دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

إنّما الكلام في المخصّص المنفصل على هذا المبنى ، يمكن أن يقال : إنّ أمره دائر بين النسخ والمجاز ، فإن قلنا باستعمال العام من الابتداء في علماء غير الفاسق فهذا استعمال مجازيّ ؛ إذ الجمع المحلّى باللام الموضوع للعموم استعمل في غير ما وضع له.

وإن قلنا باستعماله في جميع العلماء فلا بدّ من الالتزام بنسخه بواسطة «لا تكرم الفسّاق» ، وهذا خلف ، فإنّا نبحث في التخصيص وهو عدم تعلّق غرض المولى بإكرام العالم الفاسق أصلا.

والنسخ وهو الظاهر من الدليل المنسوخ باستمرار الحكم وتحقّقه دائما ، ويستكشف من الدليل الناسخ توقيتيّته ، وأنّه كان ذا مدّة معيّنة ، ولم يذكر لنا مصلحة ، فلا مناص هنا إلّا من الالتزام بالمجازيّة.

والمحقّق الخراساني قدس‌سره (١) قائل بأنّه لا يستلزم المجازيّة مع تبعيّته للمشهور في معنى المجاز ، وبيانه هنا مع زيادة توضيح : أنّه يمكن الجمع بين الأمرين ، بأنّ المراد الجدّي للمولى مقيّد ومحدود بإكرام العلماء غير الفاسقين ، ومع ذلك استعمل كلمة «العلماء» في العموم ، فإنّ الإرادة على قسمين : استعماليّة وجدّية ، ويجوز استعمال اللفظ في العموم مع تعلّق الإرادة الجدّية بالخصوص ، والإرادة الاستعماليّة تدور مدار الاستعمال والتفهيم والتفهّم في عالم اللفظ.

إن قلت : ما فائدة التفكيك بين المراد الجدّي والاستعمالي في هذه الموارد؟ ولما ذا لا يقول من الابتداء : أكرم العلماء الموصوفين بعدم الفسق؟

وجوابه يحتاج إلى مقدّمة ، وهي : أنّه لا يكون للشارع في مقام جعل القانون طريق خاصّ غير ما هو المتداول بين العقلاء ، كما أنّه يكون كذلك في

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

٤٦١

مقام التفهيم والتفهّم أيضا ، فلا فرق في كيفيّة التقنين بين الشارع والعقلاء من حيث جعل القانون بصورة العام ، ثمّ إخراج بعض الموارد عنه بصورة التخصيص والتبصرة للمصالح أو المفاسد المقتضية لذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ فائدة جعل القانون بهذه الكيفيّة عبارة عن التمسّك بالعام في غير مورد التخصيص ، فلا يراد من استعمال العام في العموم إلّا تأسيس قاعدة يرجع إليها في ظرف الشكّ ، لا أنّ العموم مراد جدّي للمتكلّم ، وهذا مختصّ بمقام التقنين ، مع أنّه يتحقّق التناقض بين العام والخاص من حيث المنطق ، فإنّ نقيض الموجبة الكلّية هو سالبة جزئيّة ، كما أنّه يتحقّق التضادّ بينهما في مقام الإخبار.

وأمّا في مقام التقنين فيتحقّق بينهما الجمع الدلالي ، ولذا يصحّ تخصيص عمومات القرآن بخبر واحد معتبر ، فيصحّ التفكيك بين الإرادتين والمراد الجدّي والاستعمالي بهذا البيان.

ويتحقّق هذا المعنى في الأوامر الاختياريّة أيضا ؛ إذ لا شكّ في أنّ مراد الوالد ـ مثلا ـ من قوله : «ادخل السوق واشتر اللحم» هو معناه الحقيقي حين الاستعمال ، أي انبعاث ولده إلى المبعوث إليه ، مع أنّ مراده الجدّي هو الاختبار لا الانبعاث الحقيقي ، هذا توضيح كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

ولكن أشكل عليه المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ثمّ ذكر طريقا آخر للتخلّص من المجاز ، وإشكاله : أنّ التفكيك بين الإرادة الجدّية والاستعماليّة ليس بصحيح ، فإنّ مراد المولى من قوله : «أكرم العلماء» إن كان العموم فاستعمل لفظ العام وأراد منه معناه الحقيقي ، فالمراد الجدّي والاستعمالي واحد ، وإن كان مراده

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٥١٧.

٤٦٢

غيره فمعناه استعمال لفظ له ظهور ولم يرد ما هو مقتضى ظاهره بدون أيّ قرينة ، فلا محالة يعبّر عنه بالهازل ، نظير قوله : «رأيت أسدا» واستعماله في الرجل الشجاع بدون قرينة.

وجوابه : أنّ منشأ هذا الإشكال غفلته عن أنّ التفكيك بين الإرادتين لا يصحّ إلّا في مقام التقنين ونظائره ، مثل : مقام الاختبار ، لا في جميع الاستعمالات ، كما صرّح صاحب الكفاية قدس‌سره بعدم صحّته في مقام الإخبار ؛ إذ يحكم العرف بالتناقض بين قولنا : «ما جاءني من القوم أحد» ، وقولنا : «جاءني من القوم زيد» ، وإن ادّعينا أنّ مرادنا الجدّي هو عدم مجيء القوم سوى زيد ، وهكذا لا يصحّ في مثل : «رأيت أسدا».

وأمّا دليله على عدم استلزام التخصيص للمجازية في العامّ فهو : أنّ المولى إذا قال : «أكرم كلّ عالم» ثمّ قال بدليل منفصل : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» فلا يتوهّم المجازيّة في كلمة الكلّ ؛ لدلالتها على استيعاب أفراد مدخوله بدلالة وضعيّة لفظيّة ، بلا تفاوت بين سعة دائرة المدخول أو ضيقه ، فإنّها تكون في كلا المقامين بمعنى واحد.

وهكذا في لفظ العالم فإنّه استعمل في طبيعة مهملة ، وتكون قابلة للجمع مع كلّ قيد ، وقيّدها بقوله : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» نظير قوله : «أكرم كلّ عالم عادل» ؛ إذ يحتمل هنا استعمال لفظ العالم في الطبيعة المرسلة ، ويحتمل استعماله في الطبيعة المقيّدة بالعدالة ، ويحتمل استعماله في الطبيعة المهملة ، والأوّل مستلزم للتناقض ؛ لعدم إمكان تقييد الطبيعة المرسلة الشاملة لجميع الأفراد بالعدالة ، والثاني لا يمكن الالتزام به ؛ لأنّ معناه عدم دلالة لفظة «العادل» معنى زائدا على مدلول لفظ «العالم» ، بل هي قرينة لاستعمال لفظ «العالم» في

٤٦٣

خصوص العالم العادل ، ولذا يتعيّن الاحتمال الثالث ، يعني استعماله في الطبيعة المهملة ، والخصوصيّة إنّما استفيدت من لفظة عادل ، فلم يستعمل العالم إلّا في معناه ، بلا فرق بين أن يكون القيد متّصلا أو منفصلا أو لم يذكر تقييد أصلا ، فمن أين تأتي المجازيّة؟ وأيّ لفظ لم يستعمل في معناه حتّى يتوهّم المجازيّة فيه؟

والتحقيق : أنّ المقايسة بين المخصّص المتّصل والمنفصل ليست صحيحة ؛ إذ يجوز للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء ما دام مشتغلا به ، وبعد الفراغ منه يتحقّق له ظهور ، فإن ذكر كلمة «يرمي» ـ مثلا ـ بعد جملة : «رأيت أسدا» فبأصالة الظهور يحكم أنّ المراد هنا هو الرجل الشجاع ، وإن لم يذكر كلمة يرمي بعدها ، فيحكم بأنّه أراد منه معناه الحقيقي بدون أيّ حالة انتظاريّة.

وهكذا فيما نحن فيه ، فإنّا نعلم في مثل قوله : «أكرم كلّ عالم عادل» بدلالة لفظة «العالم» على الطبيعة المهملة ، وتقييدها بكلمة «العادل» بحكم أصالة الظهور. إنّما الإشكال في مدلول قوله : «أكرم كلّ عالم» قبل بيان المخصّص بدليل منفصل ، بأنّه استعمل في العموم أو في خصوص العادل ، وما هو المراد الجدّي منه؟

إن قلنا باستعماله في العموم فلا بدّ من الالتزام بالتناقض والتنافي بين العامّ والخاصّ ، مع أنّه يتحقّق بينهما الجمع الدلالي بلا شبهة ، ومعناه عدم تحقّق التهافت والتعارض.

وإن قلنا باستعماله في عالم عادل وهذا الاستعمال لو لم يكن غلطا لعدم تحقّق أيّ علاقة من علائق المجاز فلا بدّ من الالتزام بالمجاز ؛ لعدم كونه استعمالا حقيقيّا ، وهو كرّ على ما فرّ منه ، كما لا يخفى.

واحتمال استعماله في الطبيعة المهملة مردود بأنّه مستلزم لعدم تحقّق أصالة

٤٦٤

العموم ، مع أنّ المفروض مرجعيّتها في موارد الشكّ. وإذا استعمل في الطبيعة المهملة فكيف يمكن التمسّك بها في مورد الشكّ في التخصيص؟ فلا بدّ من تحقّق المراد الجدّي المشخّص ، فإن كان هو عموم العلماء فهذا يباين التخصيص ، وإن كان هو خصوص العالم العادل ، فلو لم يكن غلطا فلا أقلّ من المجاز.

والحاصل : أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة في العامّ على المبنى الذي اخترناه تبعا للإمام والشيخ أبو المجد قدس‌سرهما ، وهكذا على ما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره في طريق التخلّص من المجاز ، ولذا يصحّ التمسّك بالعامّ في مورد الشكّ في التخصيص الثاني ، كما أنّه يصحّ التمسّك به في مورد الشكّ في أصل عروض التخصيص.

وأمّا على القول باستلزامه للمجازيّة فلا يصحّ التمسّك به في مورد الشكّ في التخصيص الثاني ، فإنّ دائرة المجاز وسيعة ؛ إذ يحتمل أن يكون المراد من المجاز العالم العادل الهاشمي ، ويحتمل أن يكون المراد منه العالم العادل الفقيه ، وهكذا ، وهو في مقابل الحقيقة نظير الكذب في مقابل الصدق من حيث كثرة المصاديق ، فلا تبقى حجّيّة للعامّ بعد التخصيص المستلزم للمجازيّة.

٤٦٥
٤٦٦

فصل

في المخصّص المجمل

وإجمال المخصّص من حيث المفهوم قد يكون لتردّده بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا خصّص «أكرم العلماء» ب «لا تكرم الفسّاق منهم» ، ودوران مفهوم الفاسق بين مرتكب مطلق المعصية ، وبين مرتكب خصوص الكبيرة ، وقد يكون لتردّده بين المتباينين كما إذا خصّص العام المذكور ب «لا تكرم زيدا» وكونه مردّدا بين شخصين ، وعلى كلا التقديرين قد يكون المخصّص متّصلا ، وقد يكون منفصلا.

أمّا إذا كان الترديد بين الأقلّ والأكثر في المخصّص المتّصل كقولنا : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» فالشكّ في إطلاق عنوان الفاسق وعدمه على مرتكب الصغيرة منهم في لسان الشريعة ، وأنّ إكرامه واجب أم لا.

ومعلوم أنّه لا يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإثبات وجوب الإكرام ، فإنّه بمنزلة الصفة ، فإذا قال المولى : «أكرم العلماء العدول» ـ مثلا ـ وشككنا في صدق عنوان العلماء على العالم بالعلوم العربيّة ـ مثلا ـ فلا شكّ في عدم جواز التمسّك بالعامّ لإثبات وجوب الإكرام ، فإنّه فرع إحراز العالميّة ، وهكذا إن شككنا في صفته فإنّ التمسّك بعموم «أكرم العلماء العدول» فرع إحراز العدالة ،

٤٦٧

وهكذا فيما نحن فيه ، مع أنّ إطلاق عنوان التخصيص عليه مسامحة ، فإنّه ليس بمخصّص أصلا كما مرّ.

على أنّ أصالة العموم مصداق من مصاديق أصالة الظهور ، ولا ظهور للكلام في العموم في هذا الفرض حتّى يتمسّك به لرفع الترديد ، فالمرجع هنا أصالة البراءة.

وأمّا إذا كان الترديد بين الأقلّ والأكثر في المخصّص المنفصل كقول المولى اليوم : «أكرم العلماء» ـ مثلا ـ وقوله غدا : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» ، فهل يصحّ التمسّك بأصالة العموم لإثبات وجوب الإكرام للفرد المشكوك الفسق مثل مرتكب الصغيرة ، أم لا؟

والتحقيق : أنّه يصحّ التمسّك بها كما قال به الأعاظم ، فإنّ العامّ قد انعقد له ظهور في العموم ، والمخصّص المنفصل لا يمنع ظهوره فيه ، والمانع منه عبارة عن قرينة متّصلة بالكلام ، ومع عدمها ينعقد الظهور ، وتقديم الخاصّ في مورده على العامّ يكون تقديما للأقوى والأظهر على الظاهر ، لا أنّه ينكشف من عدم انعقاد الظهور له ، ولذا يكون الخاصّ حجّة في خصوص الفرد المعلوم الفسق كمرتكب الكبيرة ، فلا يصحّ التمسّك بدليل خاصّ لإثبات حرمة إكرام مرتكب الصغيرة للشكّ في فرديّته للخاصّ ، ويصحّ التمسّك بعموم العام الذي انعقد له ظهور في العموم.

هذا ، ولكنّ المحقّق الحائري قدس‌سره (١) قائل بأنّه بعد ما صارت عادة المتكلّم جارية على ذكر التخصيص منفصلا عن كلامه فحال المخصّص المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره في الاحتياج إلى إحراز عدم المخصّص

__________________

(١) درر الفوائد : ٢١٥.

٤٦٨

المنفصل عند التمسّك بعموم كلامه ، ولازم ذلك الإجمال فيما نحن فيه لعدم إحراز عدم التخصيص بالمنفصل ، ونوع المخصّصات في لسان الشرع تكون كذلك ، ولذا لا يصحّ التمسّك بالعمومات الواردة في الشريعة.

وجوابه : أنّ مراده إن كان التنزيل في جميع الخصوصيّات يعني حال المخصّص المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره في جميع الأحكام والخصوصيّات فهو مستلزم لعدم جواز تمسّك أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بكلام إمام زمانهم ؛ لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلّم قبل مجيء ذيله ، فحيث جرى ديدنهم على التمسّك دلّ ذلك على استقرار ظهور الكلام وعدم كونه مع كلام الإمام اللّاحق كصدر الكلام الواحد الصادر في مجلس واحد مع ذيله ، كما صرّح به في تعليقته.

وإن كان مراده التنزيل في بعض الخصوصيّات فلا أثر له فيما نحن فيه ، ولكنّ التمسّك به متوقّف على الفحص عن المخصّص ، بخلاف العامّ المخصّص بالمتّصل.

وإذا خصّص العامّ بمخصّص متّصل وكان مردّدا بين المتباينين ـ كقول المولى : «أكرم العلماء إلّا زيدا» مع كونه مشتركا لفظا بين شخصين ـ ولا توجد قرينة في الكلام لبيان مراده ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ لإثبات وجوب إكرامهما ؛ لعدم انعقاد ظهور للعامّ في العموم بالنسبة إلى المورد الخاصّ كما تقدّم في المخصّص المتّصل المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ؛ لسريان إجمال المخصّص إليه ، ولذا تجري أصالة البراءة عن وجوب إكرامهما معا.

وأمّا إذا خصّص العامّ بمخصّص منفصل وكان أمره دائرا بين المتباينين ـ كقوله : «لا تكرم زيدا العالم» عقيب قوله : «أكرم العلماء» ـ فهو لا يكون مانعا

٤٦٩

عن انعقاد ظهور العامّ بلا إشكال ، وبيان المخصّص المنفصل قد يكون بصورة نفي حكم العام كقوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» ، وهذا نظير المخصّص المتّصل ، وقد يكون بصورة التحريم كقوله : «يحرم إكرام زيد العالم» ، مع أنّه لا تتصوّر صورتان في المخصّص المتّصل ؛ إذ الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات ، ولا يتصوّر أمر ثالث.

فإذا كان بيان المخصّص المنفصل بصورة التحريم كقوله : «يحرم إكرام زيد» بعد قوله : «أكرم العلماء» مع كونه مردّدا بين شخصين ، فكلّ واحد منهما يحتمل أن يكون واجب الإكرام ، ويحتمل أن يكون محرّم الإكرام ، فالأمر دائر بين المحذورين ، والمرجع هنا عبارة عن أصالة التخيير ، أي العقل يحكم بأخذ جانب الفعل أو الترك.

وإذا كان بيان المخصّص بصورة نفي حكم العامّ كقوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» فلا شبهة في مانعيّة الدليل الخاصّ عن التمسّك بأصالة العموم ؛ لكونه حجّة أقوى ؛ إذ التمسّك بها في مورد كلا الشخصين خلاف التخصيص ، وفي مورد واحد منهما ترجيح بلا مرجّح ، فلا محالة تصل النوبة إلى الأصل العملي بعد عدم إمكان التمسّك بالأصل اللفظي ، ويتحقّق هنا مبنى أصالة الاشتغال والبراءة معا ، ومبنى الاشتغال أنّه يتحقّق اشتغال ذمّة المكلّف بتكليف عامّ بعد قوله : «أكرم العلماء» ، وبعد قوله : «لا يجب إكرام زيد العالم» نشكّ في براءة الذمّة لو تركنا إكرام زيد بن بكر ، وهكذا لو تركنا إكرام زيد بن عمرو ـ مثلا ـ بلحاظ إجمال المخصّص ، ونفي الوجوب فقط عن إكرام زيد العالم ، ولا بدّ من البراءة اليقينيّة عند اشتغال الذمّة يقينا ، وهي تحصل بإكرامهما معا عملا ، لا أنّه يجب إكرامهما معا ، فإنّه مستلزم للغويّة دليل المخصّص ، وإكرامهما معا عملا

٤٧٠

لا ينافي الدليل المخصّص.

ومبنى البراءة أنّ بعد عدم صحّة التمسّك بالدليل الخاص بلحاظ إجماله وعدم صحّة التمسّك بأصالة العموم بلحاظ المغلوبيّة بحجّة أقوى ، فيرجع الشكّ في وجوب إكرام كلّ من الشخصين إلى الشكّ في التكليف ، وهو مجرى أصالة البراءة.

ولكنّ التحقيق القول بالتفصيل بين العام الاستغراقي والمجموعي ، بأنّ العام إن كان مجموعيّا ـ ومعناه توجّه تكليف واحد إلى المكلّف وتحقّق موافقة واحدة ـ فلا بدّ من إكرامهما معا ؛ إذ العلم بموافقة التكليف متوقّف على إكرامهما معا ، وهو لا ينافي الدليل المخصّص.

وإن كان استغراقيّا ـ ومعناه تحقّق حكم مستقلّ لكلّ واحد من أفراد طبيعة العالم ـ فبعد إكرام بقيّة العلماء يرجع الشكّ في وجوب إكرام كلّ من الشخصين إلى الشكّ في التكليف ، وهو مجرى البراءة ، ومعلوم أنّه لا يتحقّق هنا العلم الإجمالي الوجداني حتّى يلزم اكرامهما معا ، بل تتحقّق أصالة العموم ، وبعد مغلوبيّتها بحجّة أقوى لا يبقى لها ظهور.

توضيح ذلك : أنّه كما أنّ العلم الإجمالي بخمريّة أحد الإناءين يوجب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين ، كذلك تحقّق البيّنة الشرعيّة على خمريّة أحدهما يوجب اجتنابه ، فيكون كلاهما موضوع لأصالة الاشتغال ، ومع ذلك يكون ما نحن فيه مجرى للبراءة ؛ إذ لا شكّ في تحقّق أصالة العموم ، ولكن بعد تخصيصها وترديد المخصّص بين الشخصين يتحقّق العلم الإجمالي بعدم حجّيّتها بالنسبة إلى واحد منها ، والترديد يوجب عدم حجّيّتها بالنسبة إليهما معا ، أي تساقط أصالة العموم بالنسبة إليهما.

٤٧١

كما أنّه مقتضى القاعدة في باب التعارض سواء كان التعارض بالذات ـ مثل : نفي مفاد كلّ واحد من الدليلين مفاد الآخر ـ أو بالعرض ـ مثل : أن يكون مفادهما قابلا للجمع ولكنّا نعلم خارجا بكذب أحدهما ـ وسواء كان التعارض بين الخبرين أو بين البيّنتين، وهكذا فيما نحن فيه ، فبعد العلم الإجمالي بعدم حجّيّة أصالة العموم بالنسبة إلى واحد منهما تقتضي القاعدة تساقطها بالنسبة إليهما ، فتجري أصالة البراءة عن وجوب إكرامهما معا.

تتمّة : إذا قال المولى : «أكرم أيّ عالم شئت» ، ثمّ قال بدليل منفصل : «لا يجب إكرام زيد العالم» وكونه مردّدا بين شخصين ، فالظاهر أنّه يلحق بالعامّ المجموعي ؛ إذ يتحقّق هنا أيضا تكليف واحد ، ولا يكفي إكرام أحدهما في مقام الامتثال ؛ لاحتمال كون كلّ واحد منهما مورد دليل المخصّص ، والموافقة اليقينيّة متوقّفة على إكرامهما معا ، فيكون هنا مجرى أصالة الاحتياط. هذا تمام الكلام في الشبهات المفهوميّة.

وإذا كان المخصّص مجملا بحسب المصداق كما لو لم نعلم أنّ العالم الفلاني ارتكب معصية كبيرة حتّى يكون فاسقا أم لا؟ فلا كلام في عدم جواز التمسّك بالعامّ لو كان متّصلا به ، فإنّ التمسّك بكلّ دليل فرع إحراز موضوعه خارجا بلا فرق بين أدلّة الأحكام الوجوبيّة والتحريميّة ، فإذا شككنا في خلّيّة مائع وخمريّته ـ مثلا ـ لا يجوز التمسّك بعموم «لا تشرب الخمر» ؛ لأنّ المرجع هنا أصل عملي ، وهو الاحتياط عند بعض العلماء ، والبراءة العقليّة عند بعض آخر ، ولكنّ عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة متّفق عليه عند الكلّ.

مع أنّ المخصّص المتّصل بمنزلة الوصف ، ولا ظهور لجملة «أكرم العلماء إلّا

٤٧٢

الفسّاق منهم» في العموم من الابتداء ، فيكون للمولى حكم واحد ، وهو وجوب الإكرام ، ومتعلّقه العالم الذي لا يكون فاسقا ، فكما أنّه لا يجوز التمسّك ب «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» إذا شككنا في عالميّة زيد ، كذلك لا يجوز التمسّك به ، وأمّا إذا شككنا في عدالته وارتكابه الكبيرة حتّى يكون فاسقا أم لا ، فالمرجع هو الاصول العمليّة ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، ولا يحتاج إلى بحث زائد.

إنّما الكلام في المخصّص المنفصل كما لو قال المولى : «أكرم العلماء» ثمّ قال بعد مضيّ زمان : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» ، فلا خلاف في عدم جواز التمسّك بعموم «أكرم العلماء» إن شككنا في عالميّة زيد ، وهكذا لا خلاف في عدم جواز التمسّك بعموم «لا تكرم الفسّاق من العلماء» إن شككنا في فسق زيد العالم ، وجواز التمسّك بعموم «أكرم العلماء» في هذه الصورة وعدمه مختلف بين العلماء ، ونرى في كتاب العروة التمسّك بالعام في شبهة مصداقيّة المخصّص في موارد.

والمحقّق النائيني قدس‌سره (١) قائل بأنّ المخصّصات المنفصلة ترجع إلى المخصّصات المتّصلة ، ولذا لا يجوّز التمسّك بالعام ، فإنّ المخصّص المنفصل يكشف من كون المراد من العلماء هو العلماء المتّصفون بعدم الفسق ، وإلّا لا فرق بين النسخ والتخصيص ، ولذا لا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، سواء كان المخصّص متّصلا أم منفصلا ؛ لعدم الفرق بينهما من حيث الماهيّة والظهور والاستعمال.

ولكنّه قد تقدّم التفكيك بين الإرادة الجدّيّة والاستعماليّة ، وأنّه يتحقّق فيما

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦.

٤٧٣

كان المخصّص منفصلا دليلان وظهوران ، ولذا لا بدّ لنا من أخذ طريق آخر هنا.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّ غاية ما يمكن أن يقال في وجه جواز التمسّك بالعام هنا : إنّ المخصّص إذا كان منفصلا ينعقد للعام ظهور في العموم ، ولا مانع عن حجّيّته إلّا بالنسبة إلى ما يكون الخاصّ حجّة فعليّة فيه ، وهو الأفراد التي يعلم انطباق الخاصّ عليها ، ولا يكون الخاصّ حجّة فيما اشتبه أنّه من أفراده ، كالعالم المشكوك الفسق حتّى يزاحم حجّيّة العامّ ، فيجوز التمسّك بالعامّ فيه ؛ لكونه من أفراده التي لم يثبت خروجها عن حكمه ، ولا يكون في مقابله حجّة أقوى منه.

ثمّ قال : وهو في غاية الفساد.

وتوضيح كلامه يحتاج إلى بيان مقدّمة ، وهي : أنّ اتّصاف الدليل بالحجّيّة بمعنى إمكان احتجاج المولى به على المكلّف وبالعكس يحتاج إلى تحقّق ثلاثة مراحل :

الاولى : أن يكون له ظهور ، ولا يكون مجملا أو مشتركا بلا قرينة.

الثانية : أن تتحقّق أصالة الظهور ، بمعنى استعمال المتكلّم للفظ في معناه الظاهر.

الثالثة : أن تتحقّق أصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة والجدّيّة ، وإن لم تتحقّق مرحلة منها فلا يمكن الاحتجاج به.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ العامّ إن كان خاليا عن المخصّص تتحقّق فيه جميع المراحل المذكورة ، وتخصيصه يوجب عدم تحقّق المرحلة الثالثة فيه ؛ إذ هو

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٤٢.

٤٧٤

يكشف عن كون المراد الجدّي وموضوع وجوب الإكرام في العامّ هو العالم غير الفاسق فقط وإن كان المراد الاستعمالي عموم العلماء ، ويتحقّق في دليل خاصّ جميع المراحل المذكورة ـ والمراد من الاستعمالي والجدّي فيه عبارة عن عدم وجوب إكرام الفسّاق من العلماء ـ ففي العالم المشكوك الفسق كما أنّه لا يمكن التمسّك بدليل خاصّ لعدم إحراز موضوعه واحتمال كونه غير الفاسق ، كذلك لا يمكن التمسّك بدليل عامّ لتضييق دائرة المراد الجدّي فيه واحتمال كونه فاسقا ، بلا فرق بينهما.

إن قلت : إنّه قد مرّ في الشبهة المفهوميّة إذا كان إجمال المخصّص دائرا بين الأقلّ والأكثر فإنّه يصحّ التمسّك بالعامّ في الفرد المشكوك الفسق ، مثل : مرتكب الصغيرة ، فلم لا يقال هنا : إنّه كما لا يصحّ التمسّك بدليل خاصّ كذلك لا يصحّ التمسّك بالعامّ ؛ إذ المراد الجدّي فيه بعد التخصيص محدود بالعالم غير الفاسق ، فما الفرق بين المقامين؟

قلت : إنّ الشبهة المفهوميّة ـ سواء كان الترديد في المخصّص بين المتباينين أو بين الأقلّ والأكثر ـ لا يتحقّق فيها أصل الظهور ـ يعني المرحلة الاولى من المراحل المذكورة ـ إلّا أنّ الترديد إذا كان بين الأقلّ والأكثر فتتحقّق جميع المراحل بالنسبة إلى القدر المتيقّن يعني مرتكب الكبيرة ، وأمّا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة فلا يتحقّق أصل الظهور ، ومعنى الخاصّ يرجع إلى أنّه لا تكرم العالم الذي يرتكب الكبيرة ، وفي مرتكب الصغيرة نشكّ في أصل التخصيص ، فلا مناص من التمسّك بالعام. بخلاف ما نحن فيه لكون الشبهة مصداقيّة ، ولا يستلزم خروج زيد ـ مثلا ـ لقلّة التخصيص ولا دخوله لكثرة التخصيص ، فلا تصحّ المقايسة بين المقامين.

٤٧٥

هذا كلّه في المخصّص اللفظي ، وأمّا في المخصّص اللبّي ـ بأن لا يكون في الكلام إلّا العامّ ، لكنّ العقل يدرك أنّ المتكلّم لا يريد بعض أفراده ـ فهل يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة أم لا؟

فصّل صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في ذلك ، وحاصل تفصيله : أنّ الخاصّ اللبّي على قسمين :

أحدهما : أنّ الخاصّ اللبّي إن كان ممّا يصحّ عرفا أن يتّكل عليه المتكلّم بأن يكون حكما عقليّا ضروريّا ؛ بحيث يعدّ عرفا من القرائن المتّصلة المانعة عن انعقاد ظهور للعامّ في العموم والموجبة لظهوره في الخاصّ من أوّل الأمر ، فهو كالخاصّ المتّصل اللفظي في عدم جواز التمسّك بالعامّ لإحراز حكم الفرد المشكوك.

وثانيهما : أنّ الخاصّ اللبّي إذا لم يكن حكما عقليّا ضروريّا بأن كان نظريّا متوقّفا على الدقّة والالتفات فيجوز التمسّك فيه بالعامّ ، فإنّه ظاهر في العموم ، وهذا الظاهر حجّة ما لم تقم قرينة على خلافه ، فيبقى العامّ على حجّيّته في المصداق المشتبه.

والسرّ في ذلك : أنّ الكلام الملقى من السيّد هنا ليس إلّا كلاما واحدا وحجّة واحدة ، وهو العامّ الظاهر في العموم ، فلا بدّ من اتّباعه ما لم يقطع بخلافه.

مثلا : إذا قال المولى : «أكرم جيراني» وقطع المكلّف بأنّه لا يريد إكرام من كان عدوّا له منهم ، كانت أصالة العموم باقية على الحجّيّة بالنسبة إلى من لم يعلم بخروجه عن عموم الكلام ؛ للعلم بعداوته ؛ لعدم حجّة اخرى بدون ذلك على خلافه ، ففي الفرد المشكوك العداوة يرجع إلى العامّ ؛ إذ الخارج عن حيّز

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٤٧٦

العامّ هو معلوم العداوة فقط ، ومشكوك العداوة لم يخرج عن حيّزه.

بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظيّا ؛ إذ السيّد هنا ألقى إلى عبده حجّتين ـ وهما العامّ والخاصّ ـ ونسبة الفرد المشتبه إليهما متساوية ، ولا مرجّح لاحتمال فرديّته لأحدهما بالخصوص ، فلا يصحّ التمسّك بأحدهما لاندراجه تحته ، والقطع بعدم إرادة العدوّ لا يوجب انقطاع حجّيّته إلّا فيما قطع أنّه عدوّه ، لا فيما شكّ فيه ، كما يظهر صدق هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم واحدا من جيرانه ؛ لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة.

ثمّ ذكر في ذيل كلامه تقريبا آخر ، وهو : أنّ ما يرتبط بباب الألفاظ من أصالة الظهور وأصالة العموم مسائل عقلائيّة ، والسيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء التي هي ملاك الحجّيّة هنا قد استقرّت على حجّيّة أصالة الظهور بالنسبة إلى الفرد المشتبه في المخصّص اللبّي دون المخصّص اللفظي ، وهذا يكفينا ، ولا يلزم السؤال عن دليل الفرق بينهما. هذا تمام كلامه قدس‌سره مع زيادة توضيح.

والتحقيق : أنّ ما ذكره أخيرا كلام صحيح إن احرز الفرق بينهما عندهم واقعا ، إنّما الكلام في أصل الإحراز الذي تحتاج المسائل العقلائيّة إليه ، وإن شكّ فيه فلا يمكن القول بالفرق بينهما ، فلا بدّ من البحث هنا على طبق الضوابط.

وحينئذ نرجع إلى ما ذكره قدس‌سره في صدر كلامه من أنّ الحجّة الصادرة من المولى واحدة ، وهي قوله : «أكرم كلّ جيراني» ، واحتمال عداوة زيد ـ مثلا ـ لا يكون عذرا لترك إكرامه ، ولا بدّ من اتّباع الحجّة ما لم تقم قرينة على خلافها.

ونقول : إنّه غير قابل للمساعدة بعد الالتفات إلى أمرين :

الأوّل : أنّ حجّة المولى لا تنحصر بالحجّة اللفظيّة ، بل الحجّة اللبّية أيضا

٤٧٧

حجّته ، كحجّيّة القطع في مقابل دليل المولى.

الثاني : أنّ إدراك العقل بالنسبة إلى عدم وجوب إكرام عدوّ المولى إدراك كلّي ، فإنّه يدرك الكبريات الكلّية ، ولعلّه حين الإدراك لا يلتفت إلى المصاديق ، وعلى هذا لا فرق بين المخصّص اللفظي والمخصّص اللبّي في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

واستدلّ المحقّق العراقي قدس‌سره (١) لعدم جواز التمسّك به هنا بأنّ اتّصاف كلام المولى بالحجّيّة يرتبط بالدلالة التصديقيّة لكلامه ، وتتحقّق الدلالة التصديقيّة له فيما تحقّق له القصد والمراد الجدّي ، فالحجّيّة تتوقّف على كون المولى في مقام بيان مراده ، ولا يمكن بيان المراد إلّا بعد تصوّره ، فإذا شكّ المولى في عالميّة زيد ـ مثلا ـ فكيف يمكن له تصوّر وجوب إكرامه؟! وحينئذ لا يمكن اتّصاف كلام المولى بالحجّيّة بالنسبة إليه. هذا تمام كلامه في كتاب المقالات.

ويرد : أوّلا : أنّ الأحكام الصادرة عن المولى كلّيّة ، وإذا احرز له تحقّق مصلحة في إكرام كلّ عالم يحكم بوجوب الإكرام بصورة كليّة ، ولا يلزم عليه العلم بالأفراد والمصاديق وتعدادها ، وإن كان العامّ ناظرا إلى أفراد الطبيعة ولكنّها نظارة إجماليّة لا تفصيليّة فاللازم عليه تصوّر وجوب إكرام كلّ عالم ، لا تصوّر وجوب إكرام زيد مثلا ، نظير إدراكات العقل.

وثانيا : أنّه قدس‌سره خرج عن محلّ النزاع ، فإنّا نبحث في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، ولكنّه ذكر الشبهة المصداقيّة للعام بعنوان المثال ، وهو الشكّ في عالميّة زيد ، ونحن أيضا نقول هنا بعدم جواز التمسّك بالعام.

وثالثا : أنّ النزاع في شكّ المكلّف لا في شكّ المولى ؛ إذ لا يكون بيان

__________________

(١) مقالات الاصول ١ : ٤٤٣.

٤٧٨

الموضوع بعهدة المولى ، ولا يكون رافعا للشكّ في الشبهة المصداقيّة. فما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره لعدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص قابل للمساعدة ، من توقّف الحجّيّة على مراحل ثلاثة وفقدان بعضها هنا.

والمحقّق النائيني قدس‌سره ذكر تفصيلا بين المخصّص اللفظي واللبّي غير ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره ، وهو : أنّ المخصّص اللبّي إن كان من العناوين التي لا تصلح إلّا أن تكون قيدا للموضوع ولم يكن إحراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه من وظيفة الآمر والمتكلّم بل كان من وظيفة المأمور والمخاطب ، ففي مثل هذا يكون حال المخصّص اللبّي كالمخصّص اللفظي في عدم صحّة التعويل على العامّ فيما شكّ في كونه من مصاديق المخصّص ، وذلك كما في قوله عليه‌السلام : «انظروا إلى رجل قد روى حديثنا ...» إلخ ، حيث إنّه عامّ يشمل العادل وغيره ، إلّا أنّه قام الإجماع على اعتبار العدالة في المجتهد الذي يرجع إليه في القضاء ، فتكون العدالة قيدا في الموضوع ، ولا يجوز الرجوع إلى العموم عند الشكّ في عدالة مجتهد ، كما إذا كان اعتبار العدالة بدليل لفظي.

وإن كان المخصّص اللبّي من العناوين التي لا تصلح أن تكون قيدا للموضوع ، وكان إحرازها من وظيفة الآمر والمتكلّم بأن كان من قبيل الملاكات ، ففي مثل هذا يجوز الرجوع إلى العامّ في الشبهة المصداقيّة ، وذلك كما في مثل قوله عليه‌السلام : «اللهمّ العن بني اميّة قاطبة» حيث يعلم أنّ الحكم لا يعمّ من كان مؤمنا منهم ؛ إذ ليس فيه ملاك اللعن ، ولكنّ إحراز أنّ في بني اميّة مؤمنا إنّما هو من وظيفة المتكلّم ، حيث لا يصحّ له إلقاء مثل هذا العموم إلّا بعد إحراز ذلك ، ولو علمنا من الخارج بإيمان بعضهم كان ذلك موجبا لعدم اندراجه تحت العموم ، ولكنّ المتكلّم لم يبيّنه لمصلحة هناك اقتضت ذلك ،

٤٧٩

فلا يجوز لنا لعنه ؛ لعلمنا بعدم ثبوت الملاك فيه.

وأمّا إذا شككنا في إيمان أحد من بني اميّة فاللازم الأخذ بالعموم وجواز لعنه ؛ لأنّه من نفس العموم يستكشف أنّه ليس بمؤمن ، وأنّ المتكلّم أحرز ذلك ، وإلّا لما ألقى العموم كذلك ، ويكون خروج معلوم الإيمان من التخصيص الأفرادي ، حيث إنّه لم يؤخذ عنوانا للموضوع ، ففي هذا القسم من المخصّص اللبّي فقط يجوز التمسّك بالعامّ في شبهة مصداقيّة المخصّص ، بخلاف سائر المخصّصات.

ولا بدّ لنا من بيان مقدّمة لتوضيح الإشكال الوارد على كلامه قدس‌سره ، وهي : أنّ التخصيص قد يكون أفراديّا كما إذا قال المولى : «لا تكرم زيدا العالم» بعد قوله :«أكرم العلماء» ، وإذا شككنا في تخصيص فرد آخر فمعلوم أنّ المرجع في الشكّ في التخصيص الزائد هو أصالة العموم كالشكّ في أصل التخصيص ، وهذا خارج عن محلّ النزاع.

وقد يكون عنوانيّا ، كما إذا قال : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» بعد قوله : «أكرم العلماء» ، ويمكن أن يكون ذلك بصورة التعليل ، مثل : قوله : «لا تكرم زيدا العالم لأنّه فاسق» ، ومحلّ النزاع عبارة عن المخصّص العنواني ، أي واقعيّة العنوان ، ولا دخل للعلم به في المسألة ، فإن شككنا في صدق عنوان الفاسق على زيد العالم ، هل يجوز التمسّك بالعامّ أم لا؟

إذا عرفت هذا فنقول : لا فرق بين المثالين ، كما أنّ المستفاد من الرواية الاولى أنّ للاجتهاد فقط دخلا في المرجعيّة ، إلّا أنّ الإجماع يجعل العدالة قيدا للموضوع ، وكأنّه قال عليه‌السلام من الابتداء : انظروا إلى رجل قد روى حديثنا ونظر إلى حلالنا وحرامنا وكان عادلا فللعوام أن يقلّدوه ، وهكذا في المثال الثاني ،

٤٨٠