دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

أن يكون «زيد» في هذين اليومين واجب الإكرام بالوجوب الواقعي وبداعي الإتيان به في الخارج ، ولا وجه له ولا أثر.

وإن كانت القضيّة المشتملة على الحكم العامّ بنحو القضيّة الحقيقيّة ، بمعنى كون الموضوعات والمكلّفين مقدّرة الوجود ، وحينئذ قد يكون الحكم العامّ واجبا موقّتا وقد يكون واجبا مطلقا ، والمفروض في الأوّل صدور الدليل المردّد بين الناسخ والمخصّص قبل حضور وقت الواجب الموقّت ، مثلا : صدر عن الباري في شهر رجب آية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) ، وصدر عنه في شهر شعبان آية : (فَمَنْ (٢) كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(٢) ، فلا بدّ هنا أيضا من الالتزام بالتخصيص ؛ إذ لا وجه ولا أثر لوجوب الصوم على المسافر والمريض في فاصلة نزول الآيتين ، ولا يتصوّر له مصلحة حتّى نقول به والالتزام بنسخه.

وأمّا على الثاني ـ أي كون القضيّة المشتملة على الحكم العامّ بنحو القضيّة الحقيقيّة غير الموقّتة ـ مثل أن يقول المولى : «أكرم العلماء» بدون أيّ خصوصيّة في الموضوعات والمكلّفين ، بعد فرض وجود المعدومين واتّصاف غير العلماء بالعالميّة ، وصدر عنه بعد يومين الدليل المردّد بين الناسخ والمخصّص ، فلا مانع من كونه ناسخا ؛ إذ لا يشترط في صحّة جعل الحكم العام وجود الموضوع له أصلا ، فإنّ المفروض أنّه جعل على موضوع مقدّر الوجود ، ويصدق حينئذ رفع الحكم الثابت في الشريعة.

وجوابه : أنّه لا يكفي في القضيّة الحقيقيّة مجرّد فرض وجود موضوعها في

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

(٢) البقرة : ١٨٤.

٥٦١

الخارج ؛ إذ يلزم لغويّة جعل الحكم بداعي الإتيان في الخارج مع التفات الآمر بانتفاء شرط فعليّته فيه ، بل الحكم في القضيّة الحقيقيّة يحمل على العنوان بصورة القانون الكلّي ، كقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، يعني كلّ من وجد وصار مستطيعا يجب عليه الحجّ ، ولا يكون من الفرض والتقدير أثر ولا خبر ، وعلى هذا كيف يمكن الالتزام بالنسخ بعد جعل الحكم الواقعي بداعي الإتيان في الخارج وحمله على عنوان المستطيع بصورة العموم ، وقول المولى بدليل الناسخ أنّه لا يجب الحجّ على زيد المستطيع بعد أوّل شهر شوّال مثلا؟!

ولا يتصوّر ملاك لوجوب الحجّ بالنسبة إليه في فاصلة نزول آية الحجّ وصدور الدليل الناسخ ، ولا وجه لثبوته في هذه المدّة حتّى يصدق عليه رفع الحكم الثابت في الشريعة ، فلا يصحّ التفصيل المذكور في كلامه قدس‌سره.

الصورة الثالثة : أن يكون الخاصّ واردا بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، ويمكن أن يقال : يكون في هذه الصورة ناسخا لا مخصّصا ؛ إذ لو كان مخصّصا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح بلا ريب ، مع أنّ المخصّص يكون مبيّنا للعام.

وجوابه : أنّ هذا مغاير للسيرة العمليّة المستمرّة بين الفقهاء من جعل الخاصّ مخصّصا للعامّ ، وإن كان زمان صدوره متأخّرا عنه ، ولذا نرى جعلهم ما ورد في لسان الصادقين والعسكريّين عليهم‌السلام مخصّصا لعمومات الكتاب والروايات النبويّة ، من دون ملاحظة أنّه تأخير للبيان عن وقت الحاجة ، كما هو حال غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات ، وإن قلنا

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٥٦٢

بناسخيّة الخصوصات في جميع هذه الموارد فلا بدّ من الالتزام بقلّة موارد التخصيص ، مع أنّ القول بالتخصيص مستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة ، فتتحقّق هنا عويصة.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في مقام حلّ العويصة : إنّ العامّ إذا كان واردا لبيان الحكم الواقعي يكون الخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل به ناسخا له ، وإذا كان واردا لبيان غيره يكون الخاصّ مخصّصا له.

ومعلوم أنّ الحكم الواقعي قد يكون في مقابل الحكم الظاهري الذي اخذ الشكّ في موضوعه ، بمعنى تعلّقه بالعنوان الواقعي ، مثل : تعلّق الحكم بالنجاسة على الخمر بدون دخالة علم المكلّف به وجهله ، وقد يكون في مقابل الأوامر الاختباريّة والامتحانيّة ، بمعنى جعله بداعي الإتيان في الخارج كما ذكرناه.

وتوضيح كلام صاحب الكفاية قدس‌سره : أنّ العامّ إن كان لبيان الحكم الواقعي ـ بمعنى صدوره من الابتداء للعمل به ـ فلا معنى لتأخير مخصّصاته عن وقت العمل به ؛ إذ لا شكّ في قباحته وعدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة الذي يلزم هنا على القول بالتخصيص ، فلا بدّ من كونه ناسخا له ، وإن لم يكن العام لبيان الحكم الواقعي ولم يكن جعله للعمل به من ابتداء الصدور بجميع خصوصيّاته ، بل كان جعله بعنوان القانون الكلّي لمصلحة ، وكان الغرض متعلّقا بتأخير مقيّداته ومخصّصاته إلى مدّة ، فلا مانع هاهنا من كون الخاصّ مخصّصا له ، كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات ، ولا مانع من تأخير البيان هنا ، فيكون الناس مكلّفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصّص.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦٨.

٥٦٣

واستشكل عليه بأنّه لا يوجد طريق لتشخيص النوعين من العامّ ، وأنّه من قبيل الأوّل حتّى يكون الخاصّ ناسخا له ، أو من قبيل الثاني حتّى يكون مخصّصا له.

ويمكن أن يكون طريق تشخيصهما إمّا نفس المخصّصات ، بأنّ العامّ الكتابي إن كان مخصّصا بعد وقت العمل به فهو من قبيل الثاني ، وإن لم يكن له مخصّصا أصلا أو صدر مخصّصه قبل حضور وقت العمل به فهو من قبيل الأوّل ، وإمّا تحقّق القرينة ، بأنّ العام الكتابي إن كان محفوفا بالقرينة بأنّه صدر ضربا للقاعدة فهو من قبيل الثاني ، وإلّا يكون مبيّنا للحكم الواقعي.

ومعلوم أنّ كلا الطريقين لا يخلو من إشكال بأنّه على الأوّل يبقى إشكال قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة بحاله ؛ إذ العامّ على هذا الفرض ظاهر في إرادة العموم واقعا ، والمخصّصات المتأخّرة عنه الواردة بعد حضور وقت العمل به كاشفة عن عدم إرادة العموم فيه ، وهذا بعينه هو تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ودليل قبحه أنّه يوجب وقوع المكلّف في الكلفة والمشقّة من دون مقتض لها في الواقع ، أو أنّه يوجب إلقاؤه في المفسدة ، أو يوجب تفويت المصلحة عنه ، كما إذا كان العامّ مشتملا على حكم ترخيصي في الظاهر ، ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجبا أو محرّما ، فإنّه على الأوّل يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلّف ، وعلى الثاني يوجب إلقاؤه في المفسدة ، وكلاهما قبيح من المولى الحكيم.

وعلى الثاني فلا ظهور للعام في العموم في مقام الإثبات حتّى يتمسّك به بعنوان المرجع ؛ إذ المولى كأنّه يقول على هذا الفرض : إنّ صدور العام لا يكون للإجراء والإتيان به خارجا ، فلا ينعقد له ظهور في العموم ولا يكون حجّة في

٥٦٤

ظرف الشكّ.

ولكن نقول في مقام الدفاع عن المحقّق الخراساني قدس‌سره : إنّا نختار الطريق الثاني لتشخيص النوعين من العام ، ولا يرد عليه الإشكال المذكور ؛ إذ يمكن أن يكون صدور العام بكيفيّة النوع الثاني ، ولكنّه مع ذلك كان مرجعا في موارد الشكّ في التخصيص ، فلا مانع من جريان أصالة العموم إلّا في مورد العلم بالتخصيص وإن كان العام مبيّنا للحكم الظاهري لكونه مغيّا بغاية العلم ، ولا فرق من هذه الجهة بينه وبين العام المبيّن للحكم الواقعي.

ويترتّب على صدور هذا النوع من العام وجعله آثارا متعدّدة : منها : كونه مرجعا في موارد الشكّ في التخصيص ، ومنها : استفادة المكلّف منه التهيّؤ للعمل به بعد تعيين حدوده وصدوره ، فإنّه صدر للإتيان به في الخارج ولا يكون لغوا وبلا أثر إلى يوم القيامة ، فلا مانع من التمسّك بعمومه إلّا إذا احرز التخصيص.

ولكنّه تتحقّق فيما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره تبعا للشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره الامور المستبعدة :

منها : أنّه لا وجه لتقسيم العمومات القرآنيّة إلى نوعين مذكورين ، أي ورود بعضها لبيان الحكم الواقعي ، بمعنى الإتيان به من حين الصدور ، وورود بعضها لبيان الحكم غير الواقعي ، بمعنى صدوره بعنوان القانون الكلّي لا للعمل به ، ولا شاهد لهذا في الروايات والتفاسير.

ومنها : أنّ تشخيص النوعين المذكورين من طريق ورود المخصّص بعد حضور وقت العمل به وعدمه خارج عن ماهيّة العام ، فإنّ واجديّة المخصّص وفاقديّته لا توجب التغيير في ماهيّة العام ، ولا بدّ من ملاحظة النوعيّة إلى

٥٦٥

نفس الشيء ، لا أنّه إذا كان هناك مخصّص بعد حضور وقت العمل بالعام فهذا نوع من العام ، وإذا لم يكن هناك مخصّص فهذا نوع آخر منه.

ومنها : أنّ حمل عنوان الحكم الواقعي وغير الواقعي بالمعنى المذكور على العام لم يسمع من غيرهما ، ولا يتحقّق في كلام الاصوليّين والكتب الاصوليّة ، فإن لم يتحقّق لنا طريق لحلّ العويصة المذكورة سوى ما ذكر في كلامهما فلا مانع من الالتزام بهذه الامور المستبعدة ، ومع فرض تحقّقه فلا وجه للالتزام بها.

ولا بدّ لنا من بيان مقدّمة لحل العويصة بأنّ أساس الإشكال ـ كما عرفت ـ أنّ ما ورد في كلام الصادقين والعسكريّين عليهم‌السلام ـ مثلا ـ إن كان مخصّصا لعمومات الكتاب يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإن كان ناسخا يلزم كثرة النسخ وندرة المخصّص ، مع أنّ الأمر بالعكس قطعا.

ونحن نقول بأنّه مخصّص كما استقرّت عليه السيرة العمليّة المستمرّة بين العلماء من دون ملاحظة الفاصلة بين العامّ والخاصّ ، وسلّمنا أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، ولكن اتّصاف الأشياء والعناوين بالقبح العقلي مختلف بأنّ بعضها تكون علّة تامّة للقبح بحيث كلّما تحقّق العنوان يتحقّق القبح العقلي ، ولا يكون قابلا للانفكاك عنه ، مثل : عنوان الظلم ، فإنّه لا ينفكّ عنه بوجوه ، وبعضها يكون مقتضيا للقبح في نفسه ما لم يعارضه عنوان أقوى ، مثل : عنوان الكذب ، فإنّه قبيح في نفسه ، وإذا عارضه عنوان آخر كالإصلاح بين الناس ـ مثلا ـ فإنّه يكون حسنا بل لازما.

ومعلوم أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة في نفسه ليس بقبيح ، بل يكون قبحه لاستلزامه لأحد الامور الثلاثة التالية :

٥٦٦

الأوّل : أنّه يوجب وقوع المكلّف في الكلفة والمشقّة من دون مقتض لها في الواقع ، كما إذا افترضنا أنّ العام مشتمل على حكم إلزامي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع مشتملا على حكم ترخيصي ، فتأخير البيان يوجب إلزام المكلّف ووقوعه بالنسبة إلى تلك الأفراد المباحة في المشقّة والكلفة ، من دون موجب ومقتض لها.

الثاني : أنّه يوجب إلقاء المكلّف في المفسدة ، كما إذا كان العام مشتملا على حكم ترخيصي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع محرّما ، فإنّه يوجب إلقاؤه في المفسدة.

الثالث : أنّه يوجب تفويت المصلحة عنه ، كما إذا كان العام مشتملا على حكم ترخيصي في الظاهر ولكن كان بعض أفراده في الواقع واجبا ، فإنّه يوجب تفويت المصلحة الملزمة عن المكلّف ، ولا شكّ في قباحة الجميع من المولى الحكيم.

ولكن من المعلوم أنّ هذا القبيح قابل للرفع ؛ ضرورة أنّ المصلحة الأقوى إذا اقتضت إلقاء المكلّف في المفسدة أو تفويت المصلحة عنه أو إلقاؤه في الكلفة والمشقّة ، فلا قبح فيه أصلا ، فلا يكون قبح هذه العناوين كقبح الظلم ليستحيل انفكاكها عنه ، بل هو كقبح الكذب ، يعني أنّها في نفسها قبيحة مع قطع النظر عن طروّ أيّ عنوان حسن عليها ، كما يتحقّق نظير هذا المعنى في مسألة التعبّد بالظنّ ، مثل : حجّيّة خبر الواحد ، وأمثال ذلك.

فلا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير ، أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره ، ولا يكون حينئذ قبيحا ، بل هو حسن ولازم ، فيكون ورود

٥٦٧

مخصّصات عمومات الكتاب في لسان الأئمّة عليهم‌السلام تدريجا لمصلحة أقوى.

ويشهد لذلك : أوّلا : أنّ بيان الأحكام في أصل الشريعة المقدّسة أيضا كان على نحو التدريج واحدا بعد واحد لمصلحة تقتضي ذلك ، وهي التسهيل على الناس ورغبتهم إلى الدّين ، ومعلوم أنّ هذه المصلحة أقوى من مصلحة الواقع التي تفوت عن المكلّف ، ولذا نلاحظ في الروايات أنّ بعض الأحكام صار مشروعا في أواخر عمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل : مشروعيّة حجّ التمتّع في حجّة الوداع.

وثانيا : أنّه قد ورد في بعض الروايات أنّ عدّة من الأحكام بقيت عند صاحب الأمر روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء ، وهو عليه‌السلام بعد ظهوره يبيّن تلك الأحكام للناس ، فلا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كانت فيه مصلحة مقتضية لذلك أو كان في تقديمه مفسدة مانعة عنه ، وحلّ العويصة بهذا الطريق أولى من الطريق المذكور في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

الصورة الرابعة : ما إذا ورد العامّ بعد الخاصّ ، وقبل حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاصّ المتقدّم مخصّصا للعامّ المتأخّر ؛ إذ لا إشكال في تقديم بيان العامّ عليه ، إلّا أنّ بيانيّة الخاصّ تكشف بعد صدور العامّ عن المولى ، واحتمال ناسخيّة العامّ للخاصّ مردود بأنّها تستلزم أن يكون جعل الخاصّ لغوا محضا ؛ إذ لا يترتّب عليه أثر ، وهو ما لا يمكن صدوره من المولى الحكيم.

الصورة الخامسة : ما إذا ورد العامّ بعد الخاصّ وبعد حضور وقت العمل به ، والمفروض أنّ حكم الخاصّ مستمرّ على الظاهر ، ففي هذه الصورة يقع

٥٦٨

الكلام في أنّ الخاصّ المتقدّم مخصّص للعامّ المتأخّر ، أو أنّ العام المتأخّر ناسخ للخاصّ المتقدّم بعد إمكان كليهما بحسب مقام الثبوت ؛ إذ الخاصّ لا يكون فاقدا لشرائط المخصّصيّة ، كما أنّ ناسخيّة العامّ لا تستلزم لغويّة جعل حكم الخاصّ.

وتظهر الثمرة بينهما حيث إنّه على الأوّل يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة هو حكم الخاصّ دون العامّ ، وكان مورد الخاصّ خارجا عن دائرة العامّ إلى الأبد ، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاصّ بعد ورود العامّ ، فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة بعد وروده هو حكم العامّ.

ويستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره (١) أنّ الأظهر أن يكون الخاصّ مخصّصا ، وقال في وجه ذلك : أنّ كثرة التخصيص في الأحكام الشرعيّة حتّى اشتهر : «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» وندرة النسخ فيها جدّا أوجبتا كون ظهور الخاصّ في الدوام والاستمرار ، وإن كان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة أقوى من ظهور العامّ في العموم وإن كان بالوضع ؛ بمعنى أنّ ناسخيّة العامّ مستندة إلى جريان أصالة العموم في دليل العامّ ، ومخصّصيّة الخاصّ مستندة إلى جريان أصالة الإطلاق من حيث الزمان في دليل الخاصّ ، ولا شكّ في تقدّم أصالة العموم على أصالة الإطلاق قاعدة في موارد اخرى ، بخلاف ما نحن فيه ، بلحاظ مانعيّة كثرة التخصيص وقلّة النسخ عنه.

واشكل عليه : أوّلا : بأنّ هذا يرجع إلى أن يدلّ دليل خاصّ بالدلالة اللفظيّة على أصل الحكم ، وبالدلالة الإطلاقيّة على استمراره ودوامه ، وهذا أمر مستحيل ؛ ضرورة أنّ استمرار الحكم في مرتبة متأخّرة عن نفس الحكم ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦٨ ـ ٣٧١.

٥٦٩

ولا يمكن أن يكون دليل واحد متكفّلا لكليهما ؛ لكون الدوام والاستمرار بمنزلة العرض والصفة للحكم ، فلا بدّ من إثبات الحكم ثمّ اتّصافه بذلك.

كما أنّه لا يصحّ استصحاب بقاء حكم خاصّ بعد ورود العامّ أو استصحاب عدم النسخ ؛ إذ لا شكّ في تقدّم أصالة العموم الجارية في طرف العام عليه ، إمّا بنحو الورود وإمّا بنحو الحكومة ؛ إذ لا يبقى مجال للأصل العملي إذا تحقّق الأصل اللفظي.

وكما أنّه لا يصحّ ترجيح جانب التخصيص بمساعدة الحديث المعروف بأنّ : «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة» (١) ، بمعنى أنّ كلّ الأحكام في الشريعة المقدّسة ثابتة ومستمرّة إلى يوم القيامة ، بعد أنّ سياق هذه العبارة يأبى عن التخصيص ويمنع عدم الاستمرار حتّى في مورد واحد.

ووجه عدم صحّته : أنّ الحديث يكون في مقام بيان أنّ شريعة الإسلام خاتمة الشرائع والأديان ، وهذا لا يتنافى مع ارتباط الناسخ والمنسوخ بالشريعة ، فإنّ الحديث لا يكون ناظرا إلى المعنى المذكور حتّى يكون قابلا للتمسّك في مورد الشكّ في النسخ ، بعد قطعيّة وقوع النسخ نادرا في الشريعة المقدّسة.

واشكل عليه : ثانيا : بأنّ الخاصّ لا يصلح لأن يكون مخصّصا للعامّ ، فإنّ صلاحيّته للتخصيص تتوقّف على جريان مقدّمات الحكمة وهي غير جارية هنا ؛ إذ العامّ المستند إلى الوضع قرينة على تقييد الخاصّ ومانع عن تماميّة مقدّمات الحكمة بالنسبة إليه ، فلا يكون إطلاقا للخاصّ حتّى يكون معارضا

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٧.

٥٧٠

لأصالة العموم الجارية في العام.

ولكنّ هذا الإشكال مبنيّ على القول بكون المراد من عدم القرينة الذي يكون من مقدّمات الحكمة عدم القرينة مطلقا ، سواء كانت متّصلة أم منفصلة ، لا على القول بكون المراد منه عدم القرينة المتّصلة ، كما يقول به صاحب الكفاية قدس‌سره ، إذ المفروض ورود العام بعد حضور وقت العمل بالخاصّ ، فتكون قرينة منفصلة.

والتحقيق في هذا الفرض أيضا كون الخاصّ مخصّصا للعامّ كما استقرّت عليه السيرة المستمرّة بين الفقهاء من دون ملاحظة تأريخ صدور العامّ والخاصّ من حيث التقدّم والتأخّر ، وحضور وقت العمل بأحدهما وعدمه ، وقد مرّ أنّ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس من قبيل قبح الظلم ، والمصالح المقتضية له أوجبت صدور المخصّصات بصورة التدريج والتدرّج.

وما هو المهمّ هنا أنّ نسخ القانون من وظيفة المقنّنين ولا يرتبط بغيره أصلا ، والمقنّن في الشريعة المقدّسة ليس سوى الله تعالى ، وما يقول به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومون عليهم‌السلام يكون بعنوان الحكاية عن القانون ، بلحاظ معرفتهم بجزئيّات قوانين الشريعة المقدّسة وخصوصيّاتها لا بعنوان جعل القانون ، فعلى هذا لا معنى لشبهة النسخ واحتماله ، فلا بدّ لنا من الالتزام بالتخصيص في جميع الصور المذكورة ، بلا فرق بين أن يكون الخاصّ مقدّما أو مؤخّرا ، وبلا فرق بين حضور وقت العمل به وعدمه ، وبلا فرق بين معلومي التأريخ ومجهولي التأريخ.

ثمّ ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره مسألة النسخ في ذيل هذا البحث ، ولكن لا مجال للتعرّض لها هنا ؛ لعدم كونها مسألة اصوليّة.

٥٧١
٥٧٢

المقصد الخامس

في المطلق والمقيّد

٥٧٣
٥٧٤

في المطلق والمقيّد

عرف المطلق : بأنّه ما دلّ على معنى شائع في جنسه ، والمقيّد بخلافه ، وهذا التعريف وإن اشتهر بين الأعلام ، ولكن وقع مورد النقض والإبرام من حيث عدم الجامعيّة والمانعيّة.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّه قد نبّهنا في غير مقام على أنّ مثله من قبيل شرح الاسم وليس بتعريف حقيقي ، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس ، فالأولى الإعراض عن ذلك.

والتحقيق : أنّ صحّة هذا الكلام وتطبيقه في بعض التعاريف لا يستلزم انطباقه في جميع الموارد بعنوان القاعدة الكلّيّة ، بعد أن كان التعريف اللفظي نظير «سعدانة نبت» يقال لمن كان جاهلا بأنّها من الجمادات أو من الحيوانات أو من النباتات ، ولا فائدة له لمن كان عالما إجمالا بأنّها من النباتات ، ومعلوم أنّ المطلق لا يكون مجهولا محضا ، فإنّ معناه الإجمالي مرتكز في ذهن المبتدئ في علم الاصول فضلا عن العالم به ، مع أنّ الإشكالات الطرديّة والعكسيّة من العلماء تشهد بعدم كون التعريف عندهم لفظيّا ، فلا يصحّ الحكم بالتعريف اللفظي في جميع الموارد بعنوان المفرّ عن الإشكالات.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٧٦.

٥٧٥

فالظاهر أنّ التعريف المذكور تعريف حقيقي ، والمقصود منه أنّ المطلق لفظ دالّ على معنى شائع في جنسه ، وليس المراد بالجنس ما اصطلح عليه المنطقيّون ، بل المراد منه ما هو الشامل للأفراد المتسانخة المندرجة تحته ، فيكون الرجل من مصاديق المطلق مع أنّه صنف من الإنسان.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الظاهر من هذا التعريف أنّ الإطلاق والتقييد من أوصاف اللفظ بالأصالة مع أنّهما من صفات المعنى ؛ ضرورة أنّ نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة وقد تكون مقيّدة مع قطع النظر عن اللفظ ، فإنّ ماهيّة الإنسان مطلقة ، والإنسان الأبيض مقيّد ، وهكذا.

وثانيا : أنّ الشيوع في جنسه الذي جعل صفة المعنى يحتمل فيه وجهان :

الأوّل : أن يراد به كونه لازما للمعنى ومن خصوصيّاته ، فالمطلق دالّ على المعنى ، ولكنّه في حدّ ذاته شائع في جنسه ، وعلى هذا لا إشكال في البين.

الثاني : أن يكون نفس الشيوع جزء مدلول اللفظ ، كما أنّ ذات المعنى جزء آخر ، فالمطلق يدلّ على المعنى والشيوع ، وهذا ليس بصحيح ؛ إذ لا يدلّ اللفظ المطلق ـ مثل : الإنسان ـ على الخصوصيّات والكثرة وإن كان وجود الطبيعي عين وجود أفراده في الخارج ؛ إذ لا ترتبط مسألة الاتّحاد في الوجود بمقام الدلالة والوضع.

وثالثا : أنّ هذا التعريف يشمل بعض المقيّدات كالرقبة المؤمنة ؛ لشيوعها أيضا في جنسه ، والعرف أيضا يعاملها معاملة الإطلاق فيما إذا قال المولى : «إن أفطرت في شهر رمضان فيجب عليك عتق رقبة مؤمنة» ، فلا يكون مانع الأغيار.

ورابعا : أنّ الظاهر من التعريف أنّ المطلق ينطبق على المعنى الكلّي كما هو

٥٧٦

المرتكز في الأذهان ، ولازم ذلك عدم تحقّق الإطلاق والتقييد في الامور الجزئيّة والمصاديق ، والحال أنّهما يتحقّقان فيها أيضا ، كما في قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، سواء قلنا برجوع القيد إلى الهيئة أو إلى المادّة ، فالواجب على الثاني هو إكرام زيد مقيّدا بتحقّق قيد المجيء ، ولا محالة يكون الإكرام المضاف إلى زيد أمرا جزئيّا.

وهكذا على الأوّل فإنّ الهيئة تكون من المعاني الحرفيّة ، ومعلوم أنّ الموضوع له في باب الحروف خاصّ ، فعلى كلا التقديرين يكون المجيء قيدا للمعنى الجزئي ، فلا تنحصر دائرة المطلق والمقيّد في الكلّيّات ، بل يتحقّق في الجزئيّات أيضا بلحاظ الحالات المختلفة ، بل يتحقّق في الجملات الخبريّة أيضا ، فإنّ ضارب زيد ـ مثلا ـ قد يقول : «ضربت زيدا» ، وقد يقول : «ضربت زيدا يوم الجمعة».

وبعد ملاحظة أنّ المعنى يتّصف بالإطلاق بالأصالة ويكون اتّصاف اللفظ به بالتبع ، وأنّه يتحقّق في الجزئيّات أيضا لا بدّ من تعريفه بأنّ المطلق هو المعنى المعرّى عن القيد.

ويمكن أن يرد عليه أيضا بعدم شموله لمثل الرقبة المؤمنة ، والجواب عنه : أنّ الإطلاق والتقييد من الامور الإضافيّة ، فيمكن أن يكون شيء مطلقا ومقيّدا باعتبارين ، فتكون الرقبة المؤمنة كذلك ، كما أنّ الحجّ ـ مثلا ـ يكون واجبا مشروطا بالنسبة إلى الاستطاعة وواجبا مطلقا بالنسبة إلى سائر الشرائط ، مثل : تحصيل الزاد والراحلة ، فلا إشكال في اجتماع الإطلاق والتقييد في عنوان واحد.

ولا يخفى أنّ تقابل الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة لا الإيجاب

٥٧٧

والسلب ، فالمطلق ما كان خاليا عن القيد ممّا شأنه أن يتقيّد بذلك ، وما ليس من شأنه التقيّد لا يكون مطلقا ولا مقيّدا ، كما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره في موارد عديدة ، منها : ما يقول باستحالة أخذ قصد القربة بمعنى داعي الأمر في المأمور به ، مثل سائر الأجزاء والشرائط من المولى ، وترتّب الثمرة عليه ، بأنّه إذا شككنا في تعبّديّة واجب ـ مثل الزكاة ـ وتوصّليّته ، لا يصحّ التمسّك بإطلاق : (آتُوا الزَّكاةَ) لنفي اعتبار قصد القربة ، فإنّ مورد جريان أصالة الإطلاق عبارة عمّا كان قابلا للتقييد ، ولا يكون قصد القربة بهذا المعنى قابلا للأخذ في المتعلّق.

ومن هنا نستكشف أنّ تقابل الإطلاق والتقييد عنده تقابل العدم والملكة ، وما في الأذهان أيضا يساعد على هذا المعنى.

نكتة :

أنّ مورد الإطلاق وإن كان كثيرا ما عبارة عن الأحكام ، ولكن مصبّه قد يكون المتعلّق ، مثل : «اعتق رقبة» ، وقد يكون المكلّف مثل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، فإنّ قيد «من استطاع» عطف بيان للناس ، من حيث الأدب ، فتكون دائرة الإطلاق والتقييد وسيعة.

ثمّ إنّ اسم الجنس يكون من مصاديق المطلق بعد أنّه لا ينحصر في الجواهر والأعراض كالرجل والسواد ، بل يتحقّق في الامور الاعتباريّة أيضا كالملكيّة والزوجيّة ، فنقول : إنّ الواضع حين وضع أسماء الأجناس قد تصوّر ماهيّة الإنسان ـ مثلا ـ ووضع اللفظ بإزاء نفس الماهيّة ، والمستعمل فيه أيضا يكون نفس الماهيّة ، سواء كان الاستعمال بصورة القضيّة الحمليّة

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٥٧٨

بالحمل الأوّلي ـ مثل ـ : «الحيوان الناطق إنسان» أو بصورة القضيّة الحمليّة بالحمل الشائع ، مثل : «زيد إنسان» ، فيكون المحمول ـ أي الإنسان ـ في كلتا القضيّتين بمعنى واحد ، إلّا أنّ معنى القضيّة الاولى يرجع إلى أنّ الحيوان الناطق ماهيّة الإنسان ، ومعنى الثانية يرجع إلى أنّ زيدا فرد من ماهيّة الإنسان.

ولكن يستفاد من كلام المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) أنّ الإنسان في «زيد إنسان» بلحاظ ارتباطه بالكثرة ، غير الإنسان في «الحيوان الناطق إنسان» ، وقال : لا منافاة بين كون الماهيّة في مرحلة الوضع ملحوظة بنحو اللابشرط القسمي ، وكون الموضوع له هو ذات المعنى ؛ تسرية للوضع إلى المعنى بجميع أطواره.

وهذه العبارة تهدينا إلى أنّه قائل بالفرق بين الإنسان في القضيّتين ؛ بأنّ «زيد إنسان» ناظر إلى حالة خاصّة للمعنى ، و «بكر إنسان» ناظر إلى حالة خاصّة اخرى له ، وهكذا ، بخلاف «الحيوان الناطق إنسان» ، فإنّه لا يكون ناظرا إلى الكثرة والأطوار.

وهذا الكلام منه عجيب ، فإنّ معنى الإنسان عبارة عن الماهيّة ، ولا تتحقّق له الحالات والأطوار ، واتّحاد ماهيّة الإنسان مع زيد وعمرو ... من حيث الوجود لا يرتبط بالمعنى بلحاظ ارتباط الوضع بالماهيّة التي ليست لها حالات ، ومصداقيّة الأفراد المذكورة لها لا يوجب أن يتحقّق لها حالات مختلفة ، فترتبط الحالات بالوجود ، ونسبة الماهيّة إلى جميع الحالات من الوجود والعدم ونحو ذلك على السواء ، فيكون الإنسان في كلتا القضيّتين

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ٤٩١.

٥٧٩

بمعنى واحد.

ولو فرضنا أنّ الواضع حين الوضع لاحظ الماهيّة بنحو اللابشرط القسمي ولكنّ الموضوع له هو نفس الماهيّة كما صرّح بذلك ، ومعلوم أنّ الاستعمال تابع للموضوع له لا الوضع ، فلا فرق بين القضيّتين من هذه الجهة.

٥٨٠