دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

الأهمّ ـ كإزالة النجاسة عن المسجد ـ واشتغل بالواجب المهمّ ـ كالصلاة ـ تقع صلاته صحيحة على قول صاحب الفصول ، وتقع باطلة على قول المشهور ، وترتّب هذه الثمرة على النزاع المذكور مبتن على مقدّمات :

إحداها : مقدّميّة ترك أحد الضدّين لفعل الآخر ، كترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة ، ثانيتها : وجوب مقدّمة الواجب ، وثالثتها : كون الأمر بشيء مقتضيا للنهي عن ضدّه ، ورابعتها : اقتضاء النهي عن العبادة للفساد.

فعلى القول بوجوب مطلق المقدّمة ـ سواء ترتّب عليها ذو المقدّمة أم لا ـ إذا كان ترك الصلاة مقدّمة لفعل الإزالة يصير هذا الترك واجبا بالوجوب الغيري ، فيصير نقيضه ـ أي فعل الصلاة ـ حراما ومنهيّا عنها ، والنهي في العبادة يقتضي الفساد ؛ إذ لا يمكن أن يكون المنهي والمبغوض مقرّبا إلى الله تعالى ، فالصلاة مكان الإزالة تقع باطلة على قول المشهور ، وأمّا بناء على القول بالمقدّمة الموصلة فتصحّ الصلاة ، فإنّ ترك الصلاة المجرّد ليس بواجب ، بل الواجب بالوجوب الغيري هو ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة ، وكان لنقيضه مصداقان : أحدهما : ترك الصلاة والإزالة معا ، والآخر : فعل الصلاة وترك الإزالة ، وربما يتخيّل أنّ كليهما يتّصفان بالحرمة ، مع أنّه ليس كذلك ؛ إذ المقيّد إذا صار واجبا يصير نقيضه حراما إذا كان أمرا واحدا ، ولذا ذكروا في مقام تعريف النقيض : أنّ نقيض كلّ شيء رفعه وعدمه ، فإذا كان ترك الصلاة الموصل واجبا يكون عدم ترك الصلاة الموصل حراما ، ولكنّه قد يتقارن خارجا مع فعل الصلاة وترك الإزالة ، وقد يتقارن مع ترك كليهما معا.

ومعلوم أنّ المقارنة لا توجب سراية الحرمة من مقارن إلى مقارن آخر ، كما أنّ حكم أحد المتلازمين لا يتعدّى إلى متلازم آخر كذلك فيما نحن فيه

١٤١

لا تتعدّى الحرمة من الأمر العدمي إلى الأمرين الوجوديّين المقارنين معه ، فلا يكون فعل الصلاة متّصفا بالحرمة على هذا القول ، بل تكون الصلاة صحيحة.

وأورد على تفريع هذه الثمرة الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّ الحكم إن تعلّق على نفس العنوان الواقعي بدون التعدّي عنه مع إعمال دقّة النظر تكون الصلاة صحيحة على كلا القولين ؛ إذ المشهور قائل بأنّ ترك الصلاة مقدّمة وواجب بالوجوب الغيري ، فنقيضه حرام ، ومعلوم أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، فالمحرّم عبارة عن عدم ترك الصلاة لا فعل الصلاة ، فلا دليل لبطلان الصلاة ؛ إذ لا يمكن أن يكون الوجود مصداقا للعدم ، وعدم العدم ليس بوجود بحسب المفهوم والعنوان وإن كان متّحدا معه ، وهذا لا يوجب سراية الحرمة عنه إلى الأمر الوجودي ؛ إذ الأحكام تدور مدار العناوين.

وأمّا مع الإغماض عن هذه الدقّة فتكون الصلاة باطلة على كلا القولين ، فإنّ صاحب الفصول قائل بأنّ الواجب بالوجوب الغيري هو ترك الصلاة الموصل ، ونقيضه المحرّم هو عدم ترك الصلاة الموصل ، ويتحقّق له فردان : أحدهما : فعل الصلاة وترك الإزالة ، وثانيهما : ترك الصلاة وترك الإزالة معا ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده حتّى يتحقّق الثمرة ، بل كلا الفردين محرّم ، فلا ثمرة في البين.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) بأنّ الفارق عبارة عمّا تخيّله أنّه لا يوجب الفرق ، فإنّ نقيض المحرّم على قول صاحب الفصول عنوان واحد ـ يعني عدم

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧٨.

(٢) كفاية الاصول ١ : ١٩٣.

١٤٢

ترك الصلاة الموصل ـ ولا يكون للفردين المذكورين عنوان المصداق له ؛ إذ الوجود لا يمكن أن يكون مصداقا للعدم كما اعترفت به ، كما أنّه لا يكون لهما عنوان الملازمة ، فإنّ النقيض قد يتحقّق مع الفرد الأوّل دون الثاني ، وقد يتحقّق مع الفرد الثاني دون الأوّل ، والحال أنّه لو فرض تحقّق الملازمة بينهما أيضا لا يفيد ؛ إذ لا يسري حرمة شيء إلى ما يلازمه ، بل لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوما بحكم آخر على خلاف حكمه ، لا أن يكون محكوما بحكمه ، فيتحقّق لهما عنوان المقارنة مع النقيض ، فإنّ عدم ترك الصلاة الموصل قد يقترن مع فعل الصلاة وترك الإزالة ، وقد يقترن مع تركهما معا ، ولا شكّ في عدم سراية الحرمة من مقارن إلى مقارن آخر ، فتكون الصلاة صحيحة.

وأمّا على المشهور فترك الصلاة واجب بالوجوب الغيري ، وترك ترك الصلاة حرام ، وهو متّحد خارجا مع فعل الصلاة ، ومعلوم أنّ الاتّحاد والعينيّة الخارجي يوجب سراية الحكم من مفهوم إلى مفهوم آخر.

والتحقيق في المسألة يقتضي إمعان النظر والبحث في معنى النقيض أوّلا ، وأنّ وجوب شيء مستلزم لحرمة نقيضه أم لا ثانيا ، وأمّا معنى النقيض فيحتمل أن يكون أمرا عدميّا كما قال به صاحب الكفاية والشيخ والقائلون بترتّب الثمرة ، وهو أنّ نقيض كلّ شيء رفعه ، وعلى هذا لا يكون الوجود نقيضا للعدم ، بل نقيض العدم رفعه وتركه وعدمه ، ولذا لا يصحّ القول بأنّ الوجود والعدم متناقضان.

ويحتمل أن يكون معناه أنّ نقيض كلّ شيء رفعه أو كونه مرفوعا به ، أي إذا اضيف النقيض إلى الوجود معناه رفع الوجود ، وإذا اضيف إلى العدم يكون معناه ما يرتفع العدم بسببه ، وعلى هذا يصحّ القول بأنّ الوجود والعدم

١٤٣

متناقضان ؛ لأنّ ما يرتفع به العدم ليس إلّا الوجود.

ويحتمل أن يكون معناه عبارة عن المنافرة والمعاندة بين الأمرين الوجودي أو العدمي ؛ بحيث لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما.

وأمّا في المسألة الثانية ـ أي وجوب شيء مستلزم لحرمة نقيضه أم لا ـ فيحتمل أوّلا إنكار هذا المعنى رأسا ، فإنّه يستلزم تحقّق التكليف التحريمي في كلّ مورد تحقّق فيه التكليف الوجوبي ، فاجتمع في الصلاة ـ مثلا ـ حكمان : أحدهما : وجوبي متعلّق بفعلها ، والآخر : تحريميّ متعلّق بتركه ، ومن تركها يستحقّ العقوبتان ، مع أنّه ليس كذلك ، وهكذا حرمة شيء لا يستلزم وجوب نقيضه ، فإنّه لغو ، فأساس هذه الثمرة باطل ولا مورد لهذا البحث.

ويحتمل أن يكون وجوب شيء مستلزما لحرمة نقيضه بدون التسرية إلى شيء آخر وإن كان متّحدا معه في الوجود الخارجي ، ويحتمل عدم انحصار الحرمة بالنقيض ، بل يستلزم حرمة ما يتّحد مع النقيض وجودا أيضا.

وعلى الاحتمال الأوّل ـ يعني عدم استلزام وجوب شيء لحرمة نقيضه كما هو الحقّ في المسألة ـ ينهدم أساس هذه الثمرة ، وعلى الاحتمال الثاني ـ أي استلزام وجوب شيء لحرمة نقيضه بدون التسرية إلى شيء آخر ـ إن كان النقيض بمعنى الأوّل تكون الصلاة صحيحة على كلا القولين ؛ إذ المشهور أيضا قائل بوجوب ترك الصلاة بعنوان المقدّمة للإزالة ، ونقيضه الحرام عبارة عن ترك ترك الصلاة فقط ، ففعل الصلاة صحيح ، فإنّ الحرمة لا تتعدّى عن النقيض.

وإن كان النقيض بالمعنى الثاني فتتحقّق الثمرة ؛ لأنّ ترك الصلاة واجب ، ونقيضه المحرّم على هذا الاحتمال عبارة عن وجود الصلاة على المشهور.

١٤٤

ولكن لقائل أن يقول ببطلان الصلاة على قول صاحب الفصول أيضا ، فإنّه يقول : بأنّ ترك الصلاة الموصل إلى الإزالة واجب ، ولنقيضه الحرام فردان : أحدهما : فعل الصلاة ، والآخر : ترك الصلاة والإزالة معا ، فوجودها نقيض وباطل ، فلا ثمرة في البين.

وجوابه : أنّ النقيض إن كان أمرا وجوديّا واحدا ـ يعني فعل الصلاة فقط ـ يكون الإشكال صحيحا ، ولكن لا يمكن أن يتحقّق لشيء واحد نقيضان ، بل النقيض أمر واحد جامع بين الفردين ، وعلى هذا لا يتعدّى الحرمة عن دائرة النقيض إلى مصاديقه ، ولذا تصحّ الصلاة على هذا القول ، وأمّا على قول المشهور فينحصر النقيض المنهيّ عنه بوجود الصلاة ، فتظهر الثمرة على المعنى الثاني.

وإن كان النقيض بالمعنى الثالث يكون النقيض على قول المشهور عبارة عن وجود الصلاة ، وهو لا يكون مع ترك الصلاة قابلا للجمع ولا قابلا للرفع ، وأمّا على قول صاحب الفصول فالواجب هو ترك الصلاة الموصل ونقيضه الذي لا يجتمع معه ولا يرتفع كلاهما عبارة عن فعل الصلاة وترك الصلاة والإزالة معا ، وعلى هذا الاحتمال تكون الصلاة باطلة على كلا القولين ، ولا ثمرة في البين.

وأمّا على القول بالاحتمال الثالث ـ يعني كما أنّ وجوب الشيء مستلزم لحرمة النقيض كذلك مستلزم لحرمة ما يتّحد مع النقيض ـ فالصلاة باطلة على كلا القولين ولا تظهر الثمرة ، فإنّ النقيض إن كان أمرا عدميّا لا شكّ في أنّ فعل الصلاة متّحد معه وجودا ، فيكون بطلان الصلاة على القول المشهور بلحاظ سراية الحرمة إلى ما يتّحد مع النقيض ، وهكذا على قول صاحب الفصول

١٤٥

تتعدّى الحرمة إلى مصداقي النقيض.

وإن كان النقيض بالمعنى الثاني فيكون بطلان الصلاة بلحاظ كونها نقيضا على المشهور ، وبلحاظ حرمة ما يتّحد مع النقيض على قول صاحب الفصول.

وإن كان بالمعنى الثالث فيكون بطلانها بلحاظ توسعة دائرة معنى النقيض مع عدم انحصار الحرمة بدائرة النقيض ، فتحقّق الثمرة مبنائي.

والحقّ أنّ الثمرة مبتنية على أساسين وكلاهما باطل عندنا ، أي استلزام وجوب شيء لحرمة نقيضه ، وكون النقيض أمرا عدميّا.

الواجب الأصلي والتبعي

والظاهر أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره نسيه في محلّه وبعد الالتفات إليه ذكره هاهنا ، ونحن أيضا نلتزم بالبحث على طبقه ، فنقول : اختلف صاحب الفصول مع المحقّق الخراساني قدس‌سره وبعض آخر في أنّ هذا التقسيم يرتبط بمقام الدلالة والإثبات أو بمقام الثبوت والواقع ، وصاحب الفصول قائل بالأوّل (١) ، وصاحب الكفاية قدس‌سره قائل بالثاني (٢).

وقال صاحب الفصول (٣) في مقام تعريفهما : إنّ الواجب الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ ، سواء كان هذا الدليل والخطاب المستقلّ دليلا لفظيّا مثل الكتاب والسنّة أو دليلا لبّيا مثل الإجماع ، والواجب التبعي ما لا يفهم وجوبه بخطاب مستقلّ.

وإذا لاحظنا هذا التقسيم مع تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري فيمكن

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٢.

(٢) كفاية الاصول ١ : ١٩٤ ـ ١٩٥.

(٣) المصدر السابق.

١٤٦

أن يكون كلّ من الواجب الأصلي والتبعي واجبا نفسيّا وواجبا غيريّا ، فيجتمع في الصلاة ـ مثلا ـ كلا العنوانين الأصلي والنفسي بلحاظ استفادتها من الدليل المستقلّ ، وهكذا يجتمع في الوضوء كلا العنوانين الأصلي والغيري ؛ لأنّ وجوبه أيضا يستفاد من الدليل المستقلّ. وهكذا في الواجب التبعي يمكن أن يكون واجبا نفسيّا ويمكن أن يكون واجبا غيريّا ، كقول المولى لعبده : «إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه» ، ومفهومه على القول به في القضيّة الشرطيّة «إن جاءك زيد يجب إكرامه» ، فيجتمع في إكرام زيد الوجوب النفسي والتبعي ، فإنّه يستفاد من مفهوم الدليل ويكون لازم مفاد الدليل ، وهكذا يستفاد من قوله : «كن على السطح» على القول بالملازمة أنّ وجوب نصب السلّم غيري وتبعيّ معا ، هذا محصّل كلامه.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الأصالة والتبعيّة في الواقع ومقام الثبوت ، فالواجب الأصلي ما يكون ملتفتا إليه مع مطلوبيّته للمولى الآمر ، ولذا يصير متعلّقا للإرادة والطلب مستقلّا للالتفات إليه بما هو عليه ممّا يوجب طلبه ، كان طلبه نفسيّا أو غيريّا ، والواجب التبعي ما لا يكون ملتفتا إليه أصلا ، أو لا يكون مطلوبيّة الملتفت إليه له ، فلذا يصير متعلّقا للإرادة تبعا لإرادة غيره ؛ لأجل كون إرادته لازمة لإرادة الغير من دون التفات إليه بما يوجب إرادته.

وعلى هذا المعنى لا تجتمع التبعيّة مع النفسيّة ؛ إذ الواجب النفسي عبارة عمّا تتحقّق له المصلحة اللازمة الاستيفاء ، فكيف يجتمع هذا مع عدم الالتفات إليه أو إلى مطلوبيّته؟! نعم ، لو كان الاتّصاف بالأصالة والتبعيّة بلحاظ الدلالة

__________________

(١) المصدر السابق.

١٤٧

اتّصف الواجب النفسي بهما أيضا ؛ ضرورة أنّه قد يكون غير مقصود بالإفادة ، بل افيد بتبع غيره المقصود بها.

ثمّ استدلّ في ذيل كلامه بأنّ الظاهر ـ كما مرّ ـ أنّ الاتّصاف بهما إنّما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه ، وإلّا لما اتّصف بواحدة منهما ؛ إذ لم يكن بعد مفاد دليل ، وهو كما ترى ؛ إذ من البديهي أنّهما يتحقّقان قبل هذه المرحلة.

وقال المحقّق الأصفهاني قدس‌سره (١) تأييدا لكلام صاحب الكفاية قدس‌سره : والتحقيق ما أشرنا إليه في بعض الحواشي المتقدّمة من أنّه للواجب وجودا ووجوبا بالنسبة إلى مقدّمته جهتان من العلّيّة : إحداهما : العلّيّة الغائيّة ، حيث إنّ المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر لا لنفسها ، بخلاف ذيها فإنّه مراد لا لمراد آخر كما مرّ مفصّلا. والثانية : العلّيّة الفاعليّة ، وهي أنّ إرادة ذي المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته ، ومنها تنشأ وترشّح عليها الإرادة ، فالجهة الاولى مناط الغيريّة ، والجهة الثانية مناط التبعيّة. ووجه الانفكاك بين الجهتين أنّ ذات الواجب النفسي حيث إنّه مترتّب على الواجب الغيري فهي الغاية الحقيقيّة ، لكنّه ما لم يجب لا تجب المقدّمة ، فوجوب المقدّمة معلول خارجا لوجوب ذيها ومتأخّر عنه رتبة ، إلّا أنّ الغرض منه ترتّب ذيها عليها.

والدليل على ارتباط التبعيّة والأصالة بالعلّيّة الفاعليّة عبارة عن استقلال ذي المقدّمة وأصالته في التحقّق ، وتبعيّة إرادة المقدّمة للإرادة المتعلّقة بذيها ، وحينئذ لا محالة لا يرتبط هذا التقسيم بمقام الإثبات والدلالة.

ونضيف إليه أنّ التقسيم إلى النفسيّة والغيريّة بلحاظ ارتباطه بالوجوب والبعث والتحريك الاعتباري يرتبط بمقام الإثبات والدلالة.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : ١٥٧ ـ ١٥٨.

١٤٨

وممّا ذكرنا تبيّن أنّ التبعيّة بلحاظ المعلوليّة ، سواء اريدت المقدّمة تفصيلا للالتفات إليها أو ارتكازا للغفلة عنها ، وأنّ الالتفات الموجب لتفصيليّة الإرادة لا يقتضي الأصليّة ، كما أنّ الغفلة عمّا فيه مصلحة نفسيّة موجبة لارتكازيّة الإرادة لا ينافي أصليّتها ؛ لعدم تبعيّتها لإرادة اخرى.

والإشكال على المحقّق الأصفهاني قدس‌سره كما مرّ مكرّرا أنّ التعبير بالترشّح والعلّيّة عن الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ليس بصحيح ، فإنّه يستلزم عدم احتياج الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة إلى المبادئ كالتصوّر والتصديق بالفائدة ونحو ذلك ، مع أنّه باطل ؛ لأنّ تصوّر شيء المراد عبارة عن التفات النفس وتوجّهها إليه. ومن المعلوم أنّ الشيء إذا كان غير متصوّر فلا يكون قابلا لتعلّق الإرادة به ، فلا فرق بين الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة والإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة من حيث الاحتياج إلى المبادئ ، وعلى هذا لا يكون التوضيح المذكور منه مصحّحا لكلام استاذه بعد إنكار العلّيّة والترشّح.

ويرد على صاحب الكفاية : أوّلا : نفس ما مرّ من الإشكال على تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز ، بأنّه ليس في مقابل تقسيمه إلى المطلق والمشروط تقسيما مستقلّا ، فإنّه لا يجري في الواجب المشروط ، بل هو من تقسيمات الواجب المطلق.

ويرد نظير هذا الإشكال عليه بعد تصريحه بأنّ التقسيم بالأصالة والتبعيّة إن كان بلحاظ مقام الإثبات والدلالة يمكن أن يكون الواجب النفسي واجبا أصليّا ، ويمكن أن يكون واجبا تبعيّا ، وهكذا الواجب الغيري يمكن أن يكون واجبا أصليّا ، ويمكن أن يكون واجبا تبعيّا.

وأمّا إن كان التقسيم بلحاظ مقام الثبوت فالواجب الغيري قد يكون أصليّا وقد يكون تبعيّا ، بخلاف الواجب النفسي فإنّه لا يمكن أن يكون تبعيّا ،

١٤٩

فلا يكون هذا التقسيم تقسيما مستقلّا للواجب ؛ إذ لا يجري كلّ واحد من قسمي التقسيم السابق في كلّ واحد من قسمي التقسيم اللّاحق.

وثانيا : ما هو المراد من كلمة المستقلّ بعنوان وصف الإرادة في كلامه ، سيّما مع العلّة التي ذكرها بقوله : للالتفات إليه بما هو عليه ، هل المراد منه الإرادة التفصيليّة ، والمراد من الالتفات أيضا الالتفات التفصيلي في مقابل الالتفات الإجمالي وعدم الالتفات رأسا ، أو المراد منه الإرادة الأصليّة في مقابل الإرادة التبعيّة؟ وكلاهما لا يخلو من إشكال ، فإنّ الأوّل يستلزم خروج الالتفات الإجمالي مع أنّه ليس بصحيح ؛ إذ لا دليل لاعتبار الالتفات التفصيلي فقط في الواجب النفسي ، بل كما أنّ العلم الإجمالي منجّز للتكليف كذلك الالتفات الإجمالي كاف في الواجب النفسي ، فيمكن أن يكون الواجب النفسي واجبا تبعيّا كالواجب الغيري.

والثاني يستلزم أن لا يكون الواجب الغيري واجبا أصليّا حتّى مثل الوضوء ؛ إذ الإرادة المتعلّقة به تابعة للإرادة المتعلّقة بالصلاة ، فلا يصحّ القول بأنّ الواجب الغيري قد يكون أصليّا وقد يكون تبعيّا ؛ لأنّ مقتضى المقدّميّة والغيريّة تبعيّة إرادته ، فلا يكون هنا دليل مقنع لارتباط تقسيم الواجب بالأصلي والتبعي بمقام الثبوت.

والصحيح ما قال به صاحب الفصول من ارتباط هذا التقسيم بمقام الدلالة والإثبات ، وعلى هذا يصحّ أن يكون كلّ واحد من الأصلي والتبعي واجبا نفسيّا ، ويصحّ أن يكون كلّ واحد منهما واجبا غيريّا وبالعكس ، كما اعترف به صاحب الكفاية قدس‌سره.

ثمّ ذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في ذيل كلامه أنّه : إذا شكّ في واجب أنّه

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٩٥.

١٥٠

أصلي أو تبعيّ فبأصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة به يثبت أنّه تبعيّ تترتّب عليه آثاره إذا فرض له أثر شرعي ـ كما في النذر ونحوه ـ كسائر الموضوعات المتقوّمة بامور عدميّة. نعم ، لو كان التبعي أمرا وجوديّا خاصّا غير متقوّم بعدمي وإن كان يلزمه ـ مثل ما كانت إرادته تابعة لإرادة غيره ـ لما ثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت ، كما هو واضح ، فافهم.

وخالفه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في ذلك وقال : ربما تكون نتيجة الاستصحاب وأصالة العدم الواجب الأصلي ، فإنّ الواجب التبعي عبارة عمّا كانت إرادته مترشّحة عن غيره ومعلولة لإرادة غيره ، ومترتّبا على إرادة غيره ، ومعلوم أنّها من الامور الوجوديّة ، والواجب الأصلي ما لم يكن كذلك ، فإذا علمنا أنّ هذا الشيء متعلّق للإرادة وشككنا في أنّ إرادته مترشّحة عن إرادة غيره أم لا فيجري استصحاب عدم الترشّح بأنّ هذا الشيء لم تكن إرادته مترشّحة عن إرادة الغير ، فالآن كما كان.

ولكنّ التحقيق : أنّه لا يجري الاستصحاب في هذه الموارد رأسا كما مرّ في استصحاب عدم قرشيّة المرأة ؛ بمغايرة القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة بلحاظ انتفاء الموضوع في الاولى وتحقّقه في الثانية ، وإذا لم يكن اتّحاد بينهما فلا يجري الاستصحاب.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره قائل بتحقّق الحالة السابقة العدميّة للواجب التبعي ، بمعنى أنّه لم يتعلّق به إرادة مستقلّة.

قلنا : إنّ الحالة السابقة المتيقّنة تكون مع فرض انتفاء الموضوع وعدم تعلّق الإرادة ، والشكّ يكون مع فرض تحقّق الموضوع وتعلّق الإرادة. والمحقّق الأصفهاني قدس‌سره أيضا قائل بترشّح الحالة السابقة العدميّة ، والحال أنّها مع فرض

١٥١

انتفاء الموضوع وعدم تعلّق الإرادة رأسا ، والشكّ مع فرض تعلّق الإرادة ، ولذا لا يكون هنا مجرى الاستصحاب بعنوان الأصل الكلّي ، بل يختلف جريان الاصول بحسب اختلاف الموارد ، فقد تكون نتيجته الواجب الأصلي ، وقد تكون نتيجته الواجب التبعي.

إلى هنا تمّت المباحث المقدّماتيّة لمسألة مقدّمة الواجب ، مع أنّه يترتّب عليها أيضا فوائد مستقلّة كثيرة ، فلنشرع في المباحث الأصليّة لهذه المسألة ، ومنها بحث الثمرة ، فما هي ثمرة بحث مقدّمة الواجب بعنوان مسألة اصوليّة في أبواب الفقه؟

بعد ما عرفت أنّ ملاك اصوليّة المسألة ليس إلّا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد واستنباط حكم فرعي كلّي ، فتكون الثمرة كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه على القول بالملازمة وضميمة مقدّمة كون شيء مقدّمة لواجب يستنتج أنّه واجب ، مثلا : نقول : الوضوء مقدّمة لواجب ، وكلّ ما هو مقدّمة لواجب واجب ، فينتج أنّ الوضوء واجب ، وعلى القول بإنكار الملازمة يستنتج عدم وجوبه.

توضيح ذلك : أنّ هذه المسألة ـ كما مرّ ـ عقليّة محضة ؛ بأنّ ذي المقدّمة إذا صار واجبا بالوجوب الشرعي المولوي من المولى ، هل يستلزم أن يكون وجوب المقدّمة وجوبا شرعيّا مولويّا ، أم لا؟ والحاكم بالملازمة وعدمها ليس إلّا العقل ، وهذا النزاع يقع طريقا لاستنباط حكم فرعي كلّي في جميع أبواب الفقه ، فإنّ القائل بالملازمة يستنبط أنّ تطهير الثوب مثلا واجب ، ومنكرها يستنبط عدم وجوبه بوجوب شرعي مولوي ، وهكذا في سائر مقدّمات أبواب الفقه.

١٥٢

الأمر الخامس

في بيان الثمرة في مسألة مقدّمة الواجب

ومنه يتّضح أنّه ليس من الثمرة لمثل هذه المسألة الاصوليّة الموارد التي ذكروها ثمرة لها ، مثل : برء النذر بإتيان مقدّمة واجب لمن نذر واجبا على القول بالملازمة ، وعدم حصول البرء بذلك على القول بإنكارها.

ومثل حصول الفسق بترك واجب واحد بمقدّماته إذا كانت له مقدّمات كثيرة ؛ لأنّه بناء على وجوب المقدّمة يصدق الإصرار على ارتكاب الصغائر ، وعدم تحقّق الإصرار بترك واجب له مقدّمات على القول بإنكار الملازمة.

ومثل : حرمة أخذ الاجرة على المقدّمة بناء على وجوبها ، وعدم حرمة أخذ الاجرة عليها على القول بعدم وجوبها.

والدليل على عدم كونها من الثمرة : أنّ الوفاء وعدم الوفاء بالنذر ليس بحكم شرعي ، بل الحاكم به هو العقل ، فإنّه يقول بحصول الوفاء به بلحاظ موافقة المأتي به مع المأمور به ، وما يرتبط بالشارع عبارة عن وجوب الوفاء بالنذر ووجوب المقدّمة ، ولا يكون له حكم ثالث ؛ بأنّك إذا أتيت بمقدّمة الواجب وفيت بنذرك ، فليس هذا بحكم فقهي ، فلا تكون ثمرة للبحث الاصولي.

١٥٣

وهكذا حصول الفسق بترك المقدّمات ، فإنّ للشارع حكما بأنّ الإصرار على الصغائر يوجب الفسق ، وأنّ مقدّمة الواجب واجبة ، وأمّا ترك واجب كذا مع مقدّماته يوجب تحقّق الفسق ، فلا يكون حكما شرعيّا ، بل هو تطبيق بين الحكمين من ناحية العقل.

وهكذا مسألة أخذ الاجرة على الواجب ، فإنّ ما يرتبط بالشارع عبارة عن وجوب المقدّمة ، وأنّ أخذ الاجرة على الواجب حرام ، والعقل يستفيد منهما أنّه إذا كانت المقدّمة واجبة فأخذ الاجرة عليها حرام ، وهذا لا يرتبط بالشارع ، فلا تكون هذه الموارد من الثمرة ، ولا نحتاج إلى أجوبة صاحب الكفاية قدس‌سره عنها.

ويمكن أن يقال : إنّه سواء قلنا بالملازمة أو بعدمها لا بدّ من إتيان المقدّمة ، ويلزم على المكلّف بحكم العقل أو الشرع ، فما هي الثمرة التي تترتّب على هذا النزاع عملا؟

وأجاب عنه المحقّق العراقي قدس‌سره (١) بقوله : وحينئذ فالأولى جعل الثمرة التوسعة في التقرّب ، فإنّه بناء على الملازمة كما يتحقّق القرب بإتيان المقدّمة بقصد التوصّل بها إلى ذيها كذلك يتحقّق بإتيانها بداعي أمرها ومطلوبيّتها لدى المولى ولو غيريّا ، بناء على ما عرفت من صلاحية الأمر الغيري أيضا للمقرّبيّة. وأمّا على القول بعدم الملازمة فلا يكاد يصحّ التقرّب بالمقدّمة إلّا بإتيانها بقصد التوصّل بها إلى ذيها.

وأشار أيضا إلى ثمرة اخرى ، توضيح ذلك : أنّ ممّا يوجب تحقّق الضمان وثبوت اجرة المثل عبارة عن أمر الآمر للحمّال ـ مثلا ـ بحمل وسائله إلى

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٣٤٠ ـ ٣٤٤.

١٥٤

مكان كذا ، فإنّه يستحقّ اجرة المثل بعد الحمل بدون عقد الإجارة ، واستفاد المحقّق العراقي من هذه القاعدة ثمرة عمليّة ؛ بأنّه إذا أمره بإتيان عمل كان له مقدّمات ، وعلى القول بالملازمة يكون الأمر بشيء أمرا بمقدّماته أيضا ، وعلى هذا فإن أتى بالمقدّمات بدون ذي المقدّمة يستحقّ الاجرة في مقابلها ؛ لأنّه عمل عملا بأمر غيره مع عدم كون العمل بعنوان المجّانيّة والتبرّع ، وعلى القول بإنكار الملازمة لا يستحقّ الاجرة ؛ لعدم كون المقدّمة مأمورا بها.

ويمكن أن يقال : إنّه يرد عليه الإشكال الذي أورده صاحب الكافية قدس‌سره على الثمرات الثلاث المذكورة ، من عدم ارتباط هذه التطبيقات العقليّة بالشارع وعدم كونها ثمرة للمسألة الاصوليّة ، وهكذا إمكان قصد القربة بالمقدّمة على القول بوجوبه واجبا شرعيّا ، وإمكان تبديلها بالواجب التعبّدي لا يرتبط بالشارع بل هو حكم العقل ، وهكذا في الثمرة الثانية ، فإنّ للشارع حكما كلّيّا بأنّه إذا أمر الآمر بعمل يوجب الاجرة إن لم يكن العمل بعنوان التبرّع والمجّانيّة. وأمّا كون وقوع عمل خاصّ مأمورا به من ناحية شخص يوجب استحقاق الاجرة فلا يرتبط بالشارع ، بل هو من التطبيقات العقليّة.

وجوابه : أنّ القائلين بتحقّق الثمرات الثلاث المذكورة كانوا في مقام جعلها ثمرة مستقيمة للبحث الاصولي ، ولكنّ المحقّق العراقي قدس‌سره بعد إنكارها والقول بأنّ الثمرة عبارة عن الوجوب الشرعي للمقدّمات قال في المرحلة الثانية في مقام الجواب عن فائدة هذه الثمرة عملا بأنّ فائدتها تظهر عملا في هذين الموردين ، ولذا لا يرد عليه الإشكال المذكور.

ولكنّ التحقيق : أنّ كلامه بعد هذا التوضيح والدفاع أيضا لا يخلو عن مناقشة ، أمّا مسألة قصد القربة في الواجب التوصّلي فيرد عليه أنّه إن كان

١٥٥

واجبا نفسيّا مثل أداء الدين فيمكن قصد القربة به واستحقاق المثوبة ، وإن كان واجبا غيريّا فلا يصلح وجوبه للداعويّة والمقرّبيّة ، ولذا أشكل وصعب علينا تصحيح عباديّة الطهارات الثلاث كما مرّ مفصّلا ، ولعلّه نسي هذه المباحث وقال بإمكان قصد القربة به بعنوان الثمرة العمليّة مع أنّه لا يمكن به قصد القربة ؛ لعدم صلاحيّة الأمر الغيري للداعويّة والمقرّبيّة.

وهكذا مسألة أخذ الاجرة ، فإنّ مورد القاعدة الكلّيّة المذكورة في باب الضمان عبارة عمّا إذا أتى المأمور العمل بداعي الأمر فقط ؛ إذ الحمّال لو نذر أن يحمل في كلّ يوم حملا في سبيل الله وحمله في المثال بهذا الداعي فلا شكّ في عدم استحقاقه ، وعلى هذا يمكن أن يكون الداعي لإتيانه بالمقدّمات عبارة عن اللابدّيّة العقليّة لا أمر الآمر ، فهو يأتي بها وإن قلنا بعدم الملازمة.

ويمكن أن يقال : إنّ بين المثال وما نحن فيه فرقا ؛ إذ الحمّال نذر أن يحمله مجّانا ، وهاهنا إن لم يكن الأمر بذي المقدّمة من ناحيته لم يكن من اللابدّيّة العقليّة أثر ولا خبر ، فهو على أيّ حال مستند إلى أمر الآمر كما لا يخفى.

وجوابه : أنّه أتى بالمقدّمة بدون ذي المقدّمة ، فلا دخل للآمر في إيجادها أصلا ؛ إذ لو كان له دخل لدعاه إلى ذي المقدّمة أيضا ، فنستفيد من ذلك أنّ تمام المحرّك والداعي عبارة عن اللابدّيّة العقليّة ، ولذا لا يستحقّ الاجرة.

ومن هنا نرجع إلى الثمرات الثلاث المذكورة في الكفاية ونقول : إنّها ليست ثمرة مستقيمة للمسألة الاصوليّة كما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره ، ولكن لا بأس في كونها ثمرة عمليّة وثمرة مع الواسطة للمسألة ، فتكون ثمرة البحث الاصولي عبارة عن وجوب الوضوء شرعا ، وثمرته عملا عبارة عن الوفاء بالنذر بعد إتيانه على القول بالملازمة ، وعدمه على القول بإنكارها ، وما أورد عليها صاحب الكفاية من الإشكال يكون قابلا للجواب.

١٥٦

الأمر السادس

في تأسيس الأصل في المسألة

ومن المباحث الأصليّة في هذه المسألة عبارة عن تأسيس الأصل إن لم يحرز لنا طرف النفي أو الإثبات في باب الملازمة وكنّا في حالة الشكّ ، فهل يتحقّق أصل عملي لإثبات أحد الطرفين أم لا؟ قد يقع مجرى الأصل ما هو محلّ النزاع في بحث مقدّمة الواجب ، يعني الملازمة وعدمها ، وعلى هذا لا يكون هنا أصل ؛ إذ الملازمة تكون من المسائل العقليّة كما مرّ ، وليست لها حالة سابقة عدميّة حتّى يحتمل تبدّلها بالوجوديّة ، بل هي أزليّة وأبديّة ، مثل : حكم العقل بامتناع اجتماع النقيضين ، فإن تحقّقت الملازمة يكون تحقّقها من الأزل إلى الأبد ، وإن لم تتحقّق يكون عدم تحقّقها أيضا كذلك ، فلا أصل في أصل المسألة ، وقد يقع مجرى الأصل نتيجة المسألة ، يعني ما جعلناه ثمرة اصوليّة ، وهي عبارة عن وجوب المقدّمات شرعا ، وعلى هذا يتحقّق استصحاب العدم ، فإنّ الأحكام الشرعيّة حادثة وتكون لها حالة سابقة عدميّة ، كالحجّ ـ مثلا ـ فإنّ وجوبه حدث بعد نزول الآية : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ، وإذا شكّ في وجوب بعض مقدّماته يجري استصحاب العدم.

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

١٥٧

ولكن أشكل عليه : أوّلا : بأنّ مجرّد تحقّق حالة سابقة عدميّة لا يكفي في جريان الاستصحاب ، ويلزم أيضا أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا له ، وهذا الشرط مفقود فيما نحن فيه ، لا بلحاظ أنّ عدم الوجوب ليس بمجعول شرعي ، بل بلحاظ أنّ الملازمة تكون عقليّة وقهريّة بين الوجوبين وليس بمجعول للشارع ؛ إذ لا يكون وجوب المقدّمة نفيا وإثباتا بيد الشارع ، ولا يمكن له أن يقول : أوجبت الصلاة بخلاف مقدّماتها ؛ لأنّ وجوبها أمر قهريّ وممّا لا بدّ منه ، فكيف يجري الاستصحاب؟

وجوابه : أنّ المجعول الشرعي قد يكون بالذات وبلا واسطة ، وقد يكون بالتبع مثل جزئيّة أجزاء المأمور به المركّب ، وما يعتبر في جريان الاستصحاب عبارة عن مطلق المجعول الشرعي ، سواء كان بالذات أم بالتبع ، ولذا يجري استصحاب عدم جزئيّة السورة ـ مثلا ـ بعد الشكّ فيها ، فعلى القول بالملازمة يكون وجوب المقدّمة مجعولا للشارع ولكنّه بالتبع ، ولا إشكال في جريانه من هذه الناحية.

وثانيا : أنّه على القول بعدم ترتّب ثمرة عمليّة على بحث مقدّمة الواجب يرد عليه أنّ الغرض من جريان الاستصحاب وسائر الاصول العمليّة عبارة عن ترتّب ثمرة عمليّة عليها في مقام العمل ، وإن لم تترتّب عليها ثمرة في هذا المقام فلا داعي لجريانها ، فما الذي يترتّب على الاستصحاب هاهنا من الأثر في مقام العمل؟

وجوابه : أنّ هذا الإشكال مبنائي فقد مرّ اختيار ترتّب بعض الثمرات عليه في مقام العمل. وبالنتيجة من نذر إتيان الواجب الشرعي وشكّ في وجوب الوضوء ـ مثلا ـ ويجري الاستصحاب فيه لا يحصل الوفاء بالنذر بإتيانه به.

١٥٨

وثالثا : أنّه يثبت بالاستصحاب أنّ المقدّمة بحسب الحكم الظاهري لا تكون واجبة ، مع أنّ وجوب ذي المقدّمة ـ كالصلاة مثلا ـ ممّا لا شبهة فيه ، وجريان الاستصحاب يوجب التفكيك بينهما من حيث الحكم ، فإن تحقّقت بحسب الواقع بين وجوبهما ملازمة كيف يجتمع هذا مع الاستصحاب الذي ينفيها؟

وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) بأنّ دعوى الملازمة إن كان محدودا في وجوبين واقعيّين فلا ينافي الاستصحاب مع الملازمة أصلا ؛ إذ لا مانع من كون الحكم الظاهري مخالفا للحكم الواقعي ، وإن كانت دائرة الملازمة موسّعة وتحقّقت الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة في مرحلة الفعليّة كتحقّقها في مرحلة الواقع.

قال في متن الكفاية : «لصحّ التمسّك بذلك في إثبات بطلانها» ، أي يصحّ التمسّك بالاستصحاب في إثبات بطلان الملازمة ، ولكنّه في نسخة قال : «لما صحّ التمسّك بالأصل».

ولكنّ التحقيق : أنّ سياق العبارة يقتضي صحّة ما في النسخة ، وأن يكون ما ذكره في الحاشية جزء كلامه ، فإنّ وعاء الملازمة هو الواقع والقائل بها عالم بتحقّقها ، وربما يدّعي شهادة الوجدان عليها ، فكيف يمكن بطلانها بالاستصحاب الذي يكون مجراه عبارة عن الشكّ في الملازمة وعدمها؟! وبالنتيجة لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب على القول بالملازمة المطلقة.

وأشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢) بأنّ الاستصحاب وظيفة الشاكّ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٩٣ ـ ١٩٦.

(٢) تهذيب الاصول ١ : ٢١٩.

١٥٩

وتوسعة دائرة الملازمة وعدم محدوديّتها مربوط بالقائل بالملازمة ، فكيف يمكن أن يكون دعوى التوسعة منه مانعا عن تمسّكه بالاستصحاب؟

وجوابه : ما ذكر استاذنا السيّد البروجردي (١) في مقام توجيه كلام صاحب الكفايةقدس‌سره وهو : أنّ مجرى الاصول العمليّة عبارة عمّا إذا كان الحكم الواقعي مشكوكا وفعليّته مقطوعة العدم على جميع التقادير ، مثلا : نجري أصالة الحلّيّة في صورة الشكّ في حلّيّة شرب الدخانيات وحرمته بحسب الحكم الظاهري ، ونقطع بعدم فعليّة الحرمة الواقعيّة لنا إن كان في الواقع حراما ، فإن لم يكن الحكم الواقعي مقطوع العدم في بعض التقادير فلا يجري الأصل العملي.

وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ في صورة محدوديّة الملازمة بالحكمين الواقعيّين سلّمنا أنّ الحكم الظاهري حاكم في مرحلة الفعليّة بلحاظ عدم إيصالهما في هذه المرحلة ، وأمّا في صورة توسعة دائرة الملازمة فلا شكّ في فعليّة أحد طرفي الملازمة ـ يعني وجوب ذي المقدّمة ـ وعلى تقدير الملازمة يتحقّق وجوب المقدّمة أيضا في مرحلة الفعليّة ، فلا يمكن للشاكّ أن يقول : إنّا نعلم بعدم الوجوب الفعليّ للمقدّمة مطلقا ، فإنّه عالم بعدم الفعليّة على تقدير عدم الملازمة فقط. ومن البديهي أنّ في صورة العلم بفعليّة وجوب المقدّمة على أحد التقديرين لما صحّ التمسّك بالأصل ، ولا يبقى إشكال بعد هذا التوضيح اللطيف والدقيق.

وملخّص كلامه : أنّ الاصول العمليّة تجري في مورد القطع بعدم فعليّة التكليف الواقعي على تقدير ثبوته ، وهذه الخصوصيّة لا تتحقّق فيما نحن فيه ، فإنّ بعد العلم بفعليّة وجوب ذي المقدّمة والعلم بفعليّة وجوب المقدّمة على

__________________

(١) نهاية الاصول ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧.

١٦٠