تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

(عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى قريشا على ما روى انّها نزلت في موعد بدر الصّغرى وتثبّط القوم عن الخروج فخرج (ص) وما معه الّا سبعون رجلا (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) اى تعذيبا من الكفّار عطف على ما يستفاد من ذكر بأس الكفّار يعنى لهم بأس والله اشدّ بأسا أو حال عن الله أو عن الّذين كفروا ، ولمّا قال حرّض المؤمنين بعد الاشارة الى استغنائه عن الغير وكفاية الله له وامره بالقتال وحده صار المقام مناسبا لان يقال : ولم أمرت بتحريض المؤمنين؟ ـ أو صار المقام مقام ان يقال : الا ادلّ الكفار على الخير والا أنصحهم وكيف حال من نصحهم وما ينبغي ان يفعل المؤمنون بمن نصحهم؟ ـ فقال جوابا لذلك (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) فهو استيناف جواب لسؤال مقدّر واقع موقع التّعليل أو موقع بيان الحال ومعناه من ضمّ عملا حسنا الى عمل حسن آخر ، أو من ينضمّ الى صاحبه ويشاركه في عمل حسن ، أو من يصلح بين اثنين أو من يطلب ويسأل من غيره لصاحبه خيرا أو دفع ضرّا وترك عقوبة سواء كان ذلك من الخلق أو من الله أو من يدعو لصاحبه بخير من «شفع» إذا دعا له أو دعا عليه ، أو من يدعو صاحبه الى خير أو من يعين صاحبه على خير أو من يدلّ صاحبه على خير والكلّ يمكن ان يستفاد من هذه العبارة والكلّ صحيح (يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) النّصيب والكفل الحظّ وما يعطى من القسمة لكن استعمال النّصيب فيما فيه حظّ صاحبه أكثر من استعماله فيما فيه تعبه والكفل بالعكس من ذلك (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها) توصيف الشّفاعة بالحسن والسّوئة باعتبار متعلّقها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) مقتدرا أو حافظا لا يفوته شفاعة شفيع ولا كيفيّتها ولا قدرها (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) عطف على من يشفع الى آخر الآية وجواب آخر للسّؤال السّابق وهو ما يفعل المؤمنون بمن نصحهم وان كان هو في نفسه من الآداب المهمّة المحتاجة الى البيان لكن ادّاه بحيث يكون مرتبطا بسابقه ليفيد تأكيدا بتقدير السّؤال ، والتّحيّة في العرف هي التّسليم لكنّ المراد منها معنى اعمّ من التّسليم وهو إيصال الخير الى الغير بنحو الشّفقة والتّعظيم من تسليم ودعاء وثناء وتعظيم وهديّة ، وكتابة فيها تعظيم وشفقة وزيارة وغير ذلك ممّا يدلّ على عظمة المحيىّ في قلب المحيىّ ومحبوبيّته له ، لكن إذا كان لمحض الشّفقة والمحبّة لا للأغراض الّتى فشت بين أهل الرّسوم حتّى يتأنّف العالي ظاهرا عن التّسليم على الدّانى وينتظر تسليمه ويتأنّف عن زيارته بدوا الّا عوضا عن زيارته ، وهكذا الحال في غيرهما فما اشتهر بين الفرس من قولهم «ديد مستحبّ ؛ بازديد واجب» صحيح ان لم يكن مشوبا بالأغراض الفاسدة وان كان مشوبا فالزّيارة مذمومة وعوضها أيضا مذموم ، ولذلك ورد من زار أخاه المؤمن في بيته من غير عوض ولا غرض كان كمن زار الله في عرشه ، وخلوص اعمال أهل الدّنيا من الأغراض الفاسدة محال والمخالطة معهم مؤثّرة في النّفوس الضّعيفة ، فالاولى للسّالك مهما أمكن ترك مخالطتهم حفظا لنفسه عن استراق الأغراض منهم ، الّا ان تكون تقيّة لحفظ عرض أو مال أو نفس أو شفقة لاصلاح حال ، فانّها حينئذ تكون واجبة وان احتمل استراق النّفس. والمراد بردّها ليس ردّ عينها ان كانت من الاعراض الدّنيويّة فانّه لا يردّ الإحسان الّا الحمار بل ردّ مثلها مثلا إذا قال : سلام عليك ، فقال : سلام عليك فهو ردّها ، وان قال : سلام عليك ورحمة الله فهو أحسن ، واحسنيّتها اعمّ من ان تكون بالزّيادة عليها أو بتغيير هيئتها الى أحسن منها ، كما قال إبراهيم (ع) سلام في جواب الملائكة حين قالوا سلاما ، عدولا من النّصب الى الرّفع للدّلالة على الدّوام ، ويختلج ببالي ان أدون الرّسوم العاديّة والآداب المستحبّة ان وفّقني الله ان شاء الله ليكون السّالكون على بصيرة منها ، وإذا ارتكبوها لا يكون عن عمى وعادة

٤١

صرفة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) فيحاسبكم على تحيّاتكم وقدرها ويحاسبكم أيضا على اغراضكم فيها فلا تخالطوها بالأغراض (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استيناف مشير الى التّعليل للسّابق وتمهيد للّاحق (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) في الجمع أو في اليوم ، استيناف أو حال عن اليوم (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) استفهام إنكارىّ والجملة معطوفة على جملة القسم والمقسم عليها أو حاليّة وتمهيد للإنكار الآتي (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) حال من الضّمير المجرور يعنى لا ينبغي لكم ان تتفرّقوا فرقتين فيمن حكم الله بكفرهم عن الباقر (ع) انّها نزلت في قوم قدموا من مكّة وأظهروا الإسلام ثمّ رجعوا إليها فأظهروا الشّرك ثمّ سافروا الى اليمامة فاختلف المسلمون في غزوهم لاختلافهم في إسلامهم وشركهم (وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ) ردّهم في الكفر (بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) كما هو ديدن النّاس فانّ كلّ ذي مذهب وطريق خاصّ يودّ أن يكون كلّ النّاس على طريقه والآية جارية في الإنسان الصّغير أيضا وتعريض بمنافقى الامّة المرتدّين بعد محمّد (ص) بإنكار قوله في علىّ (ع) وعدم هجرتهم من دار شركهم النّفسانيّة الى دار الإسلام والايمان العلويّة الولويّة ان لم يكن تنزيلها فيهم (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) بعد حكمه تعالى عليهم بالضّلالة (حَتَّى يُهاجِرُوا) عن أوطان المشركين إليكم (فِي سَبِيلِ اللهِ) ظرف ليهاجروا أو حال عن الفاعل يعنى يهاجروا بنيّات صادقة لا بنيّات منحرفة الى الشّيطان أو يهاجروا عن دار شركهم في ولاية علىّ (ع) الى علىّ (ع) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن المهاجرة الصّحيحة صورة إليك أو باطنا الى علىّ (ع) (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) كما فعل محمّد (ص) بالمرتدّين في زمانه وعلىّ (ع) بالمرتدّين في زمانه كأصحاب الجمل والصّفين والنّهروان (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ظاهرا ولا باطنا اى لا تبايعوهم بالبيعة العامّة المحمّديّة ولا الخاصّة العلويّة ، أو لا تتّخذوا منهم حبيبا ولا تستنصروا بهم (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فلا تتّخذوهم أولياء ولا تقتلوهم حفظا للميثاق من جميع الوجوه (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) فلا يكونوا عليكم (أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) فلا يكونوا معكم فانّهم لحصر صدورهم عن مقاتلتكم يستحقّون الرّفق لا الأخذ والقتل ، ونزول الآية مذكور في التّفاسير وتعميمها سهل على البصير (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) بالأخذ والقتل (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ) استيناف وتنبيه على حال المختدعين وبيان لحكمهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ) خدعة (وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ) وفاقا حالكونهم (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ) اى القتال معكم فالجملة حال أو استيناف جواب سؤال مقدّر (أُرْكِسُوا فِيها) انقلبوا عن إظهار الوفاق الى القتال معكم (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ) عطف على المنفىّ (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً) تسلّطا ويدا أو حجّة لغدرهم (وَما كانَ

٤٢

لِمُؤْمِنٍ) ما صحّ وما لاق بحاله (أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً) بغير حقّ (إِلَّا خَطَأً) استثناء من لازمه اى فيعذّب على كلّ حال الّا خطأ (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) «ف» عليه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) كفّارة له (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) لئلّا يهدر دم امرء مسلم (إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) يتصدّقوا بالعفو فانّ التّصدّق يطلق على كلّ معروف (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) من عطف التّفصيل على الإجمال «ف» عليه (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) من غير دية لعدم السّبيل للكافر على المسلم (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) «ف» عليه (دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ) حفظا للميثاق (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قدّم الدّية هاهنا للاهتمام ببيانها فانّه يتراءى ان لا يكون لهم كفّارا عليه دية مسلّما ، واخّرها في الآية السّابقة لانّها حقّ النّاس والتّحرير حقّ الله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) رقبة ولا ثمنها (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) سبب توبة من الله (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بوضع الأحكام (حَكِيماً) يضعها على غايات محكمة (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) تهديد بما لم يهدّد به أحدا من أصحاب الكبائر ، والتّعمّد المورث للوعيد الشّديد كما في الاخبار ان يقتله من جهة ايمانه عالما به لا ان يقتله لغضب أو جدل أو حقد له من جهة اخرى فانّه وان كان عمدا فهو من وجه خفي مشوب بالخطإ ، ومن قتل مؤمنا من جهة ايمانه كان كمن قتل صاحبه ومن قتل صاحبه وهو الامام لا خلاص له من النّار ولا توبة له ، أو لا يوفّق للتّوبة كما في الاخبار ، ولذلك ورد انّ غيبة المؤمن اشدّ من الزّنية ، أو من سبعين زنية ، أو من سبعين زنية تحت الكعبة ، وفي بعض الاخبار مع المحارم ، والسّرّ ما ذكرنا ، فانّ ذكر المؤمن بالسّوء من جهة ايمانه ذكر صاحبه بالسّوء وذكر الامام بالسّوء من أكبر الكبائر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ) بأرجلكم الأرض (فِي سَبِيلِ اللهِ) اى سافرتم في الجهاد تأديب للمجاهدين بإصلاح النّيّة في الجهاد حتّى لا يغلب الهوى على امر الله (فَتَبَيَّنُوا) فبالغوا في طلب ظهور الأمر من الكفر والايمان ممّن تلاقونه وقرئ فتثبّتوا بمعنى التأنّى والتّأمّل والمقصود واحد يعنى لا تعجلوا في القتل قبل التيقّن بكفرهم (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ) وقرئ السّلم يعنى الانقياد والتّسليم أو تحيّة الإسلام إظهارا لإسلامه بشعار الإسلام (لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) اى لا تنكروا إسلامه لابتغاء ماله بقتله بل تبيّنوا أمره فان ظهر اثر الصّدق فلا تقتلوه (فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) اى لا تقولوا ذلك ولا تقتلوه فانّكم ان لا تقولوا تستحقّوا مغانم أكثر من غنيمته من الله فعند الله مغانم كثيرة مبذولة لمن امتثل امره ونهيه فأقيم السّبب مقام الجواب (كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) كافرين ومتزلزلين ومظهرين للإسلام بألسنتكم من غير علم بمواطاة القلوب (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ) بالتّحقّق بالايمان والاشتهار به (فَتَبَيَّنُوا) كرّره للتّأكيد وللاشارة الى انّ امتثال امر الله يقتضي التّبيّن والمقايسة الى أنفسكم أيضا تقتضي التبيّن (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فاحتاطوا في أفعالكم وفي نيّاتكم ، والآية ان وردت في اسامة بن زيد وقتله يهوديّا وعدم اعتنائه بإظهاره الشّهادتين فهو عامّ لا اختصاص له بالقتل ولا بالسّفر (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر ناش من التّهديد على قتل المؤمن متعمّدا والدّية والكفّارة على قتله خطأ ومن الأمر بالتبيّن عند لقاء من لا يعلم حاله وممّا كان معلوما من مورد

٤٣

نزول الآية وهو قتل اسامة بن زيد يهوديّا فدكيّا جمع عياله وماله وساق غنمه وانحاز الى ناحية جبل وكان قد أسلم فقال بعد ما لقى عسكر اسامة : السّلام عليكم لا اله الّا الله ؛ محمّد رسول الله ، فبدر اليه اسامة فقتله فلمّا رجع قال له رسول الله (ص): أفلا شققت الغطاء عن قبله ، لا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت ، ونزلت الآية فحلف اسامة بعد ذلك ان لا يقتل أحدا قال لا اله الّا الله ، وبهذا العذر تخلّف عن علىّ (ع) وقيل : نزلت في رجل آخر كان في سريّة لقى رجلا كان بينهما إحنة (١) فحيّاه الرّجل بتحيّة الإسلام فقتله وجاء الى رسول الله (ص) وقال : استغفر لي ، فقال رسول الله (ص) لا غفر الله لك ، وعلى اىّ تقدير صار المقام مقام ان يقال : هل القعود أفضل من الجهاد ان كان في الجهاد هذه الآفات؟ ـ فقال تعالى : لا يستوي القاعدون عن الحرب (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الّذين قبلوا الدّعوة الظّاهرة سواء كانوا قبلوا الدّعوة الباطنة وبايعوا البيعة الخاصّة أم كانوا واقفين على الدّعوة الظّاهرة وعلى قبول البيعة العامّة الاسلاميّة ، والظّرف مستقرّ حال عن القاعدون أو عن المستتر فيه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرئ برفع غير صفة للقاعدون لانّ الغير وان كان لا يتعرّف بالاضافة لغاية إبهامه لكنّه إذا أضيف الى معرّف يقع صفة للمعرفة إذا كانت المعرفة معرفة باللّام الجنسيّة أو موصولة لابهامهما مثل غير ، أو كان غير واقعا بين النّقيضين ، وقرئ بالنّصب حالا عن القاعدون أو عن المستتر فيه أو منصوبا على الاستثناء ، وقرئ بالجرّ صفة للمؤمنين ، قيل : نزلت الآية في جمع تخلّفوا عن غزوة تبوك ولم يكن فيها غير اولى الضّرر فجاء ابن امّ مكتوم وكان أعمى وهو يبكى فقال : يا رسول الله (ص) كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحي ثانيا ثمّ سرّى عنه فقال اقرء غير اولى الضّرر فألحقها والّذى نفسي بيده لكأنّى انظر الى ملحقها عند صدع في الكتف (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ) ببذلها على المجاهدين وصرفها في سبيل الخيرات وإنفاقها على أنفسهم في الجهاد وصرف قواهم الّتى هي أموالهم الحقيقيّة وكذلك نسبة أفعالهم واوصافهم الى أنفسهم (وَأَنْفُسِهِمْ) باتعابها في الجهاد واجهادها في الخيرات والرّياضات وهذا تهييج للمجاهد في جهاده وترغيب للقاعد عن قعوده (فَضَّلَ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما الفرق بينهما؟ ـ فقال : فضّل الله (الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) أظهر المجاهدين والقاعدين اشعارا بعلّة الحكم وتكرارا لوصفها الدّاعى الى التّفضيل تهييجا وترغيبا لهما ، وأظهر الأموال والأنفس لانّه تعالى أراد أن يعلّق حكم التّفضيل بدرجة واحدة على حالة بقاء نسبة الأموال والأنفس إليهم حتّى يظهر الفرق بين هؤلاء المجاهدين والمجاهدين الآتين ، لانّه ذكر هناك تفضيلهم على القاعدين بدرجات وما أمكن الاشارة الى بقاء نسبة الأموال والأنفس الّا بالتّصريح بهما واضافتهما إليهم ، وقدّم الأموال على الأنفس لانّ المجاهد يقدّم الأموال في الجهاد دون نفسه ولانّه ما لم تكن نسبة الأموال اوّلا لم تكن نسبة الأنفس ، وقدّم القاعدين اوّلا واخّرهم ثانيا لانّ السّؤال كأنّه كان عن حال القاعدين وانّهم هل يبلغون درجة المجاهدين أم لا؟ بخلاف المجاهدين فانّ فضلهم كان معلوما.

واعلم انّه لا فرق بين القاعد والمجاهد بالأموال والأنفس الّا بدرجة لانّهما في نسبة الأموال والأنفس إليهما متساويان لكنّ القاعد لم يترك الرّاحة بالأموال والأنفس والمجاهد ارتفع عنه درجة من حيث انّه ترك الرّاحة بالأموال والأنفس وهما بخلاف المجاهدين في الآية الآتية ولذلك قيّد هاهنا التّفضيل بقوله تعالى (دَرَجَةً) وأطلقه في الآية الآتية (وَكُلًّا) منهما (وَعَدَ اللهُ) المثوبة (الْحُسْنى) إذا لم يكن القعود عن عذر ،

__________________

(١) ـ الإحنة : بالكسر الحقد.

٤٤

ولا اختصاص للآية بالقاعد والمجاهد الصّورىّ بل تجري في المؤمن القاعد في نواحي دار إسلامه أو الواصل الى دار إسلامه الّتى هي الصّدر والواقف فيها ، وفي المؤمن المجاهد في سبيل الله حالكونه في حدود النّفس باقيا عليه نسبة المال والنّفس وحالكونه بلغ الى القلب وطرح نسبة المال والنّفس عن نفسه وجاهد حتّى طرح نسبة المال والنّفس عن نفسه وقتل في حضور الامام بفنائه في شيخة فلا يرى في ممالك وجوده غير شيخة وللمجاهد في فنائه مراتب ودرجات ، رزقنا الله وجميع المؤمنين ذلك (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ) المجرّدين عن نسبة الأموال والأنفس بطرح تلك النّسبة والفناء عن نسبة الأموال والصّفات والأنفس (عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) لا يحدّ بحدّ لانّ هؤلاء المجاهدين قد خرجوا عن الحدود (دَرَجاتٍ) عظيمة (مِنْهُ وَمَغْفِرَةً) عظيمة بستر نسبة الأفعال والصّفات والأنفس عنهم (وَرَحْمَةً) عظيمة لانّهم خرجوا عن دار السّخط ودخلوا في دار الرّحمة وصاروا رحمة بأنفسهم وقد علم وجه عدم الإتيان بالأموال والأنفس هاهنا (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يعنى انّ شيمته المغفرة والرّحمة فلا اختصاص لمغفرته ورحمته بالمجاهدين المستحقّين لهما بل تشملان القاعد الغير المستحقّ وفيه تهييج واطماع للقاعدين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر كأنّ السّامع لمّا سمع المغفرة والرّحمة للقاعد توهّم انّ القاعد بجميع اقسامه مرحوم وسأل ذلك كأنّه منكر لعذاب القاعد فقال تعالى مؤكّدا بانّ واسميّة الجملة دفعا لهذا الوهم : انّ الّذين توفّاهم الملائكة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بعدم الخروج من دار الشّرك الّتى هي نفوسهم الحيوانيّة مقصّرين كانوا كالّذين توعّدهم بكونهم أصحاب الجحيم ، أو قاصرين كالّذين استثناهم الله.

اعلم انّه تعالى أراد أن يبيّن أقسام العباد في العبوديّة وعدمها بعد ما ذكر القاعدين والمجاهدين فانّهم امّا واقفون في دار الشّرك الّتى هي نفوسهم الامّارة سواء كانوا في دار الشّرك الصّوريّة أم في دار الإسلام الصّوريّة وقد أشار إليهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) (الآية) أو خارجون من بيوتهم الّتى هي بيوت طبائعهم ونفوسهم الامّارة في طلب من أسلموا على يده ومن قبلوا الأحكام القالبيّة منه وأشار إليهم بقوله : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً) ، الآية ، ولمّا كان المقصود ممّن يخرج من بيته الطّالب للإسلام لم يأت بقوله : في سبيل الله ، لانّه لم يكن بعد علىّ سبيل الله وأتى بقوله الى الله ورسوله لعدم وصوله الى الرّسول (ص) بعد أو مهاجرون على سبيل الله الى مراتب الايمان بالتّوسّل بالولاية بعد ما كانوا قد خرجوا عن نفوسهم الامّارة بقبول الدّعوة الظّاهرة وقبول الإسلام بالبيعة العامّة النّبويّة ، وهؤلاء امّا مجاهدون أو قاعدون عن الجهاد وقد أشار إليهما بقوله سابقا : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) ، وأشار إليهم بقوله : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ولم يقل : من يخرج لانّ المفروض انّهم قد خرجوا بقبول الإسلام ، ولم يقل الى الله ورسوله لانّ المفروض انّهم قد خرجوا الى الله ورسوله وقبلوا الدّعوة الظّاهرة وقال في سبيل الله لانّهم بقبولهم الإسلام كانوا في سبيل الله لانّ الإسلام طريق الى الايمان.

تحقيق توفّى الله وتوفّى الملائكة والرّسل

ووجه الجمع بين الآيات المختلفة في توفّى الأنفس بتوفّى الله وملك الموت والملائكة والرّسل لا يخفى على البصير فانّ العقل في العالم الصّغير كالحقّ في العالم الكبير ، وإذا لوحظ انّ للعقل جنودا وأعوانا ومدارك وقوى لا يعصون ما أمرهم العقل وهم بأمره يعملون وانّ امره للقوى والمشاعر امتثالها من غير تراخ وتأبىّ ، وفعلها كما انّه منسوب إليها حقيقة منسوب الى العقل أيضا حقيقة من غير مجاز لإحدى النّسبتين أو اثنينيّة وتعدّد للنّسبة بل فعل القوى فعل

٤٥

العقل من حيث كونه فعل القوى من غير تعدّد في الحيثيّة أيضا فالرّؤية مثلا فعل الباصرة وهي من حيث انّها فعل الباصرة فعل العقل لكن في مرتبة الباصرة لا في مرتبته العالية ، بل فعله الخاصّ به في مرتبته العالية هو التّعقّل اعنى درك الأشياء مجرّدة عن غواشي المادّة والتّقدّر والتّحدّد والتّشكّل ، علم انّ الفاعل في كلّ فعل دانيا كان أو عاليا هو الله سبحانه ، لكن لكلّ مباشر خاصّ ينسب الفعل اليه والى الله باعتبار تشأّنه وظهوره بفاعله الخاصّ وله باعتبار مرتبته المخصوصة فعل خاصّ به لا ينسب الى غيره ، فالعقل مظهر لله سبحانه في مرتبته الخاصّة والنّفس مظهر لملك الموت ، والقوى والمشاعر مظاهر للملائكة والرّسل ، فالباصرة كالملك تباشر نزع الصّور عن الموادّ ، والنّفس كملك الموت تنزع عن الصّور المجرّدة عن الموادّ الصّور المجرّدة عن التّحدّدات والتّشكّلات المخصوصة مع تقدّرها ، والعقل كالله ينزع الكلّيّات عن الصّور مع انّ نزع الاوّل أيضا فعل العقل بواسطة الباصرة والنّزع الأخير فعله بلا واسطة فاختلاف الآيات والاخبار باعتبار اختلاف المباشر واختلاف المراتب مع صحة الانحصار في قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) ، واختلاف المباشر باعتبار اختلاف النّفوس مثل مباشر نزع النّفوس النباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة ، وفي النّفوس الانسانيّة أيضا مراتب فنفس يقبضها الله بلا واسطة ، ونفس يقبضها ملك الموت ، ونفس يقبضها الملائكة والرّسل ، ومقبوض الملائكة مقبوض لملك الموت ولله ، ومقبوض ملك الموت مقبوض الله ، والمراد بظلم النّفس هاهنا غير ما ذكر في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) لانّ الظّالمين لأنفسهم هنا محكوم عليهم بالجحيم وهناك بالجنّة ، فالمراد بظالمى أنفسهم هاهنا من لزم دار شركه ولم يخرج من بيت شركه الى الله ورسوله ، وهناك من خرج من بيت شركه الى الله ورسوله ولكن وقف ولم يهاجر في سبيل الله ، فانّه محكوم عليه بالقعود عن الجهاد وعن الهجرة. وبعبارة أخرى الظّالم هاهنا في العالم الصّغير من لزم بيت نفسه الامّارة ولم يخرج منه الى مدينة صدره ليصل الى الرّسول وقبول الإسلام فهو مخلّد في جحيم طبعه وبعد الموت في جحيم الآخرة ، وهناك من خرج من بيت نفسه الامّارة الى مدينة صدره ووصل الى الرّسول وقبل الإسلام وبدليل ايراثه الكتاب اى كتاب النّبوّة بقبول احكام الرّسالة ولم يهاجر من مدينة صدره الى الجهاد الأكبر في تحصيل الولاية فهو محكوم عليه بدخول الجنّة لكن ليس له درجة المجاهدين في تحصيل الولاية. وما روى عن الصّادق (ع) في تفسير الظّالم لنفسه هناك من انّه : يحوم حول نفسه ؛ يشعر بما ذكر (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ) بهذه الأدناس والارجاس اى في اىّ حال كنتم حتّى خرجتم بهذه الارجاس ولم ما طهّرتم نفوسكم في حيوتكم؟ ـ (قالُوا) اعتذارا (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) غلب علينا أهل الشّرك بحيث لا يمكننا تغيير حالنا (قالُوا) ردّا لاعتذارهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) اى فان تهاجروا أو فلم تهاجروا يعنى ان لم يمكنكم التّغيير في أرضكم لا مكنكم المهاجرة عنها ، والأرض اعمّ من ارض العالم الكبير وارض العالم الصّغير وارض كتب الأنبياء وسير أحوالهم وارض احكام الملل المختلفة وتمييز المستقيم منها عن السّقيم (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) لا منافاة بين خصوصيّة النّزول والتّعميم الّذى ذكرنا على وفق ما أشير اليه في الاخبار (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) استثناء منقطع ان خصّص ظالمو أنفسهم بالمقصّرين وان عمّ المقصّرين والقاصرين فمتّصل فانّ المقيم في دار شرك النّفس امّا متمكّن من الخروج بحسب القوّة النّظريّة والعمليّة أو غير متمكّن والاوّل مقصّر والثّانى قاصر ، والمستضعف من لا قدرة له بحسب القوّة العمليّة على الأعمال الّتى تطهّر قلبه عمّا يحجبه عن إفاضات

٤٦

الحقّ تعالى ولا بحسب القوّة النّظريّة على التميز بين الحقّ والباطل ولذلك فسّر المستضعفين بقوله تعالى (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) بحسب العمل (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) بحسب النّظر وقد يفسّر المستضعف بمن لم يسمع دينا ومذهبا سوى عاديّاتة وهو راجع الى الاوّل لانّ العجز امّا من جهة أصل الفطرة أو من جهة عدم المنبّه (فَأُولئِكَ) مع عدم خروجهم عن دار شركهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) عن إقامتهم في دار الشّرك (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) من قبيل عطف العلّة (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لمّا فرغ من بيان حال المقصّر والقاصر المتوطّن في دار الشّرك أراد أن يبيّن حال الخارج من بيت الشّرك وهو امّا يخرج في الظّاهر من بيت وطنه الصّورىّ أو في الباطن من بيت نفسه الامّارة في طلب الإسلام وليس له جهاد لانّ الجهاد بعد قبول الإسلام ومعرفة الأعداء بإذن النّبىّ أو الامام ، أو يهاجر في سبيل الله بعد إسلامه في طلب الايمان من بيته الصّورىّ أو المعنوىّ ولهذا المهاجر يتصوّر الجهاد بمراتبه امّا بالأموال والأنفس ، أو فانيا عن الأموال والأنفس بمحض الأمر من غير تعلّق الخاطر بغير الأمر ، أو بالله بالفناء عن الأمر أيضا ولم يذكر الخارج من دار إسلامه أو دار ايمانه الى دار الشّرك لعدم الاعتناء به ولاستفادته من مفهوم المخالفة وأشار الى المهاجر بعد الإسلام في سبيل الله بقوله : ومن يهاجر في سبيل الله (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ) بمعانيها (مُراغَماً كَثِيراً) من الرّغام وهو التّراب بمعنى المذهب والمهرب والمغضب والمراد به محلّ تفرّج وتنزّه من الأرض بحيث يرغم الأعداء (وَسَعَةً) في الأرض أو في نفسه أو في معيشته أو في سيره ظاهرا أو باطنا ، وقدّم بيان حال المهاجر بعد الإسلام على الخارج الى الإسلام لشرفه وان كان مؤخّرا برتبته ، وأشار الى الخارج الى الإسلام بقوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ) ظاهرا وباطنا (مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) ذكر الى الله للاشارة الى انّ الخارج من بيت الشّرك ذاهبا الى الرّسالة في طلب الإسلام ذاهب الى الله لانتهائه الى الله ، ولانّ الرّسول مظهر الآلهة ولذا لم يكرّر لفظ الى (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) اختيارا بالجذبة الإلهيّة أو اضطرارا في السّبيل الظّاهرىّ أو الباطنىّ (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) اى لا ينبغي ان يتكفّل أداء اجره غيره وفيه بشارة تامّة لهم (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فيغفر مساويه الغير الزّائلة عنه ويرحمه بإعطاء اجره بلا واسطة ان كان نزول الآية في جندب بن ضمرة حين خرج من مكّة الى المدينة فمات ، أو النّجاشىّ حين خرج الى المدينة فمات ؛ لا ينافي تعميمها ، ولمّا ذكر المجاهدين والمهاجرين أراد أن يبيّن حكمهم في العبادات فقال تعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) شرائط القصر وكيفيّته غير محتاجة الى البيان ، ونفى الجناح لا ينافي وجوب القصر لانّه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفيّة وآداب الملوك من نفى البأس والحرج عن الشّيء وارادة الأمر به ، وبعد ما علمت انّ الصّلوة هي ما به يتوجّه الى الله والأصل فيه محمّد (ص) وولايته ثمّ علىّ (ع) وخلافته ، ثمّ الأعمال القلبيّة والقالبيّة المأخوذة منهما الّتى تصير سببا للتّوجّه اليه تعالى أمكنك تعميم السّفر وتعميم الصّلوة والقصر (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) اشارة الى الحكمة في تشريع القصر لا انّه تقييد للحكم فلا ينافي وجوب القصر في حال الا من على انّ حجّيّة مفهوم الشّرط غير مسلّم بل هو بحسب المفهوم كسائر المجملات ، واعتباره وعدم اعتباره محتاج الى القرينة ، ويحتمل ان يكون المراد صلوة الخوف وقصرها ويكون قصر مطلق الصّلوة في السّفر من قبيل المجملات

٤٧

الّتى بيّنوها لنا بدليل بيان صلوة الخوف بعدها (إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) استيناف في موضع التّعليل (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) حين المسافرة والخوف (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بان تؤمّهم (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) للصّلوة (مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) اى الطّائفة الغازية المستفادة التزاما أو الطّائفة المصليّة (فَإِذا سَجَدُوا) اى الطّائفة المصليّة (فَلْيَكُونُوا) اى الطّائفة الغازية (مِنْ وَرائِكُمْ) ايّتها الطّائفة المصليّة (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) بعد ما انتظرتهم في القيام الثّانى وأتمّ الطّائفة المصلّون معك صلوتهم وذهبوا الى مواقفهم (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) بان يأتّموا بك في القيام وتنتظرهم في القعود حتّى يتّموا صلوتهم بالإتيان بالرّكعة الاخرى ثمّ تسلّم عليهم بعد لحوقهم بك في القعود (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ) اى الطّائفة الّذين صلّوا ووقفوا مواقف غير المصلّين أو الطّائفة المشغولة بالصّلوة (وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) استيناف في موضع التّعليل (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ) لثقل الاسلحة (أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى) فتضعفوا عن الحمل (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) لمّا بالغ في التّيقّظ والحذر وأخذ الاسلحة في كلّ حال أوهم ان لا يجوز وضع الاسلحة بحال فرفعه (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لكن مع ذلك لا تخرجوا من طريق الحزم (إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) على أيديكم ولذا يأمركم بالحزم وأخذ السّلاح حتّى لا تستأصلوا فيعذّبهم بكم وعلى هذا صحّ إخراجه مخرج التّعليل ، وان كان نزول الآية في غزوة الحديبية أو ذات الرّقاع فلا ينافي عموم حكمها (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) يعنى إذا ادّيتم الصّلوة فلا تغفلوا عن ذكر الله ولا تراقبوا حين الغزو أدبا للّذكر بل اذكروا الله في جميع أحوالكم ، أو فاذا أردتم أداء الصّلوة وقت شدّة الخوف وعدم تمكّنكم من الصّلوة على ما قرّر فصلّوا على اىّ حال وقع منكم وتمكّنتم منها بقرينة قوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) عن شدّة الخوف (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) اى فاتمّوها بشرائطها وآدابها المقرّرة لها في السّفر ، أو فاذا اطمأننتم في أوطانكم أو دار اقامتكم فأتمّوها بإتمام ركعاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) تأكيد كتابا لانّ الموقوت بمعنى المفروض في الأوقات والمعنى فرضا مفروضا يعنى انّا بالغنا في حفظ الصّلوة وعدم تركها في حال من الأحوال لانّها بالغة حدّ الكمال في الوجوب (وَلا تَهِنُوا) عطف باعتبار ما يفهم من تأكيد فرض الصّلوة اى فحافظوا عليها ولا تهنوا (فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ) حتّى تقتلوهم وتأسروهم أو يسلّموا (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ) استيناف واقع موقع التّعليل للنّهى وتشجيع لهم على القتال بسبب انّ المهمّ لا يزيد على الم القوم وانّهم يزيدون عليهم برجاء أجر المجاهدين من الله (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) فيعلم انّ الأصلح بحالكم وثباتكم على الايمان وعدم تعلّقكم بالدّنيا كالنّسوان هو الجهاد ويرغّبكم فيه على وفق حكمته وعلمه بدقائق المصالح الّتى لا تظهر عليكم وتدبيره بأدقّ وجه واتقن صنع لتمكينكم في أكثر الكمالات (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة الّذى ظهوره بالقرآن

٤٨

استيناف لتأديب الامّة بالخطاب لمحمّد (ص) أو لتأديب محمّد (ص) اصالة ولامّته تبعا (بِالْحَقِ) الحقّ المطلق هو الله جلّ شأنه والحقّ المضاف هو مشيّته المسمّاة بالحقّ المخلوق به والاضافة الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة وهو الولاية المطلقة وهي علويّة علىّ (ع) ومعروفيّة الله وظهوره ، خلقت الخلق بالمشيّة والمشيّة بنفسها ، اشارة اليه ، ولمّا كان النّبوّة ظهور الولاية ، وكتاب التّدوين ظهور النّبوّة والرّسالة ، وظهور الظّهور ، ظهور للظّاهر الاوّل كان إنزال الكتاب بتوسّط الحقّ المضاف صحيحا ومتلبّسا بالحقّ المضاف أيضا صحيحا لانّ حقّية كلّ حقّ وحقيقة كلّ ذي حقيقة هي هذا ، ومع الحقّ أيضا جائز (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) المراد من الحكم الحكومة المعروفة من قطع المنازعات ، أو ما هو اعمّ منها ومن تأسيس السّياسات والعبادات ، أو ما هو اعمّ منها ومن إصلاحهم بالنّصائح والآداب ، أو ما هو اعمّ منها ومن إصلاحهم وتكميلاتهم في الباطن بلسان السّرّ (بِما أَراكَ اللهُ) من رؤية البصر ، لانّ ظهور الولاية بالنّبوّة لا يكون الّا مع فتح باب من الملكوت فيرى صاحبه بعين البصيرة دقائق أمور العباد وخفايا أحوالهم فيمكن له الحكم والإصلاح بما يرى ، أو من الرّأى يعنى بما جعلك الله ذا رأى لا تحتاج فيه الى رأى الغير لفتح بصيرتك أيضا بانزال الكتاب ، وفي الخبر اشارة الى المعنى الأخير وانّ التّفويض الى الرّأى خاصّ به (ص) وليس لغيره ثمّ التّفويض بعده لاوصيائه ، فاذا كان إنزال الكتاب لحكومتك برأيك فاحكم بينهم برأيك أو رؤيتك (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) على خصمائهم برأى غيرك (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) ممّا هممت به أو فعلت من الخصومة عن قبل الخائنين (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وقد نقل في نزولها ، انّ ثلاثة اخوة من بنى أبيرق نقبوا على عمّ قتادة بن النّعمان واخرجوا طعاما وسيفا ودرعا فشكا قتادة الى رسول الله (ص) وقال بنو أبيرق : هذا عمل لبيد ، وكان لبيد رجلا مؤمنا ، فمشى بنو أبيرق الى أسيد بن عروة من رهطهم وكان منطيقا ، فمشى الى رسول الله (ص) وقال : انّ قتادة رمى أهل بيت منّا أهل شرف وحسب ونسب بالسّرقة ، فاغتمّ رسول الله (ص) وجاء اليه قتادة فقال له رسول الله : رميت أهل بيت شرف وحسب ونسب بالسّرقة؟! وعاتبه فاغتمّ قتادة لذلك فأنزل الله في ذلك : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) (الى آخر الآيات) فنقول : لو سلّم انّ نزولها كان كذا مع انّه شبيه بموضوعات العامّة فالتّعريض بالامّة كأنّه قال : يا أمّة محمّد (ص) لا تغفلوا عمّا قال لكم محمّد (ص) وأعلمكم الله به من ولاية علىّ (ع) وسائر الأحكام فاذا حكمتم بحكم فليكن مطابقا لحكم الله ولتميّزوا بين الخائن وغيره ولا تكونوا للخائنين خصيما مع الصّالحين يعنى إذا توفّى محمّد (ص) ووقع النّزاع بينكم فاحكموا بما أعلمكم الله وبيّنه لكم رسوله (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) باقتراف المعاصي ولو فسّر أنفسهم بعلىّ (ع) والائمّة (ع) لم يكن بعيدا لما سبق من انّ الولاية المطلقة حقيقة كلّ ذي حقيقة ونفسيّة كلّ ذي نفس (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً) هما للمبالغة والجملة في موضع التّعليل ، ونفى المحبّة في مثل المقام يفيد البغض اى انّ الله يبغض من كان خوّانا أثيما (يَسْتَخْفُونَ) خبر بعد خبر أو صفة بعد صفة أو استيناف جواب لسؤال مقدّر أو حال ، وجمعيّة الضّمير باعتبار معنى من يعنى يستترون (مِنَ النَّاسِ) للحياء أو للخوف منهم حين تبييتهم ما لا يرضى الله من القول (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) بيان لخيانتهم وكفى به خيانة مع الله ومع أنفسهم وقواهم ومع الرّسول (ص) (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ) يدبّرون

٤٩

(ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) والقول هنا اعمّ من الفعل لانّ فعل الأعضاء أقوالها كما انّ قول اللّسان فعله وهو عبارة عن تدبير هم لمنع علىّ (ع) عن حقّه أو عن تدبيرهم لنسبة السّرقة الى غير السّارق على ما ذكر من التّنزيل (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) فلا يشذّ عنه خفيّات أعمالهم وأقوالهم تهديد لهم (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ) ها حرف تنبيه تنبيه على حمقهم ، وأنتم مبتدأ ، وهؤلاء اسم اشارة خبره أو بدله أو منادى ، وجادلتم خبر بعد خبر أو مستأنف أو حال على الاوّل وخبر على الأخيرين ، أو هؤلاء موصول خبر أنتم وجادلتم (عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) صلته ، وخطاب الجمع للمحامين عن السّارقين مثل أسيد بن عروة بناء على نزول الآية في بنى أبيرق ومحاماة أسيد بن عروة عنهم (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) يعنى انّ المجادلة هذه تكون عند النّبىّ (ص) ويوم القيامة تكون عند الله (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) الوكيل من كان مراقبا لأمور الموكّل وحافظا لها ، وتعديته بعلى لتضمين معنى المراقبة وهذا غاية تهديد للمجادلين والمجادلين عنهم جميعا (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) بارتكاب ما لا يرضاه العقل والشّرع (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بترك ارتكاب ما يرضاه العقل والشّرع فانّ المراد بعامل السّوء من يرتكب القبائح الّتى يبعده عن حضرة العقل والرّبّ ، وبظالم النّفس من يقف عمّا يقرّبه الى حضرة العقل ، وقد فسّر في الخبر الظّالم لنفسه بمن يحوم حول نفسه من دون الحركة الى حول القلب (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) وعد للخائن والمجادل عنه بقبول توبته ان تاب ، والمغفرة ستر الّذنوب وترك العقاب عليها ، والرّحمة التّفضّل عليه زائدا على ترك العقاب (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بإثمه (حَكِيماً) لا يفعل لغوا حتّى يمكن ان يرجع وبال إثمه على الغير فرمى الغير به لا ينفعه بل يضرّه (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) الخطيئة كاللّمة ما صدر عن الشّخص مع انزجار النّفس كأنّه لم يقصده ، والإثم ما كان بدون انزجار (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) بسبب نسبة السّوء الى من هو بريء منه (وَإِثْماً مُبِيناً) زائدا على إثمه الاوّل بسبب تنزيه النّفس الخاطئة أو الآثمة منه ورمى البريء به (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) النّبوّة والرّسالة بالنّسبة الى النّبىّ المخاطب به ولو لا النّبىّ والرّسول بالنّسبة الى المعرّض به (عَلَيْكَ) واردا أو حافظا عليك (وَرَحْمَتُهُ) الولاية أو علىّ (ع) بالنّسبتين (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعنى انّ هيبة الفضل والرّحمة مانعة من همّتهم أو من تأثير همّتهم على تضمين اثّرت (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن رأيك الصّواب أو عن رؤيتك الصّواب وعلى ما بيّنا فالمعنى لو لا النّبىّ (ص) وعلىّ (ع) حافظا عليكم لهمّ منافقوا الامّة ان يضلّوكم عن نهج الصّواب والطّريق المدلول عليه بالإسلام من ولاية علىّ (ع) (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بهمّتهم (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) على فرض الهمّة منهم (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ) اى النّبوّة (وَالْحِكْمَةَ) اى الولاية (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) بانزال الولاية من دقائق الكثرات ودقائق أحكامها الّتى هي لازمة الرّسالة (وَكانَ فَضْلُ اللهِ) اى الرّسالة أو مطلق نعم الله (عَلَيْكَ عَظِيماً) وفي وصل هذا الامتنان اشارة الى تعليل عدم الإضرار (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) من تبعيضيّة أو بيانيّة وما بعدها بيان لكثير ، أو من ابتدائيّة

٥٠

أو تعليليّة والمعنى لا خير في كثير من النّاس ناشئا من نجواهم أو ليس لهم خير لأجل نجواهم وحينئذ يكون من نجويهم قيدا للنّفى أو للمنفىّ مرفوعا بالنّفى ، وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) استثناء من كثير بتقدير نجوى من امر بصدقة على الاوّل ، وبدون التّقدير على الأخيرين ، أو الاستثناء منقطع على الوجه الاوّل (أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وفسّر المعروف بالقرض فمن امر بالصّدقة في نجواه من حيث انّه امر بالصّدقة كان النّجوى خيرا له وللمأمور وللمأمور له سواء كان نجواه مع غيره والمأمور غيره ، أو كان نجواه مع نفسه بالخطرات والخيالات وكان المأمور نفسه وقد جاء عنهم قراءة قوله تعالى انّما النّجوى من الشّيطان (الى آخر الآية) عند المنامات المشوّشة اشارة الى انّها نجوى الشّيطان ، وروى عن الصّادق (ع) انّ الله تعالى فرض التّجمّل في القرآن فسئل وما التّجمّل؟ ـ قال : ان يكون وجهك اعرض من وجه أخيك لتحمل له وهو قوله تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) (الآية) (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال كأنّه قال : ومن يفعل ذلك فله أجر عظيم ، ومن يشاقق الرّسول بنجواه فله عذاب عظيم ومن لم يأمر بالصّدقة ولم يشاقق الرّسول فلا أجر كاملا له ولا عذاب فمن يفعل النّجوى (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) خالصا عن شوب رياء وسمعة وعظمة ورفعة بالنّسبة الى المأمور أو المأمور له أو غيرهما (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لصرف عرضه أو لتحمّل تعب الإصلاح (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) بان يناجي بخلافه ولا يرضى بقوله وينهى عمّا يأمر به كمن تحالفوا في مكّة ان لا يتركوا هذا الأمر في بنى هاشم ومثل من تخلّف عن جيش اسامة (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) الرّشاد أو حقيقة الهدى وهي الولاية فانّها تبيّنت بقول الله وقول رسوله (ص) (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) بالبيعة الخاصّة الولويّة كسبيل سلمان وابى ذرّ واقرانهما أو غير سبيل المسلمين من حيث إسلامهم فانّ سبيلهم من حيث الإسلام هي السّبيل المنتهية الى الولاية (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) نوجّهه تكوينا ما توجّه اليه باختياره من سبيل الجحيم (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) لانتهاء سبيله إليها (وَساءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) باعتبار مظهره الّذى هو علىّ (ع) استيناف في موضع التّعليل تعليلا للحكم وإظهارا لانّ مشاقّة الرّسول (ص) في علىّ (ع) والشّرك به شرك بالله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قد مضى الآية بتمام اجزائها سابقا (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) باعتبار الشّرك بالولاية (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وصف الضّلال بالبعد باعتبار بعد صاحبه مبالغة (إِنْ يَدْعُونَ) هؤلاء المشركون بالله أو بعلىّ (ع) (مِنْ دُونِهِ) اى من دون الله أو من دون علىّ (ع) (إِلَّا إِناثاً) لانّهم يسمّون أصنامهم إناثا ويقولون : أنثى بنى فلان وأنثى بنى فلان ، أو لانّهم يعبدون نفوسهم الامّارة وهي إناث العالم الصّغير وهي الّتى تمكّن فيها الشّيطان ويأمر وينهى الإنسان ، أو لأنّهم يطيعون ائمّة الضّلالة ؛ وائمّة الضّلالة لكون فعليّاتهم فعليّات النّفوس الامّارة ما بقي لهم جهة رجوليّة لا بالفعل ولا بالقوّة (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) الشّيطان الخارجىّ أو الظّاهر بنفوسهم الامّارة ، والمريد والمارد الخارج عن الطّاعة الّذى لا خير فيه (لَعَنَهُ اللهُ) دعاء عليه أو اخبار بحاله مستأنفا أو صفة أو حالا (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ) اى من كلّ فرد من عبادك أو من مجموع عبادك ، والإتيان بلام القسم ونون التّأكيد للتّأكيد والمبالغة في وقوعه (نَصِيباً

٥١

مَفْرُوضاً) قسطا معيّنا فرض لي أو عيّن لي وهو الجزء السجّينىّ من كلّ عبد أو أهل السّجّين من العباد ، روى انّ من بنى آدم تسعة وتسعين في النّار وواحدا في الجنّة ، وروى من كلّ الف واحد لله وسائرهم للنّار ولا بليس (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن طريق الهدى (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) بالامانىّ الباطلة كطول العمر والرّفعة والحشمة وكثرة الأموال وغير ذلك (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالباطل (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) اى ليقطعنّها من أصلها ، وقيل كانوا يشقّون آذان الانعام إذا ولدت خمسة أبطن والخامس ذكر وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها ، وهذا أحد موارد التّبتيك (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) تغيير خلق الله بتغيير صورته الظّاهرة من غير اذن من الله كقطع الاذن من الحيوان والإنسان واخصائهما وكلّ مثلة ، أو بتغيير صفته الظّاهرة من غير اذن من الله ، أو بتغيير صورته الباطنة كتغيير صورته الانسانيّة عن الاستقامة الى الانحناء والنّكس وتبديل صورهم الانسانيّة بصور القردة والخنازير بإغوائهم ، أو بتغيير صفته كتغيير استقامته على الطّريق الالهىّ الى الاعوجاج ، وتغيير دينه المستقيم الى الأديان المنحرفة ، وتغيير فطرته على الإسلام الى فطرة الكفّار ، ويلزمه تغيير أوامر الله ونواهيه فصحّ ما في الخبر من تفسيره بدين الله وأمره ونهيه (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ) الجنّىّ أو الانسىّ (وَلِيًّا) محبّا أو أميرا (مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) بإتلاف رأس ماله الّذى هو اللّطيفة الانسانيّة (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) استيناف في موضع التّعليل (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) الجنّىّ (إِلَّا غُرُوراً) مصدر غرّه إذا خدعه وأطمعه بالباطل والمراد به ما يغترّ به فيكون مفعولا به ، أو معنى الخديعة والأطماع فيكون قائما مقام المفعول المطلق ، أو مفعولا مطلقا من غير لفظ الفعل (أُولئِكَ) المتمكّن منهم الشّيطان (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) مهربا وذلك لانّهم تمكّنوا في طريق العالم السّفلىّ ودار الشّياطين بحيث لا يمكن لهم الرّجوع عنه (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة فليكن قوله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اشارة الى الايمان الخاصّ الولوىّ لانّ العمل ما لم يكن عن ايمان قلبيّ وميثاق علوىّ لا يصير صالحا ، أو المراد الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وعملوا الصّالحات بكسب الخيرات فيه حتّى يتمكّن في الايمان ، فانّ الايمان ما لم يتمكّن الإنسان فيه كان مستودعا محتملا للزّوال (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لانّ طريقهم طريق القلب وطريق الولاية الموصلة الى العالم العلوىّ وفيه الجنّات (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ) وعد الله وعدا (حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) فلا خلف لوعده ، اكّده بتأكيدات عديدة ثمّ صرف الكلام عن بيان حال المؤمنين الى الخطاب مع المنافقين التّابعين للشّيطان فقال تعالى (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) يعنى أنتم وأهل الكتاب بانتسابكم وانتحالكم النّسبة الى نبىّ وكتاب تتمنّون ان يغفر الله لكم ذنوبكم كائنة ما كانت ، وان يعامل الله معكم معاملة الوالد مع اعزّ أولاده ، وليس الأمر منوطا بامانيّكم ولا امانىّ أهل الكتاب بل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) يعنى لستم ممّن يغفر أو يمحى أو يبدّل سيّئاتكم لانّ هذه لمن كان له نبىّ وامام يعنى نصير وولىّ ، وأنتم انحرفتم عن النّبوّة والولاية ولا ينفعكم انتحال احكام النّبوّة فمن يعمل منكم سوء يجز به (وَلا يَجِدْ لَهُ) لنفسه (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون مظاهره (وَلِيًّا) يلي أموره من امام منصوب من الله صاحب ولاية (وَلا نَصِيراً) من نبىّ بحقّ ينصره

٥٢

عمّا يضرّه ، روى انّ اسمعيل (ع) قال للصّادق (ع) : يا أبتاه ما تقول في المذنب منّا ومن غيرنا؟ ـ فقال : ليس بامانيّكم ولا امانىّ أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به وهو يشير الى تعميم الحكم ولا ينافي تخصيص الخطاب بالمنافقين المنتحلين (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) لانّ شرط قبول العمل هو الايمان الخاصّ والبيعة على يد علىّ (ع) يعنى انّ العمل الصّالح يصير صالحا إذا كان ناشئا من الايمان وراجعا اليه والّا لم يكن صالحا وان كان صورته صورة العمل الصّالح ، لانّ الصّلاح أصله هو الولاية لعلىّ (ع) فكلّ ما صدر عن الوجهة الولويّة فهو صالح كائنا ما كان ، وكلّ ما لم يصدر عن الوجهة الولويّة فهو فاسد (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) شيئا قليلا والنّقير النّقطة في وسط النّواة ، ووجه الاختلاف بين القرينتين بالإجمال في الشّرط والإتيان بالجزاء مضارعا مجرّدا عن الفاء في الاولى ، والتّفصيل في الشّرط والإتيان بالجزاء جملة اسميّة مصدّرة بالفاء في الثّانى ما هو من عادة صاحبي الحياء والكرم من الإجمال والإغماض في جانب الوعيد والتّفصيل والتّأكيد في جانب الوعد (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) استفهام إنكارىّ فيه معنى التّعجّب عطف على من يعمل من الصّالحات باعتبار لازمه الّذى هو معنى لا أحد أحسن دينا منه ، واشارة الى علّة الحكم والى وصف آخر لهم مشعر بالمدح ، فانّ المراد بمن أسلم وجهه لله هو المؤمن ، والمراد بالمحسن من يعمل من الصّالحات ، فانّ الايمان هو انقياد وجهك الباطنىّ وإخلاصه لمن بايعت على يده ، ولمّا كان من بايعت على يده بيعة حقّة واسطة بينك وبين الله كان إخلاص الوجه له إخلاصا لله وهو علىّ (ع) أو خلفاؤه ، والإحسان هو ان يكون العمل صادرا عن امر من هو أصل في الحسن ، وهو علىّ (ع) وخلفاؤه (ع) كما سبق في بيان العمل الصّالح كأنّه قال : ولا أحد أحسن دينا منهم لانّ حسن الدّين امّا بالعمل وهو ان يكون صادرا عن امر الحسن الحقيقي ، وامّا بالاعتقاد والعمل الجنانىّ وهو ان يكون عارفا لإمام زمانه مسلما وجهه له بالبيعة على يده وهو الحسن الحقيقىّ ، وهؤلاء متّصفون بوصف العمل الصّادر عن امر الحسن الحقيقىّ والانقياد اعتقادا للحسن الحقيقىّ ، وفي النّبوىّ المشهور اشارة الى ما ذكرنا من تفسير المحسن فانّه (ص) قال : الإحسان ان تعبد الله كأنّك تراه فان لم تكن تراه فانّه يراك ، يعنى انّ الإحسان يصدق إذا كان العمل بمشاهدة الله يعنى بمشاهدة امره حتّى يكون المصدر هو امره ، وتقديم العمل الصّالح في المعلول لكون العنوان الأعمال وجزاءها ، وتأخير الإحسان الّذى هو بمعناه في العلّة لتقدّم الايمان على العمل الصّالح ذاتا (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فيه اشارة الى انّ المراد بالمحسن العامل بالأعمال القلبيّة الولويّة المخليّة للنّفس عن الرّذائل والهواجس والوساوس المحليّة لها بالخصائل والإلهامات والتّحديثات والمشاهدات والمعاينات ، والمراد بالتّابع لملّة إبراهيم (ع) هو العامل بالأعمال القالبيّة والأحكام النّبويّة من المفروضات والمسنونات وترك المنهيّات ، فانّ من تاب على يد علىّ (ع) وتلقّى منه آداب السّلوك واحكام القلب لا بدّ له من العمل بأحكام القالب فانّها كالقشر لأحكام القلب فما لم يحفظ القشر لم يحفظ اللّبّ ، وحنيفا حال عن التّابع أو الملّة أو إبراهيم (ع) وعدم مراعاة التّأنيث امّا لتشبيه الحنيف بالفعيل بمعنى المفعول ، أو لكسب الملّة التّذكير من المضاف اليه لصحّة حذفه ، والحنيف بمعنى الخالص أو المائل عن الأديان الاخر ، أو الرّاغب الى الإسلام الثّابت عليه (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) عطف مشعر بالتّعليل أو حال بتقدير قد أو بدون التّقدير على خلاف

٥٣

فيه ، في الخبر عن الصّادقين (ع) انّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل ان يتّخذه نبيّا ، وانّ الله اتّخذه نبيّا قبل ان يتّخذه رسولا ، وانّ الله اتّخذه رسولا قبل ان يتّخذه خليلا ، وانّ الله اتّخذه خليلا قبل ان يتّخذه إماما ، وقد أشار بعد الاشارة الى انتهاء العبوديّة الى المراتب الأربع الكلّيّة الّتى هي أمّهات مراتب الخلافة الالهيّة ، وتحت كلّ مرتبة منها مراتب جزئيّة الى غير النّهاية ، وشرحها على سبيل الإجمال بحيث لا يشمئزّ منه طباع الرّجال ولا يصير سببا للشّين والجدال ان يقال : انّ الإنسان من بدو خلقته الى آخر مراتب وجوده الّتى لا نهاية لها يطرو عليه الأحوال المختلفة ويتشأّن بشؤن متضادّة كأنّه كلّ يوم هو في شأن : فاوّل خلقته نطفة في قرار مكين ، ثمّ يتدرّج في أطوار الجماديّة الى ان وصل الى مرتبة النّبات متدرّجا فيه ، الى ان ينفخ فيه الرّوح الحيوانيّة متدرّجا الى ان ينفخ فيه الرّوح الدّماغيّة ، ثمّ بعد استحكام أعضائه وبشرته بحيث يستعدّ لمباشرة الهواء يتولّد وفيه المدارك الحيوانيّة الظّاهرة بالفعل متدرّجا الى ان صار مداركه الباطنة بالفعل وفيه العقل بالقوّة ويسمّى العقل الهيولانىّ ، وغذاءه في الرّحم دم منضوج يصلح لان يكون غذاءه ، وبعد التّولّد أيضا دم مستحيل الى اللّبن ليكون موافقا لبدنه ، وبعد استحكام أعضائه وشدّة عظمه وغلظه بحيث لا يستضرّ بغير اللّبن يفطم من اللّبن ويغتذي بلذائذ الاغذية ، ولا يعرف الّا ما يشتهيه الى ان يصل الى أوان المراهقة ويميز بين الخير والشّرّ في الجملة متدرّجا فيه الى زمان الرّشد واستعداد التّميز بين الخير والشّرّ الباطنين ، وحينئذ يصير عقله بالفعل ويستعدّ لان يدرك الأوامر والنّواهى التّكليفيّة. فان وفّقه الله لطلب من يأمره وينهاه من الله وطلب بصدق يصل بفضله تعالى لا محالة الى رسول من الله أو خليفة الرّسول ويقبل رسالته أو خلافته ، فاذا قبله علّمه آداب الوصل والمبايعة والمعاهدة وبايع وعاهد وبعد البيعة والميثاق لقّنه أحكام القالب وحذّره من الانس بالنّفس الامّارة وينهاه من الاهوية الكاسدة وأوحشه منها ، فاذا توحّش وفطم عن لبنها طلب من يأنس به ويغذو من غذائه ، فاذا طلب بصدق وصل لا محالة الى رسول من الله أو خليفته ثانيا وقبل ولايته فاذا قبل ولايته وتسلّطه الباطنىّ علّمه آداب الوصل والمبايعة الخاصّة والميثاق الخاصّ وبايعه وعاهده بالبيعة الولويّة الباطنة القلبيّة الخاصّة ولقّنه احكام القلب وآنسه بأبيه العقل بعد فطمه من أمّه النّفس وأطعمه من غذاء أبيه ؛ والمبايعة الاولى تسمّى إسلاما والثّانية تسمّى ايمانا. ولا يمكن للمسلم ان يسلك الى الله ولا الى الطّريق من حيث إسلامه ، فانّ المسلم قبل إسلامه بمنزلة من ضلّ في بيداء عميقة لا يظهر فيها آثار الطّريق وتكون كثيرة السّباع وفيها قطّاع الطّريق وهو غافل عن ضلالته وعن سباعها ويظنّ انّه في الطّريق أو في موطنه ومحلّ قراره آمنا من كلّ ما يوذيه ، والرّسول أو خليفته بمنزلة من ينبّهه عن غفلته ويخبره بضلالته وبكثرة السّباع والموذيات فيتوحّش ويطلب طريقا ينجيه ودليلا يهديه فيسلّم قوله ويلتمس منه الدّلالة على آثار الطّريق فيقول : انّما انا منذر عن المخاوف ومنبّه عن الغفلة وللطّريق هاد فيبيّن علامة من هو هاد ويقول : من كنت مولاه فعلىّ (ع) مولاه مثلا ، ولذا كان شأن النّبىّ (ص) منحصرا في الإنذار والهداية موكولة الى من عيّنه لاولى الأبصار (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ، فاذا عيّن النّبىّ (ص) أو خليفته من كان يدلّه على الطّريق يتسرّع لا محالة اليه ويلتمس منه آثار الطّريق فيأخذ منه المواثيق الاكيدة بالمبايعة والمعاقدة ثمّ يعلّمه آثار الطّريق وهو الايمان ، فاذا امن وعلم آثار الطّريق فان تسرّع بآثاره وعلائمه يكن حينئذ سالكا الى الطّريق خائفا من السّباع والموذيات ، ومن عدم الوصول فيتعب نفسه في السّير والحركة اليه وكثيرا ما يعارضه الغيلان والسّباع وقطّاع الطّريق والموذيات فيدافع ويدفع عن نفسه بالسّلاح الّذى أعطاه المنذر اوّلا والهادي ثانيا فينجو منهم بقوّة السّلاح ان شاء الله ، فيصل الى الطّريق الّذى هو علىّ (ع) ويحصل

٥٤

له الحضور عنده ويسمّى عندهم تلك المرتبة بالفكر والحضور ، ويحصل له الرّاحة بعد التّعب والسّرور بعد الحزن والبشارة بعد الخوف واللّذّة بعد الألم ، ويصير سالكا بعد ذلك الى الله. فانّه بعد الإنذار متحيّر متوحّش خائف ، وبعد الدّلالة على الطّريق سألك الى الطّريق خاثف راج متعب نفسه ، وبعد الوصول الى الطريق الموصل الى الله سألك الى الله راج خائف ، لكن خوفه ليس عن المهلك والموذي ولا خوف النّفس الامّارة المسمّى بالخوف ولا خوف النّفس العالمة بالله المسمّى بالخشية بل خوف القلب المسمّى بالهيبة ، والسّالك في هذه الحالة قد يفنى عن نسبة الأفعال الى نفسه ويرى الأفعال من علىّ (ع) وقد يشارك عليّا (ع) في الأفعال وقد يتّحد معه في ذلك ويسمّى فناؤه عن الأفعال بالفناء الفعلىّ ، فاذا سار وسلك وارتفع درجة حتّى لا ينسب الصّفات الى نفسه بل يرى الصّفات أيضا من علىّ (ع) صارت الاثنينيّة ضعيفة والمعاينة قويّة بحيث كاد أن لا يرى نفسه ويسمّى بالفناء عن الصّفات ، لكن له رجاء وخوف بقدر شعوره بنفسه وان كان ذاهلا عن الشّعور بالخوف والرّجاء وخوفه يسمّى سطوة ، فاذا سار معه الى ان لا يرى نفسه ويغيب في حضوره عنده عن نفسه صارت الاثنينيّة مرتفعة ولم يكن له حينئذ نفسيّة حتّى يكون له رجاء وخوف ، ويصير حينئذ مصداقا لقوله (ع): إذا وصلوا اتّصلوا فلا يكون فرق بينه وبين حبيبه ، ويسمّى بالفناء الذّاتيّ ؛ ويسمّى الفناءات بالمحو والمحق والطّمس وهو قبل الإسلام يسمّى ضالّا تائها وبعده يسمّى مسلما وطالبا. فان لم يطلب من يهديه الى الطّريق ووقف خصوصا بعد الانقطاع عمّن أسلم على يده يسمّى أيضا ضالّا ولذلك ورد : من أصبح من هذه الامّة لا امام له من الله تعالى أصبح ضالّا تائها ، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق. وبعد الوصول الى إمامه وولىّ امره والمبايعة معه وإعطاء الميثاق له يسمّى سالكا وسائرا الى الطّريق لا الى الله بلا واسطة ، وان كان سيره الى الطّريق سيرا الى الله ويسمّى سيره هذا سفرا من الخلق الى الحقّ ، وبعد وصوله الى الطّريق يصير سالكا الى الله ويسمّى سيره هذا سفرا من الحقّ بالحقّ الى الحقّ ، فاذا وصل وفنى عن أفعاله وصفاته وسار بالوصال في فناء ذاته يسمّى سائرا في الله ويسمّى سيره هذا سفرا بالحقّ في الحقّ ، وبهذا السّير يتمّ له العبوديّة والفناء ولا يبقى منه ذات ولا اثر ويصير وصاله اتّصالا وينتقل بعد ذلك عبوديّته الى الرّبوبيّة وفناؤه الى البقاء. وما قالوا : من انّ الفقر إذا تمّ فهو الله ، اشارة الى هذا فانّه بعد صحوه يصير موجودا بوجود الله وباقيا ببقاء الله وحاكما بحكم الله وخليفة لله ، لانّه إذا صار عبدا لله وعلم الله صدق عبوديّته ردّه الى ما عاد منه ووكله بأمور بيته الّذى هو قلبه وشرّفه بشرافة خلافة البيت فاذا وجده في إصلاح البيت بصيرا أمينا كاملا وكله بأمور مملكته وشرّفه بشرافة خلافة المملكة ويسمّى هذا العود بعد الأوب سفرا من الحقّ الى الخلق بالحقّ ، فاذا وجده في إصلاح المملكة وتعمير بلادها وتكثير عبادها بصيرا أمينا بالغا دعاه ثانيا الى مقام الانس وآنسه بنفسه ، لكن هذا الحضور غير الحضور الاوّل ؛ فانّ الاوّل دهشة وحيرة وفقر وفاقة وهذا انس وحشمة وغناء لكن بأنس الله وحشمته وغنائه. فاذا آنسه وارتضاه فوّض اليه جميع أموره من عباده وجنوده وسجنه وسجّينه وأضيافه ومضيفه وإعطائه ومنعه فمن شاء يسجنه ومن شاء يضفه ، ومن شاء يعطه ومن شاء يمنعه فله التّسلّط والتّصرّف فيمن شاء كيف شاء ويسمّى هذا في الحضور الاوّل والفناء التّامّ عبدا ، وفي حال إصلاح البيت نبيّا ، وفي حال إصلاح المملكة رسولا ، وفي الحضور الثّانى خليلا ، وفي حال التّفويض إماما ؛ وهذه الامامة غير ما يطلق على ائمّة الجور ، وغير ما يطلق على ائمّة الجماعة ، وغير ما يطلق على الأولياء الجزئيّة بل هي مرتبة لا يتصوّر فوقها مرتبة. ولا يلزم ممّا ذكرنا ان يكون كلّ من بايع النّبىّ (ص) بالبيعة العامّة وصل الى مقام البيعة الخاصّة كأكثر العامّة ، ولا كلّ من بايع البيعة الخاصّة وصل الى الطّريق كأكثر الشّيعة ، ولا كلّ من وصل الى الطّريق وصل الى الحقّ ، ولا كلّ من

٥٥

وصل الى الحقّ صار عبدا ، ولا كلّ من صار عبدا صار نبيّا ، ولا كلّ نبىّ رسولا ، ولا كلّ رسول خليلا ، ولا كلّ خليل إماما ؛ ولمّا كانت الامامة بهذا المعنى خلافة مطلقة كلّيّة ونهاية لجميع المراتب واستشعر الخليل (ع) بأنّها آخر مراتب الكمالات الانسانيّة صار مبتهجا ومن ابتهاجه قال : ومن ذرّيّتى (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) اللّام للاختصاص وقد يستعمل باعتبار المبدأ وقد يستعمل باعتبار الغاية وقد يستعمل باعتبار المملوكيّة كما يقال : هذا البيت لفلان يعنى بانيه ومصدر بنائه فلان لا غير ، أو هذا البيت لسكنى الشّتاء أو لسكنى الصّيف باعتبار غايته ، أو هذا البيت لفلان يعنى فلان مالكه من غير شراكة الغير ، والمراد في هذا الموضع وأمثاله معنى عامّ يشمل المعاني الثّلاثة ، يعنى لله ما فيهما بدوا وغاية وملكا وهو عطف أو حال فيه اشعار بالتّعليل وكذا قوله تعالى (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) كأنّه قال : لا أحد أحسن حالا ممّن أسلم وجهه لله واتّبع خليله ، لانّ كلّ ما في السّماوات والأرض مملوك له وله العلم بكلّ شيء فيعلم من أسلم وجهه له ويعلم مرتبته وقدر استحقاقه فلا يمسك عنه ما هو مستحقّ له (يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) اى في حكم نسائهم من الالفة والفرقة بقرينة (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) الآية) أو في حكم مطلق النّساء من الإرث بقرينة (فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) أو في حكم النّساء بحسب الإرث من الأزواج كما مضى حكمه ، أو من الأرحام كما مضى أيضا ، أو بحسب المعاشرة كما يأتى (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وفي نسبة الإفتاء الى الله في الجواب اشارة الى انّ ما يقوله (ص) ليس منه برأى واجتهاد وظنّ وتخمين كما سيحدّثونه ، بل هو فتيا الله على لسانه امّا لفنائه من نفسه أو لوحى منه (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) عطف على الله أو على المستتر في يفتيكم وسوّغه الفصل ، أو هو بتقدير فعل هو يبيّن أو ما نافية والجملة معطوفة على جملة (اللهُ يُفْتِيكُمْ) أو حاليّة بتقدير مبتدء والمعنى ما يتلى افتاؤه بعد عليكم (فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ) متعلّق بيتلى أو بدل من قوله فيهنّ (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) وبذكر (ما كُتِبَ لَهُنَ) أشار الى انّ لهنّ ميراثا مفروضا وقد بيّن في اوّل السّورة ما لهنّ بحسب الإرث من الأزواج ومن الأرحام كانوا في الجاهليّة لا يورثون الصّغير ولا المرأة ويقولون : الإرث لمن تمكّن عن المقاتلة والمدافعة عن الحريم وحيازة الغنيمة (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) إذا لم يكنّ ذوات جمال ولا يكون لهنّ اموال أيضا فترغبون عنهنّ لعدم المال والجمال (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على يتامى النّساء (مِنَ الْوِلْدانِ) جمع الوليد وقد مضى حكمهم بحسب الإرث والحفظ والمال جميعا في اوّل السّورة (وَ) يفتيكم أيضا في (أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) عطف على يستفتونك أو على الله يفتيكم على ان يكون من جملة مقول القول يعنى قل لهم ما تفعلوا من خير في ارث النّساء وقسامتهنّ وفي حفظ اليتامى وأموالهم لا يضع عملكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) سوء عشرة معها ومنعها من حقوقها لمّا قدّم ذكر خوف نشوز المرأة ذكر هاهنا خوف نشوز المرء (أَوْ إِعْراضاً) تجافيا وعدم توجّه إليها مع اعطائها حقوقها من النّفقة والكسوة والقسامة فانّ النشوز عدم القيام بما يجب عليه والاعراض لما ذكر في مقابله يكون غيره (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) قرئ يصلحا من باب الأفعال وحينئذ يجوز ان يكون صلحا مفعولا به اى يوقعا صلحا وان يكون بينهما مجرّدا عن الظّرفيّة مفعولا به ، وان يكون المفعول به محذوفا وقرئ يصّالحا ويصّلحا بتشديد الصّاد

٥٦

من تصالح واصطلح والمقصود نفى الجناح من ان يصطلحا على إعطاء المرأة شيئا من مهرها أو غيره ، أو على تحمّل خدمة له لاستمالته ، أو على اقساط قسامتها وسائر حقوقها ، فعن الصّادق (ع) هي المرأة تكون عند الرّجل فيكرهها فيقول لها : أريد ان اطلّقك فتقول له : لا تفعل انّى اكره ان يشمت بى ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعني على حالتي وهو قوله تعالى : فلا جناح عليهما ان يصلحا ولا اختصاص له بإسقاط المرأة حقّها بلا عوض ، فيجوز ان يجعل بدل إسقاط الحقّ عوضا (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الفرقة والطّلاق وسوء العشرة (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) لانّها مطبوعة على جذب خيرها وعدم إخراجه من أيديها كأنّها أجبرت على الحضور عند الشّح فكأنّ نفوس الرّجال لا يمكنها إمساك النّساء مع كراهتهنّ ولا القيام بحقوقهنّ ولا نفوس النّساء يمكنها إسقاط حقّها وترك حظّها والجملة الاولى للتّرغيب على الصّلح والثّانية لتمهيد العذر لمماكسة الطّرفين عن الصّلح (وَإِنْ تُحْسِنُوا) في العشرة (وَتَتَّقُوا) عن نقص حقوقهنّ أو عن الفرقة وفتح باب الشماتة لهنّ وتمسكوهنّ مع كراهتهنّ كان الله يجزيكم بالإحسان الإحسان وبالتّقوى الغفران (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فأقيم السّبب مقام الجزاء (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) لفظة لن للتّأبيد اشارة الى انّه كالمحال (أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) فانّ العدل التّسوية بينهنّ وهي ان كانت ممكنة بحسب الظّاهر فليست بمقدورة بحسب ميل القلب (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل بينهنّ ، عن النّبىّ (ص) انّه كان يقسم بين نسائه ويقول : اللهمّ هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) بسراية ميل الباطن الى احديهنّ وكراهة الاخرى الى الظّاهر فتجعلوا قسامتهنّ وغير قسامتهنّ مطابقة لميلكم الباطنىّ بهنّ (فَتَذَرُوها) اى المكروهة (الْمُعَلَّقَةِ) الّتى لا بعل لها ولا اختيار لها لنفسها ، روى انّ عليّا (ع) كان له امرأتان وكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الاخرى ، فوا حسرتاه على العدول الّذين في زماننا وقسامتهم بين أزواجهم كسائر موارد عدلهم.! (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أنفسكم بتقليل تفاوت الميل القلبىّ بقدر ما يمكن وتسوية التّرحّم عليهنّ باتّصافكم بالرّحمة الّتى هي من صفات الله (وَتَتَّقُوا) عن الانزجار القلبىّ عمّن تكرهونهنّ بالإغضاء عن نقائصهنّ ومعايبهنّ الّذى هو المغفرة لهنّ صرتم متخلّقين بأخلاق الله ومستحقّين لرحمته ومغفرته لتخلّقكم بهما (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فأقيم السّبب مقام المسبّب ، أو المعنى ان تصلحوا ما أفسدتم بالميل الكلّىّ وتتّقوا عن الإفساد فيما يأتى صرتم احقّاء برحمته ومغفرته ، أو المعنى وان توقّعوا الصّلح وتتّقوا عن الفرقة بالتّرحّم عليهنّ والمغفرة لهنّ صرتم مستحقّين لرحمته بقرينة مقابلته لقوله تعالى (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) بعد عدم الرّضا بالصّلح وعدم إحسان الأزواج (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) بالأزواج للرّجال والأزواج للنّساء ، أو بصفات الملائكة وخصالهم فيسلو كلّ من الزّوج بانساء الطّبيعة عن المضاجعة وتقليل شهوة النّكاح أو بالأموال الدّنيويّة فيعطى كلّا ما يغنيه ، وحديث امر الصّادق (ع) شاكيا من الفقر بالنّكاح واشتداد الفقر عليه بعد النّكاح وامره ثانيا بالفرقة وحصول الغناء له يدلّ على الأخير ولا ينافي التّعميم (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) عطف فيه معنى التّعليل يعنى يقدر على التّوسعة في الأزواج أو في الخصال أو في الأموال على فرض التّفرّق لانّه واسع بحسب كلّ شيء ويأمركم بالإحسان والإغضاء لانّه حكيم وفيما يأمركم به صلاحكم (وَلِلَّهِ) صدورا ورجوعا

٥٧

وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فيه أيضا معنى التّعليل (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) فيه تأكيد أكيد للتّقوى اشعارا بانّ ما ذكر على طريق المداراة معكم من التّقوى عن سوء العشرة وعن الفرقة فهو وصيّة قديمة وجديدة فما لكم لا تتّقون عن سوء العشرة وتنتهون في امر أزواجكم الى الفرقة ولقد جمع الله في هذه الوصيّة على سبيل الإجمال جميع ما ينبغي ان يوصى به فانّ تقوى الله عمّا لا يرضى ملاك ترك كلّ حرام ومكروه ومناط فعل كلّ واجب ومندوب (وَإِنْ تَكْفُرُوا) وتخرجوا من السّماء الّتى هي محلّ الطّاعة الى الأرض الّتى هي محلّ الشّرك والمعصية فلا تخرجوا من مملكته حتّى ينقص فيها شيء ولا حاجة له الى طاعتكم وتقويكم حتّى لا يقضى بترككم حاجته ، ولا يلحقه ذمّ بواسطة كفركم حتّى يحتاج في رفعه الى طاعتكم ، ولا حاجة له الى حفظكم لنفسه ومملكته حتّى تكونا بترككم الطّاعة غير محفوظتين (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) فأقيم السّبب مقام الجزاء (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تأكيد للسّابق وتمهيد وتعليل لكونه وكيلا على كلّ شيء ومقتدرا على التّصرّف في كلّ شيء بأىّ نحو شاء (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فلا حاجة له في الحفظ الى طاعتكم (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) فلا تخرجوا بكفركم عن تحت قدرته وتصرّفه (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) روى انّه لمّا نزلت هذه الآية ضرب النّبىّ (ص) يده على ظهر سلمان (ره) وقال : هم قوم هذا يعنى عجم الفرس ، والمراد انّه شاء ذلك ويأتى لا محالة بآخرين وهم قوم هذا (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) بترك التّقوى والكفر بالله فليطلبه بالتّقوى وطاعة الله حتّى يحصل له ثواب الدّنيا مع ثواب الآخرة فانّ من كانت الآخرة همّته كفاه الله همّته من الدّنيا (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فهو جواب لما عسى ان يقال : انّ تارك التّقوى لا يلتفت في طاعته وتركه الى حاجة لله اليه في شيء ممّا ذكر بل يريد ثواب الدّنيا ويظنّ انّه لا يحصل بالتّقوى ولذا أتى به مفصولا لا موصولا بالعطف (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فاذا أطاعوا واتّقوا وطلبوا قالا أو حالا يسمعهم ويجيبهم ، وإذا لم يطلبوا وكان غرضهم ذلك أو لم يكن غرضهم ذلك ولكن كان حاجتهم اليه يبصر أغراضهم ومقدار حاجاتهم فيعطيهم من ثواب الدّنيا أيضا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) على يد محمّد (ص) بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (كُونُوا قَوَّامِينَ) اثبتوا على هذا الوصف فانّ تخليل الكون للدّلالة على الثّبات والدّوام ، والقوّام الخارج عن الاعوجاج والمخرج نفسه وقواه وغيره عنه فانّه يستفاد من المبالغة السّراية الى الغير كما في الظّهور أو هو مأخوذ من قام عليه وبأمره إذا أصلحه (بِالْقِسْطِ) اى بالعدل فانّه بسبب التّسوية بين طرفي الإفراط والتّفريط في النّفس وبسبب تساوى طرفي النّزاع عند النّفس في النّزاع الخارجىّ يمكن الخروج والإخراج عن الاعوجاج ويجوز تعلّقه بقوله تعالى (شُهَداءَ) متحمّلين ومؤدّين للشّهادة خبر بعد خبر تفسير للاوّل أو حال كذلك (لِلَّهِ) لطلب رضا الله أو في شهادات الحسبة لانّ فيها صاحب الحقّ هو الله ، أو لله باعتبار مظاهره وخلفائه ولا سيّما أتمّ مظاهره الّذى هو علىّ (ع) والآية عامّة لكنّ المقصود والعمدة هو هذا فانّها توصية وتوطئة لتحمّل الشّهادة لعلىّ (ع) حين التمسه النّبىّ (ص) منهم بقوله : رحم الله امرء سمع فوعى ، ولأداء الشّهادة

٥٨

لعلىّ (ع) حين التمسه عنهم بقوله ، الا فليبلغ الشّاهد منكم الغائب ، وحين التمس علىّ (ع) عنهم بعد النّبىّ (ص) ان يؤدّوا ما سمعوا عنه ، ولكن ما وفوا بهذه الوصيّة وما ادّوا (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) مضرّا عليها فانّها احبّ الأشياء عليكم (أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فانّهم بعد الأنفس احبّ الأغيار (إِنْ يَكُنْ) كلّ واحد من الطّرفين (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) فلا تخرجوا عن الاستقامة بملاحظة انّ الفقير اولى بالانتفاع وعدم التّضرّر والغنىّ لا يتضرّر على فرض عدم وصول ماله اليه أو ينتفع الغير بما له على فرض الشّهادة عليه زورا ، أو بخيال انتفاعكم عن الغنىّ وعدم تضرّركم منه وعدم مبالاتكم بالفقير (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) فامتثلوا امره ولا تبالوا بتضرّر الفقير وعدم تضرّر الغنىّ (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) اى في العدول عن الحقّ أو بسبب العدول أو لكراهة العدل في الشّهادة (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم بالشّهادة حين الأداء بان تغيّروها بألسنتكم وقرئ تلوا من ولى بمعنى توجّه (أَوْ تُعْرِضُوا) بكتمانها يجازكم الله بحسبه (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فأقيم السّبب مقام الجزاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ والبيعة على يد محمّد (ص) وقبول دعوته الظّاهرة (آمَنُوا) بالايمان الخاصّ والبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، فانّ الإسلام وهو البيعة العامّة النّبويّة وأخذ الميثاق على إعطاء الأحكام القالبيّة والتّوبة على يد محمّد (ص) قد يسمّى ايمانا ، لانّه طريق اليه وسبب لحصوله ، والايمان حقيقة هو البيعة الولويّة والتّوبة على يد علىّ (ع) أو على يد محمّد (ص) من حيث ولويته وأخذ الميثاق على إعطاء الأحكام القلبيّة وإدخال الايمان في القلب ، ولذلك قال في انكار ايمان المدّعين للايمان : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ؛ فعلى هذا لا حاجة الى التّكلّفات البعيدة الّتى ارتكبها المفسّرون (بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) يعنى انّ الايمان بمحمّد (ص) بقبول دعوته الظّاهرة إسلام وانقياد له وتقليد محض لا معرفة فيه ولا تحقيق ، وانّما يحصل المعرفة من طريق القلب فآمنوا بعلىّ (ع) بقبول دعوته الباطنة حتّى يدخل الايمان في قلوبكم ويفتح أبواب قلوبكم الى الملكوت فتعرفوا الله ورسوله (ص) وكتابه الجامع الّذى هو النّبوّة ، وكاملة في محمّد (ص) وصورته القرآن وناقصه كان في الأنبياء السّلف وصورته التّوراة والإنجيل والصّحف والزّبور وغيرها ، وللاشارة الى الفرق بين نبوّة محمّد (ص) ونبوّة غيره بالكمال والضّعف قال في الاوّل نزّل بالتّفعيل الّذى فيه تعمّل وفي الثّانى انزل خاليا منه وقرئ فيهما بالبناء للمفعول (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ذكرهم بالتّرتيب من المبدء الى المنتهى ، فانّ المراد بالملائكة العقول وبالكتب النّبوّات وأحكامها فانّها نزولا بعد الملائكة والرّسالة بعد النّبوّة ، والكفر بها مسبّب عن الكفر بالولاية وعدم قبول الدّعوة الباطنة ، فانّه ما لم يدخل الايمان بالبيعة على يد علىّ (ع) في القلب لا ينفتح بابه ، وما لم ينفتح بابه الى الملكوت لم يعرف شيء منها كما عرفت ولذلك أتى به بعد الأمر بالايمان بعلىّ (ع) (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) وصف بحال المتعلّق وتهديد بليغ للمنحرفين عن الولاية وعن قبول الايمان على يد علىّ (ع) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) مفهوم الآية عامّ وتنزيلها خاصّ ، فانّ المراد بها المنافقون الّذين آمنوا بمحمّد (ص) يعنى أسلموا (ثُمَّ كَفَرُوا) بتعاهدهم على خلافه في مكّة (ثُمَّ آمَنُوا) حين قبلوا قوله في الغدير وبايعوا مع علىّ (ع) بالخلافة

٥٩

(ثُمَّ كَفَرُوا) بتخلّفهم عن جيش اسامة حال حيوته (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بتشديدهم لآل محمّد (ص) (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) لانّهم ارتدّوا عن الفطرة بقطعهم الفطرة الانسانيّة فلا رجوع لهم بالتّوبة ولا سبيل لهم الى دار الرّاحة ، فانّ الفطرة الانسانيّة هي السّبيل الى دار الرّاحة فلا يتصوّر لهم مغفرة ولا هداية ، لانّ المرتدّ الفطرىّ لا توبة له كما قالوا بالفارسىّ «مردود شيخي را اگر تمام مشايخ عالم جمع شوند نتوانند إصلاح نمايند» لانّه مرتدّ فطريّ قاطع لفطرته (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) الآية الاولى بيان حال المتبوعين وهذه بيان حال الاتباع مع إمكان التّعميم (بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) استعمال البشارة في العذاب للتّهكّم (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ) الّذين سبق ذكرهم من أعداء آل محمّد (ص) (أَوْلِياءَ) باتّباعهم وقبول دعوتهم والبيعة معهم (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) علىّ (ع) واتباعه (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) استفهام إنكارىّ للتّوبيخ يعنى لا ينبغي ان يبتغوا عندهم العزّة (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) مجتمعة عنده فما لهم يخالفون امره ولا يتّبعون أولياءه ويبتغون من غيره العزّة (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) حال من فاعل يتّخذون وجملة أيبتغون اعتراض أو عن فاعل يبتغون أو عن الله المجرور باللّام والمراد بالكتاب امّا احكام النّبوّة أو القرآن أو هما (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ) ان تفسيريّة أو مخفّفة (آياتِ اللهِ) وأعظمها علىّ (ع) (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) فضلا عن موالاتهم (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) غاية للنّهى عن القعود معهم أو غاية لترك تعظيمهم ولاستهزائهم المستفادين من النّهى عن القعود اى لا تقعدوا معهم لينفعلوا ولا يعودوا لمثله (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) بمحض القعود معهم فضلا عن موالاتهم والمماثلة معهم امّا في الكفر ، ان ترضوا بقولهم ، أو في الإثم ، ان لم ترضوا ، (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ) الّذين كانوا مع محمّد (ص) ظاهرا ثمّ اتّبعوا أعداءه (وَالْكافِرِينَ) المتبوعين (فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) اى ينتظرون بسببكم يعنى وقوع امر من خير أو شرّ لكم كأنّ وجودكم صار سببا لانتظارهم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) يعنى انّهم كانوا طالبين للدّنيا أينما وجدوها تملّقوا لها لا تعلّق لهم بكفر ولا ايمان (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) سمّى الاوّل فتحا والثّانى نصيبا اشارة الى انّ المؤمنين مقصودهم محض الفتح لاعزاز الدّين ، والكافرين لا قصد لهم الّا حظّهم ونصيبهم من الدّنيا (قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ) ألم نستول (عَلَيْكُمْ) ونتمكّن منكم فتركنا القتال معكم فوافقونا ولا تعادونا ، والاستحواذ من الكلمات الّتى جاءت على الأصل ولم يعلّ (وَنَمْنَعْكُمْ) ألم نمنعكم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يتراءى ان يقال ولم نمنع المؤمنين منكم ولكن يقال منعته من الأسد إذا حفظه من افتراسه كأنّ المانع يمنعه من التّعرّض للأسد (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) دعاء عليهم أو اخبار ولا يخلو عن تهديد والمقصود بينكم وبينهم بتقدير بينهم أو بكون الخطاب للمؤمنين والكافرين جميعا (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) تسلّطا دعاء أو اخبار والمراد انّه لا سبيل لهم في الآخرة أو بالحجّة أو في الدّنيا بالغلبة من حيث انّهم مؤمنون فانّ قتل الكافرين للمؤمنين واسرهم ونهب أموالهم انّما هي بالنّسبة الى أبدانهم الّتى هي بمنزلة السّجن لهم لا بالنّسبة

٦٠