دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

فصل

في الاستثناء المتعقّب لجمل

هل الظاهر من الاستثناء الواقع عقيب الجمل المتعدّدة هو رجوعه إلى الكلّ أو خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في واحد منهما ، فيصير الكلام مجملا بالإجمال المردّد بين الأقلّ والأكثر ، مع أنّ الرجوع إلى الأخيرة هو القدر المتيقّن فلا بدّ في التعيين من قرينة؟ فيه أقوال ، ولكن لا بدّ لنا في الابتداء البحث عن إمكان رجوعه إلى الجميع وعدمه ثبوتا ، وإن كان بحسب هذا المقام ممتنعا ، فلا تصل النوبة إلى مقام الإثبات.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : وإن كان المتراءى من كلام صاحب المعالم رحمه‌الله (٢) حيث مهّد مقدّمة لصحّة رجوعه إليه : أنّه محلّ الإشكال والتأمّل ، مع أنّه لا إشكال في صحّة رجوعه إلى الكلّ في هذا المقام.

والحال أنّه قيل باستحالته بأنّ الاستثناء قد يقع بأداة الاستثناء ، مثل : كلمة «إلّا» ، وقد يقع بغيرها سواء كان اسما ، مثل : «جاءني القوم باستثناء زيد» ، أو فعلا ، مثل : «جاءني القوم» واستثنى منه زيدا.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.

(٢) معالم الدين : ١٢٢ ـ ١٢٥.

٥٤١

وهكذا في المستثنى فإنّه قد يكون عامّا ذا أفراد متعدّدة ، مثل : «أكرم الفقهاء والاصوليّين والمفسّرين إلّا الفسّاق منهم» ، وقد يكون فردا واحدا مع صدق كلّ واحد من المستثنى منه عليه ، مثل : «أكرم العلماء وأهن الفسّاق وأضف كلّ هاشميّ إلّا زيدا» ، مع كونه مجمع كلّ العناوين المذكورة ، فيجب إكرامه بما أنّه عالم ، ويجب إهانته بما أنّه فاسق ، وتجب ضيافته بما أنّه هاشميّ ، وقد يكون المستثنى فردا يصدق على أفراد متعدّدة بتعداد المستثنى منه ، مثل : «أكرم الفقهاء والنحويّين والاصوليّين إلّا زيدا» ، ووجد المسمّى ب «زيد» في كلّ واحد من العناوين ، ومعلوم أنّ هذا النزاع يجري فيما كان المستثنى صالحا للرجوع إلى الكلّ ، لا في مثل ما إذا وجد المسمّى ب «زيد» في واحد من العناوين المذكورة لا في جميعها.

ثمّ قال : إنّ الاستثناء إن كان بغير الحرف من الاسم والفعل فلا يمكن ارتباطه بجميع الجمل ؛ لأنّه مستلزم لاستعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد ، وهو أمر مستحيل ؛ بأنّ كلمة الاستثناء أو «استثنى» وضعت لإخراج واحد ، واستعمالها في الإخراج المتعدّد بلحاظ تعدّد المخرج عنه ممتنع.

وإن كان الاستثناء بأداة الاستثناء والحرف فقد مرّ أنّ الوضع في باب الحروف عامّ ، والموضوع له فيها خاصّ ، فكلمة «إلّا» وضعت لخصوصيّة خاصّة ، فكيف يمكن استعمالها في خصوصيّات متعدّدة؟! واستحالته واضحة.

ويتحقّق في بعض الصور استحالة اخرى بالنسبة إلى المستثنى كما في قولنا : «أكرم الفقهاء والاصوليّين والمفسّرين إلّا زيدا» بعد تحقّق المسمّى ب «زيد» في جميع العناوين وكون كلمة «زيد» علما لشخص واحد من حيث الوضع ، فإن خرج بها جميع المسمّيات يكون استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى

٥٤٢

واحد ، وهو مستحيل ، إلّا أنّ وحدة الاستحالة وتعدّدها لا يوجب الفرق في أصل الاستحالة.

والتحقيق : أنّ هذا الكلام ليس بتام ؛ إذا فيه :

أوّلا : أنّ استحالة استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد مبنائي ، وقد أنكرناها ، خلافا للمحقّق الخراساني قدس‌سره ، وقلنا : إنّ وقوعه في المحاورات المتداولة والاستعمالات العرفيّة لا يكون قابلا للإنكار ، فإنّ لفظ «من» ـ مثلا ـ وضع لألف ألف معنى بوضع واحد ، فهو مشترك لفظي بين المعاني المتعدّدة ، مع أنّ الوضع في باب الحروف عامّ ، والموضوع له خاصّ ، ولكن يستعمل لفظ «من» في كثير من الموارد في أكثر من معنى واحد ، كما لو قال المولى لعبده : «اخرج من قم» ، ويمكن له امتثال هذا الأمر خارجا بخروجه من أيّ باب من أبواب البلد ، ومعلوم أنّ هذا استعمال للفظ في أكثر من معنى واحد ، وهكذا في سائر الاستعمالات العرفيّة.

وثانيا : أنّه على فرض صحّة هذا المبنى واستحالة استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد فلا يكون ما نحن فيه من مصاديقه ، فإنّ الاستثناء سواء كان بالحرف أو بغيره لا يكون الإخراج فيه متعدّدا ؛ إذ لا ملازمة بين تعدّد المخرج عنه والإخراج ، كما أنّه لا ملازمة بين تعدّد المخرج والإخراج ، ففي قولنا : «أكرم الفقهاء والاصوليّين والمفسّرين إلّا الفسّاق» يخرج الفسّاق من كلّ العناوين بإخراج واحد.

نعم ، إن كان المستثنى لفظ «زيد» وتحقّق في جميع العناوين المسمّى به فنسلم هنا استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، ولكن لا مانع من كونه بمعنى المسمّى ب «زيد» ، وهو كلّي ذو أفراد متعدّدة ، وإن كان هذا خلاف

٥٤٣

الظاهر إلّا أنّ البحث يكون في مقام الثبوت وطريق التخلّص من الاستحالة ، ولا محلّ لمسألة الظاهر وخلافه في هذا المقام ، فترفع الاستحالة بهذا الطريق ، ولذا لا بدّ لنا من البحث في مقام الإثبات ، وتحصل هنا كما ذكرنا ثلاثة احتمالات ، والمحقّق النائيني قدس‌سره (١) قائل بالتفصيل ، وهو متفرّع على الأمرين المسلّمين عنده :

الأوّل : أنّ كلّ قضيّة مشتملة على قضيّتين : إحداهما ترتبط بالموضوع ويعبّر عنها بعقد الحمل ، فمعنى «الإنسان ضاحك» أنّ كلّ شيء له الإنسانيّة كان له الضاحكيّة.

الثاني : أنّ الاستثناء يرتبط بعقد الوضع ، ففي مثل : «جاءني القوم إلّا زيدا» يرجع الاستثناء إلى القوم ؛ إذ يكون له عنوان عقد الوضع ، وللمجيء عنوان عقد الحمل ، كأنّه يقول : «القوم إلّا زيدا جاءني».

ثمّ قال : إذا كانت الجمل المتقدّمة متّحدة في عقد الوضع ومختلفة في عقد الحمل ، مثل قولنا : «أكرم العلماء وسلّم عليهم وأضفهم إلّا الفسّاق منهم» ، فلا بدّ من الالتزام برجوع الاستثناء إلى الجميع ، بلحاظ وحدة عقد الوضع في الجميع وارتباط الاستثناء به ، وإذا كانت الجمل متّحدة في عقد الحمل ومختلفة في عقد الوضع ، مثل قولنا : «أكرم الفقهاء والاصوليّين والمفسّرين إلّا الفسّاق منهم» ، فالظاهر أنّه يرجع إلى الأخيرة ؛ إذ لا وجه ولا ضرورة بعد رجوعه إلى الأخيرة بالإرجاع إلى سائر الجمل. هذا تمام كلامه قدس‌سره.

والتحقيق : أنّ الأمر الأوّل من الأمرين المذكورين ممّا لا شبهة فيه كما ثبت في محلّه ، ولكنّ الأمر الثاني منهما ليس بصحيح ، فإنّ القضيّة المشتملة على

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٥٥٤ ـ ٥٥٥.

٥٤٤

الاستثناء متضمّنة لحكمين : أحدهما سلبي والآخر إيجابي ؛ إذ الاستثناء من الإيجاب سلب ، ومن السلب إيجاب ، وإن قلنا : بارتباط الاستثناء بعقد الوضع يرجع مثل : «جاءني القوم إلّا زيدا» إلى القضيّة الوصفيّة ، بمعنى أنّ القوم المتّصفين بأنّهم غير «زيد جاءني» ، فلا بدّ إمّا من الالتزام بعدم تعرّض حكم «زيد» أصلا هاهنا ، وإمّا من الالتزام بالمفهوم في القضيّة الوصفيّة ، واستفادة حكم مجيء القوم من المنطوق وحكم عدم مجيء زيد من المفهوم ، وكلاهما مردودان.

ففي هذا المثال بلحاظ أنّ الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس ، والنفي والإثبات يرتبطان بعقد الحمل يرجع الاستثناء إلى عقد الحمل ، والتفصيل المذكور ليس بصحيح.

والحقّ في المسألة بعد إضافة الفرض الثالث إلى الفرضين المذكورين في كلام النائيني قدس‌سره وهو أن تكون الجمل مختلفة في عقد الوضع وعقد الجمل معا ، كقولنا : «أكرم الفقهاء وأهن الفسّاق وأضف الهاشميين إلّا زيدا» وتحقّق المسمّى ب «زيد» في جميع العناوين.

وبعد أنّ المستثنى قد يكون اسم ظاهر مثل : «إلّا زيدا» ، وقد يكون العنوان العامّ المشتمل على الضمير ، وأنّ البحث في مقام الإثبات يدور مدار ظهور الألفاظ عرفا ولا يدور مدار البرهان.

فإذا كان عقد الوضع في الجمل واحدا مع وجود الضمير في المستثنى ، مثل : «أكرم العلماء وسلّم عليهم وأضفهم إلّا الفسّاق منهم» ، يرجع الاستثناء إلى مرجع الضمائر ، وهو الاسم الظاهر المذكور في الجملة الاولى بعد كون تكرار عقد الوضع في الجمل الثانية والثالثة مع وحدته في الجميع مغايرا للاستعمالات

٥٤٥

المتداولة ، بل ذكره فيها مع الضمير متداول ، فلا محالة يرجع الاستثناء إلى الجميع ، ولا يجوز إرجاعه إلى الأخيرة فقط عرفا.

وهكذا إن كان عقد الحمل واحدا وعقد الوضع متعدّدا والمستثنى مشتملا على الضمير ، مثل : «أكرم الفقهاء والاصوليّين والمفسّرين إلّا الفسّاق منهم» ، بلحاظ ارتباط الاستثناء بعقد الحمل ، وهو في الجميع واحد. ولا يجوز رجوعه إلى الأخيرة ؛ إذ الظاهر عند العرف الرجوع إلى الجميع.

وإذا كان عقد الحمل وعقد الوضع كلاهما متعدّدا ، والمستثنى مشتملا على الضمير مثل : «أكرم الفقهاء وسلّم على المفسّرين وأضف الهاشميّين إلّا الفسّاق منهم» ، يكون الكلام فاقدا للظهور ، فيصير مجملا ، ولكنّ الرجوع إلى الأخيرة قطعيّ بعنوان القدر المتيقّن لا بعنوان ظهوره فيها.

وأمّا إذا كان المستثنى من العناوين العامّة غير المشتملة على الضمير فلا بدّ من الالتزام بتحقّق الضمير بحسب الواقع ، وإنّما لم يذكر في الكلام اتّكالا على الوضوح وعدم الاحتياج إليه ، وإلّا يصير المستثنى منقطعا ، وهو على فرض تجويزه خلاف الظاهر ، ويتصوّر في هذا الفرض أيضا الصور الثلاثة المذكورة ـ أي كون عقد الحمل واحدا وعقد الوضع متعدّدا ، وبالعكس ، وكونهما متعدّدين ـ وفي الصورتين الاوليين الظاهر رجوع الاستثناء إلى الجميع وإجمال الكلام في الصورة الثالثة ، فكان المستثنى في الصور الستّ المذكورة عنوانا كلّيا.

وقد عرفت إلى هنا أنّ حكم صاحب الكفاية قدس‌سره بإجمال الكلام بعنوان الكلّي ليس بصحيح.

وأمّا إذا كان المستثنى علما فحينئذ قد يكون المسمّى ب «زيد» واحدا ومجمعا للعناوين المذكورة بعنوان المستثنى منه ، وقد يتحقّق في كلّ عنوان

٥٤٦

من يكون مسمّى ب «زيد» ، ففي الصورة الاولى قد يكون عقد الحمل في جميع الجمل واحدا ، مثل : «أضف العلماء والفقراء والهاشميّين إلّا زيدا». ويرجع الاستثناء هاهنا إلى الجميع بلحاظ ارتباطه بعقد الحمل الذي ذكر في صدر الكلام ، فلا يجب ضيافة «زيد» بأيّ عنوان من العناوين.

وقد يكون عقد الحمل متعدّدا مثل : «أكرم العلماء وسلّم على الهاشميّين وأطعم الفقراء إلّا زيدا» ، ولا دليل لرجوعه إلى الجميع في هذه الصورة ؛ إذ لا ظهور للكلام ، بل الرجوع إلى الأخيرة يكون القدر المتيقّن وإلى ما عداها مشكوكا ، وهذا ما يعبّر عنه بالإجمال.

وفي الصورة الثانية ـ أي صورة تحقّق المسمّى بزيد في جميع العناوين ـ إذا كان عقد الحمل واحدا مثل : «أضف العلماء والفقراء والهاشميّين إلّا زيدا» فيبتني الحكم هنا على المسألة الاخرى ، وهي مسألة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، ويتحقّق في أصل هذه المسألة ثلاثة أقوال : الأوّل : القول بالاستحالة والامتناع كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، الثاني : القول بعدم الجواز عرفا ولغة ، الثالث : القول بالجواز ووقوعه كثيرا ما في الاستعمالات المتداولة مثل استعمال الحروف في مقام الإنشاء.

فعلى القول بالاستحالة لا بدّ من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة في المثال ، وإلّا يلزم استعمال لفظ «زيد» في أكثر من معنى واحد ، وهذا مستحيل ، فتتحقّق قرينة عقليّة على خلاف ظهور رجوع الاستثناء إلى الجميع ، وهكذا على القول بعدم الجواز ؛ لكون عدم الجواز من الواضع قرينة لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة.

ويمكن أن يقال : إنّ المستثنى في المثال استعمل في المعنى العامّ والكلّي بصورة

٥٤٧

المجاز ، وهو المسمّى ب «زيد» كأنّه قال من الابتداء : «أضف العلماء والفقراء والهاشميّين إلّا من كان مسمّى ب «زيد» من هذه العناوين الثلاثة» ، فلا استحالة في البين ولا عدم الجواز ، ويرجع الاستثناء إلى الجميع بلا إشكال ، فيدور الأمر بين ظهورين : أحدهما : ظهور الاستثناء في الرجوع إلى الجميع بلحاظ ارتباطه بعقد الحمل الذي ذكر في صدر الكلام ، ولازم ذلك استعمال لفظ «زيد» في المسمّى ب «زيد». والآخر : ظهور لفظ «زيد» في معناه الحقيقي وهو شخص واحد ، وإن لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر يصير الكلام مجملا.

وأمّا على القول بالجواز الذي هو المختار فيرجع الاستثناء إلى جميع الجمل بلحاظ ظهور الاستثناء بالرجوع إلى عقد الحمل ، وهذا قرينة على استعمال لفظ «زيد» في كلّ من يسمّى ب «زيد» من العناوين الثلاثة المذكورة.

نعم ، إن كان عقد الحمل أيضا متعدّدا ، مثل : «أضف العلماء وأطعم الفقراء وسلّم على الهاشميّين إلّا زيدا» فلا بدّ من الالتزام بالإجمال ؛ إذ لا دليل على رجوع الاستثناء إلى الجميع ؛ لارتباطه بعقد الحمل ، وما هو المتيقّن الرجوع إلى الأخيرة ، وما عداها محلّ شكّ.

إنّما الكلام في موارد الحكم بالإجمال ، ويمكن أن يتوهّم أنّ المتكلّم إذا قال : «أكرم العلماء وأطعم الفقراء وسلّم على الهاشميّين إلّا الفسّاق منهم» فيكون رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة ممّا لا شبهة فيه ، ولكن بالنسبة إلى سائر الجمل لا بدّ من الرجوع إلى أصالة العموم بلحاظ الشكّ في تخصيصها مثل سائر موارد الشكّ في التخصيص. وهكذا في سائر موارد الحكم بالإجمال.

ولكنّه ليس بصحيح ؛ لكون أصالة العموم من الاصول العقلائيّة ، ويصحّ

٥٤٨

التمسّك بها في الموارد التي احرز رجوع العقلاء إليها ، ولا يصحّ التمسّك بها في موارد اليقين أو الشكّ بعدم رجوعهم إليها ، فإذا قال المولى : «أكرم العلماء» ـ مثلا ـ وشككنا في وجود الدليل المتّصل أو المنفصل بعنوان المخصّص فلا شكّ في تمسّك العقلاء بأصالة العموم بعد الفحص واليأس منه ، بخلاف ما نحن فيه ؛ لاكتناف الكلام بما يصلح للمخصّصيّة ، ولكن اتّكال المتكلّم عليه مشكوك لنا ، فإنّ اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة غير معلوم لنا ، وفي مثل هذا المورد لم يحرز تمسّك العقلاء بأصالة العموم ، ولا أقلّ من الشكّ في تمسّكهم بها ، وهذا يكفي لعدم صحّة تمسّكنا بها هاهنا ، فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة ، وهي عبارة عن الاستصحاب ، وفي صورة عدم جريانه تجري البراءة ، وهكذا إن كان الحكم المذكور في المستثنى منه حكما تحريميّا. هذا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في موارد الإجمال مع توضيح ، وهو الحقّ على المختار.

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) يقول في مقام تثبيت أصالة العموم : إنّ مراد المتكلّم بعد ذكر الاستثناء الواحد لا يخلو من الحالين ؛ إمّا يرتبط الاستثناء بنظره بالجملة الأخيرة ، وإمّا يرتبط بالجميع ، وعلى الأوّل لا إشكال في أنّ عموم الجملة الاولى والثانية محفوظ ، وعلى الثاني لا يمكن إيصال المتكلّم إلى غرضه ومراده ، فإنّه إذا ذكر «إلّا الفسّاق» عقيب الجملة الأخيرة يأخذ الاستثناء محلّه ، يعني يوجد الارتباط مع الجملة الأخيرة ، فهذه العبارة لا تكون قابلة للجمع مع إرادة رجوع الاستثناء إلى الجميع ، فنستكشف من هذا التعبير أنّ مراده رجوع الاستثناء إلى الأخيرة ، فتبقى الجملة الاولى والثانية بعمومها.

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٤٩٧.

٥٤٩

وجوابه : أنّ هذا البيان صحيح إن كان المتكلّم في مقام بيان تمام مراده ، لا في مقام الإجمال الذي معناه تعلّق غرض المتكلّم بعدم بيان كلّ المراد ، بل يكون في صدد بيان بعض المراد ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، فكيف لا يمكن إيصال المتكلّم إلى غرضه والمفروض أنّه لا ظهور للاستثناء في الجملة الأخيرة؟! فهذا البيان ليس بصحيح.

٥٥٠

فصل

في تخصيص العامّ الكتابي بخبر الواحد

وقع الاختلاف في تخصيص عمومات الكتاب وتقييد مطلقاته بالخبر الواحد المعتبر ، وقال أكثر العلماء بجوازه ، وقال بعضهم بعدم جوازه ، وتوقّف البعض الآخر بعد أن قال : «لا إشكال في تخصيصها بالخاصّ الكتابي وبخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة وبالخبر المتواتر» (١).

واستدلّ للجواز : أوّلا : بأنّه قد استقرّت سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب ، مع اتّصال هذه السيرة بزمان الأئمّة عليهم‌السلام الكاشفة عن رضاهم بذلك ، ولذا نرى في الكتب الفقهيّة تخصيص عمومات الكتاب نظير (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) بمثل : «نهى النبيّ عن بيع الغرر» (٣) ، وأمثال ذلك.

وثانيا : بأنّ دائرة حجّيّة خبر الواحد لو كانت منحصرة بما لا يكون في مقابله عموم الكتاب للزوم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ؛ ضرورة أنّ خبر

__________________

(١) انظر : معالم الدين : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) المائدة : ١.

(٣) الوسائل ٧ : ٤٤٨ ، الباب ٤٠ من أبواب آداب التجارة ، الحديث ٣.

٥٥١

الواحد الذي لا يكون مخالفا لعموم الكتاب ، إمّا معدوم وإمّا نادر وهو كالمعدوم ؛ إذ الأخبار متضمّنة لبيان الأمر الزائد على عمومات الكتاب ، إذ تستفاد الأجزاء والشرائط وخصوصيّات العبادات والمعاملات منها ، ولغويّتها تستلزم تعطيل أكثر الأحكام مع توصية الأئمّة عليهم‌السلام بحفظها وضبطها ومراقبتها.

ويمكن أن يقال بأنّ العامّ الكتابي قطعيّ الصدور وخبر الواحد ظنّي الصدور ، فكيف يمكن تخصيصه به؟!

وجوابه يحتاج إلى توضيح فيقال بأنّ المولى إذا قال لعبده : «أكرم كلّ عالم» ثمّ قال بعد مدّة : «لا تكرم زيد العالم» فلا شكّ في عدم جريان أصالة العموم وتخصيص «أكرم كلّ عالم» ، مع أنّ كلاهما قطعي الصدور.

كما أنّه لا شكّ في جريان أصالة العموم إذا صدر عن المولى : «أكرم كلّ عالم» واحتمل العبد صدور المخصّص أيضا عنه ، ولكن لم يجده بعد الفحص.

وأمّا إذا علم المكلّف بصدور «أكرم كلّ عالم» عنه ، وقامت قرينة ظنّية معتبرة مثل خبر الثقة بصدور «لا تكرم زيد العالم» أيضا عنه مع أنّه حجّة عند العقلاء ، فلا إشكال في أنّ طرفي المعارضة عبارة عن العامّ القطعي الصدور والخاصّ الظنّي الصدور ، ومعلوم أنّه للعامّ عبارة عن أصالة العموم التي يرتبط بالدلالة ، وللخاصّ عبارة عن الصدور ، وصدور العامّ كدلالة الخاصّ خالي عن المعارض ، ولا يمكن حفظ أصالة العموم في العامّ ، وصدور الخاصّ عن المولى ، فلا بدّ من الأخذ بأحدهما.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ أصالة العموم مستندة إلى بناء العقلاء ، كما أنّ حجّيّة خبر الثقة مستندة إليه ، إلّا أنّ التمسّك بأصالة العموم مشروط عندهم بعدم الدليل المعتبر في مقابلها ، والشاهد على ذلك تقديم الخاصّ على أصالة

٥٥٢

العموم في الفرض الأوّل عندهم ، بخلاف خبر الثقة فإنّه حجّة مطلقا ، والشاهد على ذلك حكمهم بتساقط الخبرين المتعارضين على القاعدة ، ومعنى التساقط أنّ كلّا منهما حجّة في نفسه ، والتساقط يكون بلحاظ عدم إمكان الجمع بينهما لا أنّ كلّا منهما يصير فاقدا للحجّيّة بلحاظ تحقّق المعارض والمخالف ، فيكون خبر الثقة مقدّما على أصالة العموم بنحو الورود بلحاظ انعدام شرط حجّيتها.

وهكذا في العامّ الكتابي فإنّه وإن كان قطعي الصدور ولكن تستفاد دلالته من طريق أصالة العموم ، وإذا كان في مقابله خبر الثقة فلا بدّ من الأخذ به وجعله مخصّصا للعامّ الكتابي. هذا هو الوجه الأوّل الذي استدلّ به المانعون.

أمّا الوجه الثاني : وهو أنّ أدلّة حجّيّة خبر الواحد غير شاملة للخبر المخالف لكتاب الله ، وإن كانت المخالفة بصورة التخصيص فإنّ دليل حجّيّة الخبر ـ وهو الإجماع ـ لبّي ، والمتيقّن منه هو الخبر غير المخالف للكتاب ، فلا يشمل المخالف ، فالمخالف يبقى تحت عدم حجّيّة الأمارات غير العلميّة.

وجوابه : أوّلا : أنّ المراد من الإجماع إن كان إجماعا اصطلاحيّا فهو لم يتحقّق أصلا بلحاظ مخالفة عدّة من الأصحاب من القدماء والمتأخّرين في مسألة حجّيّة خبر الواحد ، وإن كان المراد منه بناء العقلاء فلا فرق من حيث بناء العقلاء بين أن يكون الخبر مخصّصا أو مقيّدا للكتاب أم لا ، مع أنّ دليل الحجّيّة لا ينحصر ببناء العقلاء ، بل ما هو المهمّ من الأدلّة ـ كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره ـ الأخبار المتواترة الإجماليّة ، بمعنى القطع بصدور بعضها عن الأئمّة عليهم‌السلام فلا بدّ من الأخذ بالمتيقّن من العناوين المذكورة فيها ، وهو خبر العادل ، ولا نرى فيها تقييد الخبر بعدم كونه مخصّصا

٥٥٣

أو مقيّدا للكتاب.

وثانيا : أنّه لو فرض انحصار الدليل بالإجماع وكونه إجماعا اصطلاحيّا فلا بدّ لنا من الأخذ بالقدر المتيقّن في الموارد المشكوكة ، ولكن لا يكون ما نحن فيه منها ؛ للقطع بأنّ معقد الإجماع يشمل الخبر المخصّص للكتاب أيضا.

والشاهد على ذلك :

١ ـ أنّ انحصار دائرة حجّيّة خبر الواحد بما لا يكون مخصّصا أو مقيّدا للكتاب مستلزم لإلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه ، ومعناه قيام الإجماع على حجّيّة ما لا يتحقّق له مصداق أو يكون نادرا ، والنادر كالمعدوم.

٢ ـ أنّ السيرة العملية للأصحاب بتخصيص وتقييد الكتاب بخبر الواحد كاشفة عن أنّ مراد المجمعين هو اعتبار حجّيّة خبر الواحد مطلقا ، فنعلم أنّ الخبر المخصّص أيضا داخل في معقد الإجماع.

الوجه الثالث : الذي استدلّ به المانعون : أنّ الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للقرآن على كثرتها واختلاف تعبيراتها من كون ما خالف قول ربّنا «باطلا» و «زخرفا» و «لم نقله» و «فاضربوه على الجدار» كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره وغير ذلك تدلّ على طرح كلّ خبر مخالف للكتاب وإن كانت مخالفته بصورة التخصيص والتقييد ؛ إذ الموجبة الكلّيّة والسالبة الجزئيّة وبالعكس متناقضتان ، ويكون العامّ والمخصّص كذلك.

وجوابه : أوّلا : أنّ المخالفة بالعموم والخصوص ليست مخالفة عند العرف وفي مقام التقنين ، بل الطريق المتداول بين العقلاء جعل القانون بصورة العامّ ، ثمّ استثناء بعض الموارد بصورة التبصرة ، ولم يتّخذ الشارع طريقا خاصّا في باب التقنين ، ولذا يحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد عند العرف بدون

٥٥٤

التوقّف والتحيّر والرجوع إلى الأخبار العلاجيّة.

وثانيا : لو سلّم صدق المخالفة عليها فهي خارجة عنها حكما ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره وتتحقّق شواهد متعدّدة على عدم كون العموم والخصوص من المتخالفين.

الشاهد الأوّل : أنّه يتحقّق في كتاب الله العامّ والخاصّ كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ، وقوله تعالى في آية اخرى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢) ، ولا يكون للآية عنوان سوى التخصيص وتحريم الربا بها مع أنّه من العقود المتداولة بين الناس يكون مخالفا لعموم الآية الاولى ، والحال أنّه ذكر عدم الاختلاف في القرآن بعنوان الدليل لإعجاز القرآن ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٣) ، ومن هنا نستكشف خروج العامّ والخاصّ من عنوان المتخالفين.

على أنّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة يجوز حتّى عند المانعين ، فإن كان الخبر مخالفا للكتاب يكون قطعيّ الصدور أيضا كذلك ، وقطعيّة صدوره لا توجب خروجه عن دائرة التخالف ، وهذا يهدينا إلى عدم صدق عنوان المتخالفين على العموم والخصوص.

الشاهد الثاني : أنّه لا شكّ في عدم كون المخصّص المتّصل مخالفا ومتناقضا مع العامّ ، والوجدان حاكم بعدم الفرق بينه وبين المخصّص المنفصل من هذه الجهة ، ولا يمكن الالتزام بكونه مخالفا مع العامّ بخلافه ، فكلاهما لا يكونا متناقضين معه.

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) النساء : ٨٢.

٥٥٥

الشاهد الثالث : أنّ سياق قوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله» (١) وأمثال ذلك يكون آبيا عن التخصيص ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، مع أنّا نعلم إجمالا بصدور روايات تخالف عموم الكتاب وإطلاقاته عن الأئمّة عليهم‌السلام بعد ملاحظة الكتب الروائيّة ، فكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات وقوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله» مع أنّ الظاهر منه عدم صدور رواية تخالف الكتاب أصلا ، حتّى رواية واحدة؟! ونستكشف من ذلك أنّ العموم والخصوص خارج عن دائرة التخالف.

الوجه الرابع الذي استدلّ به المانعون : أنّ عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد من المسلّم وممّا لا شكّ فيه ، فلا يجوز التخصيص به أيضا ؛ إذ لا فرق بين النسخ والتخصيص ، بل النسخ تخصيص في الأزمان والتخصيص المصطلح تخصيص في الأفراد ، فإنّ التخصيص يوجب خروج الأفراد العرضيّة والموجودة في زمان التخصيص كالفسّاق من العلماء ، والنسخ يوجب خروج الأفراد الطوليّة والموجودة بعد زمان النسخ.

وجوابه : أوّلا : أنّ القاعدة وإن كانت مقتضية لعدم الفرق بينهما ، إلّا أنّ الإجماع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد أوجب الفرق بينهما ، ولولاه لقلنا بالجواز في كليهما ، ولا بدّ من الاقتصار على المتيقّن فيما خالف القاعدة ، وهو النسخ دون التخصيص.

وثانيا : أنّ قياس النسخ بالتخصيص قياس مع الفارق ، حيث إنّ الدواعي لضبط نواسخ القرآن كثيرة ، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده بخلاف التخصيص.

__________________

(١) انظر : الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٥٥٦

توضيح ذلك : أنّ طريق إثبات القرآنيّة ـ بأنّ هذه الآية أو السورة جزء من القرآن ـ منحصر بالإجماع والتواتر ، ولذا ردّ قرآنيّة قول عمر : «إذا زنيا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» ، ولم يقبل منه أحد ، وإن التزم المتأخّرون من العامّة بنسخ آية الرجم تلاوة وبقائها حكما في مقام توجيه ادّعائه ، كما قالوا أيضا : إنّه الصحيح ما يروى عن عائشة وأنّ ممّا أنزل في القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ... فنسخن بخمس رضعات معلومات ... وهذا هو التحريف ، مع اتّهامهم للشيعة بأنّهم قائلون بذلك ، والحال أنّهم أنكروا التحريف من الصدر الأوّل إلى يومنا هذا بأشدّ الإنكار.

وبالنتيجة لا يعقل نسخ الكتاب بخبر الواحد بعد انحصار طريق إثباته بالتواتر والإجماع وكونه بعنوان المعجزة الباقية إلى يوم القيامة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا بدّ من نسخه بآية اخرى أو الإجماع والخبر المتواتر ، بخلاف التخصيص فإنّه تبيين وتفسير للعامّ ، فخبر الواحد لا يصلح لأن يكون ناسخا للقرآن.

ثمّ إنّه وقع البحث في تحقّق آية الناسخ والمنسوخ في القرآن ، وأنكره بعض الأعلام قدس‌سره إلّا في آية النجوى بلحاظ ظهور العبارة في المنسوخيّة ، وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ...)(١) ، ولم يعمل بهذه الآية سوى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام بناء على الروايات ، وعليك بمراجعة التفاسير.

__________________

(١) المجادلة : ١٢ ـ ١٣.

٥٥٧
٥٥٨

فصل

في دوران الخاصّ بين كونه مخصّصا وناسخا

لا يخفى أنّ الخاصّ والعامّ المتخالفين في الحكم يختلف حالهما ناسخا ومخصّصا ومنسوخا ، فيكون الخاصّ مخصّصا تارة وناسخا مرّة ومنسوخا اخرى ، وذلك لأنّ الخاصّ إن كان مقارنا مع العامّ ـ بأن صدرا في آن واحد من معصومين أو من معصوم واحد في مجلس واحد ـ أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محيص عن كونه مخصّصا وبيانا له ، هذا ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في هاتين الصورتين ، والحقّ معه في الصورة الاولى.

وفي الصورة الثانية لقائل أن يقول بجريان كلا العنوانين ـ أي المخصّصيّة والناسخيّة معا ـ وثمرة النسخ والتخصيص أنّه على التخصيص يبنى على خروج الخاصّ عن حكم العامّ رأسا ومن أوّل الأمر ، مثلا : إذا قال المولى في يوم السبت : «أكرم العلماء يوم الجمعة» ، ثمّ قال في يوم الإثنين : «لا تكرم زيدا العالم» ، فلا يجب إكرامه على التخصّص رأسا ، وعلى النسخ يبنى على ارتفاع حكمه عن حكم العامّ من حين ورود الخاصّ ، بعد صلاحية الخاصّ للناسخيّة والمخصّصيّة معا.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٦٨.

٥٥٩

ويتحقّق هنا قولان :

الأوّل : ما نقل عن بعض الأعاظم (١) : وهو عدم إمكان النسخ أصلا ، فإنّ صدور الأحكام الواقعيّة في مقابل الأحكام الصوريّة والأوامر الامتحانيّة يكون بداعي موافقة المكلّف وتحقّق المأمور به خارجا ، فإن حملنا الخاصّ على التخصيص في المثال يكون مبيّنا للمراد الجدّي للمولى ، وأنّ إرادته الجدّيّة تعلّقت من الابتداء بإكرام العلماء غير زيد.

وإن حملناه على النسخ يكون معناه رفع الحكم الثابت في الشريعة بعد اعتقاد المكلّف باستمراره بحسب إطلاق الدليل ، ولكنّ المانع من النسخ أنّه كيف يمكن أن يكون حكم العام حكما واقعيّا صادرا بداعي الإتيان في الخارج مع كون الخاصّ ناسخا له قبل حضور وقت العمل بالعام؟! ولا يصدق هنا رفع الحكم الثابت في الشريعة الذي هو معنى النسخ ؛ إذ لا يمكن نسخ الحكم الثابت بداعي العمل قبل وقت العمل به ، فلا بدّ من الحمل على التخصيص ، ولا مجال للنسخ.

القول الثاني : ما قال به المحقّق النائيني قدس‌سره (٢) ، وهو القول بالتفصيل بأنّ القضيّة المشتملة على الحكم العام إن كانت بنحو القضيّة الخارجيّة ـ مثل : أن يقول المولى : «أكرم كلّ عالم موجود بالفعل» يعني كلّ إنسان يكون في حال صدور هذا التكليف متّصفا بأنّه عالم ، ثمّ قال بعد يومين : «لا تكرم زيدا العالم» مع كونه في زمان صدور العام موجودا وعالما ـ فلا بدّ من حمل هذا الخاصّ الصادر قبل حضور وقت العمل بالعامّ على التخصيص ، فإنّ معنى النسخ هنا

__________________

(١) معالم الدين : ١٤٣.

(٢) أجود التقريرات ١ : ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

٥٦٠