دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

١
٢

٣
٤

الفصل الرابع

في مقدّمة الواجب

ولا بدّ لنا قبل بيان الأقوال وأدلّتها في المسألة من ذكر أمرين بعنوان مقدّمة البحث :

الأمر الأوّل

في تحرير محلّ النزاع من حيث إنّ هذه المسألة فقهيّة أو اصوليّة؟

وكان عنوان المسألة في أكثر الكتب الاصوليّة ـ كما في الأذهان ـ بأنّ مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟ ولا شكّ في أنّه إذا كان عنوان البحث بهذه الكيفيّة تكون المسألة من المسائل الفقهيّة ؛ لأنّ الملاك الفقهي متحقّق هاهنا ، وهو أن يكون الموضوع في المسألة فعلا من أفعال المكلّفين ، والمحمول فيها حكما من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ، وكما أنّ ذا المقدّمة فعل للمكلّف كذلك مقدّمة الواجب فعل للمكلّف ، ولا فرق بين هذه المسألة والقول بأنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة واجبة أم لا ، إلّا أنّ هذا المثال جزئي ولا يحكي إلّا عن معنون واحد ، وما نحن فيه كلّي ويحكى عن معنونات متعدّدة ، ونعبّر عنه بالقاعدة

٥

الفقهيّة ، ولكن الكلّيّة لا توجب خروج البحث عن الفقهيّة ، فتكون هذه المسألة من المسائل الفقهيّة ، ولذا استشكل بأنّه لا وجه للبحث عنها في الكتب الاصوليّة.

ولكنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) دفعا للإشكال ـ واستنادا إلى أنّ البحث عن مسألة في علم الاصول أو سائر العلوم ظاهر في أنّها منه ـ غيّر عنوان المسألة ، وصورة القضيّة من حيث الموضوع والمحمول حتّى تنطبق عليها ضابطة المسألة الاصوليّة ، وهي وقوعها في كبرى قياس استنباط المسألة الفقهيّة ، حيث قال : إنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة ثابتة عقلا أم لا؟ وجعل الموضوع فيه الملازمة ، ومعلوم أنّ تحقّق الملازمة وعدمه بين الحكمين الشرعيّين ليس فعلا للمكلّف ، مثلا : الوضوء مقدّمة للصلاة الواجبة ، والملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة في جميع الموارد متحقّقة ، فتحقّق الملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الوضوء. وهذه النتيجة عبارة اخرى عن الوضوء الواجب. وصاحب الكفاية (٢) غيّر العنوان بهذه الكيفيّة حفظا للظاهر ، وقال : «إن لم يمكن التغيير فلا بدّ من الحمل على خلاف الظاهر».

وتوضيح كلامه : أنّ لبّ محلّ النزاع في ما نحن فيه ـ من دون فرق بين عنوان البحث ـ عبارة عن أنّ وجوب المقدّمة مثل وجوب ذي المقدّمة وجوب شرعي ومولوي أم لا؟ بعد كون اللابدّيّة العقليّة للمقدّمة ليست قابلة للإنكار حتّى لمنكري وجوب المقدّمة ، وجعل صاحب الكفاية قدس‌سره الموضوع في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٣٩.

(٢) المصدر السابق.

٦

محلّ النزاع الملازمة العقليّة ، وأحد طرفيها وجوب شرعي مولوي للمقدّمة ، والطرف الآخر وجوب شرعي مولوي لذي المقدّمة.

وأمّا أصل الوجوب العقلي الذي كان للمقدّمة فلا نزاع فيه أصلا ، ولكنّ الحاكم بالملازمة هو العقل ، وهي تستفاد من طريق العقل ، فلا يكون هذا البحث من مباحث الألفاظ.

ولذا اعترض المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) على صاحب المعالم بأنّه مع ذكره هذا البحث في مباحث الألفاظ استدلّ لإنكار وجوب المقدّمة بنفي الدلالات الثلاث ، وهذا شاهد على أنّ هذا البحث عنده بحث لفظي ، والحال أنّه ليس كذلك.

ولا يتوهّم أنّ الإشكال يرد على صاحب الكفاية قدس‌سره أيضا لذكره البحث أيضا في مباحث الألفاظ ؛ مع أنّه صرّح بأنّها ليست مسألة لفظيّة.

ولا يتوهّم أيضا أنّ الظاهر من قوله : «تحقّق الملازمة بين الوجوبين» أنّه لا بدّ من تحقّق وجوب المقدّمة ووجوب ذي المقدّمة قبل إثبات الملازمة بينهما ، تحقّق الرجل والمرأة قبل إيجاد العلقة الزوجيّة بينهما.

فإنّ مراده أنّا نستكشف من طريق الملازمة الوجوب الشرعي المولوي للمقدّمة ، مثل استكشاف حكم الشرع من تحقّق حكم العقل بالملازمة ، فيستفاد هاهنا من وجود أحد المتلازمين وجود الآخر. هذا توضيح كلامه قدس‌سره.

وهل تثبت وتتمّ بهذا البيان عقليّة هذه المسألة الاصوليّة أم لا؟ أشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢) بما توضيحه : أنّ الإنسان قد تتعلّق إرادته

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٣٢٣ ـ ٣٢٧.

٧

بإتيان العمل في الخارج مباشرة ، وقد تتعلّق إرادته بإتيانه من قبل الغير بواسطة الأمر. وفي الصورة الاولى تارة لا يتوقّف العمل على المقدّمة الخارجيّة بل يتحقّق المراد بمجرّد تحقّق الإرادة ، وتارة يتوقّف عليها بحيث لا يمكن تحقّقه بدون تحقّقها.

أمّا القسم الأوّل ـ أي تعلّق الإرادة بإتيان العمل بالمباشرة وعدم توقّفه في الخارج على المقدّمة ، مثل : حركة اليد والتكلّم والنظر ... ـ فهو مسبوق بمبادئ ومقدّمات الإرادة من تصوّر العمل والإذعان بفائدته وسائر المبادئ ، ثمّ تتحقّق الإرادة بخلّاقية نفس الإنسان من دون احتياج إلى مسبوقيّتها بإرادة اخرى ، كما مرّ أن ذكرنا أنّ النفس الإنسانيّة تكون مظهرة لخلّاقية الباري تعالى بإفاضتها إليها بعناية ربّانيّة ، وبمجرّد تحقّق الإرادة يتحقّق المراد بدون الاحتياج إلى مقدّمة ، وهذا القسم لا يحتاج إلى البحث ، كما لا يخفى.

وأمّا القسم الثاني ـ أي تعلّق الإرادة بإتيان العمل بالمباشرة ، وتوقّفه في الخارج على المقدّمة مثل إرادة الكون على السطح ـ فهو يتوقّف على المقدّمة الخارجيّة زائدا على مبادئ الإرادة ، وهي نصب السلّم ، وهل يحتاج نصب السلّم أيضا إلى مقدّمات الإرادة أم لا؟ يتحقّق في كلام الأعاظم ـ سيّما صاحب الكفاية قدس‌سره ـ التعبير بأنّه يترشّح من الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة إرادة متعلّقة بالمقدّمة (١) ، والظاهر منه أنّه يتولّد من إرادة ذي المقدّمة إرادة المقدّمة بدون اختيار واحتياج إلى المبادئ والمقدّمات ، فكما أنّه لا واسطة بين الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ونفس ذي المقدّمة كذلك لا واسطة بين الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة والمقدّمة ، ولكنّه لا واقعيّة لهذا الظاهر ، فإنّ الإرادة تحتاج إلى

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٤١.

٨

المبادئ بدون الفرق بين إرادة المقدّمة وذي المقدّمة ، إلّا أنّ الغرض الأصلي يتعلّق بذي المقدّمة ، والمقدّمة توجب التمكّن من الوصول إليه ، وهذا لا يوجب عدم احتياج إرادتها إلى المبادئ ، فيكون المراد من التعبير المذكور أنّ إرادة المقدّمة تابعة لإرادة ذي المقدّمة.

وأمّا القسم الثالث ـ أي تعلّق الإرادة بإتيان العمل عن الغير ـ فما يرتبط هاهنا بالمولى عبارة عن صدور الأمر وإيجاب المأمور به على المأمور ، ونعبّر عنه بالبعث والتحريك الاعتباري ، وهو من أفعاله الاختياريّة ، ويكون مسبوقا بالإرادة ، ومعلوم أنّها لا تتحقّق إلّا بعد تحقّق مبادئها ، وما يرتبط بالمأمور عبارة عن شراء اللحم ـ مثلا ـ بحسب أمر المولى ، ولا شكّ في أنّه يحتاج إلى المقدّمة الخارجيّة زائدا على مبادئ الإرادة.

ثمّ إنّ الإمام قدس‌سره كأنّه يسأل صاحب الكفاية قدس‌سره عن طرفي الملازمة ؛ إذ تتحقّق في المسألة احتمالات أربعة ، ولا يمكن الالتزام بأحدها :

الأوّل : أن يكون طرفي الملازمة عبارة عن الوجوب الفعلي المتعلّق بذي المقدّمة ، والوجوب الفعلي المتعلّق بالمقدّمة ، فكما أنّ للمولى بعثا اعتباريّا فعليّا بالنسبة إلى شراء اللحم كذلك كان له بعث اعتباري فعلي بالنسبة إلى دخول السوق مثلا ، إلّا أنّ البعث والوجوب في الأوّل نفسي وفي الثاني غيري ، ولكنّ الكلام في أنّه إذا صدر عن المولى «اشتر اللحم» بدون «ادخل السوق» فأين الوجوب الفعلي للمقدّمة حتّى يكون طرفا للملازمة ، مع أنّه لم يصدر عن المولى إلّا إيجاب ذي المقدّمة.

ونضيف إليه : أنّ الملازمة هاهنا غير الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فإنّا نستكشف من وجود حكم العقل في مورد أنّ للشرع فيه حكما أيضا ، إلّا أنّه

٩

يمكن أن لا يصل إلينا ، ولكنّ المفروض في ما نحن فيه أنّه لم يصدر من المولى سوى «اشتر اللحم» ، فعلى هذا لا بدّ للمولى من الأمر بالمقدّمة في رديف الأمر بذي المقدّمة مثل : «ادخل السوق واشتر اللحم» ، وإلّا يكون الأمر غلطا أو ناقصا ، مع أنّه لم يلتزم به أحد ، ولا ضرورة لإلزام المقدّمة من المولى حتّى في صورة التفاته إليها عند العقلاء ، وحينئذ نسأل أنّه كيف تتحقّق الملازمة بين الوجوبين الفعليّين مع أنّا نقطع بعدم صدور الأمر بالمقدّمة من المولى؟!

الاحتمال الثاني : أن يكون طرفي الملازمة عبارة عن الإرادتين ، إحداهما : الإرادة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة ، وثانيتهما : الإرادة المتعلّقة بالبعث إلى المقدّمة ، فإن كان مراد صاحب الكفاية قدس‌سره التلازم بين الإرادتين في نفس المولى يرد عليه :

أوّلا : أنّه إذا كان الأمر كذلك فما الدليل لتأثير الإرادة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة في المراد وعدم تأثير الإرادة المتعلّقة بالبعث إلى المقدّمة فيه؟ ولم يتحقّق المراد بعد الإرادة في الاولى دون الثانية؟!

وثانيا : أنّ هذا المعنى متفرّع على التفات المولى إلى المقدّمة أو المقدّمات ، ويمكن أن يكون المولى غافلا عنها ، ولا يمكن الالتزام بالملازمة بين الإرادتين في صورة الغفلة عنها ، فلا يصحّ هذا الاحتمال أيضا.

والاحتمال الثالث عبارة عن الاحتمال الأوّل ، والاحتمال الرابع عبارة عن الاحتمال الثاني ، ولكن مع حذف الفعليّة من طرف المقدّمة في هذين الاحتمالين وتبديلها بكلمة التقديريّة ؛ بأنّ الملازمة متحقّقة بين الوجوب الفعلي لذي المقدّمة والوجوب التقديري للمقدّمة ، أم لا؟ أو أنّ الملازمة ثابتة بين الإرادة الفعليّة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة والإرادة التقديريّة المتعلّقة بالبعث إلى

١٠

المقدّمة أم لا؟ والمراد من التقديريّة أنّ وجوب المقدّمة أو إرادتها لم يتحقّق فعلا في نفس المولى ، ولكنّه يتحقّق في الآتية.

وإن فرض البحث بهذه الكيفيّة فيرد عليه : أنّ الملازمة أمر وجودي ، فإن تحقّق أحد طرفيها فلا بدّ من تحقّق طرفها الآخر ، ولا يمكن اتّصاف شيء بوصف باعتبار وجوده في الاستقبال ؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت مثبت له ، بل الملازمة تكون من هذه الحيثيّة كالامور المتضايفة ؛ إذ الملازمة وصف للطرفين ، فيحتاج ثبوت الوصف إلى فعليّة وجود الموصوف.

وحاصل كلام الإمام قدس‌سره : أنّه لا يمكن الالتزام بأن يكون محلّ النزاع بإحدى الاحتمالات المذكورة.

ويمكن أن يقال : إنّ هذا البيان أجنبي عن محلّ البحث في ما نحن فيه ؛ بأنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره يدّعي أنّ محلّ النزاع عبارة عن الملازمة بين الوجوبين أو الإرادتين ، وأنكره الإمام قدس‌سره ، إلّا أنّ كلامه في مقام توضيح الإنكار ينتهي إلى إنكار الملازمة ، ومعلوم أنّ إنكار الملازمة مسألة ، وإنكار كون الملازمة محلّا للنزاع مسألة اخرى ، فلا ينطبق الدليل على المدّعى.

ولكنّه مدفوع بأنّ ما يقع محلّا للنزاع بين الأجلّة والأعاظم واختيار المشهور طرف الإثبات فيه لا يمكن أن يكون واضح البطلان مثل الاحتمالات المذكورة هاهنا ، ولا يمكن نسبة ما هو واضح البطلان إلى المشهور ، فلا تكون الملازمة بالكيفيّة التي ذكرها صاحب الكفاية قدس‌سره محلّا للنزاع.

وتوضيح محلّ النزاع يحتاج إلى مقدّمة ، وهي : أنّ الإرادة المتعلّقة بفعل شيء مباشرة عن الإنسان تكون المقدّمات والمبادئ أوّلها التصوّر وثانيها التصديق بفائدته ، ولكنّ التصديق بالفائدة لا يكون موافقا للواقع ، فربما

١١

يتخيّل تحقّق الفائدة ، ولذا تتحقّق الإرادة وبعدها يتحقّق المراد ، ثمّ ينكشف عدم تحقّق الفائدة واقعا بحيث إن التفت إليه حين الإرادة لم يتحقّق منه التصديق بالفائدة أصلا ، كما أنّه في مقام التصديق بالفائدة ربما يتخيّل عدم تحقّق الفائدة ، ويعتقد أنّ هذا الشيء خال من الفائدة ، ولذا لا تتحقّق الإرادة والمراد منه ، ثمّ ينكشف ترتّب فائدة مهمّة عليه بحيث إن التفت إليه حين الإرادة تتحقّق منه الإرادة قطعا.

وهكذا في الإرادة المتعلّقة ببعث الغير إلى فعل ، فإنّه قد يصدر البعث عن الآمر إلى ذي المقدّمة مع أنّه غافل عن مقدّميّة المقدّمة ، ويمكن أن يتخيّل بعض الامور مقدّمة للمأمور به مع أنّه لا يرتبط بحسب الواقع به أصلا. وإن لم يمكن نسبة هاتين الجهتين ـ أي الغفلة عن المقدّمة والخطأ في التشخيص ـ إلى الشارع فلا يجري هذا المعنى في الأحكام الشرعيّة ، ولكنّ هذا البحث لا ينحصر في الأحكام الشرعيّة ، بل هو عام يشمل جميع الأوامر المتحقّقة بين الموالي والعبيد والآباء والأبناء وأمثال ذلك ؛ إذ الحاكم في المسألة عبارة عن العقل بدون أن تكون المسألة فقهيّة أو اصوليّة ، إلّا أنّ النتيجة التي تستفاد من غفلة الآمر عن المقدّمة أو خطائه في تشخيص بعض المقدّمات تجري في الأحكام الشرعيّة أيضا.

ثمّ إنّ الإمام قدس‌سره استنتج بأنّه لا بدّ لنا من جعل محلّ النزاع في ما نحن فيه عبارة عن الملازمة بين الإرادة الفعليّة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة والإرادة الفعليّة المتعلّقة بالبعث إلى ما يراه المولى مقدّمة ، فتكون للمسألة جهتان :

الاولى ترتبط بالمولى ، وهي : أنّ طرفي الملازمة عبارة عن الإرادة الحتميّة الفعليّة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة والإرادة الحتميّة الفعليّة المتعلّقة بالبعث

١٢

إلى ما يراه المولى مقدّمة ، يعني أنّه أوّلا : التفت إلى المقدّمة ، وثانيا : أنّه قد يعتقد بمقدّميّة ما لم تكن مقدّمة ، فتتحقّق بعده إرادته ، ولا يكون هذا مخالفا لطرف الملازمة.

الجهة الثانية ترتبط بالعبد ، وهي : أنّ وظيفته الأصليّة عبارة عن تحصيل غرض المولى من أيّ طريق أمكن ، وإن كانت المقدّمة مغفولا عنها للمولى فلا يجوز له تركها في مقام الامتثال ، فإنّ مع تركها يترك ذا المقدّمة أيضا ، كما أنّه إذا تعلّقت إرادته بشيء لتوهّم كونه مقدّمة فلا يجب على العبد إيجاده. ومع الالتفات إلى هاتين الجهتين تندفع جميع الإشكالات.

ولكن يرد عليه : أنّه سلّمنا إن جعلنا أحد طرفي الملازمة عبارة عمّا يراه المولى مقدّمة يوجب حلّ الإشكالات المذكورة إلّا أنّه يستلزم إشكالا آخر ، وهو أنّ المولى إن التفت إلى مقدّمية المقدّمة ـ مثل : دخول السوق بالنسبة إلى شراء اللحم ـ فهل يجوز له الاكتفاء بالأمر بذي المقدّمة فقط أو لا بدّ له من الأمر بالمقدّمة أيضا ، وإلّا يكون الأمر ناقصا؟ والثاني مخالف للوجدان والاستعمالات العرفيّة وأوامر الموالي العرفيّة ، فلا يكون قابلا للبحث.

وإن قلنا بالأوّل فنسأل أنّه ما الدليل على تحقّق المراد بعد إرادة ذي المقدّمة وعدم تحقّقه بعد إرادة المقدّمة مع أنّك تقول بالملازمة بين الإرادتين؟!

والحقّ أنّ طرفي الملازمة عبارة عن وجوب المتعلّق بذي المقدّمة ووجوب المتعلّق إلى ما يراه المولى مقدّمة ، مع إصلاح من الإمام قدس‌سره ، وحينئذ إن قلنا بالملازمة ففي الأحكام الشرعيّة نقول : إنّ الشارع كما أوجب ذا المقدّمة كذلك أوجب المقدّمة ، ولكن يمكن أن لا يصل إلينا في بعض الموارد. وأمّا عدم صدور الأمر إلى المقدّمة من الموالي العرفيّة مع التفاته إلى مقدّمية المقدّمة ،

١٣

كقوله : «اشتر اللحم» بدون «ادخل السوق» ، فيكون حلّ مسألة طرفي الملازمة بأنّ الواجب كما ينقسم إلى النفسي والغيري كذلك ينقسم إلى الأصلي والتبعي.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : «إنّ هذا التقسيم يرتبط بمقام الثبوت ولا يرتبط بمقام الإثبات ودلالة اللفظ».

والمراد من الأصلي ما يلاحظه المولى مستقلّا وتتعلّق به إرادته ، وهو يتصوّر في الواجب النفسي والغيري.

والمراد من التبعي ما لا يلاحظه المولى مستقلّا ولم تتعلّق به إرادته كذلك ، بل تكون الإرادة المتعلّقة به بتبع الإرادة المتعلّقة بشيء آخر ، وهذا يتصوّر في الواجبات الغيريّة فقط ، فالواجب الغيري قد يكون أصليّا وقد يكون تبعيّا ، وبناء على هذا تتحقّق الملازمة بين الوجوبين في صورة اكتفاء المولى بوجوب ذي المقدّمة أيضا ، إلّا أنّ وجوب المقدّمة يتحقّق تبعا ، ولذا ينتهي النظر بعد التحقيق المستوفى بجعل الملازمة بين الوجوبين ومع الإصلاح المذكور.

وقبل الورود في بحث التقسيمات لا بدّ لنا من بحثين :

الأوّل : في أنّ هذه المسألة عقليّة محضة أو لفظيّة؟ وقد تقدّم أن نقلنا عن صاحب الكفاية قدس‌سره القول بأنّها عقليّة محضة ، ولكنّ المنطقيّين قالوا : إنّ الدلالة قد تكون بنحو المطابقة ، وقد تكون بنحو التضمّن ، وقد تكون بنحو الالتزام ، ولا شكّ في أنّ الدلالة المطابقيّة وكذا التضمّنيّة دلالة لفظيّة ، وأمّا الدلالة الالتزاميّة ففيها كلام ؛ لأنّها عبارة عن دلالة اللفظ على الملزوم ، ونحن ننتقل منه إلى اللازم ، ولا دليل لجعل لازم الموضوع من الدلالة اللفظيّة ، ولو التزم

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٣٩.

١٤

أحد بأنّها منها فيمكن قوله في هذه المسألة بكونها مسألة لفظيّة ، ويؤيّده البحث عن مقدّمة الواجب في مباحث الألفاظ.

وأمّا على القول بعدم كونها من الدلالة اللفظيّة وأنّ العقل ينتقل من طريق الملازمة إلى اللازم فتكون مسألة عقليّة ، ولا يمكن عدّها من مباحث الألفاظ.

إذا عرفت هذا فنقول : تترتّب ثمرة مهمّة على مبنى الإمام وما قلنا به في ما نحن فيه ، وهي أنّ الإمام قدس‌سره (١) يقول : إنّ البحث في مقدّمة الواجب لا يكون بحثا لفظيّا وإن كانت الدلالة الالتزاميّة من مباحث الألفاظ ، فإنّ طرفي الملازمة هاهنا عبارة عن الإرادتين ، ولا تكون إحداهما مفاد اللفظ ومدلوله ، واللفظ كاشف عن إرادة المولى لا بما أنّه لفظ ، بل بما أنّه فعل من أفعاله الاختياريّة ، وكلّ عمل اختياري يكشف عن ثبوت الإرادة قبل العمل ، وهذا غير دلالة اللفظ على الإرادة ، فالمسألة عقليّة.

وأمّا على القول بجعل طرفي الملازمة عبارة عن الوجوبين ، فيكون الوجوب مفاد اللفظ وهيئة «افعل» ، وعلى هذا تكون المسألة مسألة عقليّة.

البحث الثاني : في ما أشرنا إليه سابقا من أنّ البحث عن مقدّمة الواجب مسألة فقهيّة أو اصوليّة أو كلاميّة أو من المبادئ الأحكاميّة ، على اختلاف المباني والأنظار ، وقلنا : إنّ عنوان البحث إن كان بأنّ مقدّمة الواجب واجب أم لا كما يكون كذلك في أكثر الكتب الاصوليّة فلا شكّ في كونها مسألة فقهيّة ، فإنّ الملاك الفقهي ـ أي كون الموضوع فعلا من أفعال المكلّف ـ متحقّق هاهنا ، وتقدّم أنّ كلّيّة العنوان لا يمنع عن فقهيّة المسألة.

وأمّا إن كان عنوان البحث عبارة عن الملازمة فتكون المسألة مسألة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٥

اصوليّة ، سواء كانت الملازمة بين الإرادتين أو بين الوجوبين ، فإنّ الملاك الاصولي ـ أي الوقوع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة ـ متحقّق في ما نحن فيه.

والقائل بكلاميّة المسألة يقول : إنّ البحث هاهنا بحث عقلي ، فلا محالة يكون البحث كلاميّا ، ولم يلتفت إلى أنّ كلّ مسألة كلاميّة مسألة عقليّة ، وليس كلّ مسألة عقليّة مسألة كلاميّة ، فلا أساس لهذا القول ، كما أنّ احتمال كونها من مبادئ الأحكام تخيّل محض ، فإنّها عبارة عن البحث عن العوارض وشئون الأحكام الخمسة كالبحث عن ماهيّة الوجوب ، وأنّ التضادّ بين الوجوب والحرمة متحقّق أم لا؟ وأمثال ذلك ، والبحث عن مقدّمة الواجب أجنبي عن ذلك ، فتكون المسألة مسألة اصوليّة.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) دخل في تقسيمات المقدّمة وقال : «إنّه ربما تنقسم المقدّمة إلى تقسيمات : منها : تقسيمها إلى الداخليّة ، وهي الأجزاء المأخوذة في الماهيّة المأمور بها ـ أي المقولات المتباينة التي اعتبرها الشارع واحدا ، كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة ـ والخارجيّة وهي الامور الخارجة عن ماهيّتها ممّا لا تكاد توجد بدونها ، مثل نصب السلّم بالنسبة إلى الكون على السطح.

وربما يشكل كون الأجزاء مقدّمة لها وسابقة عليها ، بأنّ المركّب ليس نفس الأجزاء بأسرها.

وحاصل الإشكال : أنّ المعتبر في المقدّمة خصوصيّتان : الاولى : التغاير بينها وبين ذي المقدّمة من حيث الوجود ، الثانية : تقدّمها على ذي المقدّمة من حيث الزمان. وهاتان الخصوصيّتان لا تتحقّقان في الأجزاء ؛ إذ الأجزاء عين

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٤٠ ـ ١٤١.

١٦

المركّب ، والمركّب ليس إلّا نفس الأجزاء ، فتنحصر المقدّمة بالخارجيّة ، ولا يمكن تصوّر المقدّمة الداخليّة.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره في جواب الإشكال : إنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر ، وذو المقدّمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع ، فتحصل المغايرة بينهما.

ومراده منه أنّا سلّمنا اعتبار التغاير بينهما ، ولكنّه لا ضرورة تقتضي أن يكون التغاير تغاير حقيقي ووجودي ، بل التغاير الاعتباري كاف في اتّصاف الأجزاء بالمقدّميّة ؛ إذ الجزء إن لوحظ لا بشرط فهو المقدّمة ، وإن لوحظ بشرط الانضمام فهو ذو المقدّمة ، وأمّا مسألة التقدّم الزماني فلا دخل لها بعنوان المقدّميّة أصلا.

وإن كان الظاهر من عبارة «أنّ المقدّمة هي نفس الأجزاء بالأسر» أنّها عبارة عن مجموعة الأجزاء ، ولكنّه لا يكون مراده قطعا ، فإنّه يستلزم أن تكون جميع الأجزاء مقدّمة واحدة ، مع أنّ المقدّمة الداخليّة تتعدّد بتعدّد الأجزاء.

على أنّه يستلزم عدم التغاير بين المقدّمة وذي المقدّمة ، ويقع البحث هاهنا في مقامين: الأوّل : في صحّة هذا التقسيم وثبوت المقدّمات الداخليّة وعدمه.

المقام الثاني : في أنّه لو فرضنا صحّة التقسيم هل تكون المقدّمات الداخليّة كالخارجيّة داخلة في محلّ النزاع أم لا؟

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : إنّه ينبغي خروج الأجزاء عن محلّ النزاع كما

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٤١.

١٧

صرّح به بعض ، وذلك لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا ، وإنّما كانت المغايرة بينهما اعتباريّة ، فتكون واجبة بعين وجوبه ، ومبعوثا إليها بنفس الأمر الباعث إليه ، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر ؛ لامتناع اجتماع المثلين.

ثمّ إنّه قدس‌سره دفع التوهّم الذي يمكن أن يحصل هاهنا ، وحاصل التوهّم : أنّه مع تعدّد الجهة لا يلزم الاجتماع ؛ بأنّ مرحلة تعلّق التكليف بطبيعة المأمور به في عالم المفهوم من المولى غير مرحلة الامتثال في الخارج من المكلّف ، وتعدّد الجهة والعنوان في مرحلة الاولى يكفي في تعلّق الأمرين المتضادّين أو مثلين كالصلاة الواقعة في الدار المغصوبة ، فإنّها من جهة كونها صلاة واجبة ، ومن جهة كونها غصبا حرام ، والمفروض تعدّدها في ما نحن فيه ، حيث إنّ متعلّق الوجوب النفسي هي الأجزاء بعنوان كونها عين الكلّ ومتعلّق الوجوب الغيري هي الأجزاء بعنوان كونها مقدّمة لوجود الكلّ ، والاجتماع بين العنوانين في الخارج لا يوجب الضرر بالتغاير المتحقّق بينهما في مقام تعلّق التكليف ، فيجوز اجتماع الأمرين هاهنا أيضا.

وتوضيح جوابه قدس‌سره عنه : أنّ الجهة إمّا تقييديّة ، وهي ما يقع موضوعا للخطاب ، وإمّا تعليليّة وهي ما يكون علّة للحكم لا موضوعا له ، فإن كانت الجهة تقييديّة فتعدّدها يجدي في دفع محذور اجتماع الحكمين على موضوع واحد ؛ إذ المفروض تعدّد الموضوع بتعدّد الجهة ، ولذا يندرج في باب التزاحم لا التعارض. وإن كانت الجهة تعليلية فتعدّدها لا يجدي في دفع المحذور المذكور ؛ لعدم تعلّق الحكم بالجهة حتّى يكون تعدّدها موجبا لتعدّد الموضوع.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ للصلاة في مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) جهة تقييديّة ،

١٨

فإنّها عبارة عن الركوع والسجود وسائر الأجزاء ، فلا إشكال من جهة تعلّق الوجوب النفسي بالأجزاء ، وأمّا من جهة الوجوب الغيري فلا شكّ في أنّ متعلّقه عبارة عن ذات المقدّمة لا عنوانها ومفهومها ؛ إذ لا يمكن الإيصال إلى السطح بسبب مفهوم المقدّمة ، فيكون موضوعه ذات المقدّمة ، وعلّة وجوبه عنوان المقدّميّة ، وعلى هذا تكون المقدّميّة من الجهات التعليليّة وإن كانت الأجزاء متعلّقة بالوجوب الغيري أيضا ، والمفروض أنّها عين الكلّ فتصير متعلّقة للحكمين المتماثلين ، فالوجوب العارض لها نفسي لا غيري ، ولذا لا يمكن أن تكون المقدّمات الداخليّة داخلة في محلّ النزاع.

وملخّص كلامه : أنّه كان للأجزاء عنوان المقدّميّة ، سواء كان المركّب حقيقيّا بالأجزاء التحليليّة العقليّة ـ كالجنس والفصل للماهيّة ـ أو بالأجزاء الخارجيّة ـ كالهيولى والصورة للإنسان ـ أم كان المركّب غير حقيقيّا صناعيّا ـ كالمسجد والسيارة ـ أو اعتباريّا كالصلاة والحجّ ، ولكنّه أنكر دخول الأجزاء في محلّ النزاع.

وأمّا الإمام قدس‌سره (١) فأنكر أصل المقدّميّة في المركّبات الحقيقيّة ، واستدلّ بأنّه يشترط في المقدّميّة المغايرة مع ذي المقدّمة ولو اعتبارا ، وهو مفقود هاهنا ؛ إذ العقل يأبى عن القول بأنّ الحيوان أو الناطق مقدّمة لماهيّة الإنسان ، وكذا المادّة والصورة ؛ فإنّهما عين الإنسان ، لا أنّ المادّة ـ مثلا ـ مقدّمة لوجود الإنسان وسلّم في المركّبات الغير الحقيقيّة ، فكلتا المرحلتين من البحث ـ أي عنوان المقدّميّة للأجزاء ودخولها في محلّ النزاع ـ من دون فرق بين المركّب الصناعي والاعتباري. وقال : «توضيح المقام يتوقّف على بيان كيفيّة الإرادة

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٨.

١٩

الفاعليّة ؛ كي يعلم منه حال الإرادة الآمريّة».

ومحصّل كلامه : أنّه إذا تعلّقت إرادة الإنسان ببناء المسجد ـ مثلا ـ للتوصّل به إلى ما فيه من المصلحة والأجر ، كما يدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من بنى مسجدا ـ كمفحص القطاة ـ بنى الله له بيتا في الجنّة» (١) فلا بدّ قبل تحقّق الإرادة من تحقّق مبادئها من التصوّر والتصديق بالفائدة وسائر المبادئ ، ولا شكّ في أنّ بناء المسجد يتوقّف على موادّ مختلفة الحقائق من حيث الكمّية والكيفيّة ، فنسأل الآن أنّه يلزم على المريد حين الإرادة تصوّر جميع الموارد الملازمة كمّا وكيفا ، وإلّا تكون الإرادة ناقصة؟ وبعبارة اخرى هل يتحقّق الفرق بين إرادة الملتفت إليها والغافل عنها من حيث النقص والكمال؟ ومن البديهي أنّه لا فرق بينهما ، ولذا يتحقّق مرادهما في الخارج.

ففي بادئ الأمر تتعلّق الإرادة بأصل بناء المسجد وإحداثه ، فإذا التفت إلى توقّفه على الأرض والأحجار والأخشاب ـ مثلا ـ فلا محالة تحتاج إرادة كلّ منها إلى المبادئ من التصوّر والتصديق بفائدتها ، أي التمكّن بها من بناء المسجد ثمّ تتعلّق الإرادة بها ، فتعدّد الإرادة بتعدّد المراد ، ويشهد له تعلّق الإرادة ببناء المسجد في حال كونه غافلا عن الأجزاء والمواد ، فهذه إرادة واحدة مستقلّة ، والإرادة المتعلّقة بكلّ واحد من المقدّمات إرادة مستقلّة اخرى ، وهكذا إرادات المتعلّقات بالمقدّمات الخارجيّة مثل : استئجار البناء والمهندس وأمثال ذلك.

وبالنتيجة : الإرادة المتعلّقة بالمركّب الصناعي غير الإرادة المتعلّقة بالمقدّمات ، مع أنّ المركّب الصناعي ـ مثل المسجد ـ عنوان من العناوين

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٢٠٤ ، الباب ٨ من أحكام المساجد ، الحديث ٢.

٢٠