دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

متعلّق الجزاء وتقييده بأنّه «إذا نمت فتوضّأ وضوء من قبل النوم» و «إذا بلت فتوضّأ وضوء من قبل البول» أو «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ وضوء آخر» ، وإمّا أن يكون بالتصرّف في سببيّة السبب الثاني ؛ بأنّه لا يترتّب عليه حكم تأسيسي ، بل يكون أثره تأكيد حكم الأوّل.

ومعلوم أنّ نتيجة الطريق الأوّل عبارة عن عدم التداخل ، ولا دليل لترجيحه على الطريق الثاني ، ولا بدّ للقائل بعدم التداخل من إثبات ترجيح الطريق الأوّل.

وكلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) هنا مع توضيح وتلخيص : أنّ السبب في مثل : «إذا بلت فتوضّأ» عبارة عن الشرط ، والمسبّب يحتمل أن يكون عبارة عن وجوب الوضوء كما يقتضيه ظاهر القضيّة الشرطيّة ، ويحتمل أن يكون عبارة عن نفس الوضوء ، وعلى الاحتمال الأوّل يكون معنى القضيّة : أنّ عقيب البول يتحقّق اشتغال ذمّة المكلّف بالوضوء ، وإذا تحقّق النوم يتحقّق عقيبه اشتغال الذمّة الجديد بالوضوء ، وإلّا يلزم إمّا إنكار سببيّة النوم مع أنّ المفروض إثباتها في المقدّمة الاولى ، وإمّا إنكار قابليّة المتعلّق للتعدّد والتكرّر مع أنّه ليس كذلك ، ولذا نقول بترجيح جانب التأسيس.

إن قلت : إنّ المولى إذا قال : «جئني بالماء» مرّتين ، لما ذا لا تقول باشتغال ذمّة العبد مكرّرا؟ وما المانع من تحقّق الحكمين التأسيسيّين؟ وما الدليل على الالتزام بتأكيديّة حكم الثاني؟

قلت : لا يتوهّم أنّ التأكيد يتحقّق في مورد وحدة المتعلّق فقط ، بل يتحقّق في مورد مغايرة المتعلّق أيضا كالإفطار في شهر رمضان فإنّ الإفطار بشيء

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٧٧.

٤٢١

حلال يكون حراما ، والإفطار بشيء حرام يكون حراما مؤكّدا كالإفطار بشرب المسكر مثلا.

هذا ، مضافا إلى أنّ التعليق لا يكون مساوقا مع التأسيس عندي ، بل هو مترتّب على أمرين : أحدهما : أن يكون المتعلّق قابلا للتعدّد ، وثانيهما : أن يكون اشتغال الذمّة متعدّدا ، ولا يتحقّق الطريق إلى التأسيس من دون إثبات تعدّد اشتغال الذمّة.

ثمّ إنّه لا بدّ من حمل «جئني بالماء» الصادر عن المولى أوّلا على التأسيس ، وأمّا الذي صدر عنه ثانيا فهو محكوم بأنّه حكم تأكيدي ؛ لعدم إمكان أن تكون طبيعة واحدة متعلّقا للحكمين التأسيسيّين ، وأمّا في القضايا الشرطيّة فلا يمكن هذا الأمر ؛ إذ لا يتحقّق التقدّم والتأخّر الدائمي بين الشرطين ، بل قد يكون النوم مقدّما على البول ، وقد يكون البول مقدّما على النوم ، ولا يمكن حمل ما صدر عن المولى ثانيا على التأكيد ؛ إذ يمكن أن يتحقّق سببه قبل سبب الآخر. على أنّه يمكن صدور الجملتين عن المولى قبل تحقّق البول والنوم.

والتحقيق : أنّ هذا البيان ليس بتام ؛ إذ يرد عليه :

أوّلا : أنّ منشأ تعدّد الاشتغال الذي هو شرط للتأسيسيّة لا محالة عبارة عن ظهور إطلاقي الشرط ، وهو معارض مع ظهور إطلاقي متعلّق الجزاء.

وبعبارة اخرى : أنّ التأسيسيّة وتعدّد الحكم إن كان مع حفظ إطلاق متعلّق الجزاء فهو غير معقول ؛ لأنّ تعلّق الحكمين بالطبيعة الواحدة بدون التقييد والتعليق أمر مستحيل ، وإن كان مع التصرّف فيه وتقدّم ظهور إطلاقي الشرط عليه فهو ترجيح بلا مرجّح ، ولا دليل عليه إلّا أن يقول بتقدّمه عند العرف كما قال به صاحب الكفاية قدس‌سره ، ولكنّه يحتاج إلى الإثبات.

٤٢٢

وثانيا : أنّه على فرض قبول تعدّد الاشتغال فهو لا يكون مساوقا مع التأسيسيّة ، بل يناسب التأكيد أيضا ؛ إذ لا بدّ في موارد التأكيد من الالتزام بتعدّد الاشتغال ، وإلّا يلزم أن يكون الحكم الثاني لغوا ، ولكن تعدّد الاشتغال قد يمتثل بإيجاد فرد واحد من المتعلّق في الخارج ، وقد يمتثل بإيجاد فردين منه فيه ، بل قد يمتثل تعدّد الاشتغال في مورد التأسيس أيضا بامتثال واحد ، كما مرّ في مثال ضيافة العالم الهاشمي ، وما يوجب شبهة عدم تعدّد الاشتغال في مورد التأكيد ، هو كفاية امتثال واحد ، مع أنّه لا يكون دليلا لذلك.

وثالثا : أنّه لا محلّ لمسألة التأكيد في مثال الإفطار أصلا ، بل يتحقّق في الإفطار بالمسكر عنوانان : أحدهما عنوان شرب المسكر ، وهو متعلّق التحريم ويترتّب عليه الحدّ ، والآخر عنوان الإفطار في شهر رمضان ، وهو أيضا متعلّق التحريم ويترتّب عليه التعزير ، وإن جمع أحد بين العنوانين فيتحقّق هنا حكمان مستقلّان فيترتّب عليه الحدّ والتعزير ، وهذا نظير الصلاة في الدار المغصوبة ، فخروج هذا المثال عن دائرة التأكيد لا شبهة فيه.

بقي من كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره فرض سببيّة البول والنوم لنفس الوضوء ، وكون المسبّب في القضيّتين عبارة عن نفس الوضوء ، وقال : إنّ المقصود من السببيّة هنا لا تكون السببيّة العاديّة والعقليّة حتّى يتحقّق المسبّب بعد تحقّق السبب قهرا ، بل المقصود منها السببيّة الجعليّة ، بمعنى تحقّق الارتباط بين البول والوضوء ، ولكنّه ليس بمعلوم إلّا لجاعل السببيّة أي الشارع.

وبعبارة اخرى : أنّ الوضوء عقيب البول والنوم مطلوب للشارع ، ولازم ذلك القول بالتداخل ، فإنّ المطلوب وقوع الوضوء عقيب النوم والبول ، فإذا بال المكلّف ونام ولم يتخلّل بينهما وضوء بل تحقّق وضوء عقيبهما يصدق أنّ

٤٢٣

هذا الوضوء وقع عقيب النوم كما يصدق أنّه وقع عقيب البول.

وأمّا كلام الشيخ قدس‌سره (١) حول المقدّمة الثالثة فهو : أنّ بعد إثبات أنّ السبب الثاني ليس وجوده كالعدم وأنّه يؤثّر في حكم تأسيسي مستقلّ فلا تبقى شبهة لعدم انطباق حكمين تأسيسيين على فرد واحد ، هذا بخلاف اجتماع العنوانين في فرد واحد ، نظير : إكرام العالم وضيافة الهاشمي ، فتكون نتيجة البحث استحالة التداخل وعدم معقوليّته ؛ لعدم إمكان أن يكون فردان من ماهيّة فردا واحدا ، فلا يعقل القول بالتداخل ، وعلى هذا تكون الضابطة فيما نحن فيه عبارة عن عدم التداخل ، فإن كان ظاهر القضيّة الشرطيّة على خلافها فلا بدّ من التصرّف فيه.

ثمّ قال : إنّ تداخل الأغسال في غسل واحد إن تحقّق من المكلّف بنيّة عناوين متعدّدة يكون بدليل كونها ماهيّات مختلفة ، والشاهد على ذلك التعبير عنها في بعض الروايات بأنّه : «إذا اجتمع عليك حقوق» ومعناه أنّ كلّ واحدة منها حقّ مستقلّ ، ولا مانع من اجتماع ماهيّات مختلفة في وجود واحد ، فيكون غسل الجنابة ماهيّة خاصّة ، وغسل الحيض ماهيّة اخرى ، وهكذا. وإن لم يكن من حيث الصورة بينهما فرق لكون العبادات من العناوين القصديّة ، مثل صلاة الظهر والعصر ، وجواز التداخل في الأغسال من الشارع دليل على كونها ماهيّات مختلفة.

ولكنّ التحقيق : أنّ هذا الكلام أيضا ليس بتام ؛ إذ سلّمنا أنّ الفردين مع حفظ كونهما فردين لا يمكن جعلهما فردا واحدا ، إلّا أنّ هذا الكلام يرجع إلى أنّ الواجب ومتعلّق الوجوب في جزاء القضيتين هو فرد من الوضوء ، مع أنّه

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٧٧.

٤٢٤

مخالف لمبناه ؛ إذ قد مرّ أنّه قائل بتعلّق الأحكام بالطبائع والماهيّات.

على أنّه أمر مستحيل ، فإنّ الفرد عبارة عن وجود الماهيّة مع خصوصيّات فرديّة ، وقد مرّ قول صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ الماهيّة لا يمكن أن تقع متعلّق الأحكام ؛ إذ الماهيّة من حيث هي هي ليست إلّا هي ، ولا محالة يكون متعلّق الأحكام وجود الطبيعة ، والخصوصيّات الفرديّة خارجة عن دائرة المتعلّق عنده.

وقلنا : إنّ لازم ذلك وجود الطبيعة قبل وجوبه ؛ لتقدّم الموضوع على الحكم ، وتعلّق الأمر بشيء موجود تحصيل للحاصل ، وتعلّق النهي والزجر بشرب الخمر الموجود تغيير الواقعيّة عمّا وقعت عليه ، مع أنّهما أمران ممتنعان ، وبيان الشيخ قدس‌سره أسوأ حالا من ذلك ؛ لدخالة الخصوصيّات الفرديّة أيضا في المتعلّق.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد من الفرد ـ بعد تقديم ظاهر القضيّة الشرطيّة وحفظ تعلّق الأحكام بالطبائع ـ تقييد الجزاء في القضيّتين ، يعني «إذا بلت فتوضّأ وضوء من قبل البول» ، و «إذا نمت فتوضّأ وضوء من قبل النوم» ، فيكون متعلّق الوجوب الماهيّتين المتغايرتين. وإن عبّر عنهما بالفرد ، ولكن تعلّق الأحكام به واضح البطلان.

وجوابه : أنّ تغاير متعلّق الوجوب في القضيّتين بهذا البيان لا شكّ فيه ، ولكنّه لا دليل على مغايرتهما بنحو التباين حتّى نقول بعدم إمكان اجتماعهما في وجود واحد ، ولعلّ مغايرتهما كانت نظير مغايرة الأغسال الواجبة ـ أي التغاير بالعموم من وجه ـ إلّا أن يقول الشيخ الأنصاري قدس‌سره بالفرق بين المسألتين بأنّ الرواية في باب الأغسال تدلّ على كفاية غسل واحد بنيّة جميع الأغسال ، وأمّا

٤٢٥

فيما نحن فيه بعد قبول أصل المغايرة وتعدّد الاشتغال يكون مقتضى الاشتغال اليقيني عدم الاكتفاء بوضوء واحد في مقام الامتثال ، فلا بدّ من تحقّق وضوءين حتّى تتحقّق البراءة اليقينيّة.

والتحقيق : أنّ هذا وإن كان توجيها لكلام الشيخ قدس‌سره ولكنّه لا ينطبق على نتيجة كلامه ، فإنّه استفاد من المقدّمات الثلاثة أنّ التداخل أمر مستحيل ، ونتيجة هذا التوجيه تعدّد التكليف ، وحكم قاعدة الاشتغال بتعدّد الوضوء في مقام الامتثال ، وقد مرّ في ابتداء البحث أنّ القول بالاستحالة خارج عن محلّ النزاع ، وأنّه يجري فيما كان التداخل وعدمه ثبوتا أمرا ممكنا.

مضافا إلى أنّنا استفدنا من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّ الحاكم بتقديم ظهور القضيّة الشرطيّة في السببيّة المستقلّة على ظهور إطلاق متعلّق الجزاء هو العرف ، فيحكم العرف بتعدّد الاشتغال ، ولازم ذلك تغاير متعلّق التكليف ، ومع انضمام حكم قاعدة الاشتغال إليه استفدنا عدم التداخل في المسألة ، وهذا مخالف مع ظاهر كلام الشيخ قدس‌سره وسائر القائلين بعدم التداخل ، ولكنّه لا بدّ من الالتزام بذلك ؛ إذ لا يتحقّق طريق سوى ذلك ، فنتيجة البحث في القضيّتين الشرطيّتين عبارة عن عدم التداخل مع حذف كلمة الاستحالة التي تتحقّق في كلام الشيخ قدس‌سره.

والبحث الآخر في أنّه إذا تحقّقت قضيّة شرطيّة واحدة ، مثل : «إذا بلت فتوضّأ» هل يجب بحسب القاعدة الأوّلية عقيب كلّ بول وضوء مستقلّ ، فإذا بال مرّتين يجب عليه وضوءان أم لا؟ وقد مرّ عن بعض العلماء القول بالتفصيل بين أسباب متعدّدة من نوع واحد ، وأسباب متعدّدة من أنواع المختلفة ، وتمّ البحث في القسم الثاني ، ونبحث الآن في القسم الأوّل.

٤٢٦

فربما يقال : إنّ مسألة التداخل وعدم التداخل هنا مبتن على كون الشرط في القضيّة الشرطيّة عبارة عن الطبيعة أو الأفراد ؛ إذ يحتمل أن تكون القضيّة بمعنى أنّه : إذا تحقّق كلّ فرد من أفراد البول يجب عليك الوضوء ، فلا بدّ حينئذ من القول بعدم التداخل ؛ لاستقلال الأفراد في السببيّة.

ويحتمل أن يكون الشرط في القضيّة عبارة عن طبيعة البول وماهيّته ، والعرف قائل بأنّ الطبيعة لا تتعدّد بتعدّد الأفراد ، وحينئذ لا بدّ من القول بالتداخل.

وجوابه : أنّ الشرط إن كان عبارة عن الطبيعة فهو خارج عن محلّ النزاع ؛ إذ النزاع يجري فيما كان الفرد الثاني في مقابل الفرد الأوّل مؤثّرا في ترتّب الجزاء ، وأن تكون أفراد متعدّدة من نوع واحد نظير أفراد متعدّدة من أنواع متعدّدة ، ولو فرض الشرطيّة للطبيعة فلا فرق فيها بين فرد واحد وأفراد متعدّدة ولا أثر للفرد الثاني أصلا ، والحال أنّه خلاف الفرض ؛ إذ المفروض أن يكون كلّ فرد من أفراد البول مؤثّرا في ترتّب الجزاء.

وأمّا إن كان الشرط عبارة عن أفراد الطبيعة كما يساعده العرف فمقتضى القاعدة عدم التداخل ، فلا يصحّ القول بالتفصيل ، إلى هنا تمّت مسألة التداخل.

ولا بدّ لنا من التعرّض لبحث آخر لتكميل بحث مفهوم الشرط وتتحقّق له مقدّمة ، وهي : أنّ الاختلاف بين المفهوم والمنطوق في الإيجاب والسلب ، والمنطوق يدلّ على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ، والمفهوم يدلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، ولازم ذلك أخذ جميع خصوصيّات المنطوق في المفهوم ، إن كان المنطوق : «إن جاءك زيد فأكرمه يوم الجمعة» فمفهومه «إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه يوم الجمعة» ، وإن كان الشرط في القضيّة الشرطيّة

٤٢٧

أمرا مركّبا مثل : «إن جاءك زيد وسلّم عليك يجب عليك إكرامه» فمفهوم هذا المنطوق يعني انتفاء المركّب قد يكون بانتفاء كلا الجزءين ، وقد يكون بانتفاء جزء واحد منه ، مثل : «إن لم يجئك زيد أو لم يسلّم عليك فلا يجب عليك إكرامه».

وإن كان الشرط في المنطوق أحد أمرين ، مثل : «إن جاءك زيد أو كتب لك كتاب يجب عليك إكرامه» ، فمفهومه يكون بانتفاء كلا الأمرين ، مثل : «إن لم يجئك زيد ولم يكتب لك كتابا فلا يجب عليك إكرامه».

وإن اخذ في جزاء القضيّة الشرطيّة العام المجموعي ، مثل : «إن رزقت زيارة الحجّة عليه‌السلام يجب عليك إكرام العلماء» ، ومعلوم أنّ هنا حكما واحدا ، وهو متعلّق بإكرام جميع العلماء ، ولا يمتثل إلّا بإكرام الجميع ، وله موافقة واحدة ، ومخالفة واحدة ، ومفهوم هذه القضيّة يكون بانتفاء إكرام مجموع العلماء ، وهو كما يصدق بانتفاء وجوب إكرامهم رأسا ، كذلك يصدق بانتفاء وجوب إكرام عدّة منهم.

وإن اخذ في الجزاء العام الاستغراقي فالحكم فيه يتعدّد بتعدّد أفراده ، ولكلّ حكم موافقة ومخالفة مستقلّة ، مثل : «إن رزقت زيارة الحجّة عليه‌السلام يجب عليك إكرام كلّ عالم» ، فهل يكون مفهومه العام الاستغراقي المنفي أو انتفاء إكرام كلّ عالم؟ وهو يصدق مع وجوب إكرام بعض العلماء ، ونظيره ما ورد في الفقه مثل : قوله عليه‌السلام : «الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء» ، (١) قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) : مفهومه : «أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء صالح للتنجيس» ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٢) مطارح الأنظار : ١٧٤.

٤٢٨

بخلاف صاحب هداية المسترشدين (١) ، فإنّه يقول : بأنّ كلمة «شيء» نكرة واقعة في سياق النفي في القضيّة المنطوقيّة ، ولذا يفيد العموم ، وأمّا من جهة المفهوم فهي نكرة واقعة في سياق الإثبات ، فهي لا تفيد العموم ، فالمفهوم نقيض العموم ، ينطبق على موجبة كلّية وموجبة جزئيّة.

وقال الشيخ الأنصاري قدس‌سره لتبيين مدّعاه : إنّه لا خصوصيّة للفظ «الشيء» المأخوذ في الجزاء ، بل هو مرآة للعناوين النجسة ، وعنوان إجمالي قام مقامها ، فإن كان قول الإمام عليه‌السلام مكانه «أنّ الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه الدم والمني والبول والغائط ...» ، يكون مفهومه قطعا «أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه الدم والمني والبول ، ...» وهكذا في العام الاستغراقي.

ولقائل أن يقول : إنّ الأمر ليس بدائر بين الأمرين حتّى نحتاج إلى تأييد أحدهما لا محالة ، بل يتحقّق أمر ثالث ، وهو أنّ المفهوم عبارة عن الانتفاء عند الانتفاء ، بلا فرق بين كون جزاء القضيّة موجبة أم سالبة ، مثل : «إن جاءك زيد فلا تكرمه» ، ومفهومه أيضا انتفاء الجزاء ـ أي لا تكرمه ـ عند انتفاء الشرط ، ولا يكون المقصود في باب المفهوم إثبات النقيض ؛ إذ لا ربط بين المسألتين ، ومفاد المفهوم لا يكون أزيد من انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، فعلى هذا يكون مفهوم الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجسه شيء ، أنّ مع انتفاء بلوغ الماء قدر كرّ ينتفي الجزاء ـ أي لا ينجسه شيء ـ وأمّا قيام ينجسه كلّ النجاسات مقامه أو بعضها فلا بدّ أن يستفاد من الخارج ، ولا يكون من شأن المفهوم تعيين أحدهما ، ولا يلزمنا الالتزام بكلام الشيخ ولا بكلام صاحب الحاشية معيّنا بعد الدقّة في معنى المفهوم ؛ إذ المفهوم ينطبق على كلاهما معا كما لا يخفى.

__________________

(١) انظر : هداية المسترشدين : ٢٩١.

٤٢٩

البحث في مفهوم الوصف

ولا بدّ في هذه المسألة من التعرّض لأمرين بعنوان المقدّمة :

الأوّل : أنّ الوصف قد يكون معتمدا على الموصوف ومشتملا على ذكره ، مثل : «أكرم رجلا عالما» وقد يكون غير معتمد عليه ، مثل : «أكرم عالما» ، وربما يقال : إنّ النزاع في باب مفهوم الوصف يختصّ بالصورة الاولى ، فإنّ طريق إثبات المفهوم هنا أنّ إضافة القيد في كلام المولى الحكيم يكون لغرض لا محالة ، ولا بدّ للقيد من مدخليّة لخروج كلام المتكلّم عن اللغوية ، ومورد هذا الاستدلال فيما إذا ذكر الوصف والموصوف معا ، فالصورة الاولى خارجة عن دائرة النزاع في مفهوم الوصف ، ولكنّه ليس بصحيح ؛ إذ الاستدلال لا ينحصر بإضافة لفظيّة ، بل إن ذكر عنوان يرجع عند التحليل إلى الذات والصفة ، مثل : «أكرم عالما» فيجري الاستدلال بأنّ عدول المتكلّم عن عنوان الذات إلى عنوان الصفة مع تأخّره عن الذات من حيث الرتبة لا محالة يكون لغرض ، وهو مدخليّته في الحكم بحيث ينتفي الحكم بانتفائه ، فلا فرق بين الصورتين من هذه الجهة.

ولذا يكون مفهوم الرواية النبويّة : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» (١) ، يعني تأخير ومسامحة المديون الواجد يحلّ عقوبته وعرضه : «أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ عقوبته وعرضه» عند كثير من القائلين بالمفهوم ، مع أنّ الوصف ذكر خاليا عن الموصوف.

الأمر الثاني : أنّ الوصف إذا لوحظ مع الموصوف يتحقّق بينهما حالات مختلفة من حيث النسبة ، وما هو القدر المتيقّن من محلّ النزاع أن تكون النسبة

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٣٣٤ ، الباب ٨ من أبواب الدين والقرض ، الحديث ٤.

٤٣٠

بينهما عامّا وخاصّا مطلقا ، بحيث يكون الوصف أخصّ مطلقا ، مثل : «أكرم إنسانا عالما» ، وهكذا إن كانت النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه ، ومادّة الاجتماع عبارة عمّا يدلّ عليه المنطوق ، مثل : «في الغنم السائمة زكاة» ، ومعلوم أنّ مادّة الافتراق من جهة الموصوف ، أي الغنم غير السائمة داخل في محلّ النزاع في باب المفهوم قطعا.

وأمّا مادّة الافتراق من جهة الوصف ، مثل : «الإبل السائمة» فالظاهر أنّه خارج عن محلّ النزاع ؛ إذ لا بدّ في المفهوم من كون الموضوع محفوظا ، خلافا لبعض الشافعيّة (١) فإنّه يقول بأنّا نستفيد من مفهوم هذه الجملة عدم وجوب الزكاة في الإبل غير السائمة أيضا ، وهكذا إن كانت النسبة بينهما التباين ، بل في نفس المنطوق أيضا محلّ إشكال بأنّه كيف يمكن أن يكون الوصف والموصوف متباينين ، مثل : «أكرم إنسانا غير مستوي القام»؟!

وهكذا إن كان الوصف والموصوف متساويين ، يعني كلّما صدق عليه الوصف صدق عليه الموصوف ، وبالعكس ؛ إذ البحث في وجود الحكم وعدمه فيما تحقّق الموصوف بدون الوصف ، وهذا الفرض لا يتحقّق في المتساويين.

وهكذا في العموم والخصوص المطلق إذا كان الموصوف أخصّ مطلقا ؛ إذ النزاع يجري فيما إذا تحقّق الموصوف بدون الوصف.

ثمّ إنّ كلمات النافين والمثبتين هنا نظير ما ذكر في مفهوم الشرط من طريق القدماء لإثبات المفهوم ، وطرق المتأخّرين لاستفادة العلّية المنحصرة من الوضع والانصراف ، وإطلاق أداة الشرط ، وإطلاق نفس الشرط ، وإطلاق الجزاء.

__________________

(١) الأمّ ٢ : ٥ ، ٢٥.

٤٣١

والجواب الجواب ، لكنّ الفرق بين مفهوم الوصف ومفهوم الشرط : أنّ القائل بالمفهوم في القضيّة الشرطيّة من طريق الوضع والانصراف يقول : إنّ أداة الشرط ـ مثل كلمة «إن» و «إذا» ـ وضعت للدلالة على العلّية المنحصرة ، أو أنّها تنصرف إليها في مقام الاستعمال ، وأمّا في القضيّة الوصفيّة فلا بدّ من القول بأنّ الجملة الوصفيّة وضعت للدلالة على العلّية المنحصرة ، أو أنّها تنصرف إليها حين الاستعمال ؛ إذ لا يمكن القول بدلالة الوصف أو الموصوف عليها.

ولكنّه قد مرّ في ابتداء بحث المفاهيم أنّ القائل بالمفهوم من طريق الوضع والانصراف لا يحصر دائرة المفهوم بالجمل الإنشائيّة ، بل يجري هذا المعنى عنده في الجمل الخبريّة أيضا ، ففي القضيّة الوصفيّة أيضا يقول بتحقّق المفهوم في الجمل الإنشائية والخبرية معا ؛ إذ لا يصحّ الفرق بينهما من حيث الدلالة على العلّية المنحصرة بالوضع أو الانصراف وعدمها ، والحال أنّه لا يمكن الالتزام بذلك في مثل : «جاءني رجل عالم» ، و «أضيف غدا رجلا عالما» ، فتكون مسألة المفهوم في القضيّة الوصفيّة أسوأ حالا من المفهوم في القضيّة الشرطيّة ، وإذا كانت أدلّة القائلين بالمفهوم هنا قابلة للمناقشة فتكون هاهنا أيضا كذلك. هذا تمام الكلام في القضيّة الوصفيّة.

مفهوم الغاية

ومن القضايا التي وقع الاختلاف فيها من حيث المفهوم هي القضيّة المغيّاة بغاية ، فيقع البحث في أنّ القضيّة الغائية هل تدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الغاية أم لا؟ وأمّا مسألة دخول الغاية في المغيّا وخروجها عنه فلا دخل لها في أصل البحث عن المفهوم ، بل لها علاقة في سعة المفهوم وضيقه.

٤٣٢

واختار المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وأكثر تلامذته التفصيل في المسألة ، وهو أنّ الغاية إن كانت غاية للحكم يتحقّق المفهوم ، وإن كانت غاية للموضوع لا يتحقّق المفهوم ، مثل : «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» ، فيحتمل أن يكون «حتّى تعلم» غاية للطاهر ، ويحتمل أن يكون غاية لكلّ شيء ، يعني كلّ شيء غير معلوم القذارة طاهر.

واستدلّ المحقّق الحائري قدس‌سره (٢) على هذا التفصيل بما يلي : قد حقّقنا في محلّه أنّ مفاد هيئة «افعل» إنشاء طبيعي الطلب لا الطلب الجزئي الخارجي ، فتكون الغاية في قضيّة : «اجلس من الصبح إلى الزوال» غاية لكلّي الطلب المتعلّق بالجلوس ، ولازم ذلك ارتفاع حقيقة الطلب وطبيعته عن الجلوس عند وجودها. نعم ، لو قلنا : إنّ مفاد الهيئة هو الطلب الجزئي الخارجي فلازم ذلك ارتفاع ذلك الطلب الجزئي ، ولا ينافي وجود جزئي آخر بعد الغاية ، وحيث إنّ التحقيق هو الأوّل تكون القضيّة ظاهرة في ارتفاع سنخ الحكم.

وأمّا إن كانت الغاية غاية للموضوع فحالها حال الوصف في عدم الدلالة على المفهوم.

وقال المحقّق الحائري (٣) في تعليقته على هذا الكلام : يمكن أن يقال بمنع المفهوم حتّى فيما اخذ فيه الغاية قيدا للحكم ، كما في «اجلس من الصبح إلى الزوال» ؛ لمساعدة الوجدان على أنّا لو قلنا بعد الكلام المذكور : «وإن جاء زيد فاجلس من الزوال إلى الغروب» ، فليس فيه مخالفة لظاهر الكلام الأوّل ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

(٢) درر الفوائد : ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٣) المصدر السابق.

٤٣٣

ويكشف هذا عن عدم تحقّق المفهوم له ؛ إذ لو كان مفهومه : «لا يجب الجلوس بعد الزوال» لا محالة يكون معارضا للكلام الثاني ، فلا بدّ من إنكار المفهوم للقضيّة الغائيّة رأسا.

والتحقيق : أنّ ذلك ـ أي ما في التعليقة ـ لا يمكن المساعدة عليه أوّلا : أنّ المتعلّق في كلا الحكمين هو الجلوس ، والعرف بعد ملاحظة الحكمين يرى القضيّتين بمنزلة قضيّة واحدة ، وأنّ حكم المولى هو إيجاب الجلوس من الصبح إلى الغروب ، إذا فلا بدّ من ملاحظة الحكم بالنسبة إلى ما بعد الغروب ، وبعد مراجعة العرف يستفاد عدم وجوب الجلوس بعد الغروب ، والحكم منشؤه عبارة عن مفهوم الغاية وحكم الثاني مانع من عدم الوجوب بعد الزوال ، وتعدّد الحكم كاشف عن تعدّد العلّة.

وثانيا : أنّه لو فرض تحقّق المفهوم لقوله : «اجلس من الصبح إلى الزوال» ، فلا يتحقّق التعارض بين مفهوم الكلام الأوّل ومنطوق الكلام الثاني ، فإنّ مفاد المفهوم أنّه : لا يجب الجلوس بعد الزوال ، سواء جاء زيد أم لا ، والمنطوق يقول : «إن جاءك زيد يجب الجلوس بعد الزوال».

ومن المعلوم أنّه لا يتحقّق التعارض بين المطلق والمقيّد ، كما حقّق في محلّه.

وثالثا : أنّ الغاية يحتمل أن تكون قيدا للموضوع في المثال عند العرف ، وعلى هذا لا يدلّ على المفهوم ، كما اعترف بذلك ، فيكون الدليل على عدم التعارض بين الحكمين كون الغاية قيدا للموضوع عرفا ، فلا يمكن سدّ طريق مفهوم الغاية بهذا البيان في صورة كون الغاية قيدا للحكم ، بل لا بدّ من الالتزام بمفهوم الغاية إن كانت غاية للحكم ، وإن قلنا بأنّ مفاد الهيئة طلب جزئيّ.

وما يهدينا إلى هذه الاستعمالات العرفيّة المتداولة المتكثّرة إذا كان حكم

٤٣٤

المولى مغيّا بغاية يحكم العرف بانتفاء الحكم عند انتفاء الغاية ، بلا فرق بين إلقاء الحكم بهيئة «افعل» أو بكلمة «يجب» ، وحاكميّة فهم العرف بالنسبة إلى المتفاهم من القضايا لا شبهة فيه ، فلا نحتاج لإثبات المفهوم هنا إلى الوضع والانصراف والإطلاق وأمثال ذلك.

وأمّا بحث دخول الغاية في المغيّا وخروجها عنه مع عدم ارتباطه في بحث المفاهيم فلا بدّ من الإشارة إليه ، بعد التوجّه إلى أنّ المراد من الغاية هنا هو مدخول «إلى» و «حتّى» ، وتكون نفس الغاية ذات أجزاء زمانيّة ، مثل : «أتمّوا الصيام إلى الليل» ، أو ذات أجزاء مكانيّة ، مثل : «سرت من البصرة إلى الكوفة» ، أو ذات أجزاء أخر ، مثل : «أكلت السمكة حتّى رأسها» ، فغاية الفلسفي ـ أي انتهاء كلّ جسم ـ خارجة عن محلّ النزاع ، فلا يصحّ ارتباط هذا البحث بجزء لا يتجزّأ وأمثال ذلك.

وبعد التوجّه إلى عدم اختصاص هذا النزاع بغاية الموضوع ـ كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره في حاشيته على الكفاية ـ وأنّ غاية الحكم إن كانت ذات أجزاء زمانيّة ، مثل: «أتمّوا الصيام إلى الليل» فهي أيضا داخلة في محلّ النزاع.

وإذا عرفت ذلك فنقول : إنّ مسألة دخول الغاية في المغيّا وخروجها عنه مسألة عرفيّة ، والظاهر بعد الرجوع إلى الاستعمالات العرفيّة أنّها خارجة عن المغيّا ، ولا فرق في ذلك بين غاية الحكم وغاية الموضوع ، فلا طريق لهذه المسألة سوى الاستعمالات العرفيّة ، ونحن نرى صدق جملة : «سرت من الدار إلى المدرسة» ، عرفا إذا كان السير من باب الدار إلى باب المدرسة.

٤٣٥

في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم بالمستثنى منه

يحتمل أن يرتبط هذا المعنى بالمنطوق ، ومفهوميّته أمر مشكل ، ومعلوم أنّ الاستثناء من النفي إثبات ، مثل : «ما جاءني القوم إلّا زيدا» ، ومن الإثبات نفي ، مثل : «جاءني القوم إلّا بكرا» ، إنّما الكلام في دلالة الاستثناء على انحصار المجيء بزيد وعدمه في المثال الأوّل وانحصار عدم المجيء ببكر وعدمه في المثال الثاني ، وحكي عن أبي حنيفة إنكار هذه الدلالة ، واستشهد برواية : «لا صلاة إلّا بطهور» ، بأنّ الاستثناء لو كان دالّا على اختصاص الحكم بالمستثنى منه لكان دالّا على أنّ الواجدة للطهور هي الصلاة مطلقا ، وإن كانت فاقدة لما عداه من الأجزاء والشرائط ، فهو باطل قطعا ؛ إذ لا شكّ في انتفاء الصلاة بفقدان ركن من أركانها مع وجود الطهور.

وجوابه : أنّ المستثنى منه هنا هو التامّ الجامع للأجزاء والشرائط إلّا الطهور ، فإنّه إمّا ليس بصلاة أصلا بناء على وضع ألفاظ العبادات للصحيح ، وإمّا ليس بصلاة تامّة بناء على وضعها للأعمّ ، فالمراد من مثله أنّه لا تكون الصلاة التي كانت واجدة لأجزائها وشرائطها المعتبرة فيها صلاة إلّا إذا كانت واجدة للطهارة ، مع أنّ إثبات عدم دلالة الاستثناء على الاختصاص بسبب القرينة لا يقدح في وضع أداة الاستثناء للدلالة عليه ، فالاستعمال مع القرينة كما في المثال لا يدلّ على مدّعاه أصلا.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّه لا موقع للاستدلال على المدّعى بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إسلام من قال كلمة التوحيد ؛ لإمكان دعوى أنّ دلالتها على التوحيد كان بقرينة الحال أو المقال.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٢٦.

٤٣٦

ثمّ استشكل في دلالتها على التوحيد بالمناسبة ، مع أنّه لا يرتبط بمسألة المفهوم أصلا ، وهو أنّ خبر «لا» إمّا يقدّر «ممكن» أو «موجود» ، وعلى كلّ تقدير لا دلالة لها على التوحيد ، أمّا على الأوّل فإنّه حينئذ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمكان وجوده تبارك وتعالى لا وجوده ، وأمّا على الثاني فلأنّها وإن دلّت على وجوده تعالى ، إلّا أنّه لا دلالة لها على عدم إمكان واستحالة إله آخر.

ثمّ أجاب عنه بما لا يليق بشأنه ، وقال : إنّ المراد من الإله هو واجب الوجود ، ونفي ثبوته ووجوده في الخارج ، وإثبات فرد منه فيه ـ وهو الله تعالى ـ يدلّ بالملازمة البيّنة على امتناع تحقّقه في ضمن غيره تبارك وتعالى ؛ ضرورة أنّه لو لم يكن ممتنعا لوجد لكونه من أفراد الواجب ، وأمره دائر بين وجوب الوجود واستحالة الوجود ، بخلاف الممكن.

ولكن هذا لا يوافق التأريخ واللغة والقرآن ؛ إذ التوحيد على أقسام : توحيد في الذات ، وتوحيد في الصفات ، وتوحيد في الأفعال ، وتوحيد في العبادة ، ومعلوم أنّ إشكال أعراب الجاهليّة لا يكون في مرتبة توحيد الذات ، فإنّهم كانوا معتقدين بالمبدإ ، كما أشار إليه القرآن بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ)(١) ، ويستفاد من هذه الآية اعتقادهم بتوحيد الذات وتوحيد الأفعال ، ولازم ذلك الاعتقاد بتوحيد الصفات ، ولكنّهم كانوا فاقدين للتوحيد في العبادة ، وكان غرضهم من عبادة الصنم التقرّب إلى الله تعالى ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)(٢) ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم : «قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» يكون معناه :

__________________

(١) العنكبوت : ٦١.

(٢) الزمر : ٣.

٤٣٧

أنّ فلا حكم في التوحيد في العبادة ، ويكون معنى كلمة «إله» من حيث اللغة : المعبود الصالح للعبوديّة ، فمعنى كلمة التوحيد أنّه لا معبود موجود إلّا الله.

وتوهّم صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه يرتبط بمقام التوحيد في الذات ، وهو كما ترى.

وأمّا دلالة الاستثناء على الحصر بمعنى استفادة الأمرين من جملة «جاءني القوم إلّا زيدا» ، أي عدم مجيء زيد ، وانحصار عدم المجيء به ، فعلى القول به كما يكون كذلك عند العرف لا يرتبط هذا بالمفهوم ، بل هو مفاد المنطوق ؛ إذ لا يبقى محلّ للمفهوم بعد تعرّض المنطوق لجانبي الإيجاب والسلب معا ، بخلاف كلمة «إنّما» و «بل» الإضرابيّة وأمثال ذلك. هذا تمام الكلام في باب المفاهيم.

٤٣٨

المقصد الرابع

في العامّ والخاصّ

٤٣٩
٤٤٠