دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

العامّ والخاصّ

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في الفصل الأوّل منه أنّه : قد عرّف العام بتعاريف ، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعد الاطّراد تارة والانعكاس اخرى بما لا يليق بالمقام ، فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال عنه ب «ما» الشارحة ، وليست واقعة في جواب السؤال عنه ب «ما» الحقيقيّة.

ثمّ ذكر شاهدا لذلك وقال : كيف؟ وكان المعنى المركوز منه في الأذهان أوضح ممّا عرّف به مفهوما ومصداقا ، ولذا يجعل صدق ذلك المعنى على فرد وعدم صدقه المقياس في الإشكال عليها بعدم الاطّراد أو الانعكاس بلا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ـ أي المعنى المركوز ـ من أحد ، والتعريف لا بدّ أن يكون بالأجلى ، كما هو أوضح من أن يخفى.

ثمّ قال : فالظاهر أنّ الغرض من تعريفه إنّما هو بيان ما يكون بمفهومه جامعا بين ما لا شبهة في أنّها أفراد العام ليشار به إليه في مقام إثبات ما له من الأحكام لا بيان ما هو حقيقته وماهيّته ؛ لعدم تعلّق غرض به بعد وضوح ما هو محلّ الكلام بحسب الأحكام من أفراده ومصاديقه ، حيث لا يكون بمفهومه العام محلّا لحكم من الأحكام ، فلا موضوعيّة لعنوان العام ولا خصوصيّة له ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٣١.

٤٤١

ولا يترتّب على فهمه بكنهه ثمرة فقهيّة ؛ إذ لم يترتّب عليه بما له من المعنى المصطلح حكم فرعي نظير ترتّبه على الموضوعات الاستنباطيّة.

وأورد عليه المرحوم المشكيني قدس‌سره (١) بأنّ ظاهر العلماء من التعاريف التعريف الحقيقي لا سيّما مع نقض بعضهم على الآخر بعدم الطرد والعكس ، ولو كان مرادهم اللفظي منه لم يكن له مجال. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّهم كثيرا ما يبحثون عمّا لا ثمرة له ، مضافا إلى أنّه يترتّب عليه ثمرة اصوليّة عنده ، وهو تقدّم العام على المطلق عند التعارض كما صرّح به في بحث المقدّمة.

والجواب عن الأوّل : أنّ ظهور التعريف في الحقيقي لا يكون قابلا للإنكار ، ولكنّ تحقّق قرينة أقوى على خلافه يوجب رفع اليد عنه ، وهي القطع بأنّ هذا الشيء فرد للعام ولا يشمله التعريف ، فلا يبقى مجال للظهور المذكور.

أو أنّ هذا الشيء كالمفرد المعرّف بلام الجنس ليس بفرد له ، ولكن يشمله التعريف ، فهذا التعريف لا يكون بطارد ما يكون خارجا عن ماهيّة العام ، فلا مجال لكلامه قدس‌سره بعد تحقّق الشاهد المذكور في كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

والجواب عن الإشكال الثاني : أوّلا : أنّ المقصود من الأثر : الأثر الفقهي ، وأنّ عنوان العام لا يكون موضوعا للأمر والنهي في الشريعة ، وهذا الأثر أثر اصولي ، وثانيا : أنّ أقوائيّة دلالة العام أوجب تقدّمه على المطلق ، وحينئذ لا تبقى موضوعيّة لعنوان العام والمطلق ؛ إذ العام بما هو عام لا يكون موضوعا للتقدّم بعد ما كانت أقوائيّة الدلالة علّة له ، بل كلّ دلالة تكون أقوى من الاخرى ، فهو مقدّم ، والعام من مصاديقه.

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٤٢

والفرق بين العام والمطلق أنّ العام يدلّ بدلالة لفظيّة وضعيّة على الأفراد والمصاديق وناظر إليها ، مثل : «أكرم كلّ عالم» ، فالعام متعرّض للأفراد بنحو الإجمال لا بنحو التفصيل ؛ إذ لا يدلّ على الخصوصيّات الفرديّة ، نظير دلالة «أكرم زيدا العالم» ، و «أكرم بكرا العالم» و... والمطلق أنّ المولى إذا قال : «اعتق رقبة» أو (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ـ مثلا ـ يستفيد العقل بعد تماميّة مقدّمات الحكمة أنّ مراده مطلق الرقبة وطبيعة البيع ، فالإطلاق لا يرتبط بالوضع والدلالة اللفظيّة أصلا.

والحاصل : أنّ العموم مستند بوضع الواضع ، والإطلاق مستند بمقدّمات الحكمة.

ولكن يلاحظ في كلمات كثير من العلماء تقسيم العموم إلى أنّه قد يستفاد من طريق وضع اللفظ ، نظير كلمة «كلّ» مثلا ، وقد يستفاد من طريق العقل ، نظير النكرة في سياق النفي ، وقد يستفاد من الإطلاق ، نظير : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، والعقل يستفيد العموم من مثل : «لا رجل في الدار» ؛ إذ الطبيعة لا تنتفي إلّا بانتفاء جميع أفرادها.

ومعلوم أنّه ليس بصحيح ؛ إذ يرد عليه : أوّلا : أنّ الطريق الثاني والثالث كلاهما عقليّان ، فإنّه كما يستفاد الإطلاق من تماميّة مقدّمات الحكمة كذلك يحكم بأنّ الطبيعة لا تنتفي إلّا بانتفاء جميع أفرادها.

وثانيا : أنّه قد مرّ مفصّلا أنّ هذه القاعدة العقليّة مخالفة للعقل ؛ إذ لو كان إيجاد الطبيعة بوجود زيد ـ مثلا ـ يكون انعدامها بعدمه ، فلا مانع من كون الطبيعة متّصفة بالوجود والعدم معا ، بلحاظ الأفراد الموجودة في الخارج والمعدومة فيه ، كاتّصاف ماهيّة الإنسان بالطويل والقصير بلحاظ الأفراد ،

٤٤٣

كما أنّها بالحمل الأوّلي لا يكون طويل القامة ولا قصير القامة ، لا موجودة ولا معدومة ؛ لعدم كونها جزء الماهيّة ، فمبنى عموميّة وقوع النكرة في سياق النفي ليس بصحيح.

وكذلك لا يصحّ استفادة العموم من مقدّمات الحكمة ، بل نتيجتها عبارة عن الإطلاق ، ومعناه أنّ تمام المتعلّق والموضوع للحكم بالوجوب في إفطار شهر رمضان عبارة عن عتق الرقبة ـ مثلا ـ بدون أيّ نظارة إلى الأفراد والمصاديق ، بخلاف العموم ، فلا يمكن أن يكون الإطلاق طريقا للعموم بلحاظ اختلافهما ماهيّة وتباينهما ذاتا ، ولذا ذكرهما الاصوليّون في البابين المستقلّين.

ولا بدّ من ملاحظة تقسيم العام والمطلق ؛ إذ العام قد يكون استغراقيّا ، وقد يكون مجموعيّا ، وقد يكون بدليّا ، والمطلق أيضا قد يكون شموليا ، وقد يكون بدليّا ، وإن كان هذا التقسيم محلّا للبحث والمناقشة كما سيأتي.

والبحث في العام يكون أوّلا : في مفاد الأقسام ، وثانيا : في أنّ هذه الأقسام هل تتحقّق قبل عروض الحكم عليها أم بعده؟

والعام الاستغراقي : أن يكون كلّ فرد من أفراده مستقلّا في الموضوعيّة بدون رعاية الانضمام والوحدة ولو اعتبارا ، كقولنا : «أكرم كلّ عالم» ، فإذا أكرم بعض العلماء ولم يكرم الآخر فقد أطاع وعصى.

والعام المجموعي : أن يكون مجموع الأفراد موضوعا لحكم واحد ، فلو أكرم العلماء إلّا واحدا لم يتحقّق الامتثال ؛ إذ يكون كلّ واحد من الأفراد جزء من الموضوع ، نظير المركّبات الاعتباريّة من الأجزاء والشرائط المختلفة ، فلو أخلّ ببعضها لم يترتّب عليها الأثر المطلوب ، مثل الصلاة ؛ إذ لا فرق بين من لم يصلّ أصلا أو صلّى وأخلّ ببعض الأجزاء والشرائط من حيث عدم ترتّب الأثر.

٤٤٤

والعام البدلي : أن يكون واحد من الأفراد على البدل موضوعا للحكم ، كما لو قال المولى : «أكرم عالما» أو «أكرم أيّ عالم شئت» فتحصل الإطاعة بإكرام واحد من الأفراد ، والعصيان بترك إكرام الجميع.

والمهمّ استظهار صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في الجهة الثانية من البحث بأنّ التقسيم يكون باعتبار الحكم وبعد عروض الحكم ، لا بلحاظ نفس العام ، بل باختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام به ، وإلّا فالعموم في الجميع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.

ثمّ أشكل على نفسه في الحاشية بقوله : إن قلت : كيف ذلك ، ولكلّ واحد منها لفظ غير ما للآخر مثل «أيّ رجل» للبدلي ، و «كلّ رجل» للاستغراقي؟ قلت : نعم ، ولكنّه لا يقتضي أن تكون هذه الأقسام له ولو بملاحظة اختلاف كيفيّة تعلّق الأحكام ؛ لعدم إمكان تطرّق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة ، فتأمّل جيّدا.

ومعلوم أنّ هذا ليس بجواب عن الإشكال ، بل هو فرار منه.

والتحقيق : أنّ التقسيم يكون باعتبار نفس العام ، كما أنّه لا يتوقّف تفهيم وتبيين مفاد المقسم إلى تعلّق الحكم ، كذلك في الأقسام بعد ملاحظة ظهور بعض الألفاظ في العموم الاستغراقي ، وبعضها الآخر في العموم المجموعي ، وبعضها الآخر في العموم البدلي ، ولا شكّ في تحقّق هذه الظهورات في رتبة الموضوع ، وقبل تعلّق الحكم ، كما أنّ اللفظ المطلق في الدلالة على الطبيعة لا يتوقّف على تعلّق الحكم به ، كذلك اللفظ العام في الدلالة على العموم لا يتوقّف على تعلّق الحكم الإنشائي به ، بل تكون دلالته عليه أظهر من دلالة لفظ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٣٢.

٤٤٥

المطلق بلحاظ كونها دلالة لفظيّة وضعيّة.

والشاهد على ذلك : أنّ الظاهر من كلمة الحكم في عبارة صاحب الكفاية قدس‌سره الحكم الإنشائي والمجعول ، وجوبيّا كان أم تحريميّا ، والحال أنّه قد يلاحظ استعمال ألفاظ العموم في مقام الإخبار ، مثل : قوله تعالى : (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ)(١).

ودلالة كلمة «أيّ» على العموم البدلي ، واستعمالها في الجملة الخبريّة شاهد على ما ذكرناه ، فتتحقّق ألفاظ مخصوصة في رتبة متقدّمة على تعلّق الحكم لأقسام العموم ، إلّا أنّه لا مانع من استعمال بعضها في مورد بعضها الآخر بصورة المجاز والاستعارة أو المشترك اللفظي.

وأمّا تقسيم المطلق إلى الشمولي والبدلي فالقول بأنّ المثال الأوّل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) معناه بعد إثبات الإطلاق بتماميّة مقدّمات الحكمة حلّية جميع مصاديق البيع ، والمثال الثاني: «جئني برجل» و «اعتق رقبة» فإنّ معناهما بعد إثبات الإطلاق كفاية إحضار رجل واحد وعتق رقبة واحدة ، فليس بصحيح ؛ إذ قلنا مكرّرا : إنّ الإطلاق لا يرتبط بالدلالة اللفظيّة ، بل العقل في ظرف وجود مقدّمات الحكمة يحكم بوجود الإطلاق ، يعني تمام ما له دخل في الحكم عبارة عمّا ذكر في كلام المولى ، لا دخل لما هو خارج عنه في المتعلّق أصلا.

وعلى هذا لا فرق بين المثالين من حيث الإطلاق ، ولا تتحقّق المباينة بين

__________________

(١) القصص : ٢٧ ـ ٢٨.

٤٤٦

الإطلاقين حتّى نقول بأنّهما قسمان ، بل يجري الإطلاق فيهما بمعنى واحد ، كما لا يخفى.

إن قلت : إنّ كفاية الإتيان بفرد واحد من الأفراد في مقام امتثال الأمر والإطاعة في مثل : «جئني برجل» دليل على تحقّق الفرق بينهما.

قلت : هذا ممّا لا شكّ فيه ، ولكنّه لا يرتبط بالإطلاق ، بل يرتبط بقاعدة عقلية اخرى ، وهي أنّ الطبيعة توجد بوجود فرد ما ، وغرض المولى تعلّق بإيجاد الطبيعة ، ويحصل الامتثال بإتيان فرد منها ، ولا ينافي الاستناد بجانب إثبات القاعدة المذكورة إنكارها في جانب النفي ، فيتحقّق في مثل : «أعتق رقبة» حكمان عقليّان : أحدهما : يحكم بأنّ تمام الموضوع عتق رقبة ، والآخر يحكم بأنّ الطبيعة إذا وقعت مأمورا بها تحصل موافقة الأمر بإتيان فرد منها. والحاصل : أنّ اتّصاف الإطلاق بالبدلي ليس بتام.

إن قلت : إذا قال المولى : «جئني برجل أيّ رجل شئت» لا شكّ في صحّة هذا التعبير ، ويكون ل «أيّ رجل شئت» في المثال عنوان التأكيد ؛ إذ يستفاد بدون إضافته أيضا كفاية الإتيان بأيّ رجل ، ولازم ذلك أن يكون له عنوان التأكيد. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ دلالة كلمة «أيّ» على العموم البدلي وظهورها فيه ممّا لا شبهة فيه ، وفي المثال وقع بعنوان التأكيد للإطلاق ، ونتيجة صحّة هذين الأمرين وانضمامهما ارتباط البدليّة بالإطلاق ، وإلّا يلزم إنكار أحدهما ، فهذا المثال يهدينا إلى تحقّق الإطلاق البدلي.

قلت : إنّه وقع الخلط هنا بين عنوان التأكيد وعنوان عدم الاحتياج إلى ذكر جملة «أيّ رجل شئت» ؛ لأنّ معنى التأكيد تكرار مفاد الجملة الاولى ببيان

٤٤٧

آخر ، فمفاد «جئني برجل» ، أن يكون تمام الموضوع لأمر المولى هو المجيء برجل ويعبّر عنه بالإطلاق ، وتأكيده يكون بقوله : «جئني برجل» ومعنى جملة : «أيّ رجل شئت» تأييد لقاعدة عقليّة : «الطبيعة توجد بوجود فرد ما» ، ولا يكون تأكيدا للجملة الاولى حتّى يكون دليلا للإطلاق البدلي ، فلا يتحقّق الإطلاق البدلي.

وهكذا الإطلاق الشمولي ؛ إذ الشمول يرتبط بالأفراد والمصاديق ولا يتصوّر منشأ لذلك في مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، فإنّ لفظ البيع وضع لطبيعة مبادلة مال بمال مثلا ، ولا يتحقّق في مفاده النظارة والتعرّض للمصاديق. ويمكن أن يقال : إنّ وجود الطبيعي عين وجود أفراده.

قلنا : هذا ممّا لا شبهة فيه ، إلّا أنّ مدلول كلمة «البيع» من حيث الوضع لا يرتبط بالأفراد والخصوصيّات الفرديّة ، كما أنّ مفاد لفظ «الإنسان» يكون كذلك ، فكما أنّ البدليّة لا ترتبط بالإطلاق كذلك الشمول لا يرتبط به ، بل يتحقّق بينهما نوع من التضادّ ؛ إذ الإطلاق يدلّ على الطبيعة والماهيّة ، ومدلول الشمول سريان الأفراد والمصاديق.

ولكنّه لا شكّ في تحقّق الفرق بين قوله : «الصلاة واجبة» ، وقوله : «الصلاة معراج المؤمن» ، وقوله : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ، وقوله : «اعتق رقبة» بلحاظ سقوط الأمر وتحقّق الامتثال بالإتيان بفرد واحد من الطبيعة في بعض الموارد ، وتحقّق الحكم في جميع مصاديق الطبيعة في البعض الآخر منها ، وهذا الاختلاف مستند إلى الأحكام المتعلّقة بالمطلق ، فإنّ نفس تعلّق الحكم التكليفي به بضميمة القاعدة العقليّة المذكورة يهدينا إلى كفاية فرد واحد من طبيعة الصلاة ـ مثلا ـ في مقام الامتثال ، وقد تتحقّق قرينة تقتضي تحقّق فرد

٤٤٨

واحد منها ، كقولنا في مقام الإخبار : «جاءني الرجل» ، فإنّا نعلم خارجا بعدم إمكان مجيء جميع أفراد الرجل ، وصدق الطبيعة بمجيء فرد واحد منها.

وقد يتعلّق به الحكم الوضعي كالحلّية أو عرض خاصّ ، مثل : «الإنسان ضاحك» ومثل : «الإنسان ناطق» ونحو ذلك ، ففي هذه الموارد يتحقّق الحكم في كلّ مورد تتحقّق الطبيعة فيه بدون الفرق بين الأفراد. والمعراجيّة أيضا من هذا القبيل ، فلا يرتبط الاختلاف بالإطلاق أصلا ، بل منشؤه تعلّق أنواع الحكم بالطبيعة المطلقة.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ ألفاظ العموم وضعت للدلالة على العموم في رتبة متقدّمة على تعلّق الحكم ، ولكن استشكل بأنّه ليس لنا لفظ يدلّ على العموم بحيث يستغني عن التمسّك بمقدّمات الحكمة ، فإنّ الألفاظ الدالّة عليه كلفظة «الكلّ» وأمثالها تابعة لمدخولها ، فإن اخذ مطلقا فالكلّ يدلّ على تمام أفراد المطلق ، وإن اخذ مقيّدا فهو يدلّ على تمام أفراد المقيّد ، والمفروض أنّ مدخول الكلّ ليس موضوعا للمعنى المطلق كما أنّه ليس موضوعا للمعنى المقيّد ، بل هو موضوع للطبيعة المهملة الغير الآبية عن الإطلاق والتقييد ، فلا يدلّ قولنا : «أكرم كلّ عالم» على إكرام تمام أفراد العالم إلّا إذا احرز كون العالم الذي دخل عليه لفظ الكلّ مطلقا ، ومع عدم إحرازه يمكن أن يكون المدخول هو العالم العادل ـ مثلا ـ فيكون لفظ الكلّ دالّا على تمام أفراد ذلك المقيّد ، ولذا لو صرّح بهذا القيد لم يكن تجوّزا أصلا ، لا في لفظ العالم ولا في لفظ الكلّ.

وأمّا النكرة في سياق النفي وما في حكمها فلا يقتضي وضع اللفظ إلّا نفي الطبيعة المهملة ، وهي تجامع المقيّدة ، كما أنّها تجامع المطلقة ، والمحرز لكون الطبيعة المدخولة للنفي هي المطلقة لا المقيّدة هو مقدّمات الحكمة لا غيرها ،

٤٤٩

كما أنّ المحرز لكون الطبيعة المدخولة للفظ الكلّ مطلقة ليس إلّا تلك المقدّمات ؛ إذ بدونها يردّد الأمر بين أن يكون النفي واردا على المطلق وبين أن يكون واردا على المقيّد ، فتتوقّف ألفاظ العموم في الدلالة عليه بجريان مقدّمات الحكمة والإطلاق.

وأجاب عنه المحقّق الحائري قدس‌سره (١) في كتاب درر الفوائد بما حاصله : أنّ استفادة استيعاب أفراد الرجل من جملة «أكرم كلّ رجل» لا يحتاج إلى مقدّمات الحكمة ، فإنّ الظاهر من جعل الرجل عنوانا للموضوع أنّه بنفسه مورد للحكم ، ولهذا العنوان مدخليّة في الحكم ، كما أنّه يستفاد من قوله : «أكرم كلّ رجل» اتّكاء المولى على عنوان الرجوليّة ونفي عنوان المرأة ، كذلك يستفاد منه اتّكاؤه عليه ونفي عنوان العالم وأمثال ذلك ، فمفهوم الرجل ينفي عنوان العالميّة زائدا على عنوان الرجوليّة كنفيه عنوان المرأة من دون احتياج إلى مقدّمات الحكمة.

ثمّ ذكر الإشكال النقضي بقوله : ولو لا ذلك لما دلّ قولنا : «أكرم العالم» مطلقا أيضا على الإطلاق ؛ إذ الإطلاق أيضا أمر وارد على مفهوم لفظ العالم ، والمفروض أنّه مهمل يجتمع مع المقيّد ، ولذا لو قال : «أكرم العالم العادل» مطلقا لم يكن تجوّزا قط ، كما ذكرناه في تقرير الشبهة في مدخول لفظ الكلّ والنفي ، ولا شبهة في أنّ العرف والعقلاء لا يقفون عند سماع هذا الكلام ، ولا يطلبون مقدّمات الحكمة في مفهوم لفظ العالم الذي ورد الإطلاق عليه ، والحال أنّ لازم هذا الكلام جريان الإطلاق في الطبيعة المطلقة مرّتان ، بعد عدم إمكان جريانه في الطبيعة المقيّدة بالعدالة والطبيعة المهملة ؛ إذ الغرض من جريان الإطلاق نفي

__________________

(١) درر الفوائد : ٢١١ ـ ٢١٢.

٤٥٠

مدخليّة قيد العدالة وعدم إمكانها موضوعا للإطلاق في الاولى ، وعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في الثانية ، فإنّ معنى العالم المهمل عبارة عمّا لا يكون المولى في مقام بيانه.

والحاصل : أنّ ألفاظ العموم لا تحتاج في الدلالة عليه إلى المطلق.

والتحقيق : أنّ هذا الجواب ليس بصحيح ؛ إذ سلّمنا مدخليّة عنوان الرجل في الحكم بلحاظ جعله موضوعا في كلام المولى ، ولذا نعلم بعدم مدخليّة عنوان المرأة فيه ، ولكنّ البحث في أنّ العنوان المأخوذ في كلام المولى عبارة عن الرجل أو الرجل العالم ، فهذا العنوان مشكوك عندنا. ومعلوم أن لفظ الكلّ تابع لمدخوله من حيث السعة والضيق ، ولا يمكن تعيين المدخول بواسطة كلمة الكلّ ، ولا طريق لتعيينه سوى الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة.

والجواب الآخر ما ذكره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) وهو : أنّ مجرى الإطلاق لا يكون قابلا للجمع مع مجرى العموم ؛ لمغايرتهما ماهيّة ، فإنّ موضوع الإطلاق عبارة عن نفس الطبيعة بدون أيّ نظارة إلى الأفراد والمصاديق ، والبحث في أنّ الحكم متعلّق بالطبيعة المطلقة أو متعلّق بالطبيعة المقيّدة ، والمحرز هنا تماميّة مقدّمات الحكمة وعدمه ، بخلاف العموم في مثل : «أكرم كلّ عالم» فإنّه يتحقّق فيه التعرّض للأفراد والنظارة إلى المصاديق بالإجمال ، ولا فرق من هذه الناحية بينه وبين تعرّض المصاديق باسمها وخصوصيّاتها مفصّلا.

ثمّ قال : سلّمنا أنّ المولى إذا قال : «أكرم كلّ رجل» قد يتحقّق الشكّ في أنّ مراده إكرام مطلق الرجل أو إكرام رجل عالم ، كما إذا كانت أفراد العالم

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ٢ : ٢٣٢ ـ ٢٣٤.

٤٥١

منحصرة بعشرة علماء وتعرّض المولى في مقام بيان الحكم لاسم تسعة منهم فقط ، فيتحقّق الشكّ في أنّ إكرام العاشر أيضا هل يكون مقصودا له أم لا؟ ولكن رافع الشكّ هنا عبارة عن الأصل العقلائي بدون الاستناد إلى الإطلاق ، وهو أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، وهو حاكم بأنّ وجوب الإكرام محدود بما ذكره المولى ولا يكون أزيد من ذلك.

وهكذا نقول في مثل : «أكرم كلّ رجل» بأنّه لو كان مقصود المولى إكرام كلّ رجل عالم مع أنّ مسألة الطبيعة لم تكن في البين ولا موردا للالتفات ـ كما هي مورد للالتفات في الإطلاق ـ حتّى نتمسّك بالإطلاق ، فلا محالة عدم تعرّضه لقيد العالم مستند إلى الخطأ ، وأصالة عدم الخطأ تحكم بنفيه واستيعاب جميع أفراد الرجل ، نظير أصالة عدم الزيادة والنقيصة في الروايات ، وهذا الجواب جيّد جدّا.

ولعلّه كان هذا المعنى مراد صاحب الكفاية قدس‌سره في بحث النكرة في سياق النفي بقوله: «نعم ، لا يبعد أن يكون كلمة «كلّ» ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها»(١).

وربّما عدّ من الألفاظ الدالّة على العموم النكرة الواقعة في سياق النفي مثل : «ليس في الدار رجل» ، وهكذا اسم الجنس الواقع في سياق النفي مثل : «لا رجل في الدار» ، أو النهي بناء على كونه بمعنى طلب ترك الطبيعة لا بمعنى الزجر عن إيجاد الطبيعة ، فمعنى «لا تشرب الخمر» يكون : أطلب منك ترك شرب الخمر ، كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، ومن المعلوم أنّ دلالة النكرة على العموم لا ترتبط بالوضع بخلاف لفظ الكلّ ، ولذا قال المحقّق

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٣٤.

٤٥٢

الخراساني قدس‌سره (١) : ودلالتها عليه لا ينبغي أن تنكر عقلا ؛ لضرورة أنّه لا يكاد يكون طبيعة معدومة إلّا إذا لم يكن فرد منها بموجود ، وإلّا كانت موجودة.

وقد تقدّم مفصّلا توضيح هذه القاعدة العقليّة في جانب النفي والإثبات ، وبطلانها في طرف النفي بأنّ إيجاد الطبيعة إن كان بوجود فرد ما فلا محالة يكون انعدامها بانعدام فرد ما ، ولذا لا مانع من اجتماع امور متضادّة من الوجود والعدم في آن واحد في الطبيعة بلحاظ الأفراد الموجودة والمعدومة في الخارج ، كما أنّ طبيعة الجسم تتّصف بالسواد والبياض في آن واحد بلحاظ الأفراد ، فلا دلالة للنكرة في سياق النفي على العموم عقلا.

إن قلت : لا شكّ بيننا وبين وجداننا في استفادة انتفاء جميع الأفراد من جملة : «لا رجل في الدار».

قلت : سلّمنا ، ولكنّه مفاد عرفي لها لا عقلي ؛ إذ العرف يحكم بأنّ الطبيعة لا تنعدم إلّا بانعدام جميع الأفراد ، فيكون مستند دلالتها عليه القاعدة العرفيّة ، ولا يكون معناه التبادر عند العرف حتّى يرجع إلى الدلالة اللفظيّة الوضعيّة.

ولا يخفى أنّ دلالة النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي على العموم يتوقّف على الإطلاق وجريان مقدّمات الحكمة ، بخلاف ألفاظ العموم ؛ إذ القاعدة المذكورة ـ سواء كانت عقليّة أم عرفيّة ـ لا تعيّن الموضوع ، فإنّها بمنزلة الكبرى والموضوع بمنزلة الصغرى ، ولا يمكن تعيين الصغرى بواسطة الكبرى ، بل لا بدّ من أخذه من الخارج ، ولذا نحتاج إلى جريان مقدّمات الحكمة لإحراز أنّ المقصود من «الرجل» مطلق الرجل أو الرجل المقيّد بالعلم ، ولا طريق لنا سوى ذلك.

__________________

(١) المصدر السابق.

٤٥٣

والفرق بين ما نحن فيه ومثل : «أكرم كلّ عالم» أنّه لا يتحقّق في عالم اللفظ هنا إلّا الطبيعة ونفيها بدون أي نظارة إلى الأفراد والكثرة ، فيدلّ «لا رجل في الدار» على نفي وجود الطبيعة فيها ، والقاعدة تحكم بأنّه إذا كانت الطبيعة منتفية فانتفاؤها متوقّف على انتفاء جميع الأفراد ، فلا بدّ لنا من جريان مقدّمات الحكمة لإحراز إطلاق الطبيعة في مورد الشكّ ، بخلاف «أكرم كلّ عالم» فإنّ لفظ الكلّ هنا يدلّ من ابتداء الأمر على الأفراد والكثرة ، ولا يكون من الطبيعة أثر ولا خبر ، حتّى نحتاج إلى مقدّمات الحكمة في مورد الشكّ في أنّ المقصود منه مطلق العالم أو العالم العادل ؛ لحكومة أصالة عدم الخطأ في هذا المورد عند العقلاء.

والأقوال في دلالة المحلّى باللام ـ جمعا كان أو مفردا ـ على العموم مختلفة ، والمشهور أنّ الجمع المحلّى باللام يدلّ عليه ، بخلاف المفرد المعرّف باللّام ، وصاحب الكفاية قدس‌سره قائل بعدم دلالتها عليه رأسا ، ويستفاد من بعض الكلمات دلالتها معا عليه ، فلا بدّ من البحث في كلّ منهما على حدة.

ونقول : أمّا دلالة المفرد المعرّف باللّام ـ مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ـ عليه وضعا فليس بصحيح ؛ لعدم ثبوت وضع اللام ولا مدخوله ولا المركّب منهما للعموم ، وإن لم يكن مانع بحسب مقام الثبوت من وضع المركّب منهما له ، ولكن يتحقّق الدليل على خلافه ، وهو التبادر والانسباق إلى الذهن من جملة (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) غير ما ينسبق إليه من جملة «أحلّ الله كلّ بيع» ، بلحاظ تعلّق الحكم في الاولى بالطبيعة وفي الثانية بالأفراد.

على أنّ لازم ذلك انتفاء أكثر الإطلاقات ، فإنّها كثيرا ما عبارة عن المفرد المعرّف باللّام ؛ لتمسّك الفقهاء فيه بالإطلاق.

٤٥٤

ويمكن أن يقال : إنّ مراد القائل بدلالة المفرد المعرّف باللام على العموم هو الإطلاق الشمولي الذي يقول به صاحب الكفاية قدس‌سره وعدّة من العلماء.

وجوابه : أوّلا : أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي ليس بصحيح.

وثانيا : أنّ إنكار مثل صاحب الكفاية قدس‌سره دلالته على العموم مع قبول تقسيم الإطلاق دليل على بطلان هذا التوجيه. وبالنتيجة : لا يصحّ القول بدلالة المفرد المعرّف باللّام على العموم.

وأمّا الجمع المحلّى باللام فأنكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) دلالته على العموم بالتقريب المذكور في المفرد المعرّف باللام ، ولكنّ الظاهر أنّ الوضع الكلّي للجمع المحلّى باللام للدلالة عليه لا يكون قابلا للإنكار ، وإلّا لا بدّ من الالتزام بعدم الفرق بين قولنا : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و «أحلّ الله البيوع» من حيث المفاد ، مع أنّ العرف يستفيد العموم من الثاني بخلاف الأوّل ، فيكون التبادر والانسباق عند العرف والعلماء دليلا على وضعه للعموم ، ومن مصاديقه كلمة البيوع.

وحينئذ يقع البحث في أنّ للجمع المحلّى باللام ظهورا في العام الاستغراقي أو البدلي أو المجموعي ، وأنّه من أيّ قسم منه؟

يمكن أن يقال بظهوره في العام المجموعي بقرينة أنّ مدخول اللام هنا ليس الطبيعة ، بل هو عبارة عن الجمع ، ودخول اللام عليه يوجب دلالته على أعلى مراتب الجمع ـ أيّ العموم ـ وانتفاء دلالته على أقلّ مراتبه ، ولكنّ حالة الانضمام والارتباط والاجتماع بين الأفراد محفوظة ، كما أنّ لفظ الجمع مشعر بهذا المعنى ، فيكون من العام المجموعي.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

٤٥٥

ولكنّه باطل لبطلان مبناه ، وهو تحقّق حالة الانضمام في الجمع ، مع أنّ المولى إذا قال : «أكرم علماء البلد» وتحقّق من المكلّف إكرام الاثنين منهم ، لا يقول أحد بأنّه لم يتحقّق منه موافقة أصلا ؛ لتحقّق الموافقة بالنسبة إليهما. وإن كان اللازم عليه إكرام الثالث أيضا ؛ لصدق عنوان أقلّ مراتب الجمع ، والعرف أيضا يساعد على هذا المعنى ، والشاهد على ذلك عدم تأكيديّة قولنا : «أكرم مجموع العلماء» مع أنّ القول بدلالة الجمع المحلّى باللّام على العام المجموعي مستلزم لذلك ، فالإنصاف أنّه يدلّ على العموم الاستغراقي.

وإذا خصّص العام بالمخصّص المتّصل أو المنفصل المعلوم من حيث المفهوم والمصداق ، هل هو حجّة في الباقي أم لا؟ ومن البديهي أنّ الشكّ إذا كان في أصل التخصيص يصحّ التمسّك بعموم «أكرم العلماء» مثلا ، وإذا كان الشكّ في المخصّص الثاني هل يجوز التمسّك به أم لا؟

توجد هنا ثلاثة أقوال : الأوّل : جواز التمسّك مطلقا ، الثاني : عدم جواز التمسّك مطلقا ، الثالث : التفصيل بين المخصّص المتّصل والمنفصل بجواز التمسّك في الأوّل وعدم جوازه في الثاني.

ومنشأ البحث أنّ تخصيص العام مستلزم للمجازيّة في دليل العام أم لا؟ والقائل بالاستلزام يقول بأنّ تخصيص العام كاشف عن عدم استعمال «أكرم العلماء» في معناه الحقيقي من الابتداء ، ولازم ذلك عدم التمسّك به ؛ لأنّا لا نعلم بدائرة المجاز من حيث التوسعة والضيق ، والقائل بعدم الاستلزام يقول باستعمال العام في صورة التخصيص وعدمه في معناه الحقيقي وجواز التمسّك به مطلقا.

والقائل بالتفصيل يقول بالاستلزام إذا كان التخصيص منفصلا ، ويقول

٤٥٦

بعدمه إذا كان التخصيص متّصلا ، وفي الصورة الثانية يقول بجواز التمسّك به بخلاف الصورة الاولى.

فلا مناص من البحث والتحقيق في حقيقة المجاز من باب المقدّمة ، وهو عند المشهور كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره : عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة من العلائق المذكورة في محلّها ، والحقيقة : استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له ، فلفظ الأسد ـ مثلا ـ إذا استعمل في الحيوان المفترس يكون استعمالا حقيقيّا ، وإذا استعمل في الرجل الشجاع بعلاقة المشابهة استنادا إلى إجازة الواضع يكون استعمالا مجازيّا ، فيكون استعمال اللفظ فيهما بلا واسطة بدون أيّ تصرّف عقلي ومعنوي ، إلّا أنّ الاستعمال المجازي يحتاج إلى قرينة.

وقال السكّاكي في قسم من المجاز ـ أي الاستعارة ، مثل «رأيت أسدا في الحمّام» ـ : إنّ اللفظ مستعمل في معناه الحقيقي ، ولكن يتحقّق التصرّف في أمر عقلي ، وهو ادّعاؤه أنّ الرجل الشجاع أيضا من مصاديق الأسد ، بمعنى أنّه يتحقّق للأسد فرد حقيقي وهو الحيوان المفترس ، وفرد ادّعائي وهو الرجل الشجاع.

وأجود من ذلك ما قال به الشيخ أبو المجد الأصفهاني قدس‌سره (١) في كتاب وقاية الأذهان ، ومحصّل كلامه مع زيادة توضيح : أنّ الداعي للاستعمالات المجازيّة عبارة عن اللطائف والظرائف والنكت التي لا يمكن إلقاؤها بالاستعمالات الحقيقيّة ، والمجاز على القول المشهور ليس سوى التلاعب بالألفاظ ، ولا حسن فيه ، مع بعده عن مقام الفصحاء ، بل يستلزم في بعض الموارد للكذب والغلط ، مثل قول الشاعر لمحبوبته :

__________________

(١) وقاية الأذهان : ١٠٣ ـ ١٣٥.

٤٥٧

قامت تظلّلني ومن عجب

شمس تظلّلني من الشمس

ولو لا إرادة معاني هذه الألفاظ لما كان موقع للتعجّب عن تظليل محبوبته ؛ لأنّه جسم حائل ويمنع الشمس عن الإنسان ، فكيف يكون التعجّب من تظليله؟! ويصحّ التعجّب فيما كانت محبوبته فردا من الشمس ادّعاء ، وهكذا في مثل قوله : أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... ، ومقصوده هنا من الأسد : الأسد الحقيقي ، ومن النعامة : النعامة الحقيقيّة ، ونحو ذلك من الأمثلة.

وكلامه قدس‌سره يعمّ مطلق المجاز ، مرسلا كان أم استعارة ، وصرّح أنّ بملاحظة مجموع كلام السكّاكي في المفتاح يظهر أنّه يعمّ مذهبه أيضا في مطلق المجاز ، وإنّما خصّ الاستعارة بالمثال لأنّها من أشهر أقسامه ، ومن البعيد من مثله أن يفرّق بينهما من غير فارق أصلا ؛ إذ الادّعاء الذي بنى عليه مذهبه ممكن في جميع أقسام المجاز.

أمّا قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها)(١) فالمشهور قائل بأنّ المقصود من القرية بعلاقة الحالّ والمحلّ هو أهل القرية ، مع أنّه لا حسن فيه وليس بصحيح ، فإنّ مقصود أبناء يعقوب أنّ الدرب والجدار يشهد بصدقنا ووجدان صواع الملك في رحل أخينا.

وهكذا في قولنا حين موت عالم : «كيف لا تظلم الدنيا وقد فقدت الشمس» ، ونحو ذلك.

فالتحقيق : أنّ كلام السكّاكي عام يشمل مطلق المجاز. والفرق بين كلامه وما ذكرناه أنّه يبني مذهبه على أنّ التصرّف في أمر عقليّ ، وأنّ المستعير يدّعي أنّ للأسد ـ مثلا ـ فردا آخر وهو الرجل الشجاع.

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٤٥٨

والاعتراض عليه : أوّلا : أنّ هذا الكلام صحيح في أسماء الأجناس لكلّيتها وتصوّر الفرد الحقيقي والادّعائي فيها ، بخلاف الأعلام الشخصيّة كقولنا : هو حاتم ؛ إذ لا يتحقّق لحاتم فردان.

وقال التفتازاني في مقام توجيه كلامه : إنّ المستعير يتأوّل في وضع اللفظ ويجعل حاتم كأنّه موضوع للجواد.

وجوابه : أنّ حاتم صار علما لشخص كذا قبل اتّصافه بصفة الجود ، بل بدون التفات الواضع إلى صفة الجود ، فكيف يمكن تعميمه إلى كلّ من يتّصف بهذه الصفة؟!

وثانيا : أنّ اللفظ في أسماء الأجناس أيضا موضوع للفرد الواقعي لا الادّعائي ، فكيف يمكن توسعته إليه ويلزم على ذلك كرّ على ما فرّ؟!

ولا ترد مثل هذه الإشكالات على ما ذكرناه ، فإنّا نقول : إنّ تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصليّة ومستعملها لم يحدث معنى جديدا ، بل أراد بها معانيها الأوّلية بالإرادة الاستعماليّة على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع والاستعمال أصلا ، ولكن يتحقّق في الرتبة المتأخّرة عن الاستعمال الادّعاء بأنّ هذا حاتم وهو أسد ، وهذا ما يطابقه الوجدان ويعضده البرهان ، ولا يعرض على ذهن مستقيم إلّا قبله ، ولا على طبع سقيم إلّا رفضه ، هذا تمام كلامه قدس‌سره مع تلخيص وتوضيح ، وهو كلام جيّد وقابل للمساعدة كما قال به استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره.

إذا عرفت هذا فنقول : هل يكون تخصيص العام مستلزما لمجازيّته على هذا المبنى أم لا؟ يمكن أن يتوهّم أنّ المولى إذا قال : «أكرم العلماء» ثمّ قال بدليل منفصل : «لا تكرم الفسّاق من العلماء» يستفاد من تطبيق العام على غير الفاسق

٤٥٩

أنّ العالم الفاسق كأنّه ليس بعالم ادّعاء.

ولكنّه مردود بأنّ معنى التخصيص محدوديّة الحكم لا الموضوع ، كما يشهد له الوجدان والعرف ، فإنّ التخصيص نظير التبصرة في القانون ولا يكون الادّعاء في البين ، مثل: قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) ، وقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(٢) ، ومعلوم أنّ كلمة «حرّم» تدلّ على الحكم الوضعي ، كما أنّ الأمر بوجوب الوفاء كناية عن صحّة البيع ، فمعناه أنّه لا يجب الوفاء بعقد الربا ؛ لكونه شبيه التبصرة في جنب القانون الكلّي ، وليس معناه أنّ عقد الربا ليس بعقد ولو ادّعاء.

وهذا هو الفرق بين الحكومة والتخصيص ، فإنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم ويوجب التوسعة والتضييق في موضوعه ، بخلاف التخصيص فلا يكون التخصيص ـ متّصلا كان أم منفصلا ـ من مصاديق المجاز على هذا المبنى.

وأمّا على مبنى المشهور ـ أي كون المجاز عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له ـ فهل التخصيص مستلزم لمجازيّة العام أم لا؟ والمخصّص المتّصل لا يستلزم المجازيّة ، فإنّه ليس بمخصّص أصلا ، بل هو بمنزلة الوصف ، فهو نظير قولنا : «أكرم العلماء الموصوفين بالعدالة أو الموصوفين بعدم الفسق» ، وعلى فرض كونه تخصيصا فلا يوجب المجازيّة ، فإنّ لازم ذلك استعمال لفظ العلماء في غير ما وضع له ، وعلى هذا يكون الاستثناء باطلا ؛ لعدم دخول العالم الفاسق في عنوان العام من الابتداء ، فكيف يمكن استثناؤه منه؟!

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٤٦٠