دراسات في الأصول - ج ٢

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-93-4
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٦٢٣

قال المحقّق النائيني قدس‌سره في هذا المقام : إنّ للشكّ أقساما ثلاثة : القسم الأوّل : ما إذا علم بوجوب كلّ من الغير والغيري من دون أن يكون وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل ، كما إذا علم بعد الزوال بوجوب كلّ من الوضوء والصلاة ، وشكّ في وجوب الوضوء من حيث كونه غيريّا أو نفسيّا ، وثمرة النفسيّة والغيريّة عبارة عن وحدة العقاب وتعدّده عند ترك المكلّف لكلّ منهما ، ووقوع الصلاة باطلة إذا ترك الوضوء وأقام الصلاة ، وعدمه ، ففي هذا القسم يرجع الشكّ إلى الشكّ في تقييد الصلاة بالوضوء وأنّه شرط لصحّتها ، وحينئذ يرجع الشكّ بالنسبة إلى الصلاة إلى الشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وأصالة البراءة تقتضي عدم شرطيّة الوضوء للصلاة وصحّتها بدونه ، فيترتّب عليه أثر الواجب النفسي ولا يثبت عنوان النفسيّة (١).

وفيه : أنّه جعل المسألة من مصاديق الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ثمّ حكم بجريان أصالة البراءة ، ولكنّه مخدوش من حيث الصغرى والكبرى معا. أمّا الصغرى فلما مرّ من أنّ البحث في المسألة لا ينحصر بالمقدّمات الشرعيّة.

على أنّ جميع المقدّمات الشرعيّة لا ترجع إلى الاشتراط والتقييد وإن كان الأمر في كثير منها كذلك.

وقلنا : إنّ لازم مقدّميّة نصب السلّم للكون على السطح ليس التقييد بأن يكون المأمور به عبارة عن الكون على السطح المقيّد بنصب السلّم حتّى ينفي القيديّة بأصالة البراءة ، فلا ربط لما نحن فيه بالأقلّ والأكثر الارتباطيّين أصلا. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه لو فرضنا أن يكون ما نحن فيه من صغريات الأقلّ والأكثر

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٢٢٢.

١٠١

الارتباطيّين فالكبرى ممنوعة ؛ إذ المباني فيه مختلفة ، فإنّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) هاهنا قائل بانحلال الشكّ وجريان البراءة ، والمحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) قائل باستحالة الانحلال وجريان أصالة الاشتغال ، والمحقّق النائيني قدس‌سره (٣) قائل بالتفصيل ، وأنّه في صورة الشكّ في الجزئيّة يحكم بالبراءة العقليّة ، وفي صورة الشكّ في الشرطيّة يحكم بالاشتغال ، فما نحن فيه بلحاظ كونه من قبيل الشكّ في الشرطيّة لا يكون مجرى البراءة على مبناه قدس‌سره.

ثمّ قال : القسم الثاني : ما إذا علم بوجوب كلّ من الغير والغيري ولكن كان وجوب الغير مشروطا بشرط غير حاصل كالمثال المتقدّم فيما إذا علم قبل الزوال ، ففي هذا القسم يجري الاستصحاب والبراءة معا ؛ إذ الشكّ في نفسيّة الوضوء وغيريّته يرجع إلى شرطيّة الصلاة بالوضوء وعدمه ، وأصالة البراءة تنفي الشرطيّة ، ويرجع أيضا إلى أنّ الوضوء قبل الزوال تعلّق به تكليف فعلي أم لا؟ والاستصحاب ينفي وجوبه قبل الزوال ، فأثر البراءة عبارة عن نفسيّة وجوب الوضوء وأثر الاستصحاب غيريّته ، ولا منافاة بينهما ، فإنّا لا نثبت عنوان النفسيّة والغيريّة كما مرّ.

والتحقيق : أنّ مع قطع النظر عن الإشكال المذكور في أصل البراءة يكون هذا البيان في هذا القسم بيانا تامّا وقابلا للمساعدة ، ولا إشكال في الجمع بين الاصول العمليّة.

ثمّ قال : القسم الثالث : ما إذا علم بوجوب ما شكّ في غيريّته ولكن شكّ في وجوب الغير ، كما إذا شكّ في وجوب الصلاة ـ في المثال المتقدّم ـ وعلم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٥٩ ـ ٤٦٢.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٢٢٨.

(٣) فوائد الاصول ٤ : ١٤٣.

١٠٢

بوجوب الوضوء ، ولكن شكّ في كونه غيريّا حتّى لا يجب ؛ لعدم وجوب الصلاة ظاهرا بمقتضى البراءة ، أو نفسيّا حتّى يجب ، فقد قيل في هذا القسم بعدم وجوب الوضوء وإجراء البراءة فيه ؛ لاحتمال كونه غيريّا ، فلا يعلم بوجوبه على كلّ حال.

هذا ، ولكنّ الأقوى وجوبه ؛ لأنّ المقام يكون من التوسّط في التنجيز الذي عليه يبتني جريان البراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، فأصل تنجيز الحكم معلوم والواسطة في التنجيز مشكوكة ، ولذا يحكم بوجوب الوضوء.

والإشكال في تصوير هذه الصورة وجعلها ممّا نحن فيه ؛ إذ الشكّ هاهنا يرجع إلى الشكّ في أصل الوجوب ، وهو خارج عن محلّ البحث ، ولذا قلنا : إنّ الدوران بين النفسيّة والغيريّة يكون في مورد تحقّق وجوب الواجبين ، ولكنّ أحدهما مسلّم النفسيّة والآخر مشكوك النفسيّة والغيريّة ، ولا يمكن الجمع بين العلم بوجوب الوضوء والشكّ في وجوب الصلاة ؛ إذ الشكّ في الصلاة يسري إلى الوضوء أيضا ، فإنّا لا نعلم بأنّه على تقدير كونه مقدّمة واجب أم لا ، وكيف يتحقّق العلم بوجوب الوضوء بعد نفي وجوب الصلاة بأصالة البراءة؟! فهذه الصورة خارجة عمّا نحن فيه.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره تعرّض لمسألتين في ذيل هذا البحث بعنوان «تذنيبان» وقال : الأوّل : «لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي وموافقته واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلا ، وأمّا استحقاقهما على امتثال الأمر الغيري ومخالفته ففيه إشكال ، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته بما هو موافقة ومخالفة».

ثمّ استدلّ لذلك بدليلين : الأوّل : أنّ العقل يستقلّ بعدم الاستحقاق إلّا

١٠٣

لعقاب واحد أو لثواب ، كذلك فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدّمات.

الثاني : أنّ موافقة الأمر الغيري بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي لا يوجب قربا ، ولا مخالفته بما هو كذلك بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من تبعات القرب والبعد (١). ولا يخفى أنّ كلا الدليلين يرجع إلى حكم العقل.

فإن قلت : إنّ هذا ينافي الروايات المتضمّنة لترتّب الثواب على المقدّمات ، مثل : ما ورد في زيارة سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام من أنّ لكلّ قدم ثواب عتق عبد من أولاد إسماعيل عليه‌السلام ، وما ورد في الحجّ ماشيا ، ونحو ذلك (٢).

قلنا : إنّه يدفع بأحد وجهين :

أحدهما : أنّ العقل يحكم بعدم استحقاق المثوبة لامتثال الواجب الغيري ، ولكنّه لا ينكر إعطاء الثواب من الله تعالى تفضّلا وامتنانا.

وثانيهما : لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدّمة وزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات للواجب من باب أنّه يصير حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها ، إشارة إلى ما ورد في الروايات من : «أنّ أفضل الأعمال أحمزها» (٣) ، فإن كان الداعي والمحرّك لإتيان المقدّمات الإيصال إلى ذي المقدّمة يتحقّق هذا العنوان ، وإلّا فلا.

هذا ، ولكن لا بدّ لنا لتحقيق المسألة من ملاحظة ترتّب الثواب والعقاب ابتداء في الواجبات النفسيّة ، وأنّ ترتّب الثواب والعقاب عليها مسلّم أم لا؟

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٧٥ ـ ١٧٨.

(٢) الوسائل ١٤ : ٤٤١ ، الباب ٤١ من أبواب المزار ، الحديث ٦.

(٣) مجمع البحرين ٤ : ١٦.

١٠٤

ونرى بعد الملاحظة أنّ في المسألة آراء مختلفة.

وقال جماعة من الفلاسفة : إنّ الثواب عبارة عن الصور البهيّة التي تجسّمها وتمثّلها النفس الإنسانيّة بالأعمال والأفعال الحسنة كالحور والقصور وأمثال ذلك ، فهي من لوازم الأعمال وملازمة للإنسان العامل بها ، وتكون لها خصوصيّتان : الاولى : أنّ مصاحبتها توجب النشاط والسرور للنفس ، الثانية : أنّها تعطي النفس استعدادا للكمال والصعود إلى مراتب عالية ، والعقاب عبارة عن الصور القبيحة المتناسبة مع الأعمال السيّئة ، فهي أيضا ملازمة ومصاحبة للإنسان العامل ، ومن مصاحبتها يحصل للنفس التألّم والتأثّر أوّلا ، والسقوط والانحطاط ثانيا.

ويؤيّده بعض الآيات والحكايات ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)(١) ؛ إذ العمل لا يتّصف بالحضور ، فإنّه متصرّم الوجود ، فلا محالة يكون معنى الآية أنّ كلّ عمل يتمثّل ويتجسّم بصورة متناسبة ، ويراها العامل عنده حاضرة ، وربما يودّ أن لا يكون معها مصاحبا ولا يراها أصلا ، ولا دليل للتصرّف في الآية ، وإضافة لفظ «الثواب» و «العقاب» بعد كلمة «النفس».

وكقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٢). وروي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : أنّ أحكم آية في القرآن هذه الآية. ومعناها أنّ العامل يرى نفس العمل لا ثوابه وعقابه ، ولازم ذلك تجسّم الأعمال وتمثّلها. ونقل عن بعض الأعاظم حكايات مؤيّدة لهذا المعنى.

__________________

(١) آل عمران : ٣٠.

(٢) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

١٠٥

وقال جماعة آخرون أخذا بظواهر الآيات والروايات : بأنّ الثواب والعقاب من مجعولات المولى كما هو ظاهر قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها)(١) ، فالثواب عبارة عمّا التزمه المولى على نفسه من إعطاء مثوبة كذا لامتثال أمر كذا تفضّلا على العباد ، والعقاب عبارة عن جعله عقوبة كذا لمخالفة أمر كذا ، فالمسألة تابعة لجعله ، ويمكنه جعل المثوبة للواجبات الغيريّة ، مثل أكثر الواجبات النفسيّة ، كما مرّت الإشارة إلى الروايات الواردة في زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ونحو ذلك ، ولا يلزم من جعل المثوبة لبعض الواجبات الغيريّة جعلها في جميعها ، كما أنّ الأمر في الواجبات النفسيّة أيضا كذلك.

والتحقيق : أنّ مع قطع النظر عن الجعل فالتعبير باستحقاق المثوبة ليس بصحيح أصلا بعد كون الله تعالى مالكا لوجود الإنسان بالملكيّة الحقيقيّة ، فإنّ المالكيّة تكون من شئون خالقيّته وقيموميّته ، وبعد احتياج الإنسان إليه تعالى في حدوثه وبقائه فإنّه عين الفقر والربط ، والفقر المحض لا شيء له سوى الفقر والربط ، وبعد تفضّله وعنايته ومنحه النّعم العديدة الظاهريّة والباطنيّة للإنسان ؛ بحيث يقول تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، فكيف يحكم العقل باستحقاق المثوبة لامتثال الأوامر الإلهيّة التابعة للمصالح المتحقّقة في متعلّقها ، مع أنّ المصالح والفوائد أيضا تعود إلى العبد؟! بل لا يصحّ مثل هذا التعبير في امتثال أوامر الموالي العرفيّة ، مع أنّ ملكيّتها للعبد ملكيّة اعتباريّة ، ومصالح المأمور به تعود كثيرا ما إلى المولى ، فضلا عن امتثال الأوامر الإلهيّة ، فلا يعقل القول باستحقاق المطيع المثوبة على الله تعالى

__________________

(١) الأعراف : ١٦٠. انعام

١٠٦

كاستحقاق الدائن على المديون.

وأمّا استحقاق العقوبة في صورة مخالفة أوامر الموالي العرفيّة والإلهيّة فهو أمر عقليّ لا شبهة فيه ، وإذا كان التعبير باستحقاق المثوبة في الواجبات النفسيّة غير صحيح ففي الواجبات الغيريّة لا يصحّ بطريق.

هذا ، ولو فرض صحّة القول باستحقاق المثوبة عند الامتثال في الواجبات النفسيّة فالحقّ مع صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ امتثال الواجبات الغيريّة لا يوجب استحقاق المثوبة.

بيان ذلك : أنّه إذا قال المولى : «يجب عليك الكون على السطح» والمكلّف يعلم أنّه متوقّف على نصب السلّم ، والاختلاف بين القائلين بالملازمة ومنكريها في تحقّق اللزوم الشرعي المولوي وعدمه للمقدّمة بعد الاتّفاق على تحقّق اللزوم العقلي لها ، ففي مقام الامتثال قد تحصل للمكلّف حالة الانقياد ويقع تحت تأثير داعويّة أمر المولى ، وقد لا تحصل له هذه الحالة.

وعلى الأوّل لا بدّ له من نصب السلّم لإيجاد المأمور به في الخارج ، بلا فرق بين أن يكون للمقدّمة وجوب غيري أم لا ، فلا داعويّة للوجوب الشرعي للمقدّمة ، بل كان وجوده كالعدم ، فما كان كذلك من حيث العمل الخارجي لا يعقل أن تكون موافقته موجبة لاستحقاق المثوبة.

وعلى الثاني أيضا لا فرق بين أن يكون للمقدّمة وجوب شرعي مولوي أم لا ؛ إذ لا أثر لوجوده وعدمه ، فلا توجب مخالفته استحقاق العقوبة.

فإن قلت : إذا فرض إتيان شخص بجميع المقدّمات التي يحتاجها ذو المقدّمة ، ولكن عرض له الموت أو النسيان قبل الإتيان بذي المقدّمة ، وعدم إتيان شخص آخر أحدها ، وعروض الموت أو النسيان عليه قبل فعليّة التكليف

١٠٧

بذي المقدّمة ، فلا شبهة في تحقّق الفرق بينهما ، ولا محالة يستحقّ الأوّل المثوبة بخلاف الثاني.

قلنا : سلّمنا تحقّق الفرق هاهنا ، ولكنّه في استحقاق المدح وعدمه لا في استحقاق المثوبة وعدمه ؛ إذ الانقياد والتهيّؤ بإتيان المبادئ مع عدم حصول ذيها لا يوجب إلّا كونه ممدوحا عند العقلاء ، بخلاف من لم يأت بالمبادئ أصلا.

فإن قلت : كيف يتصوّر عدم الفرق بين من توجّه إلى مكّة من أقصى البلاد لإتيان المناسك ومن توجّه إليها من البلاد القريبة مع قلّة المشقّة في الثاني وكثرتها في الأوّل؟

قلنا : لا شكّ في زيادة استحقاق المثوبة في الأوّل ، ولكنّها لا ترتبط بالمقدّمات ، بل هي لتحقّق عنوان آخر لذي المقدّمة ، وهو عنوان الأشقّيّة والأحمزيّة ، فهي ترتبط وتتعلّق بذي المقدّمة من باب أفضل الأعمال أشقّها. هذا على المبنى المعروف عند الاصوليّين ، وأمّا على مبنى الجعل ، فالمسألة تابعة لجعل المولى في الواجبات النفسيّة والغيريّة ، بلا فرق بينهما من هذه الناحية.

وبالجملة ، أنّ موافقة الأمر الغيري بما هو أمر لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي لا يوجب قربا ، ولا توجب مخالفته بما هو كذلك بعدا ، والمثوبة والعقوبة إنّما تكونان من آثار القرب والبعد على المبنى المعروف.

ومن هنا استشكل أوّلا : بأنّه إذا كان الأمر الغيري بما هو لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة في امتثاله ، فكيف حال بعض المقدّمات ـ كالطهارات الثلاث ـ حيث لا شبهة في حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها؟!

والجواب عنه على القول بالجعل سهل لا يحتاج إلى تكلّف ، وعلى القول

١٠٨

بالاستحقاق يتوقّف على جواب الإشكال الثاني.

وثانيا : بأنّ الواجبات النفسيّة على قسمين : فقد تكون تعبّديّة ، وقد تكون توصّليّة ، مثل : أداء الدين ودفن الميّت ، وأمّا الواجبات النفسيّة فلا شبهة في توصّليّتها ، فإنّ وجودها كالعدم ولا يحصل بها التقرّب إلى الله ، والفرق بين التوصّلي والتعبّدي في شرطيّة قصد القربة وعدمه كما مرّ في محلّه ، فالأمر الغيري ملازم للتوصّليّة بعنوان قاعدة كلّيّة.

وانتقضت هذه القاعدة بالطهارات الثلاث ؛ إذ يعتبر فيها قصد القربة ، وأنّها تكون باطلة بدونه في عين كونها من الواجبات الغيريّة ، فما منشأ عباديّتها؟

إن كانت العباديّة مستندة إلى الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها ففيه أوّلا : لو سلّمنا الاستحباب النفسي في الوضوء والغسل فلا دليل على الاستحباب النفسي في التيمّم ، مع أنّه لا فرق بينها من حيث العباديّة.

وثانيا : كيف يجتمع حكمان متغايران في متعلّق واحد؟! ومعلوم أنّه لا يمكن الجمع بين الحكمين المتغايرين في عنوان واحد.

وثالثا : أنّ لازم ذلك أن يقصد المكلّف حين الوضوء أمرا نفسيّا استحبابيّا ، مع أنّا نرى بعد مراجعة المتشرّعة والفتاوى خلاف ذلك.

وإن كانت مستندة إلى الأمر الغيري بأنّه قد يتعلّق بمقدّمات غير عباديّة ، وقد يتعلّق بالمقدّمات العباديّة ، مثل : الطهارات الثلاث ، فلا فرق من هذه الناحية بين الأمر النفسي والغيري ، والإشكال فيه أنّه يستلزم الدور ، وتقريبه يحتاج إلى مقدّمة ، وهي : أنّ متعلّق الوجوب الغيري والمحكوم بهذا الحكم ليس مفهوم المقدّمة ، وما تكون مقدّمة بالحمل الأوّلي الذاتي ، بل هو عبارة عن مصداق المقدّمة ، وما تكون مقدّمة بالحمل الشائع الصناعي ، فإنّ نصب السلّم

١٠٩

يوجب التمكّن من الكون على السطح لا عنوان مفهوم المقدّمة ، فالمعروض للوجوب في قولنا : «المقدّمة واجبة» هو مصداق المقدّمة ، فما يتعلّق به الأمر الغيري في الطهارات الثلاث عبارة عن الغسلتين والمسحتين مع قصد القربة ـ مثلا ـ إذ الوضوء العبادي واجب بالوجوب الغيري ، فلا بدّ من تحقّق قصد القربة قبل الأمر الغيري ، فإنّ رتبة الموضوع متقدّمة على رتبة الحكم ، والمفروض أنّ عباديّة الوضوء تتحقّق بنفس هذا الأمر الغيري ، فالأمر الغيري يتوقّف على عباديّته ، وعباديّته متوقّفة على الأمر الغيري. وحاصل الدور : أنّ الأمر الغيري بما أنّه حكم متأخّر عن الوضوء العبادي ، وبما أنّه دخيل في عباديّة الوضوء العبادي متقدّم عليه.

وقال المحقّق العراقي قدس‌سره (١) في مقام الجواب : إنّ الأمر الغيري المتوجّه إلى المركّب أو المقيّد ينبسط ويتبعّض على أجزاء متعلّقه الخارجيّة والعقليّة كانبساط الأمر النفسي على أجزاء الواجب مع بقاء وحدته ؛ إذ الوحدة لا تنافي التبعّض ، نظيره وحدة الماء الواقع في الحوض ، وتبعّضه بأبعاض متعدّدة ؛ إذ الاتّصال مساوق للوحدة برهانا ، ومع ذلك له أبعاض ربما يتلوّن بعضه باللون الأحمر ، وبعضه الآخر باللون الأصفر ، وهكذا سائر الأعراض ، فالأمر الغيري ينحلّ إلى أوامر ضمنيّة غيريّة ، وحينئذ تكون ذوات الأفعال في الطهارات الثلاث مأمورا بها بالأمر الضمني من ذلك الأمر الغيري ، وإذا أتى بكلّ جزء بداعي ذلك الأمر الضمني يتحقّق ما هو المقدّمة ـ أعني الأفعال الخارجيّة المتقرّب بها ـ وبذلك يسقط الأمر الضمني المتوجّه إلى القيد بعد فرض كونه توصّليا ؛ لحصول متعلّقه قهرا بامتثال الأمر الضمني

__________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٣٢٧ ـ ٣٢٩.

١١٠

المتعلّق بذات الفعل.

ولكنّه إن سلّمنا جواز أخذ قصد القربة في المتعلّق يرد عليه : أوّلا : أنّ الأوامر الضمنيّة الغيريّة المتعلّقة بالغسلتين والمسحتين لا شبهة في عباديّتها على المبنى ، وأمّا الأمر الضمني المتعلّق بقصد القربة فلا يمكن أن يكون عباديّا ، فإنّ إتيان قصد القربة بداعي قصد القربة أمر غير معقول ؛ إذ هو داعويّة شيء لنفسه ، وهو كما ترى ، فيكون الأمر الضمني المتعلّق به أمرا توصّليّا ، ولازم ذلك أن يتحقّق في الشريعة أمر كان بعض أجزائه عباديّا وبعضه الآخر توصّليّا ، ولم نسمع بهذا من آبائنا الأوّلين ؛ إذ الأوامر إمّا عباديّة وإمّا توصّليّة ، وما سمعنا بالأمر المشترك بينهما بلحاظ متعلّقه.

وثانيا : أنّ الأمر الغيري لا يصلح لأن تتحقّق به عباديّة متعلّقه ، فإنّ إطاعته لا توجب استحقاق المثوبة ، وموافقته لا توجب استحقاق العقوبة ، ولا يتحقّق بإطاعته التقرّب إلى الله تعالى ، فكيف يمكن أن يكون مصحّحا لعباديّة شيء مع أنّ العبادة تكون مقرّبا إلى المولى؟!

وطريق آخر لحلّ الإشكال للمحقّق النائيني قدس‌سره (١) وهو أيضا قائل بانبساط الأمر وتبعّضه وتعدّد أبعاضه بلحاظ تعدّد أبعاض المأمور به ، ولكنّه يعتقد بانبساطه على الشرائط كالأجزاء ، وقال : إنّ الوضوء يكتسب العباديّة من ناحية الأمر النفسي المتوجّه إلى الصلاة بما لها من الأجزاء والشرائط ، بداهة أنّ نسبة الوضوء إلى الصلاة كنسبة الفاتحة إليها من الجهة التي نحن فيها ، حيث إنّ الوضوء قد اكتسب حصّة من الأمر بالصلاة لمكان قيديّته لها ، كاكتساب الفاتحة حصّتها من الأمر الصلاتي لمكان جزئيّتها ، فكما أنّ الفاتحة اكتسبت

__________________

(١) فوائد الاصول ١ : ٢٢٨.

١١١

العباديّة منه كذلك الوضوء اكتسب العباديّة منه بعد ما كان الأمر الصلاتي عباديّا ، وكذا الحال في الغسل والتيمّم.

وجوابه : أوّلا ـ بعد عدم كون مسألة الانبساط والتبعّض من المسائل المسلّمة كما سيأتي إن شاء الله ـ : أنّه لو فرض صحّة الانبساط وهو محدود بالمأمور به وما له دخل في تشكيل ماهيّة المأمور به ، فلا شكّ في أنّه منحصر بالأجزاء ، وأنّ الشرائط خارجة عن حقيقة المأمور به وماهيّته.

لا يقال : بأنّ القيد خارج عنها ، ولكنّ التقيّد به جزء للمأمور به.

فإنّا نقول : إنّ البحث والنزاع في عباديّة القيد والشرط الذي هو خارج عن دائرته لا التقيّد ، فلا يمكن شمول الأمر الصلاتي للوضوء ، فكيف يمكن أن يكون مصحّحا لعباديّته؟!

وثانيا : أنّه إذا تعلّق أمر عباديّ بمركّب ذات أجزاء يصير كلّ جزء منه عبادة ، وجزئيّة المركّب العبادي ملازم للعباديّة ، فلا محالة يكون كلّ جزء من أجزاء العبادة عبادة.

وأمّا شرائط العبادة فتكون على قسمين : بعضها تكون عبادة كالطهارات الثلاث ، وبعضها ليس بعبادة كتطهير الثوب والبدن وستر العورة واستقبال القبلة ونحو ذلك ، مع أنّ لازم كلامه قدس‌سره اتّصاف جميع شرائط العبادة بالعباديّة ؛ إذ لا فرق بينها وبين الأجزاء من هذه الناحية.

إن قلت : إنّ مقتضى القاعدة كان كذلك ، إلّا أنّ الأدلّة الخارجيّة تدلّ على أنّ طهارة البدن والثوب وأمثال ذلك ليست بعبادة.

قلنا : إنّه يستلزم أن يكون الأمر بالصلاة في قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أمرا عباديّا بالنسبة إلى عدّة من الشرائط والأجزاء ، وغير عبادي بالنسبة إلى

١١٢

عدّة اخرى ، ولا يلتزم بذلك متشرّع.

وأجاب عنه أيضا استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) بأنّه كما أنّ الأمر الغيري لا يكون مصحّحا لعباديّة متعلّقه ؛ إذ لا داعويّة له إلّا إلى الغير وكان وجوده كالعدم ، كذلك الأمر الضمني لا يصلح لتصحيح عباديّة متعلّقه ، لا من حيث عدم داعويّته إلى متعلّقه ، بل من حيث إنّ متعلّقه ليس تمام المتعلّق ، فإنّه جزء من أجزاء المركّب الارتباطي الذي إن لم يتحقّق جزء منه لم يتحقّق أصلا ، فلا يمكن تصحيح العباديّة بالأمر الضمني ، والمصحّح عبارة عمّا يدعو المكلّف إلى تمام المتعلّق ، أي الأمر النفسي الاستقلالي.

والإنصاف أنّ هذا الجواب بعد قبول الانبساط بكيفيّته المذكورة قابل للمساعدة.

وطريق آخر لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث ، وهو عبارة عن التفكيك بين داعويّة الأمر ومتعلّقه من حيث توسعة الانبساط وتضييقه.

بيان ذلك : أنّ المأمور به والمتعلّق للأمر بالصلاة محدود في الأجزاء فقط ، ولكنّ داعويّة بالنسبة إلى الأجزاء والشرائط مساو ، كما أنّه يدعو إلى الأجزاء كذلك يدعو إلى الشرائط ، بلا فرق بينهما من هذه الناحية ، إلّا أنّ الدليل الخارجي يدلّ على إتيان مثل الوضوء حين الامتثال بداعي الأمر بالصلاة ، بخلاف مثل تطهير الثوب فإنّ إتيانه بداعي غيره أيضا لا يوجب الإشكال ، فلا بدّ من إتيان جميع الأجزاء وبعض الشرائط ـ مثل الطهارات الثلاث ـ بداعويّة الأمر المذكور ، بخلاف بعضها الآخر.

ولكنّه مخدوش ، فإنّه لا يمكن الالتزام بالاختلاف بين متعلّق الأمر

__________________

(١) مناهج الوصول إلى علم الاصول ١ : ٣٨٥ ، تهذيب الاصول ١ : ٢٥٣.

١١٣

وداعويّته من حيث السعة والضيق ؛ إذ الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلّقه ، كما قال به المحقّق الخراساني قدس‌سره مكرّرا ، وإذا فرض خروج الشرائط عن دائرة المتعلّق فلا داعويّة للأمر إليها أصلا ، وإلّا يلزم أن يكون الأمر المتعلّق بالصلاة داعيا إلى الصوم ، هو كما ترى.

هذا ، ولكنّ التحقيق في تصحيح عباديّة الطهارات الثلاث أنّ الإشكال وجميع الأجوبة التي حكيناها عن الأعاظم يبتني على أساس توهّم أنّه مسلّم ومفروغ عنه ، مع أنّه ليس كذلك ، وهو أنّ عباديّة العبادة تحتاج إلى الأمر ، سواء كان نفسيّا أو غيريّا ، وعلى هذا الأساس استشكل في بحث الترتّب أيضا كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ومنشأ هذا الأساس عبارة عن احتياج العبادة إلى قصد القربة ، بمعنى إتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به ، ولذا نحتاج في تحقّق العباديّة إلى الأمر ، وإلّا لا يعقل قصد امتثال الأمر.

ومن البديهي أنّ هذا المعنى قابل للمناقشة ؛ إذ يحتمل قويّا أن يكون قصد القربة بمعنى إتيان المأمور به بداعي كونه مقرّبا إلى المولى كما هو الظاهر من اللفظ والمرتكز في الأذهان ، ويحتمل أن يكون بمعنى إتيانه بداعي كونه حسنا ، ويحتمل أن يكون بمعنى إتيانه بداعي كونه ذا مصلحة. وعلى هذه المعاني لا نحتاج إلى تعلّق الأمر بالعبادة.

ويمكن أن يقال : إذا كان الأمر كذلك فمن أين يعلم عباديّة الطهارات الثلاث وتوصّليّة تطهير الثوب مثلا؟

وجوابه : أنّ عباديّة بعض الأعمال معلومة لا تحتاج إلى الدليل كالسجدة ، فإنّ العبادة عبارة عن الخضوع والخشوع في مقابل المعبود ، سواء كان أهلا للعبادة أم لا ، وهذا المعنى متحقّق في السجدة.

١١٤

وأمّا كثير من الأعمال فلا يعلم عباديّتها إلّا من طريق الشرع ، وليس معناه لزوم تحقّق الأمر ، بل الإجماع أو ضرورة الفقه أو البداهة عند المتشرّعة أيضا يكفي للعباديّة ، والطهارات الثلاث من هذا القبيل ، فإنّا لا نفهم عباديّتها ، بل لا نفهم عباديّة الصلاة بهذه الهيئة التركيبيّة.

وأمّا بعد الرجوع إلى الفقه والمتشرّعة فنستفيد أنّها مقرّبة إلى المولى ، بخلاف مثل تطهير الثوب ، فالأمر بالصلاة ـ مثلا ـ يدلّ على أصل الوجوب فقط ، ولزوم إتيانها مع قصد القربة يستفاد من الخارج إن كان ملاك العباديّة تحقّق الأمر ، وهو يتحقّق في الواجبات التوصّليّة أيضا. ومعلوم أنّ معنى لزوم قصد التقرّب في المأمور به أنّ امتثاله رياء أو بدواع أخر لا يكون مقرّبا ، بل يكون مبعّدا عن المولى.

والحاصل : أنّه لا يشترط في عباديّة المأمور به أزيد من أمرين : أحدهما : صلاحيّته لأن يتقرّب به ، وثانيهما : التقرّب به في مقام العمل والامتثال ، ولا بدّ لنا من إحراز صلاحية العباديّة من طريق الشرع ، ونستفيد منها في باب الطهارات الثلاث من الإجماع وضرورة الفقه ، والبداهة عند المتشرّعة ، فلا نحتاج إلى الأمر حتّى يلزم توالي الفاسدة المذكورة.

ومنها : الإشكال على القول بتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث بالأمر النفسي الاستحبابي بأنّه لا يحكم بالاستحباب النفسي للتيمّم إلّا في موارد نادرة ، مثل : استحبابه عند النوم مع التمكّن من الماء ، بخلاف الوضوء فإنّه مستحبّ في جميع الحالات حتّى في حال الوضوء بعنوان التجديد ، وهكذا للغسل أيضا استحباب نفسي في الأمكنة والأزمنة المختلفة ، وإن لم تكن دائرة استحبابه مثل دائرة استحباب الوضوء من حيث الوسعة ، فالوضوء عباديّته

١١٥

ومقرّبيّته مطلقة ، بخلاف التيمّم فإنّ عباديّته مشروطة بشرائط خاصّة وظرف خاصّ.

ولا يرد هذا الإشكال على المبنى المختار ، فإنّ كلّ واحد من الطهارات الثلاث عبادة ومقرّبة من دون فرق بين أن يكون له استحباب نفسي أم لا ، وملاك العباديّة ـ أي الصلاحية للتقرّب ـ في الجميع متحقّقة ، مع أنّ الوضوء الحرجي على القول بجريان قاعدة «لا حرج» بنحو العزيمة لا بنحو الرخصة كما هو التحقيق ليس بصحيح ، فعباديّة الوضوء أيضا لا تكون عباديّة مطلقة كما هو الظاهر.

ومنها : أنّ على القول بالملازمة بين الوجوب الشرعي لذي المقدّمة والوجوب الشرعي للمقدّمة يقع الوضوء ـ مثلا ـ متعلّقا للأمرين المتخالفين ـ أي الاستحباب النفسي والوجوب الغيري ـ فكيف يمكن الجمع بينهما في متعلّق واحد؟

وجوابه ـ بعد قبول القول بالملازمة ـ : أنّ ذات الوضوء ـ أي الغسلتين والمسحتين ـ يكون مأمورا به بالأمر النفسي الاستحبابي ، ومجموع هذا الأمر والمأمور به ـ أي ذات الوضوء بوصف كونها عبادة ومتعلّقة للأمر النفسي الاستحبابي ـ يكون مقدّمة متعلّقة للأمر الغيري الوجوبي ، ونظيره تعلّق الأمرين المتخالفين بصلاة الظهر بعد شرطيّتها ومقدّميّتها لصلاة العصر ؛ بأنّ متعلّق الوجوب النفسي هو ذات صلاة الظهر ، ومتعلّق وجوب الغيري المقدّمي هي صلاة الظهر المتّصفة بأنّها واجبة ، فيتحقّق الفرق بين المتعلّقين.

ومنها : أنّ الأمر النفسي الاستحبابي إن كان مصحّحا لعبادية الطهارات الثلاث يلزم على المكلّف في مقام الامتثال أن يتوجّه إليه ، ويكون الداعي

١١٦

والمحرّك له عبارة عنه ، ووقوعها باطلة إن كان الداعي غيره ، مع أنّه لا إشكال في صحّتها إن اتي بها بقصد الأمر الغيري المتعلّق بها ، بل هكذا يقع العمل في الخارج ؛ إذ المتوضّئ بعد السؤال عن محرّكه يقول : «أتوضّأ للصلاة» ، ومعناه : أنّ الداعي والمحرّك لهذا العمل عبارة عن الأمر الغيري الملازم للأمر النفسي المتعلّق بالصلاة ، ولا إشكال فيه من حيث الفتوى أيضا.

ويستفاد من ذلك أمران :

الأوّل : أنّ عباديّة الطهارات الثلاث لا ترتبط بالأمر النفسي الاستحبابي ، سيّما في التيمّم بلحاظ عدم تحقّقه فيه أصلا ، فكما أنّ المتيمّم في مقام العمل لا يتوجّه إلى الأمر النفسي الاستحبابي كذلك المتوضّئ لا يتوجّه إليه.

الثاني : أنّ خصوصيّة الثانية المذكورة ـ أي إتيان العمل بقصد التقرّب أو إتيانه بداعويّة أمره إن كان له أمر ـ لا يعتبر في العباديّة ، كأنّه يقول : إن فرض تصحيح عباديّة الطهارات الثلاث بالإجماع أو ضرورة الفقه أو البداهة عند المتشرّعة ، فنسأل أنّ إتيان الوضوء ـ مثلا ـ بداعي الأمر الغيري صحيح أم لا؟

إن حكمت ببطلانه نقول : لا إشكال في صحّته ، وتوافقه الفتوى ، ويكون الأمر في مقام العمل أيضا كذلك ، وإن حكمت بصحّته نقول : كيف يمكن أن يكون الأمر الغيري مصحّحا لعباديّة شيء مع أنّ موافقته لا توجب القرب إلى المولى ، بل كان وجوده كالعدم؟!

وجوابه : أنّ المتوضّئ حيث يقول : «أتوضّأ للصلاة» قد يكون مراده منه أنّي أتوضّأ مع قصد القربة للصلاة ، وحينئذ لا شبهة في صحّة وضوءه وعدم تصحيح العباديّة بالأمر الغيري ، وقد يكون مراده منه أنّي أتوضّأ بدونه

١١٧

للصلاة ، وحينئذ لا شكّ في بطلان وضوئه ؛ لفقدانه الخصوصيّة الثانية المعتبرة في العباديّة.

وربّما يتوهّم صحّته في الصورة الثانية أيضا ؛ لأنّ الصلاة تتوقّف على وضوء عبادي ، ويرجع القول المذكور إلى أنّي أتوضّأ وضوء مقدّمة للصلاة ، وهذا القول يكفي لعباديّة الوضوء ، وعلى هذا يعود الإشكال في محلّه.

ولعلّ أنّ ما قاله صاحب الكفاية قدس‌سره في ذيل كلامه المتقدّم ناظر إلى هذا المعنى ، وهو قوله : «نعم ، لو كان المصحّح لاعتبار قصد القربة في الطهارات أمرها الغيري لكان قصد الغاية ممّا لا بدّ منه في وقوعها صحيحة (١) ...» إلخ.

وجوابه : أنّ مجرّد إتيان الوضوء الذي يكون مقدّمة للصلاة لا يوجب إتيانه مع قصد القربة ، ونظيره بطلان الصلاة الريائيّة فإنّها لأجل الرياء كانت باطلة ، لا لأجل إتيان المكلّف بصورة الصلاة ؛ إذ هو قصد عنوان ما يصلح للعباديّة ، ولكنّه فاقد للخصوصيّة الثانية المعتبرة في العباديّة ـ أي قصد القربة ـ إذ هو لا يجتمع مع الرياء. وبالنتيجة سلّمنا أنّ الوضوء العبادي مقدّمة للصلاة ، ولكن هذا لا يرجع إلى أن يكون نفس الوضوء مع قصد القربة ، فلا يصحّ الوضوء بدون قصد القربة أصلا.

ومحصّل ما ذكرناه في باب الطهارات الثلاث أنّ لعباديّتها يتحقّق طريقان : أحدهما : الإتيان بها بقصد القربة ولكونها صالحة للمقرّبية ، وثانيهما : الإتيان بها بداعي الأمر النفسي المتعلّق بها ، ولا فرق في هاتين الجهتين بين كونه قبل الوقت وبعد الوقت ، وإنّما الفرق بينهما في تحقّق الأمر الغيري وعدمه ، وهو لا يكون ملاك الصحّة والعباديّة ، بل لا يتصوّر بطلان الوضوء قبل الوقت

__________________

(١) كفاية الاصول ١ : ١٧٨.

١١٨

أصلا ، بخلاف إتيانه بعد الوقت ، فإنّ إتيانه فيه بداعي الأمر الغيري بدون قصد القربة يكون باطلا.

ولا يخفى عليك أنّ بحثنا في الامور التي ذكروها قبل البحث عن مقدّمة الواجب وعدمه ، وكان الأمر الثالث منها في تقسيمات الواجب ، وفي ذيل البحث عن تقسيمه إلى النفسي والغيري ينتهي البحث إلى هنا. وصاحب الكفاية قدس‌سره كأنّه نسي تقسيمه إلى الأصلي والتبعي ، ولذا دخل في الأمر الرابع ، ثمّ التفت إليه بعده وذكره في غير محلّه ، ونحن أيضا نشرع في البحث عن الأمر الرابع حفظا لترتيب الكفاية.

١١٩
١٢٠