تتعدّد الإرادة بتعدّدهما.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المثال ونقول : لم لا يتحقّق شرب الماء بعد إرادته مع أنّه لا يكون بين العلّة والمعلول تأخّر زماني؟ ولم يحتاج شرب الماء بعد تحقّق الجزء الأخير للعلّة التامّة إلى أخذ ظرف الماء وجعله محاذيا للفم؟! وفاصلة إرادة أخرى مع تحقّق مرادها بين إرادة شرب الماء وتحقّق المراد أقوى شاهد على عدم العلّيّة والمعلوليّة بينهما ، ففي هذا المثال أيضا لا يتحقّق المراد بعد تحقّق الإرادة ، بل يتوقّف على تحصيل المقدّمة وتحقّق الإرادة المقدّميّة.

وقال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره عند ذكره هذا المثال مجيبا المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ كما مرّ ـ : إنّ الإرادة لا تتعلّق بذي المقدّمة قبل تحقّق مقدّماتها ، بل تتعلّق به مرحلة من الشوق ، وإذا تحقّقت المقدّمات يتأكّد الشوق المذكور ويتبدّل بالإرادة.

ولكنّه مخالف للوجدان ؛ إذ الإنسان الذي كان في معرض التلف من شدّة

٧٤

العطش لا يعقل القول بأنّه لا يريد شرب الماء ، بل تتعلّق به مرحلة من شوقه ؛ لأنّه تتعلّق به إرادته بعد أخذ الماء وجعله محاذيا لفمه ، مع أنّه عبّر كثيرا ما بأنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة تترشّح وتتولّد من الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ، فكيف يعقل القول بأنّ الإنسان المؤمن الذي يكون في مقام تحصيل الطهارة لا يريد إتيان الصلاة؟!

والتحقيق : أنّه تتحقّق في هذه الموارد الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة قبل تحقّق المقدّمات ، ومن أنكر ذلك فقد عاند الوجدان ، فقوله بعدم تعلّق الإرادة التكوينيّة بأمر استقبالي لا شكّ في بطلانه.

وأمّا مقالته في الإرادة التشريعيّة من أنّ لازم القول بالواجب المعلّق الانفكاك بين البعث والانبعاث ، مع أنّه لا يتصوّر الانفكاك بينهما كالكسر والانكسار ، ففيه : أوّلا : أنّه وقع الخلط في كلامه بين البعث والانبعاث التكويني والبعث والانبعاث الاعتباري ، وما لا يعقل الانفكاك بينهما ويشابه الكسر والانكسار هو الأوّل دون الثاني ، فإنّ ما تدلّ عليه هيئة «افعل» ويعبّر عنه بالأمر عبارة عن البعث الاعتباري الذي يوجد الداعي في المكلّف فقط.

ويشهد لذلك أنّ البعث والانبعاث في الواجبات المنجّزة إن كان مثل الكسر والانكسار معناه أن لا يقدر أحد من المكلّفين على العصيان ؛ إذ العصيان مساو مع عدم تحقّق الانبعاث ، فأين الانبعاث في الكفّار والعصاة؟! مع أنّه لا شكّ في كونهم مكلّفين بالأحكام ويعاقبون على تركها ، فلم لا يتحقّق الانبعاث؟! فلا تصحّ المقايسة بين البعث والانبعاث التكويني والبعث والانبعاث الاعتباري.

والتحقيق : أنّ في مورد تحقّق الانبعاث عقيب البعث ليس المؤثّر في

٧٥

الانبعاث نفس البعث ـ كما قال به استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره ـ بل المؤثّر فيه الخوف من المؤاخذة والعقاب أو الطمع في الثواب ؛ إذ العباد نوعا ما يعبدون الله خوفا من النار أو طمعا في الجنّة إلّا القليل من الأولياء والصلحاء ، كما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (١) فلا دخل للبعث في الانبعاث إلّا في جعل الموضوع للإطاعة والعصيان ، وهكذا في أوامر الموالي العرفيّة.

وثانيا : مع قطع النظر عمّا ذكرناه وبعد كون التقارن الزماني بين العلّة والمعلول ممّا لا شبهة فيه يرد عليه ما في الكفاية ، من أنّه لا بدّ من الالتزام بالانفكاك بين البعث والانبعاث حتّى في صورة تحقّق الانبعاث عقيبه ؛ لأنّ البعث إنّما يكون لإحداث الداعي للمكلّف إلى المكلّف به ، وهذا لا يمكن إلّا بعد تصوّر الأمر وما يترتّب على موافقته من المثوبة وعلى تركه من العقوبة ، ولا يكاد يكون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة يكون البعث نحو أمر متأخّر عنه بالزمان ولا يتفاوت طوله وقصره فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان في نظر العقل الحاكم في هذا الباب ، وهو تخلّف الانبعاث عن البعث وعدمه ، فإن كان مستحيلا فلا فرق في الاستحالة بين المعلّق والمنجّز ، وإن كان ممكنا فكذلك أيضا.

وثالثا : لو سلّمنا أنّه لا يجوز الانفكاك بين البعث والانبعاث ، ولكن ليس معناه التقارن بينهما من حيث الوجود بلا فصل بحيث إن تعلّق غرض المولى يتحقّق المبعوث إليه غدا ، بل معناه أنّ المبعوث إليه إن كان هو السفر في الغد فلا بدّ من تحقّقه غدا ، وإن كان هو السفر في الحال فلا بدّ من تحقّقه في الحال ،

__________________

(١) البحار ٧٠ : ١٨٦.

٧٦

ولذا لا يثبت بهذا البيان استحالة الواجب المعلّق ، ولا نحتاج إلى بيان سائر أدلّة الاستحالة بعد مناقشة كلام المحقّق الأصفهاني قدس‌سره ، فالواجب المعلّق من حيث الإمكان غير قابل للمناقشة.

وقد مرّ أنّ منشأ هذا التقسيم وما اضطرّ صاحب الفصول لاختراعه أنّه لاحظ تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة ، ومعناه عدم اتّصافها به قبل اتّصافه ، وأنّه لاحظ أيضا في الفقه الفتوى بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذي المقدّمة ، مثل وجوب تحصيل الزاد والراحلة ونحو ذلك للمستطيع قبل الموسم ، ووجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر في ليلة شهر رمضان ونحو ذلك ، فالتزم بهذا التقسيم فرارا من هذه المشكلة.

وقد مرّ ما حكيناه عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره وأنّه قائل برجوع جميع القيود في الواجبات المشروطة إلى المادّة والمأمور به ، ولا فرق بين شرطيّة الوقت في الصلاة وشرطيّته في الحجّ ؛ إذ يتحقّق التكليف في كليهما قبل الوقت ، فلا إشكال في وجوب تحصيل مقدّمات الحجّ قبل الموسم ، ووجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر ، فلا نحتاج على هذا المبنى إلى التقسيم المذكور أصلا.

ولا يخفى أنّ القيود على قسمين : قسم منها من الامور الغير الاختياريّة للمكلّف مثل قيديّة الوقت وفعل الغير ونحو ذلك ، ويرجع هذا القسم من القيد إلى الهيئة والوجوب على المشهور ، وإلى المادّة والواجب على مبنى الشيخ قدس‌سره ، ولا إشكال في البين.

وقسم منها من الامور الاختياريّة للمكلّف كالاستطاعة للحجّ ، وعلى المشهور لا يجب تحصيله على المكلّف ، فإنّه مقدّمة الوجوب ، وقد مرّ أنّها

٧٧

خارجة عن بحث مقدّمة الواجب ، وأمّا على مبنى الشيخ فقد يتوهّم في بادئ النظر أنّه يجب على المكلّف تحصيله ، فإنّه من المقدّمات الاختياريّة للواجب ، فيرجع قولنا : «يجب عليكم الحجّ إن استطعتم» إلى أنّه يجب عليكم الحجّ في الموسم مستطيعين ، كقولنا : يجب عليكم الصلاة متطهّرين ، فيجب تحصيل الاستطاعة على المكلّف مع أنّه لم يقل به أحد.

وجواب الشيخ على القاعدة عبارة عن أنّه سلّمنا أنّ ظاهر المسألة يكون كذلك ، ولكنّ التحقيق أنّ كيفيّة أخذ القيود الاختياريّة في المأمور به مختلفة ؛ بأنّ كثيرا منها تعلّق غرض المولى بلزوم تحصيلها كالستر والطهارة والاستقبال في الصلاة ـ مثلا ـ وفي بعض الموارد تعلّق غرضه بأنّه إذا اتّفق حصول هذا القيد يجب تحقّق المأمور به ، فيتحقّق الفرق بين دخالة قيد الطهارة في الصلاة والاستطاعة في الحجّ للمصالح التي يراها المولى.

هذا ، ولكن يمكن الإشكال عليه بأنّه كما يتحقّق وجوب الحجّ قبل الموسم كذلك يتحقّق وجوبه قبل الاستطاعة من دون فرق بينهما على هذا المبنى ، وعلى القول بالملازمة يجب تحصيل المقدّمات قبل الاستطاعة ، ولعلّ الشيخ أيضا لا يلتزم بهذا الكلام بعد كونه بعيدا عن أذهان المتشرّعة.

واختار المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) طريقا آخر لحلّ العويصة وهو : أنّ شرطيّة شيء للمأمور به قد تكون بصورة الشرط المتقدّم ، وقد تكون بصورة الشرط المقارن ، وقد تكون بصورة الشرط المتأخّر. ومعنى الشرطيّة المتأخّرة أنّه إذا تحقّق الشرط في ظرفه فيكشف عن تحقّق المشروط في ظرفه ، كالإجازة في بيع الفضولي بناء على كاشفيّتها بالكشف الحقيقي ، وعلى هذا تكون مدخليّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٦٣ ـ ١٦٤.

٧٨

الاستطاعة في وجوب الحجّ بنحو الشرط المقارن ، ومدخليّة الموسم فيه بنحو الشرط المتأخّر ، فكما أنّ المشتري في البيع الفضولي إن كان قاطعا بتعقّب إجازة المالك بعد شهر ـ مثلا ـ يجوز له التصرّف في المبيع من الآن ، كذلك المستطيع يجب عليه تحصيل المقدّمات بلحاظ علمه بتحقّق الموسم ، فتتّصف المقدّمة بالوجوب الغيري بهذه الكيفيّة.

وقد مرّت مناقشتنا في كيفيّة تصوير الشرط المتأخّر في كلامه قدس‌سره بعد تسليم أصل التصوير للشرط المتأخّر والمتقدّم ، ولكن لا شكّ في صحّة الاستفادة منه في حلّ العويصة هاهنا.

وما ذكرناه في حلّ العويصة مبتن على إنكار أصل تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة ، وحاصله : أنّ بعد العلم بعدم قدرة المكلّف على تحصيل المقدّمات في الموسم وأنّ الموسم قطعي التحقّق يحكم العقل بتحصيلها قبله وإن كانت شرطيّة الموسم في وجوب الحجّ بنحو الشرط المقارن ، وهكذا في مثل وجوب غسل الجنابة قبل طلوع الفجر في ليلة شهر رمضان ، وعلى هذا المبنى إن دلّت رواية على وجوب تحصيل المقدّمات المذكورة ـ مثلا ـ قبل وقت المأمور به تحمل على الإرشاد إلى حكم العقل لا على بيان حكم شرعي مولوي.

والطريق الآخر لحلّ العويصة ما يستفاد من ذيل كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وهو : أنّ بعد استحالة وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها لو نهض دليل على وجوبها قبل زمان الواجب ـ كالغسل في الليل في شهر رمضان ـ فلا محالة يكون وجوبها نفسيّا.

ولا يقال : إنّه لا مطلوبيّة في المقدّمات للمولى حتّى تكون من الواجبات

٧٩

النفسيّة.

لأنّا نقول : إنّ الواجب النفسي على قسمين : أحدهما ما يكون نفس الواجب تمام الغرض للمولى ولا يرتبط بواجب آخر ، وثانيهما : ما يكون واجبا نفسيّا ، لكنّه للتهيّؤ لواجب آخر حتّى يستعدّ المكلّف لإتيان ذي المقدّمة. وإلى هنا تمّت الطرق لحلّ العويصة.

نكتة : أنّ جميع القيود في الواجبات المشروطة يرجع إلى المادّة على مبنى الشيخ قدس‌سره ، خلافا لظاهر القضيّة الشرطيّة لتحقّق قرينة توجب التصرّف في الظاهر ، وهي امتناع تقييد الهيئة بلحاظ كونها ذات معنى حرفي ، ولكن مع ذلك تختلف القيود من حيث لزوم التحصيل وعدمه ؛ إذ لا شكّ في عدم لزوم تحصيل القيود الغير الاختياريّة ، مثل الوقت في باب الصلاة والحجّ ، والمجيء في مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه».

وأمّا القيود الاختياريّة فتكون على قسمين : قسم منها لا يجب تحصيله كالاستطاعة في الحجّ ، وقسم منها يجب تحصيله كالطهارة في الصلاة.

هذا على مبنى الشيخ قدس‌سره ، وعلى المشهور تكون القيود على قسمين : قسم منها ما يرجع إلى المادّة ، وقسم منها يرجع إلى الهيئة ، والقيود الراجعة إلى الهيئة أيضا على قسمين : قسم منها ما يكون بنحو الشرط المقارن ، ومعناه عدم تحقّق الوجوب قبل تحقّقه ، وأكثر القيود يكون من هذا القبيل.

وقسم منها يكون بنحو الشرط المتأخّر ، ومعناه تحقّق الوجوب قبل تحقّقه ، وهذا نادر لا يتحقّق إلّا في مورد ليس لنا طريق للتخلّص سواه.

وأمّا القيود الراجعة إلى المادّة فهو على قسمين أيضا : قسم منها لازم التحصيل وأكثرها من هذا القبيل ، وقسم منها غير لازم التحصيل نظير ما مرّ

٨٠