تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

سورة النّساء

مدنيّة كلّها وقيل سوى آية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا) ، وآية

(يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) لمّا كان تلك الحكاية وأمثالها من مرموزات الأوائل من الأنبياء والأولياء والحكماء التّابعين لهم وحملها العوامّ من النّاس على ظواهرها اختلف الاخبار في تصديقها وتقريرها وتكذيبها وتوهينها فانّ في كيفيّة خلقة آدم (ع) وحوّاء (ع) وتناسلهما وتناكحهما وتناكح أولادهما ، وكذا في قصّة هاروت وماروت وقصّة داود (ع) وغير ذلك اختلافا كثيرا في الاخبار واضطرابا شديدا بحيث يورث التحيّر والاضطراب لمن لا خبرة له ، حتّى يكاد يخرج من الدّين ولكنّ الرّاسخين في العلم يعلمون انّ كلّا من معادن النبوّة ومحالّ الوحي صدر ولا اختلاف فيها ولا اضطراب ؛ جعلنا الله منهم والله ولىّ التّوفيق ، ولمّا كان المقصود الوصاية في امر الأيتام والاهتمام بهم وبأموالهم اكّد الأمر بالتّقوى بالتّكرير فقال تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) وعلّقه اوّلا على وصف الرّبوبيّة المقتضيّة للتّقوى عن مخالفته ووصفه أيضا بما يقتضي التّقوى وعلّقه ثانيا على وصف الإلهيّة ووصفه بما يقتضي تعظيمه وقرن الأرحام به بالعطف على الضّمير المجرور أو على الله مبالغة في حفظ الأرحام وتمهيدا لإظهار المقصود من حفظ الأيتام فانّ الحافظ للأيتام في الأغلب ذوو الأرحام ومحافظة الرّحم وتعظيمه ممّا يحكم به العقل والعرف وورد في الشّريعة ما لا يحصى في الاهتمام به.

اعلم انّ الله تعالى شأنه خلق الإنسان ذا نشأتين وبحسب كلّ نشأة جعل له أصولا وفروعا ويسمّى أصوله وفروعه ومن انتهى معه الى أصل واحدا رحاما لانتهائهم الى رحم واحد والتّفاضل بين أرحامه الجسمانيّة وأرحامه الرّوحانيّة كالتّفاضل بين الرّوح والجسم ، وفضل صلة الأرحام الرّوحانيّة على الجسمانيّة كفضل الرّوح على الجسم لا يقال : من انتسب الى الشّيطان كان نسبته الرّوحانيّة الى الشّيطان وكان المنتسب الى الشّيطان رحما له فيلزم له مراعاته وصلته مع انّه مأمور بمباغضته وقطيعته لانّا نقول : كما اسّس الله تعالى لصحّة النّسبة الجسمانيّة في كلّ ملّة وشريعة ما تبتنى عليه ومن لم تكن نسبته مبتنية على ما اسّسه كان لغيّة وحاله مع أصوله وفروع أصوله كحال الاجنبىّ من غير فرق ومن لم يكن رحما لهم كما لم يكونوا أرحاما له كذلك اسّس الله تعالى

١

لصحّة النّسبة الرّوحانيّة ما تبتنى عليه ومن لم تكن نسبته مبتنية على ما اسّسه كان لغيّة ولا اعتبار بنسبته ، لا يقال : على هذا يلزم ان يكون من انتسب الى الأنبياء (ع) من غير الابتناء على ما اسّسه الله تعالى لغيّة نعوذ بالله من هذا القول ، لانّا نقول : الانتساب إليهم (ع) من غير الابتناء على ما به الانتساب محال ، لانّ من لم يكن له امام من الله يأتمّ به وانتحل الانتساب إليهم كان داخل النّسب وكان الايتمار بشريعتهم نحلة لا ملّة ولذا ورد في الاخبار المعصوميّة : من أصبح من هذه الامّة لا امام له من الله ظاهر عادل أصبح ضاّلا تائها ، وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق أعاذنا الله ، وبهذا المضمون منهم روايات كثيرة وكما انّ داخل النّسب في النّسبة الجسمانيّة ملعون كذلك من لم تكن نسبته الى من انتسب اليه بحسب الرّوحانيّة مبتنية على ما يصححّها كان داخل النّسب وكان ملعونا ونسبة اللغيّة الى اللغيّة ونسبة داخل النّسب الى داخل النّسب كنسبة الرّوح الى الجسد (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ايّها المأمورون بالتّقوى ومراعاة الأرحام وحفظ اموال الأيتام فيطّلع على خيانتكم سرّا وعلانية (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) بعد الحفظ وانس الرّشد منهم (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ) الرّدىّ من أموالكم (بِالطَّيِّبِ) الجيّد من أموالهم أو الحرام من أموالهم بالحلال المقدّر لكم فانّ من ارتزق بالحرام حرم المقدّر له من الحلال لكنّ الاوّل هو المراد لانّ قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) يفيد الثّانى.

اعلم انّ اليتيم كالرّحم روحانىّ وجسمانىّ فالجسمانيّ من انقطع في صغره عن أبيه الجسمانىّ ، والرّوحانىّ من انقطع عن إمامه الّذى هو أبوه الرّوحانىّ كما ورد تصريحا واشارة واليتيم عن الامام امّا بغيبته عن شهود حسّه بموت وغيره أو بغيبته عن شهود بصيرته بعدم استعداد الحضور وعدم حصول الفكر الّذى هو مصطلح الصّوفيّة ، فانّ من لم يتمثّل مثال الشّيخ في صدره ولم يشاهد صورته المثاليّة بعين بصيرته كان منقطعا عن إمامه وحقّه الخدمة والمواساة والمحبّة والنّصيحة الّتى يعطون الميثاق عليها ؛ هذا هو اليتيم الرّوحانىّ في العالم الكبير ، وامّا في العالم الصّغير فالقوى الحيوانيّة والبشريّة ما لم تبلغ في التبعيّة للنّفس الى مقام التّمتّع والالتذاذ بشهود النّفس لشيخها تكون يتامى ومالها وحقّها التلذّذ بمشتهياتها ومقتضياتها في الحلال فانّ التلذّذ في الحلال جعل قسيما لتزوّد المعاد في الاخبار ، ولمّا كان منع اليتامى باىّ معنى كان عن حقّهم ظلما على المظلوم الّذى كان مستحقّا للتّرحّم عظّم تعالى ذنبه فقال تعالى (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) اى ذنبا عظيما (وَإِنْ خِفْتُمْ) ايّها النّاظرون في امر اليتامى إذا أردتم نكاحهنّ ضنّة بأموالهنّ (أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) بالتّقصير في حقّهنّ «ف» دعوا نكاحهنّ و (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) وعن أمير المؤمنين (ع) في جواب مسائل الزّنديق الّذى سأل عن أشياء انّه أسقط بين طرفي تلك الآية أكثر من ثلث القرآن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) تخيير بين الواحدة الى اربع وأيضا تخيير في الاستبدال فانّ في هذا الوزن دلالة على التّكرير (فَإِنْ خِفْتُمْ) ايّها الرّاغبون في النّكاح (أَلَّا تَعْدِلُوا) بينهنّ إذا كنّ أكثر من الواحدة «ف» انكحوا (فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ان خفتم التّقصير في حقّ الحرّة (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) اى لا تميلوا عن الحقّ أو لا تمونوا فتعسروا فانّ خفّة العيال أحد اليسارين كما في الخير (وَآتُوا النِّساءَ) ايّها الأزواج (صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) منكم لهنّ اى عطيّة وفيه تنشيطا لهم فانّ استرداد العطيّة في غاية القبح وان كان الخطاب لأولياء النّكاح لانّهم كانوا يأخذون الصّداق لأنفسهم كما هو الآن كذلك في بعض الاعراب والأكراد فالمعنى آتوهنّ صدقاتهنّ ايّها الأولياء فانّها عطيّة لهنّ

٢

فليس لكم ان تأخذوها (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) اى من الصّداق (نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً).

اعلم انّ الإنسان ذو نشأة محسوسة وذو نشأة غير محسوسة وله بحسب كلّ نشأة ما ينفعه وما يضرّه وكلّ من ميّز بين النّافع والضّارّ وقدر على جلب النّافع ودفع الضّارّ يسمّى عاقلا ورشيدا ، ومن لم يميّز أو لم يقدر يسمّى سفيها لكن لا ملازمة بين سفاهة الدّنيا وسفاهة الآخرة ؛ فكم من سفيه في الدّنيا عاقل في الآخرة ، وكم من عاقل في الدّنيا سفيه في الآخرة فمعاوية مع كونه ملقّبا بأعقل زمانه سفيه ، والبهلول مع كونه مجنونا عاقل ، واختلاف الاخبار في تفسير السّفيه بمن لم يكن تصرّفه في ماله على وجه يرتضيه العقل وبمن لم يعرف الحقّ وبشارب الخمر وبمن لم يدخل في هذا الأمر بحسب اختلاف النّشأتين ، فانّ العاقل بحسب النّشأة الآخرة من عرف إمامه ودخل على الوجه المقرّر في ولايته وبايعه بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخل الايمان في قلبه ولذلك نسبوا الى شيعتهم العقل والعلم والتّعلّم والعرفان وغير ذلك ممّا يدلّ على كونهم عاقلين مع انّ أكثرهم لم يكونوا من أهل العلوم الرّسميّة والعقول الدّنيويّة بل كانوا في نظر أهل الدّنيا مجانين وسفهاء كما (قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) ، وقالوا : (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ، وكما انّ الشّرع والعقل حاكمان بقبح إعطاء المال الدّنيوىّ للسّفيه من الأولاد والأزواج أو الأيتام الّذين في تربيتكم أو غيرهم ممّن يضيّع المال أو من لا يعرف الحقّ كذلك حاكمان بقبح إعطاء المال الاخروىّ من العلم والحكمة لمن لم يكن اهله ولم يعرف الحقّ فانّ الله يأمركم ان تؤدّوا الأمانات الى أهلها يعنى لا تمنعوها أهلها فتظلموهم ولا تعطوها غير أهلها فتظلموها وتكونوا كمن علّق الدرّ على أعناق الخنازير (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) بان تمكّنوهم فيها لتحصيل رزقهم وكسوتهم منها بالعمل فيها بحيث لم ينقص من أصل المال شيء سواء زاد فيها بعملهم أو لا ، وانّما قال في الآية الآتية : وارزقوهم منها لان المعطى هناك من أصل المال (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) لا ازدراء فيه ولا لوم (وَ) امّا اموال اليتامى ف (ابْتَلُوا الْيَتامى) باختبار أحوالهم من أوان تميزهم وزمان صغرهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) وعدم تضييع للمال (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) عن الصّادق (ع) اشارة الى وجه من وجوه التّأويل في هذه انّه قال : إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد (ص) فادفعوهم درجة يعنى وابتلوا يتامى آل محمّد (ص) وراقبوا في تربيتهم ايّها المربّون ليتامى آل محمّد (ص) حتّى إذا بلغوا مقام الزّواج بالشّواهد الإلهيّة والواردات الغيبيّة فان آنستم منهم رشدا وثباتا في المحبّة وعدم إفشاء الأسرار بهوى النّفس فادفعوهم عن مقامهم الدّانى درجة كما هو شأن الائمّة (ع) والمشايخ في تربية أطفال الطّريق وأيتام السّلوك (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) تجاوزا عن حدّ المعروف (وَبِداراً) اى مسرعين في الأكل خوف (أَنْ يَكْبَرُوا) أو مبادرين كبرهم (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا) عن أموالهم بعدم اشتغاله بها عن معيشته أو بعدم حاجته إليها لغنائه في نفسه (فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً) لأجل اشتغاله عن مرمّة معيشته بواسطة إصلاح أموالهم أو كان فقيرا في نفسه (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) اى بقدر اجرة اشتغاله بها فانّ الأكل بالمعروف عند الشّرع والعقل ما كان بقدر اجرة اشتغاله عن إصلاح معيشته لا إصلاح معيشته عن أموالهم وان كان أضعاف عمله وبما فسّرنا يمكن الجمع بين المتخالفات من الاخبار في هذا المقام ولمّا كان السّورة المباركة أكثرها في آداب المعاشرة وتدبير

٣

المنزل وسياسة المدن ، ومن جملة الحزم في المعاشرة ان تكون بريئا من المخاصمة متّقيا عن مواضع التّهمة حافظا لعرضك عن أفواه النّاس مجتنبا عمّا فيه الملامة وذلك بان يكون معاملتك مع الغير سالما عن الشّبهة والادّعاء الباطل ولا يمكن السّلامة الّا بان يكون ثالث بينك وبين من تعامله حتّى يكون مانعا لادّعائه باطلا ومطّلعا حتّى يرفع الشّبهة إذا وقعت ، علّم الله تعالى عباده ذلك فقال تعالى (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) ولا تخونوا فيما لم يطّلع هو ولا غيره عليه لانّ الله تعالى شاهد عليكم ويحاسبكم بدقيق ما عندكم وجليله (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) هذا بحسب التّنزيل وامّا بحسب التّأويل فيقال : إذا دفعتم الى يتامى آل محمّد (ص) بعد الاستحقاق ما يستحقّونه من رفع درجة فأشهدوا الله وملائكته عليهم حتّى يكونوا بمرأى من الله وملائكته ويكون اعطاؤكم بإذن من الله بل بمرأى منه بل بيده حتّى لا يكون أنفسكم واسطة بينهم وبين الله ويكون المحاسب هو الله وكفى بالله حسيبا (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) بيان لآداب التّوارث ونهى عن رسوم الجاهليّة من منع النّساء عن الإرث (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) من غير الورّاث (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) من غير اولى القربى (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) تصدّقا عليهم وتطييبا لنفوسهم فانّه مورث لترويح المورّث وبركة الوارث ولا تؤذوهم بأيديكم وألسنتكم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) باستقلال العطيّة والاعتذار عنه والاحترام لهم أكثر من سائر الأوقات ولمّا كان الأمر بظاهره مفيدا للوجوب والمقصود الاستحباب لا الوجوب اختلف الاخبار في انّها منسوخة أو باقية فما أفاد نسخها خوطب بها من فهم الوجوب ، وما أفاد بقاءها خوطب بها من فهم الاستحباب ، ولمّا كانت النّفوس متفاوتة في التّناهى عن المنهيّات لانّ تناهيها امّا لخوف الافتضاح بين النّاس ، أو اطّلاع الغير عليها ، أو تسلّط الظّالم ، أو رفع البركة ، أو تضييع أولادها بالمكافاة ، أو سوء العاقبة والعذاب في الآخرة ذكر الله تعالى في مقام التّأكيد في امر اليتامى والتّهديد عن الخيانة والتّوانى عن المحافظة بعضا منها فقال تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) فانّ الدّار دار مكافاة وليعلموا انّ ما يدينون به في يتامى الغير يدانون به في يتاماهم (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في الخيانة في حقّهم والتّوانى في تربيتهم والخشونة في القول معهم (وَلْيَقُولُوا) لهم (قَوْلاً سَدِيداً) لا يجرئهم على عدم الانقياد ولا يزجرهم زائدا على قدر تربيتهم ، هذا تهديد عن المكافاة في حقّ الأولاد (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ) اى يدخلون بأكل اموال اليتامى (فِي بُطُونِهِمْ ناراً) اى ما يؤدّى الى أكل النّار أو دخول النّار (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) هذا تهديد عن سوء العاقبة والعذاب في الآخرة (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي) ميراث (أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لوجوه كثيرة ذكرت في الاخبار وغيرها (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ممّا ترك (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) هذا أحد مواضع الحجب ولا يحجب الامّ عن نصيبها الا على الّا متعدّد اقلّه اثنان

٤

ولفظ الاخوة أيضا يدلّ عليه فانّه لا يطلق على الواحد والأختان بمنزلة أخ واحد (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فتتصرّفون في أموالكم بأهويتكم وتعطون البعض وتحرمون البعض بل النّافع لكم ان تنقادوا لقسمة الله وتكلوا الى حكم الله فانّه أنفع لكم ولآبائكم وأولادكم اعتراض مؤكّد لتسليم القسمة الى حكم الله تعالى ، يوصيكم بهذه القسمة وصيّة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أو فرض هذه القسمة فريضة من الله فلا تجاوزوا وصيّته وحكمه (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فلا ينبغي للجاهل العاجز ان يخالفه ويغيّر ما امره (وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) والمراد بها هنا الاخوة والأخوات من جهة الامّ خاصّة وللآية وجوه عديدة بحسب الاعراب والمعنى لا يتغيّر المقصود بها (أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) بالزّيادة على الثّلث أو بقصد الإضرار بالإقرار على الوارث يوصيكم (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ) فلا تخالفوه (حَلِيمٌ) فلا تغتّروا بعدم تعجيل مؤاخذته واحذروا في العاقبة من معاقبته (تِلْكَ) الّتى أمرناكم بها من آداب المعاشرة في حقّ اليتامى والأزواج والتّوارث (حُدُودُ اللهِ) الّتى من تجاوز عنها افترسه الغيلان ومن دخل فيها كان آمنا (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في المحافظة على حدوده صار من خواصّ الله ، ومن صار من خواصّ الله (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) آية الفروض والأنصباء وان كانت مجملة غير وافية بتمام الفروض ولا ببيان الزّيادة على الفروض ولا النّقيصة عنها لكن أهل الكتاب الّذين نزل فيهم بيّنوه لنا فلا حاجة لنا الى ما قاسته عقولنا النّاقصة ومسئلة العول والتّعصيب الّتى هي من أمّهات ما تخالف العامّة والخاصّة فيها نشأت من الاعراض عن أهل الكتاب والاتّكال على العقول النّاقصة في كلّ باب (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) هذه الآية في كيفيّة سياسة الخارجين من الحدود (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) فاطلبوا من القاذف اربعة رجال من المؤمنين (فَإِنْ شَهِدُوا) بالكيفيّة المعتبرة في الشّهادة على الزّنا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) لمّا كان هذه الآية في ابتداء تأسيس السّياسات لم يشدّد في السّياسة ، ولمّا تمّ الإسلام وقوى أنزلت سورة النّور والحدّو الرّجم للزّانى والزّانية ولذا قالوا نسخت هذه الاية بما في سورة النّور والسّبيل هو الحدّ والرّجم (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) بزجر الرّجل وحبس المرأة (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) وخلّوا سبيلهما (إِنَّ اللهَ كانَ

٥

تَوَّاباً رَحِيماً) يتوب على من تاب ويرحم على من ندم ، ولمّا أوهم من نسبة وصف التّوبة والرّحمة اليه تعالى انّه يتوب على العاصي اىّ عاص كان استدركه فقال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) يعنى انّ التوبة حالكونها واجبة على الله بمقتضى وعده وإيجابه ليست الّا (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ويجوز ان يكون على الله خبرا.

تحقيق كون السّيّئات تماما بجهالة

اعلم انّه تعالى خلق اوّل ما خلق عالم العقول الكلّيّة الّتى يعبّر عنها بالقلم والملائكة المقرّبين والكتاب المبين وغير ذلك من الأسماء اللائقة المطلقة عليها ، ثمّ عالم العقول العرضيّة الّتى تسمّى في لسان الحكماء بأرباب الأنواع وأرباب الطّلسمات وبالأرواح والصّافّات صفّا ، ثمّ عالم النّفوس الكلّيّة الّتى تسمّى باللّوح المحفوظ والمدبّرات امرا ، ثمّ عالم النّفوس الجزئيّة الّتى تسمّى بالملائكة ذوي الاجنحة وبالقدر العلمىّ ولوح المحو والإثبات وبعالم الملكوت العليا وبعالم المثال والأشباح النّوريّة ، ثمّ عالم الأجسام علويّة كانت أو سفليّة من العناصر ومواليدها وتسمّى بالأشباح الظّلمانيّة والقدر العينىّ ، ثمّ عالم الأرواح الخبيثة الّتى هي الشّياطين والجنّة والأرواح البشريّة الّتى تلحق بها وتسمّى بعالم الملكوت السّفلىّ وهذا العالم بحسب رتبة الوجود تحت عالم الطّبع كما انّ عالم المثال النّورىّ فوق عالم الطّبع ، وهذا العالم أنكره كثير من الحكماء القائلين بالأشباح النّوريّة والأجسام المجرّدة الّتى تسمّى عندهم بعالم المثال وهم اتباع صاحب الاشراق ، والمشّاؤن أنكروا المثال النّورىّ فضلا عن الظّلمانىّ وقالوا : انّ الموجود الممكن امّا مجرّد صرف أو مادّىّ صرف وامّا المتقدّر المجرّد عن المادّة فلا وجود له ، وامّا المتكلّمون والفقهاء فليس شأنهم البحث عن أمثال هذا من حيث اشتغالهم بالفقه والكلام فانّ موضوع الفقه افعال العباد من حيث الصّحّة والفساد الشّرعىّ ، وموضوع الكلام العقائد الدّينيّة المأخوذة عن المسلّميّات ، والدّليل على وجود العالمين شهود أهل الشّهود لهذين العالمين ومنامات عامّة الخلق ورؤيتهم في المنام الملذّات والموذيات ومطابقة رؤياهم للواقع في بعض الأوقات ، ولو لا شهودهم لتينك في عالم محقّق مطابق لما في هذا العالم محيط به لما طابق الواقع وخلوّ المثال النّورىّ عمّا يؤذى دليل على المثال الظّلمانىّ ، وتصرّفات أهل الشرّ في هذا العالم مثل تصرّفات أهل الخير شاهد على وجود المثال الظّلمانىّ واحاطته بهذا العالم ، واطّلاع أهل الشّرّ على المغيبات واشرافهم على الخواطر كاطّلاع أهل الخير يشهد بذلك ، وإشارات الكتاب وشواهد السّنّة على وجود هذا العالم كثيرة ، فتح الله عيوننا بها ، ولمّا كانت العوالم تجلّياته تعالى شأنه وأسماؤه اللّطفيّة سابقة على أسمائه القهريّة كان خلق العوالم النّوريّة بأرواحها وأشباحها من تجليّاته اللّطفيّة الخالصة ، ولمّا تمّ تجليّاته النّوريّة الخالصة في عالم المثال النّورىّ تجلّى بأسمائه اللّطفيّة والقهريّة فصار عالم الطّبع موجودا ، ثمّ تجلّى بأسمائه القهريّة بحيث كان اللّطف مقهورا تحت القهر فصار عالم المثال السّفلىّ موجودا ، وبوجه آخر لمّا انتهى تجلّياته تعالى الى عالم الطّبع وقفت وما نفذت عنه لكثافته واظلامه فانعكست تلك التّجليّات كانعكاس الضّوء عن المرآة فصار ذلك العكس مثالا لهذا العالم ، نوريّا صاعدا بإزاء المثال النّورىّ النّازل وحصل من كثافة هذا العالم ظلّ ظلمانىّ تحته فصار مثالا ظلمانيّا وهذا المثال الظّلمانىّ محلّ للّشياطين وأبالستها والجنّة وعفاريتها ، وبهذا العالم يصحّح الجحيم ودركاتها وحميمها وحيّاتها وجميع موذياتها وبه يتمّ الأرض وطبقاتها ، ولا حاجة لنا الى تأويل شيء ممّا ورد في الشّريعة المطهّرة من أمثال ما ورد في المعاد الجسمانىّ والجنّة والشّياطين وغير ذلك كما فعله المشّاؤن والاشراقيّون من الحكماء ، ولا الاكتفاء بمحض التّقليد والسّماع عن صادق من غير تحقيق وتفتيش عن حقيقة ما ورد ، كما قنع به الشّيخ الرّئيس في المعاد الجسمانىّ لإنكاره العالمين ، وكما قنع به المقلّدون

٦

الّذين ليس شأنهم التّفتيش والتّحقيق بل نقول : هذا باب من العلم ينفتح منه الف باب لأهل التّحقيق والبصيرة ، وأهل الله من أهل المكاشفة اكتفوا في بيان هذا الباب بالاشارات من غير كشف حجاب اقتفاء لسنّة السنّة وسيرة الكتاب ولم يأت أحد منهم بما فيه تحقيق وتفصيل اتّباعا لأصحاب الوحي والتّنزيل ، ولأهل العالم السّفلىّ كاهل العالم العلوىّ لتجرّدهم عن المادّة قدرة وتصرّف في أجزاء العناصر والعنصريّات اىّ تصرّف شاؤا ، وللعنصريّات بواسطة مادّتها جهة قبول عنهم من غير إباء وامتناع ، ومن هنا وهم الثّنويّة لمّا كاشف رؤساؤهم هذين العالمين وشاهدوا تصرّف أهلهما في عالم العناصر فقالوا : انّ للعالم مبدئين نورا وظلمة أو يزدان واهريمن ، ومن هنا وهم الزّنادقة من الهنود لمّا كاشف رؤساؤهم العالم السّفلى من الملكوت وشاهدوا تصرّف اهله في عالم العناصر ولم يفرّقوا بين الأرواح الخبيثة والطيّبة ، لانّ للأرواح الخبيثة كالارواح الطيّبة نورانيّة عرضيّة مانعة عن ظهور ظلمتها لمن لا يشاهد الأرواح الطيّبة ، فقالوا انّ طريق الاتّصال بعالم الأرواح متعدّد ، طريق الأنبياء والرّياضة بالأعمال الشّرعيّة وهذا ابعد الطّرق ، وطريق الرّياضة بالمخالفة للشّرائع الإلهيّة وهذا أقرب الطّرق ، فيرون انّ أعظم الأعمال في هذا الباب سفك الدّماء وشربها وخصوصا دم الإنسان والزّنا وخصوصا مع المحارم فيسفكون الدّماء ويجعلونها في الدّنان ويشربون منها ويشربون من يدخلونه في طريقهم منها ويزنون مع النّساء المحصنات في حضور الأزواج ، ويهتكون الكتب السّماويّة بتعليقها في المزابل وغير ذلك من الشنائع وهم صادقون في انّها أعظم الأعمال في الوصول الى الأرواح ، لكنّهم مغالطون بين الأرواح الخبيثة والأرواح الطيّبة ويقصرون الأرواح في الأرواح الخبيثة ولا يدرون انّ الاتّصال بها اصطلاء في النّار ودخول في الجحيم مع الأشرار. وأمثال هذه المغالطات لأصحاب الملل والأديان أيضا كثيرة فيرون أقبح ما يأتونه حسنا عصمنا الله من العمه والعمى وحفظنا من السّفه والرّدىّ. والحاكم في العالم العلوىّ هو العقل الّذى هو حقيقة متحقّقة حقيقته عين التعقّل والإدراك ، والحاكم في العالم السّفلىّ هو إبليس الّذى هو حقيقة متحقّقة حقيقته عين الجهل ، وحديث العقل وجنوده والجهل وجنوده المروىّ عن الصّادق (ع) في الكافي اشارة الى هاتين لا الجهل الّذى هو عدم ملكة لا حقيقة له ، واخبار خلقة الإنسان من امتزاج الطينتين اشارة الى أنموذج العالمين وحيثيّة قبوله لتصرّف الطّرفين فكلّ من عمل سوء فبجهته الظّلمانيّة وحكومة إبليس الّذى هو الجهل وتسخيره ، وكلّ من عمل خيرا فبجهته النّوريّة وحكومة العقل فلا شرّ الّا بالجهل ولا خير الّا بالعقل فقوله تعالى : بجهالة بيان لانّه لا يكون السّوء الّا بجهالة يعنى الّا بتسخّر عامله للجهل لا تقييد لفعل السّوء ، وعن مولينا ومقتدانا ومن هو كالرّوح في أبداننا وعن أنفاسه القدسيّة أوراق أرواحنا جعفر الصّادق (ع) كلّ ذنب عمله العبد وان كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه (الى آخر الحديث) وفي إيراد لفظ السّوء مفردا غير مبالغة والتّقييد بالجهالة إشارات لطيفة الى انّ من له استعداد التّوبة بعدم ابطال الفطرة ، مساويه وان كانت كثيرة فهي قليلة مفردة في جنب ما يمحوها من الفطرة ، وانّها وان كانت بالغة في القبح فهي ضعيفة غير بالغة ، لأنّ مصدرها الجهالة العرضيّة وانّ مصدرها وان كان نفس هذا الإنسان لكن سببها الجهل الّذى هو مغاير لها بخلاف ذلك كلّه من لم يكن له استعداد التّوبة كما يأتى في الآية الآتية (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) اى من غير بعد عن دار العلم ومقامه الاصلىّ بالتمكّن في دار الجهل والتّجوهر به بابطال الفطرة سواء كان مع القرب الزّمانىّ أو مع البعد الزّمانىّ حتّى لا ينافي الاخبار في سعة زمان التّوبة ولا يبقى بين من ذكر في الآيتين واسطة (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) في وضع المظهر موضع المضمر وادائه باسم الاشارة وتقديمه على المسند وتكرار لفظة الله من تفخيم شأنهم وتأكيد

٧

الحكم ما لا يخفى (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) عطف فيه تعليل لانّ اقتضاء حكمته الّتى هي مراقبة الأمور الدّقيقة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه جليلا كان أو حقيرا مع العلم باستعداد العباد واستحقاقهم حين توبة العبد وقربه من داره الاصليّة واستحقاقه للقبول والوصول الى داره قبول توبته (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) بيان وتأكيد لمفهوم الآية الاولى كأنّه تعالى قال : انّما التّوبة لهؤلاء لا لغيرهم ، وفي إيراد السّيّئات بالصّيغة الّتى فيها شوب مبالغة مجموعة محلّاة باللام من غير تقييد بالجهل اشارة الى انّ المسوّفين للتّوبة أبطلوا الفطرة ومن أبطلوا الفطرة صاروا متجوهرين بالجهل فلم يبق ميز واثنينيّة بين الجهل وذواتهم وانّ مساويهم لتجوهرهم بالجهل وان كانت قليلة القبح فهي بالغة في القبح ، وانّهم عاملون لجميع السّيّئات لتجوهرهم بالجهل الّذى هو مصدر الجميع ، وكلّ من تجوهر بالجهل كلّ ما عمل فهو سيّئة فكأنّه قال : ليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات جميعها (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) يعنى عاين الموت كما في الاخبار (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وفي هذه الآية من التّحقير والتّأكيد ما لا يخفى وهذه الآية كأنّها معترضة بين آيات الآداب لاستطراد ذكر التّوبة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) كانوا في الجاهليّة يرثون نكاح أزواج مورّثهم بالصّداق الّذى أصدقه المورّث فنهوا عنه (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) لا تمنعوهنّ عن النّكاح ضرارا (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) كما هو شائع في زماننا هذا (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ما يؤدّى الى الشّقاق مع الأزواج فانّه يحلّ لهم حينئذ الافتداء من المهر وغيره وخلعهنّ (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) حسن العشرة بما يستحسنه العقل والشّرع ممدوح مع كلّ أحد خصوصا مع من كان تحت اليد ولا سيّما الحرّة الّتى صارت مملوكة لك بسبب المهر (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) قيل كان الرّجل إذا أراد جديدة بهّت الّتى تحته ليفتدي منها ويصرفه في الجديدة فمنعوا منه (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ) مائه (إِلى بَعْضٍ) واستحلّ رحمه بما أعطاه (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) هو الكلمة الّتى جعلها الله ميثاقا اكيدا بين الأزواج ورتّب عليها احكاما كثيرة غليظة هي الأحكام الّتى للزّوج على الزّوجة وللزّوجة على الزّوج (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وان علوا فتستحقّوا عليه العقوبة (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فانّه لا عقوبة عليه وذكر من النّساء بيان لا تقييد (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) لانّ ذوي مروّاتهم كانوا يسمّونه نكاح المقت والولد منه المقتىّ (وَساءَ سَبِيلاً) فانّه سبيل أهل الجهل ويؤدّى الى النّار في العاقبة ولم يجعلها الله تعالى في عداد المحرّمات الآتية فانّه حيث قال : وحلائل أبنائكم ينبغي ان يقول وخلائل آبائكم لانّ نكاح سائر المحرّمات لم يكن شائعا بينهم كشيوعه فكان توكيد تحريمه وافراده بالّذكر مطلوبا لشيوعه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) اى نكاحهنّ بقرينة الحال والمقام (وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ

٨

الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) تعميم الامّهات للجدّات والبنات للاحفاد ممّا يفيده ظاهر اللّفظ ولا خلاف بين الفريقين في حرمتهما وان علون ونزلن وكذا العمّات والخالات وان علون وهذا بيان المحرّمات بالنّسب والملاك هو انّ اصولك وفروعك تماما واوّل فرع من اصولك والفروع الّتى نشأت من اوّل اصولك محرّمة بالنّسب والمحرّمات بالسّبب امّا بالرّضاع وامّا بالمصاهرة وامّا بالمانع فبيّنها تعالى شأنه بقوله تعالى (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) بيان المحرّمات بالرّضاع مجملة بيّنها لنا أهل الكتاب (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) شروع في بيان المحرّمات بالمصاهرة.

اعلم انّ الأحكام تابعة للعنوانات والعنوانات لمصاديقها العرفيّة فكلّ من صدق عليها عرفا انّها امرأة فلان فامّها محرّمة عليه ، ومن لم يصدق عليها عرفا انّها امرأة فلان فظاهر الآية انّ أمّها لا تكون محرّمة النّكاح ولا محلّلة النّظر للرّجل ، وصدق هذه الاضافة امّا بان يكون للمرء يد عليها بعد العقد المحلّل أو خلطة وخدمة من الطّرفين أو تمتّع أو مجامعة أو غير ذلك من أسباب صدق هذه الاضافة ، امّا بمحض العقد متعة ففي صدق تلك الاضافة إشكال إذا كانت المعقودة صغيرة غير قابلة للاستتماع ، وحمل ما ورد في الاخبار من الاحتياج الى الدّخول مع منافاتها لظاهر الآية على ما ذكرنا من تصحيح صدق هذه النّسبة اولى من حملها على التّقيّة حتّى يلزم منه تحريم الفرج الحلال وتحليل النّظر الحرام كأنّهم (ع) قالوا : لا بدّ في التّحريم من صدق هذه النّسبة ، والدّخول أحد أسباب هذا الصّدق فما شاع عندهم من تمتيع الصّغائر لتحليل النّظر الى الامّهات فيه إشكال عظيم والاحتياط هو طريق السّداد وهو ان يجتنب من النّظر الى غير المواضع المستثناة من امّ المعقودة الصّغيرة وان يجتنب من تحليل بعضها أيضا أو لا يحوم حول مثل هذه الشّبهات.

تحقيق حرمة منظورة الأب والابن على الآخر

(وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ذكر في حجور كم لبيان علّة الحرمة لا انّه تقييد (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) تقييد للنّساء ولذا لم يكتف به وبيّن مفهومه فقال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وان نزلوا لا الّذين سمّاهم النّاس أبناءكم ، وحليلة الرّجل تصدق على المرأة بمحض العقد المحلّل وامّا ملك اليمين فهي وان كانت محلّلة بمحض عقد الملك لكنّها لا تحرم بمحض هذا العقد من الابن أو الأب على الآخر ، لانّ عقد الملك قد يقع لمحض الخدمة وقد يقع لمحض التمتّع وقد يقع لهما فاذا وقع عقد الملك فان ظهر أمارات التّمتّع في هذا العقد من لمس وتقبيل ونظر بشهوة فهو بمنزلة عقد النّكاح يحرّم مملوكة الابن على الأب وبالعكس ، وان لم يظهر تلك الأمارات فهي كسائر المملوكات وله التّصرّف فيها باىّ نحو شاء ولا تصير محرّمة كحرمة المصاهرة فمنظورة الأب وملموسته بشهوة ان كانت مملوكة له فهي محرّمة على الابن وبالعكس ، وامّا الحرّة فإلحاقها بالمملوكة قياس مع الفارق وليس عليها نصّ منهم عليهم‌السلام (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فانّه لا عقوبة عليكم فيما مضى وكان بجهالة منكم وهذا شروع في بيان المانع (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر ما يقع عن جهل (رَحِيماً) لا يؤاخذ من لا يعمّد في مخالفته.

٩

الجزء الخامس

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) لكون بضعهنّ مملوكا للغير (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) كالمسبيّات اللّاتي لهنّ أزواج كفّار فانهنّ محلّلة وكالاماء اللّاتي تحت العبيد فانّ أمرهم بالاعتزال وكذا بيعهنّ بمنزلة الطّلاق (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) اى كتب الله تلك الأحكام كتابا عليكم (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) هذا أيضا مجمل بيّنه لنا اهله فانّ سائر المحرّمات بالرّضاع والجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها بغير إذنهما غير مذكورة في الآية السّابقة وغير محلّلة (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) حافظين لأنفسكم بالنّكاح الشّرعىّ غير زانين (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) اى فالنّساء اللّاتي استمتعتم بهنّ من جملة النّساء فآتوهنّ اجورهنّ أو فالمال الّذى استمتعتم به من النّساء فاتوه ايّاهنّ ، ووضع الأجور على هذا موضع الضّمير وفي لفظ الاستمتاع وذكر الأجور وذكر الأجل على قراءة الى أجل دلالة واضحة على تحليل المتعة (فَرِيضَةً) فرضت فريضة أو حالكونها مفروضة عليكم بالعقد (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ) من إعطاء الزّيادة على الفريضة أو استقاطهنّ شيئا من الفريضة (مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) وفيه اشعار بكون الأجر من أركان عقد التّمتّع كما عليه من قال به ، وروى عن الباقر (ع) لا بأس بان تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما تقول : استحللتك بأجل آخر برضى منهما ولا تحلّ لغيرك حتّى تنقضي عدّتها وعدّتها حيضتان (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فحلّل المتعة عن علم ولغايات منوطة بالمصالح والحكم (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) فانّ في نكاحهنّ تكاليف شاقّة من النّفقة والكسوة والمسكن والقسامة «ف» لينكح (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فاكتفوا بظاهر الايمان فانّ الله هو العالم بالسّرائر فربّ امة كانت أفضل في الايمان من الحرّة والامة بحسب المعاش اخفّ عليكم (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) في النّسبة الى آدم (ع) والى الإسلام (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) فانّه بدون الاذن زنا (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ) عفايف (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) زانيات (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) اخلّاء في السّرّ (فَإِذا أُحْصِنَ) بالتّزويج (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) زنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) يعنى انّ العبيد والإماء يضربون نصف الحدّ فان عادوا الى ثماني مرّات هكذا يحدّون وفي الثّامنة يقتلون ، وعن الصّادق (ع) انّما صار يقتل في الثّامنة لانّ الله رحمه ان يجمع عليه ربق الرّقّ وحدّ الحرّ ، وعن الباقر (ع) في امة تزني قال تجلد نصف حدّ الحرّ كان لها زوج أو لم يكن لها زوج ، وفي رواية لا ترجم ولا تنفى (ذلِكَ) اى ترخيص نكاح الإماء (لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) اى التّعب والأذى من العزوبة (وَأَنْ تَصْبِرُوا) عن نكاح الإماء بالتّعفّف (خَيْرٌ لَكُمْ) لانّهنّ في الأغلب غير اصيلة غليظة الطّبع والمضاجعة معهنّ مؤثّرة فتؤثّر في نفوسكم وامزجتكم وأولادهنّ يصيرون مثلهنّ ولا ينبغي لنطفكم ان تقع في ارحامهنّ فيتولّد لكم منهنّ ما لا يليق بكم (وَاللهُ غَفُورٌ) للسّوءة اللّازمة من نكاحهنّ (رَحِيمٌ)

١٠

بالتّرخيص لكم في نكاحهنّ حين العنت وترجيح التّعفّف عنهنّ مهما أمكن حتّى لا يرد عليكم من مضاجعتهنّ سوءة (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ما هو صلاحكم في معاشكم ومعادكم بتلك الأحكام من تحريم المحرّمات وتحليل المحلّلات وتسنين الاستمتاع بالنّساء والتّرخيص في المكروهات من نكاح الإماء وقت مساس الحاجة والتّعفّف عنهنّ مهما أمكن (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأنبياء لتقتدوابهم (وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) بخروجكم عن مشتهى أنفسكم ودخولكم تحت امره بامتثال أوامره ونواهيه (وَاللهُ عَلِيمٌ) فيعلم ما هو أصلح بحالكم (حَكِيمٌ) فلا يأمركم بما ليس فيه صلاحكم (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) كرّره تأكيدا وتصويرا للمقابلة ترغيبا في اتّباع أوامره واجتناب مخالفتها (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ) كمن يمنع عن الاستمتاع بالنّساء (أَنْ تَمِيلُوا) عن الطّريق المؤدّى الى نجاتكم (مَيْلاً عَظِيماً) فهو حقيق بالاتّباع وهو احقّاء بالاجتناب (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) بتشريع المتعة وترخيص نكاح الإماء حتّى لا يثقل عليكم العزوبة ، وفي الآية تعريض بمن يمنع عن المتعة وانّه من الّذين يتّبعون الشّهوات ويريد إخراجكم من سنن الأنبياء وان يثقل عليكم العزوبة حتّى تدخلوا في الزّنا (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) فلا يمكنه مقاومة الشّهوة والصّبر عنها حتّى يدخل فيما يضرّه من الزّنا ولذا رخّص له المتعة ونكاح الإماء وقت خوف العنت ورجّح له التّعفّف عن الإماء مع الإمكان حتّى لا يجانسهنّ بالمضاجعة لضعفه.

تحقيق تعميم الاكل والبطلان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) تأديب في الأموال والأنفس.

اعلم انّ الألفاظ كما سبق موضوعة للحقائق باعتبار عناوينها المرسلة من غير اعتبار خصوصيّة من خصوصيّات المصاديق فيها كلّيّة كانت أم جزئيّة ، فانّ لفظة زيد مثلا موضوعة للذّات المخصوصة من غير اعتبار حالة وخصوصيّة من حالاتها وخصوصيّاتها ، فانّه في حال الصّبا زيد وفي حال الشّيخوخة أيضا زيد وكذا بحسب تجسّمه وتجرّده فانّه في حالكونه مع المادّة زيد وفي حالكونه فارغا من المادّة زيد متقدّرا زيد ومجرّدا عن التقدّر زيد ، فلا شيء من خصوصيّات الأحوال ولا من خصوصيّات النّشئات معتبرا في وضعه ولا في إطلاقه ، واستغراب من لا يتجاوز إدراكه عن عوالم الحسّ وحصرهم المفاهيم على المصاديق الحسيّة حجّة لهم لا لنا ، فانّهم بحسب نشأتهم لا يدركون مصاديق سائر النّشئات فلا يمكنهم تعميم المفاهيم وفي الاخبار نصوص وإشارات الى ما ذكرنا ، بصّرنا الله تعالى بها. فالأكل غير معتبر فيه خصوصيّات الاكل الحيوانىّ من إدخال شيء في الفم الحسّىّ ومضغه بالأسنان وبلعه وإدخاله في البطن ولا خصوصيّات الاكل ولا خصوصيّات المأكول ولا خصوصيّات شيء من النّشئات فهو اسم لفعل ما به قوام الفاعل وقوّته وازدياده باىّ نحو كان وفي اىّ نشأة وقع فلعب الأطفال أكل لهم بحسب أكل هو الخيال الحيوانىّ اللّعبى ، وتجارة التّجار وزراعة الزرّاع ونكاح النّكّاح أكل لهم بحسب قوّة من قواهم بل فعل كلّ فاعل في اىّ نشأة كان أكل له ، والمال اسم للمملوك فكلّما كان الملك فيه أقوى كان بصدق اسم المال اولى ، فالاعراض الدّنيويّة الّتى لا حيثيّة مملوكيّة لها الّا ما اعتبره الشّارع أو ما اعتبره العرف حيث يعدّون ما تحت يد الرّجل ماله ومملوكه مال والقوى النّفسانيّة الّتى تحت تصرّف النّفس ولا حيثيّة لها الّا حيثيّة المملوكيّة للنّفس اولى بصدق المال ، وكذا العلوم والصّنائع الّتى

١١

صارت ملكة أو غير ملكة لكن كانت ثابتة في خزانة العقل مال ، والخطاب في بينكم لجماعة الّذكور سواء كانوا في العالم الكبير أو في العالم الصّغير الانسانىّ في نشأة الطّبع أو في غيرها والنّساء مرادة أيضا تغليبا ، والباطل يقال لفعل لا غاية له أو لا غاية عقلانيّة أو عرفيّة له ، ولفعل لم يصل الى غايته ، ولسنّة وطريقة لم تبتن على أساس مستحكم ، ولسنّة لم تبتن على أساس الهىّ ، ويقال لما لا حقيقة له أصلا كالاعدام ، ولما لا حقيقة له في نفس الأمر كالسّراب ، ولما لا تحقّق له بالذّات بل بالعرض كالماهيّات ، ولما لا تحقّق له بنفسه بل بالعلّة كالوجودات الامكانيّة ، ولما اختفى تحقّقه بحيث يكون الغالب عليه الاعدام كالملكوت السّفلى فانّها باطلة لغلبة الاعدام عليها وان كان يصدق عليها أيضا بسائر معانيه ، فالآية الشّريفة بحسب مصاديقها لها وجوه عديدة بعضها فوق بعض : فاوّل مصاديقها ما هو أقرب الى فهم العوام من الاكل المعروف بالمضغ والبلع ومعناها لا تأكلوا بالمضغ اعراضكم الدّنيويّة بينكم بالطّريق الباطل الّذى لم يسنّه الشّارع ولم يبحه ، أو بالمبدء الباطل الّذى هو النّفس والشّيطان فانّ الحاكم والمحرّك للفعل امّا النّفس والشّيطان أو العقل والرّحمن وقد علمت انّ الشّيطان باطل لغلبة الاعدام عليه ، وثانيها لا تصرفوا أموالكم الدّنيويّة بينكم بالباطل بمعنييه وهو أيضا قريب من فهم العامّة ، وثالثها لا تفعلوا أفعالكم بينكم بالباطل بمعنييه ، ورابعها لا تفعلوا أفعالكم التّكليفيّة القالبيّة النّبويّة بالمبدء الباطل أو بالغرض الباطل ، وخامسها لا تفعلوا أفعالكم التّكليفيّة القلبيّة الولويّة بينكم بالباطل بمعنييه ، وسادسها لا تصرفوا قواكم بينكم بالباطل ، وسابعها لا تصرفوا ولا تأخذوا علومكم ، وثامنها لا تصرفوا مدد حيوتكم ومادّة حيوتكم ، وتاسعها لا تأخذوا مشاهداتكم ومشهوداتكم (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) بما سبق يمكن التّعميم (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) امّا مربوط بالمعطوف عليه لانّ صرف الأموال من غير معيار مورث لقتل الأنفس والنّهى عنه كالعلّة للنّهى عنه أو حكم مستقلّ وتعميمه لا يخفى (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) علّة لنهيه تعالى عن صرف الأموال بالباطل وقتل الأنفس فانّ رحمته داعية الى هذا النّهى كسائر التّكاليف (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الصّرف والقتل (عُدْواناً) لعدوان أو فعل عدوان أو عدى عدوانا أو حالكونه عاديا أو يفعل عدوانه ذلك على ان يكون تميزا يعنى من يفعل ذلك عن عمد وتجاوز عن حدود الله أو عن عداوة من نفسه (وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) كأنّه قيل : وايّنا يخلو من صرف المال بالباطل خصوصا على ما فسّر؟ ـ فقال : تسلية وتطييبا ان تجتنبوا (الى آخر الآية) وقد اختلف الاخبار والأقوال في بيان الكبيرة ففي بعض هي سبع وفي بعض أكثر مع اختلاف في بيان أنواعها فلا بدّ من ميزان به يوزن الأعمال ويجمع بين الاخبار والأقوال.

تحقيق الكبير والصّغير

فنقول : الأفعال من حيث انّها حركات وسكنات لا توصف بالحسن والقبح لاشتراكها في تلك الحيثيّة ولا من حيث نسبتها الى الإنسان لاشتراكها فيها أيضا ، ولا من حيث أنواعها المخصوصة كالصّوم والصّلوة والجهاد والقتل والنّهب والفساد لاتّصافها بالحسن تارة والقبح اخرى ، بل الحسن والقبح يلحقان الأعمال من حيث نسبتها الى العقل والجهل فكلّ عمل يصدر عن الإنسان بحكومة العقل وطاعته خصوصا عقل الأنبياء والأولياء الّذين هم العقول الكلّيّة المحيطة في اىّ صورة كان العمل فهو حسنة وبحسب درجات الطّاعة وقبول الحكومة بالشّدّة والضّعف تتفاوت درجات الحسنة بالشّدّة والضّعف والصّغر والكبر ، وكلّما صدر عن حكومة الجهل وطاعته خصوصا الجهل الكلّى الّذى هو

١٢

الشّيطان فهو سيّئة في اىّ صورة كان وبحسب تفاوت درجات الطّاعة وقبول الحكومة تتفاوت درجات السّيّئة بالشّدّة والضّعف والصّغر والكبر ، فمن أراد طاعة الله ومتابعة أوامره فكلّما صدر عنه بحسب هذه الارادة فهو حسنة لكنّها ضعيفة وإذا علم انّ أوامر العقل الّتى هي أوامر الله لا تتميّز عنده عن أوامر الجهل الّتى هي أوامر الشّيطان بل لا بدّ من بصير نقّاد وذي قلب وقّاد اتّصل بالعقل وأخذ من الله حتّى يبيّن له أوامر العقل من أوامر الشّيطان وذلك النّقّاد هو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) وعزم على الوصول اليه والأخذ منه ، فكلّما صدر عنه بحسب هذا العزم فهو حسنة أقوى من الاولى فاذا اتّصل بهذا العالم وعاهد معه وبايع على يده وانقاد له وأخذ الأحكام القالبيّة منه وهذا الأخذ والبيعة هو الإسلام فكلّما صدر عنه بحسب هذا الانقياد وهذا الأخذ فهو حسنة أقوى من سابقتها. وإذا علم انّ الإسلام واحكام القالب قوالب لأحكام الباطن ولا يمكن له الوصول الى حضرة العقل الّا من طريق الباطن ولا يمكن السّلوك من طريق الباطن الى تلك الحضرة الّا برفع المانع منه وارتكاب الباعث عليه وعلم انّه لا يمكنه معرفة المانع والباعث الّا بالأخذ من بصير حكيم وعزم على الوصول اليه والأخذ منه ففعله من جهة هذا العزم حسنة أقوى ، وإذا وصل الى هذا الحكيم وبايع معه على قبول احكام الباطن وأخذ احكام الباطن منه وذلك الأخذ والبيعة هو الايمان صار مؤمنا وصار أفعاله من هذه الجهة حسنات أقوى ممّا قبلها ، وللايمان بعد ذلك درجات حتّى وصل الى العقل وتحقّق به وحينئذ يصير أصل الحسنات وفرعها واوّلها وآخرها ؛ ان ذكر الخير كنتم أصله وفرعه واوّله وآخره ، وبالعكس من ذلك من تحقّق بالجهل فهو أصل السّيّئة وفرعها واوّلها وآخرها ومن تحقّق من افراد البشر بالجهل كان أقوى في السّوء من الجهل نفسه كما انّ المتحقّق بالعقل أقوى من العقل ، ولذا كان علىّ (ع) مقدّما على العقل وجبريل وعدوّه مقدّما على الشّيطان وكلّ ذي سوء حتّى يحمل عليه معصية كلّ ذي معصية ، ومن تمكّن في طاعة الجهل بحيث لم يبق عليه اثر من طاعة العقل فكلّما فعل فهو معصية كبيرة ومن لم يتمكّن في طاعة الجهل بل بقي عليه اثر من طاعة العقل أو ارادة طاعة العقل فما فعل من جهة طاعة الجهل فهو سيّئة مغفورة ان شاء الله ، ومن غلب عليه طاعة العقل أو ارادة طاعة العقل ويطرء عليه طاعة الجهل حينا فما فعل من جهة طريان طاعة الجهل فهو لمّة ممحوّة ان شاء الله ، وبين المراتب المذكورة في الحسنات والسّيّئات درجات غير محصورة بحسب الشّدّة والضّعف والمذكورة أمّهاتها ، هذا بحسب نسبة الحسنة والسيّئة الى الفاعل ؛ وبهذا الاعتبار يصير شرب دعبل صغيرة وصلوة النّاصبين كبيرة ولذلك ورد : لا صغيرة مع الإصرار ، اى مع التّمكّن في طاعة الجهل بحيث كلّما تمكّن من تلك المعصية وقع فيها : ولا كبيرة مع الاستغفار ، اى مع بقاء طاعة العقل بحيث يحمله على الاستغفار وقد تعتبر النّسبة بين أنواع الحسنات والسّيّئات مع قطع النّظر عن الفاعل أو مع اعتبارها الى فاعل واحد من جهة واحدة فيعدّ بعضها أحسن من بعض في الحسنات وبعضها اغلظ من بعض في السّيّئات ؛ كالوطى الحرام إذا اعتبر من فاعل واحد فانّه مع المحصنة والّذكران اغلظ من الوطي مع غير المحصنة ، والوطي مع امرأة غير محصنة اغلظ من الوطي مع البهائم ، والوطي الحرام اغلظ من النّظر الحرام ، فمعنى الآية ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه باجتناب التّمكّن في طاعة الجهل نكفّر عنكم سيّئاتكم الّتى تصدر عنكم بطاعة الجهل ونمحو لمّاتكم الّتى تعرض عليكم (وَ) بعد تكفير اثر الجهل الّذى يمنعكم من الدّخول في دار كرامتي ومحوه (نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) إدخالا أو مكانا كريما (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) التّمنّى طلب امر محال أو طلب شيء من غير تهيّة أسباب وصوله ويجوز ان يراد كلّ من المعنيين والمراد بما فضّل الله امّا النّعم الصّورية من سعة العيش والأمن والصحّة والقوّة والعظمة في الجسم

١٣

والجاه والمسكن والزّوج والقوى والجوارح وغيرها أو النّعم الباطنة من الأخلاق والعلم والحكمة وحسن التّدبير والالفة والزّهد والطّاعة وغيرها ، والتّعبير عن النّعم بما فضّل الله للاشارة الى علّة النّهى عن التمنّى والأمر بالسّؤال من فضله ولمّا كان النّهى واردا على التمنّى اى الطّلب من دون حصول الأسباب مقيّدا بكون المطلوب النّعم المتفضّل بها الله على البعض كان المراد النّهى عن كلّ من التمنّى وقيده كأنّه قال : لا تطلبوا شيئا بدون أسباب حصوله لانّه (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) فتوسّلوا بالأسباب ولا تطلبوا نعم بعضكم لانّها من فضل الله عليه فتوجّهوا الى الله (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) فاشار الى علّة النهيين ومفهوم مخالفتهما مع إيجاز ، والسّؤال امّا بلسان القال ولا اعتداد به فانّ الاجابة والإفضال بقدر الاستعداد ، أو بلسان الاستعداد والحال سواء كان مقترنا بلسان القال أو لم يكن فانّه لا يخفى على الله قدر الاستعداد وخفايا الاستحقاق (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فكيف يخفى عليه قدر استحقاقكم ولمّا أشار في هذه الآية الى توقّف الإفضال على الاستعداد والاستحقاق بالكسب وتوجّه ان يقال انّ الله تعالى قد يتفضّل على عباده بمال مورّثهم ولا استعداد بالكسب لهم هنا أشار تعالى الى الاستعداد والكسب هناك أيضا فانّ الاستعداد والكسب اعمّ من ان يكونا بالاختيار أو بالتّكوين فانّ التّوارث لا يكون الّا بين متناسبين بالنّسبة الجسمانيّة وبهذه النّسبة يكتسب كلّ من المتوارثين كيفيّة من الآخر وسنخيّة له بها يستحقّ إفضال الله بمال أحدهما على الآخر وأيضا كلّ منهما لحمة من الآخر أو كاللّحمة فكسب أحدهما اختيارا كأنّه كسب الآخر أو بين متناسبين بالنّسبة الكسبيّة الاختياريّة كعقد الملك في مولى المعتق وعقد ضمان الجريرة في ضامن الجريرة وعقد الإسلام والايمان في النّبىّ (ص) أو الامام (ع) فقال (وَ) ليس للرّجال والنّساء ان يرثهم كلّ أحد منتسبا أو غير منتسب بل (لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) مخصوصة في الإرث اى أقارب مخصوصة أو ذوي نسب مخصوصة نتفضّل عليهم باستحقاق نسبة القرابة أو نسبة العقد يرثون (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) عقد الملك أو عقد ضمان الجريرة أو عقد الإسلام والايمان يعنى إذا لم يكن قريب نسبىّ فالمولى المعتق بالتّفصيل الّذى ذكر في الفقه ، فان لم يوجد فضامن الجريرة ، فان لم يوجد فالنّبىّ (ص) أو الامام (ع) ، وعلى ما بيّناه فلا حاجة الى القول بالنّسخ في الآية كما قيل انّه كان الرّجل يعاقد الرّجل بنحو عقد ضمان الجريرة فيكون للحليف السّدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم اولى ببعض (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) المقرّر فانّ لهم استحقاقا وكسبا (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) فيشهد دقائق الاستحقاق بحسب النّسب وأتى هنا بشهيدا وهناك بعليما لدقّة الكيفيّة الحاصلة من النّسب كأنّها لا يمكن تمييزها الّا بالمشاهدة فانّ العلم في الأغلب يستعمل في كلّيّات الأمور وفي العلم الحصولىّ والشّهود في جزئيّات الأمور والعلم الحضورىّ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) قائمون عليهنّ قيام الولاة على رعيّتهم مراقبون احوالهنّ مقيمون اعوجاجهنّ كأنّ المنظور كان بيان وجه استحقاق التّوارث بينهما فانّه وان كان مستفادا من ذكر عقد الايمان لكن لظهور عقد الايمان في الثّلاثة السّابقة كان يمكن اختفاء هذا ثمّ اتبعه ببيان آداب المعاشرة بين الأزواج (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) بتفضيله الرّجال في الجثّة والقوّة والإدراك وحسن التّدبير وكمال العقل (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) يعنى لهم فضيلة ذاتيّة وفضيلة عرضيّة بكلّ يستحقّون التّفضيل والتّسلّط فعليهم مراقبتهنّ

١٤

وسدّ فاقتهنّ وقضاء حاجتهنّ وعليهنّ الانقياد وقبول نصحهم وحفظ غيبهم (فَالصَّالِحاتُ) منهنّ لا يخرجن ممّا هو شأنهنّ وحكمهنّ بل هنّ (قانِتاتٌ حافِظاتٌ) لانفسهنّ واموال أزواجهنّ (لِلْغَيْبِ) اى في غيبهنّ عن الأزواج أو غيب الأزواج عنهنّ على ان يكون اللّام بمعنى في أو حافظات للأشياء الغائبة عن نظر أزواجهنّ من أموالهم وانفسهنّ (بِما حَفِظَ اللهُ) نسب الحفظ هنا والتّفضيل هناك الى نفسه اشارة الى انّ كلّ من اتّصف بصفة كمال انّما هو من الله لا من نفسه (وَ) امّا غير الصّالحات (اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) خروجهنّ عن طاعتكم فآداب المعاشرة معهنّ مداراة بالنّصح وان لم يكففن فبالمهاجرة قليلا بحيث لا تنافي قسامتهنّ فان لم تنجع فيضربهنّ بحيث لم يقطع لحما ولم يكسر عظما (فَعِظُوهُنَ) بالقول (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) بالاستدبار عنهنّ (وَاضْرِبُوهُنَ) فبين الإفراد ترتيب (فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالإيذاء والتّحكّم بما لم يرخّصه الشّارع (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) فلا تغفلوا في اعلائكم على النّساء عن علوّ الله عليكم فيورثكم الغفلة التّعدّى عليهنّ (وَإِنْ خِفْتُمْ) يا أولياء الزّوجين أو ايّها الحكّام (شِقاقَ بَيْنِهِما) اى الاختلاف والنّزاع فانّ كلّا من المتنازعين في شقّ غير شقّ الآخر «ف» أصلحوا بينهما فانّه من لوازم الايمان والقرابة والحكومة ولا تكلوهما الى أنفسهما ف (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) يكونان بحسب القرابة شفيقين لهما مريدين للإصلاح ويكون ارادتهما للإصلاح مؤثّرة فيهما فانّه كما يكون امزجة الأقرباء متناسبة في الصّحّة والمرض سريعة التّأثّر من أحوالهم في الأغلب كذلك يكون نفوسهم متناسبة في الأغلب سريعة التّأثّر فالحكمان من الأقرباء (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) بينهما يؤثّر ارادتهما في نفوس الزّوجين ويستعدّان بذلك التأثّر لافاضة التّوافق من الله بينهما وان يستعدّا لذلك (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بما به يستعدّان للتّوافق فيأمركم به (خَبِيراً) بكيفيّة التّوافق وهو أهل خبرة الإصلاح (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) لمّا أراد أن يبيّن آداب حسن النّسبة مع الاحقّاء ببذل المحبّة وحسن الصّحبة قدّم نفسه لانّه احقّ الاحقّاء بحسن النّسبة وبذل الخدمة وبيّن طريق حسن النّسبة معه بإخلاص العبوديّة ونفى الشّركة في العبوديّة لانحصاره فيهما وأطلق طريق حسن النّسبة مع غيره لعدم انحصاره في امر مخصوص ورتّب المستحقّين للخدمة بحسب ترتّبهم في الاستحقاق ولتعميم الوالدين للرّوحانيّين واستحقاقهما التّفرّد في النّظر وعدم الإشراك بهما ولذلك فسّر الكفر والشّرك في الآيات في تفاسير المعصومين (ع) بالكفر والإشراك بعلىّ (ع) أو بالولاية قرنهما بنفسه ، وأسقط الفعل وأخّر المصدر ليوهم انّ قوله بالوالدين عطف على الجارّ والمجرور وانّ المعنى (وَ) لا تشركوا (بِالْوالِدَيْنِ) أحسنوا (إِحْساناً) بهما (وَبِذِي الْقُرْبى).

تحقيق الوالدين وسائر الأقرباء وتعميمهم

والوالدان هما اللّذان باعدادهما وحركاتهما المخصوصة أو جد الله نطفتك وأصل مادّتك وهذه السّببيّة كلّما كانت في شيء أقوى كان باسم الوالد أحرى وان كان العامّة العمياء يخصّون هذا الاسم بالمعدّ لنطفتك الجسمانيّة غافلين عن كيفيّة تولّدك الرّوحانىّ فالأفلاك والعناصر آباء للمواليد ، والعقل والنّفس الكليّان والدان لعالم الطّبع ، إذ بإلقاء الأفلاك بحركاتها الدوريّة وكواكبها الّتى هي كالقوى الانسانيّة الآثار على العناصر وقبول العناصر لها كتأثّر

١٥

النّساء عن الرّجال وقبول ارحامهنّ لنطفهم يتولّد المواليد وتنمو وتبقى وهي في بقائها ونمائها أيضا محتاجة الى تلك الآباء بخلاف حاجة الحيوان الى آبائها الجسمانيّة فانّها بعد حصول مادّتها وحصول قوام ما لمادّتها مدّة كونها في الرّحم غير محتاجة الى آبائها ، وبإلقاء العقل الكلّىّ نقوش العالم على لوح النّفس الكلّيّة الّتى هي كالبذور يوجد عالم الطّبع وعالم الطّبع في بقائه محتاج الى ذينك الوالدين ، هذا في العالم الكبير وامّا في العالم الصّغير الانسانىّ فبعد تسويته يوجد آدم الصّغير وحوّاء الصّغرى بازدواج العقل والنّفس وبازدواجهما يولد بنو آدم وذرّيّتهما ، وبازدواج الشّيطان والنّفس الامّارة يولد بنو الجانّ وذرّيّة الشّيطان ؛ هذا بحسب التّكوين في العالمين ، وامّا بحسب الاختيار والتّكليف وهو مختصّ بالإنسان الضّعيف فقد جرت السّنّة الإلهيّة ان يكون توليد المواليد الاختياريّة من القلب ومراتبه وجنوده الخلقيّة والعلميّة والعيانيّة بتعاضد نفسين مأذونتين من الله وايصالهما اثر الأمر الإلهيّ الى المكلّف بتعاضدهما لتطابق التّكليف والتّكوين فانّ الأوامر التّكليفيّة متسبّبة عن الأوامر التّكوينيّة وموافقة لها ، وان لم ندرك في بعضها كيفيّة التّوافق لعدم العلم بالتّكوين وتلك السّنّة كانت جارية من لدن آدم (ع) الى زماننا هذا وتكون باقيّة الى انقراض العالم ، وان لم يبق لها اثر ولا بين العامّة منها ذكر ولا خبر. فانّ صحّة الإسلام في الصّدر ودخول الايمان في القلب ما كان الّا بتعاضد شخصين يكون أحدهما مظهرا للعقل الكلّىّ والآخر مظهرا للنّفس الكلّيّة وأخذ هما البيعة العامّة النّبويّة أو البيعة الخاصّة الولويّة بالكيفيّة المخصوصة والميثاق المخصوص : انا وعلىّ (ع) أبوا هذه الامّة يهديك ؛ كلّ نفس معها سائق وشهيد يشهد لك ، (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) يكفيك فمحمّد (ص) وعلىّ (ع) مظهرا العقل والنّفس الكلّيّين وبالبيعة على أيديهما يتولّد جنود العقل الاختياريّة ، واعداؤهما مظاهر الجهل والنّفس الامّارة الكلّيّين وبالبيعة على أيديهم يتولّد جنود الجهل الاختياريّة ، وقد فسّر المعصومون (ع) الوالدين في القرآن بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وفسّروا ان جاهداك على ان تشرك بى ما ليس لك به علم بالجبت والطّاغوت ، ويسمّى الصّوفيّة مظهر العقل بالمرشد ومظهر النّفس بالدّليل وبلسان الفرس «پير إرشاد وپير دليل» وبحسب تفاوت مظهريّتهما وتصرّفهما يكون أحدهما مظهرا لاسم الله أو الرّحيم والآخر مظهرا لاسم الرّحمن وباعتبار هذه المظهريّة والاثنينيّة قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) فانّ التّخيير والتّرديد ليس باعتبار اللّفظين فانّهما آلتا الدّعوة وليسا مدعوّين ولا مفهومى اللّفظين فانّهما أيضا عنوانا المدعوّين والمدعوّ لا محالة امر حقيقىّ لا امر ذهنىّ ، والذّات الاحديّة الّتى هي مصداق ذينك اللّفظين لا تكثّر فيه فلا بدّ وان يكون المدعوّ أمرين يكونان مظهرين لمفهومى هذين الاسمين حتّى يصحّ هذا التّرديد لا يقال : المراد ادعوا الذّات الاحديّة بلفظ الله أو بلفظ الرّحمن لانّه يقال : ظاهر اللّفظ غير هذا والحذف والإيصال في مثل هذا شاذّ ينافي الفصاحة وتكرار ادعوا ينافيه وجعل ادعوا بمعنى سمّوا أيضا بعيد ، فالمراد ادعوا مظهر اسم الله أو ادعوا مظهر اسم الرّحمن ، والدّعوة هي طلب المدعوّ للورود على الدّاعى والحضور عنده امّا لانّ المطلوب منه حضور ذاته عنده أو أمر غير ذاته يحصل من حضور ذاته وليس معناها مسئلة شيء من المدعوّ حاضرا كان أم غائبا وبهذا وأمثاله استشهد الصّوفيّة على انّ المطلوب من دعاء الله أو دعاء مظاهره هو حضور المدعوّ عند الدّاعى ويسمّونه حضورا وفكرا.

تحقيق تمثّل صورة الشّيخ عند السّالك

وبعضهم يقولون : لا بدّ ان يجعل السّالك صورة الشّيخ نصب عينيه ويسمّون هذا الجعل والتّصوير حضورا ويستشهدون بمثل ما ورد من قوله (ع): وقت تكبيرة الإحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينيك ؛ ولكنّه بعيد عن الطّريق المستقيم

١٦

فانّ الحضور هو الاتّصال بروحانيّة الشّيخ وظهور مثاله لديك لا تصوير صورة مثل صورته وجعلها نصب العين فانّها مردودة إليك ونوع كفر وشرك وبعد ما يقال انّه كفر يقولون هو كفر فوق الكفر والايمان كما قال المولوىّقدس‌سره:

چون خليل آمد خيال يار من

ظاهرش بت معنى أو بت شكن

لكن نقول : تصوير صورة الشّيخ بالاختيار وتقييد الخيال به من قبيل عبادة الاسم دون المسمّى وتشبّه بعبدة الأصنام وجحيم عاجلة ينبغي للعاقل العبور عنها كما قال المولوىّ قدس‌سره :

جمله دانسته كه اين هستى فخ است

ذكر وفكر اختياري دوزخ است

لكن لا بدّ للسّالك من العبور عليها. وأحسنوا بذي القربى بعد الله والوالدين فانّ اولى الاحقّاء بالإحسان ذوو القربى سواء كانوا جسمانيّين أم روحانيّين في العالم الكبير أو الصّغير (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) قد مضى تفسيرهما وتعميمهما (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) النّسبيّة وتأخيره بلحاظ الجوار لا القرابة أو المكانيّة (وَالْجارِ الْجُنُبِ) البعيد النّسبىّ أو المكانىّ وحقّ الجوار كما في الاخبار الى أربعين دارا من الجوانب الاربعة أو من كلّ جانب (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) كالرّفيق في تعلّم أو حرفة أو سفر (وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) العبيد والإماء والأهل والخادم والخادمة وكلّ من كان تحت أيديكم في الكبير أو الصّغير فلا تتأنّفوا عن تعهّد حالهم والتّوجّه والإحسان إليهم ان كنتم تريدون محبّة الله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً) استيناف في موضع التّعليل والمختال من يتأنّف عن التّوجّه الى الغير حتّى الوالدين الرّوحانيّين ولا ينقاد لأحد حتّى الوالدين الرّوحانيّين ومن تأنّف عن الانقياد للوالدين الرّوحانيّين تأنّف عن كلّ من سواه ، ومن انقاد وتواضع للوالدين الرّوحانيّين تواضع لمن سواهما فالمختال الحقيقىّ من لم يتواضع لوالديه الرّوحانيّين (فَخُوراً) إذا التفت الى غيره عظّم نفسه وحقّر غيره حتّى والديه الرّوحانيّين ، ومن افتخر على والديه الرّوحانيّين افتخر على كلّ من سواه الّا إذا رأى حظّ نفسه ممّن سواه فانّه حينئذ يتملّق له وان كان يظنّ انّه يتواضع ، ولمّا كانت الولاية أصل الخيرات والقرابات ، والتّواضع لها أصل التّواضعات ، والاختيال والفخر عليها أصل الاختيالات والفخرات ومادّتها ، وعلىّ (ع) أصل الولايات وعدوّه أصل الشّرور والاختيالات صحّ ان يقال : انّ المنظور اوّلا من الآية اختيال العدوّ وفخره على علىّ (ع) ثمّ اختيال غيره بالنّسبة الى الولاية والى غيرها ، ولمّا كان المتكبّر المعجب بنفسه لا يعدّ غيره الّا أسباب انتفاعه كأنّه لم يخلق غيره الّا لأجل انتفاعه ولو بهلاكته وكان لا ينفق ممّا في يده على غيره لانّه خلاف حسبانه ويمنع غيره الّذى يراه في مرتبة من الإنفاق على غيره حتّى انّه يمنع نفسه وغيره من إنفاق القوى والمدارك والانانيّات في طريق إمامه وولاية ولىّ امره ويكتم من الغير نعمه الّتى لا يرى في إظهارها صيتا ومدحا وجلب حظّ لنفسه ولو أنفق أو أظهر لم يكن ذلك الّا بملاحظة حظّ لنفسه فسّر المختال الفخور بالوصف البيانىّ فقال تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) صفة أو بدل من ، من كان مختالا أو بدل من مختالا أو عطف بيان لواحد منهما أو خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف ، أو مفعول فعل محذوف.

تحقيق معنى البخل والتّقتير والتّبذير

والبخل سجيّة تمنع الإنسان من إخراج ما تحت يده ورفع يده عنه سواء كان من الحقوق الإلهيّة كالزّكاة والخمس أو الخلقيّة كالنّفقات الواجبة والدّيون الحالّة المفروضة كما ذكر أو مسنونة كالزّكاة وسائر الصّدقات المستحبّة والصّنائع المعروفة وكالانفاقات

١٧

المستحبّة لنفسه وعياله وأقاربه وجيرانه ، ولذلك ورد عن رسول الله (ص) ليس البخيل من ادّى الزّكاة المفروضة من ماله واعطى البائنة في قومه انّما البخيل حقّ البخيل من لم يؤدّ الزّكاة المفروضة من ماله ولم يعط البائنة في قومه وهو يبذّر فيما سوى ذلك ، وانّما سمّى المال المنفق بالبائنة لانّه كلّما ينسب الى الإنسان حتّى وجوده من شأنه البينونة والمفارقة عنه الّا وجه الله الباقي فانّه ان كان من اعراض الدّنيا فهو بائن في نفسه وتبين وتنقطع نسبته أيضا عن الإنسان بالموت أو بالانتقالات الشّرعيّة أو بصروف الدّهر ، وان كان من قبيل القوى والجوارح والاعراض والجاه فهو أيضا يبين عن الإنسان بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ أو بالحوادث الطّارئة.

فان تكن الأموال للتّرك جمعها

فما بال متروك به المرء يبخل

اعلم انّ السخاء فريضة متوسّطة بين طرفي الإفراط والتّفريط اللّذين هما التّبذير والتّقتير ، وللتّقتير مراتب عديدة بعضها يسمّى بخلا وهو إمساك ما في يد الإنسان وعدم قدرته على صرفه في الوجوه المفروضة والمندوبة والمباحة ، وبعضها يسمّى شحّا وهو إمساك ما في يده وتمنّى ان يكون ما في يد غيره في يده كما ورد عن الصّادق (ع): انّ البخيل بخيل بما في يده والشّحيح يشحّ بما في أيدى النّاس ، وعلى ما في يديه حتّى لا يرى في أيدي النّاس شيئا الّا تمنّى ان يكون له بالحلّ والحرام ولا يقنع بما رزقه الله ، وللتّبذير أيضا مراتب ولمّا كان الظّاهر من الإنسان من أفعاله وأقواله وأخلاقه وأحواله من المتشابهات الّتى لا يعلم تأويلها الّا الله والرّاسخون في العلم كان التّميز بين السّخاء والتّبذير والتّقتير وبين مراتبها بحسب المعرفة وتشخيص جزئيّاتها الصّادرة عن الإنسان في غاية الخفاء حتّى على نفس الفاعل وان كانت بحسب العلم وكلّيّاتها جليّة قد فصّلها علماء الأخلاق وبيّنوها بمراتبها فانّ الإنفاق بحسب قصد المنفق والغاية المترتّبة عليه والوجه المصروف فيه والشّخص الموصول اليه يختلف حاله واسمه ؛ فربّ إمساك كان خيرا من الإنفاق الحسن وربّ إنفاق كان وبالا على المنفق ، ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

منفق وممسك محل بين به بود

چون محل باشد مؤثّر مى شود

اى بسا إمساك كز إنفاق به

مال حقّ را جز بأمر حقّ مده

مال را كز بهر حق باشى حمول

نعم مال صالح گفت آن رسول

ولمّا كان أصل كلّ ما ينسب الى الإنسان انانيّته الّتى هي نسبة الوجود الى نفسه ، وأصل كلّ الانفاقات وغايتها وعلّتها الغائيّة الإنفاق من الانانيّة ، وأصل جميع ما ينفق عليه الولاية فمن أنفق انانيّته في طريق الولاية بان يسلّمها لولىّ امره بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة فان أنفق من سائر ما ينسب اليه من حيث انتسابه الى الولاية على نفسه وعلى من تحت يده وعلى غيره بطريق الفرض أو النّدب أو الاباحة كان إنفاقه سخاء ، وان أمسك من هذه الجهة كان إمساكه ممدوحا ولم يكن بخلا ، ومن بخل بانانيّته ولم ينفقها في طريق الولاية فان أمسك كان إمساكه بخلا وان أنفق كان إنفاقه تبذيرا الّا إذا كان الإمساك أو الإنفاق في طلب الولاية فانّهما حينئذ يخرجان من اسم البخل والتّبذير فعلى هذا صحّ ان يقال : انّ المختالين الّذين يبخلون بصرف انانيّاتهم في طريق ولاية علىّ (ع) (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) والامتناع من صرف انانيّاتهم في طريق الولاية يعنى الّذين يعرضون عن الولاية ويصدّون النّاس عنها ، وصحّ ان يقال انّ الآية تعريض برؤساء منافقي الامّة حيث كانوا يعرضون بعد محمّد (ص) عن علىّ (ع) ويمنعون النّاس عن الرّجوع اليه (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى يعتذرون عن امساكهم بانّه ليس لهم ما ينفقون ويكتمون ما كان لهم من النّعم الظّاهره والباطنة

١٨

من قوّة قواهم وحشمتهم وجاههم وعلومهم ومعارفهم ولمّا كان أشرف النّعم الظّاهرة والباطنة ما يطرء للإنسان من الأحوال والأخلاق الإلهيّة الّتى تجعل الإنسان في حال طروّها في راحة وانبساط ولذّة ، وأصل الكلّ نعمة الولاية ومعرفتها وكان أقبح أقسام الكتمان كتمان تلك الأحوال وهذه المعرفة عن نفسه بان يصير الإنسان غافلا عن معرفته وعن لذّة أحواله أو مغمضا عنهما وكان تلك ادلّ دليل على نبوّة من اتّصف وامر بها وولايته صحّ تفسير الآية بكتمان ما آتاهم الله من ادلّة نبوّة محمّد (ص) أو ادلّة ولاية علىّ (ع) ممّا عرفوه من كتبهم واخبار أنبيائهم ومن القرآن واخبار محمّد (ص) وممّا وجدوه في نفوسهم من الأخلاق الاخرويّة الّتى هي أنموذج أخلاقهما وأحوالهما (وَأَعْتَدْنا) التفت من الغيبة الى التّكلّم تنشيطا للسّامع (لِلْكافِرِينَ) اى الكاتمين لنعم الله غير شاكرين لها بإظهارها فانّ إظهار النّعمة أحد أقسام الشّكر كما انّ كتمانها أحد أقسام كفرانها ، ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بانّ الكاتمين لنعم الله معدودون من الكفرة (عَذاباً مُهِيناً) كما انّهم أهانوا نعمنا بالكتمان وعدم الإظهار فانّ الله إذا أنعم على عبد بنعمة احبّ ان يراها عليه وابتذال النّعم وتحديثها بالفعال خير من ابتذالها بالمقال ، ومن كتم علما ألجمه الله بلجام من النّار (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ) يعنى انّ المختال جامع بين طرفي السّخاء اى التّقتير والتّبذير لامتناعهم من أداء الحقوق المفروضة والمسنونة وصرفهم أموالهم فيما يتصوّرون انتفاعهم في الدّنيا به من مثل صيت وتعظيم من النّاس وغير ذلك ، والاوّل بخل مذموم والثّانى تبذير ملعون (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) من قبيل عطف العلّة على المعلول فانّ عدم الايمان علّة للإنفاق في سبيل الشّيطان ولعدم الإنفاق في سبيل الله يعنى البخل (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ) عطف على انّ الله لا يحبّ من كان مختالا فخورا ، أو جملة حاليّة والمقصود التّنبيه على انّ المرائى في الإنفاق مبذّر والمبذّر قرين الشّيطان ومن يكن الشّيطان (لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً) لأداء اقترانه الى السّجن والسّجّين وملك الشّياطين فهو اشارة الى قياسات ثلاثة.

اعلم انّ الإنسان خلق مفطورا على التّعلّق والايتمار ومحلّا لتصرّف العقل والشّيطان ، ولمّا كان في بدو خلقته ضعيفا غير متجاوز عن المحسوسات ، والمحسوسات شبائك الشّيطان كان تصرّف الشّيطان فيه أقوى وأتمّ فما لم يساعده التّوفيق ولم يصل الى شيخ من الله مرشد له الى طريق نجاته تمكّن الشّيطان منه بحيث لم يبق له طريق الى حكومة العقل ولا للعقل طريق الى الحكومة عليه ، ولذلك قال ابو جعفر الاوّل (ع) في حديث : من أصبح من هذه الامّة لا امام له من الله عزوجل ظاهرا عادلا أصبح ضاّلا تائها ؛ وان مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق ، وفي الآيات نصوص وإشارات على وجوب الايتمار والايتمام بإمام منصوص من الله ، وفي الرّوايات عليه تصريحات ولكن كان على سمعهم وأبصارهم غشاوة فيرجّحون المفضول على الفاضل ولذا كان علىّ (ع) يرى الصّبر اجحى (وَما ذا عَلَيْهِمْ) استفهام إنكارىّ يعنى البتّة ليس عليهم كلفة دنيويّة ولا عقوبة اخرويّة (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعنى بالمبدأ والمعاد حتّى أيقنوا انّ النّعمة من الله وانّ خزائنه لا تنفد بالإنفاق وانّ اعماله يجزى بها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ) قدّم الايمان هاهنا على الإنفاق وأخّر عدم الايمان في الآية السّابقة عن الإنفاق الرّيائىّ لكون الايمان بالله سببا للإنفاق في سبيل الله لعلم المؤمن بالله انّ الكلّ من الله وانّ الإنفاق لا يفنيه والإمساك لا يبقيه فلذلك ولتشريفهم قال هاهنا ممّا رزقهم الله ولكون عدم الإنفاق في سبيل الله

١٩

دليلا على عدم الايمان بالله ، ولمّا كان الإمساك والتّبذير دليلا على كفران كون النّعمة من الله قال : والّذين ينفقون أموالهم بإضافة الأموال إليهم (وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً) حال وعدم الإتيان بقد لعدم قصد المضىّ أو هو بتقدير قد أو عطف على قصد التّعليل يعنى علم الله بهم وهم في طريق رضاه يستدعى عدم الوزر عليهم (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) مقدار ذرّة هي أصغر النّمل أو جزء من أجزاء الهباء (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) قرئ بالنّصب والرّفع بتقدير تك ناقصة وتامّة (يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) قوله (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ) (الى آخر الآية) مستأنف أو حال في مقام التّعليل لقوله : (ما ذا عَلَيْهِمْ) لانّه يستعمل في مثل المقام لنفى الوزر والعقوبة وللتّعريض بالأجر فكأنّه قال : لا وزر ولا عقوبة عليهم بل لهم الأجر لو آمنوا بالله لانّ الله لا يظلم حتّى يعاقب المحسن ويضاعف الأجر للمحسن بحسب استحقاقه للأجر ويؤت المحسن من لدنه اجرا عظيما من غير استحقاق ، وتسمية ما يعطيه من غير استحقاق اجرا لاستتباع الأجر له ، أو المراد انّ الله يضاعف نفس الحسنة باعتبار جهتي النّفس العمّالة والعلّامة في النّفس ويؤت من لدنه اجرا اخرويّا خارج النّفس على ما سبق من تحقيق تجسّم الأعمال واستتباع تجسّم الأعمال في النّفس الأجر الاخروىّ (فَكَيْفَ) يكون حال هؤلاء المختالين الموصوفين بالأوصاف السّابقة من شدّة الخوف والعقوبة (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من أمم الأنبياء (بِشَهِيدٍ) هو نبيّهم أو من كلّ فرقة من فرق أمّتك بشهيد هو امامهم في عصرهم أو من كلّ أمّة من أمم الأنبياء ومن كلّ فرقة من فرق أمم الأنبياء ومن فرق أمّتك بشهيد هو نبيّهم أو وصىّ نبيّهم وامامهم وقد أشير الى الكلّ في الاخبار لكن لمّا كان المقصود منه تحذير المنافقين من الامّة المرحومة عن مخالفة علىّ (ع) والأوصياء من بعده ورد عن الصّادق (ع) انّها نزلت في أمّة محمّد (ص) خاصّة بطريق الحصر (وَجِئْنا بِكَ) يا محمّد (ص) (عَلى هؤُلاءِ) الأمم والفرق ، أو على هؤلاء الشّهداء أو على هؤلاء الأمم والفرق والشّهداء (شَهِيداً) تشهد لهم وعليهم أو تشهد لبعض وهم الأنبياء والأوصياء ومن أقرّ بهم ، وعلى بعض وهم المنكرون لهم الغير المقرّين بهم (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو بالرّسل أو بأوصيائهم وولايات أوصيائهم لكن لمّا كان المقصود تحذير منافقي الامّة كان المقصود يودّ الّذين كفروا بعلىّ (ع) وولايته (وَعَصَوُا الرَّسُولَ) في امره بولاية علىّ (ع) في غدير خمّ وغيره (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) قرئ بفتح التّاء وتخفيف السّين من التّفعّل ماضيا أو مضارعا محذوف التّاء ، وقرئ بفتح التّاء مشدّد السّين من التّفعّل مدغم التّاء في السّين ، وقرئ بضمّ التّاء من التّفعيل مبنيّا للمفعول واستوت به الأرض وتسوّت وسويّت مبنيّا للمفعول اى هلك ، ولفظة لو مصدريّة أو للتمنّى والباء للتّعديّة والمعنى يودّون في ذلك اليوم مساواتهم للأرض بان كانوا يدفنون في ذلك اليوم أو يوم غصب الخلافة أو لم يبعثوا أو كانوا ترابا ولم يخلقوا ، أو جعلوا قابلا محضا ولم يكن لهم فعليّة أصلا (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) عطف على يودّ والمعنى يومئذ لا يكتمون الله حديثا كما كانوا يكتمونه من خلفائه في الدّنيا ، أو عطف على تسوّى والمعنى يودّون لو لا يكتمون الله حديثا في الدّنيا ، وعلى ما بيّنا انّ المقصود منهم منافقوا الامّة فهم يتمنّون انّ الأرض تبلعهم في اليوم الّذى غصبوا الخلافة ولا يكتمون في ذلك اليوم حديث الرّسول (ص) في حقّ علىّ (ع) وقد أشير الى كلّ منهما في الاخبار ، ولمّا أفاد في السّابق لزوم الايمان بالله ولزوم طاعة الرّسول (ص) ولزوم اتّباع الشّهداء في كلّ زمان ولكلّ فرقة أراد أن يبيّن كيفيّة المعاشرة مع الرّسول والشّهداء ومع نفسه في عباداته وخصوصا أعظم العبادات

٢٠