دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

واحد وهو المجيء ـ بعد كونه في مقام البيان وتماميّة سائر مقدّمات الحكمة ـ يكون معناه : أنّ عند تحقّق المجيء يتحقّق وجوب الإكرام ، سواء كان هناك شرط آخر موجودا أم لا ، ويستفاد من ذلك أنّ الجزاء ينتفي عند انتفاء شخص هذا القيد ، ومعناه العلّية المنحصرة ، ويعبّر عن هذا بالتمسّك بإطلاق الجزاء لاستفادة المفهوم.

ولكنّ التحقيق أنّ هذا الطريق أيضا ليس بصحيح ، فإنّا نقول :

أوّلا : أنّ بطلان هذين المبنيين لا إشكال فيه ؛ لأنّ قابليّة جعل السببيّة والشرطيّة والملكيّة وأمثال ذلك لدى الشارع ممّا لا يكون قابلا للإنكار ، مع كونها خارجة عن دائرة الأحكام التكليفيّة ، فلا مانع من الالتزام بجعل السببيّة بين الشرط والجزاء من الشارع في القضيّة الشرطيّة ، وهكذا لا مانع من كون مجرى الإطلاق غير المجعول الشرعي ، كما في مثل : اعتق الرقبة ؛ إذ يتحقّق فيه الحكم باسم الوجوب ، ومتعلّق الحكم وهو فعل المكلّف باسم العتق ، ومضاف إليه المتعلّق وما يعبّر عنه بالموضوع باسم الرقبة ، ومحطّ الإطلاق فيه عبارة عن الرقبة بعد ارتباطها بواسطة المتعلّق إلى الحكم الشرعي ، وهكذا في القضيّة الشرطيّة يكون مجوّز جريان الإطلاق في المجيء ارتباطه بالحكم بعنوان القيديّة ، مع أنّه أمر تكويني خارجي.

وثانيا : أنّه لو فرضنا تماميّة هذين المبنيين فلا يصحّ ما يستفاد منهما ؛ لأنّ معنى الإطلاق في مثل : «اعتق رقبة» بعد تماميّة مقدّمات الحكمة أنّ تمام الموضوع لهذا الحكم طبيعة الرقبة ، فهي كما تصدق على الرقبة المؤمنة تصدق على الرقبة الكافرة ، لا أنّها مرآة للأفراد ، فإنّها وضعت للطبيعة والماهيّة ، ولا يعقل لحاظ الخصوصيّات في مرآة الماهيّة كما يكون في العموم كذلك ، فإنّ

٤٠١

لفظها وضع للدلالة الإجماليّة على الأفراد ، مثل : «أكرم كلّ عالم» ، يعني سواء كان أبيضا أم أسودا ، وسواء كان مصريّا أم عراقيّا ، فمعناه الشمول والسريان ، بخلاف الإطلاق فإنّ لفظه لا يحكي إلّا عن الموضوع له نظير لفظ الإنسان ، وإن كان الموضوع له ـ أي الماهيّة ـ متّحدا مع الأفراد خارجا ، لا أنّ معناه أيضا الشمول والسريان ، إلّا أنّه يستفاد من طريق مقدّمات الحكمة ، كما سيأتي تفصيله.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ معنى إطلاق الحكم في مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» أنّ تمام ما هو مجعول الشارع عبارة عن وجوب الإكرام ، وعلى هذا من أين يستفاد أنّ العلّة المنحصرة لوجوب الإكرام عبارة عن المجيء؟ نعم ، لو كان الإطلاق بمعنى العموم يستفاد منه أنّ عند تحقّق المجيء يجب الإكرام ، سواء تحقّق قبله أو بعده أو معه شيئا آخر أم لا ، وعند انتفائه ينتفي وجوب الإكرام ، فتثبت العلّية المنحصرة ، فيدور مبنى المتأخّرين في باب المفاهيم مدار العلّة المنحصرة وجودا وعدما.

ولكن يستفاد من كلام المحقّق العراقي قدس‌سره (١) خلاف ذلك ، فإنّه قال : إنّ مركز التشاجر والنزاع في أنّ الحكم المنشأ في القضيّة ، هل هو كلّي الوجوب وسنخه كي يلزم من انتفاء القيد انتفاء كلّي الوجوب ، أو شخص الحكم كي لا ينافي ثبوت شخص حكم آخر عند انتفاء القيد؟ فكان القائل بثبوت المفهوم للقضيّة يدّعي أنّ الحكم المعلّق في القضيّة اللفظيّة هو سنخ الحكم ، والقائل بعدم المفهوم يدّعي خلافه. ولكنّه قدس‌سره أيضا يرجع في آخر كلامه إلى مبنى المتأخّرين ويقول : إنّ مجرّد ظهور عقد الوضع في دخل العنوان بخصوصيّته في ترتّب

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٤٧٨ ـ ٤٨٠.

٤٠٢

الحكم السنخي غير مجد أيضا في استفادة الانتفاء عند الانتقاء ، إلّا بضمّ قضيّة إطلاق ترتّب الحكم والجزاء عليه في الترتّب عليه بالخصوص بنحو الاستقلال ، وإلّا فبدونه يحتمل أن يكون هناك علّة اخرى تقوم مقامه عند انتفائه ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الأخذ بالمفهوم في القضيّة.

فبعد بطلان أدلّة القائلين بالمفهوم لا نحتاج إلى تعرّض أدلّة المنكرين كما ذكرها صاحب الكفاية قدس‌سره فإنّ عدم الدليل لتحقّق المفهوم دليل لعدم تحقّقه.

ثمّ ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره (١) عدّة امور بعنوان تنبيهات لهذا البحث ، وقال : «بقي هنا امور : الأوّل : أنّ المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلّق على الشرط ، لا انتفاء شخصه ؛ ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده ، ولا يتمشّى الكلام في أنّ للقضيّة الشرطيّة مفهوما أو ليس لها مفهوم إلّا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا ، وإنّما وقع النزاع في أنّ لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء أو لا يكون لها دلالة».

ثمّ قال : ومن هنا انقدح أنّه ليس من المفهوم دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنذور والأيمان كما توهّم ، بل عن الشهيد قدس‌سره في تمهيد القواعد : أنّه لا إشكال في دلالتها على المفهوم ، وذلك لأنّ انتفاءها عن غير ما هو المتعلّق لها من الأشخاص التي يكون بألقابها أو بوصف شيء وبشرطه مأخوذة في العقد ، أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه ، بل لأجل أنّه إذا صار شيء وقفا على أحد أو أوصى به أو نذر له إلى غير ذلك لا يقبل أن يصير وقفا على غيره أو وصيّة أو نذرا له ، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصيّة عن غير مورد المتعلّق قد عرفت أنّه عقلي

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٠٩.

٤٠٣

مطلقا. ولو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له فالمفهوم عبارة عن انتفاء سنخ الحكم عند انتفاء الشرط.

ولكن استشكل عليه بأنّ المنشأ في القضيّة والمجعول من المولى هو شخص الحكم والوجوب الجزئي ، والقائل بالمفهوم يدّعي أنّ الشرط علّة منحصرة لهذا الحكم المجعول ، فكيف يكون المفهوم بمعنى انتفاء كلّي الوجوب عند انتفاء الشرط؟! هذا نوع من التهافت ؛ إذ المجعول في القضيّة المنطوقيّة هو الحكم الشخصي ، فلو كان لها مفهوم كان مفهومها انتفاء ذلك الحكم الشخصي دون غيره.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ المعلّق على الشرط في قوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» هو الوجوب الكلّي الذي وضعت له هيئة «افعل» ، وقد عرفت أنّه لا فرق بين الأسماء والحروف من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في العموميّة ، والفرق بينهما في اللحاظ الآلي والاستقلالي ، ومعلوم أنّهما من خصوصيّات الاستعمال ، فما يدلّ عليه هيئة «افعل» في المثال هو كلّي الوجوب كما يدلّ عليه كلمة «يجب» في قضيّة : «إن جاءك زيد يجب إكرامه» ، فالحكم المجعول في القضيّة هو كلّي الوجوب لا الوجوب الجزئي.

ولكن هذا الجواب مبنائيّ ، والمشهور قائل بأنّ الموضوع له والمستعمل فيه في باب الحروف وملحقاتها خاصّان ، ولا يصحّ هذا الجواب على هذا المبنى.

وأجاب عنه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) بأنّ القضيّة إن كانت بصورة الجملة الاسميّة ، مثل : «إن جاءك زيد يجب إكرامه» ، فلا يرد عليه إشكال لكون الوجوب فيه كلّيا ، حيث إنّ المادّة قد استعملت في معناها الكلّي.

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٧٣.

٤٠٤

وأمّا إن كانت مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، فالوجوب المستفاد من الهيئة وإن كان جزئيّا إلّا أنّ أداة الشرط مثل كلمة «إن» تدلّ على انحصار علّة سنخ الحكم ، وطبيعته بالشرط المذكور في المنطوق ؛ إذ لو كان الحكم جزئيّا لا كلّيا كان انتفاؤه بانتفاء الشرط عقليّا ويكون أجنبيّا عن باب المفهوم ، فإنّ شخص الوجوب يرتفع بارتفاع موضوعه ولو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب والوصف ، فتكون مشقّة إثبات العلّية المنحصرة للشرط لإثبات أنّ المجعول من المولى هو الحكم الكلّي ، لا شخص الحكم المذكور في المنطوق ، فإنّ انتفاؤه بانتفاء الشرط أمر عقلي لا يحتاج إلى المشقّة المذكورة.

ولكنّه أيضا ليس بصحيح ، فإنّ إثبات العلّية المنحصرة للشرط لا محالة يكون للحكم المجعول من المولى ، فإن كان الحكم المجعول من قبل شخص الوجوب فلا يمكن خروج العلّية المنحصرة من دائرته ، وإن كان الحكم المجعول من كلّي الوجوب فهو مخالف لمبناه في وضع الحروف وملحقاتها ؛ لتبعيّته للمشهور في هذا الباب.

وأجاب عنه أستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) بأنّه لا شكّ بأنّ العلّية المنحصرة وصف للشرط ، إنّما الكلام في معلول هذه العلّة ، وهو بحسب ظاهر القضيّة عبارة عن المجموعة المترتّبة على الشرط ، يعني وجوب إكرام زيد ، ولكنّ العرف والعقلاء يرى كمال الارتباط والمناسبة بين المجيء والإكرام ، وهذا يوجب أمر المولى بالإكرام ، ففي الحقيقة يكون المعلول فيها عبارة عن الإكرام ، ولا شكّ في عموميّة مادّة المشتقّات من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ، ومعنى شدّة الارتباط بين المجيء والإكرام عرفا انتفاء سنخ الوجوب عند

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٤٣١.

٤٠٥

انتفاء الشرط.

هذا ، ونضيف إليه تنبيهات بصورة إشكالات ودفعها فنقول :

التنبيه الأوّل : إن قلت : إنّ قاعدة العلّية تقتضي تحقّق الإكرام قهرا من غير إرادة بعد تحقّق المجيء مع أنّه لا يكون كذلك ، وهذا دليل على عدم كون الإكرام معلولا لها في القضيّة.

وجوابه : أنّ نظر القائل بالمفهوم هنا إلى جانب النفي ، يعني انتفاء السنخ عند انتفاء الشرط ، وأنّ السنخيّة والارتباط تتحقّق بين المجيء والإكرام فقط ، ولا يتوجّه إلى جانب الإثبات وتحقّق الملازمة بين العلّة والمعلول.

إن قلت : إنّ كلام الإمام قدس‌سره هنا يرجع إلى كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره في الواجب المشروط بإرجاع القيود إلى المادّة والمتعلّق ، ولازم ذلك فعليّة الوجوب واستقباليّة الواجب ، فأنكر الواجب المشروط الذي يقول به المشهور ، وكلام الإمام قدس‌سره يرجع إلى أنّ الواجب هو الإكرام المقيّد بمجيء زيد ، فهذا عدول عن مبناه في الواجب المشروط.

وجوابه : أنّ كلامه قدس‌سره وإن كان مشابها لكلام الشيخ قدس‌سره في الواجب المشروط ، ولكنّه يقول : إنّ تكليف العبد عبارة عن وجوب الإكرام بعد مجيء زيد ، ولا يكون الوجوب فعليّا قبل تحقّق المجيء ، ولا يكون هذا عدولا عن مبناه.

التنبيه الثاني : في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء :

قال المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) : أنّه إذا تعدّد الشرط ، مثل : «إذا خفي الأذان فقصّر ، وإذا خفيت الجدران فقصّر». أمّا على القول بعدم المفهوم في القضيّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

٤٠٦

الشرطيّة فلا تعارض بينهما ولا ينفيان شرطا ثالثا ، وأمّا على القول بظهورها في المفهوم وأنّه مساوق لانحصار العلّة الشرط للجزاء فلا بدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور ، إمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما ، فلا دلالة لهما على عدم مدخليّة شيء آخر في الجزاء ـ وقدّمنا هذا الاحتمال لرجوعه إلى إنكار المفهوم ـ وإمّا بتخصيص مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر ، فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين ، ويدلّ الشرطان على نفي الشرط الثالث.

وإمّا بتقييد إطلاق الشرط في كلّ منهما بالآخر ، فيكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معا ، فإذا خفيا وجب القصر ، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو خفي أحدهما. وإمّا بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما ؛ بأن يكون تعدّد الشرط قرينة على أنّ الشرط في كلّ منهما ليس بعنوانه الخاصّ ، بل بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان.

ولا بدّ لنا قبل التحليل وملاحظة الاحتمالات من تشخيص طرفي المعارضة في هذه الموارد ، وأنّ التعارض يتحقّق بالأصل بين المنطوقين ، وبالتبع بين المفهومين ، أو أنّه يتحقّق بالأصل بين المفهومين ، أو أنّه يتحقّق بين مفهوم كلّ واحد منهما ومنطوق الآخر. وقد مرّ أنّ المتأخّرين استفادوا المفهوم عن طريق العلّية المنحصرة ، وأنّ طريق إثباتها إمّا عبارة عن الوضع والتبادر ، وإمّا عبارة عن الانصراف ، وإمّا عبارة عن الإطلاق ، ومجريه إمّا أداة الشرط وإمّا نفس الشرط بتقريبين وإمّا الجزاء كما مرّ مفصّلا ، ولا بدّ من ملاحظة جميع الطريق لاختيار أحد الاحتمالات وتشخيص طرفي المعارضة.

فإن قلنا بالمفهوم من طريق العلّية المنحصرة المستفادة من الوضع وأنّ المتبادر من أدوات الشرط هي العلّية المنحصرة فلا شكّ في كون التعارض بين

٤٠٧

المنطوقين ؛ إذ لو استعمل مكان أدوات الشرط العلّة المنحصرة ، مثل : أن يقول أحد الدليلين : العلّة المنحصرة لوجوب القصر هو خفاء الأذان ، ويقول الدليل الآخر : العلّة المنحصرة لوجوب القصر هو خفاء الجدران ، ومعلوم أنّ نفس هذين المنطوقين غير قابلين للاجتماع عقلا.

وهكذا إن قلنا بالمفهوم من طريق العلّة المنحصرة المستفادة من الانصراف ، وإن قلنا بالمفهوم من طريق العلّة المنحصرة المستفادة من الإطلاق الذي يكون وصفا إمّا لأداة الشرط المذكور في المنطوق ، وإمّا لنفس الشرط المذكور فيه ، وإمّا للجزاء المذكور فيه ، فيكون التعارض أيضا بين المنطوقين.

وحينئذ لا بدّ من علاج التعارض فنقول : على القول بوضع أداة الشرط للعلّة المنحصرة يكون مقتضى أصالة الحقيقة عند سماع قضيّة : «إذا خفي الأذان فقصّر» استعمال كلمة «إذا» في معناها الحقيقي ـ أي العلّية المنحصرة ـ وهكذا في جملة : «إذا خفي الجدران فقصّر» ، فيتعارض كلّ منهما مع الآخر ، ويكون التساقط مقتضى القاعدة الأوّلية في التعارض بين الأمارتين ، فإنّ أصالة الحقيقيّة أمارة وإن عبّر عنها بالأصل ، فليس لهاتين القضيّتين بعد التساقط مفهوم ، وهكذا على القول بانصراف أداة الشرط فيهما إلى العلّة المنحصرة ، فإنّ الانصرافين في كلّ منهما بعد التعارض وعدم الترجيح يتساقطان ، فلا مفهوم في البين.

وأمّا على القول بدلالة الإطلاق على العلّية المنحصرة فقد مرّ أنّه يعتبر فيها خصوصيّات متعدّدة ، مثل تحقّق الارتباط ، وكون الارتباط بنحو اللزوم ، وكون الارتباط اللزومي بنحو الترتّب لا بنحو التلازم ، وكون الجزاء مترتّبا على الشرط لا بالعكس ، وكون الترتّب بنحو العلّية التامّة لا الناقصة ، وكون

٤٠٨

العلّة التامّة منحصرة.

وحينئذ لو فرضنا استفادة المرحلة السادسة ـ أي انحصار العلّة ـ عن الإطلاق وارتباط سائر المراحل بوضع أداة الشرط ـ مثلا ـ فيدلّ إطلاق أحد الدليلين على أنّ خفاء الأذان علّة منحصرة لوجوب القصر ، وإطلاق الدليل الآخر على أنّ خفاء الجدران علّة منحصرة لوجوب القصر ، ومقتضى القاعدة الأوّلية في تعارض الأمارتين هو التساقط ؛ إذ أصالة الإطلاق أمارة عقليّة.

ويحتمل أن يجري في كلّ من القضيّتين إطلاقان ، أحدهما لإثبات المرحلة الخامسة ، وهي مرحلة كون العلّة تامّة ، والآخر لإثبات المرحلة السادسة ، وهي مرحلة كون العلّة التامّة منحصرة ، فمقتضى القاعدة بعد التعارض هو تساقط جميع الإطلاقات الأربعة ؛ إذ لا يتحقّق التعارض بين الإطلاقين في كلّ من المرحلتين ؛ لأنّ كون خفاء الأذان علّة تامّة لوجوب القصر لا يتنافى مع كون خفاء الجدران علّة تامّة لوجوب القصر ، إلّا أنّ العلّية التامّة لخفاء الأذان تنافي العلّيّة المنحصرة لخفاء الجدران ، وهكذا العلّيّة التامّة لخفاء الجدران تنافي العلّيّة المنحصرة لخفاء الأذان ، ولذا يتحقّق التعارض بين الإطلاقات الأربعة.

فلاحظنا إلى هنا مرحلتين من هذا التنبيه ، إحداهما : أنّ طرفي التعارض ما هو؟ والاخرى : أنّ بعد التعارض هل يتحقّق المفهوم أم لا؟ وقلنا : إنّ التعارض إن كان بين أصالة الحقيقتين أو الانصرافين أو الإطلاقين فلا يتحقّق المفهوم ، ولكن كلّ من خفاء الأذان وخفاء الجدران علّة تامّة لوجوب القصر ، وإن كان بين الإطلاقات الأربعة فأيضا لا يتحقّق المفهوم ولا يكون لهما علّية تامّة له ، فلا بدّ من تحقّق خفاء الأذان وخفاء الجدران معا لتحقّق وجوب القصر.

٤٠٩

المرحلة الثالثة : في أنّه هل يستفاد من القضيّتين نفي الثالث وأنّه لا دخل في وجوب القصر غير خفاء الأذان وخفاء الجدران أم لا؟ والتحقيق التفصيل بين الطرق المذكورة ، وإن استفدنا العلّية المنحصرة من طريق الوضع ، فبعد تعارض وتساقط أصالة الحقيقة فيهما يكون مفاد أحد الدليلين أنّ خفاء الأذان علّة تامّة لوجوب القصر ، ومفاد الآخر أنّ خفاء الجدران علّة تامّة لوجوب القصر ، وهو لا ينافي تحقّق علّة تامّة ثالثة له.

وهكذا إن استفدناها من طريق الانصراف فبعد التعارض وتساقط الانصرافين يثبت بالدليلين علّية تامّة لهما ، ولا ينافي تحقّق علّة تامّة ثالثة.

وإن استفدناها من طريق الإطلاق ، فبعد التوجّه إلى أنّ تقييد دليل المطلق بالنسبة إلى فرد من أفراده الإطلاقي لا يوجب قدح الإطلاق بالنسبة إلى سائر الأفراد ـ مثلا تقييد إطلاق الرقبة من حيث الإيمان والكفر لا يوجب قدح إطلاقها من حيث السواد والبياض ، والعلم والجهل وأمثال ذلك ـ فيتعارض ويتساقط الإطلاقان بالنسبة إلى جهة المعارضة فقط ، ويقول أحد الدليلين : إنّه إذا خفي الأذان فقصّر ، سواء خفي الجدران أم لا ، والآخر يقول : إنّه إذا خفي الجدران فقصّر ، سواء خفي الأذان أم لا ، فيكون تساقط الإطلاق محدودا في مفاد الدليلين ويبقى الإطلاق بقوّته بالنسبة إلى الأمر الثالث ، سواء كان هو جزء العلّة أو علّة تامّة بوحدته.

التنبيه الثالث : في تداخل المسبّبات وعدمه :

معلوم أنّ في الفقه عدّة موارد يتحقّق الدليل فيها للتداخل كالوضوء والغسل ، سواء كانت أسبابهما المتعدّدة من نوع واحد أو من أنواع مختلفة ، وموارد يتحقّق الدليل فيها لعدم التداخل مثل باب الكفّارات ، وهذا النزاع

٤١٠

يجري في موارد فقدان الدليل لأحد الجانبين.

وفيه أقوال ، والمشهور عدم التداخل ، وعن جماعة منهم المحقّق الخوانساري قدس‌سره (١) التداخل ، وعن الحلّي (٢) التفصيل بين اتّحاد جنس الأسباب وتعدّده.

والتحقيق يقتضي بيان امور بعنوان المقدّمة لتنقيح محلّ النزاع :

الأوّل : أنّه إذا قال أحد الدليلين : «إذا بلت فتوضّأ» مثلا والآخر : «إذا نمت فتوضّأ» ، يكون هذا نظير «إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران ، فقصّر» ، إلّا أنّ البحث هنا في علّيّة الشرط المنحصرة ، وفيما نحن فيه في الجزاء من حيث التكرار وعدمه ، ولكن هذا النزاع لا يجري على الاحتمال الثالث من الاحتمالات الأربعة المتقدّمة في التنبيه السابق ، ـ أي كون مجموع الشرطين مؤثّرا في تحقّق الجزاء ـ فإنّ مجموع المركّب من البول والنوم إن كان سببا لوجوب الوضوء لا يبقى محلّ لبحث التداخل ؛ لأنّ الشرط لا يتحقّق بتحقّق البول بوحدته وإن تحقّق عشر مرّات ، ويجري النزاع في بقية الاحتمالات المذكورة.

الأمر الثاني : أن يكون الجزاء قابلا للتعدّد والتكرار لا من قبيل القتل ؛ إذ لو قال أحد الدليلين : «من سبّ المعصوم يجب قتله» والآخر : «من ارتدّ يجب قتله» ، فإذا تحقّق كلاهما من شخص واحد فلا يجري هذا النزاع ، فإنّ المقتول لا يمكن عليه جريان القتل ثانيا.

الأمر الثالث : أنّه يتحقّق في باب التداخل عنوانان ، ويعبّر عن أحدهما

__________________

(١) مشارق الشموس : ٦١.

(٢) السرائر ١ : ٢٥٨.

٤١١

بتداخل الأسباب ، وعن الآخر بتداخل المسبّبات ، ومحلّ النزاع هنا العنوان الأوّل بأنّه إذا تحقّقت أسباب متعدّدة يلزم تحقّق مسبّبات متعدّدة ، أو يكفي تحقّق مسبّب واحد؟

ربما يقال : إنّ تداخل المسبّبات يتحقّق في مورد تعلّق الحكمين بالعنوانين ، وكانا في عالم الامتثال قابلين للاجتماع ، مثل : ضيافة العالم الهاشمي بعد أمر المولى بإكرام العالم وضيافة الهاشمي ، والظاهر أنّه ليس من تداخل المسبّبات ؛ إذ المقصود منه ما أشار إليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) في آخر بحث التداخل ، وهو : أنّه إذا لم يكن موضوع الحكم في الجزاء قابلا للتعدّد وكان قابلا للتأكّد ـ كما إذا وجب قتل شخص للقصاص والارتداد ـ فيتأكّد الحكم حينئذ ، وأمّا إذا لم يكن قابلا للتعدّد والتأكّد ـ كالملكيّة والطهارة والنجاسة ـ فلا بدّ من الالتزام بتداخل الأسباب فيه.

الأمر الرابع : أنّ بحث التداخل يرتبط بمقام الإثبات وظهور القضيّة الشرطيّة من حيث الدلالة ، فلا بدّ من كون التداخل وعدمه في مقام الثبوت أمرا ممكنا ؛ إذ لو كان أحد الجانبين أمرا مستحيلا لا تصل النوبة إلى البحث في أنّ مقتضى القاعدة هو التداخل أو عدمه في مقام الإثبات.

واستدلّ المرحوم البروجردي قدس‌سره (٢) على استحالة عدم التداخل بأنّ المولى بحسب مقام الثبوت إن أراد تحقّق فردين من طبيعة واحدة فقد يحكم بدون التعليق بأنّه : أيّها العبد توضّأ مرّتين ، وقد يحكم معلّقا على الشرط إذا كانت السببيّة في البين فيقول : «إذا بلت وإذا نمت فتوضّأ مرّتين» ، وإن أراد عقيب كلّ

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٣٢٠.

(٢) نهاية الاصول ١ : ٣٠٨.

٤١٢

سبب وضوء واحدا وعلى فرض تقدّم شرط إحدى القضيّتين على شرط القضيّة الاخرى مستمرّا كتقدّم البول على النوم دائما يقول المولى : «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ وضوء آخر» ، وأمّا إذا لم يكن أحدهما مقدّما على الآخر مستمرّا فحينئذ لا معنى لإضافة كلمة «وضوء آخر» إليهما ولا إلى أحدهما ، فلا محالة يقول : «إذا بلت فتوضّأ ، وإذا نمت فتوضّأ» بدون التعليق والتقييد بأيّ قيد ، ومعناه تعلّق الحكم بنفس طبيعة الوضوء ، والطبيعة الواحدة التي لم يلحظ فيها جهة الكثرة يستحيل أن يتعلّق بها وجوبان مستقلّان ، هذا تمام كلامه مع زيادة توضيح.

ويمكن جوابه بأنّ طريق بيان التعدّد لا ينحصر بما ذكرته ، ويصحّ تقييد الطبيعة في صورة الأخير أيضا ، وهو أن يقول المولى : «إذا بلت فتوضّأ بسبب البول ، وإذا نمت فتوضّأ بسبب النوم» ، كما كان كذلك في مثل : «النار سبب للحرارة» ، فإنّه في الباطن عبارة عن أنّ النار سبب للحرارة الآتية من قبل النار ، وإن لم يكن في الظاهر معلّقا ، وهكذا فيما نحن فيه ، فلا استحالة في البين. هذا طريق واحد ويمكن أن تتحقّق طرق اخرى ، فلا بدّ من البحث في مقام الإثبات.

إذا عرفت المقدّمات فلنشرع في أصل المسألة ، ونلاحظ في الابتداء أدلّة قول المشهور على عدم التداخل ، وما هو الأصل والأساس لأدلّتهم عبارة عمّا ذكره العلّامة الحلّي قدس‌سره في مختلف الشيعة (١) ، ومحصّله مع زيادة توضيح : أنّ في قضيّة «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ» ـ مع أنّ الشرطين قد يكونا متقارنين وقد يكونا متعاقبين ـ تتحقّق أربعة احتمالات ، أن أبطلنا ثلاثة منها يتعيّن

__________________

(١) مختلف الشيعة ٢ : ٤٢٣.

٤١٣

الاحتمال الرابع قهرا.

الأوّل : أنّه إذا تحقّق البول والنوم معا ـ سواء تحقّقا متعاقبين أو متقارنين ـ فلا يكونا مؤثّرين في وجوب الوضوء ، بل يسقطان عن السببيّة رأسا ، بخلاف ما إذا تحقّق كلّ منهما بوحدته.

وبطلان هذا الاحتمال لا إشكال فيه بعد مخالفته لظاهر القضيّتين والفتاوى.

الاحتمال الثاني : أنّه إذا تحقّق البول والنوم معا يكون وجوب الوضوء مستندا إلى واحد منهما ، بلا فرق بين أن يكون مستندا إلى واحد معيّن أو واحد غير معيّن.

وبطلانه أيضا لا بحث فيه ، فإنّ الاستناد إلى واحد معيّن ترجيح من غير مرجّح ، والاستناد إلى واحد غير معيّن مخالف لظاهر القضيّتين ؛ لأنّ ظاهر إحداهما أنّ البول سبب مستقلّ لوجوب الوضوء ، وظاهر الاخرى أنّ النوم سبب مستقلّ لوجوب الوضوء ، ولا يتحقّق شيء يدلّ على سببيّة أمر ثالث باسم واحد غير معيّن.

الاحتمال الثالث : أن يكون مجموع المركّب من البول والنوم مؤثّرا في وجوب الوضوء ، ولا يتحقّق وجوب الوضوء بدون تحقّقهما معا.

وقد مرّ أنّ هذا الاحتمال خارج عن محلّ النزاع في مسألة التداخل.

فيبقى الاحتمال الرابع وهو : أن يكون كلّ سبب مؤثّرا في مسبّب خاصّ ، وكلّ منهما كان سببا مستقلّا لوجوب وضوء مستقل ، وهذا معنى عدم التداخل.

وكان للشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) كلام مفصّل حول هذا الاستدلال ،

__________________

(١) مطارح الأنظار : ١٧٧.

٤١٤

وقال في تقريرات بحثه : إنّ هذا الاستدلال مبتن على ثلاثة مقدّمات ، فإن كان إحداهما قابلا للمناقشة فلا محلّ لمسألة عدم التداخل ، واجتماعها يهدينا إلى مسألة عدم التداخل ، وكان لها إجمال وتفصيل ، أمّا إجمال المقدّمة الاولى فإنّ النوم الذي يتحقّق عقيب البول لا يكون وجوده كالعدم ، بل كان له أيضا أثر.

وأمّا إجمال المقدّمة الثانية فإنّ الأثر الذي يكون النوم مؤثّرا فيه غير الأثر الذي يكون البول مؤثّرا فيه ، لا أنّ السبب الأوّل مؤثّر في حدوث وجوب الوضوء ، وكلا السببين مؤثّران في بقائه.

وأمّا إجمال المقدّمة الثالثة فهي أن يكون متعلّق الوجوب في مقام الامتثال أيضا متعدّدا ، ولا يكفي تعدّد المسبّب والوجوب ، بل لا بدّ من تعدّد الواجب حين العمل والامتثال.

ثمّ تناول الشيخ الأعظم قدس‌سره البحث في المقدّمة الاولى مفصّلا ، وجعل تلامذته كلّ طرف منها بعنوان دليل مستقلّ ، وكان لصاحب الكفاية قدس‌سره بالنسبة إلى هذه المقدّمة بيان ، والأولى منه ما ذكره المحقّق الهمداني قدس‌سره في كتاب مصباح الفقيه (١) ، وهو أنّه : إذا تعلّق الحكم الوجوبي من المولى بطبيعة بدون أيّ نوع من التقييد والتعليق ـ مثل «جئني بالماء» ـ ولكن قبل امتثال المكلّف في الخارج صدر عنه عين هذا الحكم ثانيا ، فلا إشكال في تأكيديّة الحكم الثاني وكفاية الامتثال مرّة واحدة ، كما يستفاده العقل والعقلاء بعد ملاحظة إطلاق المتعلّق في كلا الحكمين ، وأنّ طبيعة واحدة لا يمكن أن تكون متعلّق الحكمين المتماثلين ؛ لاستحالة اجتماع المثلين.

وأمّا إن صدر عنه الحكمان بصورة قضيّة شرطيّة ، مثل : «إذا بلت فتوضّأ

__________________

(١) مصباح الفقيه (كتاب الطهارة) : ١٢٦.

٤١٥

وإذا نمت فتوضّأ» فظاهر كلّ من القضيتين يقتضي السببيّة المستقلّة ، فيكون مقتضى القضيّة الاولى أنّ البول سبب مستقلّ لوجوب الوضوء ، ومقتضى القضيّة الثانية أنّ النوم سبب مستقلّ لوجوبه ، مع أنّ متعلّق الجزاء مطلق ، فالجزاء ظاهر في إطلاق المتعلّق ، ولا يمكن اجتماع الوجوبين على ماهيّة مطلقة ، فيتحقّق التعارض بين ظهور الجزاء وظهور القضيّة الشرطيّة في السببيّة المستقلّة.

ثمّ قال : إنّ ظهور القضيّة الشرطيّة مقدّم على ظهور الجزاء.

ويتحقّق في دليل التقدّم بيانان : أحدهما مشترك بين صاحب الكفاية والمحقّق الهمداني قدس‌سرهما ، والآخر ما يستفاد من كلام صاحب مصباح الفقيه فقط ، والدليل المشترك أنّ ظهور الجزاء يستفاد من طريق مقدّمات الحكمة ، وإحدى المقدّمات عبارة عن عدم القرينة على التقييد ، فحينئذ نقول : إنّ ظهور القضيّة الشرطيّة في السببيّة المستقلّة قرينة على تقييد الجزاء ومانع من انعقاد إطلاقه ، ولذا يكون ظهور القضيّة مقدّما على الإطلاق.

وأمّا الدليل الذي يستفاد من ذيل كلام المحقّق الهمداني قدس‌سره فهو أنّ المولى إذا قال : «إذا بلت فتوضّأ» فلا إشكال في نفس هذه القضيّة بوحدتها ؛ إذ يمكن أن يكون الجزاء مطلقا مع كون البول سببا مستقلّا له ، ولكنّه في القضيّة الشرطيّة الثانية إذا قال : «إذا نمت» ، قبل بيان الجزاء يوجد ظهور للشرط في السببيّة المستقلّة ، وهذا الظهور مقدّم على بيان الجزاء وجعل الإطلاق له ، سواء كان الجزاء بصورة «يجب الوضوء» أو بصورة «فتوضّأ» ، فيكون ظهور الشرط في السببيّة المستقلّة ـ أي النوم ـ للوجوب مقدّما على ظهور الجزاء في الإطلاق ومانع من انعقاده ، ويقيّده بقيد مرّة اخرى ، هذا تمام كلامه.

٤١٦

إنّما الكلام في منشأ هذا الظهور ؛ إذ المدّعي إن تمسّك بالوضع والتبادر ، بأنّ المتبادر من كلّ قضيّة شرطيّة أنّ الشرط سبب مستقلّ لتحقّق الجزاء.

وجوابه : أنّه كما مرّ بطلان هذا الكلام بالنسبة إلى العلّة المنحصرة ، كذلك لا دليل على إثبات مثل هذا الوضع والتبادر فيما نحن فيه.

على أنّا نرى في كثير من الموارد استعمال أداة الشرط في جزء السبب ، وعدم المانع بدون أيّ نوع من التجوّز والمسامحة ، فالاستعمالات العرفيّة الكثيرة نافية لهذا المدّعى ومانعة منه.

وهكذا مسألة الانصراف لا يصحّ للمدّعي أن يتمسّك به لإثبات العلّية التامّة للشرط في القضيّة.

وإن تمسّك بالإطلاق بأنّ أداة الشرط بحسب الوضع تدلّ على مطلق الارتباط بين الشرط والجزاء ، ولكن بحسب الإطلاق تنطبق على السببيّة المستقلّة.

وجوابه : أنّ تقدّم ظهور إطلاقي الشرط على ظهور إطلاقي الجزاء يحتاج إلى دليل ، ونضيف إليه : أنّ كلّ قضيّة من القضيّتين إن لوحظت في نفسها فلا منافاة بين الظهورين ولا مانع من كون النوم سببا مستقلّا لوجوب مطلق الوضوء ، فنأخذ ظهور الشرط وظهور الجزاء بالنسبة إلى إطلاق المتعلّق ، وأنّ الواجب هي طبيعة الوضوء بدون أيّ قيد.

وأمّا إذا لوحظت كلّ منهما بالنسبة إلى الاخرى فيرد الإشكال ؛ لعدم إمكان اجتماع الإطلاقين في الشرط مع الإطلاقين في الجزاء ، ولا يمكن أن يكون البول والنوم سببا مستقلّا لوجوب الوضوء ، مع أنّ الواجب هو نفس طبيعة الوضوء بدون التقييد والتعليق ، فما الدليل لتقدّم الإطلاقين في الشرط على الإطلاقين

٤١٧

في الجزاء؟ ومجرّد تقدّم الشرط في مقام الذكر لا يوجب تقدّمه في مقام المعارضة ، مع أنّه لا يكون كذلك دائما ؛ إذ يمكن أن يقول : «أكرم زيدا إن جاءك» وهذا نظير أن يقول أحد بتقدّم الخبر الصادر عن الباقر عليه‌السلام على الخبر الصادر عن الصادق عليه‌السلام في مقام المعارضة ، مع أنّه يقول بعض بعكس هذا.

نعم ، إن كان ظهور الشرط ظهورا وضعيّا فهو مقدّم على الظهور الإطلاقي ، وهكذا إن ثبت ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في حاشية كتابه من أنّ ظهور الشرط مقدّم على ظهور الجزاء عند العرف ، وهذا يكفي في تقدّمه ؛ إذ مسألة التداخل وعدمه ليست بمسألة عقليّة ، بل مسألة لفظيّة ، والحاكم فيها هو العرف. هذا بيان واحد للمقدّمة الاولى من مقدّمات الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

والبيان الآخر للمحقّق النائيني قدس‌سره (١) وبيانه هنا مبتن على مبناه في البحث السابق من أنّ الأحكام تتعلّق بالطبائع أو الأفراد ، وهو قائل بأنّ متعلّق الأحكام عبارة عن صرف الوجود من الماهيّة ، وهو أوّل ما يتحقّق به وجود الطبيعة ، سواء كان فردا واحدا أو أفرادا متعدّدة فيما يمكن تحقّق أفراد متعدّدة في آن واحد.

وعلى هذا المبنى يقول فيما نحن فيه : إنّ المولى حين يقول : «إذا بلت فتوضّأ» يتحقّق لهذه القضيّة الشرطيّة مدلولان : أحدهما : مدلول لفظي ، وهو تعلّق الطلب بصرف الوجود من الطبيعة ، والآخر مدلول عقلي ويتحقّق فيه قيد ، وهو أنّ المطلوب الواحد إذا امتثل مرّة لا يمكن امتثاله ثانية ؛ لعدم قابليّة صرف الوجود للتعدّد والتكرّر. هذا في المطلوب الواحد.

وأمّا إذا كان المطلوب متعدّدا ، وقال المولى عقيب الجملة السابقة : «إذا نمت

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٤٩٢ ـ ٤٩٤.

٤١٨

فتوضّأ» ، فيقتضي كلّ من القضيّتين أن يكون شرطها سببا مستقلّا لترتّب الجزاء ، ولازم حفظ استقلال كلّ من السببين الالتزام بتعدّد مطلوب المولى ، فحينئذ يحكم العقل بتكرّر صرف الوجود من الطبيعة ، وتحقّق الوضوء عقيب كلّ سبب ، ولا يعارضه حكم العقل بأنّ امتثال الطبيعة يحصل بإتيانها مرّة واحدة.

ثمّ قال : وممّا ذكرنا انقدح الفرق بين طريقنا والطريق الذي ذكره صاحب الكفاية وصاحب مصباح الفقيه ، فإنّا نقول : إنّه إذا كان المطلوب واحدا يحكم العقل بأنّ صرف الوجود لا يتكرّر ، وإذا كان المطلوب متعدّدا فلا يبقى موضوع لحكم العقل ؛ لأنّ موضوعه عبارة عن المطلوب الواحد ، فنحن نرد من طريق الورود ، ولكنّهما وردا من طريق الحكومة ، فإنّ بيانهما يرجع إلى أنّ الظهور الإطلاقي في الشرط مقدّم على ظهور إطلاقي الجزاء لكونه معلّقا على عدم البيان ، وصلاحية ظهور إطلاقي الشرط للبيان لا شبهة فيه ، فظهور القضيّة الشرطيّة في السببيّة المستقلّة حاكم على ظهور إطلاقي الجزاء. هذا تمام كلامه مع التصرّف في عباراته.

والتحقيق : أنّ ظاهر كلامهما أيضا عبارة عن الورود ، فإنّ إطلاق الجزاء يتحقّق في صورة عدم تحقّق القرينة على التقييد ، وإذا تحقّقت القرينة لا يبقى محلّ للإطلاق ، وهذا هو الورود ، ولكنّه ليس بمهمّ ، إنّما الإشكال في أصل بيانه ، فإنّ ظهور إطلاقي الشرط في القضيّتين يقتضي السببيّة المستقلّة لكلا الشرطين ، ولازم ذلك تعدّد المطلوب ، ولكن ظهور إطلاقي الجزاء يقتضي وحدة المطلوب ، فإنّ متعلّق الوجوب هو صرف الوجود من طبيعة الوضوء بدون التقييد والتعليق ، ولا يعقل أن يتعلّق به حكمان مستقلّان تأسيسيّان ،

٤١٩

وتشخيص تعدّد المطلوب ووحدته لا يكون بعهدة العقل ، فإذا تحقّق الظهوران فلا دليل لتقدّم ظهور الشرط على ظهور الجزاء إلّا أن يكون عند العرف مقدّما عليه ، كما ادّعاه المحقّق الخراساني قدس‌سره في حاشية الكفاية ، وهو يحتاج إلى الإثبات.

هذا تمام الكلام في المقدّمة الاولى من مقدّمات الشيخ الأنصاري قدس‌سره وحاصله : أنّ وجود سبب ثان ليس كالعدم ، بل يترتّب عليه الأثر الوجودي ، وعلى فرض إثبات هذه المقدّمة والإغماض عن المناقشة فيها فلا بدّ في المقدّمة الثانية من إثبات أنّ الأثر الوجودي الذي يترتّب عليه مغاير للأثر الذي يترتّب على السبب الأوّل ، بمعنى أنّه حكم تأسيسي مستقلّ لا تأكيدي ، وكلام الشيخ قدس‌سره حول هذه المقدّمة أيضا مفصّل ، ولكن قبل الورود في بيانه إذا لاحظناها في نفسها يكون إثباتها أمر مشكل.

توضيح ذلك : أنّه إذا تعلّق الحكم بطبيعة واحدة مرّتين بدون التعليق والتقييد ـ مثل: أن يقول المولى : «جئني بالماء» ، وقبل امتثاله من جانب العبد خارجا يقول أيضا : «جئني بالماء» ـ فلا شكّ في أنّ الحكم الثاني تأكيدي ، ولا محذور في البين ؛ لعدم إمكان تعلّق حكمان مستقلّان على طبيعة مطلقة واحدة ، فلا بدّ من حمل الحكم الثاني على التأكيد.

وأمّا في مثل : «إذا بلت فتوضّأ وإذا نمت فتوضّأ» فيكون مقتضى إطلاق الجزاء أنّ الطبيعة المطلقة الواحدة لا يمكن أن تكون متعلّق الحكمين التأسيسيّين ، ومقتضى إطلاق الشرط أنّ لكلّ سبب سببيّة مستقلّة وله حكم تأسيسي مستقلّ ، سيّما بعد التوجّه إلى الوقوع الخارجي وأنّه قد يكون النوم متقدّما على البول ، وقد يكون البول متقدّما على النوم ، فلا بدّ من طريق التخلّص من هذه المشكلة ، وطريق التخلّص إمّا أن يكون بالتصرّف في إطلاق

٤٢٠