دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

باختلاف الأنظار بخلوّهما عن الواقعيّة.

المرحلة الثانية : أنّه لا دخل للإجزاء بالصحّة والفساد أصلا ؛ إذ المفروض في باب الإجزاء صحّة المأمور به بالأمر الثانوي والظاهري وإتيانه بإجازة الشارع.

وأمّا مع فرض بطلانه كالإتيان بالصلاة مع التيمّم في أوّل الوقت ـ مثلا ـ فلا مجال لبحث الإجزاء ، بل كلمة الإجزاء تهدينا إلى أنّ المأمور به بالأمر الظاهري إذا وقع صحيحا ، ثمّ صار واجدا للماء على خلاف العادة ، هل هو مجزي عن المأمور به بالأمر الواقعي أم لا؟ وما هو مسلّم بين القائل بالإجزاء وعدمه عبارة عن صحّة المأمور به بالأمر الظاهري ، وإتيانه بإجازة الشارع ، ولكن في عين كونه صحيحا هل يكتفى به إذا صار واجدا للماء أم لا؟ هذا خلط وقع في كلامه بين الإجزاء وعدمه والصحّة والفساد.

ثمّ وقع النزاع في أنّ الصحّة والفساد من الأحكام الجعليّة الشرعيّة أم لا؟ وعلى فرض كونهما مجعولين شرعيّين هل يكونان من الأحكام الشرعيّة الاستقلاليّة أو التبعيّة أو تختلف الصحّة والفساد بحسب اختلاف الموارد؟

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في قسم آخر من كلامه في هذا البحث : إنّه لا شبهة في أنّ الصحّة والفساد عند المتكلّم وصفان اعتباريّان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها ، إلّا أنّ منشأ انتزاعهما أمران واقعيّان ؛ إذ لا شكّ في أنّ مطابقة المأتي به مع المأمور به التي تكون منشأ انتزاع الصحّة ، وعدمها الذي يكون منشأ انتزاع الفساد أمران تكوينيّان واقعيّان.

وأمّا الصحّة بمعنى سقوط القضاء والإعادة عند الفقيه فهي من لوازم

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٩٠.

٣٦١

الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي عقلا إذا نسبت إليه ، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة والقضاء معه جزما ، فالصحّة بهذا المعنى في المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي وإن كانت ليست بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف ، إلّا أنّها ليست بأمر اعتباري انتزاعي كما توهّم ، بل ممّا يستقلّ به العقل كما يستقلّ باستحقاق المثوبة به ، وإذا نسبت إلى الأمر الثانوي أو الظاهري فالسقوط ربما يكون مجعولا وكان الحكم به تخفيفا ومنّة على العباد مع ثبوت المقتضى لثبوت الإعادة والقضاء ، كما عرفت في مسألة الإجزاء ، كما ربما يحكم بثبوتهما ، فتكون الصحّة والفساد في المأمور بالأمر الاضطراري والظاهري حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيّين.

نعم ، الصحّة والفساد تكون من الأحكام الجعليّة الشرعيّة في الطبيعي المأمور به ، وأمّا في الموارد الخاصّة فلا يكونان مجعولين ، بل إنّما هي تتّصف بهما بمجرّد الانطباق على ما هو المأمور به ، هذا في العبادات.

وعليه فالحقّ في العبادات التفصيل بين العنوان الكلّي والموارد الجزئيّة ، من حيث الجعل الشرعي للصحّة والفساد وعدمه.

وأمّا الصحّة في المعاملات فهي تكون مجعولة ، حيث كان ترتّب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاء ؛ ضرورة أنّه لو لا جعله لما ترتّب عليها الأثر ؛ لأصالة الفساد. نعم ، صحّة كلّ معاملة شخصيّة وفسادها ليس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه ، كما هو الحال في التكليفيّة من الأحكام ؛ ضرورة أنّ اتّصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما ليس إلّا لانطباقه على ما هو الواجب أو الحرام. هذا تمام كلامه مع زيادة توضيح.

٣٦٢

ولكن لا شكّ في اتّصاف العبادات بالوجوب قبل تحقّقها في الخارج ، ولذا نقول : الصلاة واجبة قبل إتيانها خارجا ، فإنّ متعلّق الوجوب عبارة عن نفس ماهيّة الصلاة وعنوانها كما مرّ تحقيقه ، وهكذا في سائر الأحكام التكليفيّة.

وأمّا في عروض وصف الصحّة والفساد على العبادات فلا بدّ من تحقّقها خارجا ، وملاحظة مطابقتها للمأمور به وعدمها ، ثمّ توصف بأنّ هذه الصلاة ـ مثلا ـ صحيحة أم فاسدة ، ومن هنا نستكشف أنّ الحكم بالصحّة والفساد فيها خارجان عن دائرة جعل الشارع ، فإنّه محدود بالماهيّات والعناوين ، كما اعترف صاحب الكفاية قدس‌سره أيضا بأنّ الحكم بصحّة المأمور به بالأمر الأوّلي يكون من المستقلّات العقليّة.

ويمكن أن يتوهّم أنّه قد مرّ في بحث الصحيح والأعمّ اتّفاق القولين بأنّ الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامّان نظير أسماء الأجناس ، فيستفاد من ضمّ القول بالصحيح وعموميّة الوضع والموضوع له فيها أنّ الصحّة والفساد ترتبطان بالماهيّة ، ولا ترتبطان بالوجود الخارجي ، فإنّ معنى عموميّة الوضع والموضوع له أنّ الشارع لاحظ الصلاة المتّصفة بالصحّة بنحو العام ثمّ وضع لفظ الصلاة لها ، ومعناه أنّ للشارع دخلا في جعل الصحّة والفساد ، كما لا يخفى.

وجوابه كما مرّ في محلّه : أنّ القائل بالصحيح لا يأخذ عنوان الصحيح في الموضوع له ، بل يلاحظه مع خصوصيّة لا تنطبق خارجا إلّا على الصلاة الصحيحة ، ويقول الشارع : جعلت ووضعت لفظ الصلاة للمركّب من عشرة أجزاء وخمسة شرائط ـ مثلا ـ وهذا ينطبق على الصلاة التي تكون صحيحة بعد الإتيان بها في الخارج ، ولا يقول : وضعت لفظ الصلاة للصلاة الصحيحة

٣٦٣

حتّى يرد عليه الإشكال المذكور.

وأمّا قوله قدس‌سره بالنسبة إلى الأمر الاضطراري والظاهري وأنّ الحكم بإجزاء الصلاة مع التيمّم عن الصلاة مع الوضوء وعدمه لا يرتبط بالعقل ، وهو من المجعولات الشرعيّة ، فهو ليس بصحيح مع قطع النظر عن خلطه بين الصحّة والفساد والإجزاء وعدمه.

سلّمنا أنّ العقل لا يدرك أنّ ما يكون شرطا للصلاة منحصر بالطهارة المائيّة أو أعمّ منها ، فلا بدّ من بيانه من قبل الشارع ، وبعد بيانه لا يكون الحاكم بالصحّة والفساد سوى العقل إن كان الشرط عند الشارع خصوص الطهارة المائيّة ، ويكون الحاكم ببطلان الصلاة بعد وجدان الماء هو العقل ، وإن كان الشرط عنده أعمّ منها فالحاكم بصحّتها بعده أيضا هو العقل ، مع أنّ أصل اعتبار الشرطيّة والجزئيّة وعدمه يكون من المجعولات الشرعيّة ، وهكذا في الأمر الظاهري ، فإنّ بعد بيان دليل الاستصحاب من قبل الشارع يستفاد أنّ الطهارة المعتبرة في الصلاة أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، فالعقل حاكم بأنّ هذه الصلاة حيث كانت واجدة للطهارة الظاهريّة فتكون صحيحة. هذا في باب العبادات.

وأمّا قوله قدس‌سره في باب المعاملات بأنّ الحكم الكلّي للصحة مجعول الشارع ، بنحو التأسيس أو الإمضاء ، بخلاف صحّة المعاملة الشخصيّة فإنّه يرتبط بالعقل ، فهو أيضا ليس بصحيح ، فإنّ مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) تنفيذ للبيع المتداول بين العقلاء من قبل الشارع دون الربا ، وما هو المجعول عند العقلاء عبارة عن جعل السببيّة والمؤثّريّة للبيع ، وهو يرتبط بماهيّة البيع وطبيعته ، ولذا يتمسّك الفقهاء بإطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) في مثل المعاطاة

٣٦٤

وأمثال ذلك ، ولا شكّ في أنّ الإطلاق من شئون الطبيعة ، فجعل الشارع ـ إمضاء للعقلاء ـ البيع سببا للنقل والانتقال في عالم الاعتبار ، بخلاف الرّبا.

ومن البديهي أنّ الحكم بالصحّة يتوقّف على تحقّق فرد من البيع خارجا حتّى نحكم بأنّ هذا البيع صحيح وذاك البيع الفاقد لبعض الشرائط ـ مثلا ـ فاسد.

ولا معنى لترتّب الأثر قبل تحقّق البيع في الخارج ، ولذا وقع الخلط في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره بين جعل السببيّة وجعل الصحّة ، مع أنّه ليس كذلك كما عرفت ، وهكذا إذا فرض للشارع معاملة تأسيسيّة ، فالصحّة والفساد في باب العبادات والمعاملات يرتبط بالعقل ، ولا يكون من المجعولات الشرعيّة أصلا.

المقدّمة السادسة : في صورة الشكّ ، وأنّه إذا لم نتوصّل من حيث الدليل إلى دلالة النهي على الفساد أو عدم دلالته عليه وبقينا في حالة الشكّ ، فهل يتحقّق هناك أصل يثبت الدلالة عليه أو عدمها أم لا؟ ولا بدّ لنا من البحث هاهنا في مقامين : الأوّل في المسألة الاصوليّة بأن يكون الأصل بعنوان الدليل في صورة الشكّ لدلالة النهي على الفساد وعدمها ، الثاني : في المسألة الفقهيّة ، والشكّ في أنّ المعاملة المحرّمة هل تكون دخيلة في النقل والانتقال أم لا؟

أمّا في المقام الأوّل فلا بدّ من حفظ عنوان محلّ النزاع وجريان الأصل ، وهو عنوان دلالة النهي على الفساد وعدمها ، مثل حفظ عنوان الملازمة في بحث مقدّمة الواجب ، إلّا أنّ هذه المسألة ـ كما مرّ ـ تكون مسألة اصوليّة لفظيّة واصوليّة عقليّة معا ، بخلاف بحث مقدّمة الواجب فإنّه مسألة عقليّة محضة ، وعلى هذا لا بدّ أن نبحث في الجهة اللفظيّة للمسألة وفي الجهلة العقليّة لها ، فنبحث ابتداء في المقام الأوّل من جهة الدلالة الوضعيّة بأنّه إذا شككنا في

٣٦٥

دلالة النهي بالدلالة اللفظيّة على الفساد ، هل يتحقّق أصل لإثبات المسألة أم لا؟ يمكن أن يتوهّم في بادئ النظر جريان استصحاب عدم دلالة النهي على الفساد بالدلالة اللفظيّة.

وجوابه : أنّه لا بدّ في الاستصحاب من حالة متيقّنة سابقة ، وهي مفقودة هاهنا ؛ إذ النهي حين حدوثه إمّا يكون دالّا على الفساد وإمّا لم يكن دالّا عليه ، وحيث لم يعلم شيء منهما فليس له حالة سابقة معلومة لتستصحب.

ويمكن أن يتوهّم أنّ وضع المفردات والحروف مقدّم على وضع المركّبات في جميع اللغات ، والنهي يستفاد من المركّب ، وهو كلمة «لا» فنقول : إنّ الألف واللّام حين وضع المفردات لا يكون دالّا على الفساد قطعا ، وبعد وصول النوبة إلى وضع المركّبات نشكّ في أنّ الواضع وضعه للدلالة على الفساد أم لا؟ فيستصحب عدم وضعه لها.

وجوابه : أنّ المركّب المذكور في حال وضع المفردات لم يكن موجودا ولا موضوعا حتّى نقول : إنّه لم يكن دالّا في هذا الحال على الفساد ؛ إذ المفردات مغايرة للمركّبات ، فلا تتحقّق حالة سابقة متيقّنة للمستصحب. وبالنتيجة : لا يمكن إثبات المسألة عن طريق الأصل في الجهة الاولى من المقام الأوّل.

والبحث في الجهة الثانية من المقام الأوّل بأنّ الملازمة العقليّة هل تتحقّق بين الحرمة والفساد أم لا؟ والبحث في هذه الجهة يكون عين البحث المذكور في مقدّمة الواجب ، وقد مرّ هناك تحقّق الطريقين لجريان استصحاب عدم تحقّق الملازمة العقليّة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة في صورة الشكّ ، وأمّا الطريق الأوّل فهو ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ الملازمة إثباتا ونفيا أمر أزليّ ، ولا يتحقّق لها حالة سابقة متيقّنة للشاكّ ، فإنّ حكم العقل

٣٦٦

بالملازمة أو عدمها يكون من الأزل ، ولا يكون الشكّ في بقاء الملازمة بعد تحقّقها سابقا أو عدمه بعد عدم تحقّقها ليستصحب الآن ، فلا مجال لجريان استصحاب الملازمة ، ولازم ذلك فيما نحن فيه أيضا أنّه إذا شككنا في تحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد ، فلا مجال لجريان استصحاب عدم تحقّقها ؛ لعدم تحقّق حالة سابقة متيقّنة.

ولكنّه مع ذلك قال بجريان الاستصحاب في العام والخاص ، مثلا : إذا شككنا في قرشيّة المرأة نستصحب عدم قرشيّتها بأنّ هذه المرأة قبل ولادتها وقبل انعقاد نطفتها لم تكن قرشيّة ، ونشكّ بعد ولادتها في اتّصافها بالقرشيّة ، فنجري استصحاب عدم القرشيّة.

ويكون وجه تفصيله بينهما على ما قال به : أنّ الشكّ في الملازمة إلى الأزل ، وأنّ العقل هل كان حاكما في الأزل بالملازمة بين الحرمة والفساد أم لم يكن حاكما بذلك ولا نشكّ في البقاء ، بخلاف الشكّ في قرشيّة المرأة ؛ إذ لا شكّ في أنّ المرأة القرشيّة باسم هند ـ مثلا ـ لم تكن موجودة ، وبعد تولّدها نشكّ في أنّه ولدت قرشيّة أم لا ، فلا يكون هذا قابلا للمقايسة مع حكم أزليّ.

ولكنّ التحقيق : أنّه لا يجري استصحاب عدم قرشيّة المرأة أيضا كما ذكرناه مكرّرا تبعا لاستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره ؛ إذ لا بدّ في الاستصحاب من اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وبدونه لا يصدق عنوان النقض ، وهو لا يتحقّق في استصحاب عدم قرشيّة المرأة ، فإنّ القضيّة المتيقّنة ـ يعني لم تكن هذه المرأة بقرشيّة ـ قضيّة سالبة محصّلة ، وهي تكون صادقة مع انتفاء الموضوع أيضا ، بخلاف القضيّة المشكوكة فإنّ وجود الموضوع فيها مفروض ومحرز ، ولا يمكن الاتّحاد بينهما ، ولذا لا يجري استصحاب عدم القرشيّة.

٣٦٧

وأمّا الطريق الثاني فهو ما ذكره الإمام قدس‌سره (١) وقال : كما أنّ العالميّة والقرشيّة وصف وجودي للمرأة كذلك الملازمة وصف وجودي ، فلا بدّ من تحقّق الموضوع أوّلا باقتضاء القاعدة الفرعيّة حتّى يتّصف بها ، وعلى هذا لا بدّ من تحقّق الحرمة ابتداء ، ثمّ اتّصافها بالملازمة مع الفساد أو عدمها ، وقبل تحقّق الحرمة لا معنى لاتّصافها بالملازمة ، فلا مجال لجريان الاستصحاب مع هذه الحالة السابقة العدميّة نظير استصحاب عدم القرشيّة.

ولكنّه مخدوش ؛ بأنّ لازم ذلك تحقّق وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة معا قبل الاتّصاف بالملازمة لكونها من باب المفاعلة ، إلّا أن يقول باستعمالها مسامحة ، وأنّ المقصود منها اللازم والملزوم ، وعلى هذا أيضا لا يكون الاتّصاف باللازم فرع تحقّق الملزوم ، بل معناه أنّه لو تحقّق الملزوم يتحقّق اللازم ؛ إذ لا شكّ في تحقّق الملازمة بين تحقّق آلهة وفساد الأرض والسماء ، مع أنّه لم يتحقّق أصلا ، والحقّ مع صاحب الكفاية قدس‌سره في هذه الجهة من المسألة ، فلا مجال لجريان الأصل في كلتا الجهتين من المسألة.

ومع قطع النظر عن الإشكالات المذكورة يرد عليهما الإشكال المشترك ، وهو : أنّه يشترط في الاستصحاب أن يكون المستصحب مجعولا شرعيّا ، أو موضوعا للحكم الشرعي ، مثل : استصحاب صلاة الجمعة واستصحاب خمريّة المائع بعد الشكّ في زوالها ، ومن البديهي أنّ عدم دلالة النهي على الفساد لا يكون مجعولا شرعيّا ، ولا موضوعا للحكم الشرعي ، ولا نرى رواية تقول : إذا كان النهي دالّا على الفساد يثبت حكم كذا ، وإذا لم يكن كذلك يثبت

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٤١٢ ـ ٤١٣ و ٤٨٠ ـ ٤٨٢ ، مناهج الوصول إلى علم الاصول ٢ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، معتمد الاصول ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

٣٦٨

حكم كذا.

وهكذا عدم الملازمة بين الحرمة والفساد لا يكون مجعولا شرعيّا ولا موضوعا للحكم الشرعي ؛ إذ الملازمة ـ إثباتا ونفيا ـ مسألة عقليّة ، وإن تحقّقت الملازمة بينهما يتحقّق الفساد بحكم العقل.

ومضافا إلى هذا الإشكال المشترك يرد على صاحب الكفاية قدس‌سره إشكال آخر ، وهو : أنّه لا فرق بين استصحاب عدم قرشيّة المرأة واستصحاب عدم دلالة النهي على الفساد ، فلما ذا قلت بجريان الأوّل دون الثاني؟ والفارق أنّ عدم قرشيّة المرأة موضوع للحكم الشرعي ، بأنّ المرأة إذا لم تكن قرشيّة فهي تحيض إلى خمسين سنة ، هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل.

وأمّا في المقام الثاني فلا بدّ من ملاحظة المعاملات والبحث فيها مرّة وملاحظة العبادات والبحث فيها مرّة اخرى ، ويقع الكلام في باب المعاملات أوّلا على مبنى المختار في مسألة الصحّة والفساد ، وثانيا على مبنى صاحب الكفاية قدس‌سره فيها ، واخترنا أنّ الصحّة والفساد من عوارض الوجود الخارجي ، فمثلا : إذا وقع البيع في الخارج فقد يكون معروضا للصحّة وقد يكون معروضا للفساد ، وعلى هذا إن تحقّق بيع في وقت النداء وفرضنا أنّه منهيّ عنه وحرام ، وشككنا في أنّ النهي يدلّ على فساده أم لا ، ويرجع الشكّ إلى أنّ المبيع صار ملكا للمشتري والثمن ملكا للبائع وحصل النقل والانتقال به أم لا؟ فيستصحب عدم حصول النقل والانتقال ، ويعبّر عنه بأصالة الفساد.

ولا يخفى أنّ محلّ البحث هو الشبهات الحكميّة ، وأنّ البيع في وقت النداء صحيح أم لا ، ولا تجري هاهنا أصالة الصحّة ، فإنّ مجراها الشبهات الموضوعيّة كالشكّ في رعاية المتعاملين شرائط الصحّة وعدمها.

واختار المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّ الصحّة والفساد ترتبط بالطبيعة وتعرض

٣٦٩

عليها مثل عروض الحرمة والوجوب عليها ، وهذا إن شككنا في أنّ البيع وقت النداء صحيح أم لا ، ويرجع الشكّ إلى أنّ الشارع جعل الصحّة للبيع وقت النداء أم لا؟ فيستصحب عدم جعل الصحّة له ولو في زمان ما من صدر الإسلام ، فعلى كلا المبنيين تكون المعاملة باطلة.

وأمّا في باب العبادات فقد نقول بلزوم تحقّق الأمر الفعلي لصحّة العبادة ، وقد نقول بكفاية تحقّق المناط في صحّتها ، وعلى الأوّل فإن تعلّق النهي بالعبادة فلا معنى لتعلّق الأمر بها ولو استحبابا بعد فرض تعلّق النهي بنفس العبادة ، ففي المسألة الفقهيّة نحكم ببطلانها لفقدان الأمر ، ونعبّر هاهنا أيضا بجريان أصالة الفساد ؛ لعدم تحقّق ملاك الصحّة.

وعلى الثاني فإن تعلّق النهي الغيري بالعبادة مثل تعلّق النهي المقدّمي بالصلاة مكان الإزالة فهو لا يكون كاشفا عن مبغوضيّة المنهي عنه ولا ينافي المقربيّة ، وعلى فرض شمول عنوان البحث للنهي الغيري ـ كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ـ فلا يكون كاشفا عن فساد العبادة ؛ لتحقّق ملاك الصحّة.

وإن تعلّق النهي النفسي بالعبادة فلا بدّ من الحكم بفسادها ، فإنّه كاشف عن مبغوضيّة المنهي عنه ومبعّديته عن ساحة المولى ؛ إذ المقرّبية والمبعّدية في شيء واحد بعنوان واحد لا يكون قابلا للجمع وإن تحقّق في كلام استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره إبهاما وإجمالا ، ولعلّه يستفاد منه إمكان الجمع بينهما ، مع أنّه ليس بصحيح بعد ترديده في صحّة الصلاة في الدار المغصوبة ، فكيف يمكن قوله هاهنا بالحكم بالصحّة؟! هذا تمام الكلام في هذه المقدّمة.

المقدّمة السابعة : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) ولكنّه لا يرتبط بما نحن فيه

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٤.

٣٧٠

أصلا ، وهو : أنّ متعلّق النهي إمّا أن يكون نفس العبادة ومجموعها مثل «دعي الصلاة أيّام أقرائك» ، أو جزئها كالنهي عن قراءة سورة السجدة في الصلاة ، أو شرطها الخارج عن ماهيّة الصلاة ، أو وصفها الملازم لها كالجهر والإخفات للقراءة ، أو وصفها غير الملازم كالغصبيّة لأكوان الصلاة المنفكّة عنها.

ثمّ قال : لا ريب في دخول القسم الأوّل في محلّ النزاع ، وكذا القسم الثاني بلحاظ أنّ جزء العبادة عبادة ، إلّا أنّ بطلان الجزء لا يوجب بطلانها إلّا مع الاقتصار عليه ، لا مع الإتيان بغيره ممّا لا نهي عنه ، إلّا أن يستلزم محذورا آخر.

ونحن نقول : إنّ تعلّق النهي بجزء العبادة وسراية فساده إلى الكلّ مع الاقتصار عليه وعدم سرايته إليه مع الإتيان بغيره فهذه مسألة فقهيّة ، ولا ترتبط بالبحث الاصولي الذي نبحث فيه من أنّ تعلّق النهي بالعبادة هل يدلّ على فسادها أم لا؟

ثمّ قال : وأمّا القسم الثالث فلا يكون حرمة الشرط والنهي عنه موجبا لفساد العبادة إلّا فيما كان عبادة ، كالوضوء فإنّ حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به ، وإن لم يكن عبادة ـ كتطهير الثوب والبدن من النجاسة ـ فلا يدلّ النهي على فساده ؛ لعدم كونه عبادة.

وأنت خبير بعدم ارتباط هذه المسألة بدلالة النهي على الفساد ، فإنّ استلزام بطلان الشرط لبطلان المشروط مسألة عقليّة ، ولا يرتبط بمحلّ البحث هاهنا.

ثمّ قال : وأمّا القسم الرابع فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه ، فيكون النهي عن الجهر في القراءة ـ مثلا ـ مساوقا للنهي عنها ؛

٣٧١

لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيّا فعلا ، كما لا يخفى.

ومن البديهي أنّ هذا بحث صغروي ، والبحث فيما نحن فيه بحث كبروي ، والموضوع فيه تعلّق النهي بالعبادة ، ولا نبحث في أنّ تعلّق النهي بالعبادة يتحقّق في موضع كذا ولا يتحقّق في موضع كذا.

هذا ، مع فرض رجوع النهي عن الجهر في القراءة إلى النهي عنها ، فلعلّه أيضا لم يكن بصحيح ، وعلى أيّ حال فلا يرتبط بمحلّ البحث.

ثمّ قال : وهذا بخلاف ما إذا كان الوصف مفارقا ، كما في القسم الخامس ، فإنّ النهي عنه لا يسري إلى الموصوف إلّا فيما إذا اتّحد معه وجودا بناء على امتناع الاجتماع كما في الصلاة في الدار المغصوبة ، وأمّا بناء على الجواز فلا يسري إليه. ومعلوم أنّ السراية وعدمها بحث صغروي لا يرتبط فيما نحن فيه.

وقال في خاتمة كلامه : وأمّا النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الامور ـ يعني الجزء والشرط والوصف ـ فحاله حال النهي عن أحدها إن كان النهي عن العبادة بنحو الواسطة في العروض ، وحاله حال النهي عن نفس العبادة إن كان النهي عنها بنحو الواسطة في الثبوت. ومعلوم أنّ متعلّق النهي في الصورة الاولى أحد هذه الامور في الحقيقة ، وانتسابه إلى العبادة لا يخلو عن مسامحة ، نظير انتساب الحركة إلى الجالس في السفينة ، ومتعلّقه في الصورة الثانية نفس العبادة حقيقة ، إلّا أنّ الواسطة في تعلّقه يكون أحد الامور المذكورة.

وحاصل الكلام : أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره مفصّلا بعنوان المقدّمة لا يرتبط بمحلّ البحث ، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذه المقدّمات فتصل النوبة إلى أصل البحث ، ولا بدّ لنا من البحث في مقامين :

٣٧٢

الأوّل : في اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها

والبحث فيها قد يكون في مقام الدلالة اللفظية ، وقد يكون في مقام حكم العقل ـ وإن لم يتعرّض للبحث اللفظي في الكفاية ـ ولا شكّ في ضرورة البحث في مقام الدلالة اللفظيّة أيضا ، فنقول : إنّه هل يتحقّق للنواهي المتعلّقة بالعبادات من حيث الدلالة اللفظيّة وفهم العرف ظهور في الحرمة المولويّة أو ظهور في الإرشاد إلى الفساد ، بعد التوجّه إلى بيان الأجزاء والشرائط والموانع من طريق الأوامر والنواهي معمولا مثل : «صلّ مع الطهارة» و «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» ، وبعد التوجّه إلى إرشاديّتهما قطعا؟ فإذا تعلّق النهي بنفس العبادة مثل : «لا تصلّي في أيّام أقرائك» فالظاهر والمتفاهم منه عرفا الإرشاد إلى الفساد ، وأنّها لا يمكن أن تقع صحيحة ولا يمكن أن يترتّب عليها الأثر ، إلّا أن تكون في البين قرينة على الحرمة الذاتيّة. هذا من الجهة اللفظيّة للمسألة.

وأمّا من الجهة العقليّة فيكون الموضوع فيها الحرمة المولويّة ، وأنّ العبادة بعد تعلّق النهي المولوي عليها ، هل يمكن وقوعها صحيحة أم لا؟ يمكن أن يتوهّم بأنّه لا يمكن تصوّر كون الشيء عبادة مع تعلّق الحرمة المولويّة به حتّى نقول : إنّ الحرمة المولويّة تقتضي الفساد أم لا ، فإنّها إن تحقّقت في الخارج بدون قصد القربة فلا تكون محرّمة ، وإن تحقّقت مع قصد القربة والحال أنّها لا تكون مقرّبة شرعا فتكون حرمتها تشريعيّة ، ولا يبقى مجال للحرمة الذاتيّة.

وجوابه قد مرّ في المقدّمة الاولى ، وهو : أنّ المقصود من العبادة هنا إمّا أن يكون ما هو عبادة ذاتا ـ مثل السجود لله والخشوع له ـ وقلنا : إنّ الصلاة أيضا كانت من هذا القبيل ، فإنّها عبارة عن الركوع والسجود والتحميد

٣٧٣

والتسبيح لله ، وإمّا أن يكون بنحو التعليق كقولنا : إن تعلّق الأمر بهذا العمل مكان النهي لكان أمره أمرا عباديّا ، مثل صوم العيدين.

هذا ما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، ومعلوم أنّ طرف الملازمة هنا هو النهي المتعلّق بالعبادة ، لا الشيء الذي يتصوّر له حالتي الصحّة والفساد ، وبالنتيجة : إذا تعلّق النهي بالعبادة الذاتيّة ـ مثل أن يقول للحائض : «لا تصلّي أيّام أقرائك» أو «لا تسجدي لله» ـ فهل تكون حرمتها ملازمة لفسادها أم لا؟

وجوابه : أنّ النهي التحريمي كاشف عن مبغوضيّة المنهي عنه ، وأنّه يوجب المبعّدية عن ساحة المولى ، وتتحقّق فيه مفسدة لازمة الاجتناب ، فكيف يمكن أن تقع العبادة صحيحة مع أنّ معناها حصول القرب من المولى ، فلا شكّ في تحقّق الملازمة بين حرمة العبادة وفسادها بنظر العقل.

وقد مرّ في ابتداء البحث أنّ النهي المأخوذ في عنوان المسألة أعمّ من النهي التنزيهي والتحريمي ، وذكرنا أنّ مثال تعلّق النهي التنزيهي بذات العبادة عبارة عن اقتداء المسافر بالحاضر ، فعلى هذا إذا تعلّق النهي الكراهتي بالعبادة كما في المثال ، فهل تتحقّق الملازمة بين الكراهة والفساد عقلا أم لا؟ ولا ريب في مرجوحيّة هذه العبادة وأنّ عدم إتيانها أولى من إتيانها ، فيتحقّق لها عنوان المبغوضيّة في الجملة ولا تكون صالحة للمقرّبية ، ولا ريب أيضا أنّ المكلّف مأذون من قبل الشارع بارتكاب المكروه ، ومن المستبعد لدى الذهن صدور الإذن منه بارتكاب عبادة فاسدة ، فتتحقّق في المسألة مشكلة ، وحلّها بالتفكيك بين الحكم الوضعي والتكليفي ؛ بأنّ كراهة العبادة من حيث الحكم الوضعي ملازمة لفسادها وبطلانها ، ومعنى الإذن في الارتكاب الذي يستفاد من الكراهة أنّه لا يترتّب على ارتكابها استحقاق العقوبة.

٣٧٤

المقام الثاني : في اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها

والبحث فيها قد يكون من حيث الدلالة اللفظيّة والظهور العرفيّ للنواهي المتعلّقة بها ، وقد يكون من حيث تحقّق الملازمة وعدمها عقلا بين الحرمة المولويّة وفساد المعاملة ، وموضوع البحث في الأوّل هو تعلّق النهي بالمعاملة من غير قرينة تدلّ على إرشاديّته أو مولويّته ، ولا بدّ قبل الخوض في البحث من التوجّه إلى أمرين :

الأوّل : أنّه لا تتحقّق بين المعاملات معاملة تأسيسيّة شرعيّة ، بل تكون جميعها إمضائيّة بعد ما كانت متداولة بين العقلاء ، ولكنّ الشارع حرّم بعضها وأضاف بعض الشرائط إلى الآخر لاستحكام نظم الاجتماع ، كقوله : (حَرَّمَ الرِّبا) و «نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر» ، بخلاف العبادات فإنّ مثل الصلاة بهذا النحو كمّا وكيفا تكون من المخترعات الشرعيّة ، سواء قلنا بالحقيقة الشرعيّة أم لا.

الأمر الثاني : أنّه يتحقّق في المعاملات ثلاثة خصوصيّات طوليّة : أحدها : ما يصدر من المتعاملين بالمباشرة من الإيجاب والقبول والتعاطي ، وثانيهما : ما يتفرّع عليه من التمليك والتملّك ، وهو مسبّب ومقدور للمكلّف مع الواسطة ، وثالثها : ما يترتّب على هذا المسبّب من الأحكام والآثار ، والغرض من المعاملات ترتّب الآثار ، لذا تكون صحّة المعاملة عند الفقهاء بمعنى ترتّب الأثر المقصود عليها ، وهذا يهدينا إلى أنّ الشارع حينما يقول : «لا تبع ما ليس عندك» معناه أنّه لا يترتّب على هذا البيع الأثر المقصود ، وأنّه لا يكون مع «لا تشرب الخمر» من سنخ واحد وفي سياق واحد ، ولا يستظهر العرف منه أنّ لهذا البيع بما أنّه فعل من أفعال البائع حرمة مولويّة ، ولا يكون الظهور اللفظي

٣٧٥

مساعدا على حرمة البيع ، ولا يبعد ادّعاء أنّ المتفاهم عند العرف إرشاديّة النهي إلى عدم ترتّب الآثار والأحكام المقصودة منه.

وموضوع البحث في الجهة الثانية هو تعلّق النهي المولوي بالمعاملة وحرمتها ، بأنّه هل تتحقّق الملازمة العقليّة بين حرمة المعاملة وفسادها أم لا؟ ولكن بلحاظ تحقّق المراحل الثلاثة الطوليّة في المعاملات كما ذكرناه لا بدّ من ملاحظة أنّ النهي التحريمي المولوي تعلّق بأيّ مرحلة من المراحل المذكورة ، ولا بدّ من البحث في كلّ منها مستقلّا ، فإن تعلّق النهي بما يصدر عن المكلّف بالمباشرة من الإيجاب والقبول أو التعاطي ، مثل : أن يقول البائع للمشتري في أثناء الصلاة : «بعتك داري» ؛ إذ هو بما أنّه لفظ صادر عن المكلّف في أثناء فريضة الصلاة يكون محرّما ويوجب بطلان الصلاة ، ويترتّب عليه استحقاق العقوبة ، ولا شكّ في مبغوضيّته للمولى ، ولكنّه مع ذلك لا يوجب بطلان المعاملة ؛ إذ لا يتحقّق نقص في المعاملة ، ومعلوم أنّ الحرمة والمبغوضيّة لا تنافي السببيّة ، والشاهد على ذلك سببيّة إتلاف مال الغير للضمان مع أنّه كثيرا ما يكون محرّما وقليلا ما يتحقّق على وجه الحلال ، مثل : تحقّقه من النائم أو الطفل أو المضطرّ إليه ، فيكون قول : «بعتك داري» حراما بما أنّه كلام صادر من المكلّف في أثناء الصلاة مع كونه سببا للتمليك والتملّك ، فلا تتحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد في هذه الصورة عقلا.

وإن تعلّق النهي بالمسبّب ، مثل : بيع المصحف والعبد المسلم إلى الكافر ، والمحرّم والمبغوض عند الشارع هنا تمليكهما إليه ، فلا تتحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد في هذه الصورة أيضا بنظر العقل ؛ إذ البيع لا يكون فاقدا للخصوصيّات والشرائط المعتبرة فيه حتّى نحكم ببطلانه ، فتكون المعاملة

٣٧٦

محرّمة ومبغوضة للمولى ، ومع ذلك لا مانع من صحّتها بلحاظ واجديّتها لجميع الشرائط المعتبرة فيها.

ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) قائل بالتفصيل في هذه المسألة على ما في تقريراته ، وهو أنّه يحتمل أن تكون المعاملات أسبابا شرعيّة بأنّ الشارع جعل البيع سببا للتمليك والتملّك ، كما أنّ العبادات تكون من مخترعاته ، ويحتمل أن تكون سببيّة المعاملات من المسائل الواقعيّة العقليّة ، إلّا أنّ عقولنا قاصرة عن إدراكها ، ويكشفها الشارع لنا بلحاظ إحاطته العلميّة ويبيّنها لنا ، ويكون بيع العبد المسلم إلى الكافر باطلا على الاحتمال الأوّل ، فإنّ حرمة البيع وصحّته معا من جهة الشارع لا تكون قابلة للاجتماع ، وعلى الاحتمال الثاني يكون البيع صحيحا ، فإنّ جعل السببيّة لا يكون بيد الشارع ، وما بيده عبارة عن جعل الحرمة والمبغوضيّة ، فلا تتحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد على هذا الاحتمال.

ولكنّ التحقيق : أنّ المعاملات امور عقلائيّة لا واقعيّة لها ، ولا تكون من المجعولات الشرعيّة ، بل العقلاء بعد احتياجهم في الحياة الاجتماعيّة إلى الأطعمة والألبسة وأمثال ذلك توافقوا على تبادلها وتعاملها بينهم ، والشارع أمضاها كثيرا ما مع إضافة بعض الشرائط ، ومنع بعضها ؛ لتحقّق المفاسد الاجتماعيّة فيه ، وعلى هذا يكون حلّ صحّة بيع العبد المسلم إلى الكافر ـ مثلا ـ مع مبغوضيّته بأنّ الشارع لم يمض كلّ واحد واحد من المعاملات ، بل أمضاها بنحو مطلق ، مثل : قوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، ثمّ بيّن بعض المقيّدات ، مثل : نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر ، ونحو ذلك. وأمّا في بيع العبد المسلم إلى الكافر فقال:

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٦٣.

٣٧٧

إنّه حرام بالحرمة المولويّة ومبغوض لي ، وهذا لا ينافي صحّة البيع ؛ إذ الحرمة المولويّة لا تكون مقيّدة لإطلاق (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، بخلاف مثل نهي النبيّ عن بيع الغرر ، فإنّه إرشاد إلى الفساد ، فيكون البيع صحيحا وحراما ويترتّب عليه استحقاق العقوبة ، فما قال به الشيخ قدس‌سره ليس بتامّ.

نكتة :

حكي عن أبي حنيفة والشيباني (١) دلالة النهي على الصحّة في المعاملات ، ووافقهما فخر المحقّقين في ذلك ، ولا بدّ من قبوله في بعض الموارد ، مثل ما نحن فيه ؛ إذ لا شكّ في اعتبار القدرة في متعلّق النهي ، ولا يقدر عليه إلّا فيما إذا كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة كالنهي عن تمليك العبد المسلم للكافر ، فلو لم يكن قادرا على هذا التمليك لما صحّ النهي عنه ، فالنهي عنه كاشف عن مقدوريّته ، والمقدوريّة دليل على صحّة المعاملة ، فالنهي هنا دليل على الصحّة.

وإن تعلّق النهي بالتسبّب ـ أي الإيصال بالمسبّب ـ من طريق سبب خاصّ ، مثل : أن يقول الزوج لزوجته : «ظهرك عليّ كظهر امّي» لحصول المفارقة بينهما ؛ إذ المحرّم ليس التلفّظ بهذه الجملة ولا البينونة والطلاق ، بل المحرم هو الظهار المتداول بين الناس في عصر الجاهليّة ، فلا تتحقّق الملازمة العقليّة بين الحرمة المولويّة والفساد ، بل هذا النهي أيضا يدلّ على الصحّة ؛ إذ النهي عنه كاشف عن مقدوريّته للمكلّف ، ولا معنى لمقدوريّة هذا العمل سوى صحّة الظهار وحصول البينونة به ، مع مبغوضيّته وترتّب استحقاق العقوبة عليه ، فلا بدّ من الالتزام بكلام أبي حنيفة وتلميذه في هذا القسم أيضا.

وإن تعلّق النهي التحريمي بأثر المعاملة مثل قوله عليه‌السلام : «ثمن العذرة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٩٩.

٣٧٨

سحت» ، (١) ومعنى تعلّق الحرمة بالذات حرمة ، أيّ نوع من التصرّفات فيه ، ويكون هذا النهي والحرمة ملازما لفساد المعاملة ، فإنّ صحّة بيع العذرة النجسة ودخول الثمن في ملك البائع لا يكون قابلا للجمع مع حرمة جميع أنواع التصرّفات فيه ، فتتحقّق ملازمة عقليّة بين الحرمة والفساد هنا ، سيّما بعد التوجّه إلى ما ذكرناه في مقدّمة البحث ، من أنّ الغرض من المعاملات بالمعنى الأعمّ ترتّب الآثار عليها ، ومعنى النهي التحريمي عن ترتّب الآثار أنّه لم تتحقّق المعاملة أصلا ، لا أنّها تتحقّق ولكن لا يترتّب عليها أثر من الآثار.

هذا كلّه في مقام الثبوت ، وأمّا في مقام الإثبات فإن تعلّق النهي في مورد المعاملة كان مجملا ، فإنّه كان من قبيل القسم الأخير حتّى يكون النهي فيه ملازما للفساد ، أو من قبيل الأقسام الثلاثة الاولى حتّى لم يكن النهي فيه ملازما للفساد ، فهل هناك طريق لرفع الإجمال المذكور أم لا؟

لا يبعد القول باستظهار كونه من قبيل القسم الأخير ، بعد ملاحظة ما ذكرناه في ابتداء البحث بعنوان النكتة من استظهار الإرشاديّة من رواية : لا تبع ما ليس عندك ، بدليل أنّ الغرض في باب المعاملات هو ترتّب الآثار عليها ، والملكيّة والزوجيّة وأمثال ذلك تكون مقدّمة لترتّب الآثار ، ولذا قلنا : إنّ الشارع يهدينا إلى عدم ترتّب الآثار على بيع مال الغير ، واستفدنا من هذا الطريق أنّ هذا النهي إرشادي.

ومن هنا يستفاد فيما نحن فيه بأنّ النهي التحريمي إذا تعلّق بالمعاملة وكان متعلّقه مجملا فلا يبعد استظهار أنّه من قبيل القسم الرابع ، بلحاظ أنّ الغرض في باب المعاملات ترتّب الآثار ، وهذا يكون قرينة لترجيح القسم الأخير ،

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ ، الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٣٧٩

فنحكم بتحقّق الملازمة بين الحرمة والفساد عقلا ، ولكنّ الاستظهار لا يكون مسألة برهانيّة؛ إذ يمكن أن ينكره بعض.

ولكن بعد إثبات عدم تحقّق الملازمة العقليّة بين حرمة المعاملة وفسادها يمكن أن يقال بتحقّق ملازمة شرعيّة بينهما من جهة دلالة غير واحد من الأخبار عليها :

منها : ما رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليه‌السلام قال : سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده ، فقال : «ذلك إلى سيّده ، إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما» ، قلت : أصلحك الله تعالى ، إنّ الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّه لم يعص الله إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له جائز». (١)

واستفاد الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (٢) الملازمة الشرعيّة بين الحرمة والفساد من الرواية بعد ملاحظة أنّ عصيان السيّد مستلزم لعصيان الله تعالى ، ولا يمكن التفكيك بينهما ، فإنّ وجوب إطاعة السيّد على العبد يكون من الشارع وبأمره.

واستدلاله قدس‌سره بها يبتني على مقدّمات :

الاولى : أنّ المنهي عنه في باب المعاملات قد يكون إيجاد السبب ، والألفاظ الصادرة عن المتعاملين بالمباشرة ، وقد يكون تأثير السبب في المسبّب.

الثانية : أنّ العبد وما في يده ملك للمولى ، وكما أنّ تصرّف الغير فيه بدون إذن مالكه حرام ، كذلك تصرّف العبد في نفسه بدون إذنه حرام ، وكما أنّ إجراء

__________________

(١) الكافي ٥ : ٤٧٨ ، الحديث ٣ ، الفقيه ٣ : ٣٥٠ ، الحديث ١٦٧٥ ، الوسائل ٢١ : ١١٤ ، الباب ٢٤ من أبواب نكاح العبيد والاماء ، الحديث ١.

(٢) مطارح الأنظار : ١٦٤ ـ ١٦٥.

٣٨٠