دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

لاحظها لا بدّ له من الالتزام بمسألة الترتّب ، وأدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ونحن نذكر فرعا واحدا منها ونبحثه حتّى تظهر حقيقة الحال ، ولا بدّ لنا قبل بحثه من طرح أمرين بعنوان المقدّمة :

الأوّل : أنّ الفرع الذي يستدلّ به لوقوع الترتّب لا بدّ أن يكون واجدا لخصوصيّات ما نحن فيه ، وهما خصوصيّتان : الاولى : أن يتحقّق بين الواجبين التضادّ في مقام العمل ، ولا يمكن الجمع بينهما ، مثل عدم إمكان اجتماع السواد والبياض في جسم واحد في زمان واحد.

الخصوصيّة الثانية : أن يكون الواجب المهمّ مشروطا بشرط متأخّر عن الواجب الأهمّ من حيث الرتبة لا من حيث الزمان ، كما أنّ الأمر بالتوبة واشتراطه بعصيان الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ يتخيّل أن يكون من مصاديق مسألة الترتّب ، مع أنّه ليس كذلك ، فإنّ قبل تحقّق عنوان العصيان يتحقّق الأمر بالصلاة فقط ، وبعد تحقّقه يسقط هذا الأمر ويتحقّق الأمر بالتوبة.

الأمر الثاني : أنّ الفرع الذي يستدلّ به فيما نحن فيه لا بدّ أن يكون فرعا فقهيّا مسلّما بين الفقهاء ، لا من الامور الفقهيّة الاختلافيّة بين القائل بالترتّب ومنكره.

إذا عرفت ذلك فنذكر ما هو المهمّ من الفروع المذكورة في كلام المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ومحصّل كلامه : أنّه لو فرض حرمة إقامة عشرة أيّام في بلد على المسافر لنهي الوالد أو النذر ـ مثلا ـ وفرضنا رجحان متعلّقه شرعا ، ولكنّه خالف النذر عملا وأقام فيه ، فلا إشكال في أنّه يجب عليه صوم شهر رمضان وإتمام الصلوات اليوميّة ، فقد توجّه إليه حرمة الإقامة ووجوب الصوم ، إلّا أنّ

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٢٢١

وجوب الصوم يكون مترتّبا على عصيان حرمة الإقامة ، فيكون عين الخطاب الترتّبي فيما نحن فيه من مسألة الضدّين ، وهذا واقع في الشريعة ، وأدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه.

وجوابه أوّلا : بعد ملاحظة ما ذكرناه بعنوان المقدّمة أنّ هذا الفرع فرع فرضي وجعلي لا واقعي ، فإنّ وجوب الصوم والإتمام لا يترتّب على الإقامة ، بل يترتّب على قصد الإقامة كما لا يخفى.

ولو فرضنا أن يكون متعلّق نذره عدم قصد عشرة أيّام في بلد كذا لا عدم الإقامة الخارجيّة فلا تتحقّق مسألة الترتّب أيضا ، فإنّ غرض القائل بالترتّب إثبات كلا التكليفين في آن واحد ورفع استحالته بالاشتراط ، وأمّا في هذا المثال فلا يكون كلاهما قابلا للاجتماع ، فإنّ قبل تحقّق قصد الإقامة منه لا يتحقّق التكليف بوجوب الصيام وإتمام الصلاة ، وبعد تحقّقه يسقط الأمر بوجوب الوفاء بالنذر.

وثانيا : أنّه لا يتحقّق التضادّ في مقام العمل بين عدم قصد الإقامة والصوم وإتمام الصلاة ؛ إذ يمكن الجمع بينهما ، وإن كان الصوم باطلا.

وثالثا : أنّه لا يتحقّق في هذا المثال الترتّب الظاهري فضلا عن الواقعي ، فإنّ الدليل الثاني مطلق مثل الدليل الأوّل ، ولا يكون مشروطا بعصيان الأمر الأوّل ، كشرطيّة الأمر بالتوبة بعصيان الأمر بالصلاة مثلا ؛ إذ الأوّل يحكم بوجوب الوفاء بالنذر مطلقا ، والثاني يحكم بوجوب الصوم والإتمام على قاصد إقامة عشرة أيّام مطلقا ، ولا يتحقّق بينهما التقدّم والتأخّر ولو من حيث الظاهر ، إلّا أنّه وقع قصد عشرة أيّام في مورد مصداقا لعصيان «أوفوا بالنذور» ، فلا يوجب الالتزام بالحكم الفقهي في هذا الفرع الالتزام بالقول

٢٢٢

بالترتّب.

وملخّص الكلام في هذه المسألة : أنّه اخترنا في أصل البحث أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه حتّى في الضدّ العامّ بمعنى النقيض والترك ؛ إذ القائل بالاقتضاء تمسّك لإثباته من طريق الملازمة أو المقدّميّة ، فقد مرّ مفصّلا أنّ عدم الضدّ لا يتّصف بالمقدّميّة ولا بالملازمة.

وثمرة هذا البحث عبارة عن حرمة الضدّ على القول بالاقتضاء ، سواء كان الضدّ أمرا عباديّا أم غير عبادي ، وعدم حرمته على القول بعدم الاقتضاء.

وثمرة اخرى تظهر فيما إذا كان الضدّ أمرا عباديّا عند المشهور ، وهي أنّ الأمر بالإزالة إن اقتضى النهي عن الصلاة فتقع هذه منهيّا عنها وتصير باطلة ؛ إذ النهي المتعلّق بالعبادة يقتضي فسادها ، وهذه الثمرة وقعت مورد النفي والإنكار ، وقد مرّ أنّ العبادة صحيحة سواء قلنا بالاقتضاء أم قلنا بعدم الاقتضاء ، أمّا على الأوّل فإنّ النهي مقدّمي وغيري لا نفسي ، وهو ليس بكاشف عن مبغوضيّة العبادة ولا يقتضي فسادها ، وعلى الثاني لا وجه لبطلانها ، فعلى كلا القولين تكون الصلاة مكان الإزالة صحيحة.

وقد مرّ ما ذكرناه عن الشيخ البهائي قدس‌سره (١) من إنكار الثمرة بطريق آخر ، حيث قال : إنّ الصلاة مكان الإزالة باطلة على كلا القولين ، أمّا على القول بالاقتضاء فلأنّها منهيّا عنها ، والنهي يقتضي الفساد ، وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فلأنّ العبادة تحتاج إلى الأمر ، ولا يمكن أن تكون الصلاة والإزالة معا مأمورا بها في آن واحد ، فبطلان الصلاة مستند إلى عدم الأمر.

__________________

(١) زبدة الاصول : ٨٢ ـ ٨٣.

٢٢٣

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بأنّ العبادة لا يحتاج في صحّتها إلى الأمر ؛ لأنّ تحقّق الملاك والمصلحة التامّة يكفي لصحّتها ، ومزاحمة الإزالة لا يوجب نقصا في الملاك والمصلحة.

وطريق آخر للجواب عنه : وجدان الأمر للصلاة. والطريق الذي اخترناه لوجدان الأمر عبارة عن عدم انحلال الخطابات العامّة وعدم شرطيّة العلم والقدرة للتكاليف ، وأنّه لا يتحقّق التضادّ بين الصلاة والإزالة من حيث الطبيعة والماهيّة ، ويتحقّق الأمر بهما في عرض واحد بصورة الكلّي ، لا بخطاب شخصي بدون الترتّب والطوليّة. ونتيجة الأهمّ والمهمّ عبارة عن أنّ المكلّف إن استفاد من قدرته بالنسبة إلى الأهمّ يكون معذورا بالنسبة إلى الأمر بالمهمّ ، وإن استفاد منها بالنسبة إلى المهمّ فلا يحكم العقل بمعذوريّته بالنسبة إلى الأمر بالأهمّ بعد إحراز الأهمّية ، بل يستحقّ العقوبة بالنسبة إليه.

ولكن على فرض رفع اليد عن هذا المبنى واختيار قول المشهور قلنا بأنّه لا يمكن تحقّق غرض القائل بالترتّب ـ يعني اجتماع الأمرين في زمان واحد ـ ورفع استحالته بالإطلاق والاشتراط ، فلا يمكن أن يقع الترتّب جوابا عن الشيخ البهائي قدس‌سره في مقام إنكار الثمرة. هذا تمام الكلام في بحث الترتّب ، ولا يخفى أنّه من المباحث المهمّة في علم الاصول.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢١٢.

٢٢٤

الفصل السادس

في أنّه هل يجوز الأمر للآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بعدم الجواز ، خلافا لأكثر المخالفين ، إنّما الإشكال في أصل محلّ البحث قبل تحقيق المسألة ، ولا شكّ في أنّ كلمة «يجوز» في عنوان المسألة ليس بمعنى الإباحة والجواز الذي يستعمل في لسان الفقهاء ، بل يكون بمعنى الإمكان ، والإمكان على نوعين في مقابل الاستحالة ، يعني : الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي ، في مقابل الاستحالة الذاتيّة والاستحالة الوقوعيّة ، والاستحالة الذاتيّة عبارة عمّا يكون محورا لجميع الاستدلالات في العالم ، والاستحالة الوقوعيّة ترتبط بممكن الوجود ، فإنّه إذا لم تتحقّق علّته يستحيل ويمتنع أن يقع في الخارج وإن كان بحسب الذات ممكنا متساويا النسبة إلى الوجود والعدم ، وإن تحقّقت علّته يجب أن يقع في الخارج ، ولكن يعبّر عنه بواجب الوجود بالغير وممتنع الوجود بالغير.

والبحث في أنّ المراد من الإمكان هل هو الإمكان الوقوعي أو الإمكان الذاتي؟ والظاهر أنّ كليهما لا يخلو من إشكال ؛ إذ البحث عن الإمكان الذاتي لا يكون من شأن الاصولي ، ولا يناسب المباحث الاصوليّة ، بلحاظ ارتباطه

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٢٢٥

بالمباحث الفلسفيّة ، هذا أوّلا.

وثانيا : يرد عليهما إشكال مشترك ، وهو : أنّ استعمال كلمة «العلم» في عنوان المسألة يوجب إخراجها عن الإمكان الوقوعي والذاتي ؛ إذ الممكن تابع لعلّته من حيث الوجود والعدم ، ولا دخل للعلم والجهل فيه ، مع أنّ معنى العنوان المذكور بعد إرجاع الضمير في كلمة «شرطه» إلى الأمر ـ أي هل يمكن أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الأمر أم لا؟ ـ يرجع إلى أنّ المعلول بدون تماميّة علّته هل يمكن وقوعه أم لا؟ ومن المعلوم بديهيّة الاستحالة وقوعا ، فتحرير محلّ النزاع مشكل.

ولكنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره بعد القول بعدم الجواز في عنوان المسألة وصدر كلامه قال في مقام التوجيه وتصحيح محلّ النزاع : نعم ، لو كان المراد من لفظ «الأمر» الأمر ببعض مراتبه ومن الضمير الراجع إليه بعض مراتبه الاخرى ـ بأن يكون النزاع في أنّ أمر الآمر يجوز إنشاؤه مع علمه بانتفاء شرطه بمرتبة فعليّته ، وبعبارة اخرى : كان النزاع في جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى مرتبة الفعليّة ؛ لعدم شرطه ـ لكان جائزا.

ثمّ قال : وقد عرفت سابقا أنّ داعي إنشاء الطلب لا ينحصر بالبعث والتحريك الجدّي حقيقة ، بل قد يكون صوريّا امتحانيّا ، وربما يكون غير ذلك.

وفيه : أنّ هذا القول مبتن على القول بتحقّق المراتب أو المرتبتين للحكم ، وقد أنكرنا هذا المبنى تبعا لاستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره وقلنا : إنّ الأحكام على قسمين : قسم منها إنشائيّة وتتوقّف فعليّتها على زمان ظهور وليّ الله الأعظم الحجّة الثاني عشر عليه‌السلام ، وقسم منها فعليّة وهي الأحكام التي وصلت إلينا

٢٢٦

بالكتاب والسنّة.

ولذا قال استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره بأنّه على القول بالاستخدام في مرجع الضمير الأولى رجوعه إلى المكلّف أو المكلّف به ، فيرجع محلّ النزاع إلى أنّه هل يجوز الأمر للآمر الحكيم مع علمه بأنّ المكلّف به لا يكون واجدا لشرط تعلّق التكليف به ؛ لعدم مقدوريّته للمكلّف ، وعلى هذا يكون هذا شعبة من شعب النزاع بين الأشاعرة والعدليّة في أنّ التكليف بمحال جائز من المولى الحكيم أم لا؟ مثل أن يقول المولى بخطاب واحد : يجب عليك الجمع بين الضدّين بعد اتّفاقهما على استحالة تكليف محال له ، مثل جعله شيئا واحدا مأمورا به ومنهيّا عنه في آن واحد ، فالأشاعرة قالوا بجوازه ، والعدليّة قالوا بالعدم ، ولكن بعد ملاحظة ما ذكرناه في بحث الترتّب نقول : إنّ أمره بخطاب شخصي ليس بجائز ، وهكذا أمره بخطاب عامّ على القول بالانحلال ، وهكذا على القول بعدم الانحلال في صورة فاقديّة أكثر المكلّفين لشرط تعلّق التكليف بهم ، وأمّا على القول بعدم الانحلال وواجديّة أكثرهم للشرط يجوز أمر الآمر بخطاب عامّ ولا مانع منه.

٢٢٧
٢٢٨

الفصل السابع

في أنّه هل تتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع أو بالأفراد؟

تجري في تحرير محلّ النزاع في هذا البحث احتمالات :

الأوّل : أن يكون المراد من الأفراد المذكورة في مقابل الطبائع والماهيّات في عنوان البحث وجودات الطبيعة بدون خصوصيّات فرديّة ، فيرجع النزاع إلى أنّ الأوامر والنواهي متعلّقة بالماهيّات أو متعلّقة بالوجودات ، وهذا البحث متفرّع على بحث أصالة الوجود وأصالة الماهيّة في الفلسفة ، والقائل بأصالة الوجود يقول بتعلّقها بالوجودات ، والقائل بأصالة الماهيّة يقول بتعلّقها بالماهيّات. ولكنّه يتحقّق لهذا الاحتمال مبعّدات :

الأوّل : أنّ لازم ذلك استعمال كلمة «الوجودات» مكان «الأفراد» في عنوان البحث الاصولي ، والأفراد عبارة عن الوجودات مع خصوصيّات فرديّة.

المبعّد الثاني : أنّ البحث بهذه الكيفيّة لا يكون بحثا اصوليّا بما هو اصولي ، بل هو بحث فلسفي ، ويظهر أحد نتائج الاختلاف بين أصالة الوجود وأصالة الماهيّة فيما نحن فيه ، مع أنّ ظاهر عنوان المسألة أنّه بحث اصولي.

المبعّد الثالث : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره وعدّة من المحقّقين يقولون بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع مع تصريحهم بأنّ القول بأصالة الماهيّة ، وأصالة

٢٢٩

الوجود في الفلسفة لا يوجب فرقا في مختارنا في هذه المسألة ، وهذا دليل على الفرق بين المسألتين.

الاحتمال الثاني أيضا مبتن على البحث الفلسفي والمنطقي ، وهو البحث في وجود الكلّي الطبيعي ؛ إذ المشهور قائل بأنّ وجوده عين وجود أفراده ، ولذا يصحّ التعبير بعد تولّد زيد ـ مثلا ـ أنّه وجد الإنسان كما يصحّ التعبير بأنّه وجد زيد ، بخلاف الرجل الهمداني فإنّه قائل بأنّ نسبة الكلّي إلى الأفراد والمصاديق مثل نسبة الأب إلى الأبناء ، فيحتمل أن يقول المشهور فيما نحن فيه بتعلّق الأوامر والنواهي بالأفراد ؛ إذ الطبيعي لا يكون متلبّسا بالوجود الاستقلالي في مقابل وجود الأفراد ، والقائلون بتعلّقها بالطبائع لا بدّ من تبعيّتهم للرجل الهمداني من القول بأنّ الطبيعي بمنزلة الأب للأفراد.

وفيه : أوّلا : أنّ لازم ذلك خروج المسألة عن المباحث الاصوليّة وجعلها من ثمرات ما يبحث في المنطق والفلسفة ، وهو خلاف الظاهر.

وثانيا : أنّ لازم هذا الاحتمال أن يكون القائل بتعلّق الأوامر والنواهي فيما نحن فيه تابعا للرجل الهمداني في المنطق ، مع أنّ المشهور بعد مخالفته قائل بتعلّقها بالطبائع ، وهذا أيضا لا يكون محلّا للنزاع.

الاحتمال الثالث : أن يكون محلّ النزاع متفرّعا على مسألة لغويّة وهي : أنّ الوضع في أسماء الأجناس التي تقع معروضة لهيئة «افعل» كالصوم والصلاة في الشريعة يكون عامّا ، والاختلاف فيها يكون في الموضوع له ، والقائل بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع يقول بأنّ الموضوع له فيها أيضا يكون عامّا ، وأمّا القائل بأنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ ؛ فلا بدّ له من القول بتعلّقها بالأفراد ، فإنّ هيئة «افعل» تكون بمعنى البعث والطلب ويتعلّق بالمادّة ، وإذا

٢٣٠

كان الوضع والموضوع فيها عامّا فلا بدّ من تعلّقها بالطبائع ، وإذا كان الوضع فيها عامّا والموضوع له خاصّا فلا بدّ من تعلّقها بالأفراد.

وفيه : أوّلا : أنّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ أمر غير معقول كما مرّ ؛ إذ لا يمكن ملاحظة الأفراد من ناحية العامّ بعد فرض تقوّمها بعوارض فرديّة ومشخّصات شخصيّة ، فلا ارتباط ولا سنخيّة بينها وبين ماهيّة الإنسان مثلا.

وثانيا : أنّ على فرض ابتناء هذه المسألة على البحث اللغوي فلا بدّ من الإشارة إليه في كلمات المستدلّين ، مع أنّه ليس في استدلالاتهم أثر ولا خبر من هذا الابتناء ، بل يستفاد من ظاهر كلامهم أنّ المسألة تكون مسألة عقليّة لا لغويّة.

وثالثا : أنّ على فرض أن يكون الوضع في أسماء الأجناس عامّا والموضوع له فيها خاصّا فلا يستلزم أن لا يكون للوضع العامّ والموضوع له العامّ مصداق ، بل يمكن أن يتحقّق له مصداق آخر حتّى يستدلّ به القائل بتعلّقها بالطبائع.

الاحتمال الرابع : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) حكى عن السكّاكي ادّعاء الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد من الألف واللام والتنوين لا يدلّ إلّا على الماهيّة ، فقد مرّ البحث في أنّ المصدر ليس مادّة للمشتقّات ، فإنّ هيئته أيضا تدلّ على معنى زائد على ما تدلّ عليه مادّته. وعلى فرض رفع اليد عن هذا المبنى والتسليم بقول كون المصدر أصل الكلام وشمول ادّعاء اتّفاق السكّاكي للمصدر الذي يتحقّق في ضمن فعل الأمر ، فإذا كان المصدر مجرّدا أو غير معروض لهيئة «افعل» فلا دخل للوجود أيضا فيه ، وأمّا إذا كان معروضا لها

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١١٧.

٢٣١

فيوجب هذه المعروضيّة لإشراب عنوان الوجود فيه ـ ولا نحتاج في هيئة الماضي والمضارع إلى هذا الإشراب لدلالتهما على التحقّق ـ بناء على القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالأفراد ، ولا يوجب إشراب الوجود فيه على القول بتعلّقها بالطبائع ، ولا يوجب انقلاب معنى المصدر عمّا هو عليه.

وفيه : أوّلا : أنّ النزاع في هذه المسألة لا ينحصر بهيئة «افعل» و «لا تفعل» ، بل البحث في تعلّق الأحكام بالعناوين من دون الفرق بين بيان الحكم بكلمة «يجب» أو «كتب» أو «حرّمت» أو الأمر والنهي ، وإن كان المذكور في عنوان البحث كلمة الأوامر والنواهي.

وثانيا : أنّه يستفاد من ظاهر البحث أنّه بحث عقليّ ، مع أنّ البحث بهذه الكيفيّة يوجب إرجاعه إلى البحث اللغوي ؛ بأنّ المادّة لا تدلّ إلّا على الماهيّة ، ولكن تتحقّق في هيئة «افعل» خصوصيّة ، وهي وضعها ودلالتها على طلب الوجود ، على أنّه أساس هذا الاحتمال ـ يعني كون المصدر مادّة المشتقّات ـ مخدوش عندنا.

الاحتمال الخامس : ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وهو : أنّ المقصود من تعلّق الأحكام بالطبائع هو وجود الطبائع والماهيّات لا نفسها ، والمقصود من تعلّقها بالأفراد : الخصوصيّات الفرديّة والعوارض المشخّصة زائدا على وجود الطبيعة.

ودليله على هذا التوجيه : أنّ الطبيعة والماهيّة من حيث هي هي ليست إلّا هي ، يعني لا موجودة ولا معدومة ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وإذا كان كذلك فلا معنى للقول بأنّ مقصود القائلين بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٢٣٢

هي نفس الطبيعة ، فيكون مرادهم وجود الطبيعة ، كما أنّ مراد القائل بتعلّقها بالأفراد هو دخول خصوصيّات فرديّة أيضا في دائرة الطلب.

وفيه : أنّ مراد الفلاسفة من العبارة المذكورة أنّ الماهيّة في مقام الذات والذاتيّات ليست إلّا هي ، يعني ما كان خارجا عن دائرة الجنس والفصل يكون قابلا للنفي عنها ، ولذا يصحّ سلب المتناقضين كالوجود والعدم عنها في هذا المقام ؛ لخروجهما عن دائرة الماهيّة ، كما أنّ الطلب وغيره خارج عنها. ومن البديهيّات أنّه لا يستفاد من ذلك عدم إمكان تعلّق الطلب بالطبيعة في مقام الخارج ، ولا يدّعي القائل بتعلّقه بالطبيعة والماهيّة أن يكون الطلب جزءها ، فوقع منه قدس‌سره الخلط بين المقامين.

مثلا : إذا قلنا : الماهيّة موجودة بمعنى كون الوجود جزء لها وحمل الوجود عليها بالحمل الذاتي ، فهي قضيّة كاذبة ؛ إذ المحمول لا يكون تمام الماهيّة ولا جزء الماهيّة للموضوع ، وإذا قلنا : الماهيّة موجودة بمعنى عروض الوجود عليها وحمله عليها بالحمل الشائع ، فهي قضيّة صادقة.

مع أنّه يتحقّق في كلامه نوع من التناقض ، فإنّه يقول : لا يمكن تعلّق الطلب بالطبيعة ولا بدّ من إضافة الوجود إليها.

قلنا : إن أمكن إضافة الوجود إليها فلم لا يمكن إضافة الطلب إليها بعد نفيهما معا في العبارة المعروفة وخروجهما معا عن دائرة الماهيّة ، فلا فرق بينهما في العروض على الماهيّة ، ولكنّه صرّح بصحّة تعلّق الأمر بالطبيعة ؛ لأنّه طلب الوجود وعدم صحّة تعلّق الطلب بها؛ لأنّه ليس كذلك ، والحال أنّه لا يصحّ التفكيك بينهما أصلا.

إذا عرفت ذلك فنقول : والتحقيق في تحرير محلّ النزاع : أنّ المراد من تعلّق

٢٣٣

الأوامر والنواهي بالطبيعة هو تعلّقها بنفس الطبيعة ، والمراد من تعلّقها بالأفراد هو تعلّقها بوجودات الطبائع بعد أنّ دخول الخصوصيّات الفرديّة والعوارض المشخّصة في دائرة الطلب أمر بديهيّ البطلان ، وإن كان جعل كلمة الأفراد بهذا المعنى في عنوان البحث في مقابل كلمة الطبائع ـ إذا كان المراد منها نفسها ـ خلافا للظاهر.

ونذكر من باب المقدّمة لما هو الحقّ في المسألة أنّه قد مرّ النزاع بين الشيخ والمشهور في الواجب المشروط ، وقول المشهور برجوع القيد فيه إلى الهيئة ، وقول الشيخ برجوعه إلى المادّة بعد الاتّفاق بأنّ ظاهر القواعد الأدبيّة يقتضي رجوعه إلى الهيئة ، ولكنّ الشيخ يدّعي تحقّق قرينة عقليّة التي توجب التصرّف في الظاهر ورفع اليد عنه.

ونظير هذا النزاع يتحقّق فيما نحن فيه ، فإنّ القائل بتعلّق الأحكام بوجودات الطبائع كالقائل بتعلّقها بنفس الطبائع معترف ، بأنّ ظاهر العبارة في مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ونحو ذلك تعلّقها بنفس الطبائع ، ولكنّ القائل بتعلّقها بوجود الطبيعة قائل بتحقّق قرينة عقليّة توجب التصرّف في الظاهر وإضافة كلمة الوجود إليها ، والقرينة إمّا عبارة عمّا استفاده صاحب الكفاية قدس‌سره من العبارة المعروفة بين الفلاسفة ، وقد عرفت الجواب عنها آنفا ، وإمّا عبارة عن أنّ المقصود من التكليف تحقّق المكلّف به وإيجاده في الخارج ، ولذا تعلّق الأمر بوجود الماهيّة لا نفسها ، وهذا يكون أساس المشكلة في المسألة ؛ إذ الوجود منشأ لترتّب الآثار ، فلا محالة تتعلّق الأحكام به.

وجوابه أوّلا : أنّ هذا البيان يوجب ابتناء المسألة على أصالة الوجود ، فإنّ

٢٣٤

ترتّب الخواصّ والآثار على الوجود لا يكون إلّا على القول بأصالته ، وينكره القائل بأصالة الماهيّة ، فقد تقدّم نفي هذا الابتناء مفصّلا.

وثانيا : أنّ نسبة الحكم إلى الموضوع نسبة العرض إلى المعروض ، وتجري هاهنا أيضا قاعدة فرعيّة ، فنسأل حينئذ : أنّ مفهوم وجود الطبيعة مطلوب للمولى أو واقعيّته مطلوبة له؟ وعلى الأوّل لا فرق بينه وبين مفهوم الطبيعة ، ولا وجه لإضافة الوجود إليه ، وعلى الثاني لا بدّ من تحقّق المتعلّق مثل الصلاة أوّلا في الخارج ، ثمّ تعلّق الحكم به بلحاظ تقدّم الموضوع على الحكم تقدّم المعروض على العرض ، مع أنّه لا يمكن الالتزام به أصلا. وهذا الإشكال بعينه يرد على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد أيضا.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره بعد القول بتعلّق الأحكام بالطبائع وأنّ المقصود منها وجود الطبائع توجّه إلى أنّ ذلك مستلزم لتحصيل الحاصل ، وأجاب عنه بأنّ المولى أراد صدور الطبيعة وإيجادها من المكلّف.

وفيه : أنّه لا فرق بين الإيجاد والوجود إلّا من حيث الاعتبار ، فيعود الإشكال ثانيا ، بأنّ الصلاة ـ مثلا ـ إذا تحقّقت في الخارج فلا معنى لتعلّق الأمر بها ؛ إذ الخارج يكون ظرف سقوط التكليف.

وبعبارة اخرى قد يكون البحث في مقام جعل الحكم ووضعه وإثباته ، وقد يكون في مقام إجراء الحكم وامتثاله ، والأوّل مقام تعلّق الحكم ومقدّم على مقام امتثاله ، والثاني مقام سقوط الحكم وظرف امتثاله وإتيان المكلّف به ، فلا يتحقّق في مرحلة تقنين الحكم وجعله شيئا سوى الطبيعة حتّى يتعلّق الحكم به ، فلا محالة يكون متعلّق الحكم نفس الطبيعة بعد عدم إمكان تعلّقه بالوجودات والأفراد ، فيصحّ قضيّة الماهيّة مطلوبة بمعنى كون الماهيّة معروضة للطلب لا بمعنى كونه جزء للماهيّة. هذا تمام الكلام في المقام.

٢٣٥
٢٣٦

الفصل الثامن

في نسخ الوجوب

إذا نسخ الوجوب فهل يدلّ الدليل الناسخ أو المنسوخ على بقاء الجواز أم لا؟

وهذا البحث بهذه الصورة عنوان في الكلمات ، ولكن لا بدّ في الابتداء من البحث في مقام الثبوت ، وبعد القول بالإمكان في هذا المقام تصل النوبة إلى مقام الإثبات ، وعنوان البحث في مقام الإثبات أيضا لا يكون بهذه الكيفيّة.

والبحث في مقام الثبوت بأنّه هل يمكن بقاء الجواز بالمعنى الأعمّ أو بالمعنى الأخصّ بعد ارتفاع الوجوب أم لا؟ والمرتكز في الأذهان أنّ للوجوب ماهيّة مركّبة ـ كما ذكر صاحب المعالم قدس‌سره (١) ـ وهي الإذن في الفعل والمنع من الترك ، وهكذا الاستحباب والكراهة والإباحة.

والتحقيق : أنّ الوجوب أمر اعتباري بسيط ينشأ عن إرادة المولى الحتميّة ، كما أنّ الاستحباب أمر بسيط اعتباري ناشئ عن إرادة غير حتمية ، ويكون التفاوت بينهما بالشدّة والضعف ، كالتفاوت بين أفراد الكلّي المشكّك ، مثل أفراد الوجود ، وكان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، فالوجوب هو أمر بسيط وقد نسخ على ما هو المفروض ، فلم يكن هنا جواز حتّى يكون باقيا

__________________

(١) معالم الدين : ٨٩.

٢٣٧

بعد نسخ الوجوب.

وإذا قيل : إنّ هذا إنكار لأمر بديهيّ ؛ إذ لا شكّ في أنّ الشيء إذا كان واجبا يتحقّق معه جواز الفعل ، بل رجحانه.

قلت : سلّمنا أنّه يتحقّق مع وجوب شيء جواز ورجحان فعله ، ولكنّه لا يكون جزء ماهيّة الوجوب ولا تمام ماهيّته ، بل الوجوب يدلّ بدلالة التزاميّة على الجواز بنحو دلالة الملزوم على ثبوت اللازم ؛ بمعنى تبعيّته له مثل تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة ، فلا يعقل بقاء اللازم بعد ارتفاع الملزوم ونسخه ، فنحكم في هذا المقام بالاستحالة ، وأنّه يستحيل بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، ولا تصل النوبة إلى مقام الإثبات أصلا.

ولو فرض إمكان بقاء الجواز في هذا المقام ففي مقام الإثبات لا بدّ من تغيير عنوان البحث بأنّ ملاحظة دليل الناسخ والمنسوخ والجمع بينهما هل يقتضي بقاء الجواز أم لا؟ لا ملاحظة كلّ منهما مستقلّا كما يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

وربما يقال : إنّ الجمع بينهما يقتضي بقاء الجواز ، بل يقتضي بقاء الرجحان ، نظيره ما إذا قال المولى : «صلّ صلاة الجمعة» ، وقال في ضمن دليل آخر : «لا تجب صلاة الجمعة» ، والمشهور بعد مواجهة هذين الدليلين يحمل الأمر على خلاف ظاهره ، بقرينة الدليل الثاني ؛ إذ الدليل الظاهر على الوجوب يدلّ على الرجحان والجواز أيضا ، والقرينة توجب التصرّف في دلالته على الوجوب فقط ، وتبقى دلالته على أصل الجواز والرجحان بقوّتها. وهكذا فيما نحن فيه ، فإنّ دليل الناسخ يوجب نسخ وجوب دليل المنسوخ فقط ، ويبقى جوازه ورجحانه بقوّته ، فما نسخ وجوبه محكوم برجحان الفعل وجوازه.

٢٣٨

وهل تصحّ هذه المقايسة أم لا؟ أمّا فيما نحن فيه بعد ملاحظة ما ذكرناه في مقام الثبوت من أنّ الوجوب أمر بسيط غير مركّب كما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره ، إلّا أنّ وجوب الشيء يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على الجواز ، ولكنّها دلالة تبعيّة وفرعيّة ، بخلاف الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة ، ولذا لا معنى لبقاء الدلالة الفرعيّة بعد ارتفاع الدلالة الأصليّة ، فلا يعقل بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، فلو فرض عدم استحالة المسألة في مقام الثبوت لا يمكن الالتزام بها في مقام الإثبات.

وأمّا في مثل : «صلّ صلاة الجمعة» و «لا تجب صلاة الجمعة» بعد اختلاف الدليلين في أصل الوجوب ، فالمشهور قائل بأنّ هيئة «افعل» حقيقة في الوجوب ومجاز في غيره ، وإن استعمل اللفظ فإنّه يحمل على الحقيقة إن لم تكن قرينة على خلاف المعنى الحقيقي ، وأمّا إذا كانت القرينة على خلافه ـ مثل : لا تجب صلاة الجمعة ـ فإنّها توجب التصرّف في هيئة «افعل» وتحمل على غير المعنى الموضوع له.

ولكن على ما اخترناه في هذه المسألة من أنّه لا يكون من الحقيقة والمجاز في هيئة «افعل» أثر ولا خبر ، بل مفادها عبارة عن البعث إلى المبعوث إليه ، إلّا أنّ البعث الناشئ عن الإرادة الحتميّة من دون ترخيص في مخالفته من ناحية المولى نسمّيه بالوجوب ، وأمّا إذا استعملت هيئة «افعل» مع الترخيص في مخالفته من ناحيته فنستكشف أنّ البعث لا يكون ناشئا عن الإرادة الحتميّة ونسمّيه بالاستحباب.

وعلى هذا المبنى استعملت هيئة «صلّ» في معناها الحقيقي ، إلّا أنّ ترخيص المولى بمخالفته بقوله : «لا تجب صلاة الجمعة» دليل على أنّ هذا البعث

٢٣٩

لا يكون ناشئا عن الإرادة الحتميّة ، ولذا يحمل على الاستحباب. فبمجرّد المشابهة الصوريّة بين هذه المسألة وبين ما نحن فيه لا يمكن القول ببقاء الجواز والرجحان بعد نسخ الوجوب ، ولا دليل على بقاء الجواز.

والطريق الآخر لبقاء الجواز عبارة عن استصحابه ، ولكن لا مجال له إلّا بناء على جريانه في القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلّي ، وهو ما إذا شكّ في حدوث فرد كلّي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وبعد جريان الاستصحاب تترتّب عليه آثار الكلّي لا الفرد ، وفيما نحن فيه تحقّق الجواز في ضمن الوجوب قطعا يحتمل أن يتحقّق مقارنا لارتفاع وجوب فرد آخر من الجواز ، فنستصحب كلّي الجواز ولا مانع منه.

وجوابه : أنّ جريان استصحاب الكلّي من القسم الثالث محلّ إشكال كما سيأتي تحقيقه في باب الاستصحاب إن شاء الله ، ولكن على فرض جريانه فيه لا مجال له فيما نحن فيه ؛ إذ الجواز المستصحب لا يكون حكما شرعيّا ولا موضوعا للحكم الشرعي ، فإنّ الجواز الذي يتحقّق حين الوجوب ليس بحكم شرعي ، وإلّا يستلزم أن يكون في كلّ واجب للشارع حكمان شرعيّان ، مع أنّه ليس كذلك بلا إشكال ؛ إذ المجعول الشرعي عبارة عن الوجوب ، وهو أمر واحد بسيط غير مركّب ، والجواز حكم عقلي يدلّ عليه الوجوب بدلالة التزاميّة عقليّة ، فإذا نسخ وجوب شيء فلا يمكن بقاء جوازه ، بل يمكن أن يكون محكوما بالحرمة.

٢٤٠