دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

الأمر الرابع

تبعيّة الوجوب الغيري لوجوب ذي المقدّمة في الإطلاق والاشتراط

في أنّ الوجوب الغيري للمقدّمة على القول بالملازمة هل يكون تابعا في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذي المقدّمة أم لا؟ والمشهور قائل بالتبعيّة.

ونسب إلى صاحب المعالم قدس‌سره (١) ما لا يستفاد من ظاهر كلامه حيث قال : وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقّف عليها ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر.

وفسّر كلامه المذكور في مبحث الضدّ (٢) بأنّ الوجوب الغيري المقدّمي مشروط بشرط مستقلّ دائما ، وهو عبارة عن إرادة المكلّف الإتيان بذي المقدّمة وإن كان الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة مطلقا.

ولكنّ التحقيق : أنّ ما نقل عنه لا يوافق مع ما نسب إليه ؛ إذ المنسوب إليه عبارة عن القضيّة الشرطيّة ، ويتحقّق بين الشرط والجزاء العلّيّة المنحصرة ،

__________________

(١) معالم الدين : ٧١.

(٢) المصدر السابق.

١٢١

وإلّا لم يتحقّق لها مفهوم ، والمنقول عنه عبارة عن القضيّة الحينيّة ، كأنّه يقول : «أيّها العبد حينما أردت ذا المقدّمة تجب عليك المقدّمة» ، وعلى أيّ حال يقول بتضييق دائرة وجوب المقدّمة.

وجوابه أوّلا ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ـ : إنّ على القول بالملازمة والالتزام بهذا الأمر الغير الواضح لا يصحّ الفرق بين الوجوبين والتفكيك بينهما من حيث التوسعة والتضييق ، بل التبعيّة أمر واضح لا شبهة فيه.

وثانيا : ما أجاب به الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) على ما في تقريراته ، وهو يتوقّف على مقدّمة ، وهي : أنّه يتحقّق في كلّ واجب الشرط المناسب له ، ولذا مرّ في باب الواجب المطلق والمشروط أنّه لا يتحقّق الواجب المطلق من جميع الجهات ، بل المطلق والمشروط من الامور النسبيّة كالصلاة ـ مثلا ـ فإنّها مطلقة بالنسبة إلى الوضوء ومشروطة بالنسبة إلى الوقت ، وهكذا في سائر الواجبات ، ولا يمكن أن يكون شرط الواجب عبارة عن إرادة نفس هذا الواجب ، كقولنا : «يجب عليك الصلاة إن أردتها» ؛ إذ المكلّف إمّا تتحقّق له إرادة الصلاة ، أو لا تتحقّق ، وفي الصورة الثانية لا شكّ في عدم تحقّق المشروط أيضا ، فليست الصلاة بواجبة عند عدم إرادتها ، وأمّا إذا تحقّقت الإرادة فمعناه أن تتحقّق الصلاة في الخارج ، وكانت علّة تحقّقها عبارة عن نفسها ، فلا دخل لأمر المولى في تحقّق المأمور به.

ولا يتوهّم أنّ لكلّ من الإرادة والأمر دخلا في تحقّقه ، فإنّ الإرادة متقدّمة على الأمر من حيث الرتبة ؛ إذ لا شكّ في تقدّم رتبة الشرط على المشروط ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٨١.

(٢) مطارح الأنظار : ٧٢.

١٢٢

وبعد تأثير ما هو المتقدّم من حيث الرتبة لا تصل النوبة إلى ما هو المتأخّر عنه ، فيستند العمل الخارجي إلى إرادة العبد ، ولا دخل للبعث والتحريك في تحقّقه ، فيلزم أن يكون أمر المولى لغوا أو مستحيلا ، فإنّه في صورة عدم الإرادة لغو ، وفي صورة تحقّقها تحصيل للحاصل، وهو محال ، ولا يمكن الجمع بين الأمر وتعليقه بإرادة المكلّف ومشيّته عند العرف أيضا.

وبعد هذه المقدّمة يستفاد أنّه لقائل أن يقول : إنّ هذا البرهان لا يجري في كلام صاحب المعالم قدس‌سره ، فإنّه قائل بأنّ الوجوب الغيري للمقدّمة مشروط بإرادة ذي المقدّمة لا بإرادة نفس المقدّمة.

قلنا : إنّ إرادة ذي المقدّمة ملازم لإرادة المقدّمة ؛ لأنّ بعد تحقّق المقدّميّة والالتفات إليها لا يمكن التفكيك بين إرادتهما ، فكلّما تحقّقت إرادة ذي المقدّمة تتحقّق إرادة المقدّمة أيضا بالملازمة ، فإن قال المولى : «يجب عليك نصب السلّم إن أردت الكون على السطح» فهذا يرجع إلى أنّه يجب عليك نصب السلّم إن أردت نصب السلّم ، وهو تعليق الواجب على نفسه ، ولا شكّ في أنّه مستحيل. هذا محصّل كلام الشيخ قدس‌سره.

ولكن يمكن لصاحب المعالم أن يجيب بأنّه سلّمنا المقدّمة المذكورة بعنوان ضابطة كلّيّة ، وأنّه لا يمكن تعليق إيجاب الشيء بإرادة نفس هذا الشيء ، ولكن لا نسلّم رجوع تعليق وجوب المقدّمة بإرادة ذيها إلى هذه الضابطة ، وما ذكره بعنوان دليل الاستحالة فيما حكيناه عنه ـ أي استناد العمل إلى الإرادة بعد وقوعها شرطا بلحاظ تقدّم الشرط على الجزاء ، فلا مجال للبعث والأمر ـ لا يصحّ ولا يجري هاهنا ، فإنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة متأخّرة عن الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة دائما ، ولذا يعبّر في الكلمات بالترشّح والعلّيّة ، فتكون

١٢٣

للإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة علّيّة وتقدّم على الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ، وحينئذ إذا قال المولى: «يجب عليك نصب السلّم إن أردت الكون على السطح» فلا شكّ في تأخّر وجوب نصب السلّم والجزاء عن إرادة الكون على السطح والشرط ، ولكن وجوب الجزاء مع إرادته مقارن له من حيث الرتبة ، والمتقدّم عبارة عن الشرط فقط ، ومعلوم أنّ إيجاب شيء مقارنا لإرادته لا يكون تحصيلا للحاصل ، فالمقارنة بينهما مانعة عن تحقّق عنوان تحصيل الحاصل.

فالحقّ في الجواب ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره. هذا تمام الكلام حول مقالة صاحب المعالم قدس‌سره في هذا البحث.

وينسب أيضا إلى الشيخ الأنصاري ما يكون مخالفا للمشهور ، وهو على ما نقله صاحب الكفاية قدس‌سره عن تقريراته : أنّ الوجوب الغيري المقدّمي مشروط على أن يكون الإتيان بالمقدّمة بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، وعلى هذا يتوقّف وجوب المقدّمة على خصوصيّتين ، وهما إرادة ذي المقدّمة وإيجاد المقدّمة بداعي التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، فلا بدّ لنا من البحث في مرحلتين :

الاولى : في صحّة هذه النسبة إليه بعنوان المقابلة مع المشهور وعدمها ، ومن المعلوم أنّ البحث فيما نحن فيه في أنّ الوجوب الغيري المقدمي ـ سواء كانت المقدّمة عباديّة أم لا ـ هل يكون تابعا للوجوب النفسي لذي المقدّمة أم لا؟ ولكن بعد مراجعة تقريرات الشيخ قدس‌سره نلاحظ أنّه ليس في مقام بيان هذا البحث ، بل هو في مقام بيان اتّصاف المقدّمة بالعباديّة ، وأنّ إتيانها في الخارج بعنوان العبادة سواء كانت من الامور العباديّة أم لا يتوقّف على إتيانها بداعي امتثال الأمر الغيري المتعلّق بها ، ويعبّر عن هذا بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، فهو يكون في مقام تصحيح عباديّة المقدّمة ، ولا دخل له فيما نحن فيه

١٢٤

أصلا ، فتبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذي المقدّمة مسألة ، وتصحيح عباديّتها مسألة اخرى.

الثانية : في أنّه لو فرضنا صحّة هذه النسبة إليه فيكون في كلامه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أن يكون مراده بصورة قضيّة شرطيّة كأنّه يقول : يجب عليك نصب السلّم إن أردت الكون على السطح من هذا الطريق.

الثاني : أن يكون مراده بصورة قضيّة حينيّة كأنّه يقول : يجب عليك نصب السلّم إن أردت الكون على السطح من هذا الطريق.

الثاني : أن يكون مراده بصورة قضيّة حينيّة كأنّه يقول : يجب عليك نصب السلّم حينما كنت مريدا للكون على السطح من هذا الطريق ، ومن أنّ المشروط والمعلّق عليه في هذين الاحتمالين عبارة عن نفس الوجوب.

والثالث : أن يكون قصد التوصّل داخلا في دائرة المأمور به والواجب ، ويتعلّق الوجوب الغيري المقدّمي على الشيء المقيّد ، والفرق بينهما يظهر في لزوم التحصيل وعدمه كقوله : «يجب عليك نصب السلّم مع قصد التوصّل».

وأمّا على الاحتمال الأوّل فنبحث أوّلا في مقام الثبوت ، وبعد ثبوت إمكانه تصل النوبة إلى مقام الإثبات والاستدلال ، وأوّل ما يصحّ القول به في هذا المقام عبارة عمّا مرّ ذكره عن المحقّق الخراساني قدس‌سره في جواب صاحب المعالم ، وهو يرجع إلى أنّه بعد قبول أصل الملازمة يكون القول بالتفكيك بين الوجوب الغيري والوجوب النفسي خلاف البداهة العقليّة ؛ إذ التفكيك بين العلّة والمعلول من حيث الإطلاق والاشتراط ممتنع عقلا.

نعم ، ثبت في المباحث الفلسفيّة أنّ كلّ معلول مقيّد بعلّته كتقيّد الحرارة المعلولة للنار بأنّها جاءت من قبل النار ، ولكنّ الذي نبحث فيه كون المعلول مشروطا بشرط لا يرتبط بالعلّة أصلا ، ولذا اعتبر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ

١٢٥

مسألة التبعيّة واضحة بحيث يكون خلافه أمرا مستحيلا.

وثانيا : ما أورده الشيخ قدس‌سره على صاحب المعالم من دون أن يكون قابلا للذبّ عنه ، فإنّ قصد التوصّل في الحقيقة يكون إلى إرادتين ، وكأنّه يقول : تجب عليك المقدّمة إن أردت المقدّمة وإن أردت ذي المقدّمة ، ومعناه أنّه لا دخل للبعث والتحريك في تحقّق وجوب المقدّمة ، بل لإرادتها في رتبة متقدّمة دخل في تحقّق الوجوب ، وتعليق الوجوب بإرادة نفس الواجب تحصيل حاصل وأمر مستحيل كما اعترف الشيخ قدس‌سره به آنفا ، وعدم قابليّته للدفاع يكون بلحاظ أخذ نفس إرادة الواجب بعنوان شرط الوجوب ، إلّا أنّه أضاف في جنبها إرادة اخرى ، ولكنّها تكون كالحجر إلى جنب الإنسان ، ولا تمنع من الاستحالة ، ولا تتحقّق بين الإرادتين ملازمة ، فيكون كلامه قدس‌سره على الاحتمال الأوّل مستحيلا ، ولا تصل النوبة إلى مقام الإثبات.

ويجري هذا الكلام بعينه من صدره إلى ذيله بالملاك المذكور على الاحتمال الثاني أيضا ، ولا فرق بينهما إلّا في كمال الوضوح وغيره.

وأمّا على الاحتمال الثالث فقد يقول : إنّ الإرادة لا تكون أمرا اختياريّا وإلّا يتسلسل كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، وعلى هذا لا يمكن أن تكون الإرادة واجبة ، ولا يمكن جعلها قيدا للواجب ، فإنّ قيد الواجب أيضا لازم التحصيل ، فإذا انحلّ قصد التوصّل إلى الإرادتين الغير الاختياريّين ، كيف يمكن جعله قيدا للواجب؟! وهذا أيضا يكون مستحيلا بحسب مقام الثبوت.

وقد يقال : إنّ الإرادة توجد بواسطة نفس الإنسان كالوجود الذهني ، وذلك بعناية الله تعالى شعبة من الخلّاقية إليها كما هو الحقّ.

١٢٦

نكتة :

والظاهر أنّ المتعيّن في كلامه قدس‌سره بعد ملاحظة مبناه في مطلق الواجب المشروط هو الاحتمال الثالث ، فإنّه قائل برجوع القيد فيه إلى المادّة ، فيكون قصد التوصّل قيدا للواجب ، ومعناه لزوم تحصيل القيد كذات الواجب ، وحينئذ لو قلنا : إنّ القصد والإرادة لا يكون أمرا اختياريّا فيستشكل بأنّه لا يمكن تعلّق التكليف والوجوب بها ، سواء كان الوجوب نفسيّا أو غيريّا.

ولكن تقدّم أن ذكرنا أنّها أمر اختياري ، ويؤيّده شرطيّة قصد القربة في الواجبات التعبّديّة ؛ إذ لا إشكال في أنّها لو كانت من الامور الغير الاختياريّة فلا معنى للزوم تحصيلها.

ويمكن أن يتوهّم أنّه مرّ عن المحقّق الخراساني قدس‌سره استحالة أخذ قصد الامتثال وإتيان المأمور به بداعي أمره في المتعلّق ، سواء كان بصورة الجزئيّة أو الشرطيّة ، فلا يرد عليه هذا الإشكال.

وجوابه أوّلا : أنّه سلّمنا إنكاره أخذ قصد الامتثال في المتعلّق من ناحيته ، ولكنّه قائل بأنّ الحاكم بلزوم اعتباره هو العقل ، وعلى هذا كيف يحكم العقل بلزوم اعتبار ما هو أمر غير اختياري؟!

وثانيا : أنّه قائل بعدم إمكان أخذ قصد القربة بمعنى قصد الامتثال في المتعلّق ، وأمّا إن كان بمعان أخر كإتيان الشيء بداعي كونه حسنا أو ذات مصلحة ، فلا مانع من أخذه في المتعلّق عنده ، فيعود إشكال الاستحالة.

ولكن بعد بطلان هذا المبنى وإمكان أخذ الإرادة في المتعلّق عندنا ورجوع القيد إلى المادّة عند الشيخ قدس‌سره فلا نبحث معه في مقام الثبوت ؛ إذ لا إشكال ثبوتا في تعلّق الوجوب الغيري بشيء مقيّد بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة ،

١٢٧

وإذا وصلت النوبة إلى مقام الإثبات فلا يتمّ البحث مع الشيخ قدس‌سره هاهنا ، بل نبحث معه في أصل مسألة الملازمة ، فإنّ كلامه فرع ثبوت الملازمة ، فإن اخترنا عدمها فلا تصل النوبة إلى هذا الكلام ، وأمّا إن اخترناها فنبحث أنّ الوجوب الغيري المقدّمي يتعلّق بذات المقدّمة أو يتعلّق بها مع قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة.

ثمّ ذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ثمرة فقهيّة بين القول المشهور عند القائلين بالملازمة وقول الشيخ قدس‌سره وهي : فيما كان للواجب الأهمّ مقدّمة منحصرة محرّمة ، كإنقاذ الغريق أو إطفاء الحريق المتوقّف على الدخول في ملك الغير بغير إذن مالكه ؛ بأنّه تتبدّل الحرمة الأوّليّة بالوجوب الغيري المقدّمي على القول المشهور ، بلا فرق بين أن يتحقّق قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة وعدمه ، فلا عصيان للتكليف التحريمي ؛ لأنّه بعد فرض مقدّميّته للواجب الأهمّ صار حكمه الوجوب الغيري ، إلّا أنّه يتحقّق التجرّي في صورة واحدة ، وهي صورة عدم التفات المكلّف إلى المقدّميّة والوجوب الغيري واعتقاده بالحرمة حين العمل.

وأمّا على قول الشيخ قدس‌سره فيتحقّق الوجوب الغيري في صورة واحدة فقط ، وهي صورة التفاته إلى المقدّميّة ، وإرادته إتيانها وإتيان ذيها ، ففي هذه الصورة تتبدّل الحرمة بالوجوب الغيري ، وأمّا إذا لم يلتفت إلى المقدّميّة أو لم يقصد المقدّمة مع الالتفات إليها فيكون عاصيا ، وأمّا إذا قصدها ولم يقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، وحينئذ إن استمرّ عدم القصد حتّى بعد الإتيان بالمقدّمة فيكون المكلّف عاصيا بالنسبة إلى المقدّمة كعصيانه بالنسبة إلى ذي المقدّمة ؛ إذ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٨٣.

١٢٨

لا وجوب لها ، بل تبقى على حرمتها بلحاظ عدم قصده بها التوصّل إلى ذيها ، وإن لم يستمرّ عدم قصده ، بل حصل له بداء الإتيان بذي المقدّمة بعد المقدّمة ، فيكون عاصيا بالنسبة إلى الوجوب الغيري ، ومتجرّيا بالنسبة إلى الوجوب النفسي بلحاظ عدم قصده من حين الدخول في ملك الغير.

وأمّا إن كان الداعي للمقدّمة متعدّدا ـ كإنقاذ الغريق ورؤية الدار مثلا ـ فتتبدّل الحرمة بالوجوب الغيري على المشهور بلا شبهة.

وأمّا على قول الشيخ قدس‌سره فإن كان مراده من قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة طرف الإثبات فقط فلا إشكال أيضا في تبدّله بالوجوب الغيري ، وإن كان مراده منه طرف الإثبات والنفي معا يعني قصد بها التوصّل ولم يقصد بها شيئا آخر ، فهذه المقدّمة ليست متعلّقة للوجوب الغيري ، وهي حرام ، ويتحقّق بها العصيان.

القول الثالث : في مقابل المشهور من القائلين بالملازمة ما قال به صاحب الفصول قدس‌سره (١) وهو : أنّ الوجوب الغيري يتعلّق بالمقدّمة الموصلة ، أي ترتّب ذي المقدّمة خارجا على المقدّمة ، سواء تحقّق قصد التوصّل من الابتداء أم لا ، بخلاف الشيخ قدس‌سره فإنّه اعتبر قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، سواء تحقّق الإيصال أم لا.

يحتمل أن يكون مراده شرطيّة الإيصال ؛ بأنّ الوجوب الغيري المقدّمي مشروط دائما بالإيصال وترتّب ذي المقدّمة عليها ، ويحتمل أن يكون مراده قيديّة الإيصال للواجب والمتعلّق ، وحينئذ يلزم تحصيله ، ويعبّر عن الأوّل بأنّه تجب المقدّمة إن كانت موصلة ، وعن الثاني بأنّه تجب المقدّمة

__________________

(١) الفصول الغروية : ٨٦.

١٢٩

مع قصد الإيصال.

واجيب عن الاحتمال الأوّل بأنّه بديهي الاستحالة ثبوتا ؛ إذ لا شكّ في تقدّم الشرط على الجزاء دائما في القضايا الشرطيّة من حيث الرتبة ، فإن كان عنوان الإيصال شرطا للوجوب الغيري فلا بدّ من تعلّق الوجوب الغيري بعد تحقّق عنوان الإيصال خارجا ، مثل تعلّق الوجوب بالحجّ بعد تحقّق الاستطاعة ، وهذا تحصيل للحاصل ؛ إذ لا معنى لتعلّق الوجوب بالمقدّمة بعد تحقّقها وتحقّق ذيها ، فترجع الشرطيّة إلى الامتناع البيّن في مقام الثبوت ، فلا تصل النوبة إلى مقام الإثبات.

والحقّ أنّ هذا الجواب صحيح ولا يكون قابلا للمناقشة.

وعلى الاحتمال الثاني أيضا تمسّكوا بطرق متعدّدة لإثبات الاستحالة في مقام الثبوت:

أحدها : عبارة عن مسألة الدور.

بيان ذلك : أنّ ذا المقدّمة يتوقّف على المقدّمة الموصلة ، وهذا التوقّف لازم المقدّميّة لا شبهة فيه ، والمقدّمة الموصلة تتوقّف على ذي المقدّمة ، فيتحقّق الدور المستحيل.

ولكنّه قابل للجواب : بأنّه وقع الخلط في تقرير الدور ؛ إذ سلّمنا أنّه لا يمكن تحقّق المقدّمة الموصلة بدون ذي المقدّمة ، فتوقّف المقدّمة بوصف الإيصال على ذيها لا يكون قابلا للإنكار ، وأمّا توقّف ذي المقدّمة على المقدّمة الموصلة فليس بصحيح ؛ لأنّه يتوقّف على ذات المقدّمة ، لا عليها بوصف الإيصال ، فتتحقّق المغايرة بين المتوقّف والمتوقّف عليه ، فلا يرد هذا الإشكال.

وثانيها : أنّ هذا القول يستلزم التسلسل ، وهو مبنيّ على أنّ المركّب إذا كان

١٣٠

واجبا بالوجوب النفسي أو الغيري تتّصف أجزاؤه الداخليّة بوصف المقدّميّة للمأمور به كاتّصافها بوصف الجزئيّة له ، وعلى هذا إن كان متعلّق الوجوب الغيري عبارة عن الأمر المركّب ـ أي المقدّمة بانضمام قيد الإيصال ـ فيكون كلّ جزء منه مقدّمة لمجموع المركّب الواجب ، ولا بدّ لكلّ مقدّمة من انضمام قيد الإيصال إليها ، فإنّه لا يقول بمقدّميّة ذات المقدّمة وحدها للمقدّمة الموصلة ، وهكذا لا يقول بمقدّميّة قيد الإيصال وحده للمقدّمة الموصلة ، وإذا انضمّ إليهما قيد الإيصال فينقل الكلام إلى كلّ الأجزاء ثانيا ، وهكذا ، فإنّ وجوب المقدّمة الموصلة يستلزم أن تكون الذات بقيد الإيصال واجبة ، وقيد الإيصال أيضا بقيد إيصال آخر واجبا ، فيتقيّد كلّ منهما بإيصال آخر ، وهلمّ جرّا ، ومعلوم أنّه أمر مستحيل.

وجوابه : أنّ المركّب إن كان مركّبا عقليّا ـ مثل تركيب ماهيّة الإنسان من الجنس والفصل ـ فلا يصحّ التعبير عن أجزائه بالمقدّمة ، فلا يعقل القول بأنّ الناطق أو الحيوان جزء للإنسان ، وهكذا إن كان المركّب من المركّبات الحقيقيّة الخارجيّة ـ مثل تركيب الجسم من المادّة والصورة ـ إذ لا يعقل القول بأنّ مادّة الشيء أو صورته مقدّمة للشيء ، وأمّا إن كان المركّب من المركّبات الصناعيّة ـ مثل تركيب الدار من الحجر والفلز والآجر ونحوها ـ فلا مانع من التعبير عن أجزائه بالمقدّمة.

وهكذا إن كان المركّب من المركّبات الاعتباريّة ، مثل : تركيب الصلاة والحجّ مثلا من المقولات المتباينة والحقائق المتخالفة التي اعتبرها الشارع شيئا واحدا بلحاظ ترتّب أثر واحد عليها كالمعراجيّة ـ مثلا ـ ففي هذا المركّب أيضا يصحّ التعبير عن أجزائه بالمقدّمة ، وإن كان في التعبيرات المتعارفة عنوان

١٣١

المقدّمات غير عنوان المقارنات ، ولكن لا برهان لعدم صحّة هذا التعبير.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المركّب فيما نحن فيه مركّب عقلي ؛ إذ لا شكّ في أنّ التقيّد جزء عقلي لا صناعي ولا اعتباري ، فلا يصحّ أن تكون الأجزاء العقليّة مقدّمة للمركّب ، وهذا يستفاد من تعبيره بأنّ المقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال تكون واجبة بالوجوب الغيري ، فهذا الإشكال بلحاظ مبنائيّته محكوم بالبطلان.

وثالثها : أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يستلزم اجتماع الحكمين المتماثلين على شيء واحد ، وهو محال.

بيان ذلك : أنّ بعد تعلّق الوجوب النفسي بذي المقدّمة وترشّح الوجوب الغيري عنه إلى المقدّمة الموصلة ، وتوقّف المقدّمة الموصلة على ذي المقدّمة ، يتحقّق له عنوان مقدّمة المقدّمة ، ويتعلّق به الوجوب الغيري أيضا ، فيصير ذو المقدّمة متعلّقا للوجوب النفسي والغيري معا ، ويتعدّد الوجوب الغيري بتعدّد المقدّمات.

إن قلت : لا مانع من اجتماع الحكمين المتخالفين في شيء واحد فضلا عن اجتماع الحكمين المتماثلين إذا تعدّد العنوان كالصلاة في الدار المغصوبة ، فلا مانع من تعلّق الوجوب النفسي بعنوان ذي المقدّمة والوجوب الغيري بعنوان مقدّمة المقدّمة.

قلنا : إنّ ما نحن فيه لا يكون قابلا للمقايسة مع الصلاة في الدار المغصوبة ، فإنّ متعلّق الوجوب فيها عبارة عن عنوان الصلاة ، ومتعلّق النهي عبارة عن عنوان الغصب ، ولا شكّ في تغايرهما في مقام تعلّق الحكم مع اجتماعهما في مقام الوجود. وأمّا الوجوب النفسي هاهنا فلا يتعلّق بعنوان ذي المقدّمة ، بل يتعلّق

١٣٢

بنفس الكون على السطح ـ مثلا ـ وحيثيّة ذي المقدّمة حيثيّة تعليليّة ، فالوجوب الغيري أيضا لا يتعلّق بعنوان مقدّمة المقدّمة ، بل يتعلّق بالكون على السطح ، كما أنّه لا يتعلّق بعنوان المقدّمة ، بل يتعلّق بنصب السلّم ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، فهذا القول يستلزم اجتماع الحكمين المتماثلين على ذي المقدّمة ، وهو مستحيل.

وجوابه : أنّ توقّف الكون على السطح على نصب السلّم ، وهكذا توقّف نصب السلّم الموصل على الكون على السطح ، لا يكون قابلا للإنكار ، ولكنّه إذا تحقّق لذي المقدّمة عنوان مقدّمة المقدّمة ، فلا يكون متعلّق الوجوب الغيري نفس ذي المقدّمة على مبنى صاحب الفصول ، بل يكون متعلّقه الكون على السطح الموصل ، فنسأل حينئذ عن الموصل إليه ، وما هو الموصل إليه في مقدّمة المقدّمة؟

يحتمل أن يكون الموصل إليه فيها ـ كما في سائر الموارد ـ عبارة عن الكون على السطح ، فإن كان كذلك فلا شكّ في استحالته ؛ إذ لا معنى لأن يكون الكون على السطح متّصفا بالموصليّة إلى الكون على السطح.

ويحتمل أن يكون الموصل إليه فيها عبارة عن نصب السلّم ، فهو أيضا ممتنع ؛ إذ الكون على السطح ليس بمقدّمة لذات المقدّمة الاولى ، بل يكون مقدّمة للمقدّمة الموصلة ، وعلى هذا يكون الكون على السطح مقدّمة موصلة لنصب السلّم الذي يوصلنا إلى الكون على السطح ، فتتحقّق موصليّة شيء إلى نفسه مع واسطة واحدة ، وهذا مستحيل ، فلا يقول صاحب الفصول قدس‌سره بتعلّق الوجوب الغيري بذي المقدّمة أصلا حتّى يستلزم هذه المحذورات.

١٣٣

واستشكل في الكفاية (١) على صاحب الفصول بإشكالين ، ومحصّل الإشكال الأوّل: أنّ الغرض الداعي إلى إيجاب شيء عبارة عن الأثر والخصوصيّة المترتّبة عليه ، والأثر المترتّب على المقدّمة والغرض الداعي إلى تعلّق الوجوب الغيري عليها ليس إلّا التمكّن والاقتدار من ذي المقدّمة ، ولا يتفاوت في هذا الغرض بين المقدّمة الموصلة وغير الموصلة ؛ إذ هو يتحقّق في جميع المقدّمات ، فلا بدّ من تعلّق الوجوب الغيري بمطلق المقدّمة ، لا بالمقدّمة الموصلة فقط ، وإلّا يلزم إنكار وجوب المقدّمة في غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليديّة ، ومعناه تعلّق الوجوب الغيري بالمقدّمة التي كان لها إيصال تكويني إلى ذي المقدّمة كالإحراق والحرارة المتولّدة من النار قهرا ، وأمّا أجزاء العلّة التامّة ـ كالشرط والمقتضي ونحوهما ـ فلا يتعلّق بها الوجوب.

فإن قلت : ما من واجب إلّا وله علّة تامّة ؛ ضرورة استحالة وجود الممكن بدونها ، فالتخصيص بالواجبات التوليديّة بلا مخصّص ، بل الأمر كان كذلك في مطلق العلّة التامّة في جميع الواجبات ، بلا فرق بين التوليديّة وغيرها.

قلنا : نعم ، وإن استحال صدور الممكن بلا علّة ، إلّا أنّ متمّم العلّة التامّة ومكمّلها في سائر الواجبات عبارة عن إرادة المكلّف ، وهي لا تتّصف بالوجوب ؛ لعدم كونها بالاختيار ، وإلّا لتسلسل ، بخلاف الواجبات التوليديّة ؛ إذ لا دخل للإرادة وعدمها في علّتها بلحاظ ترتّب المعلول قهرا بمجرّد تحقّق العلّة.

ولكنّ أساس هذا الإشكال باطل ؛ إذ ليس مراد صاحب الفصول من

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٨٤ ـ ١٨٦.

١٣٤

المقدّمة الموصلة ما يترتّب عليه ذو المقدّمة قهرا ، بل هو قائل بأنّ المقدّمة وأجزاء العلّة في جميع الواجبات قد يتحقّق ذو المقدّمة عقيبها ، وقد لا يتحقّق ، وإذا تحقّق فإنّه يكشف عن تعلّق الوجوب الغيري بها ، وإذا لم يتحقّق فإنّه يكشف عن عدم تعلّق الوجوب الغيري بها ، فما نسب إلى صاحب الكفاية قدس‌سره توهّم محض.

ومحصّل الإشكال الثاني : أنّه إذا تتحقّقت المقدّمة في الخارج ولم يتحقّق ذو المقدّمة ، فهل يسقط الوجوب الغيري المتعلّق بالمقدّمة أم لا؟ ومعلوم أنّه يسقط بمجرّد الإتيان بها من دون انتظار ترتّب الواجب عليها ، مع أنّ الطلب لا يسقط إلّا بالموافقة ، أو بالعصيان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التكليف ، كما في سقوط الأمر بالكفن أو الدفن بسبب غرق الميّت أحيانا أو حرقه ، ولا يكون الإتيان بها بالضرورة من هذه الامور غير الموافقة ، فينتج أنّ الوجوب الغيري متعلّق بنفس المقدّمة ، بلا دخل لتحقّق ذي المقدّمة عقيبه.

ويمكن الجواب عنه دفاعا عن صاحب الفصول : بأنّا لا نسلّم ما فرضته أمرا بديهيّا ومفروغا عنه ؛ إذ لا يصحّ القول بسقوط الوجوب الغيري قبل تحقّق ذي المقدّمة ، بل نحن ننتظر بعد تحقّق المقدّمة ترتّب ذيها عليها ، فإن ترتّب فإنّه يستكشف تعلّق الوجوب الغيري بها وسقوطه بالموافقة ، وإن لم يترتّب فيستكشف عدم الوجوب الغيري من أصله ، فلا محلّ للبحث عن سقوطه وعلّة سقوطه.

نكتة :

لا يقال : إنّ الإشكالين غير قابلين للجمع ، بل بينهما تهافت ، فإنّه قال في الإشكال الأوّل : إنّ مراد صاحب الفصول من المقدّمة الموصلة ما يترتّب عقيبه

١٣٥

ذو المقدّمة قهرا ، وعلى هذا لا مورد للإشكال الثاني ؛ لأنّ مورده تحقّق المقدّمة بدون ذيها وفرض الفاصلة بينهما.

لأنّا نقول : إنّ الإشكال الثاني يرد مع قطع النظر ورفع اليد عن الإشكال الأوّل ، وإلّا فلا تصل النوبة إلى الإشكال الثاني.

وهذان الإشكالان وإن كانت لهما جنبة إثباتيّة ولكن يمكن إرجاعهما إلى مقام الثبوت ؛ بأنّ القول بالمقدّمة الموصلة يستلزم انحصار الوجوب الغيري في العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليديّة ، وهذا مستحيل ثبوتا.

وكان لبعض الأعاظم كلام في توجيه قول صاحب الفصول لدفع الإشكالات المذكورة.

قال المحقّق الحائري قدس‌سره في هذا المقام : «إنّ الطلب متعلّق بالمقدّمات في لحاظ الإيصال لا مقيّدا به حتّى يلزم المحذورات السابقة» (١).

بيان ذلك : أنّ الآمر إذا لاحظ المقدّمات على حدة ومنفكّة عمّا عداها لا يريدها جزما ، فإنّ ذات المقدّمة وإن كانت موردا للإرادة لكن بلحاظ تعلّق الأمر الغيري بها في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات معها لا تكون كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدّمات ، وإذا لاحظها بأجمعها يريدها بذواتها ؛ لأنّ تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفكّ عن ذي المقدّمة والمطلوب الأصلي ، ولذا يتعلّق بها الوجوب الغيري بهذه الملاحظة ، فليس متعلّق الوجوب الغيري المقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال ، بل كان متعلّقه ذات المقدّمة بلحظ الإيصال ، وهذا الكلام مساوق للوجدان ، ولا يرد عليه ما ورد على القول باعتبار الإيصال قيدا وإن اتّحد معه

__________________

(١) درر الفوائد : ١١٩.

١٣٦

في الأثر.

ونظير هذا البيان ما قال به المحقّق العراقي قدس‌سره (١) مع اصطلاحات زائدة وتوضيحات إضافيّة ، ومحصّل كلامه : أنّ تخصيص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة إن كان بصورة قضيّة تقييديّة وشرطيّة فلا شكّ في ورود الإشكالات المذكورة ، وأمّا إن كان بصورة قضيّة حينيّة فلا إشكال في البين ، ومعلوم أنّه لا دخل لحال الإيصال وحينه في ترتّب الحكم ، بل هو عنوان مشير ، وتكون لكلّ واحدة من المقدّمات حصّتان ونحويان من الوجود ، حصّة توأمة مع سائر المقدّمات ، وحصّة غير توأمة معها ، والوجوب الغيري متعلّق بحصّة توأمة معها وملازمة للإيصال ، ولا يتعدّد الوجوب الغيري بتعدّد المقدّمات بل هو واحد ، نظير الأوامر الضمنيّة المتعلّقة بالأجزاء في المركّبات الارتباطيّة في اختصاص شمولها لكلّ جزء من المركّب بحال انضمام بقية الأجزاء أيضا ، وقصور الأوامر الضمنيّة بنفسها عن الشمول لجزء عند عدم انضمام بقيّة الأجزاء ، فكما أنّ الأمر النفسي المتعلّق بأجزاء الصلاة أمر واحد ينبسط على الأجزاء كذلك الأمر الغيري المقدّمي المتعلّق بالمقدّمات أمر واحد ينبسط على المقدّمات.

وهكذا كما أنّ بعض الأمر النفسي يتعلّق بحصّة توأمة من كلّ جزء لا بنحو المطلق ولا مقيّدا بانضمام سائر الأجزاء كذلك الوجوب الغيري يتعلّق بحصّة خاصّة من المقدّمة ، ولا يتعلّق بمطلق المقدّمة ، ولا على المقيّدة بقيد الانضمام.

وجواب كلام المحقّق الحائري قدس‌سره : أنّ البحث يكون هاهنا في مقام الثبوت ، ولا معنى للإجمال والإهمال في هذا المقام ، ولا بحث هاهنا في كيفيّة اللحاظ ،

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٣٤٠ ـ ٣٤٤.

١٣٧

فيسأل حينئذ : أنّ الوجوب الغيري متعلّق بذات المقدّمة أو بالمقدّمة المقيّدة بقيد الإيصال؟ والأوّل يرجع إلى كلام المشهور ، والثاني لا يخلو من إشكالات ، ولا يتصوّر في مقام الثبوت عدم الإطلاق وعدم التقييد.

وما قال به من تبديل قيد الإيصال بلحاظ الإيصال لا يكون سوى تلاعب بالألفاظ والعبارة ، فلا بدّ من الالتزام بأحد القولين المذكورين بحسب الواقع ومقام الثبوت.

وجواب كلام المحقّق العراقي قدس‌سره : أنّه عبّر في صدر كلامه عن كلام صاحب الفصول بقضيّة حينيّة ، وللحين عنوان المشيريّة ولا دخل له في ترتّب الحكم ، وهذه القضيّة في الواقع والحقيقة قضيّة مطلقة.

ثمّ قال : إنّ الوجوب الغيري يتعلّق بحصّة توأمة من المقدّمة مع سائر المقدّمات ، وهي ملازمة للإيصال ، والحال أنّ كلمة الحصّة في الواقع هي التقييد ، ومعناها تجزّي المطلق وتشعّبه ، فلا يمكن تحقّق الحصّة والشعبة بدون التقييد.

والتحقيق : أنّه بدّل قيد الإيصال المذكور في كلام صاحب الفصول بكلمة «الحصة» ، وهذا يرجع إلى قيد الإيصال الذي ذكرناه وإن أنكرته.

قلنا : إنّ الحصّة التوأمة عبارة عن مطلق المقدّمة ، وهذا يرجع إلى كلام المشهور ؛ إذ لا يتصوّر شيء ثالث بحسب مقام الثبوت ، فيحصل ممّا ذكرناه أنّ قيد الإيصال في كلام صاحب الفصول يرجع إلى قيديّته في الواجب ، بالمعنى الذي ذكرناه ، ولا إشكال فيه بحسب مقام الثبوت ، فلا بدّ لنا من البحث معه بحسب مقام الإثبات ، فإنّ كلّ ما لا يكون مستحيلا ليس بواقع في مقام الإثبات ، ولذا ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أدلّته ، والعمدة منها ما قال به في ذيل

١٣٨

كلامه ، وهو : أنّ صريح الوجدان قاض بأنّ من يريد شيئا لمجرّد حصول شيء آخر لا يريده إذا وقع مجرّدا عنه ، ويلزم منه أن يكون وقوعه على الوجه المطلوب منوطا بحصوله.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره (١) أجاب عنه بجوابين بعد جواب سائر الأدلّة ، ولكنّ الأوّل منهما مبتني على تفسيره الباطل لكلام صاحب الفصول ، وهو أنّ المراد من المقدّمة الموصلة الإيصال التكويني ، وهذا منحصر في العلّة التامّة في خصوص الواجبات التوليديّة ، ولذا أشكل عليه بأنّ الغرض من المقدّمة لا يكون الإيصال إلى ذي المقدّمة ، بل الغرض منها التمكّن من ذي المقدّمة ، ولا فرق في هذا الأثر بين الموصلة وغيرها ، مع أنّ أصل التفسير ليس بصحيح كما مرّ تفصيله.

ومحصّل جوابه الثاني : أنّه على فرض تسليم أن يكون الغرض من الإرادة الغيريّة المتعلّقة بالمقدّمة هو التوصّل إلى ذي المقدّمة ، ولكنّه لا يستلزم عدم مطلوبيّتها الغيريّة في صورة عدم ترتّب الغاية ؛ لعدم حصول سائر ما له دخل في حصولها ، كيف لا تقع المقدّمة المجرّدة عن ذيها على صفة المطلوبيّة والحال أنّه إن لم تقع على هذه الصفة يلزم أن يكون وجود الغاية من قيود ذيها ومقدّمة لوقوعه على نحو تكون الملازمة بين وجوبه بقيد الإيصال ووجوبها؟! وهذا بديهي البطلان ؛ ضرورة أنّ الغاية لا تكاد تكون قيدا لذي الغاية بحيث كان تخلّفها موجبا لعدم وقوع ذي الغاية على ما هو عليه من المطلوبيّة الغيريّة.

ولعلّ منشأ توهّم صاحب الفصول خلطه بين الجهة التقييديّة والتعليليّة ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٨٤ ـ ١٨٦.

١٣٩

حيث إنّ التوصّل بالمقدّمة إلى ذيها علّة لوجوب المقدّمة ، وهو جعله قيدا لمعروض الوجوب، مع أنّ الجهة التعليليّة واسطة في ترتّب الحكم على الموضوع ومن مبادئ نفس الحكم وعلله ، والجهة التقييديّة من قيود متعلّق الحكم وموضوعه.

والتحقيق : أنّ هذا الجواب مع أنّه قابل للدقّة والتوجّه ليس بصحيح ، والحقّ ما استفدناه في أمثال هذا المورد من استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) وهو : أنّ الشائع بين العلماء الافتراق بين الجهات التعليليّة والتقييديّة ، والحال أنّه ليس قابلا للقبول في المسائل العقليّة ؛ إذ لا بدّ فيها من إرجاع العلّة إلى الجهات التقييديّة.

بيان ذلك : أنّ الحاكم بالملازمة بين الوجوب الشرعي لذي المقدّمة والوجوب الشرعي للمقدّمة هو العقل ، فالمسألة عقليّة محضة ، فنسأل حينئذ العقل ونقول : إنّ الوجوب الشرعي الغيري متعلّق بذات المقدّمة أو المقدّمة التي يترتّب عليها ذو المقدّمة؟ وبعد ما عرفت من أنّه لا سبيل للإهمال والإجمال في حكم العقل ومقام الثبوت فلا محالة يحكم العقل إمّا بتعلّقه بنفس المقدّمة مطلقا ، وهذا يرجع إلى كلام المشهور ، وإمّا يحكم بتعلّقه بالمقدّمة الموصلة ، وهذا يرجع إلى القيديّة ؛ إذ لا يتصوّر في مقام الثبوت مع المطلق والمقيّد شيء آخر.

وبالنتيجة بعد فرض تسليم أصل الملازمة فالحق مع صاحب الفصول ، فإنّ دليله المذكور لا يكون قابلا للجواب.

بقي شيء : وهو ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة ، وهي : أنّ من ترك الواجب

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٢٦٧ ، مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٤٠٠.

١٤٠