دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

ويشهد على ذلك امور :

الأوّل : أنّ الشكّ في تحقّق الشرط وعدمه في الواجبات المشروطة يرجع إلى الشكّ في أصل الوجوب ويجري فيه أصالة البراءة ، وعلى هذا إن قلنا بانحلال خطابات عامّة وشككنا في مورد تحقّق القدرة وعدمه على إتيان المأمور به تجري أصالة البراءة قاعدة ، مع أنّه مجرى أصالة الاحتياط عند الفقهاء ، ولا يتصوّر له دليل سوى خروج القدرة عن دائرة الشرطيّة ، وأنّ العاجز أيضا مكلّف ، ولكنّ العجز عذر في المخالفة ، وهذا شاهد على عدم الانحلال.

الأمر الثاني : أنّه لا إشكال في وجوب القضاء على النائم في جميع أوقات الصلاة كمن كان نائما قبل الزوال إلى بعد الغروب ، مع أنّه على القول بالانحلال لا يمكن توجّه التكليف إليه أصلا في وقت الأداء ، فكيف يمكن تكليفه بالقضاء ، والحال أنّه لم يفت منه شيء ، ولا طريق له إلّا عدم انحلال خطابات عامّة ، وتوجّهها إلى النائم وغيره ، إلّا أنّ النائم في ترك الصلاة في الوقت كان معذورا.

وأمّا وجوب قضاء صوم أيّام الحيض على الحائض مع عدم وجوب أدائه عليه فيكون بدليل خاصّ ، بدون أخذ عنوان الفوت فيه ، بخلاف النائم فإنّ دليل وجوبه عليه ، هو «اقض ما فات كما فات».

الأمر الثالث : أنّ ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره في طرفي العلم الإجمالي من شرطيّة كون المنهيّ عنه مورد ابتلاء المكلّف بكلا طرفيه ، وإلّا يكون التكليف مستهجنا ، نقول : إنّ هذا الشرط يصحّ بالنسبة إلى خطابات شخصيّة ، وهكذا على القول بالانحلال في خطابات عامّة ، لا على القول بعدم

٣٤١

الانحلال ، ولذا يصحّ تكليف جميع المكلّفين بالاجتناب عن الخمر الموجود بأقصى نقاط العالم إذا كان مورد ابتلاء كثير منهم أو عدّة منهم ، وتظهر ثمرته في العلم الإجمالي إن علمنا بخمريّة هذا المائع ، أو المائع الموجود في أقصى نقاط العالم ، فيلزم الاجتناب عنه ؛ إذ لا يكون التكليف شخصيّا حتّى نلاحظ حال آحاد المكلّفين ، ومن هنا لا يرى أحد يقول بشرطيّة القيد المذكور للتكاليف العامّة.

الأمر الرابع : أنّ على القول بالانحلال في الخطابات التكليفيّة العامّة لا بدّ من القول به في الخطابات الوضعيّة أيضا ؛ إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة ، فكما أنّه لا يصحّ الحكم بالاجتناب بدون قيد «إن ابتليت» عن الخمر الموجود في أقصى نقاط العالم ، كذلك لا يصحّ الحكم بنجاسة الخمر المذكور بدون القيد المذكور ، فإنّ جعل هذا الحكم مستلزم للّغوية.

مع أنّه لا شكّ في عدم دخالة قيد الابتلاء في نجاسة الخمر ، ولا يقول أحد بأنّ الخمر الخارج عن دائرة الابتلاء لا يكون نجسا ، فإذا كان الأمر في الأحكام الوضعيّة هكذا يكون في الأحكام التكليفيّة أيضا كذلك ، ولذا لا تصحّ مقايسة الخطابات العامّة بالخطابات الشخصيّة ، ولا شكّ في شمولها لجميع أفراد المكلّفين ، ولكنّ المكلّف إذا لم يكن عالما يكون معذورا في المخالفة ، ومن هنا يكون الدليل للبراءة العقليّة عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لا قبح التكليف بلا بيان ، فيشمل التكليف للعالم والجاهل والنائم والمضطرّ ، إلّا أنّ العناوين المذكورة تكون عذرا في المخالفة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الخروج من دار مغصوبة كالدخول فيها يكون منهيّا عنه فقط ، وصدق عنوان الاضطرار عليه لكونه الطريق المنحصر

٣٤٢

للتخلّص عن الحرام لا يوجب المعذوريّة ؛ إذ الاضطرار بسوء الاختيار لا يكون عذرا لا عقلا ولا شرعا ، بل حرمة الدخول والخروج تكون بعنوان التصرّف في مال الغير لا بعنوانهما ، ولا يتحقّق عذر فيما نحن فيه ، فبعد أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه العام وبالعكس ، وأنّ مقدّمة الواجب ليست بواجبة ، ولا تتحقّق الملازمة بين وجوب المقدّمة ، ووجوب ذي المقدّمة ، وأنّه لا يتحقّق الانحلال في الخطابات العامّة ، فيستفاد أنّ الخروج بعنوان التصرّف في مال الغير يكون منهيّا عنه بالنهي الفعلي المنجّز فقط.

وأمّا مع رفع اليد عن المباني الثلاثة المذكورة فهل يكون الخروج عن الدار المغصوبة كالصلاة فيه مأمورا به ومنهيّا عنه معا أم لا؟

قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّه لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في الصلاة في الدار المغصوبة مع ذلك يكون الخروج عنها خارجا عن عنوان هذه المسألة ، فإنّ من المسلّم بين القائل بالجواز والقائل بالامتناع تحقّق عنوانين فيها : أحدهما : عنوان الصلاة وهو متعلّق الأمر ، وثانيهما : عنوان الغصب وهو متعلّق النهي ، والاختلاف في سراية الأمر والنهي عن متعلّقهما إلى متعلّق آخر وعدمه.

ولا يتحقّق في الخروج عن الدار المغصوبة عنوانان ، فإنّه بعنوانه يكون مأمورا به ومنهيّا عنه معا ، وهو نظير «صلّ» و «لا تصلّ» ، لا شكّ في امتناعه ، إلّا أنّ علّة الامتناع عند القائل بالتضادّ بين الأحكام عبارة عن اجتماع الضدّين ، وعند منكره عبارة عن عدم قدرة المكلّف على الامتثال ، فلا يصحّ المقايسة بين المثالين ، فإنّ الصلاة في الدار المغصوبة تكون من مصاديق مسألة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٦٣ ـ ٢٧٢.

٣٤٣

اجتماع الأمر والنهي بخلاف الخروج من الدار المغصوبة.

والتحقيق : أنّ ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره ليس بصحيح ؛ إذ قد مرّ أنّ موضوع الحرمة والنهي في الرواية هو عنوان التصرّف في مال الغير يكون الخروج كالدخول من مصاديقه ، كما أنّ حرمة البقاء في الدار المغصوبة تكون بهذا العنوان لا بعنوانه ، فلا مجال للقول بكون الخروج منهيّا عنه بعنوانه ، بل بعنوان محصّل التصرّف في مال الغير حرام. هذا من جهة النهي والحرمة.

وأمّا من جهة الأمر والوجوب فلا شكّ في أنّ الوجوب هاهنا وجوب غيريّ ومقدّمي ، بأنّ التصرّف في مال الغير إن كان حراما يكون ترك التصرّف واجبا على القول بالاقتضاء من باب المقدّمة ، فيتعلّق الوجوب الغيري بالخروج بعنوان المقدّميّة لترك التصرّف ، وقد مرّ في بحث مقدّمة الواجب أنّ متعلّق الوجوب الغيري لا يكون وجود المقدّمة الخارجي ، مثل : نصب السلّم الخارجي ، ولا عنوان نصب السلّم مثلا ، بل متعلّقه هو عنوان ما يتوقّف عليه الكون على السطح ؛ إذ يقال في مقام التعليل لوجوب نصب السلّم بأنّه ما يتوقّف عليه الصعود على السطح ، مثل : «لا تشرب الخمر لأنّه مسكر» ، و «لا تأكل الرمّان لأنّه حامض» ، ومعناه أنّ أكل كلّ حامض محكوم بالحرمة ، كما أنّ شرب كلّ مسكر محكوم بالحرمة.

فالحكم بالحرمة حقيقة متعلّق بأكل الحامض وشرب المسكر ، ونسبته إلى الرمّان والخمر لا يخلو من مسامحة ، فإنّهما من مصاديق أكل الحامض وشرب المسكر ، وهكذا فيما نحن فيه ؛ إذ الحاكم بالملازمة بين الوجوب الشرعي لذي المقدّمة والوجوب الشرعي للمقدّمة هو العقل ، وبديهي عند العقل أنّ الوجوب الشرعي المقدّمي يتعلّق بما يتوقّف عليه ترك التصرّف.

٣٤٤

وقال صاحب الكفاية في مقام إنكار دخول الأجزاء في هذا البحث بأنّ الواجب بالوجوب الغيري ما كان بالحمل الشائع مقدّمة ـ أي المصداق ـ لأنّه المتوقّف عليه لا عنوان المقدّمة ، أي ما يتوقّف عليه الواجب. نعم ، يكون هذا العنوان علّة لترشّح الوجوب على المعنون يعني المصداق (١).

فكأنّه يقول بالفرق بين الحيثيّة التقييديّة والحيثيّة التعليليّة ، وأنّ للقيد دخالة في المتعلّق ، ولكنّ العلّة واسطة لحمل الحكم على ذيها ، وتبعه في هذا الكلام آخرون.

مع أنّه ليس بصحيح بنظر العقل والعقلاء ، ولا تسامح في حكم العقل ، وهو يقول في مقام تعليل وجوب نصب السلّم : لأنّه مقدّمة الكون على السطح ، فيكون متعلّق الوجوب الشرعي الغيري عنوان مقدّمة الكون على السطح ، ونسبة الوجوب الغيري إلى نصب السلّم بما أنّه يتّحد مع المقدّمية مسامحة.

ويستفاد من هنا أنّ الوضوء بعنوانه لا يكون واجبا ، بل يكون مستحبّا بهذا العنوان ؛ إذ الوجوب الغيري يتعلّق بعنوان ما يتوقّف عليه الواجب ، والوضوء من مصاديقه ، فللعقل حكم واحد ، وهو أنّ ما تتوقّف عليه الصلاة واجب ، ويشمل هذا الحكم الكلّي لجميع المقدّمات وإن كانت عشرة ، فيكون محطّ الحكم في الحيثيّة التعليليّة كالحيثيّة التقييديّة عبارة عن نفس العلّة ، ولا فرق بينهما أصلا.

وبالنتيجة : يتحقّق هاهنا أيضا عنوانان : أحدهما : عنوان التصرّف في مال الغير وهو متعلّق النهي ، وثانيهما : عنوان ما يتوقّف عليه ترك التصرّف فيه وهو متعلّق الأمر ، وقد انطبق العنوانان في الخروج عن الدار المغصوبة ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٤١.

٣٤٥

فلا يصحّ الإشكال على أبي هاشم وأتباعه من هذه الجهة ، ويكون الخروج مأمورا به ومنهيّا عنه معا بعنوانين.

ولكن يرد الإشكال عليه من جهة اخرى ، وهو أنّه قد مرّ في إحدى المقدّمات المذكورة لمسألة الاجتماع حصر بعض العلماء النزاع في مورد تحقّق قيد المندوحة ، وذكرنا عدم دخالة القيد المذكور في الجهة المبحوث عنها ، ولكن لا بدّ من تحقّقه في تطبيق مسألة اجتماع الأمر والنهي في الخارج ، مثل سائر الشرائط المعتبرة للتكليف.

وعلى هذا يرد عليه : أنّ الخروج لا يمكن أن يكون المأمور به والمنهيّ عنه معا ؛ لعدم تحقّق قيد المندوحة له بعد الورود بسوء الاختيار ؛ إذ لا طريق سوى الخروج ، وهذا فارق بينه وبين الصلاة في الدار المغصوبة.

وبالنتيجة : لا يمكن الالتزام بما قال به أبو هاشم وأتباعه مع رفع اليد عن المباني الثلاثة المذكورة أيضا ، فيكون الخروج مأمورا به ولكن يجري عليه حكم المعصية وأثر النهي بدون تعلّق النهي الفعلي به ، وهو ما اختاره صاحب الفصول ظاهرا.

والبحث الآخر أنّه تتحقّق قاعدة فلسفيّة مسلّمة ، وهي : أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

قال المحقّق النائيني قدس‌سره (١) : إنّه بناء على كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحقّ ما عليه المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّه ليس بمأمور به شرعا ، ولا منهيّا عنه مع كونه يعاقب عليه.

وأمّا بناء على عدم كون المقام من صغريات تلك القاعدة فالحقّ ما اختاره

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٤٤٧ ـ ٤٥١.

٣٤٦

الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) من كون الخروج مأمورا به فقط ، ثمّ قال : والأقوى أنّه ليس مصداقا لها ، وذكر أدلّة له ، والمهمّ منها دليلان :

الأوّل : أنّ الخروج غير ممتنع للتمكّن من تركه بإرادة البقاء ؛ إذ يجوز له أن يريد الخروج ، ويجوز له أن يريد البقاء ، فلا امتناع في البين حتّى نقول : الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

الدليل الثاني : أنّ مورد القاعدة المذكورة ما لا يكون للعقل نظر خاصّ فيه وإلّا لا محلّ لها ، وما نحن فيه كان كذلك ؛ إذ العقل يحكم لمن كان أمره دائرا بين الخروج والبقاء بتعيّن الخروج عليه ؛ لأنّه أقلّ المحذورين ، فلا مجال لقاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالخروج مأمور به فقط ولا يجري عليه حكم المعصية.

والعجب من المحقّق النائيني قدس‌سره أنّه لم يلاحظ عبارة صاحب الكفاية قدس‌سره بدقّة ، فإنّه صرّح بعدم ارتباطها فيما نحن فيه ، بل هي ذكرت في مقابل الأشاعرة ؛ لقولهم بأنّ أفعال الإنسان ـ كالحركة والسكون وأمثال ذلك ـ غير اختياريّة ؛ لما هو المسلّم عند الفلاسفة من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وأنّ الشيء ما لم يمتنع لم ينعدم ، فكلّ وجود مسبوق بوجوب الوجود ، وكلّ عدم مسبوق بامتناع الوجود ، ولا معنى لاستناد وجود القيام وعدمه إلى الإرادة ، بل عدمه مستند إلى امتناع الوجود ، ووجوده مستند إلى وجوبه.

فقالوا في جوابهم : إنّ المقصود من الواجب في القاعدة هو الواجب بالغير لا الواجب بالذات ، ومعناها أنّ الشيء ما لم تتحقّق علّته التامّة لا يمكن أن يتحقّق في الخارج ، ومعلوم أنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة عبارة عن الإرادة ،

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٥١.

٣٤٧

ولذا نقول : الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وهكذا في جانب الامتناع ؛ إذ المراد منه لا يكون الامتناع بالذات بل الامتناع بالغير ، بمعنى أنّ الشيء ما لم تتحقّق علّته التامّة يمتنع وجوده في الخارج ، وجزء أخيرها هو إرادة الإنسان ، ولذا نقول : إنّ هذه القاعدة مؤيّدة للاختيار ، ولا ترتبط بما نحن فيه أصلا كما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره.

فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الخروج منهيّ عنه بالنهي المنجّز الفعلي ، ومع قطع النظر عن المباني المذكورة يكون مأمورا به ، ويجري عليه حكم المعصية. هذا تمام الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي.

٣٤٨

في أنّ النهي عن الشيء يقتضي فساده أم لا

جعل صاحب الكفاية قدس‌سره عنوان البحث بهذا النحو ، مع أنّ كلمة «الشيء» مطلق يشمل النهي المتعلّق بمثل الزنا وشرب الخمر أيضا ، والحال أنّ جملة «يقتضي فساده أم لا» تكون قرينة لاختصاصه بالعبادات والمعاملات ، الشيء الذي قد يقع صحيحا وقد يقع فاسدا ولا مناقشة من هذه الجهة.

ولكنّ التعبير بكلمة «يقتضي» مع كونه ظاهرا في السببيّة والتأثير لا ينطبق على بعض الأدلّة التي ستذكر في أصل البحث ، مثل استدلال بعض العلماء لاستفادة الفساد من النهي في المعاملات بأنّ النهي فيها ظاهر في الإرشاد بفساد المعاملة ، كقوله عليه‌السلام : «لا تبع ما ليس عندك» (١) ؛ إذ لا يكون معناه أنّه إذا بعت مال الغير ارتكبت محرّما ، بل معناه أنّ بيع مال الغير بدون إذنه لا يؤثّر في التمليك والتملّك ، ومعلوم أنّ الإرشاد حكاية عن الواقعيّة ، ولا يتناسب مع التعبير بكلمة الاقتضاء والسببيّة.

كما أنّه لا يصحّ التعبير بكلمة «يدلّ» مكان كلمة «يقتضي» ، فإنّ فاعله عبارة عن النهي وهو لفظ ، وإذا نسبت إليه كلمة الدلالة فلا بدّ من انحصارها في محدودة الدلالة اللفظيّة الوضعيّة ، مع أنّا نرى استدلال بعض العلماء

__________________

(١) انظر : الوسائل ١٨ : ٤٧ ، الباب ٧ من أبواب أحكام العقود ، الحديث ٣.

٣٤٩

لاستفادة الفسادة من النهي المتعلّق بالعبادة بأنّه إذا تعلّق النهي بالعبادة فمعناه مبغوضيّة العبادة للمولى ، وحينئذ يحكم العقل بأنّ الذي يكون مبغوضا للمولى لا يمكن أن يكون مقرّبا إليه ، فعلى هذا كيف يصحّ التعبير بكلمة «يدلّ» ، أي الدلالة المستندة إلى ظهور اللفظ.

فالأولى التعبير بأنّه هل يكشف ، أو هل يستفاد من تعلّق النهي بالعبادة فسادها أم لا؟

وأمّا البحث عن مقدّمات المسألة فقال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) في المقدّمة الاولى بأنّ الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة في الجهة المبحوث عنها كما عرفت ، فإنّها في المسألة السابقة عبارة عن السراية وعدم السراية ، وفي هذه المسألة عبارة عن أنّ تعلّق النهي بالعبادة يستلزم فسادها أم لا؟

ولكنّك عرفت أنّه ليس بصحيح ، فإنّ بعد تغاير المسألتين من حيث الموضوع والمحمول لا تصل النوبة إلى تغايرهما في الجهة المبحوث عنها ، فإنّ الموضوع في المسألة السابقة هو اجتماع الأمر والنهي في واحد ، والمحمول فيها هو الجواز وعدمه ، والموضوع فيما نحن فيه تعلّق النهي بالشيء ، والمحمول هو اقتضاء الفساد وعدمه ، فلا تتحقّق جهة اشتراك بينهما أصلا حتّى نقول بتغايرهما في الجهة المبحوث عنها.

المقدّمة الثانية : أنّه لا شكّ في اصوليّة هذه المسألة لانطباق ضابطة علم الاصول عليها ؛ لوقوعها كبرى القياس لاستنتاج حكم فرعي.

فإنّا نقول على القول بالاقتضاء : بيع ما ليس عند البائع يكون منهيّا عنه ، والنهي المتعلّق بالمعاملة يقتضي الفساد ، فبيع ما ليس عنده يكون فاسدا ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨٣ ـ ٢٨٥.

٣٥٠

ولكنّ البحث في أنّها مسألة اصوليّة لفظيّة أو مسألة اصوليّة عقليّة؟

قال المرحوم الحائري قدس‌سره في كتاب الدرر (١) : إنّها مسألة عقليّة.

ولكن بعد ملاحظة أنّه لا ضرورة لكون المسألة الاصوليّة عقليّة محضة أو لفظيّة محضة ، بل يمكن أن تكون مركّبة منهما ، وبعد ملاحظة أنّا نرى في الكلمات نوعين من الاستدلال على دلالة النهي على الفساد ، مثل : قولهم في مثل : «لا تبع ما ليس عندك» بأنّه لا يكون حكما تحريميّا مولويّا ، بل يكون حكما إرشاديّا ، فإنّ مفاده أنّ هذا النحو من البيع لا يؤثّر في التمليك والتملّك ، فهذا الاستدلال يرتبط باللفظ.

وأمّا الاستدلال على اقتضاء النهي فساد العبادة بأنّه إذا تعلّق بالعبادة معناه مبغوضيّتها للمولى وأنّها مبعّدة عن ساحته ، فالعقل يحكم بأنّها لا يمكن أن تكون مقرّبة إليه ، مثل صلاة الحائض ، فهذا يرتبط بالعقل. وبالنتيجة : تكون هذه المسألة عقليّة ولفظيّة معا.

المقدّمة الثالثة : أنّ الظاهر من لفظ النهي هو النهي التحريمي ، وأمّا النهي التنزيهي فهل يكون داخلا في محلّ النزاع أم لا؟ ربما يقال بخروجه عنه ، ويمكن أن يستدلّ لذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : أنّه لا يتحقّق مورد يتعلّق النهي التنزيهي فيه بالعبادة.

توضيح ذلك : أنّ تقسيم العبادات المكروهة إلى ثلاثة أقسام ـ كما مرّ ـ لا يتعلّق النهي الكراهتي فيها بنفس العبادة ، ولذا لا يخلو عن مسامحة.

وأمّا القسم الثالث منها ـ مثل : «لا تصلّ في مواضع التهمة» ـ فقد مرّ أنّ متعلّق النهي هو الكون في مواضع التهمة وإن تحقّق في ضمن غير الصلاة ، وأمّا

__________________

(١) درر الفوائد ١ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

٣٥١

في القسم الثاني ، مثل : «لا تصلّ في الحمّام» فلا يتعلّق النهي بنفس الصلاة ، بل يتعلّق بخصوصيّة وقوعها في الحمّام.

وأمّا في القسم الأوّل ، مثل : «لا تصم في يوم عاشوراء» فقد مرّ عن المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّه يتحقّق هاهنا مستحبّان متزاحمان وينطبق كلاهما على هذا اليوم ، ولكنّ استحباب ترك الصوم فيه أرجح من فعله فلا يتحقّق النهي ، وإن تحقّق فهو إرشادي.

وقد ذكرنا أنّ متعلّق النهي في المثال التشبّه ببني اميّة ، لا عنوان الصوم بلحاظ أنّهم يصومون فيه باعتقاد أنّه يوم عيد ، فلا يكون النهي التنزيهي متعلّقا بنفس العبادة بلا عناية وتجوّز أصلا.

وأمّا كراهة اقتداء المسافر بالحاضر ـ سواء كان بمعنى أقلّية الثواب من اقتدائه بمسافر آخر ، أو بمعنى أقلّية الثواب من صلاة الفرادى ـ فلا يتعلّق النهي التنزيهي حتّى في الصورة الثانية بنفس الصلاة ، بل يتعلّق بالاقتداء ، فلا يوجد مورد يتعلّق النهي فيه بنفس العبادة ، فلا مجال للبحث في أنّ النهي التنزيهي إذا تعلّق بالعبادة هل يقتضي الفساد أم لا؟

وجوابه : أنّ محلّ البحث لا ينحصر بالعبادات بل يشمل عنوان البحث ـ كما مرّ ـ لكلّ ما يكون قابلا للاتّصاف بالصحّة والفساد ، وهو أعمّ من العبادات والمعاملات. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه لا شكّ في كون عنوان الاقتداء منهيّا عنه كما اعترف المستدلّ به ، والحال أنّ الاقتداء أمر عبادي ، ولذا يقولون : إنّ الرياء في الجماعة يوجب بطلان الجماعة قطعا ، ويقول بعض : إنّه يوجب بطلان الصلاة أيضا ، وهذا كاشف من عباديّة الاقتداء ، فيتعلّق النهي التنزيهي في العبادة هاهنا.

٣٥٢

الدليل الثاني : ما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بقوله : إنّ ملاك البحث يعمّ التنزيهي ، ومعه لا وجه لتخصيص العنوان ، واختصاص عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص بالنهي التحريمي كما لا يخفى.

وهذا إشارة إلى التوهّم الذي يكون دليلا للقائل بخروج النهي التنزيهي عن محلّ البحث ، وهو أنّ عموم الملاك يختصّ بالعبادات ؛ لأنّ المرجوحيّة المستكشفة عن النهي ـ تحريميّا كان أو تنزيهيّا ـ إنّما تنافي صحّة العبادة ؛ لأنّها تستدعي المحبوبيّة المنافية للمرجوحيّة دون المعاملة ؛ إذ لا ملازمة قطعا بين النهي التنزيهي فيها وبين الفساد ، فلا تنافي مرجوحيّتها صحّتها ، كما في مثل بيع الكفن حيث يكون كذلك ، فيكون عدم اطّراد عموم الملاك في المعاملات قرينة على إرادة التحريمي من النهي المذكور في العنوان ؛ لأنّه مطّرد في العبادات والمعاملات.

والحقّ في جوابه ما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره.

ثمّ إنّه قد اختلف العلماء في دخول النهي الغيري وعدمه في محلّ النزاع ، فقال صاحب القوانين قدس‌سره (٢) : بأنّه خارج عنه ؛ لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ، وهو نظير الأمر الغيري ، فلذا لا يشمله البحث.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ دلالة النهي الغيري على الفساد على القول به إنّما يكون لدلالته على الحرمة من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك ، ويؤيّد ذلك أنّه جعل ثمرة النزاع في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه : فساده إذا كان عبادة (٣) ، مع أنّ النهي المتعلّق بالعبادة كالصلاة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨٤.

(٢) قوانين الاصول ١ : ١٠٢.

(٣) كفاية الاصول ١ : ٢٨٤.

٣٥٣

مكان الإزالة يكون غيريّا.

ولكنّ الحقّ مع المحقّق القمّي قدس‌سره ، والدليل على ذلك ما نذكره لا ما ذكره قدس‌سره ، وهو : أنّه كما لا دخل لاستحقاق العقوبة على المخالفة في الفساد ، كذلك لا دخل للحرمة بما هي فيه ، بل حرمة الشيء تكشف عن مبغوضيّته للمولى ، وأنّه مبعّد عن ساحته ، ولا يمكن أن يكون شيء واحد بعنوان واحد مقرّبا ومبعّدا معا ، ومعلوم أنّ النهي الغيري أيضا يكشف عن مبغوضيّة المنهي عنه ، ولكنّه كان كاشفا عن مبغوضيّته لأجل الغير ، لا عن مبغوضيّة ذاتيّة ، ولا منافاة بين المبغوضيّة والمبعّدية من أجل الغير ، والمقرّبية من حيث الذات ، فتكون الصلاة مكان الإزالة من حيث الذات محبوبة للمولى ، ومن حيث إنّها مقدّمة لترك الإزالة الحرام مبغوضة له ، ولذا أنكرنا الثمرة المذكورة ، وقلنا بصحّة الصلاة على القول بالاقتضاء أيضا.

وقد مرّ في تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري وإلى الأصلي والتبعي أنّ الواجب الغيري يمكن أن يكون أصليّا ويمكن أن يكون تبعيّا ، بخلاف الواجب النفسي فإنّه لا يكون إلّا أصليّا ، وحينئذ إن قلنا بدخول النهي الغيري في محلّ النزاع يقع البحث في أنّه هل يتحقّق الفرق بين النهي الغيري الأصلي ، والنهي الغيري التبعي ، أم لا؟ وإن قلنا بخروجه عنه فلا يبقى مجال لهذا البحث كما هو الحقّ.

المقدّمة الرابعة : أنّ لفظ الشيء في عنوان البحث عام كما ذكرنا ، ولكن بقرينة جملة يقتضي الفساد ينحصر بما كان قابلا للصحّة والفساد ، وهو عبارة عن المعاملات والعبادات ، فيستفاد من ذلك أنّ مثل شرب الخمر خارج عن محلّ النزاع ؛ إذ لا أثر له حتّى يتّصف بالصحّة والفساد بلحاظ ترتّب الأثر

٣٥٤

وعدمه ، وهكذا «شيء» الذي له أثر لا ينفك عنه ، مثل إتلاف مال الغير ، فإنّ أثره ـ أي الضمان ـ يترتّب عليه دائما وإن تحقّق في حال النوم أو الاضطرار أو الغفلة ، فينحصر محلّ النزاع بالعبادات والمعاملات بمعنى الأعمّ من العقود والإيقاعات.

ويمكن أن يقال : إنّ تعلّق النهي بالعبادة كيف يتصوّر ، مع أنّه لا بدّ في العبادة من تعلّق الأمر بها ولو كان الأمر استحبابيّا؟

قال صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام جوابه : إنّ المراد بالعبادة هاهنا ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى موجبا بذاته للتقرّب من حضرته لو لا حرمته ـ كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه ـ أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره أمرا عباديّا ، لا يكاد يسقط إلّا إذا أتى به بنحو قربي كسائر أمثاله ، نحو صوم العيدين والصلاة في أيّام العادة(١).

ومن تقسيمات الواجب تقسيمه إلى التعبّدي والتوصّلي ، وأشار صاحب الكفاية قدس‌سره إليه هاهنا ، والفرق بينهما أنّه يعتبر في صحّة الواجب التعبّدي وسقوط أمره إتيانه بقصد القربة ، بخلاف الواجب التوصّلي.

وأشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢) بأنّ العبادة من حيث اللغة والعرف والعقلاء يكون لها معنى خاصّ ، وهو ما يعبّر عنه باللغة الفارسيّة ب (پرستش) ، وبهذا المعنى تكون الآية الشريفة : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وكلمة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، يعني لا معبود صالحا للعبادة سوى الباري ، فنحن نرى اعتبار قصد القربة في مثل الخمس والزكاة ، مع أنّه لا يصدق عليهما العبادة بهذا المعنى ،

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨٤.

(٢) تهذيب الاصول ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

٣٥٥

فلا يصحّ تعبيرهم بأنّ الواجب التوصّلي يصير عبادة إن أتى به بقصد القربة ، بل لا يخلو من كونه موجبا للسخرية ، ومعلوم أنّ إطاعة الباري أو إطاعة الوالدين وإن تحقّق بقصد القربة إلّا أنّه يصحّ التعبير عنه بالعبادة.

فالأولى في مقام التقسيم القول بأنّ الواجب إمّا تقرّبي وإمّا توصّلي ، والتقرّبي قد يكون عباديّا ـ كالصلاة والصوم ـ وقد يكون غير عبادي كالزكاة والخمس ، وما يوجب التزام صاحب الكفاية قدس‌سره بذكر المصداقين هاهنا للعبادة ـ يعني ما كانت عبادة بالذات وإن تعلّق الأمر مكان النهي يكون أمره أمرا عباديا ـ عبارة عن توسعته لدائرة الواجب التعبّدي ، وأنّ كلّ ما لم يكن توصّليا يكون تعبّديّا ، وجعل صلاة الحائض مصداقا للأمر التعليقي ، مع أنّها عبادة بالفعل فإنّ عباديّة الصلاة ذاتيّة.

ولكنّ التحقيق : أنّه لا يوجد دليل يدلّ على انحصار محلّ النزاع بما كان المنهي عنه عبادة أو معاملة حتّى نحتاج إلى معنى العبادة وبيان المراد منها ، بل يكون محلّ النزاع عبارة عن كلّ ما كان قابلا للاتّصاف بالصحّة والفساد ، ووقع متعلّق النهي ، سواء انطبق عليه عنوان العبادة أو المعاملة ، أو غيرهما.

ويرد على الإمام قدس‌سره : أنّه سلّمنا عدم انطباق عنوان العبادة على مثل الزكاة والخمس ، كما أنّ الصلاة لا شكّ في مصداقيّتها للعبادة وإن تحقّقت من الحائض ، لا أنّها لو أمر بها كان أمرها عباديّا ، ولكنّ الصوم مع كونه أمرا قلبيّا عدميّا ، هل يلحق بالزكاة والخمس أو يلحق بالصلاة؟ والظاهر إلحاقه بالصلاة ، مع أنّه لا يتحقّق فيه عنوان العبادة بالمعنى المذكور ؛ إذ لا دخل للصائميّة ـ يعني ترك المفطرات ـ في العبادة ، والحال أنّ خروج الصوم عن العبادة لا يقبله أكثر الفقهاء.

٣٥٦

المقدّمة الخامسة : في توضيح عنواني الصحّة والفساد : قال صاحب الكفاية قدس‌سره (١) : إنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان يختلفان بحسب الآثار والأنظار ، فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب الأثر أو النظر وفاسدا بحسب آخر ، ومن هنا صحّ أن يقال : إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف ، بل فيهما بمعنى واحد وهو التماميّة ، وإنّما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتّصف بالتماميّة وعدمها ، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلّم في صحّة العبادة إنّما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهمّ لكلّ منهما من الأثر بعد الاتّفاق ظاهرا على أنّها بمعنى التماميّة ، كما هي معناها لغة وعرفا.

ولمّا كان غرض الفقيه هو وجوب القضاء أو الإعادة ، أو عدم الوجوب فسّر صحّة العبادة بسقوطهما ، وأمّا المتكلّم فلمّا كان غرضه حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة فسّرها بما يوافق الأمر تارة وبما يوافق الشريعة اخرى.

وأمّا الصحّة في المعاملات فهي تكون مجعولة ، حيث كان ترتّب الأثر على المعاملة إنّما هو بجعل الشارع ، وترتيبه عليها ولو إمضاء ؛ ضرورة أنّه لو لا جعله لما كان يترتّب عليه ؛ لأصالة الفساد.

فالبيع الصحيح : ما يترتّب عليه الأثر المرتقب عنه ، أي التمليك والتملّك. والبيع الفاسد : ما لا يترتّب عليه أثر ، والنكاح الصحيح : ما تترتّب عليه الزوجيّة ، والنكاح الفاسد عكسه ، والطلاق الصحيح : ما يحصل به الفراق بين الزوجين ، والطلاق الفاسد عكسه ، ولا يكون للفقهاء اصطلاح خاصّ في معنى

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٦.

٣٥٧

الصحّة والفساد في مقابل اللغة والعرف ، بل العرف واللغة وجميع العلوم التي تستعمل فيها كلمة الصحّة والفساد متوافقة في أنّ الصحّة تكون بمعنى التماميّة ، والفساد بمعنى النقص ، ولكن يتوهّم مغايرتها على الظاهر بلحاظ مغايرة الآثار المترتّبة عليها ، فيكون التقابل بين الصحّة والفساد عين التقابل بين النقص والتمام ، يعني تقابل العدم والملكة. هذا بعض كلامه قدس‌سره مع زيادة توضيح.

وأشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) بأنّه : قد تقدّم في بحث الصحيح والأعمّ أنّ ترادف الصحّة والفساد مع التمام والنقص ممّا لم يثبت بحسب اللغة والعرف ، بل ثبت خلافه ؛ لأنّ النقص والتمام يطلقان على الشيء المركّب بحسب الأجزاء غالبا إن كان واجدا ومشتملا لجميع الأجزاء والشرائط والخصوصيّات المعتبرة فيه كالإنسان والدار والمعجون ، فيقال : إنّه تامّ ، ولا يقال : إنّه صحيح ، وإن كان فاقدا لبعض الأجزاء أو الخصوصيّات يعبّر عنه بأنّه ناقص ولا يعبّر عنه بأنّه فاسد.

وأمّا الصحّة والفساد فيستعملان غالبا في شيء كان له أثر نوعي وخاصيّة نوعيّة بحسب الكيفيّات والأحوال ، مثل الكيفيّات المزاجيّة وشبهها ، فيقال : فاكهة صحيحة ، إذا لم يفسدها الدود والحرارة ، أو فاسدة ، إذا ضيّعتها المفسدات ، فالتقابل بين الصحّة والفساد تقابل التضاد ؛ لأنّ كلاهما أمران وجوديّان ؛ إذ الصحّة عبارة عن كيفيّة وجوديّة عارضة للشيء موافقة لمزاجه بحيث تقبله الطباع ، والفساد عبارة عن كيفيّة وجوديّة عارضة له مخالفة لمزاجه ومنافرة لطبيعته النوعيّة ، فيكون بينهما تقابل التضادّ ، كما أنّ بين التمام والنقص تقابل العدم والملكة. هذا بحسب اللغة والعرف.

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ١٤٦ ـ ١٤٧.

٣٥٨

ثمّ قال : نعم ، يمكن تصحيح ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره من الترادف في العبادات والمعاملات ؛ لأنّه يطلق الصحّة والفساد على الصلاة بلحاظ واجديّتها للأجزاء والشرائط وفاقديّتها لها ، مع أنّها أيضا كالإنسان والدار مركّبة من الأجزاء والشرائط ، ويصحّ إطلاق التامّ والناقص عليها ، وهكذا في المعاملات فإنّها بحسب أسبابها ـ أي العقود ـ تتّصف بالصحّة والفساد ، مثل : اتّصافها بالتمام والنقص ، وهذا بخلاف الاستعمالات العرفيّة.

إنّما الكلام في أنّ ذلك الإطلاق هل هو بوضع جديد في لفظي الصحّة والفساد عند الفقهاء ، أو باستعمالهما في الابتداء مجازا وكثر ذلك حتّى بلغا حدّ الحقيقة؟ أقربهما هو الثاني ، بل الأوّل بعيد.

والتحقيق : أنّه لا شكّ في أنّ الصحّة والفساد يستعملان في العبادات والمعاملات بمعنى التمام والنقص ، ولكن مع ذلك لا يمكن التفكيك بين أجزائهما وشرائطهما من حيث الصحّة والفساد ، بخلاف الاستعمالات العرفيّة ؛ إذ من المعهود القول بأنّ هذا المركّب ـ كالدار مثلا ـ تامّ من حيث الأجزاء ، وناقص من حيث الشرائط ، ولا يصحّ القول بأنّ هذه الصلاة صحيحة من حيث الأجزاء ، وفاسدة من حيث بعض الشرائط ؛ إذ الصلاة إمّا صحيحة مطلقا ، وإمّا فاسدة مطلقا ، وهكذا في مثل البيع وسائر المعاملات ؛ فلا يتحقّق فيهما مجمع الاتّصاف بالصحّة والفساد.

ولا يخفى أنّه لاحظنا إلى هنا قسما من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ويستفاد من صدر كلامه وذيله مع توضيحنا : أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان لا واقعيّة لهما ، يختلفان بحسب الآثار والأنظار ، ولذا نرى قول بعض الفقهاء بأنّ الصلاة بدون السورة ـ مثلا ـ صحيحة ، والآخر يقول : بأنّها فاسدة ، وبعضهم

٣٥٩

يقول بأنّ الصلاة منع قراءة التسبيحات مرتبة واحدة صحيحة ، والآخر يقول بأنّها فاسدة ، ونستكشف من ذلك أنّه لا حقيقة لهما ، بل هما أمران إضافيّان.

ثمّ استشهد لذلك بمسألة الإجزاء ، وقال : إنّ الأمر في الشريعة يكون على ثلاثة أقسام : من الواقعي الأوّلي ومتعلّقه عبارة عن الصلاة مع الوضوء ، والواقعي الثانوي أو الاضطراري ومتعلّقه عبارة عن الصلاة مع التيمّم ، والأمر الظاهري ومتعلّقه عبارة عن الصلاة مع الوضوء الاستصحابي ، ولا شكّ في إجزاء المأمور به بالأمر الأوّلي ، ولكن تختلف الأنظار في أنّ المأمور به بالأمر الثانوي والظاهري يفيدان الإجزاء أو لا ، بعد فرض حصول الماء في الوقت أو انكشف أنّه كان حين الصلاة فاقد الوضوء ، وبعض يقول : بأنّهما مسقطان للإعادة والقضاء ، والآخر يقول : بأنّهما غير مسقطين لهما ، وهذا دليل على أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان ؛ إذ الصلاة تتّصف بالصحّة عند القائل بالإجزاء وتتّصف بالفساد عند منكره.

ثمّ قال : إنّ الصحّة عند المتكلّم عبارة عن موافقة الشريعة أو موافقة الأمر ، ولكنّ بعضهم يقول : بأنّ المقصود من موافقة الأمر هو موافقة الأمر الأوّلي ، والبعض الآخر يقول : إنّ المراد منها أعمّ من الأمر الواقعي الأوّلي والثانوي والظاهري ، فتختلف الصحّة والفساد بحسب اختلاف الأنظار ، فلا واقعيّة لهما.

والكلام مع صاحب الكفاية قدس‌سره في مرحلتين :

الاولى : أنّ كون الصلاة بدون السورة صحيحة بنظر وفاسدة بنظر آخر لا يكون دليلا على عدم تحقّق الواقعيّة لهما ، بل تتحقّق لهما واقعيّة ، ولكن كلّ فقيه يدّعي انتهاءه ووصوله إلى الواقعيّة ، وينتهي إليها في الحقيقة أحدهما ، وللمصيب أجران ، وللمخطئ أجر واحد ومعذور في الخطأ ، ولا يرتبط

٣٦٠