دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

لا شكّ فيه ، ونلاحظ الركوع والسجود مع عنوان الكون في مكان الغير ، وكون الركوع والسجود من مقولة الوضع ، والكون في مكان الغير من مقولة الأين لا يكون قابلا للإنكار.

وجوابه أوّلا : سلّمنا أنّ بطلان الجزء الركني مستلزم لبطلان الصلاة ، وأمّا صحّته فلا تستلزم صحّة الصلاة ، وهو قدس‌سره يكون في مقام إثبات صحّة الصلاة ، لا في مقام إثبات بطلانها ، فيستفاد منه عكس المراد.

وثانيا : أنّ الركوع بنظره قدس‌سره عبارة عن الأفعال المتلاصقة المتّصلة وإن لاحظناها مع أنفسها سلّمنا كونها من مقولة الوضع ، ولكن إن لاحظناها بالنسبة إلى الفضاء المتحيّز فيها تكون داخلة في مقولة الأين ، فإنّ لانحناء الإنسان بالنسبة إلى هذا الفضاء حالة مخصوصة غير حالة قيام الإنسان بالنسبة إليه ، فتكون حالة الركوع نوع من احتلال الفضاء ، فالغصب والركوع معا يكون على مبناه من مقولة الأين.

وقال استاذنا السيّد البروجردي قدس‌سره (١) بجواز اجتماع الأمر والنهي ، ومع هذا يؤكّد على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة ، ومحصّل كلامه قدس‌سره :

أنّ متعلّق الأوامر والنواهي في مرحلة تعلّقها عبارة عن الماهيّات والطبائع والمفاهيم ، فتمام متعلّق الأمر في هذه المرحلة هو مفهوم الصلاة ، وتمام متعلّق النهي هو عنوان التصرّف في مال الغير ، ولا ربط بينهما في هذه المرحلة بأيّ نحو من الارتباط ، ولذا لا إشكال في جواز اجتماع الأمر والنهي ، وتصادق العنوانين على شيء واحد يرتبط بمرحلة الوجود والتحقّق في الخارج ، ولكن إذا كانت مادّة اجتماع العنوانين عبادة ، مثل : الصلاة في الدار المغصوبة فيتحقّق

__________________

(١) نهاية التقرير ١ : ٢٤٨.

٣٠١

عنوان المقرّبيّة والمبعّديّة أيضا ، إلّا أنّ موضوعهما عبارة عن الوجود الخارجي للعبادة لا ماهيّتها ولا وجودها الذهني ؛ إذ المقرّبيّة تترتّب على الوجود الخارجي للصلاة ، كما أنّ المبعّديّة تكون من شأن الوجود الخارجي للغصب.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّه لا يتصوّر للصلاة في الدار المغصوبة أزيد من وجود واحد ، وإن كانت في عالم المفاهيم متكثّرة ومتعدّدة ، ولكن في ظرف المقرّبيّة والمبعّديّة ليست إلّا وجودا واحدا ، ولا يمكن أن يكون وجود واحد بما أنّه واحد مقرّبا ومبعّدا معا ، ولذا لا إشكال في بطلان الصلاة في الدار المغصوبة. هذا تمام كلامه قدس‌سره.

ولكنّه قابل للمناقشة بنظري القاصر بعد تسليم جميع مراحل كلامه ، من كون مرحلة تعلّق الأحكام هي مرحلة المفاهيم والعناوين ، وعدم الارتباط بين عنوان الصلاة وعنوان الغصب في هذه المرحلة ، وكون المقرّبيّة والمبعّديّة من لوازم الوجود الخارجي للصلاة والغصب ، لا من لوازم الماهيّة ، وأنّه لا يتحقّق للصلاة في الدار المغصوبة إلّا وجود واحد ، ولكنّ البحث في أنّ الصلاة إذا وقعت في الدار المباحة ، هل يكون لإباحة الدار دخل في المقرّبيّة إلى المولى أم لا؟ لا شكّ في أنّ هذا الوجود الخارجي بما أنّه مصداق لمفهوم الصلاة مع وصف تحقّقه في الخارج مقرّب للمولى ، ولا دخل لوقوعها في الدار المباحة في المقرّبيّة أصلا ، وإذا تحقّقت الصلاة في الدار المغصوبة يتحقّق عنوان آخر أيضا ـ وهو عنوان الغصب ـ بوجود واحد ، فلا مانع من كون وجود واحد بما أنّه صلاة مقرّب للمولى وبما أنّه غصب مبعّد عنه ، وجود المضاف إلى الصلاة مقرّب ، ووجود المضاف إلى الغصب مبعّد.

ولذا لا يصحّ التعبير بأنّه يكون جعل المبعّد مقرّبا ؛ إذ الوجود الخارجي بما

٣٠٢

أنّه منطبق عليه عنوان الصلاة يكون مقرّبا ، وبما أنّه منطبق عليه عنوان الغصب يكون مبعّدا ، ولذا يكون لازم القول بجواز الاجتماع وثمرته صحّة الصلاة في الدار المغصوبة كما قال به المشهور.

وأمّا على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي فيقول بعض بتقدّم الأمر على النهي ، ويقول البعض الآخر بتقدّم النهي على الأمر ، وتمسّك كلّ منهما بوجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

فإن قلنا بامتناع الاجتماع وترجيح الأمر على النهي تكون الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة على القاعدة ؛ لكونها مأمورا بها فقط. ولكن بلحاظ كون البحث عن ثمرة عمليّة ومقام تطبيق الأمر والنهي يقتضي ترجيح الأمر على القول بالامتناع أن لا يكون للمكلّف مندوحة ؛ إذ لو كان إتيان الصلاة في الدار المباحة ممكنا فلا معنى لترجيح الأمر وأقوائيّة ملاكه ، ولا بدّ من إتيانها في الدار المباحة ، كما أنّ الترجيح في باب التزاحم يكون فيما إذا لم يمكن إنقاذ الغريقين ؛ إذ لا تصل النوبة إلى ترجيح أقوى الملاكين في صورة إمكان إنقاذهما ، ولذا لا بدّ من جعل الفرض فيما إذا لم يمكن إتيان الصلاة إلّا في الدار المغصوبة ، وحينئذ يقول القائل بتقديم الأمر بأنّ الصلاة ـ بلحاظ كونها عمود الدين وإطلاق عنوان الكفر على تاركها في الروايات ـ ليست إلّا مأمورا بها ، وهذا يكفي في الاتّصاف بالصحّة.

وإن قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي وترجيح النهي على الأمر ، وعلم المصلّي بأنّ هذه الدار مغصوبة وأنّ الغصب حرام ، أو كونه جاهلا مقصّرا ، فلا محالة تكون الصلاة باطلة قطعا ؛ إذ لا يتصوّر وجها لصحّة صلاته.

وأمّا إن كان المصلّي جاهلا بالموضوع أو الحكم بأنّه لم يتوهّم أنّ الغصب

٣٠٣

يكون من المحرّمات أو لم يكن له طريق إلى السؤال وكشف الواقع بعد التوهّم ـ ويعبّر عنه بالجاهل القاصر ـ فهذه الصورة تكون محلّ البحث والنزاع من حيث صحّة الصلاة وبطلانها.

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إنّه : «لا يتصوّر وجها لبطلان صلاته ؛ لكونه جاهلا بالحرمة ، وكان في جهله معذورا».

وكلامه قدس‌سره يكون في بادئ النظر صحيحا ، ولكنّه يحتاج إلى الدقّة والتحليل ؛ إذ المفروض هاهنا القول بالامتناع وترجيح النهي على الأمر ، فلا تكون الصلاة في الدار المغصوبة مأمورا بها أصلا ، وحينئذ إن قلنا : بأنّ صحّة الصلاة تحتاج إلى الأمر وبدونه تكون باطلة فلا بحث في البين ، ولا إشكال في بطلان الصلاة ، فإنّها ليست إلّا منهيّا عنها ، وجهله لا يوجب تغيير الحكم إلّا أنّه مانع عن تنجّز التكليف وترتّب استحقاق العقوبة على مخالفة النهي ؛ لأنّه جاهل قاصر.

ويمكن أن يقول صاحب الكفاية قدس‌سره : بأنّ صحّة العبادة لا تحتاج إلى الأمر الفعلي ، بل يكفي في صحّتها تحقّق مناط الأمر ، كما قال في مسألة الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن الضدّ أم لا ، بأنّ الصلاة مكان الإزالة صحيحة على القول بعدم الاقتضاء ؛ لتحقّق مناط الأمر فيها ، فيمكن أن يقول هاهنا أيضا كذلك ، لا سيّما بعد قوله في المقدّمة الثامنة والتاسعة : إنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا حتّى في مورد التصادق والاجتماع ، كما أنّ الصلاة في الدار المغصوبة تكون مشتملة على المصلحة اللازمة الاستيفاء ، والمفسدة اللازمة الترك معا ، فعلى هذا يكون دليل صحّة صلاة الجاهل القاصر تحقّق مناط الأمر.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٣٠٤

وجوابه يحتاج إلى الدقّة في أنّه هل يمكن تحقّق ملاك الأمر هاهنا على القول بالامتناع وترجيح النهي على الأمر أم لا؟ وعلى فرض إمكان تحقّقه هل تكون الصلاة في الدار المغصوبة مثل الصلاة مكان الإزالة من حيث كفاية تحقّق مناط الأمر في صحّتها أم لا؟

إن قلنا : بجواز الاجتماع يتصادق في مادّة الاجتماع العنوانان والماهيّتان والطبيعتان ، وليس المراد منهما الطبيعة والماهيّة المنطقيّة حتّى لا يمكن تصادقهما في مورد واحد كما سيأتي ، بل هما أمران اعتباريّان كما مرّ ، ولذا تكون الصلاة في الدار المغصوبة مجمع العنوانين ، ولا مانع من صدق عنوان المأمور به وعنوان المنهي عنه عليه معا ، ومن هنا نستكشف تحقّق المناطين فيها ، أي المصلحة اللازمة الاستيفاء بما أنّها صلاة ، والمفسدة اللازمة الترك بما أنّها غصب.

وإن قلنا : بامتناع الاجتماع وترجيح الأمر على النهي فلا إشكال في تحقّق الأمر وكاشفيّته عن تحقّق المصلحة الملزمة.

وإن قلنا : بامتناع الاجتماع وترجيح النهي على الأمر يكون الدليل للامتناع ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ـ عبارة عمّا يترتّب على مقدّمات أربعة : وهو أنّ بعد تحقّق التضادّ بين الأحكام الخمسة التكليفيّة ، وبعد أنّ متعلّق الأحكام هو ما يصدر من المكلّف ويتحقّق في الخارج ، وبعد أنّ تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ، وبعد أنّ وحدة الوجود ملازمة لوحدة الماهيّة ، يتحقّق ويستفاد منها أنّ الصلاة في الدار المغصوبة لو كانت واجبة ومحرّمة معا يلزم اجتماع المتضادّين في شيء واحد ، وهو مستحيل عقلا كاستحالة اجتماع السواد والبياض في جسم واحد.

٣٠٥

وفيه : أنّه لو فرض تماميّة هذه المقدّمات وتماميّة أنّ وجوب الصلاة في الدار المغصوبة وحرمتها معا يستلزم اجتماع المتضادّين فنسأل : أنّه كيف يمكن القول بتحقّق المصلحة اللازمة الاستيفاء والمفسدة اللازمة الترك معا فيها إن تحقّق التضادّ بين الواجب والحرمة مع أنّهما أمران اعتباريّان؟ وكيف لا يتحقّق التضادّ بين المصلحة والمفسدة مع أنّهما أمران واقعيّان؟ ولا مجال له إلّا من القول بتحقّق التضادّ بينهما أيضا.

وحينئذ كيف يمكن تصوّر اجتماع الملاكين في شيء واحد؟ وقد مرّ تصريحه بأنّه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّا أن يتحقّق في مادّة الاجتماع كلا الملاكين ، ولا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ، فالصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت من حيث العنوان متعدّدة ولكنّها لا تتّصف بالصحّة ، ولا يمكن وقوعها معروضة للوجوب والحرمة معا بلحاظ وحدة المعنون.

ويرد عليه : أنّه كيف يمكن أن يكون معنون واحد حاملا لهذين المناطين ـ أي المصلحة والمفسدة الملزمتين ـ معا؟ ولازم بيانه قدس‌سره أنّه لا يتحقّق في مادّة الاجتماع إلّا مناط النهي ، إلّا أنّ جهل المكلّف مانع عن تنجّزه وترتّب العقوبة على مخالفته ، وليس معناه تحقّق مناط الأمر مكان مناط النهي ؛ إذ لا يمكن تحقّق مناط الأمر مع وجود مناط النهي ، فلو فرض كفاية مجرّد مناط الأمر في صحّة العبادة يكون السؤال هكذا : أنّ مع القول بالامتناع وترجيح النهي على الأمر أين ملاك الأمر؟

ولو فرض تحقّق كلا المناطين في مادّة الاجتماع ـ على القول بالامتناع وترجيح النهي على الأمر أيضا ـ هل يكفي مجرّد تحقّق مناط الأمر في صحّة العبادة مطلقا أو في بعض الموارد؟ وقد مرّ في بحث الاقتضاء أنّ على القول

٣٠٦

بالاقتضاء تكون الصلاة منهيّا عنها والنهي المتعلّق بالعبادة يوجب البطلان ، وعلى القول بعدم الاقتضاء وإن لم يقتض الأمر المتعلّق بالإزالة كون الصلاة منهيّا عنها في حال الإزالة ، ولكن يقتضي عدم كونها مأمورا بها في هذه الحالة على القول باستحالة الترتّب ، ومع ذلك تكون الصلاة مكان الإزالة صحيحة ؛ لتحقّق مناط الأمر والمصلحة الملزمة فيها.

وأمّا على القول بالامتناع وترجيح النهي على الأمر وعدم تنجّزه بلحاظ كون المكلّف جاهلا معذورا بعد فرض تحقّق ملاك الأمر ، فهل تتّصف صلاته في الدار المغصوبة بالصحّة ـ كالصلاة مكان الإزالة ـ أم لا ؛ لتحقّق الفرق بين ما نحن فيه والصلاة مكان الإزالة ، بعد تحقّق مناط الأمر في كلتيهما؟

قال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) في مقام بيان الفرق بينهما : إنّ التزاحم على قسمين : قسم منه التزاحم بين الحكمين ، والقسم الآخر التزاحم بين المقتضيين والمناطين ، وبينهما بون بعيد ، فإنّ تزاحم الحكمين إنّما يكون في مقام الفعليّة وتحقّق الموضوع بعد الفراغ عن مرحلة الجعل والإنشاء ؛ لإطلاقهما في هذه المرحلة وتعلّقهما بطبيعة متعلّقهما بلحاظ جميع أفرادها ، من متحقّقة الوجود ومقدّرة الوجود ، مثل : إطلاق «أنقذ الغريق» ، فإنّه تعلّق بإنقاذ كلّ فرد من أفراد الغريق ، ومنشأ التزاحم عبارة عن عدم قدرة المكلّف في مقام الامتثال ؛ لإنقاذ كلا الغريقين في آن واحد ، فلذا تجري قواعد باب التزاحم من الأخذ بالأهمّ أو التخيير ، والتزاحم بين الصلاة والإزالة على القول بعدم الاقتضاء يكون من هذا القبيل ، وأثر هذا النوع من التزاحم أنّ المكلّف إن كان جاهلا قاصرا بوجوب فوريّ الواجب الأهمّ تكون صلاته صحيحة ؛ لعدم تنجّز

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٤.

٣٠٧

الأمر بالأهمّ ، وتكون الصلاة مأمورا بها حقيقة ، ووقعت إطاعة لأمرها ، فلا وجه لبطلانها.

وأمّا تزاحم المناطين فإنّما يكون في مقام الجعل والإنشاء حيث يتزاحم المقتضيان في نفس الآمر وإرادته ، ويقع الكسر والانكسار بينهما في ذلك المقام ، ويرى تحقّق الملاكين للصلاة في الدار المغصوبة ، وينشأ حكما على طبق ملاك النهي فقط بلحاظ أقوائيّته ، فيكون حكمها أنّها منهيّ عنها.

ولازم القول بالامتناع وترجيح النهي تقييد إطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بعدم وقوعها في الدار المغصوبة ، وبقاء «لا تغصب» على إطلاقه ، وأثر هذا النوع من التزاحم أنّ المكلّف إن كان جاهلا قاصرا بحرمة الغصب يكون جهله مانعا عن تنجّز النهي وترتّب استحقاق العقوبة على مخالفته ، فلا وجه لصحّة الصلاة بعد انكسار مناط أمرها ومغلوبيّته في مرحلة الجعل ، ولا يستلزم عدم تنجّز النهي تحقّق مناط الأمر في محلّه ، بل الأولى تسمية تزاحم الحكمين بالتعارض لدخالة مناط واحد في جعل الحكم ، وهو مناط النهي.

وأشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) بأنّه ليس معنى غالبيّة ملاك النهي وراجحيّته ومغلوبيّة ملاك الأمر ومرجوحيّته انعدام ملاك الأمر وحذفه عن عالم الواقع ، بل يكون ملاك الأمر أيضا تامّا ، ولكن لم ينشأ الحكم على طبقه لأجل المانع ، وهو أتمّيّة ملاك النهي ، وإذا فرض كفاية تحقّق الملاك لصحّة العبادة وعدم تنجّز النهي بلحاظ الجهل فلا مانع من صحّة الصلاة في الدار المغصوبة ، ورجوع هذه المسألة إلى التعارض ليس بصحيح ؛ إذ لا يتحقّق في التعارض أزيد من ملاك واحد ، فلا فرق بين ما نحن فيه وبين الضدّين

__________________

(١) تهذيب الأصول ١ : ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

٣٠٨

المتزاحمين كالصلاة مكان الإزالة.

إن قلت : إنّ بين المسألتين فرقا ؛ إذ يكون المقام من صغريات باب التعارض ، ومع ترجيح جانب النهي ينشأ الأمر بالصلاة في غير الدار المغصوبة ، والتقييد هنا كسائر التقييدات ، ولكنّ النهي عن الغصب مطلق لا تقييد فيه ، فالصلاة في الدار المغصوبة ليست بمأمور بها.

قلت : إنّ التقييد يتحقّق بين الحكمين المتزاحمين أيضا ، فإنّ المولى المحيط بالأوضاع والشرائط يعلم بتزاحم الصلاة مع الإزالة أحيانا ، ويقتضي الأمر بالإزالة عدم كون الصلاة مأمورا بها في حال الإزالة ، ولازم ذلك تقييد إطلاق (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) بعدم وقوعها مكان الإزالة ، فيكون معناه : أقيموا الصلاة التي لم تكن مزاحمة مع الإزالة ، ففي كلتا المسألتين لا بدّ من الالتزام بالتقييد.

ويمكن أن يقال دفاعا عن المحقّق النائيني قدس‌سره : بأنّ التقييد في كلتيهما لا يكون قابلا للإنكار ، إلّا أنّه يتحقّق بين التقييدين فرق ، وذلك بأنّ التقييد بين الملاكين يرتبط بأصل جعل الحكم وإنشائه ، فإنشاء وجوب الصلاة مقيّد بعدم وقوعها في الدار المغصوبة بلحاظ تحقّق التزاحم في مرحلة الاقتضاء وغلبة ملاك النهي على ملاك الأمر في هذه المرحلة ، وإنشاء حرمة الغصب مطلق بلحاظ ترجيح ملاك النهي ، وأمّا في التزاحم بين الحكمين فيكون الإنشاء في كليهما مطلقا ، والتقييد يرتبط بمرحلة فعليّة إقامة الصلاة.

قلت : سلّمنا تحقّق الفرق المذكور بينهما ، ولكنّه لا يمكن أن يكون فارقا في محلّ البحث ، فإنّ دليل صحّة الصلاة مكان الإزالة هل يدل على تحقّق الملاك أو تحقّق الحكم الإنشائي الغير الفعلي؟ لا شكّ في أنّ دليل الصحّة عبارة عن تحقّق الملاك ، ولا أثر لوجود حكم إنشائي غير فعلي وعدمه ، وملاك الأمر

٣٠٩

مرجوح ومغلوب بالنسبة إلى ملاك النهي وليس بمعدوم ، وبعد عدم تنجّز النهي تكون الصلاة صحيحة ؛ لتحقّق الملاك.

هذا ، ولكنّ الأصل في الجواب هو الجواب الأوّل كما قلنا : وهو أنّه على القول بالامتناع وترجيح جانب النهي لا يتحقّق إلّا ملاك النهي ، وليس معنى عدم تنجّز ملاك النهي بلحاظ الجهل به تحقّق ملاك الأمر ، ولذا تكون الصلاة باطلة.

ولا بدّ من ذكر مسألة اخرى أيضا بعنوان مقدّمة ، وهي : أنّ العنوانين المذكورين في عنوان البحث إذا كانا متباينين فلا كلام في عدم جريان النزاع فيهما كالنظر إلى الأجنبيّة في حال الصلاة ؛ لعدم اتّحادهما معا وإن تحقّقت المقارنة بينهما ، ولذا ذكرنا أنّه لا بدّ من مقايسة الصلاة مع الكون في دار الغير ؛ لاتّحادهما معا ، بخلاف الغصب ، فلا إشكال في جواز اجتماع الأمر والنهي في المتباينين ، ولا قائل بالامتناع أصلا ، فهما خارجان عن محلّ النزاع.

وإن كان بينهما تساوي فهل يمكن للمولى أن يقول : «أكرم كلّ إنسان» ، ثمّ يقول: «لا تكرم كلّ ضاحك»؟

وقد مرّ عن المحقّق الخراساني قدس‌سره في بحث الاقتضاء إنكار المقدّميّة في الضدّين وأنّ عدم أحد الضدّين ليس بمقدّمة للضدّ الآخر ، وقبول التلازم فيهما ، سيّما في الضدّين الذين لا ثالث لهما.

ثمّ قال : إنّ أحد المتلازمين إن كان محكوما بحكم إلزامي ـ مثل الوجوب ـ فلا يمكن أن يكون الملازم الآخر محكوما بحكم إلزامي مباين له مثل الحرمة ، فإذا تعلّق الوجوب بفعل الإزالة فليس معناه تعلّق الوجوب بترك الصلاة أيضا ، بل لا يمكن تعلّق الحرمة به فقط ، ولذا يقول فيما نحن فيه : إنّ الإنسان

٣١٠

ملازم للضحك ، وكيف يمكن تعلّق الحكمين اللزوميّين المتضادّين بهما ، ولا إشكال في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في المتساويين ، فهما أيضا خارجان عن محلّ النزاع.

وقد أمضينا البحث في الدورة السابقة بهذه الكيفيّة ولكن دقّة النظر تقتضي خلافه ؛ إذ قد مرّ عدم مدخليّة قيد المندوحة في محلّ النزاع ؛ لتمحّضه في تكليف محال ، وأنّه يمكن للمولى الحكم بحكمين متباينين في العنوانين المتصادقين أم لا ، والمحاليّة الناشئة عن عدم المندوحة ترتبط بتكليف بمحال ، وهو خارج عن محلّ النزاع كما مرّ تفصيله ، ويجري هذا المعنى في المتساويين أيضا ؛ إذ الإنسان والضاحك عنوانان متصادقان ، وليس من شرائطهما تحقّق مادّة افتراقهما ، وعدم إمكان اجتماع إكرام الإنسان مع عدم إكرام الضاحك يرتبط بالمكلّف به وعدم قدرة المكلّف ، وهذا خارج عن محلّ النزاع ، والبحث في تعلّق الأمر والنهي بالعنوانين المتصادقين مع قطع النظر عن قدرة المكلّف وعدمه ، فالظاهر أنّ المتساويين داخلان في محلّ البحث ، وإن لم يكن له ثمرة عمليّة لامتناع التكليف بالمحال عندنا أيضا ، ولكن يترتّب عليه ثمرة علميّة.

اختلف العلماء في جريان النزاع وعدمه في الأعمّ والأخصّ المطلقين ، قال المحقّق القمّي (١) والنائيني قدس‌سرهما (٢) وعدّة اخرى بعدم جريانه فيه ، وقال صاحب الفصول (٣) بجريانه فيه ، ولكنّه ينقسم إلى قسمين : إذ قد تكون الأعمّية والأخصّية بحسب المورد لا المفهوم ، ولم يؤخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ ، مثل : أعمّية الحيوان بالنسبة إلى الإنسان ، فإنّهما مفهومان متغايران ، ولم يؤخذ في

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ١٤٠ ـ ١٥٣.

(٢) فوائد الاصول ٢ : ٤١٠.

(٣) الفصول الغرويّة : ١٢٦.

٣١١

مفهوم الإنسان ومدلوله مفهوم الحيوان ، ولذا لا ننتقل من سماع كلمة الإنسان إلى الحيوان ، ودخالة الحيوان في ماهيّة الإنسان بعنوان الجنس لا يرتبط بالمفهوم والعنوان.

وقد تكون الأعمّية والأخصّية بحسب المفهوم ، وهو ما إذا اخذ مفهوم العامّ في الخاصّ ، مثل عنوان الرقبة ورقبة مؤمنة ، وعنوان الصلاة والصلاة في الدار المغصوبة.

والظاهر أن يكون القسم الأوّل داخلا في محلّ النزاع ، مثل : أن يقول المولى : «أكرم عالما» ، ثمّ يقول : «لا تكرم إنسانا» ، فإنّهما عنوانان متغايران ومتصادقان على وجود واحد ، بل يكون دخوله في محلّ النزاع أظهر من المتساويين ؛ لتحقّق مادّة الافتراق من ناحية العامّ ، وكلام صاحب الفصول ناظر إلى هذا القسم من العامّ والخاصّ المطلق.

وأمّا القسم الثاني مثل : أن يقول المولى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، ثمّ يقول : «لا تصلّوا في الدار المغصوبة» ، بناء على كون النهي تحريميّا ، لا الإرشادي إلى بطلان الصلاة ، فلقائل أن يقول بعدم دخوله في محلّ النزاع ؛ إذ المطلق عبارة عن المعنى المقيّد بالشمول والسريان لجميع الأفراد ، كتقييد المقيّد كما قال به القدماء ، ولذا يستلزم تقييد المطلق المجازيّة بعد وضعه لذات الموضوع له مع قيد الإطلاق.

ولكنّ التحقيق : أنّ المطلق خال عن القيد ، يعني يكون لا بشرط ، ولذا لا يكون تقييد المطلق مستلزما للمجازيّة بلحاظ أنّ اللابشرط يجتمع من ألف شرط ، فلا مانع من كون متعلّق الأمر مطلق الصلاة ومتعلّق النهي الصلاة المقيّدة بوقوعها في الدار المغصوبة لتعدّد العنوانين وتصادقهما في واحد.

٣١٢

ولا يقال : إنّ الصلاة في الدار المغصوبة هي الصلاة المطلقة ، ولا يمكن القول باجتماع الأمر والنهي هاهنا ، ولذا يكون خارجا عن محلّ النزاع.

لأنّا نقول : إنّه لا دخل لمعنى المطلق بهذه الكيفيّة في محلّ النزاع بعد تعدّد العنوانين وتصادقهما في واحد ، فيكون الأعمّ والأخصّ المطلق بكلا قسميه داخلا في محلّ النزاع.

وأمّا العموم والخصوص من وجه فهل يكون مطلقا داخلا في محلّ النزاع أم لا؟ وكان للمحقّق النائيني قدس‌سره (١) بيان مفصّل هاهنا ، وحاصله : أنّ مع وجدان الشرائط الثلاث للعموم والخصوص من وجه يدخل في محلّ النزاع :

الأوّل : أن يكون العموم من وجه بين المتعلّقين لا بين الموضوعين ، ومعلوم أنّ المتعلّق عبارة عن فعل المكلّف ، والموضوع عبارة عمّا يضاف فعل المكلّف إليه ، مثلا : يكون متعلّق النهي في مثل «لا تشرب الخمر» عبارة عن شرب الخمر ، والموضوع هو الخمر ، فلا بدّ من كون العموم من وجه بين المتعلّقين ، مثل : الصلاة في الدار المغصوبة ، فإنّ كلّا من الصلاة والغصب فعل المكلّف ، والنسبة بينهما العموم من وجه ، فيدخل في محلّ النزاع ، وأمّا مثل : «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» فهو خارج عن محلّ النزاع بلحاظ تحقّق العموم من وجه بين الموضوعين ـ أي العالم والفاسق ـ لا بين المتعلّقين ؛ إذ المتعلّق في كليهما أمر واحد ، وهو الإكرام.

وقد مرّ أن ذكرنا في مقام الاستدلال للقول بالجواز أنّ الصلاة من مقولة والغصب من مقولة اخرى ، ولا يمكن الاجتماع بين المقولات ؛ لتحقّق التباين بينها ، فتكون الصلاة بعنوان مقولتها متعلّق الأمر ، والغصب بعنوان مقولة

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ٤١٠ ـ ٤١٢.

٣١٣

اخرى متعلّق النهي ، فلا بدّ من كون المتعلّقين من مقولتين ، وإلّا يكون خارجا عن محلّ النزاع ، هذا تمام الكلام في الشرط الأوّل.

الشرط الثاني : أنّه يكفي في الأفعال التوليديّة والتسبيبيّة أن يكون المتعلّق مقدورا للمكلّف مع الواسطة ، والحكم فيها بحسب الواقع يتعلّق بالسبب وما هو مقدور له بلا واسطة ، وإن تعلّق بحسب الظاهر بالمسبّب ، ولا بدّ من كون العموم من وجه مربوطا بالسبب لا بالمسبّب وإلّا خرج عن محلّ النزاع ، مثلا : إذا قال المولى : «أكرم العالم» ، فكأنّه قال في الحقيقة : «إذا ورد عليك العالم يجب عليك القيام في مقابله» ؛ إذ الإكرام مسبّب والقيام سبب لتحقّقه ، وإذا قال بعده : «لا تكرم الفاسق» وقصد المكلّف بقيام واحد في مقابلهما إكرامهما معا بعد ورودهما عليه ، فهو خارج عن محلّ النزاع ، ولا بدّ من القول بالامتناع ؛ إذ المأمور به والمنهيّ عنه معا عبارة عن القيام بقصد التعظيم ، فلا تتحقّق فيه المقولتان المتباينتان ، فالعموم من وجه إذا تحقّق في الأفعال التوليديّة خرج عن محلّ النزاع.

الشرط الثالث : أن يكون التركيب بين المقولتين في مادّة الاجتماع تركيبا انضماميّا لا تركيبا اتّحاديّا ؛ بأن يكون لكلّ جزء من أجزاء المركّب عنوان مستقلّ ، وماهيّة مستقلّة ، ويتحقّق التركيب والانضمام بينهما مع حفظ مقولتهما ، ولذا لا يتوهّم أنّه لا يمكن تحقّق الاتّحاد بين المقولتين حتّى يعبّر عنه بمادّة الاجتماع ؛ إذ لا بدّ من كون التركيب بينهما تركيبا انضماميّا ، وإلّا يكون خارجا عن محلّ النزاع ، مثلا : إذا قال المولى : «اشرب الماء» ، ثمّ قال : «لا تغصب» فالمكلّف إن شرب الماء في المكان المغصوب فهو داخل في محلّ النزاع ، وإن شرب الماء المغصوب فهو خارج عن محلّ النزاع ، فإن كان العموم من وجه

٣١٤

واجدا لهذه الشرائط الثلاثة دخل في محلّ النزاع ، وإن كان فاقدا لأحد منها خرج عنه. هذا توضيح كلامه قدس‌سره.

ولكنّ التحقيق : أنّ جميع الشرائط المذكورة مورد للمناقشة ، فإنّ منشأ الشرط الثالث عبارة عن الاعتقاد بأمرين : أحدهما : أنّ التركيب يرتبط بالموجودات الخارجيّة بلحاظ اجتماعها خارجا ، ولا يتحقّق في عالم العناوين والطبائع أصلا ، ويجري بحث التركيب بهذه الكيفيّة على القول بتعلّق الأحكام بالوجودات الخارجيّة ، لا على القول بتعلّقها بالعناوين والطبائع كما هو الحقّ ؛ إذ لا يتحقّق فيها التركيب حتّى نبحث أنّه انضمامي أو اتّحادي.

وثانيهما : أنّه قائل بجواز اجتماع الأمر والنهي ، ومعلوم أنّه لا يمكن اجتماعهما في المركّب الاتّحادي ، فلا ضرورة على القول بالامتناع أن يكون في مادّة الاجتماع تركيبا انضماميّا ، مع أنّه لا بدّ من تحرير محلّ النزاع على جميع المباني.

وهكذا يكون منشأ الشرط الثاني اعتقاده بانصراف الأحكام حقيقة من المسبّبات إلى الأسباب في الأفعال التوليديّة والتسبيبيّة ، ولا ضرورة لهذا الشرط على القول بعدم انصراف الأحكام عن ظاهرها ، وأنّ الأحكام في الواقع أيضا متعلّقة بالمسبّبات ، فتكون هذه المسألة مسألة اختلافيّة ، ولازم القول بتعلّقها بالأسباب لا يكون إضافة القيد في عنوان محلّ النزاع هاهنا.

وأمّا الشرط الأوّل ـ أي اعتبار تحقّق العموم من وجه بين المتعلّقين لا بين الموضوعين ـ فقد مرّ أنّ دليل خروج «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» عن محلّ النزاع عبارة عن عدم إحراز كلا الملاكين في مادّة الاجتماع ، وإن أحرز في مورد تحقّقهما معا فلا شكّ في أنّه أيضا داخل في محلّ النزاع ، وإن لم تكن النسبة المذكورة بين المتعلّقين.

٣١٥

وإذا قيل : إنّ مقتضى القول بالاجتماع ـ استنادا إلى تعدّد المقولة ـ تحقّق هذا الشرط.

قلنا : إنّ البحث عن المقولة في الامور الاعتباريّة ليس بصحيح ، ونحن أيضا نقول بالاجتماع استنادا إلى تعدّد العنوان والمفهوم ، فالعموم من وجه داخل في محلّ النزاع مطلقا بعد إحراز تحقّق الملاكين في مادّة الاجتماع.

أصل البحث في المسألة وبيان المختار فيها

وبعد الفراغ عن بيان المقدّمات وصلنا إلى أصل البحث في المسألة ، فالمحقّق الخراساني قدس‌سره قائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وأكثر تلامذته يقولون بجوازه ، ومقتضى التحقيق هو القول بالجواز ، ولا بدّ لنا من التوجّه إلى امور لإثبات هذا المطلب :

الأوّل : أنّ تعلّق الأحكام بالطبائع والعناوين كاشف عن تحقّق الملاك فيها ، مثلا : تعلّق الأمر بالصلاة معلول لتحقّق الجهة المقتضية فيها ، مثل : كونها معراج المؤمن ، وناهية عن الفحشاء والمنكر ، ونحو ذلك ، وهكذا في باب النواهي ، فإنّا نستكشف من تعلّق النهي بشرب الخمر دون شرب الماء أنّه تتحقّق لا محالة في شرب الخمر علّة مقتضية له ، وهذا مطلب واضح.

وبعبارة اخرى : أنّه لا بدّ في تعلّق الإرادة التكوينيّة بالمراد من تصوّر المراد والتفات النفس إليه وتصديق فائدته ، ولا يمكن تعلّقها به بدون المبادئ ، بل كلّ كلمات الخطيب ـ مثلا ـ في حال الخطابة والتكلّم بالألفاظ والكلمات سريعا يكون مسبوقا بالإرادة ، وكلّ إرادة مسبوقة بالمبادئ ولكنّها بعناية إلهيّة ، والحالة الخلّاقيّة للنفس الإنسانيّة تتحقّق سريعا ، وهكذا في الإرادة التشريعيّة ، ومن المعلوم أنّ تعلّق إرادة الباري بالبعث الاعتباري إلى الصلاة

٣١٦

يكون لتحقّق خصوصيّة في المبعوث إليه ، وهكذا في تعلّق زجره الاعتباري بشرب الخمر مثلا.

إنّما الكلام في أنّه إذا تعلّق الحكم بطبيعة لتحقّق الملاك فيها ، مثل : تعلّق الأمر بالصلاة لكونها ناهية عن الفحشاء والمنكر ، هل يكون حامل الملاك وواجد هذه الخصوصيّة عبارة عن نفس طبيعة الصلاة أو يكون لبعض العوارض المتّحدة معها في الخارج أيضا دخل في الملاك؟ وإذا تحقّقت الصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلا ـ هل يكون المؤثّر في النهي عن الفحشاء والمنكر عبارة عن الصلاة مع خصوصيّة وقوعها في الدار المغصوبة أو بدونها؟ ومعلوم أنّ التأثير منحصر بطبيعة الصلاة ، وإذا كان الأمر كذلك فلا شكّ في عدم سراية الأمر عن متعلّقه إلى ما يتّحد معه في الوجود الخارجي ؛ إذ الأمر تابع للملاك والملاك متقوّم بطبيعة الصلاة ، ولا دخل لغيرها في تحقّق الملاك ، فكيف يعقل سراية الأمر إلى ما تتّحد الصلاة معه أحيانا؟!

الأمر الثاني : أنّ التمسّك بأصالة الإطلاق متوقّف على جريان مقدّمات الحكمة ، والبحث في معنى أصالة الإطلاق ، وأنّ معنى الإطلاق في الآية الشريفة : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) عبارة عن الشمول وسريان الحكم بالحلّيّة والنفوذ بجميع الأفراد ومصاديق البيع ، نظير قولنا مثلا : أحلّ الله كلّ بيع ، فلا فرق بين أصالة الإطلاق وأصالة العموم من حيث النتيجة ، والاختلاف بينهما في الطريق فقط ، أو يتحقّق بينهما اختلاف ماهويّ بأنّ مفاد أصالة العموم معلوم لنا بلحاظ دلالة كلمة «كلّ» على الشمول والسريان واستيعاب جميع الأفراد.

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٣١٧

بخلاف أصالة الإطلاق فإنّه بعد إثباته من طريق مقدّمات الحكمة لا تدلّ إلّا على نفس الطبيعة ، وبعد فرض عدم دلالة المفرد المعرّف بالألف واللّام في مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لا طريق لدخالة الأفراد والأنواع في معنى البيع أصلا ، ومعناه أنّ تمام متعلّق الحكم بالحلّيّة والنفوذ عبارة عن نفس طبيعة البيع ، ولكنّ العقل يحكم بانطباق الحكم بالحلّيّة على كلّ فرد من أفراد البيع بما أنّه مصداق لهذه الطبيعة.

وعلى هذا تكون أصالة العموم أصلا لفظيّا بلحاظ أخذ اللفظ الدالّ على العموم في متعلّق الحكم ، وأصالة الإطلاق أصلا عقليّا يستفاد من مقدّمات الحكمة.

الأمر الثالث : أنّ الأوامر والنواهي هل تتعلّق بنفس الطبائع أو تتعلّق بالطبائع مع التقيّد بالوجود الذهني أو مع التقيّد بالوجود الخارجي؟ وأنّ معروض الوجوب في قولنا : «الصلاة واجبة» هي طبيعة الصلاة أو الصلاة الموجودة في الذهن أو الصلاة الموجودة في الخارج؟

ولا بدّ لنا قبل التحقيق في هذه المسألة من ذكر مقدّمة ، وهي : أنّه هل تتحقّق قضيّة حمليّة صادقة يكون الموضوع فيها نفس الطبيعة والماهيّة ، والمحمول فيها أحد الأعراض مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي في عروض هذا العرض عليه أم لا؟ قلت : نعم ، لا شكّ في تحقّقها في مثل «الإنسان كلّي» ؛ إذ المعروض بعرض الكلّيّة والموصوف بهذا الوصف هي نفس الماهيّة ، فإنّ تقيّدها بالوجود الذهني أو الخارجي يوجب التشخّص والجزئيّة ، وهي في مقابل الكلّية ، ويمتنع صدقها على كثيرين ، وإن كان ظرف تشكيل القضيّة هو الذهن ، ولكنّ الموضوع ليس الإنسان المقيّد بالوجود الذهني ، بل الموضوع

٣١٨

نفس ماهيّة الإنسان.

ولا ينافي ذلك ما هو المسلّم في علم الفلسفة من أنّ الماهيّة من حيث هي هي ليست إلّا هي ، وسلب جميع الأوصاف الوجوديّة والعدميّة عنها ، ومنها وصف الكلّية وغير الكلّية.

فإنّ معنى هذه العبارة أنّ الماهيّة في عالم الذات والذاتيّات وبالحمل الأوّلي محدودة بحدّها ، ولا يتجاوز عن الجنس والفصل ، وتكون بهذا الحمل قضيّة «الإنسان كلّي» قضيّة كاذبة ، وأمّا بالحمل الشائع فتكون قضيّة صادقة ، كما أنّ قضيّة «الإنسان موجود» أيضا تكون كذلك ، فهي بالحمل الشائع قضيّة صادقة والموضوع فيها نفس الماهيّة ، وإن لم تكن قضيّة ضروريّة لا بمعنى ضرورة ثبوت المحمول للموضوع كما في مثل : «الإنسان حيوان ناطق» ، ولا بمعنى الضرورة بشرط المحمول كما في مثل : «الإنسان المقيّد بالوجود الخارجي موجود فيه» و «الإنسان المقيّد بالوجود الذهني موجود فيه» ، ولا ممتنعة كما في مثل : «الإنسان المقيّد بالوجود الذهني موجود في الخارج» ، أو بالعكس ، بل هي قضيّة ممكنة صادقة بالحمل الشائع ؛ لتحقّق ملاكه فيها ، أي كون الموضوع من مصاديق المحمول ، ولكنّها بالحمل الأوّلي قضيّة كاذبة ، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ معروض الوجوب في قضيّة «الصلاة واجبة» ، هل هي نفس ماهيّة الصلاة ، أو الصلاة المقيّدة بالوجود الذهني أو المقيّدة بالوجود الخارجي؟ إن أثبتنا بطلان الاحتمالين الأخيرين تعيّن الاحتمال الأوّل ، فإن كانت الصلاة المقيّدة بالوجود الذهني متعلّقة للأمر فإنّه ينافي الغرض من وجوب الصلاة ؛ إذ الغرض منه ترتّب الآثار والثمرات عليها كالنهي عن الفحشاء والمنكر ، والمعراجيّة وأمثال ذلك ، وهذه لا تترتّب على

٣١٩

وجودها الذهني.

إن قلت : إنّ متعلّق الوجوب هي الصلاة المقيّدة بالوجود الذهني ، وأمّا في مقابل الامتثال فلا بدّ من إتيانها في الخارج.

قلت : إنّ بعد عدم مطابقة المأتي به مع المأمور به لا يمكن تحقّقها أصلا ؛ إذ الصلاة الموجودة في الذهن يمتنع انطباقها على الصلاة الخارجيّة ، ويستحيل موافقتها الصلاة الخارجيّة. فهذا الاحتمال بديهي البطلان.

والمهمّ هو الاحتمال الثالث ، وهو أن يكون متعلّق الحكم ما يصدر عن المكلّف خارجا ، ومعروض الوجوب هي الصلاة المقيّدة بالوجود الخارجي ، كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في المقدّمة الثانية من مقدّمات القول بالامتناع ، ويؤيّده ترتّب الآثار والثمرات على الصلاة المتحقّقة في الخارج دون الطبيعة بمجرّدها.

وهناك أدلّة متعدّدة على بطلان هذا الاحتمال ، وهي :

الأوّل : أنّ بيان قيد الموجود في الخارج ليس بضروري في مثل «الجسم أبيض» ؛ لوضوح عدم إمكان كون الجسم أبيض بدون تحقّقه في الخارج ، وفي القضايا الحمليّة وإن لم يكن بهذا الوضوح ، ولكن لا شكّ في تقدّم الموضوع على المحمول كتقدّم المعروض على العرض ، وعلى هذا لا محالة يكون معنى قضيّة «الصلاة واجبة» : الصلاة الموجودة في الخارج واجبة.

ويرد عليه : أنّ الصلاة إذا كانت متّصفة بالوجود الخارجي فلا معنى لإيجابها ، فإنّه تحصيل للحاصل ، وهو أمر مستحيل ، ومن جهة الحرمة إن كان شرب الخمر الموجود في الخارج حراما أو منهيّا عنه يكون معناه أنّ الأمر الموجود في الخارج لم يوجد فيه ، وهذا أيضا أمر مستحيل ؛ إذ يمتنع أن تتغيّر

٣٢٠