دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

تقدير الملازمة لا يبقى للاستصحاب مجال ، وهذا نظير عدم جريان أصالة الحلّيّة في باب الفروج والدماء التي يكون نفس الاحتمال فيها موجب لتنجّز التكليف.

مسألة مقدّمة الواجب والأقوال فيها

هل تتحقّق الملازمة أم لا؟

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في مقام الاستدلال على تحقّق الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة : والأولى إحالة ذلك إلى الوجدان حيث إنّه أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئا له مقدّمات أراد تلك المقدّمات أيضا لو التفت إليها ، بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله ، ويقول مولويّا : «ادخل السوق واشتر اللحم مثلا» ، بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثا مولويّا ، ولا فرق بينهما إلّا في النفسيّة والغيريّة ، ولا يعقل أن يكون الأمر بدخول السوق أمرا إرشاديّا ، فإنّه في مورد لا يلتفت المكلّف إلى المأمور به مثل أوامر الطبيب ، ولا شكّ في التفات المكلّف هاهنا إلى عدم إمكان شراء اللحم بدون دخول السوق.

ثمّ قال : ويؤيّد الوجدان ـ بل يكون من أوضح البرهان ـ وجود الأوامر الغيريّة في الشرعيّات والعرفيّات ، كالأمر بالوضوء والغسل والأمر بدخول السوق ؛ لوضوح أنّه لا يكاد يتعلّق بمقدّمة أمر غيري إلّا إذا كان فيها مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصحّ تعلّقه به أيضا ؛ لتحقّق ملاك الأمر الغيري ومناطه ، وهو التوصّل إلى ذي المقدّمة.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٠٠.

١٦١

والتحقيق : أنّ الوجدان ممّا لا يمكن نفيه وإثباته ؛ إذ لا دليل لتحقّق حكمه فيما نحن فيه وعدمه ، بل هو مثل التبادر يدّعي بعض تحقّق الملازمة وجدانا والآخر عدمه وجدانا ، فلا بدّ لنا من التحقيق في الشواهد والقرائن التي ذكرت لتحقّقه.

وما يستفاد من صدر كلامه من أنّ المولى إذا التفت إلى مقدّمة يجعلها متعلّقا للطلب في عرض ذي المقدّمة ، مثل : «ادخل السوق واشتر اللحم» ، وغاية ما يستفاد من ذلك أنّه يمكن للمولى ويجوز له أن يجعل المقدّمات أو بعضها مأمورا به بالأمر المولوي ، وبهذا لا يثبت المدّعى ، فإنّه عبارة عن الملازمة وعدم الانفكاك بين وجوبي المقدّمة وذي المقدّمة ، ومعناها التحتّم لا الجواز والإمكان ، ومعلوم أنّ منكر الملازمة أيضا يقول بهذا المعنى ، وأنّه يمكن له جعل المقدّمة مأمورا بها بالأمر المولوي.

والجواب عمّا ذكره في ذيل كلامه بعنوان التأييد من تعلّق الأوامر الشرعيّة بالمقدّمات : أنّ هذه الأوامر إرشاديّة ، وأمّا في باب المعاملات فقد اعترف صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في مسألة النهي عن المعاملة وهل يقتضي الفساد أم لا؟ بأنّه لا يبعد القول بكون النواهي المتعلّقة بالمعاملات إرشاديّة ، وليس معنى قوله عليه‌السلام : «لا تبع ما ليس عندك» (٢) أنّه إذا بعت ما ليس عندك فقد ارتكبت محرّما ، بل معناه أنّه لا يقع صحيحا.

وأمّا في العبادات إذا تعلّق الأمر أو النهي بمجموعة العبادة مثل : «أقيموا الصلاة» و «دعي الصلاة أيّام أقرائك» فلا بحث في ظهورهما في الوجوب

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٩٨.

(٢) فقه القرآن ٢ : ٥٨.

١٦٢

والحرمة والمولويّة ، وإذا تعلّق بخصوصيّات العبادة كقوله عليه‌السلام : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» (١) ، و «لا تصلّ في النجس» فلا شكّ في إرشاديّته ؛ إذ يرشد المولى إلى أنّ النجاسة مانعة عن تحقّق عنوان الصلاة ، فيكون لهذه الأوامر ظهور في الإرشاد سيّما مع التوجّه إلى معلوميّة المقدّمات والموانع في الامور التكوينيّة ، بخلاف الشرعيّات فإنّ المقدّمات والموانع فيها تحتاج إلى البيان والإرشاد ، فالظاهر أنّ الأوامر المتعلّقة بالوضوء والغسل وأمثال ذلك إرشاديّة.

وربّما يؤيّده تعليق الأمر بالوضوء بقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فإنّه يرشد إلى أنّ الصلاة لا تصحّ بدون الوضوء ، وإن أبيت عن هذا الظهور نقول : نحن لا نكون في مقام الاستدلال ، ومجرّد إثبات هذا الظهور لها وعدم الدليل على خلافه يكفينا ، فما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بعنوان الدليل للملازمة قابل للمناقشة ، كما لا يخفى.

واستدلّ أيضا للقول بالملازمة بأنّ الإرادة التشريعيّة في جميع الموارد تابعة للإرادة التكوينيّة ، ففي كلّ مورد تحقّقت وأمكنت الإرادة التكوينيّة يمكن فيه تحقّق الإرادة التشريعيّة أيضا ، ولذا لا يتعلّق الأمر والإرادة التشريعيّة بمثل اجتماع الضدّين والمثلين ، كأنّه يتحقّق بين الإرادتين نوع من الملازمة.

ومن البديهي أنّ من أراد الإتيان بعمل يتوقّف على مقدّمة تتعلّق إرادته بها قطعا بعد التفاته إليها وعدم إمكان تحقّق ذي المقدّمة بدونها إذا كان الأمر في الإرادة الفاعليّة والتشريعيّة ، ويكون في الإرادة التشريعيّة بلحاظ التبعيّة أيضا كذلك ، كما أنّ المولى إذا أراد إيجاد الكون على السطح بنفسه كان له إرادتان ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٧ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٧.

١٦٣

كذلك إذا أمر بشخص آخر بإتيانه كان له أمران : إحداهما يتعلّق بذي المقدّمة والآخر بالمقدّمة ، ولا يصحّ التفكيك بينهما ، فتقتضي تبعيّة الإرادة التشريعيّة للإرادة التكوينيّة القول بالملازمة.

وفيه : أوّلا : أنّه ما الدليل على هذه التبعيّة؟

وثانيا : أنّه بعد التوجّه إلى أنّ الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة لا تكون معلولة للإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة بحيث لا تحتاج إلى المبادئ كما مرّ مرارا ، ولا شكّ في أنّ المولى إذا أراد إيجاد الكون على السطح بنفسه تتعلّق إرادته بجميع مباديه أوّلا وبالمقدّمة ثانيا ، إن التفت إليها يلتفت إلى أنّه لا يمكن عادة بدونها الكون على السطح ، ولكنّه إذا كان في مقام التشريع وصدور الأمر بذلك تتعلّق إرادته التشريعيّة بذي المقدّمة ، ومع ذلك يمكن عدم تعلّق إرادته التشريعيّة بالمقدّمة ، بل يصحّ قوله بعدم تعلّق الأمر الوجوبي بها لعدم الاحتياج إليه ، فإنّ المكلّف إذا التفت إليها يوجدها في الخارج بحكم العقل ، ومنكر الملازمة أيضا قائل بتحقّق اللابدّيّة العقليّة ، فيتحقّق بين الإرادتين فرق واضح.

وربما يقال بلغويّة تعلّق الإرادة التشريعيّة بالمقدّمة ، فإنّها تحتاج إلى المبادئ ومنها التصديق بالفائدة ، وإذا لاحظ المولى أنّ العبد يأتي بها بحكم العقل واللابدّيّة العقليّة ، فما فائدة أمره وإرادته التشريعيّة؟ نعم ، لا إشكال في صدوره عن المولى الحكيم في بعض الموارد ، مثل : «ادخل السوق واشتر اللحم» بغرض التأكيد إن لم يمكن حمله على الإرشاد.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالأصل لغيره ممّا ذكره الأفاضل من الاستدلالات ، وهو ما ذكره أبو الحسن البصري ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٠١.

١٦٤

وهو : أنّه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها ، وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.

ولكن لا بدّ لنا من إصلاحه قبل الإفساد والجواب عنه ؛ إذ المراد من الوجوب في القضيّة الشرطيّة الاولى هو الوجوب الشرعي ، فمعناها أنّ المقدّمة لو لم تجب شرعا لجاز تركها شرعا ، مع أنّ الجواز بالمعنى الأخصّ عبارة عن الإباحة ، والجواز بالمعنى الأعمّ إن نسب إلى الفعل عبارة عن غير الحرمة ، وإن نسب إلى الترك عبارة عن غير الوجوب ، فيوافق الحرمة أيضا ، فما هو المراد من الجواز هاهنا؟ إن كان بمعنى الإباحة فلا شكّ في بطلانها ، فإنّ معناها أنّه إذا لم يكن الشيء واجبا شرعا كان مباحا شرعا ، مع أنّ الحرمة والكراهة والاستحباب مع كونها غير الواجب لا يكون مباحا ، فلا تتحقّق الملازمة بين الشرط والجزاء والمقدّم والتالي ، وإن كان جواز الترك بالمعنى الأعمّ ـ يعني غير الوجوب ـ فلا تصحّ الملازمة إلّا على القول بعدم خلوّ المقدّمة عن الحكم الشرعي.

وأمّا على القول بخلوّها عن الحكم الشرعي كما هو الحقّ فلا تتحقّق الملازمة بينهما ؛ إذ يمكن أن تكون المقدّمة خالية عن الحكم الشرعي بعد حكم العقل بلزوم الإتيان بها ، ونظيرها خلوّ أحد المتلازمين عن الحكم الشرعي وإطاعة الله تعالى. فلا بدّ من إصلاح التالي بأنّ المراد منه عدم المنع ، فمعنى الشرطيّة الاولى أنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا لا مانع من تركها شرعا.

والظاهر أن يكون المراد من قوله : «حينئذ» حين إذ جاز تركها كما يقتضيه سياق العبارة ، مع أنّ لازم ذلك كذب الشرطيّة الثانية ؛ إذ يلزم من مجرّد جواز ترك المقدّمة مع بقاء ذي المقدّمة على وجوبه محذور التكليف بما لا يطاق ، وإنّما

١٦٥

يلزم هذا المحذور إذا تركت المقدّمة ، فلا بدّ من إصلاحه بأنّ المقصود منه «حين إذ تركت المقدّمة عن جواز» يعني : إذا تركت المقدّمة بالاستناد إلى الجواز الشرعي يلزم المحذور المذكور.

ومحصّل الاستدلال أنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا فلا مانع من تركها شرعا ، وحينئذ فإن بقي الواجب المطلق بوجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإن خرج عن هذا العنوان وبدّل بالواجب المشروط معناه دخالة جميع المقدّمات ـ مثل أوقات الصلوات ـ في وجوب الصلاة ووجودها معا ، والحال أنّه خلاف بداهة الفقه كما لا يخفى.

ولكن لا بدّ لنا قبل بيان مناقشته من ملاحظة المسألة وجدانا ؛ بأنّه على فرض إنكار الملازمة وعدم تعلّق وجوب شرعي بالمقدّمة لا شكّ في أنّ العقل الذي يقول بوجوب إطاعة الله تعالى يحكم بوجوبها أيضا ؛ حذرا من الوقوع في عقاب ترك المأمور به بلحاظ ترك مقدّمته ، وعلى هذا إن تركها المكلّف فقد اختار تركه بسوء اختياره بترك مقدّمته ، فلا تحتاج المقدّمة إلى الحكم اللزومي الشرعي بعد إلزام العقل بإتيانها ؛ إذ لا فرق وجدانا بين وجوب المقدّمة شرعا وعدمه في تحقّق العصيان المستتبع للعقاب بسبب ترك المأمور به الناشئ من ترك مقدّمته.

إذا عرفت هذا فنقول في مقام الجواب عنه : إنّ المراد من الجواز وعدم المنع الشرعي إن كان عدم المنع وعدم الإشكال المحدود في دائرة الشرع فقط سلّمنا صحّة الشرطيّة الاولى ، ولكنّه لا يوجب صدق إحدى الشرطيّتين ، ولا يلزم منه أحد المحذورين ، فإنّه قال : حين إذ تركت المقدّمة عن عدم المنع الشرعي ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، والحال أنّ الأمر ليس

١٦٦

كذلك ؛ لأنّ العقل يحكم بعدم جواز ترك المقدّمة ، فإنّه ينتهي إلى ترك المأمور به ، فمن ناحية الشرع وإن لم يتحقّق المنع من تركها ولكنّه يتحقّق من ناحية العقل ؛ إذ هو حاكم بالاستقلال بلزوم الإتيان بالمقدّمة للتوصّل إلى المأمور به.

وإن كان المراد من الجواز عدم المنع من الترك شرعا وعقلا سلّمنا صدق الشرطيّتين ، إلّا أنّ الملازمة في الشرطيّة الاولى ممنوعة ؛ بداهة أنّه لو لم تجب المقدّمة شرعا لا يستلزم عدم المنع من تركها شرعا وعقلا ؛ لإمكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا ، وإن كان واجبا عقلا إرشادا فالمقدّمة وإن لم تكن واجبة بالوجوب الشرعي ولكنّها لازمة باللزوم العقلي ، فلا تصحّ أدلّة القائلين بالملازمة بما ذكرناه إلى هنا.

والحقّ أنّه لا تتحقّق الملازمة ، وهو المستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) ، ولنا دليل على إنكارها ؛ إذ لو فرض تحقّقها إمّا يتحقّق بين البعثين وإمّا يتحقّق بين الإرادتين ، وعلى كلا التقديرين إمّا تلاحظ الفعليّة في جانب المقدّمة ، وإمّا تلاحظ التقديريّة فيه ، ويتحقّق الدليل على منع الملازمة على جميع الاحتمالات.

توضيح ذلك : أنّه لو فرض تحقّق الملازمة بين الوجوب الفعلي لذي المقدّمة والوجوب الفعلي للمقدّمة ، وكان المراد منه أنّه إذا بعث المولى إلى شيء يجب له البعث إلى مقدّماته رعاية لشئون المولويّة ، فهو فاسد ضرورة ؛ لأنّا نرى عدم البعث إليها من الموالي غالبا ، بل البعث إليها لغو جدّا ، وما يرى وقوعه هو إرشاد إلى حكم العقل أو إرشاد إلى الشرائط الشرعيّة أو تأكيد للأمر النفسي.

وإن كان المراد من الملازمة بينهما العينيّة ـ أي الأمر بذي المقدّمة يكون أمرا

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٢٧٨ ـ ٢٨٢.

١٦٧

بالمقدّمة ـ فهو في الحقيقة أمران يتعلّق أحدهما بذي المقدّمة والآخر بالمقدّمة ، فهو أوضح فسادا ومخالف للعقل والوجدان والأدبيّة ، فإنّ جملة «اشتر اللحم» لا تدلّ هيئة ولا مادّة على وجوب دخول السوق.

وإن كان المراد من الملازمة بينهما من قبيل لوازم الماهيّة مثل الزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة ، فهو أيضا باطل ، فإنّ المسائل المربوطة بلازم الماهيّة لا تقع موردا للاختلاف أصلا ، والحال أنّ الأعاظم أنكروا الملازمة بين الوجوبين.

على أنّ من خصوصيّة لازم الماهيّة أنّ بمجرّد الالتفات إلى الملزوم يتحقّق الالتفات إلى اللازم أيضا ، وهذه الخصوصيّة مفقودة فيما نحن فيه ، فإنّ كثيرا ما تقع المقدّمة مغفولا عنها للمولى فضلا عن الحكم بها.

وإن كان المراد منها أنّ البعث إلى ذي المقدّمة علّة للبعث إلى المقدّمة بحيث يتولّد قهرا من البعث إليه البعث إليها ومن إيجابه إيجابها ، فهو أيضا باطل ؛ لأنّ مقتضى العلّيّة والمعلوليّة عدم انفكاك إيجاب المقدّمة عن إيجاب ذي المقدّمة أصلا ، مع أنّا نرى أنّه ليس كذلك ، فإن احتمل إيجاب المقدّمة من ناحية المولى وعدم إيصاله إلينا قلنا : إنّه لا يمكن الالتزام به في الموالي العرفيّة وجدانا ؛ إذ ربما تكون المقدّمة مغفول عنها لها ، ولا يمكن تعلّق الإيجاب من ناحيتها بالمقدّمة المغفول عنها ، فلا تصحّ هذه الاحتمالات.

وإن كان المراد من البعث المتعلّق بالمقدّمة البعث التقديري ، أي تعلّق الإيجاب من المولى إلى ذي المقدّمة فعلا ، ويتعلّق بالمقدّمة بعد التفاته إلى المقدّميّة ، فهو أوضح فسادا ؛ لأنّ عنوان الملازمة يكون من مصاديق التضايف ، ولا يمكن أن يكون أحد طرفيها أمر وجودي والآخر عدمي ، فإن كان لأحد طرفي الملازمة فعليّة فلا محالة لطرفها الآخر من فعليّة.

١٦٨

وإن كان المراد من الملازمة استلزام الإرادة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة للإرادة المتعلّقة بالبعث إلى المقدّمة ، بمعنى أنّه يتولّد ويترشّح من إرادته إرادة اخرى قهرا بدون أن تكون ناشئة من المبادئ ، فبطلانها أوضح من أن يبيّن كما مرّ مكرّرا ، فإنّ قاعدة احتياج الإرادة إلى المبادئ لا يكون قابلا للتخصيص.

وإن كان بمعنى سببيّة الإرادة المتعلّقة بالبعث إلى ذي المقدّمة لإرادة اخرى ناشئة من المبادئ ، فهو مردود بعد ترتّب الثمرة عليها ، مع أنّ من مبادئ الإرادة التصديق بالفائدة ؛ إذ المولى لا يرى للإرادة فائدة بعد التفات المكلّف إلى المقدّميّة ، فهذا دليل على عدم تحقّق الملازمة.

وأمّا التفصيل بين السبب وغيره ـ أي العلّة التامّة وأجزائها ـ فقد استدلّ على وجوب السبب بأنّ التكليف لا يكاد يتعلّق إلّا بالمقدور ، والمقدور لا يكون إلّا هو السبب ، وإنّما المسبّب من آثاره المترتّبة عليه قهرا ، ولا يكون من أفعال المكلّف وحركاته وسكناته ـ كالإحراق المترتّب على الإلقاء في النار ـ فلا بدّ من صرف الأمر المتوجّه إليه عنه إلى سببه.

ولا يخفى ما فيه ، فإنّه ليس بدليل على التفصيل ، بل على أنّ الأمر النفسي إنّما يكون متعلّقا بالسبب دون المسبّب مع وضوح فساده ؛ ضرورة أنّ المسبّب مقدور للمكلّف ، وهو متمكّن منه بواسطة السبب ، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة ، سواء كانت بلا واسطة أو معها كما لا يخفى.

وأمّا التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره فقد استدلّ على الوجوب في الأوّل بأنّه لو لا وجوبه شرعا لما كان شرطا ، حيث إنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلا أو عادة.

١٦٩

وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي ـ : أنّه لا يكاد يتعلّق الأمر الغيري إلّا بما هو مقدّمة الواجب ، فلو كانت مقدّميّته متوقّفة على تعلّقه بها لدار.

توضيح ذلك : أنّ المراد من قوله : «لما كان شرطا» إن كان عدم الشرطيّة بحسب الواقع ومقام الثبوت ، أي لو لا الوجوب الغيري للوضوء لما كان الوضوء شرطا واقعا ، فمعناه أنّ الشرطيّة الشرعيّة الواقعيّة للوضوء متوقّفة على وجوبه الغيري ، ولا شكّ في أنّ ملاك تعلّق الوجوب الغيري به عبارة عن شرطيّته للصلاة ، وهذا دور واضح.

وإن كان المراد منه عدم الشرطيّة بحسب مقام الإثبات ـ أي لو لا الوجوب الغيري للوضوء ـ لما كان لنا طريق لاستكشاف شرطيّته.

ففيه : أوّلا : أنّ هذا الدليل لا ينطبق على المدّعى ؛ إذ المدّعى عبارة عن تعلّق الوجوب الغيري بالشرائط الشرعيّة بواسطة الملازمة العقليّة ، بخلاف غيرها ، ومفاد الدليل عبارة عن أنّه لا طريق لإثبات الشرطيّة سوى الوجوب الغيري ، والحال أنّا لا نبحث في طرق استكشاف الشرطيّة ، بل نبحث في أنّ بعد إحراز مقدّميّة شيء وشرطيّته هل يلازم وجوب ذي المقدّمة والمشروط مع وجوب المقدّمة والشرط أم لا؟

وثانيا : أنّه يتحقّق لاستكشاف الشرطيّة الشرعيّة طرق متعدّدة ومختلفة ، منها : الأوامر الإرشاديّة ، فقد ذكرنا فيما سبق أنّ الشرائط الشرعيّة والموانع الشرعيّة تستفاد من الأوامر والنواهي الإرشاديّة نوعا ، مثل : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» (١) ، ومثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٣٤٧ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٧.

١٧٠

وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، فإنّ الأوّل يرشد إلى أنّ وبر ما لا يؤكل لحمه مانع من صحّة الصلاة ، والثاني يرشد إلى أنّ تحقّق الصلاة الصحيحة في الخارج يتوقّف على الوضوء.

ومنها : جعل المأمور به مقيّدا بالشرط ، مثل : «صلّ مع الطهارة» فإنّ هذه العبارة متكفّلة لبيان قيديّة الطهارة وشرطيّتها ، مع أنّها خارجة عن دائرة المأمور به بالأمر النفسي.

ومنها : بيان القيديّة بصورة الاستثناء ، مثل : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٢) ، و «لا صلاة إلّا بطهور» (٣).

وثالثا : أنّ مع قطع النظر عمّا ذكرناه وفرض انحصار طريق استكشاف الشرطيّة بالوجوب الغيري لا طريق لنا لاستكشاف الوجوب الغيري ، ومن أين يعلم أنّ الوجوب المتعلّق بالوضوء وجوب غيريّ؟ إذ يحتمل أن يكون قول الشارع مثلا : «توضّأ للصلاة» ظاهرا في الوجوب الإرشادي ، ولذا لا يمكن حمله على الوجوب الغيري قبل إحراز شرطيّته ، فلا بدّ من إحراز شرطيّته أوّلا ، ثمّ حمله على الوجوب الغيري ، وهذا أيضا في الحقيقة يشبه بالدور ، فهذا الدليل ليس بصحيح.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره : تتمّة : لا شبهة في أنّ مقدّمة المستحبّ كمقدّمة الواجب ، فتكون مستحبّة لو قيل بالملازمة بين استحباب ذي المقدّمة واستحباب المقدّمة ، إلّا أنّه فرق بين مقدّمة الواجب ومقدّمة المستحبّ ، في أنّ

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) المستدرك ٤ : ١٥٨ ، الباب ١ من أبواب القراءة في الصلاة ، الحديث ٥.

(٣) الوسائل ١ : ٣١٥ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١.

١٧١

منكر الملازمة يقول بتحقّق رجحان عقلي هاهنا مكان اللابديّة العقليّة في مقدّمة الواجب.

لا يقال : إنّه لا فرق بين الصلاة الواجبة والمستحبّة في وجوب الوضوء فيهما ، فلا يصحّ القول بأنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّ.

لأنّا نقول : إنّه خلط بين الوجوب الشرطي والوجوب الغيري ؛ إذ لا شكّ في أنّ الوجوب المذكور وجوب شرطيّ ، كأنّه قال الشارع : إذا أتيت بصلاة الليل فاعلم أنّ الوضوء شرط لها ، وهذا يرتبط بمرحلة الموضوع وجعل المقدّميّة ، ونحن لا نبحث في هذه المرحلة ، بل نبحث بعد إحراز المقدّميّة والشرطيّة في أنّ استحباب صلاة الليل ملازم لاستحباب الوضوء أم لا ، وعلى القول بالملازمة فهو مستحبّ غيري.

تتمّة : في مقدّمة الحرام

مقدّمة الحرام :

هل تتحقّق الحرمة الغيريّة لمقدّمات الحرام أم لا؟ والأقوال هنا متعدّدة ومتكثّرة.

منها : أنّ كلّ واحد من مقدّمات الحرام يتّصف بوصف الحرمة من باب الملازمة.

ومنها : عدم اتّصافها بالحرمة أصلا.

ومنها : التفصيل بين ما كانت المقدّمة علّة تامّة للحرام بحيث لم تكن إرادة الإنسان أيضا مانعة عن تحقّقه بعدها كالأفعال التوليديّة والتسبيبيّة ، مثل : تحقّق الإحراق بعد الإلقاء في النار ، وبين ما لم تكن كذلك ، بل يتمكّن المكلّف مع فعلها من ترك الحرام ، فإن كانت المقدّمة من قبيل القسم الأوّل تكون

١٧٢

حراما ، وإن كانت من قبيل القسم الثاني فلا تكون حراما ، إلّا أنّ مقدّمات الحرام كثيرا ما تكون من قبيل القسم الثاني ، والقائل بهذا القول هو صاحب الكفاية قدس‌سره (١).

ومنها : أنّ مقدّمة الحرام إن كانت موصلة إلى الحرام نستكشف أنّها كانت حراما ، وإن لم تكن موصلة ولم يترتّب عليها ذو المقدّمة ولو بإعراض المكلّف عنه باختياره فنستكشف عدم حرمتها.

ومنها : أنّ المكلّف إذا قصد بالمقدّمة التوصّل إلى ذي المقدّمة فهي حرام ، وإن لم يترتّب عليها ذو المقدّمة ، وأمّا إذا لم يقصد بها التوصّل إليه فهي ليست بحرام ، وإن ترتّب عليها ذو المقدّمة أحيانا.

وأمّا المحقّق الخراساني قدس‌سره بعد قوله بوجوب مطلق المقدّمة في مقدّمة الواجب فقد استدلّ للتفصيل المذكور هنا بأنّ متعلّق غرض المولى ومطلوبه في باب الواجب عبارة عن وجود المأمور به وتحقّقه خارجا ، وإذا لاحظناه مع المقدّمات نرى أنّه يرتبط بوجود كلّ واحدة من المقدّمات ، بحيث إن لم يتحقّق أحد منها لم يتحقّق المأمور به ، ولذا يتّصف كلّ واحدة منها بالوجوب الغيري من باب الملازمة ، ولكن مطلوب المولى في ناحية المحرّمات عبارة عن ترك الحرام. وإذا لاحظناه مع المقدّمات فهو لا يتوقّف على ترك جميع المقدّمات ، بخلاف الواجب ، بل هو يتوقّف على ترك إحدى المقدّمات. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المكلّف في غير الأفعال التوليديّة ـ يعني أكثر المحرّمات بعد الإتيان بجميع مقدّمات الحرام ـ يكون مختارا في فعل الحرام وتركه ، فإنّ الجزء الأخير لعلّته التامّة عبارة عن الإرادة ، وهي مكمّلة لها ، فلا بدّ من كونها

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٥.

١٧٣

محكومة بحكم الحرمة ، ولكن قد أثبتنا سابقا أنّها أمر غير اختياري ، ولا يتعلّق بها الحكم أصلا ولو كان غيريّا.

وأشكل عليه سيّدنا استاذنا السيّد قدس‌سره (١) بأنّ الإرادة لا تكون جزء أخيرا للعلّة في الأفعال الاختياريّة أيضا ، بل هي وقعت في مرحلة متقدّمة على المقدّمات المتعدّدة ، فتكون جميع الأفعال كالأفعال التوليديّة في ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة بلا فصل بينهما ، فإذا حرم الشرب الإرادي يتوقّف تحقّقه على الشرب والإرادة المتعلّقة به ، فمع إرادة الشرب يتحقّق جزء من الموضوع ، وجزؤه الآخر يتوقّف على أفعال اختياريّة مثل : أخذ إناء الماء وجعله محاذيا للفم ، ومنها : تحريك عضلات الحلقوم وقبضها حتّى يتحقّق البلع ، والجزء الأخير لتحقّق الشرب هو هذا الفعل الاختياري ، فتتعيّن الحرمة فيه بعد تحقّق سائر المقدّمات ، فلا بدّ من تعلّق الإرادة بذي المقدّمة أوّلا ثمّ ترشّحها وتعلّقها بالمقدّمات واحدة بعد اخرى ، فكيف تكون الإرادة الجزء الأخير للعلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة؟!

ويمكن أن يقال : إنّ إيجاد المقدّمة الأخيرة ليس إلّا عن إرادة ، فثبت ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

وجوابه : أوّلا : أنّا نبحث في الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة بأنّها تكون الجزء الأخير للعلّة أو متقدّمة على سائر المقدّمات ، ومتعلّق الجزء الأخير من العلّة عبارة عن إرادة مقدّمي.

وثانيا : أنّه لا بدّ في الأفعال التوليديّة ـ كالإلقاء في النار ـ أيضا من الإرادة المقدّمي ، فكما أنّ الجزء الأخير في الأفعال الاختياريّة يحتاج إلى الإرادة كذلك

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٢٨٢.

١٧٤

في الأفعال التوليديّة يحتاج إليها ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية ، وإذا اتّصفت مقدّمة الأخير بالحرمة فلا بدّ من كونها في كليهما كذلك.

ولا يخفى أنّ بيان الإمام قدس‌سره مع صحّته ودقّته يحتاج إلى تبصرة بأنّه تتحقّق لنا موارد لا فاصلة بين الإرادة والمراد ، كما إذا كانت العلّة التامّة لتحقّق المراد عبارة عن نفس الإرادة ، مثل : غمض العين وفتحها وحركة اليد وأمثال ذلك ، فما قال به من تحقّق الفاصلة بين الإرادة والمراد صحيح ، ولكنّه لا بصورة الموجبة الكلّيّة ، ولذا قال المشهور في تعريف الإرادة : أنّها عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات نحو المراد ، ومعلوم أنّها إذا تعلّقت بنفس تحريك العضلات لا يتحقّق بينهما فاصلة.

والمحقّق الحائري قدس‌سره (١) فصّل بين ما يكون العنوان بما هو مبغوضا من دون تقييد بالاختيار وإن كان له دخل في استحقاق العقاب ، مثل : قتل النفس ، وبين ما يكون المبغوض الفعل الصادر عن إرادة واختيار ، ففي الأوّل تكون إحدى المقدّمات لا بعينها محرّمة ، إلّا إذا وجد باقي الأجزاء وانحصر اختيار المكلّف في واحدة منها فتحرم عليه هذه الباقية بعينها ، وفي الثاني لا تتّصف الأجزاء الخارجيّة بالحرمة ؛ لأنّ العلّة التامّة للحرام هي المجموع المركّب منها ومن الإرادة ، ولا يصحّ إسناد الترك إلّا إلى عدم الإرادة ؛ لأنّه أسبق رتبة من سائر المقدّمات الخارجيّة. انتهى.

ولازم كلامه في القسم الأوّل أنّ المقدّمة إن كانت منحصرة بمقدّمة واحدة فهي تتّصف بالحرمة الغيريّة بعنوان العلّة التامّة للحرام ، وأمّا في القسم الثاني إن كانت الإرادة عنده من الامور الاختياريّة فهي تتّصف بالحرمة الغيريّة ،

__________________

(١) درر الفوائد : ١٣٠ ـ ١٣٢.

١٧٥

وإن كانت من الامور الغير الاختياريّة عنده فهي لا تتّصف بالحرمة الغيريّة بلحاظ عدم قابليّتها لتعلّق التكليف بها ، وسائر المقدّمات لا تكون محرّمة بلحاظ عدم استناد الحرام إليها.

هذا ، وأورد عليه استاذنا السيّد (١) بأنّ لازم العنوان الذي ذكره قدس‌سره للقسم الثاني خروج الإرادة عن رديف سائر المقدّمات ودخولها في دائرة ذي المقدّمة وتعلّق الحرمة النفسيّة بها ، فإنّه عبارة عن فعل كان للإرادة دخل في مبغوضيّته ؛ بحيث إن وقع لا عن إرادة لا يتحقّق مبغوضا للمولى كشرب المسكر مثلا.

ولكنّه ليس بوارد عليه ؛ لأنّ دخالة الإرادة في المبغوضيّة قد تكون بصورة الجزئيّة ، مثل : قول المولى بأنّ شرب المسكر وإرادته معا حرام ، وقد تكون بصورة القيديّة كقوله : «شرب المسكر الصادر عن إرادة حرام» ، وليس معناه أن تكون الإرادة جزء المنهي عنه والمحرّم ، بل هي خارجة عن دائرة الحرام النفسي ، والتقيّد بها جزء له.

والحاصل : أنّ نتيجة البحث في مقدّمة الحرام أنّا ننكر الملازمة رأسا كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب. نعم ، قد تكون حرمتها بعنوان التجرّي ، وعلى فرض تسليم الملازمة يكون المحرّم هو الجزء الأخير للعلّة التامّة ، وهو قد يكون عبارة عن الإرادة ، وقد يكون عبارة عن غيرها كما مرّ بيانه.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٢٨٣.

١٧٦

الفصل الخامس

في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه ، وعدمه

هل يقتضي الأمر بالشيء النهي عن ضدّه أم لا؟ عنونت المسألة بهذه الكيفيّة في كلمات الاصوليّين ، فالمحقّق النائيني قدس‌سره (١) ذكر قبل الورود في البحث امورا بعنوان المقدّمة ، وهي :

الأوّل : أنّه لا إشكال في أنّ المسألة من المسائل الاصوليّة ؛ لأنّ ملاك الاصوليّة ـ أي وقوع نتيجتها في طريق الاستنباط ـ متحقّق فيها ؛ بأنّ القائل بالاقتضاء يقول بأنّ الصلاة الواجبة إذا تزاحمت مع واجب أهمّ ـ كالإزالة ـ تصير منهيّا عنها ومحرّمة ، وهذا حكم فرعي كلّي. والقائل بعدم الاقتضاء يقول بأنّ الصلاة في مقام المزاحمة مع واجب أهمّ لا تكون محرّمة ولا منهيّا عنها ، وهذا أيضا حكم فرعيّ كلّي.

والظاهر أنّ مراده لا يكون انحصار المسألة بالاصول ؛ إذ يمكن أن تكون المسألة مسألة لغويّة ؛ بأنّ الأمر بالشيء لغة عين النهي عن ضدّه أم لا؟ أي الواضع حين وضع هيئة «افعل» للدلالة على الوجوب كان مراده وجوب الشيء فقط أو حرمة تركه أيضا ، ولذا مرّ في ابتداء البحث أنّه لا مانع من

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٣٠١.

١٧٧

تداخل علمين في بعض المسائل.

الأمر الثاني : أنّ هذه المسألة ليست من المباحث اللفظيّة ؛ لوضوح أنّ المراد من الأمر العنوان الأعمّ من اللفظي واللبّي المستكشف من الإجماع ونحوه ، بل هي من المباحث العقليّة ، وذكرها في المباحث اللفظيّة لكون الغالب في الأوامر كونها لفظيّة.

الأمر الثالث : أنّ المراد من الاقتضاء في العنوان الأعمّ من كونه على نحو العينيّة ، وما يعبّر عنه بالدلالة المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ.

ولكنّه يتحقّق هاهنا إشكالان ، والأوّل مختصّ بكلام النائيني قدس‌سره ، والثاني مشترك بين كلام النائيني والمحقّق الخراساني قدس‌سرهما.

أمّا الإشكال الأوّل فهو : أنّ بين كلامه في الأمر الأوّل وكلامه في الأمر الثاني تهافتا ، فإنّ القول بعقليّة المسألة في الأمر الأوّل والقول بشمول كلمة «الاقتضاء» للدلالات الثلاث اللفظيّة لا يكون قابلا للاجتماع معا ، ولذا مرّ في ابتداء بحث مقدّمة الواجب من صاحب الكفاية قدس‌سره أنّ صاحب المعالم قائل بلفظيّة هذه المسألة بلحاظ نفيه الدلالات الثلاث في مقام نفي الملازمة.

وأمّا الإشكال الثاني فهو : أنّ شمول كلمة «يقتضي» للعينيّة والجزئيّة ، والتضمّن ينافي معناه الحقيقي ، فإنّ معناه وجميع مشتقّاته عبارة عن التأثير والتأثّر ؛ إذ المؤثّر الأصلي والموجد في أجزاء العلّة التامّة بعد وجدان الشرط وفقدان المانع هو المقتضي ، فما يعتبر في معناه الحقيقي عبارة عن خصوصيّتين : الاولى : أنّه يستعمل فيما تحقّق فيه أمران متغايران ، والثانية : أن يكون أحد الأمرين مؤثّرا في الآخر ، مثلا : النار شيء والإحراق شيء آخر ، ولا يعقل

١٧٨

القول بأنّهما شيء واحد ، ولا شكّ في أنّ كلمة «يقتضي» لا تستعمل فيما نحن فيه بمعناه الحقيقي ؛ إذ لا يكون بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه العلّيّة والمعلوليّة والتأثير والتأثّر ، فإنّهما أمران اعتباريّان ، فلا بدّ من استعماله بعنوان المجاز.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ استعمال اللفظ في غير الموضوع له يحتاج إلى العلاقة ، سواء كان المجاز بمعنى المشهور أو بالمعنى الذي اختاره الإمام قدس‌سره أي جعل المعنى المجازي مصداقا ادّعائيّا للمعنى الحقيقي ، فكيف يمكن ادّعاء العينيّة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه؟ واستعمال كلمة «يقتضي» هاهنا مع فقدان كلتا الخصوصيّتين المعتبرتين في معناه الحقيقي ، ففي مورد العينيّة لا يكون مجوّزا ومصحّحا لاستعمال كلمة «الاقتضاء». وهكذا إن كانت كلمة «يقتضي» بمعنى التضمّن ـ أي النهي عن الضدّ يكون بعض مدلول الأمر بالشيء ـ فلا يصحّ استعماله ولو مجازا ، ولا يصحّ القول بأنّ الكلّ مقتض لجزئه ؛ إذ يشترط في الاقتضاء المغايرة ، والجزء والكلّ مشتمل أحدهما للآخر وليس بمتغايرين.

والحقّ أنّ كلمة «يقتضي» لا تكون بمعنى العينيّة والجزئيّة أصلا ، فإنّ معنى العينيّة في المثال أنّ ما يفهم من الأمر بالإزالة عين ما يفهم من النهي عن الصلاة ، مع أنّه لا يتبادر منه أصلا ، بل لا يصحّ هذا المعنى بالنسبة إلى الضدّ العامّ ـ يعني ترك الإزالة ـ فضلا عن الضدّ الخاصّ ، فادّعاء العينيّة واضح البطلان. وهكذا ادّعاء الجزئيّة.

وما قاله في المعالم : من أنّ الوجوب هو طلب الفعل مع المنع عن الترك (١) فهو مخدوش : أوّلا : بأنّه على فرض صحّته في الضدّ العامّ لا يصحّ في الضدّ

__________________

(١) معالم الدين : ٦٣.

١٧٩

الخاصّ.

وثانيا : أنّه لا يصحّ في الضدّ العامّ أيضا ؛ إذ العرف لا يفهم من الوجوب سوى المعنى البسيط ، ولا ينتقل الذهن عند سماع كلمة الوجوب وهيئة «افعل» إلى المنع عن الترك ، فإن كان هو جزء معناه فلا بدّ من الانتقال إليه ، فهذا القول أيضا واضح البطلان ، فلا بدّ لنا إمّا من الالتزام بخروج هذين القولين عن محلّ النزاع ، وإمّا تبديل كلمة «يقتضي» بكلمة «يدلّ» أو يكشف في عنوان المسألة ، حتّى يشمل العينيّة والجزئيّة والالتزام.

وعلى القول بخروج هذين القولين وبقاء كلمة «يقتضي» في العنوان يرفع الإشكال من حيث اعتبار التعدّد والمغايرة في مورد استعماله ، ولكن يبقى الإشكال من حيث عدم تحقّق الخصوصيّة الثانية المعتبرة فيه ، أي السببيّة والمسبّبيّة.

وإن قلت : إنّه لا مانع من استعماله هاهنا استعمالا مجازيّا.

قلنا : سلّمنا أنّ للاستعمالات المجازيّة مع كثرتها محسّنات لا تتحقّق في الاستعمالات الحقيقيّة ، إلّا أنّه لا يناسب الاستفادة منها في عناوين المسائل ، سيّما في عنوان ما نحن فيه الذي تترتّب عليه ثمرات متعدّدة فقهيّة وإن تحقّق الاستعمال المجازي مجوّزا ومصحّحا ، ولذا لا تصحّ الاستفادة من الاستعمال المجازي في ألفاظ المعاملات كالنكاح والطلاق ونحو ذلك.

ويمكن أن يقال : إنّ كلمة «يقتضي» تستعمل هاهنا استعمالا حقيقيّا ؛ بأنّ الخصوصيّة المغايرة متحقّقة لا شبهة فيه ، وأمّا الخصوصيّة المعتبرة الثانية ـ أي السببيّة والمسبّبيّة ـ أيضا متحقّقة ؛ لأنّ القائل بالاقتضاء يقول في باب الضدّين بأنّ عدم الضدّ مقدّمة للضدّ الآخر ، فعدم الإتيان بالصلاة من مقدّمات الإزالة ،

١٨٠