دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

والظاهر أنّه لا دخل لهذه المقدّمة أيضا في الإطلاق ولا تكون من مقدّمات الحكمة ، سواء فسّرنا الإطلاق بما ذكرناه من كون تمام الموضوع وتمام الماهيّة هي نفس الماهيّة والطبيعة ، أو بما عليه المشهور من جعل الطبيعة سارية وشائعة في الأفراد ومرآة لها.

أمّا على المختار فلأنّ القدر المتيقّن إنّما يضرّ في مورد الشكّ في الأقلّ والأكثر ، فإنّ مورد استعمال هذه الكلمة إمّا يكون الشكّ فيهما وإمّا يكون مقام الامتثال والموافقة ، مع أنّ الأمر في باب الإطلاق ليس كذلك ؛ لدوران الأمر بين تعلّق حكم المولى بعتق ماهيّة الرقبة أم بعتق الرقبة المقيّدة بقيد الإيمان ، ولا يكون القدر المتيقّن في البين ؛ إذ لو كان متعلّق حكم المولى عتق مطلق الرقبة فيكون عتق الرقبة المؤمنة خارجا عن دائرة الحكم.

ولا يختلط عليك مقام تعلّق الحكم مع مقام الامتثال ، فتعلّق الحكم بالرقبة المقيّدة بقيد الإيمان ليس بمتيقّن بل هو طرف الشكّ ، بل التعبير بالقدر المتيقّن هنا ليس بصحيح ؛ إذ لا نبحث في مقام الامتثال واشتغال الذمّة بمثل الدّين ، فإذا قال المولى في مقام البيان : «اعتق رقبة» مع تعلّق غرضه بعتق الرقبة المؤمنة لم يبيّن مراده ، ولا طريق لنا لفهم مراده.

وأمّا على القول المشهور فلا دخل للمقدّمة الثالثة في الإطلاق لوجهين :

الأوّل : أنّ المورد لا يكون مخصّصا لحكم العام كقولنا : «سألت المعصوم عن الخمر؟ فقال : كلّ مسكر حرام» وهكذا في باب المطلق ، كما إذا كان جواب المعصوم «المسكر حرام» ؛ إذ لا يوجب السؤال عن الخمر اختصاص الحكم به فقط ، بل يقولون بإطلاق الحكم ، سواء كان خمرا أم غيره ، والحال أنّ السؤال عن الخمر يكون من المصاديق الظاهرة والبارزة للقدر المتيقّن في مقام

٦٠١

التخاطب ، وهذا دليل على عدم دخالة انتفاء القدر المتيقّن في الإطلاق أصلا ، وهذا دليل متقن.

الثاني : أنّ قبل جريان الإطلاق كان عتق الرقبة المؤمنة مقطوعا وعتق الرقبة الكافرة مشكوكا ، لا مسلّم العدم ، وإلّا لا مجال للإطلاق ، ونتيجة جريان الإطلاق إن كان الأخذ بالمتيقّن وخروج المشكوك رأسا ، فإن لم يكن مستحيلا فليس بصحيح ، فإنّ ما كان مبتنيا على اليقين والشكّ لا يمكن أن يكون نتيجته انتفاء المبنى المذكور.

ويمكن مناقشته بأنّ وجود القدر المتيقّن مانع من التمسّك بالإطلاق ، لا أنّه يوجب الخروج عن حالة الشكّ ، بل هو محفوظ ، ويستفاد حكمه من الاصول العمليّة ، ولكنّ الدليل الأوّل خال عن المناقشة.

وبالنتيجة : لا نحتاج لقرينيّة الحكمة ـ التي يعبّر عنها بالقرينة الثالثة في مقابل القرينة الحاليّة والمقاليّة ـ إلى أزيد من مقدّمة واحدة ، وهي كون المولى في مقام بيان تمام مراده الاستعمالي لغرض جعل الضابطة والقانون حتّى يتمسّك به في موارد الشكّ في التقييد ، وعروض التقييد له لا ينافي الإطلاق ولا يكون كاشفا عن عدم تحقّقه ، بل هذا من هذه الجهة نظير مسألة العامّ والخاصّ ، إلّا أنّ جعل القانون قد يكون بنحو العموم بمعنى الشيوع والنظارة إلى الأفراد ، وقد يكون بنحو الإطلاق بمعنى تعلّق الحكم بنفس الطبيعة بدون أيّ نظارة إلى الأفراد.

إنّما الإشكال في صورة الشكّ في كون المولى في مقام بيان تمام مراده أم لا ، فإنّ بدون إحرازه لا يكون الإطلاق قابلا للتمسّك ، وإن لم تتحقّق قرينة ـ لا نفيا ولا إثباتا ـ فمن أيّ طريق يمكن إحرازه؟

٦٠٢

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّه لا يبعد أن يكون الأصل فيما إذا شكّ في كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد هو كونه بصدد بيانه ، ثمّ استدلّ : أوّلا : بأنّ سيرة أبناء المحاورة جرت على التمسّك بالإطلاقات مع عدم علمهم بكون المتكلّم في مقام البيان إذا لم يكن هناك ما يوجب صرف وجهها إلى جهة خاصّة.

وثانيا : بأنّ هذا الأصل العقلائي أوجب تمسّك المشهور من الفقهاء بالإطلاقات مع عدم إحراز كون مطلقها في مقام البيان.

ويمكن أن يتوهّم أنّ وجه تمسّكهم بها هو ذهابهم إلى وضع المطلق للشيوع والسريان ، فلا يكون تمسّكهم بها مستندا إلى الأصل المزبور حتّى يكون شاهدا على صحّة الأصل.

ودفعه قدس‌سره : بأنّ هذا التوجيه بعيد ؛ لما مرّ سابقا من وضع المطلق للماهيّة المهملة التي لم يلحظ معها شيء أصلا ، فالشيوع خارج عن معناه ، ولعلّ وجه نسبة وضع المطلق للمعنى المقرون بالشياع إلى المشهور ملاحظة عدم الوجه للتمسّك بالإطلاقات بدون إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، وقد بيّنا أنّ الوجه فيه هو سيرة العقلاء. هذا تمام كلامه مع زيادة توضيح.

والتحقيق : أنّ هذا الكلام بالصورة الكلّيّة ليس بصحيح ، بيان ذلك : أنّ الأحكام الصادرة عن الإمام قدس‌سره على نوعين ؛ إذ الحكم الصادر عنه عليه‌السلام قد يكون بداعي الضبط والحفظ في الكتب بعنوان الذخيرة للشيعة ، فلا بدّ هاهنا من ملاحظة المطلق والمقيّد ، وحمل المطلق على المقيّد ، ولا دليل لكون المولى في مقام بيان تمام المراد ، ولا أقلّ من الشكّ في تحقّق الأصل العقلائي هنا ، وهذا يكفي لعدم إمكان التمسّك بالإطلاق.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

٦٠٣

وقد يكون بداعي عمل السائل في مسألة شخصيّة مبتلى بها كقوله عليه‌السلام في جواب السؤال عن الظهار : «إن ظاهرت فاعتق رقبة» ، فلا بدّ هاهنا من القول بكون المولى في مقام بيان تمام المراد ، ولا يكون التفكيك بين الإرادة الجدّيّة والاستعماليّة مناسبا في هذا المقام ، فلا بدّ من الالتزام بالأصل العقلائي المذكور.

والعجب ممّا ذكره الإمام قدس‌سره (١) في كتاب التهذيب من أنّ الأصل في الكلام كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما له دخل في حكمه بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم ، وعليه جرت سيرة العقلاء في المحاجّات. نعم ، لو شكّ أنّه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر فلا أصل هنا لإحراز كونه في مقام هذا الحكم.

ومعلوم أنّ هذا الكلام ضعيف جدّا ، فإنّ في مقابل كون المولى في مقام البيان كونه في مقام الإهمال والإجمال ؛ بمعنى كونه في مقام أصل التشريع لا في مقام بيان الأجزاء والشرائط ، ففي مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) يمكن أن يتعلّق الغرض ببيان أنّ تمام المتعلّق هو نفس طبيعة البيع ، ويمكن أن يتعلّق ببيان حلّية البيع في مقابل الربا بنحو الإجمال ، ولا يكون في مقابل المقدّمة الاولى كونه في مقام حكم آخر ، ولا مورد لهذا الكلام.

واعلم أنّ الانصراف مانع من تحقّق الإطلاق بعد تماميّة مقدّمات الحكمة ، ولكن الانصراف على أنواع :

أحدها : انصراف المطلق إلى المقيّد في بادئ النظر ؛ لغلبة الاستعمال الموجبة لانس الذهن به ، ولكنّه يزول بالتأمّل ، وهذا الانصراف البدوي لا يكون مانعا من الإطلاق.

ثانيها : انصراف المطلق إليه لكونه القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهو

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٥٣٥.

٦٠٤

مانع من الإطلاق على مبنى صاحب الكفاية ، لا على مبنى المختار كما ذكرناه.

ثالثها : انصراف المطلق إلى المقيّد لكثرة استعماله فيه ؛ بمعنى وضع كلمة «الرقبة» ـ مثلا ـ لمطلق الرقبة ، وقال المولى بالنسبة إلى كفّارة الإفطار في شهر رمضان : «من أفطر يجب عليه عتق الرقبة» ولكن يستفاد من القرينة أنّ مراده الجدّي هو خصوص الرقبة المؤمنة.

وهكذا قال في باب الظهار ـ مثلا ـ : «من ظاهر يجب عليه عتق رقبة» واقيمت القرينة أيضا على كون مراده الجدّي هو خصوص الرقبة المؤمنة ، وهكذا كرّر هذا المعنى في موارد كثيرة ، ولكن شككنا في مورد بعد قوله : «يجب عليك عتق رقبة» أنّ مراده مطلق الرقبة أو الرقبة المؤمنة ، مع عدم قرينة معيّنة ، وكثرة الاستعمال المذكور يوجب تحقّق الظهور للمطلق في المعنى المقيّد من حيث الإرادة الجدّية ، ومعلوم أنّ هذا الانصراف مانع من الإطلاق بلا شبهة.

رابعها : انصراف المطلق إلى المقيّد ؛ لصيرورته حقيقة ثانويّة له ومشتركا لفظيّا معه ؛ لكثرة استعماله فيه ، بحيث لا يحمل على أحدهما إلّا بالقرينة المعيّنة ، كما إذا فرض أنّ الصعيد وضع لمطلق وجه الأرض ، ثمّ استعمل كثيرا ما في خصوص التراب الخالص بحيث صار مشتركا بينهما ، وهذا الانصراف يمنع أيضا من الأخذ بالإطلاق ؛ إذ الكلام يصير في الحقيقة مجملا في هذا الفرض.

خامسها : انصراف المطلق إلى المقيّد الناشئ عن بلوغ كثرة الاستعمال حدّ النقل ، ومهجوريّة المعنى المطلق ، وحمل اللفظ على المعنى المقيّد في هذه الصورة أولى من السابقة ، وهذه الأنواع الخمسة ما يستفاد من صدر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وذيله ، وقد عرفت أحكامها.

٦٠٥
٦٠٦

أحكام المطلق والمقيّد

إذا صدر عن المولى حكمان متنافيان أحدهما مطلق والآخر مقيّد ، مثل : «اعتق رقبة» و «اعتق رقبة مؤمنة» ، فهل يحمل المطلق على المقيّد أم لا ، بعد فرض أنّه لا يتحقّق في الواقع أزيد من حكم واحد في هذا المورد ، ولكن يدور الأمر بين أن يكون متعلّقه هو المطلق أو المقيّد؟ ومعلوم أنّه يتحقّق بينهما كمال التنافي بلحاظ عدم إمكان كون متعلّق حكم واحد مطلقا ومقيّدا معا ؛ إذ لا بحث في مقام الامتثال واشتغال الذمّة حتّى يكون عتق الرقبة المؤمنة هو القدر المتيقّن.

إنّما الكلام في طريق إحراز وحدة الحكم ، وهو قد يستفاد من طريق وحدة السبب ، مثل : «إن أفطرت في شهر رمضان متعمّدا فعليك عتق رقبة» ، و «إن أفطرت في شهر رمضان متعمّدا فعليك عتق رقبة مؤمنة» ، ونعلم أنّ بالنسبة إلى الإفطار ليس أزيد من حكم واحد ، وهكذا بالنسبة إلى الظهار ، وقد يستفاد من تصريح المولى أو القرائن الخارجيّة ، فتكون وحدة الحكم في جميع الصور الآتية مفروغ عنها.

وفي فرض وحدة الحكم قد يكون المطلق والمقيّد في الإثبات والنفي متوافقين ـ كما في المثال المذكور ـ وقد يكونا مختلفين ، مثل : «اعتق رقبة»

٦٠٧

و «لا تعتق رقبة كافرة» ، كما أنّهما قد يقعان في كلامين ، وقد يقعان في كلام واحد ، ولعلّه يتحقّق الفرق بينهما من حيث الحكم.

فإن كانا مختلفين فلا إشكال في التقييد وحمل المطلق على المقيّد على ما صرّح به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ، والحال أنّه يتحقّق لهذه المسألة فروض مختلفة ، وكلامه قدس‌سره يكون قابلا للمساعدة في بعض الفروض ، وفي بعض آخر يكون قابلا للبحث ، وإليك بعضها :

منها : أن يكون الدليل المطلق بصورة النفي والمقيّد بصورة الإيجاب ، مثل : «لا تعتق رقبة» و «اعتق رقبة مؤمنة» ، بناء على عدم دلالة المفرد المعرّف باللّام على العموم ، بلا فرق بين دلالة النهي على الحرمة أو الكراهة ، فلا مناص هنا سوى حمل المطلق على المقيّد ، فإنّ لنا حكما واحدا ولا يمكن أن يكون له متعلّقان ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ المراد من الرقبة في قوله : «لا يعتق رقبة» هي الكافرة.

إنّما الكلام في دليل تقدّم المقيّد على المطلق ؛ إذ يمكن القول بتقدّم المطلق على المقيّد، ويحتمل قويّا أن يكون الدليل أنّ أصالة الإطلاق أصل عقلائيّ مبتن على مقدّمات الحكمة ، والعقلاء في مورد تقابل المطلق مع المقيّد يأخذون بدليل المقيّد ، ويتركون أصالة الإطلاق.

ويحتمل أن يكون لدليل المطلق ظهور في الإطلاق ولدليل المقيّد ظهور أقوى في التقييد ؛ ولذا يكون مقدّما عليه.

والتحقيق : أنّ حمل المطلق على المقيّد في صورة اختلافهما في النفي والإثبات ليس بصحيح مطلقا ، بخلاف ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّ للمسألة فروضا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٨٩.

٦٠٨

متعدّدة :

الأوّل والثاني : أن يكون المطلق بصورة النفي والمقيّد بصورة الإثبات كما في مثل : «لا تعتق رقبة» و «اعتق رقبة مؤمنة» ، ويصحّ حمل المطلق على المقيّد هنا ، سواء كان النهي تحريميّا أو تنزيهيّا.

وإن كان دليل المطلق إثباتيّا ودليل المقيّد نفييّا ، مثل : «اعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» ، فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد في صورة كون النهي تحريميّا ، بخلاف صورة كونه تنزيهيّا ؛ إذ لا ينحصر طريق الجمع بينهما بهذا الطريق ، فإنّ هذا نظير : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و «صلّ في المسجد» و «لا تصلّ في الحمّام» ؛ بأنّ المأمور به هي طبيعة الصلاة ، ولكنّ وقوعها في الحمّام مكروه بمعنى كونه أقلّ ثوابا ، ووقوعها في المسجد مستحبّ بمعنى أكثر فضيلة ، ففيما نحن فيه أيضا يكون المأمور به عتق مطلق الرقبة ، ولكن إذا كانت الرقبة مؤمنة يترتّب عليه فضيلة زائدة ، وإذا كانت كافرة يترتّب عليه فضيلة قليلة. هذا في الفرض الثالث والرابع.

الفرض الخامس : أن يكون دليل المطلق بصورة الإثبات ودليل المقيّد بصورة النفي ، مثل : «اعتق رقبة» و «لا تعتق رقبة كافرة» ، ولكن شككنا في أنّ نهيه تحريميّ أو تنزيهيّ ، ففي هذه الصورة يحتمل قويّا حمل المطلق على المقيّد ؛ إذ العقلاء يقولون بذلك.

ولقائل أن يقول : إنّ دليل المطلق بإطلاقه يقتضي أن يكون النهي تنزيهيّا ، ولا برهان لنا لردّ كلام القائل ، إلّا أنّه مخالف لسيرة العقلاء ، هذا تمام الكلام في المختلفين.

وإن كان المطلق والمقيّد متوافقين في الإثبات والنفي مع فرض وحدة الحكم

٦٠٩

فقد يقعان في كلام واحد ، وقد يقعان في كلامين ، وعلى فرض وقوعهما في كلام واحد وكونهما مثبتين مثل : «إن ظاهرت فاعتق رقبة» ، وقال بعد ذلك : «واعتق رقبة مؤمنة» ، فلا مانع هنا من حمل المطلق على المقيّد ، أو أنّ الإطلاق لم ينعقد في هذا المورد من الابتداء حتّى يحمل على المقيّد.

إنّما الكلام فيما إذا كان المطلق والمقيّد مثبتين في كلامين منفصلين ، فالمشهور قائل بحمل المطلق على المقيّد ، ولقائل أن يقول : إن هنا يكون نظير (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و «صلّ في المسجد» في حمل دليل المقيّد على الاستحباب وحفظ دليل المطلق بإطلاقه ، فدليل المقيّد يهدينا إلى أنّ عتق رقبة مؤمنة عقيب الظهار يكون أكثر ثوابا ، فلا ينحصر الطريق بما ذكره المشهور ، ولعلّ هذا الطريق كان أرجح منه.

وأشار صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في ذيل كلامه إلى طريق آخر لمختار المشهور ، وهو : أنّ لدليل المطلق ظهورا في أنّ متعلّق التكليف عتق مطلق الرقبة ، ولدليل المقيّد ظهور في أنّ الواجب عتق رقبة مؤمنة بنحو الواجب التعييني ، ولا يمكن الجمع بين الظهورين ، ولكنّ ظهور دليل المقيّد فيه أقوى من ظهور دليل المطلق في الإطلاق.

والمحقّق الحائري قدس‌سره (٢) في مثل : «اعتق رقبة» و «اعتق رقبة مؤمنة» قائل بالتفصيل ؛ بأنّ إحراز وحدة الحكم إن كان من غير جهة وحدة السبب فيدور الأمر بين حمل الأمر المتعلّق بالمطلق على ظاهره من الوجوب والإطلاق ، والتصرّف في الأمر المتعلّق بالمقيّد ، إمّا هيئة بحملها على الاستحباب ، وإمّا

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٨٩.

(٢) درر الفوائد : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

٦١٠

برفع اليد عن ظاهر القيد من دخله في موضوع الوجوب وجعله إشارة إلى الفضيلة الكائنة في المقيّد ، وبين حمل المطلق على المقيّد ، وحيث لا ترجيح لأحدها لاشتراك الكلّ في مخالفة الظاهر ، فيتحقّق الإجمال.

وإن كان الإحراز من جهة وحدة السبب فيتعيّن التقييد ، ولا وجه للتصرّف في المقيّد بأحد النوعين ، فإنّه إذا فرض كون الشيء علّة لوجوب المطلق ، فوجوب القيد أجنبيّ عن تأثير تلك العلّة ، فلا يمكن أن يقال : إنّ وجوب المقيّد معلول لتلك العلّة ، فلا بدّ له من علّة اخرى ، والمفروض وحدتها ، وكذا كون الشيء علّة لوجوب المطلق ينافي كونه علّة الاستحباب للفرد الخاصّ ؛ إذ استناد المتباينين إلى علّة واحدة غير معقول.

وجوابه : أنّ الاستحباب هنا يكون بمعنى أفضل الأفراد ، وهو لا ينافي أصل الوجوب ، فمثل الظهار سبب لوجوب عتق مطلق الرقبة ، واستحباب اختيار عتق الرقبة المؤمنة بالمعنى المذكور لا يوجب التناقض والتخالف ، فهذا التفصيل ليس بتامّ.

والتحقيق : أنّ ملاك حمل المطلق على المقيّد لا يكون مسألة أقوائيّة الظهور ، وقد ذكرنا أنّ أصالة الإطلاق من الاصول العقلائيّة ، ولا بدّ لنا من الرجوع إلى العقلاء لملاحظة مقدار اعتبارها لديهم ، وبعد الرجوع إليهم يتّضح أنّ اعتبارها منحصر بمورد عدم الدليل في مقابلها ، والشكّ في وجود الدليل المقيّد بعد الفحص واليأس عنه ، وأمّا إذا تحقّق في مقابلها الدليل المقيّد فيقولون بحمل المطلق على المقيّد ، وليس هذا جمعا بين الدليلين ؛ إذ يتحقّق هنا في الواقع دليل واحد ، ودليل المطلق دليل في صورة عدم الدليل في مقابله ، ومع وجود الدليل المقيّد لا يتحقّق دليل آخر ، وهذا لا يكون بمعنى كاشفيّة دليل المقيّد عن عدم

٦١١

الاطلاق بل مع ثبوت الإطلاق وتماميّة مقدّمات الحكمة يكون اعتباره محدودا بعدم الدليل في مقابله ، فالملاك هنا بناء العقلاء.

فلا يتحقّق في بناء العقلاء التفصيل بين إحراز وحدة الحكم من جهة وحدة السبب ، وبين إحرازه من غير الجهة المذكورة.

هذا ، وإنّما الإشكال في باب المستحبّات كما إذا ورد استحباب زيارة مولانا الحسين عليه‌السلام بنحو الإطلاق ، ثمّ ورد استحبابها في أوقات خاصّة ـ كالعيدين ويوم عرفة ونصفي رجب وشعبان ـ حيث إنّ مقتضى حمل المطلق على المقيّد هو الحكم بتعيّن المقيّد في الاستحباب ، وعدم استحباب المطلق رأسا ، ولكنّه كما ترى خلاف المشهور ، حيث إنّ بناءهم على حمل الأمر بالمقيّد على تأكّد الاستحباب.

وأجاب صاحب الكفاية قدس‌سره عنه بوجهين :

أحدهما : أنّ عدم حمل المطلق على المقيّد في المستحبّات كان بملاحظة التسامح في أدلّتها ، وكان عدم رفع اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيء دليل المقيّد ، وحمله على تأكّد استحبابه من التسامح فيها.

ولكن هذا الجواب ليس بصحيح ، فإنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ترتبط بجبران وتصحيح ضعف سند الرواية ، وإعطاء الثواب تفضّلا وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقله ، كما ترى في أخبار (١) القاعدة المذكورة التصريح بذلك ، مع أنّ مفاد الجواب المذكور يرجع إلى تقوية دلالة دليل المطلق والشكّ فيما نحن فيه في استحباب عتق مطلق الرقبة أو عتق الرقبة المؤمنة ، فكيف يستفاد من قاعدة التسامح استحباب عتق مطلق الرقبة؟! وجابريّة القاعدة المذكورة لضعف

__________________

(١) الوسائل ١ : ٨٠ ، الباب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات.

٦١٢

الدلالة في غاية الضعف والسقوط.

وثانيهما : أنّ غلبة وجود مراتب المحبوبيّة في المستحبّات بخلاف الواجبات أوجبت حمل الدليل المطلق والمقيّد على مراتب الاستحباب ، وأنّ أصل عتق الرقبة ـ مثلا ـ مستحبّ ، وعتق الرقبة المؤمنة مستحبّ مؤكّد ، نظير تحقّق مراتب الاستحباب في إقامة الصلاة في مسجد المحلّة وفي مسجد السوق وفي المسجد الجامع ، وأمثال ذلك ، وهذا الجواب صحيح وقابل للمساعدة.

وأمّا إذا كان المطلق والمقيّد منفيّين كما قال المولى في دليل : «لا تشرب المسكر» وفي دليل آخر : «لا تشرب الخمر» فيمكن القول بعدم المنافاة بينهما ولذا نرى في بعض الروايات تعليل حرمة شرب الخمر بأنّه مسكر ، وهذا دليل على عدم تحقّق المنافاة بينهما ، بل تتحقّق الكبرى المطويّة في جميع المسائل المعلّلة كما ذكرناه ، مثل : «لا تأكل الرمّان لأنّه حامض» و «كلّ حامض حرام» ، ولا نحتاج إلى ذكره إلّا في بعض الموارد ، نظير أدلّة الاستصحاب ، وهو قوله عليه‌السلام : «لا ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» (١) ، فلا مانع من حرمة المطلق والمقيّد معا ، ولا وجه لحمل المطلق على المقيّد.

ولكنّه ليس بصحيح ، فإنّ وحدة الحكم في جميع صور هذه المسألة مفروغ عنها كما هو المفروض ، فكيف يمكن تعلّق حكم واحد بالمسكر والخمر معا؟! فلا محالة يكون المسكر موضوعا له ، والخمر من مصاديقه ، كما أنّ أكل الحامض يكون موضوعا للحرمة ، وأكل الرمّان يكون من مصاديقه ، فيتحقّق كمال المنافاة بين الدليلين ؛ إذ الموضوع في أحدهما هو الخمر وفي الآخر هو المسكر ، فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ؛ لأنّ مناطه ـ أي التنافي المستكشف

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٦ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٦١٣

من وحدة الحكم ـ متحقّق هنا. هذا في موارد عدم تحقّق التعليل في المسألة نظير ما نحن فيه.

وأمّا في موارد تحقّق التعليل فنفس التعليل يهدينا إلى أنّ تمام الموضوع للحرمة هو العنوان المذكور في العلّة. هذا كلّه فيما إذا احرزت وحدة الحكم من جهة وحدة السبب أو من جهة سائر القرائن.

وأمّا إذا قال المولى في دليل : «اعتق رقبة» وفي دليل آخر : «اعتق رقبة مؤمنة» بدون تحقّق أيّ قرينة دالّة على وحدة الحكم ، فهل يمكن استفادة وحدة الحكم من نفس هاتين العبارتين أم لا؟

ولا بدّ لنا من ملاحظة أمرين لاستكشاف المسألة :

الأوّل : أنّ الإطلاق والتقييد خارج عن دائرة مسألة اجتماع الأمر والنهي كما ذكرناه ، وموردها عبارة عمّا إذا كان بين العنوانين عموم وخصوص من وجه.

الأمر الثاني : أنّه قد مرّ في مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و «صلّ في المسجد» أنّ الأمر المتعلّق بالمقيّد أمر استحبابيّ ، إلّا أنّ متعلّقه لا يكون نفس الصلاة ، وإن كان هو الظاهر ، بل متعلّقه إيقاع الصلاة في المسجد ، فيكون معنى قوله : «صلّ في المسجد» يستحبّ إيقاع الصلاة فيه ، ولا بدّ لنا من هذا التصرّف وارتكاب خلاف الظاهر لتحقّق الدليل هنا ، كما مرّ بيانه مفصّلا.

ففيما نحن فيه بعد ظهور أحد الدليلين بأنّ متعلّق الحكم هو عتق مطلق الرقبة ، والظهور الآخر بأنّ متعلّقه هو عتق الرقبة المؤمنة ، وبعد فرض عدم إمكان تعلّق الحكمين المتضادّين أو المتماثلين بالمطلق والمقيّد ؛ لخروجهما عن دائرة مسألة اجتماع الحكمين ، وبعد عدم الدليل لحمل «اعتق الرقبة المؤمنة»

٦١٤

على الاستحباب ، وارتكاب خلاف الظاهر فيه ، يستفاد وحدة الحكم من نفس هذين التعبيرين وظاهرهما بدون الاحتياج إلى إحراز وحدته من طريق وحدة السبب أو قرينة حاليّة أو مقاليّة.

وحيث إنّ الحكم واحد ويتحقّق التنافي بين الدليلين فلا بدّ من حمل المطلق على المقيّد ، كما هو بناء العقلاء في هذا المورد.

ولا يخفى أنّه لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين بين كونهما في مقام بيان الحكم التكليفي وفي مقام بيان الحكم الوضعي ، ففي مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، و «نهي النبيّ عن بيع الغرر» أيضا يحمل المطلق على المقيّد ، فتجري في الأحكام الوضعيّة المباحث المذكورة ، طابق النعل بالنعل.

٦١٥
٦١٦

فصل

في المجمل والمبيّن

والظاهر أنّ المراد من المبيّن في موارد إطلاقه : الكلام الذي له ظاهر ، ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لخصوص معنى معيّن ، والمجمل خلافه.

ومعلوم أنّ الظهور لا يساوق المعنى الحقيقي ، بل لا فرق في جريان أصالة الظهور في الاستعمالات الحقيقيّة والمجازيّة ، فإن كان لكلام ظهور ـ سواء كان في المعنى الحقيقي أو المجازي ـ فهو مبيّن ، ولا بدّ من الأخذ بظاهره ، والكلام الفاقد للظهور مجمل ، ولا وجه للأخذ به.

ثمّ إنّه وقع الخلاف فيما إذا نسبت الحرمة إلى العين ، مثل : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(١) في أنّه من مصاديق المجمل أو المبيّن ، فإنّ متعلّق الحرمة هو فعل المكلّف ، مثل : أكل الميتة وسائر التصرّفات فيها ، لا العين الخارجيّة كما لا يخفى.

وجوابه : أنّ بيان الصغريات وتشخيص المجمل والمبيّن لا يكون من

__________________

(١) المائدة : ٣.

٦١٧

وظائف الفقيه ، بل الملاك فيه نظر العرف فإن كان جميع التصرّفات في الميتة أو بعض التصرّفات الظاهرة فيها حراما عندهم فهذا مبيّن ، وإن قالوا بعدم تعلّق الحرمة بالعين فهذا مجمل ، فالملاك هنا نظر العرف.

هذا تمام الكلام في مباحث الألفاظ.

٦١٨

فهرس المطالب

٦١٩
٦٢٠