دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

النهي المتعلّق بصلاة الحائض ـ كقوله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» ـ نهيا تحريميّا مولويّا ؛ إذ هو لا يدلّ من حيث اللفظ على أزيد من الحرمة ، وعلى القول بالفساد يحكم العقل بأنّ العبادة إن كانت مشتملة على مفسدة لازمة الاجتناب يكون مبعّدا عن المولى ، والمبعّد لا يمكن أن يكون مقرّبا ، والمبغوض لا يمكن أن يكون محبوبا ومطلوبا ، ولذا تكون العبادة باطلة ؛ إذ لا يتحقّق هنا عنوانان مستقلّان كالصلاة في الدار المغصوبة ، بل النهي متعلّق بنفس العبادة.

إذا عرفت هذا فنسأل بأنّه هل يتحقّق فيما نحن فيه الملاك المعتبر في فساد المنهيّ عنه أم لا؟ فقد مرّ أنّ أكثر القائلين بالاقتضاء استدلّوا بالمقدّميّة ، وأنّ ترك الصلاة مقدّمة للإزالة ، ومقدّمة الواجب واجبة ، ولا شكّ في أنّ وجوب المقدّمة أبدا وجوب غيريّ ، ومن خصوصيّاته أنّ موافقته لا توجب استحقاق الثواب ، ومخالفته لا توجب استحقاق العقاب كما مرّ ، ولا يكون في فعله مصلحة ولا في تركه مفسدة ، فالوجوب الغيري لا يكون مقرّبا ولا مبعّدا.

ومعلوم أنّ النهي المتعلّق بفعل الصلاة الناشئ عن الوجوب الغيري المتعلّق بتركها أيضا يكون نهيا غيريّا ، فلا يمكن أن تكون حرمته نفسيّة ، وعلى هذا لا يتحقّق في النهي الغيري المبعّديّة والمقرّبية ، فما الدليل لأن يكون تعلّق مثل هذا النهي في العبادة مقتضيا لفسادها؟ فملاك الفساد الموجود في مثل صلاة الحائض لا يتحقّق هاهنا.

وعلى القول بالتلازم يكون الأمر أيضا كذلك ، فإنّ بعد فرض تلازمهما واتّحاد المتلازمين في الحكم لا تتحقّق في ترك الصلاة في نفسه مصلحة أصلا ، وتعلّق الوجوب به يكون من ملازمته للإزالة ، وفوريّة وجوب الإزالة يوجب أهمّيّتها وأولويّتها ، لا أنّه يتحقّق في فعل الصلاة في هذا المقام مفسدة كتحقّقها

٢٠١

في صلاة الحائض.

فعلى كلا القولين لا تكون الصلاة مكان الإزالة باطلة ، ولا نسلّم ترتّب هذه الثمرة الخاصّة كما قال به استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) ، وأمّا ترتّب الثمرة العامّة ـ أي حرمة الضدّ على القول بالاقتضاء وعدم حرمته على القول بعدمه ـ فلا إشكال فيه.

وأنكر بعض العلماء ترتّب الثمرة الخاصّة ، يعني بطلان الضدّ إن كان أمرا عباديّا بنحو آخر ، وهو أنّ الصلاة مكان الإزالة تكون باطلة على كلا القولين.

أمّا على القول بالاقتضاء فمعلوم أنّ النهي المتعلّق بالعبادة يقتضي الفساد ، ولا فرق بين هذا النهي والنهي عن الصلاة المتوجّه إلى الحائض ، وأمّا على القول بعدم الاقتضاء فلأنّ القائل بعدم الاقتضاء لا يقول أيضا بأنّ كلا الضدّين في آن واحد يكونان مأمور بهما ، ولا يمكن للمولى بعد فرض تحقّق المضادّة بين الصلاة والإزالة أن يتعلّق التكليف الفعلي بهما ، بل الأمر الفعلي يتوجّه إلى الإزالة بلحاظ أهمّيّتها بالنسبة إلى الصلاة في سعة الوقت ، فالصلاة ليست بمأمور بها ولا بمنهيّ عنها ، وهذا يكفي لبطلانها ؛ إذ يشترط في صحّة العبادة تعلّق الأمر بها ، سيّما على القول بأن يكون قصد القربة بمعنى إتيان المأمور به بداعي أمره. هذا ما قال به الشيخ البهائي قدس‌سره (٢) وجماعة من العلماء.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره (٣) : أوّلا : بأنّه لا نحتاج في صحّة العبادة إلى الأمر ، بل يكفي مجرّد الرجحان والمحبوبيّة للمولى لصحّتها ، فإنّه يصحّ من العبد أن يتقرّب بمجرّد الرجحان إلى المولى كما لا يخفى ، فالصلوات التي تكون ضدّا

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٣٩٩.

(٢) زبدة الاصول : ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) كفاية الاصول ١ : ٢١٢.

٢٠٢

للإزالة بناء على عدم حرمتها تكون راجحة ومحبوبة للمولى ، فتكون صحيحة.

لا يقال : إنّ فقدان الأمر يدلّ على فقدان الرجحان والمحبوبيّة ؛ لأنّ طريق استكشافها عبارة عن نفس الأمر ، فإذا لم تكن الصلاة مكان الإزالة مأمورا بها فلا طريق لاستكشاف محبوبيّتها.

فإنّا نقول : إنّه لا شكّ في محبوبيّتها ، فإنّ المزاحمة على قول عدم حرمة الضدّ لا توجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلّق به فعلا مع بقائه على ما هو عليه ؛ لبقاء ملاكه من المصلحة كما هو مذهب العدليّة ، أو غيرها من أيّ شيء كان كما هو مذهب الأشاعرة ، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيّته وخروجه عن قابليّة التقرّب به كما حدث بناء على الاقتضاء.

وأجاب عنه ثانيا في ذيل بحث الترتّب بما قال به المحقّق الكركي قدس‌سره (١) قبله ، وهو : أنّ كلامه صحيح فيما إذا فرض وجوب كلا الضدّين فوريّا ومضيّقا ، مثل : إنقاذ الغريق المهمّ بعد فرض كونه عبادة ، وترك إنقاذ الغريق الأهمّ بلحاظ عدم القدرة على إنقاذهما. ومعلوم أنّ المهمّ هاهنا خارج عن دائرة الأمر ، وتكون العبادة باطلة بلحاظ فقدان الأمر بالمهمّ في هذا الفرض ، ولكن فيما إذا كانت العبادة موسّعة وكانت مزاحمة بالأهمّ في بعض الوقت لا في تمامه ، مثل الصلاة مكان الإزالة ، فلا شكّ في أنّ المزاحمة تتحقّق بين الإزالة ومصداق من مصاديق الصلاة ، لا بين نفس طبيعة الصلاة وبينها.

ولذا يمكن أن يقال : إنّه حيث كان الأمر بالطبيعة على حاله وإن صارت مضيّقة بخروج ما زاحمه الأهمّ من أفرادها من تحتها أمكن أن يؤتى بما زوحم

__________________

(١) المصدر السابق : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

٢٠٣

منها بداعي ذاك الأمر وإن كان الفرد خارجا عن تحتها بما هي مأمور بها ، إلّا أنّه لمّا كان الفرد المزاحم وافيا بغرض المولى وتتحقّق فيه المصلحة ـ كالباقي تحت الطبيعة ـ كان عقلا مثله في الإتيان به في مقام الامتثال والإتيان به بداعي ذلك الأمر بلا تفاوت في نظره بينهما أصلا ، وسيأتي أنّ الأوامر والنواهي تتعلّق بالطبائع لا بالمصاديق ، فعلى فرض احتياج العبادة إلى الأمر يصحّ الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلّق بطبيعة الصلاة ؛ إذ الإتيان بالصلاة بداعي الأمر المتعلّق بهذا المصداق باطل قطعا وإن لم تكن المزاحمة في البين.

والجواب الثالث : وهو ما تصدّى به جماعة من الأفاضل لتصحيح الأمر بالضدّ بنحو الترتّب على العصيان وعدم إطاعة الأمر بالأهمّ بنحو الشرط المتأخّر ، أو البناء على المعصية بنحو الشرط المتقدّم أو المقارن ، بدعوى أنّه لا مانع عقلا عن تعلّق الأمر بالضدّين كذلك ، أي بأن يكون الأمر بالأهمّ مطلقا والأمر بالمهمّ معلّقا على عصيان ذاك الأمر أو البناء والعزم عليه. ومعلوم أنّ عصيان التكليف والعزم عليه متأخّر عن التكليف ، فالأمر بالصلاة متأخّر عن الأمر بالإزالة من حيث الرتبة ، وإن كان مقارنا له من حيث الزمان.

وأجاب المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) عن الترتّب بأنّ ما هو ملاك استحالة طلب الضدّين في عرض واحد آت في طلبهما بنحو الترتّب أيضا ، فإنّه وإن لم يكن في مرتبة طلب الأهمّ اجتماع طلبهما ، إلّا أنّه كان في مرتبة الأمر بالمهمّ اجتماعهما ، بداهة فعليّة الأمر بالأهمّ في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بمجرّد المعصية فيما بعد ما لم يعص أو العزم عليها مع فعليّة الأمر بالمهمّ أيضا ؛ لتحقّق ما هو شرط فعليّته فرضا.

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢١٢ ـ ٢١٨.

٢٠٤

لا يقال : نعم ، ولكن هذا الاجتماع بسوء اختيار المكلّف حيث يعصى فيما بعد بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجّها إليه إلّا الطلب بالأهمّ ، ولا برهان على امتناع الاجتماع إذا كان بسوء الاختيار.

فإنّه يقال : استحالة طلب الضدّين ليس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليّته لا تختصّ بحال دون حال ، وإلّا لصحّ فيما علّق على أمر اختياري في عرض واحد بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتّب ـ أي وإن اختصّت الاستحالة بغير حال الاختيار وكان التعليق على سوء الاختيار مصحّحا لطلب الضدّين لزم أيضا صحّة تعليق طلب الضدّين على فعل اختياري غير عصيان الأمر بالأهمّ ، مثل : أن يقول : إن أكلت تفّاحا فصلّ وأزل النجاسة عن المسجد في آن واحد ـ مع أنّه محال بلا ريب ولا إشكال.

أقول : إنّ ما سمّي بعنوان الواجب المشروط وشرطه عبارة عن العصيان بنحو الشرط المتأخّر أو العزم على العصيان بنحو الشرط المقارن ، هل يكون هذا الشرط شرطا شرعيّا أو شرطا عقليّا؟

إن كان المراد منه هو الأوّل يرد عليه : أوّلا : أنّ طريق تبيين الشرائط الشرعيّة منحصر ببيان الشارع ، مثل : بيان شرطيّة الاستطاعة لوجوب الحجّ ، وشرطيّة النصاب لوجوب الزكاة ، ونحو ذلك ، ولا نرى في آية ولا رواية تعليق الأمر بالصلاة على عصيان الأمر بالإزالة أو العزم عليه.

وثانيا : أنّ لهذا الشرط فيما نحن فيه خصوصيّة توجب افتراقه عن الشرائط الشرعيّة المذكورة ، بل يمتنع عقلا أن يكون هذا الشرط شرطا شرعيّا ، توضيح ذلك يتوقّف على بيان امور :

٢٠٥

الأوّل : أنّ التكاليف الإلهيّة من الأوامر والنواهي هل تتعلّق بالطبائع والماهيّات أو تتعلّق بالأفراد والمصاديق ، يعني الوجودات الماهيّة بضميمة الخصوصيّات الفرديّة والعوارض المشخّصة؟ سيأتي تحقيق هذا البحث في محلّه مفصّلا ، ولكنّ المختار تبعا للأعاظم والفحول في هذا الفنّ أنّها تتعلّق بالطبائع والمفاهيم.

الأمر الثاني : أنّه سيأتي في باب المطلق والمقيّد بحث حول معنى الإطلاق ، وذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) له معنى ، وهو : أنّ الإطلاق يكون بمعنى الشمول وسريان الحكم المتعلّق بالطبيعة لجميع الأفراد والمصاديق ، كأنّ المولى لاحظ شمول الطبيعة بالنسبة لها.

ولكن اجيب عنه : أوّلا : بأنّه لا يبقى على هذا فرق بين المطلق والعامّ ، فلا فرق بين «أحلّ الله كلّ بيع» ، و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

ومعلوم أنّ دلالة أحدهما على العموم بالدلالة الوضعيّة ، ودلالة الآخر عليه من طريق مقدّمات الحكمة لا يكون فرقا بينهما ، بل الفرق أنّ «أحلّ الله كلّ بيع» يدلّ على العموم وسريان الأفراد ، بخلاف (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ؛ إذ لا دلالة له على العموم والشمول أصلا ، ودليل ذلك ما يكون بعنوان الجواب الثاني عن صاحب الكفاية قدس‌سره وهو : أنّ المطلق ليس بالمعنى المذكور.

والتحقيق : أنّ لفظ البيع وإن كان معرّفا باللّام وضع لماهيّة البيع ، مثل لفظ الإنسان الذي وضع للماهيّة ـ أي الجنس والفصل ـ ولا مدخليّة لعنوان الوجود أيضا فيها ، ولذا لا يكون حمل الموجود على الإنسان ـ في قضيّة «الإنسان موجود» ـ حملا أوّليّا ذاتيّا ، فإنّ الوجود لا يكون جنسا لماهيّة

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٣.

٢٠٦

الإنسان ولا فصلا له ، فالوجود خارج عن ماهيّته ، وأفراد الإنسان عبارة عن وجوداته بضميمة الخصوصيّات الفرديّة والعوارض المشخّصة.

وعلى هذا ، كيف يمكن حكاية ما وضع للماهيّة عن الوجود ، وتعدّده فضلا عن عوارضه المشخّصة مع أنّ نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم سواء؟ كيف يمكن القول بدلالة ماهيّة الإنسان على وجودات متعدّدة بل على خصوصيّات فرديّتها؟ ومعلوم أنّها لا تدلّ عليها بإحدى الدلالات الثلاث.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ الإطلاق بمعنى السريان والشمول أمر غير صحيح ؛ إذ السريان لا يكون تمام الموضوع له لكلمة البيع ولا جزء الموضوع له ولا ملازم له ، بل معناه أنّ المولى قد لاحظ في مقام تعلّق الحكم نفس طبيعة البيع وجعلها تمام الموضوع له للحكم بالحلّيّة ، ولذا نتمسّك به بعد تماميّة مقدّمات الحكمة إن شككنا في جزئيّة شيء أو قيديّته ، فلا دخل للخصوصيّات الفرديّة في ماهيّة مطلقة أصلا.

الأمر الثالث : أنّه لا شكّ في أنّ المزاحمة في المثال المعروف لبحث الترتّب ـ أي الصلاة والإزالة ـ لا تكون في مرحلة الماهيّة ، فإنّ لازم ذلك تحقّق المزاحمة بينهما بصورة دائميّة كدائميّة تعاند الإنسانيّة مع الناهقيّة ، والحال أنّه لا نرى المزاحمة بينهما في مرحلة الماهيّة وجدانا ، بل لا تتحقّق المزاحمة بينهما في أكثر الموارد والحالات ، فتتحقّق المزاحمة بينهما في بعض الحالات والموارد ، كما إذا ورد شخص في المسجد بغرض إقامة الصلاة في سعة الوقت والتفت إلى أنّه يكون ملوّثا.

ويستفاد من هذه الامور أنّ الأمر بالإزالة متعلّق بطبيعة الإزالة أوّلا ، ونفس الإزالة تكون تمام الموضوع له ثانيا ، والمزاحمة تتحقّق بين الصلاة وبينها

٢٠٧

في بعض الحالات ثالثا ، وعلى هذا كيف يعقل اشتراط الشارع الأمر بالصلاة على عصيان الأمر بالإزالة أو العزم عليه؟ إذ لا يمكن تعليقه الأمر بها بحالة خاصّة وخصوصيّة فرديّة بعد فرض الصحّة وتسليم الامور المذكورة.

وإن كان المراد من الاشتراط المذكور شرطا عقليّا ـ مثل شرطيّة العلم والقدرة على التكاليف ، وهذا هو الظاهر من القول بالترتّب ـ فهو أيضا مخدوش. توضيح ذلك أيضا يتوقّف على بيان أمرين :

الأوّل : أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره (١) قائل بأنّ كلّ حكم له مراتب أربع : الاولى : عبارة عن مرتبة الاقتضاء ، وهي مرتبة اشتمال الواجب على مصلحة كاملة ، واشتمال الحرام على مفسدة كاملة ، واشتمال المستحبّ على مصلحة راجحة ، واشتمال المكروه على مفسدة مرجوحة.

المرتبة الثانية : عبارة عن مرتبة الإنشاء ، وهي مرتبة جعل الحكم على وفق الاقتضاء.

المرتبة الثالثة : عبارة عن مرتبة الفعليّة ، وهي تتحقّق بعد علم المكلّف بالحكم والقدرة على إتيانه.

المرتبة الرابعة : عبارة عن مرتبة التنجّز ، وهي مرتبة استحقاق العقوبة والمثوبة على مخالفة الحكم وموافقته.

وأشكل عليه المشهور بأنّ نفس الاقتضاء ليس بحكم ، بل هو في مرتبة متقدّمة على الحكم ، ولذا لا ينبغي أن يجعل من مراتب الحكم. وهكذا مرتبة التنجّز واستحقاق الثواب والعقاب ليس من مراتب الحكم ، بل هي متأخّرة عن الحكم ، ولذا لا ينبغي أن يجعل منها ، فتتحقّق لكلّ حكم مرتبتان ، يعني

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ٢١٧.

٢٠٨

مرتبة الإنشاء ومرتبة الفعليّة.

واستنكره شديدا استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) واستدلّ على بطلان كلام المشهور صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ قولكم : «إنّ الأحكام الإنشائيّة إذا حصل العلم والقدرة عليها تصل إلى مرحلة التنجّز والفعليّة وإلّا فلا» ، هل المراد منها الأحكام المدوّنة في الكتاب والسنّة كما هو الظاهر من كلامهم؟ ومعناه أنّ ما يدلّ عليه قوله تعالى وقول رسوله والأئمّة عليهم‌السلام من الأحكام منحصر بالعالم والقادر ، مع أنّه لا فرق في أدلّة الأحكام بين الجاهل والعالم والقادر والعاجز ، إلّا في موردين : أحدهما : فيمن جهر في موضع الإخفات أو أخفت في موضع الجهر ، وثانيهما : فيمن أتمّ في موضع القصر أو قصّر في موضع الإتمام ، ولم يقل أحد بأنّ المخاطب بالأحكام هو العالم والقادر فقط إلّا في هذين الموردين.

وممّا يدلّ على تكليف الجاهل والعاجز عبارة عن دليل البراءة العقليّة وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعناها أنّ القبيح هو المؤاخذة والعقوبة بلا بيان ، لا التكليف بلا بيان ، فالتكليف محقّق للجاهل ولكنّه لا يعاقب مع الجهل ، فلا شرطيّة للعلم على خلاف ما هو المعروف للتكليف إن كان المراد منه الأحكام المدوّنة ، بل الجهل عذر يمنع العقاب ، وهكذا القدرة.

وإن كان المراد من الحكم والتكليف إرادة تشريعيّة ذات الباري فلازم كلام صاحب الكفاية قدس‌سره دوران الإرادة التشريعيّة مدار علم المكلّف ، وجهله وقدرته وعجزه وجودا وعدما وتبدّلها باختلاف حالات المكلّف ، وهو كما ترى ، فليس لكلّ حكم مرتبتان ولا مراتب أربعة ، بل التحقيق كما يستفاد من الروايات أنّ الأحكام على قسمين : قسم منهما مشترك بين العالم والجاهل

__________________

(١) تهذيب الاصول ١ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦.

٢٠٩

والقادر والعاجز ، ويعبّر عنه بالأحكام الفعليّة ، وهو ما اوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصل إلينا إمّا بلسانه وإمّا بلسان الأئمّة عليهم‌السلام.

والقسم الآخر ما لا يظهر بلسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام لاقتضاء بعض المصالح ، وإظهاره موكول إلى عصر ظهور صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه ، وهو الآن في مرحلة الإنشاء ، وجميع الأحكام تصل بعد الظهور في مرحلة الفعليّة كالحكم بنجاسة بعض الأشياء والفرق ، ولذا عبّر في بعض الروايات بأنّه يأتي بدين جديد.

الأمر الثاني : ما تترتّب عليه آثار متعدّدة ، وهو أنّ الخطابات العامّة مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و (آتُوا الزَّكاةَ) هل تنحلّ وتتعدّد بتعدّد المكلّفين أو تكون خطابا واحدا بنحو العموم؟ والفرق بينهما أنّ الخطاب إن كان شخصيّا يلزم أن لا يكون المولى الآمر عالما بعدم الانبعاث ، فإن علم بعدم تأثير البعث في المكلّف ، أو علم إتيانه بالمأمور به وإن لم يبعثه المولى لا يصحّ البعث بالمعنى الحقيقي ؛ لأنّه لغو لا يصدر من المولى الحكيم ، وهكذا في النهي ، بخلاف الخطابات العامّة ؛ إذ لا يشترط فيها علم المولى بانبعاث جميع المخاطبين ، ويكفي في التكليف بنحو العموم علمه بانبعاث أكثر المكلّفين بل عدّة منهم.

وهناك قرينة مهمّة على عدم انحلال الخطابات العامّة مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ،وهي أنّ من خالفها في مقام العمل نعبّر عنه بالعاصي ، وهو عبارة عمّن توجّه إليه الخطاب ولكنّه خالف التكليف ، ومن لا يتوجّه إليه التكليف لا ينطبق عليه عنوان العاصي ، ونستكشف من ذلك العنوان أنّ العصاة مكلّفون بها كالمطيعين ، وبعد كون الآمر هو الباري تعالى الذي يكون عالما بمخالفة العصاة ، فإن قلنا بانحلالها يكون تكليف العصاة وبعثهم لغوا ، فتوجّه

٢١٠

التكليف إليهم قرينة على عدم انحلال الخطابات العامّة.

وهكذا في الكفّار ؛ إذ تتحقّق قاعدة فقهيّة بأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع كتكليفهم بالاصول ، وتخصيص بعض الخطابات العامّة بالمؤمنين مثل : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) يكون بعنوان التجليل لهم أو لعلل آخر ؛ إذ الحقّ أنّ الكفّار مكلّفون بجميع الفروع ، فإن قلنا بانحلال الخطابات العامّة يكون الخطاب الشخصي بالنسبة إليهم لغوا ، فلا بدّ من الالتزام بعموميّتها وعدم انحلالها ، سيّما بعد عدم انحصار الكفّار والعصاة بمنطقة خاصّة أو لسان خاصّ أو قبيلة خاصّة.

ومن الثمرات المترتّبة على هذه المسألة عبارة عمّا تعرّضه الشيخ الأنصاري (٢) والمحقّق الخراساني قدس‌سرهما (٣) في بحث الاشتغال ، من أنّه يتحقّق لمنجّزيّة العلم الإجمالي شرائط : منها : أن يكون جميع أطراف العلم الإجمالي مورد ابتلاء المكلّف ، وإلّا لا أثر للعلم ؛ إذ لا يعقل الخطاب ب «لا تشرب الخمر الموجود في بلد كذا» بعد فرض خروجه عن محلّ ابتلاء المكلّف.

ويرد عليه : أنّ هذا القول يصحّ على القول بانحلال الخطابات العامّة وتوجّه الخطاب الشخصي إليه مثل : «لا تشرب الخمر الموجود في أقصى العالم».

وأمّا على القول بعدم الانحلال فلا ضرورة لأن تكون أطراف العلم الإجمالي مورد ابتلاء المكلّف ، وفي الخطابات العامّة لا يتحقّق هذا الشرط ، بل يكفي لصدورها وتحقّقها تبعيّة عدّة من المكلّفين.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المعروف والمشهور بين العلماء أنّ العلم والقدرة

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٠.

(٣) كفاية الاصول ١ : ٢١٨.

٢١١

من الشرائط العامّة للتكليف ، والحاكم بهما هو العقل ، فالعلم شرط للتكليف بحيث إن لم يبيّن المولى أو لم يصل بيانه إلى المكلّف لا يكون العبد مكلّفا ، وهكذا مسألة القدرة ، وإذا كان العبد عاجزا فليس بمكلّف ، والمراد من القدرة هي القدرة العقليّة ، بخلاف كلمة الوسع في قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) ؛ إذ المراد منه هو القدرة العرفيّة ، ويكون الباري هاهنا في مقام التفضّل ، والظاهر أنّه لا فرق في معنى الشرطيّة بين هذين الشرطين وسائر الشرائط الشرعيّة ، مثل : الاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، وهو أنّ الواجد لهذا الشرط يكون مكلّفا ، وفاقده لا يكون مكلّفا ، فلا بدّ أن يكون العلم والقدرة أيضا كذلك ، أي العالم بالتكليف مكلّف والجاهل به غير مكلّف ، والقادر على إتيان المكلّف به مكلّف والعاجز عنه ليس بمكلّف.

ومن المعلوم أنّ الشرائط الشرعيّة يكون بيانها بيد الشارع ولا دخل للعقل فيها ، وأمّا إذا كان الشرط عقليّا فلا بدّ له من ملاك عقلي ، وبعد مراجعة العقل فيما نحن فيه نرى تحقّق قاعدة مسلّمة عنده ، وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، يعني يحكم العقل بقبح مؤاخذة العبد الجاهل لمخالفته تكليف لم يبيّن له.

ومن هنا نفهم أنّ التكليف متوجّه إلى الجاهل أيضا ، ولا يكون مثل غير المستطيع ؛ إذ لا يصحّ التعبير بأنّه يقبح مؤاخذة غير المستطيع لمخالفة الحجّ ، فإنّه ليس بمكلّف أصلا ، ولكن الجاهل مكلّف ، وتتحقّق منه مخالفة التكليف ، إلّا أنّه لا يصحّ للمولى أن يؤاخذه ويعاقبه.

ويؤيّده قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(٢) ، وهو أيضا

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الإسراء : ١٥.

٢١٢

ناظر إلى حكم العقل ، فلا شرطيّة للعلم ؛ إذ لا ينتفي المشروط بانتفاء الشرط ، مع أنّه لا فرق في معنى الشرطيّة بين الشرط الشرعي والشرط العقلي.

وهكذا من ناحية القدرة بعد شمول خطاب عامّ ، مثل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) للقادر والعاجز بحكم العقل بعد الرجوع إليه بأنّ العاجز معذور في المخالفة ، لا أنّه ليس بمكلّف ، فلا فرق في أصل توجّه التكليف إليهما ، فالقدرة أيضا لا تكون من شرائط التكليف العامّة ، مع أنّه يتحقّق دليلان لنفي شرطيّة كلّ من العلم والقدرة.

أمّا الدليل الأوّل بالنسبة إلى نفي شرطيّة العلم فهو عبارة عن أنّه إذا شككنا في تحقّق الشرط في سائر الواجبات المشروطة يكون معناه الشكّ في تحقّق المشروط ، وبعد الفحص عن تحقّق الشرط تجري البراءة عن المشروط كالشكّ في تحقّق الاستطاعة وعدمه ، فإنّه يرجع إلى الشكّ في وجوب الحجّ ، فيكون مجرى للبراءة ، وإذا كان العلم شرطا للتكليف ينتج الشكّ في التكليف القطع بعدم التكليف من دون احتياج إلى جريان أصالة البراءة ، فإنّ القول بشرطيّة العلم للتكليف من ناحية والشكّ فيه من ناحية اخرى ، معناه أنّه ليس بعالم ، فهو متيقّن بأنّ الشرط ليس بموجود ، فشرطيّة العلم للتكليف وجريان أصالة البراءة في مورد الشكّ فيه لا يكون قابلا للجمع ، ومن هنا نستكشف عدم شرطيّة العلم للتكليف.

وأمّا الدليل الثاني بالنسبة إليه فهو مبني على ما قلناه من أنّ الأحكام على قسمين : قسم منها أحكام فعليّة وهو أكثر الأحكام ، وقسم منها أحكام إنشائيّة وفعليّتها متوقّف على ظهور إمام العصر عليه‌السلام ، والأحكام المدوّنة في

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٢١٣

الكتاب والسنّة وما بأيدينا أحكام فعليّة ، وإن كان العلم شرطا لفعليّة الأحكام يلزم الدور على هذا المبنى ، فإنّ معنى الشرطيّة أنّ فعليّة الأحكام تتوقّف على العلم بها ، والعلم أيضا يتوقّف على الفعليّة ؛ إذ لا بدّ للعلم من المعلوم بعد كون البحث في العلم بالواقع لا في العلم بخلاف الواقع.

أمّا الدليل الأوّل بالنسبة إلى نفي شرطيّة القدرة فإنّه مرّت في بحث مقدّمة الواجب تقسيمات للمقدّمة ، وأنّها تارة تكون مقدّمة الوجود ، واخرى تكون مقدّمة الصحّة ، وثالثة تكون مقدّمة العلم ، ورابعة تكون مقدّمة الوجوب ، ومرّ أيضا أنّه لا يجب تحصيل مقدّمة الوجوب كالاستطاعة مثلا ، وإن قلنا بشرطيّة القدرة للتكليف بعنوان المقدّمة الوجوبيّة فلا بدّ من القول بجواز اتّخاذ طريق العجز حتّى لا يقدر على إتيان التكليف ، مثل جواز اتّخاذ طريق غير الاستطاعة حتّى لا يجب عليه الحجّ ، والحال أنّه لا يمكن الالتزام بذلك عقلا ، بل العقل يحكم بتحصيل القدرة لإتيان أوامر المولى ، ومن هنا نستكشف أنّ القدرة لا تكون كسائر الشرائط مقدّمة وجوبيّة للتكليف.

وأمّا الدليل الثاني بالنسبة إليه فإنّه قد مرّ آنفا جريان أصالة البراءة في صورة الشكّ في الشرطيّة عند المشهور ، وفي صورة الشكّ في القدرة ، وأنّه قادر على إتيان المأمور به أم ليس بقادر فيجري الاحتياط عندهم ، ويستفاد من ذلك أنّه لا شرطيّة للقدرة ، وتحقّق التضادّ في كلام المشهور وقولهم بالفرق بين القدرة وسائر الشرائط أقوى دليل على عدم شرطيّة القدرة ، فتحصّل أنّ العلم وكذا القدرة لا تكون من الشرائط العامّة للتكليف ، بل الجهل عذر ومانع عن المؤاخذة ، وهكذا العجز. هذا تمام الكلام في بحث مقدّمات مسألة الترتّب.

إذا عرفت ذلك فنقول : هل نحتاج في تصحيح عباديّة ما هو المهمّ إلى مسألة

٢١٤

الترتّب وأن يكون الأمر بالصلاة ـ مثلا ـ مشروطا بعصيان الأمر بالإزالة ، أم لا نحتاج إليها ، إذ الأمر موجود على الإطلاق في ناحية الأهمّ والمهمّ معا؟ والعمدة من المقدّمات ثلاثة أمور : الأوّل : عدم انحلال الخطابات العامّة ، وكونها خطابا واحدا متوجّها إلى عامّة المكلّفين بنحو العموم.

والثاني : عدم شرطيّة العلم والقدرة للتكاليف ، وكون الجهل والعجز بعنوان العذر والمانع عن العقاب عقلا.

والثالث : عدم تحقّق التزاحم والتضادّ بين ماهيّة الصلاة والإزالة ، وتحقّقه في بعض حالات المكلّف.

ثمّ إنّا نستفيد من ذلك بأنّه تارة يتوجّه إلى المكلّف خطاب واحد بنحو العموم ، مثل: أزل النجاسة عن المسجد ـ مثلا ـ بعد دخوله فيه ورؤيته ملوّثا ، فإن وافقه يستحقّ المثوبة ، وإن خالفه مع كونه عالما وقادرا يستحقّ العقوبة ، وإن لم يكن كذلك يكون معذورا في المخالفة.

واخرى يتوجّه إليه أمران متساويان من حيث الأهمّيّة ، كالأمر بإنقاذ الغريقين المتساويين في الأهمّيّة مع عدم قدرة المكلّف إلّا على إنقاذ أحدهما ، فإن استفاد من قدرته لإنقاذ أحدهما يستحقّ المثوبة لما وافقه ويكون معذورا لما خالفه عقلا ، وإن لم يستفيد من قدرته وخالف كلا الأمرين فلا إشكال عقلا في أصل استحقاق العقوبة ، بل الظاهر أنّه يستحقّ العقوبتين ؛ إذ لا شكّ في استقلال كلا التكليفين ، وعدم عذره في مخالفتهما ، فلا حجّة له في مقابل المولى بعد فرض عدم توجّه خطاب شخصي إليه بأنّه جمع بين الإنقاذين ، بل توجّه كلا التكليفين بنحو العامّ.

وثالثة يتوجّه إليه أمران مع أولويّة أحدهما وأهمّيّته بالنسبة إلى الآخر ،

٢١٥

كالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد بالنسبة إلى الأمر بالصلاة في سعة الوقت ، أو الأمر بإنقاذ الغريق بالنسبة إلى الأمر بالإزالة ، فإن وافق الأمر بالأهمّ واستفاد من قدرته في إنقاذ نفس محترمة فيستحقّ المثوبة لما وافقه ويكون معذورا لما خالفه ، ولا يستحقّ العقوبة لمخالفة الأمر بالمهمّ قطعا من حيث العقل.

وإن وافق الأمر بالمهمّ وخالف الأمر بالأهمّ فيستحقّ المثوبة لما وافقه أيضا ؛ إذ لا نقص في الأمر بالمهمّ ، فإنّ الأمر بالصلاة كما ذكرناه متعلّق بماهيّة الصلاة وطبيعتها بنحو العموم بدون دخالة الخصوصيّات الفرديّة فيها ، كما أنّ الأمر بالإزالة متعلّق بماهيّتها بنحو العموم ، وتحقّق التزاحم والتضادّ بينهما خارج عن دائرة تعلّق الحكم بالماهيّة والطبيعة ، وكما أنّ الأمر المتعلّق بالإزالة مطلق كذلك الأمر المتعلّق بالصلاة مطلق لا يكون مشروطا بالعصيان ونحو ذلك.

ومن البديهي أنّ معنى الأهمّ والمهمّ لا يكون اختلافهما في الرتبة من حيث تعلّق الأمر ، والشاهد على ذلك قول منكر الترتّب بأهمّيّة الإزالة بالنسبة إلى الصلاة ، فالأهمّ والمهمّ لا يكون ملازما للترتّب.

فإن كان الواجب المهمّ عبادة ـ والعبادة تحتاج إلى الأمر ـ فلا شكّ في صحّة هذه العبادة ؛ إذ لا نقص فيها أصلا ، وأهمّيّة الإزالة لا تقتضي بطلان الصلاة ، إلّا أنّه يستحقّ العقوبة في مقابل مخالفة الأمر بالأهمّ ، فيستحقّ المثوبة على إتيان الصلاة ، ويستحقّ العقوبة على ترك الإزالة ، وإن لم يستفيد من قدرته أصلا وخالف كلا الأمرين فيستحقّ العقوبتين بلحاظ تساوي القدرة بالنسبة إلى كلا التكليفين.

٢١٦

وإن فرض صحّة قول المشهور وقلنا بانحلال الإطلاقات العامّة إلى خطابات شخصيّة وشرطيّة العلم والقدرة للتكليف فهل تصحّ مسألة الترتّب أم لا؟ ونبحث تارة في مقام الثبوت ، واخرى في مقام الإثبات.

وأمّا البحث في المقام الأوّل فقد مرّ أن ذكرنا أنّ الترتّب يكون بمعنى الطوليّة وتأخّر رتبة الأمر بالمهمّ عن رتبة الأمر بالأهمّ ، مثل : تأخّر رتبة المعلول عن العلّة والمؤثّر والمتأثّر عن المؤثّر ، ودليل تأخّر رتبته أنّه مشروط بشرط متأخّر عن الأمر بالأهمّ ، وهو عبارة عن عصيان الأمر بالأهمّ ، وعصيانه متأخّر عنه ، فالأمر بالصلاة ـ مثلا ـ متأخّر عن الأمر بالإزالة.

ودليل تأخّر عصيانه عنه : أنّ الإطاعة والعصيان أمران متناقضان ؛ لأنّ الإطاعة عبارة عن فعل المأمور به ، والعصيان عبارة عن ترك المأمور به ، ومعلوم أنّ إطاعة الأمر متأخّر عنه فالعصيان أيضا كذلك ؛ إذ النقيضان في رتبة واحدة ، والمشروط بالمتأخّر لا محالة متأخّر.

وجوابه : أوّلا : تقدّم أن نقلنا ما ذكره المحقّق القوچاني قدس‌سره في توضيح تشبيه صاحب الكفاية قدس‌سره مسألة الضدّين بمسألة النقيضين ، ومحصّل كلامه في مقام نفي المقدّميّة :

أنّ فعل الصلاة وترك الصلاة في رتبة واحدة ، ويتحقّق بين ترك الصلاة وفعل الإزالة كمال الملاءمة التي تقتضي أن يكون فعل الصلاة والإزالة أيضا في رتبة واحدة ، فلا مقدّميّة في البين.

وقلنا في جوابه : أنّ الترك والعدم لا يمكن أن يقع موضوعا لأمر وجودي ؛ لأنّه ليس بشيء حتّى يحكم عليه بشيء وجودي كالحكم بالتأخّر أو الاتّحاد ونحو ذلك ، فإنّها أحكام ثبوتيّة تحتاج إلى الموضوع.

٢١٧

وثانيا : أنّ مع قطع النظر عن هذا الجواب وفرض كون عدم الصلاة مع فعلها في رتبة واحدة فما الدليل على أن يكون عدم الصلاة مع فعل الإزالة في رتبة واحدة؟ وتأخّر الرتبة وتقدّمها من المسائل العقليّة وتابع لملاك عقليّ ، مثل : أن يتحقّق لمعلولين علّة واحدة وكان أحد المعلولين علّة لأمر ثالث ، ومعلوم أنّ المعلولين بعد تأخّرهما عن العلّة في رتبة واحدة ، والمعلول الثالث متأخّر عن علّته بلحاظ وملاك العلّيّة ، ومن البديهي أنّ رتبة المعلول الثالث مع المعلول الذي يكون في رتبة علّته ، لا يكون التقدّم والتأخّر عقلا بلحاظ فقدان ملاكه.

ويستفاد ممّا ذكرناه فيما نحن فيه أيضا مع إضافة ، ونقول : سلّمنا أنّ الإطاعة متأخّرة عن الأمر بالإزالة ، ولكنّه لا دليل على تأخّر العصيان عنه ، فإنّه : أوّلا : أمر عدميّ لا يكون قابلا لحمل حكم وجودي عليه ، وثانيا : أنّ التأخّر الرتبي يحتاج إلى ملاك عقلي ، وهو يتحقّق في الإطاعة دون العصيان ؛ إذ الإطاعة عبارة عن فعل المأمور به في الخارج ، والعصيان عبارة عن الترك ، ومن لم يصلّ عن عمد يعدّ عاصيا بأيّ داع يتحقّق.

وثالثا : أنّ غرض القائل بالترتّب فيما نحن فيه حمل الحكمين الوجوديين على العصيان: أحدهما : اتّحاد العدم مع الوجود والإطاعة مع العصيان في الرتبة ، وثانيهما : شرطيّة العصيان للأمر بالمهمّ ، والحال أنّه لا بدّ أن يكون الشرط أمرا وجوديّا ، فالترتّب يكون محلّا للإشكال والنظر ثبوتا.

ولو فرضنا صحّته في مقام الثبوت فهل يصحّ في مقام الإثبات أم لا؟ لا شكّ في أنّ غرض القائل بالترتّب عبارة عن رفع استحالة طلب الضدّين في آن واحد ، فإنّه أيضا قائل ومعترف بأنّ الأمر بالإزالة والأمر بالصلاة في زمان

٢١٨

واحد لا يكون كلاهما قابلا للجمع بل هو غير معقول ، ومراده من الترتّب إمكان جمعهما بدون الاستحالة.

ولا بدّ لنا من ملاحظة أنّه يتحقّق مع الترتّب طريق إلى الإمكان ويسدّ طريق الاستحالة أم لا؟ توضيح ذلك : أنّه يتصوّر لما هو شرط للأمر المهمّ ثلاثة احتمالات : أحدها : أن يكون لنفس العصيان الخارجي للأمر بالأهمّ شرطيّة بنحو الشرط المقارن ، وثانيها : أن يكون لها شرطيّة بنحو الشرط المتأخّر ، نظير الإجازة في البيع الفضولي بناء على الكشف الحقيقي ، وما يعبّر عنه بشرطيّة تعقّب الإجازة ، وثالثها : أن يكون الشرط عبارة عن العزم على العصيان أو التلبّس به أو الشروع فيه ، وهو يتحقّق بإرادة المعصية.

وعلى الأوّل : لا شكّ في أنّ بعد مضيّ آناً ما من الزمان في الواجب المضيّق ـ لا في مثل الصلاة والإزالة بلحاظ كونه وجوبها فورا ففورا ـ يتحقّق العصيان ، فيسقط الأمر بالأهمّ ؛ إذ العصيان كالإطاعة مسقط للتكليف ، فلا يتحقّق في كلا الزمانين أزيد من أمر واحد ، فإنّ قبل تحقّق العصيان يتحقّق الأمر بالأهمّ فقط. وأمّا بعد تحقّقه فيتحقّق الأمر بالمهمّ فقط ، فلا يمكن اجتماع الأمرين مع الترتّب والطوليّة على هذا المبنى فضلا عن الاستحالة.

وعلى الثاني : سلّمنا أنّه يتحقّق كلا الأمرين في زمان واحد ؛ إذ العصيان في ظرفه مسقط للتكليف لا قبله ، وشرط الأمر بالمهمّ ـ يعني تعقّب العصيان ـ متحقّق أيضا ، فيتحقّق الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ في آن واحد ، ولكنّه لا ترتفع بهذا الاشتراط غائلة الاستحالة ، ولا أثر له إلّا فعليّة الأمر المهمّ ، وتعقّب العصيان لا يكون مسقطا للأمر بالأهمّ ، فتبقى استحالة طلب الضدّين.

وهكذا على الثالث ، فإنّ العزم على العصيان لا يكون مسقطا للتكليف ،

٢١٩

مع أنّ شرط الأمر بالمهمّ حاصل ، وحصول الشرط موجب لتحقّقه.

والحاصل : أنّه تحقّق من المولى طلب الضدّين في آن واحد ، وهو مستحيل ، ولا يمكن ارتفاعه بواسطة الاشتراط ، فلا يحصل غرض القول بالترتّب ، أي تحقّق طلب الضدّين في زمان واحد ، ورفع استحالته مع الترتّب وتقدّم رتبة أحدهما على الآخر ، فإنّ استحالة طلب الضدّين أمر مطلق لا ينحصر بزمان دون زمان.

توضيح ذلك : أنّ رافع الاستحالة إمّا أن يكون أصل اشتراط الواجب المهمّ ، وإمّا أن يكون اشتراطه بأمر ناشئ عن سوء اختيار المكلّف ، وإمّا أن يكون اختلاف الرتبة وتأخّر رتبته عن رتبة الواجب الأهمّ ، مع أنّه لا يمكن رفع الاستحالة بأيّ وجه من الوجوه ؛ إذ بناء على الأوّل يصحّ بطريق أولى قول المولى : «إن أكلت اليوم خبزا يجب عليك الجمع بين الصلاة والإزالة» ، وعلى الثاني يصحّ قوله : «إن عصيت واجب كذا يجب عليك الجمع بين الصلاة والإزالة» ، والحال أنّ سوء الاختيار يرتبط بالمكلّف ، وطلب الضدّين يرتبط بالمولى ، وما يرتبط بالمكلّف كيف يمكن أن يكون رافعا لاستحالة ما يرتبط بالمولى؟!

وعلى الثالث : أنّ اختلاف الرتبة لا يكون مؤثّرا في رفع الاستحالة ، فإنّ هذه المسألة مسألة زمانيّة ، ولذا يقال : هل يجوز طلب الضدّين في زمان واحد أم لا؟ ولا يرتبط بالرتبة حتّى يكون اختلافها رافعا لاستحالته ، فلا طريق لإثبات القول بالترتّب من حيث مقام الإثبات أيضا.

ولكنّ المحقّق النائيني قدس‌سره (١) ذكر عدّة من الفروع الفقهيّة وقال : إنّ كلّ فقيه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٣٠٢.

٢٢٠