تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

المتناسقة وملكوت الأرض مثالها في عالم المثال وهو عالم الملكوت الأعلى ، والمقصود من النّظر في ملكوتهما النّظر في دقائق الحكم المودعة في حركاتها المتناسقة المنتظمة المترتّب عليها كلّيّات نظام العالم وجزئيّاته الّتى لا يشكّ العاقل في انّها ليست من أجرامها من غير علم وشعور ، بل لها مسخّر عالم شاعر حكيم وإذا عرف الإنسان ذلك من السّماوات والأرض لم يتوقّف في معرفة الآخرة ومعرفة الله وصفاته ومعرفة المعاد ، وورد الأمر بالنّظر في السّماوات والأرض وآياتهما وآيات الآفاق والأنفس يؤدّى بالنّاظر الى مدبّرهما ومسخّرهما وملكوتهما (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ممّا يطلق عليه اسم الشّيء كائنا ما كان فانّ في كلّ شيء آية قدرته وحكمته (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أو لم ينظروا في انّه عسى ان يكون قد اقترب أجلهم فيستعدّوا له فيميزوا بين ما ينفعهم حين الأجل وبين ما يضرّهم ، فانّ تذكّر الموت يعين على التّميز بين الحقّ والباطل وعلى رفع الغشاوة والعمه عن البصيرة (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) بعد الأجل (يُؤْمِنُونَ) ولا حديث بعده و (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) جواب لسؤال ناش ممّا سبق كأنّه قيل : فما بالهم لا يؤمنون بعد وضوح الحقّ ويتقّن الموت؟! (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيّرون (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) قد فسّر السّاعة في رواياتنا بالقيامة وبظهور القائم عجّل الله فرجه وبوقت الموت والكلّ في العالم الصّغير راجع الى معنى واحد وهو اوّل وقت الموت ، فانّه من مات قامت قيامته ويظهر القائم من آل محمّد (ص) حين الموت على المؤمن والكافر وكذا في العالم الكبير ، فانّ الإنسان بعد طىّ البرازخ سعيدا كان أو شقيّا تقوم قيامته الكبرى وله إماتة اخرى ويظهر القائم حينئذ ظهورا أتمّ من الظّهور الاوّل ويحاسب النّاس ويدخل أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار ، وقوله تعالى : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ؛ اشارة الى هاتين الإماتتين وهذين الاحيائين ولذا قدّم أمّتنا والسّاعة بكلا معنييه من الأمور الّتى لم يطلع الله عليها أحدا من ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين (ع) وأوليائه الكمّلين ، فلا يعلمها الّا الله ويقدّم منها ما يشاء ويؤخّر فمن ادّعى علمها فهو كذّاب وقد ورد لعن الله الموقّتين ، بل التّحقيق انّ السّاعة خارجة من الوقت واقعة فوق الوقت ليس لها وقت زمانىّ بل هي من الملكوت والزّمان من الملك وتحديد الملكوت بالملك من غاية الجهل ولهذا نسب الله تعالى الى عدم العلم والجهل من سأل عنها (أَيَّانَ مُرْساها) وقوعها سؤال عن توقيت السّاعة (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) لأنّه استأثره لنفسه (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها) لا يظهرها في وقتها (إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لانّ صغريها وكبراها ترفع الحدود والتّعيّنات وتميت الانّيّات وتظهر الحقّ وتبيد الباطل وليست السّماوات والأرض وأهلهما الّا التّعيّنات والانّيّات الباطلة ولا ثقل أثقل ممّا يرفع الشّيء ولا يبقى له أثرا (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) من غير تقدّم اثر وعلامة (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) يعنى يلحّون في السّؤال عنك كأنّك ملحّ علينا في السّؤال عنها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) تأكيد في الرّدّ عليهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) انّها ممّا ليس يبذلها الله لغيره وانّها فوق الوقت لا يمكن توقيتها بوقت (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فلا يكون لي الاطّلاع على الغيوب وهو تبرّء من الانانيّة وإقرار بالعجز والعبوديّة ، كما هو شأن العارف بالرّبوبيّة وكناية عن نفى علم الغيب عن نفسه مطلقا اشارة الى العجز في قوّته العمّالة والجهل في قوّته العلّامة بحسب التّنزّل

٢٢١

الى مقام البشريّة وما كان يظهر منه من القدرة والعلم بالغيوب ، فانّما هو بحسب جنبته الملكوتيّة الّتى هي من عالم الرّبوبيّة (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ان يملكني على ظاهره ويعلمني على معناه المكنّى (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) تصريح بالنّفى المكنّى تأكيدا وتحقيق له بالبرهان الحسّىّ على زعمهم فانّهم لا يرون خيرا الّا ما زعموه خيرا من الاعراض الدّنيويّة (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) السّعة في المال والصّحّة والسّلامة (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) الآفة في المال وفي الأنفس (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) للكافرين بقرينة المقابلة مع بشير ، وتقييده بالمؤمنين أو مطلقا كما هو ظاهره لكن للمؤمنين من الجهات النّفسانيّة الّتى تؤدّى الى الكفر وللكفّار من كفرهم (وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نفى لجملة الشّؤن عن نفسه وإثبات للانذار والتّبشير الّذين هما بأمر الله كأنّه قال : ليس لي شأن الّا امر الله وهو غاية التّوحيد فعلا وصفة ، ولمّا كان هذا منه (ص) توحيدا عقّبه تعالى شأنه باشراك آدم وحوّاء في مخلوقه الّذى لا ينبغي الإشراك فيه اشراكا في الآلهة ، وهو ينافي توحيد اله العالم الّذى هو دون توحيد الأفعال والصّفات إبداء لفضله (ص) وتقديما لذمّ أولادهما في الشّرك في العبوديّة الّذى هو أقبح من الشّرك في الآلهة ومستلزم له فقال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) منّا منه سبحانه بنعمة الوجود واثباتا لتوحيده في العبادة ولذا وبّخهم على الإشراك معلّلا بانّ ما جعلوه شريكا لا يخلق شيئا (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) إذا رءاها من سنخها ، وتذكير ضمير يسكن بلحاظ المعنى ويجوز ان يراد بنفس واحدة ، حوّاء ويكون معنى جعل منها زوجها جعل من سنخها زوجها وهما آدم (ع) وحوّاء (ع) في العالم الكبير والجهتان العقلانيّة والنّفسانيّة للإنسان اللّتان هما نازلتا العقل في العالم الصّغير (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) لا يظهر اثر ثقله (فَمَرَّتْ بِهِ) استمرّت مع الحمل (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) صارت ذات ثقل (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) في النّفس والبدن (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) منّة اخرى عليهما (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) بدّلا النّعمة بالكفران والوعد بالخلف. اعلم ، انّ للاشراك بالله مراتب عديدة : الاوّل ، الإشراك به في وجوب وجوده كاشراك أكثر الثّنويّة القائلين بانّ للعالم مبدئين قديمين مسمّيين بالنّور والظّلمة أو يزدان واهريمن ، والثّانى ، الإشراك في الآلهة كاشراك بعض الثّنويّة القائل بانّ القديم والواجب الوجود واحد والظّلمة أو اهريمن مخلوق منه لكن له الآلهة في العالم وانّ الشّرور كلّها منه لا من الله ، والثّالث ، الإشراك في العبادة كاشراك أكثر الصّابئين واشراك الوثنيّين والعجليّين وغيرهم ممّن يعبد غير الله من مخلوقاته تقرّبا بها الى الله ، والرّابع ، الإشراك في الوجود كاشراك معظم النّاس الّا من شذّ الّذين لا يرون في الوجود الّا الموجودات المتكثّرة المتقابلة كلّ من الآخر والكلّ مع الله ، والخامس ، الإشراك في الطّاعة كاشراك من أشرك في طاعة الأنبياء (ع) والأولياء (ع) وخلفائهما طاعة غيرهم من ائمّة الجور وعلماء السّوء والسّلاطين والأمراء والحكّام ، والسّادس ، الإشراك في المحبّة كاشراك من أشرك في محبّة الله ومحبّة خلفائه محبّة غيره وكاشراك من أشرك في المحبّة بان كان مصدرها الهيّا ونفسانيّا أو غايتها الهيّا ونفسانيّة ، والسّابع ، الإشراك في الولاية وهي اشدّها وأعظمها بان أشرك مع ولىّ الأمر أو نبىّ الوقت غيره في البيعة الخاصّة الولويّة أو العامّة النّبويّة أو أذعن بنبوّة من ليس بنبىّ أو بولاية من ليس له الولاية ، فقوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ، المقصود منه أحد المعاني السّابقة غير الثّلاثة الاول وكلّ هذه المعاني غير الكفر بالله في كلّ مرتبة فانّه يقتضي قطع النّظر عن الله واستبداد النّظر الى غيره ، وما يجرى في أهل العالم

٢٢٢

الكبير يجرى في أهل العالم الصّغير من غير فرق ، ومعاني الإشراك غير الثّلاثة الاول وغير المعنى الأخير يجوز اعتبارها هاهنا ان كان المراد انّ آدم وحوّاء حقيقة جعلا له شركاء كما في الخبر وانّما شركهما شرك طاعة وليسشرك عبادة ، وفي حديث : جعلا للحارث نصيبا في خلق الله ويناسب الشّرك في المحبّة بأحد معانيه وقوله تعالى : (شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) يناسب هذا الشّرك والشّرك في الطّاعة ، وان كان المراد انّ أولاد آدم (ع) جعلوا له شركاء فيما آتاهم والنّسبة الى آدم (ع) وحوّاء كانت مجازا كما في الخبر ، ويؤيّده قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) بصيغة المجمع أمكن اعتبار جميع أقسام الشّرك ونسبة الشّرك الى أولادهما امّا بطريق المجاز في الحذف بان يكون فاعل جعلا أولادهما ، لكنّه حذف وأقيم المضاف اليه مقامه أو بطريق المجاز في الحكم بان يكون المحكوم عليه الأولاد لكنّه نسب إليهما باعتبار انّ الاتباع والأولاد كالاجزاء أو النّسبة الى الأولاد باعتبار ان يراد الجنس من لفظ صالحا وحينئذ يشمل الذكّور والإناث ، وضمير جعلا يرجع الى صالحا باعتبار الصّنفين كما في الخبر ، ولمّا علم من السّابق انّ الله خالق والخالق لا يساوى المخلوق أتى بالفاء الدّالّ على التّسبيب والتّفريع فقال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن الّذى يشركونه أو عن اشراكهم (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) توبيخ بوجه آخر فانّ الاوّل باعتبار انّ الخالق المنعم شأنه ان يوحّد ولا ينظر معه الى غيره من غير اعتبار وصف للشّريك وهذا باعتبار انّ ما لا يخلق بل هو مخلوق لا ينبغي ان يجعل شريكا للخالق (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ) ذكر أوصافه مترتّبة في الّذمّ من الاخسّ فالاخسّ كما هو طريقة المبالغة في الذّمّ وعلى هذا فمعنى ان تدعوهم الى الهدى الى ان تهدوهم أنتم فضلا عن انّهم يهدونكم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) يعنى ما يجعل شريكا للخالق ينبغي ان يكون خالقا فان لم يكن خالقا فلا اقلّ من ان يكون مخلوقا فان كان مخلوقا فلا اقلّ من ان يكون ناصرا لعابديهم ، فان لم ينصروا عابديهم فلينصروا أنفسهم فان لم ينصروا أنفسهم فليتّبعوكم في الدّعوة الى الهدى فان لم يتّبعوكم فليميّزوا بين الدّاعى وغيره ، فان انتفى ذلك كلّه فليس اشراكه الّا محض حمق المشرك وسفاهته (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) والمعبود لا اقلّ من ان لا يكون عبدا (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ولا اقلّ من السّماع والاستجابة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) ولا اقلّ من ان يمشى مثلكم (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ) بعد إتمام التّوبيخ والتّفضيح تحدّيا (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) فانّى لا أبالي بكم وبشركائكم بعد غاية ضعفكم وضعف شركائكم وقوّة ربّى وحفظه ونصرته (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) في موضع التّعليل والمراد بالكتاب كما عرفت الكتاب المعهود المعروف وهو كتاب النّبوّة والقرآن صورته (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) لمّا كان التّحدّى باعتبار قوّة الله وضعف الشّركاء علّله بهما فقوله الّذين تدعون من دونه عطف على مدخول ان (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) والتّكرار باعتبار التّعليل ومطلوبيّة التّكرار في مقام المبالغة في الّذمّ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) صرف الخطاب منهم الى محمّد (ص) اشعارا بانّهم بعد ما ظهر وقاحتهم

٢٢٣

وسفاهتهم لا ينبغي التّخاطب معهم (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ خُذِ الْعَفْوَ) شبّه العفو بالوحشىّ الشّارد لتعسّر الاتّصاف به ثمّ استعمل الأخذ فيها استعارة تخييلية وترشيحا لها والمراد منه اعمّ من الصّفح فانّهما كالفقراء والمساكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ولمّا لم يكن النّظر الى خصوص المعفوّ عنه والمأمور بالمعروف أسقط المفعول بخلاف الاعراض فانّه مختصّ بالجاهل ولذا قيّده فقال (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وقد فسّر العفو في الخبر بالميسور من الأفعال والأخلاق وبالوسط من الأموال وهو من سعة وجوه القرآن ، اعلم انّ هذه الثّلاث أمّهات أخلاق المعاشرة ونتائج أمّهات الأخلاق الجميلة النّفسيّة فانّ المعاشرة امّا معاند مسيء ، وامّا محبّ مقبل ، وامّا جاهل غير معاند وغير مقبل ، وجميع آداب حسن المعاشرة مع المعاند مطويّة في ترك مقابلة إساءته بالانتقام وهو العفو وتخلية القلب من تذكّر سوء صنيعته وهو الصّفح وهما من نتائج الشّجاعة والعفّة والحكمة الّتى هي من أمّهات الخصائل ، فانّ الجبان لا يمكنه ترك الانتقام وان منع جبنه عن الانتقام فلا يمكنه الصّفح ، والمتهوّر لا يترك الانتقام البتّة والعفيف يمنعه عفّته عن مطاوعة النّفس بخلاف الشّره ، والحكيم يرى انّ في ترك الانتقام راحة في العاجل ودرجة في الآجل وكسرا لسورة عناد المعاند وجذبا للمحبّة والعدالة الّتى هي احدى أمّهات الخصائل أيضا تقتضي ذلك ، فانّ إجمال العدالة إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وحقّ النّفس مطاوعتها للعقل وحقّ المسيء إصلاحه حتّى يترك الاساءة لا انتقامه حتّى يزيد في الاساءة ، وآداب المعاشرة مع المقبل المحبّ مطويّة في ارادة خيره في كلّ حال وارادة خيره بان لا يتركه ونفسه بل يعرّفه معروفه ويأمره به وهو من نتائج الحكمة والعدالة ، وآداب المعاشرة مع الجاهل الغير القابل للخير عدم معارضته وترك محادثته بخيره وهو من نتائج الحكمة والعدالة أيضا وفي الخبر : امر الله نبيّه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية اجمع لمكارم الأخلاق منها (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) ان يغريك أو يوسوسك من الشّيطان مغر أو موسوس أو إغراء أو وسوسة حتّى تحرّكك على انتقام المسيء وترك نصح المحبّ ومعارضة الجاهل (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ) لاستعاذتك أو لنزغ الشّيطان وان كان خفيّا في القلب (عَلِيمٌ) بعاقبة ما يأمرك به أو بكيفيّة دفع نزغ الشّيطان (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أرادوا التّقوى من نزغ الشّيطان أو اتّقوا موالاة الشّيطان أو اتّقوا تقوى حقيقيّة حاصلة بولاية علىّ (ع) والبيعة الخاصّة الولويّة وعلى اىّ معنى فهو في موضع تعليل للأمر بالاستعاذة (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ) خطرة ووسوسة لانّ الإنسان قلّما ينفكّ منها فكأنّها طائفة بهم ودائرة معهم أو طائف وشيطان من قبل إبليس الابالسة أو خيال من الطّيف بمعنى الخيال (مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا) أوامره تعالى ونواهيه ، أو تذكّروا سوء عاقبة الطّائف ، أو تذكّروا بالّذكر المأخوذ من ولىّ أمرهم ، أو تذكّروا بالفكر الحاصل من الذّكر المأخوذ الّذى هو مثال شيخة (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) سوء عاقبة الطّائف أو انّ الطّائف من الشّيطان أو جذب الطّائف الى السّفل السّجّين أو انّه شيطان يوسوسه من قبل إبليس (وَإِخْوانُهُمْ) اى والحال انّ اخوان الّذين اتّقوا أو اخوان الشّياطين من الانس (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) من المدّ بمعنى الجذب أو من المدد وقرئ يمدّونهم من الأمداد يعنى يغرونهم على مخالفة الأمر والمقصود الاشارة الى قوّة التّذكّر بحيث يمنع صاحبه من الغىّ وان كان شيطان الجنّ يغويه وشياطين الانس تجذبه أو تعينه في غيّه (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) لا يمسكون من الجذب أو الأمداد (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ) من مقترحاتهم أو بآية من

٢٢٤

القرآن في أحكامهم عند مسألتهم (قالُوا) اى المقترحون أو المتّقون حرصا على اجابة الكفّار الى مقترحاتهم طمعا في ايمانهم (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) لو لا اخترت الآية المقترحة (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ولست اختار من قبل نفسي آية ومعجزة من مقترحاتكم أو آية في احكامكم (هذا) القرآن أو هذا المذكور من قوله واتل عليهم وهو من جملة المقول له (ص) أو مستأنف من الله (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) صفة للمجموع (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) يعنى إذا قرأ الامام الموثوق به في الصّلوة القرآن اى الحمد والسّورة وأنتم مؤتمّون به كما في بعض الاخبار ، أو إذا قرأ الامام موثوقا به أو غير موثوق به في الصّلوة وأنتم مؤتمّون به ، أو (إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) مطلقا سواء كان القارى إماما أو غير امام وسواء كنتم مؤتميّن أو غير مؤتميّن ، وسواء كان القارى مصلّيا أو غير مصلّ ، وسواء كنتم مصلّين أو غير مصلّين كما في بعض الاخبار ، ووجه الجمع بين الاخبار المبالغة في وجوب انصات المستمع في الصّلوة مؤتّما حالكون القارى إماما موثوقا به وعدم المبالغة في الوجوب في غير الصّورة المذكورة ، أو الوجوب في الصّورة المذكورة والاستحباب في غير الصّورة المذكورة كما عليه أصحاب الفتيا ، ووجه اختلاف الاخبار في باب من ائتمّ بالمخالف بالنّهى عن القراءة والأمر به اختلاف أحوال الأشخاص في إمكان إخفاء القراءة عن المخالفين وعدمه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ) المضاف أو المطلق عطف على قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَ) ، أو مستأنف والأمر له (ص) بحيث يشمل أمّته أو الخطاب عامّ ويصحّ عطفه على استمعوا أو على (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ، أو على (خُذِ الْعَفْوَ)(فِي نَفْسِكَ) يعنى دون لسانك فانّه المتبادر ، ومقتضى المقابلة مع قوله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) ، وهو اشارة الى الذّكر الخفىّ الّذى هو مصطلح الصّوفيّة ولذا قدّمه والمراد بالذّكر اعمّ من الذكّر النّقشىّ المثالىّ المأخوذ عن ولىّ الأمر ومن الذكّر التّمثالىّ المثالىّ الّذى يعبّر عنه بالفكر والحضور ، وهو تصوّر مثال الشّيخ عند الّذاكر وهو أبلغ في الذكّر من النّقشىّ المثالىّ وهو أبلغ من اللّسانىّ الغير المجهور وهو أبلغ من المجهور ، ويجوز ان يراد بالّذكر في النّفس مطلق تذكّر الرّبّ أو تذكّر امره ونهيه عند كلّ فعال ، وقد سبق تفصيل الذكّر واقسامه وفضيلة كلّ قسم منه في اوّل البقرة عند قوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)(تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) ذكر تضرّع أو مصدران من غير لفظ الفعل على ان يكون المراد من كلّ من التّضرّع والخفية أحد أنواع الذّكر أو متضرّعا وخائفا ، ويحتمل ان يكون قوله (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) مفعولا له حصوليّا أو تحصيليّا يعنى انّ الرّجاء والخوف من لوازم وجود الإنسان ، أو من لوازم وجودك وهما يستلزمان الذّكر أو الرّجاء والخوف بمنزلة جناحي المؤمن لا يمكنه السّير بدونهما وهما لا يحصلان الّا بذكر الرّبّ فاذكره لتحصيلهما والمقصود من التّضرّع الرّجاء بقرينة مقابلة الخوف فانّ التّضرّع والابتهال والالتجاء من متفرّعات الرّجاء والمقصود نفى الغرور بالله ونفى اليأس من رحمة الله والوقوع بين الخوف والرّجاء اللّذين هما من صفات المؤمنين (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) يعنى باللّسان من غير جهر وهو اشارة الى الذّكر الجلىّ الّذى هو من مصطلحات الصّوفيّة وامّا الذّكر اللّسانىّ المجهور كما هو شأن القرّاء والقصّاص والعوامّ فقد ورد مذمّته ولم يكن من سنّة الصّوفيّة الصّافيّة ، فقد ورد عن مولينا ومقتدانا ومن به رجاءنا في عاجلنا وآجلنا أمير المؤمنين (ع) ورغم أنف المعاندين ، من ذكر الله في السّرّ فقد ذكر الله كثيرا

٢٢٥

انّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السّرّ فقال الله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في جملة أوقاتك فانّه قد يستعمل الغداة والعشىّ ومراد فاتهما في لسان العرب والعجم في استغراق الأوقات ، أو المراد هذان الوقتان لشرافتهما على سائر الأوقات وفراغة الإنسان من مشاغلة الدّنيويّة والضّروريّات البدنيّة والالتذاذات النّفسيّة غالبا في هذين الوقتين (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) المنمكين في الغفلة ولم يقل : ولا تغفل ، كما هو طريقة المشاكلة في المقابلة لانّ الإنسان قلّما ينفكّ عن حدوث الغفلة (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) في موضع التّعليل للأمر والنّهى والمراد من حصل له الحضور عنده من الأنبياء (ع) والرّسل (ع) وخلفائهم في سلسلة الصّعود والملائكة المقرّبين في سلسلة النّزول (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ) على سبيل الاستمرار (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) استمرارا فان أردت اللّحوق بهم والاتّصاف بصفاتهم فلا تغفل عن ذكره.

٢٢٦

سورة الأنفال

مدنيّة بأسرها وقيل مدنيّة غير سبع ايات فانّها نزلت بمكّة وهي قوله :

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ، الى اخرهنّ وهي سبع أو ستّ أو خمس وسبعون اية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) جمع النّفل وهو الزّيادة وقد فسّرت في بعض الاخبار بما هو مختصّ بالرّسول (ص) والامام (ع) ممّا لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب وبطون الاودية والآجام والأراضي الموات والمعادن وميراث من لا وارث له وغير ذلك ممّا لا شركة لغيره فيه ، وفسّرت في بعض آخر بالغنائم الّتى فيها الخمس للرّسول والبقيّة للمقاتلين ، وورد انّها نزلت في غنائم بدر حين اختلفوا فيها وتنازعوا وتشاجروا (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) لا شراكة لغير الرّسول فيها فان فسّرت بالغنائم فهي منسوخة بآية التّخميس وان فسّرت بغير الغنائم فهي ثابتة (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تطمعوا فيها ولا تختلفوا ولا تشاجروا ولا تريدوا إصلاح امر الله ورسوله فانّهم كانوا يوم بدر ثلاثة أصناف : صنف أغاروا على الغنائم ، وصنف تخلّفوا عند رسول الله (ص) ، وصنف ذهبوا في طلب العدوّ ، وكان المال قليلا والنّاس كثيرا وبعضهم ضعفاء وبعضهم أقوياء وكانت اوّل غنيمة أخذوها فتكلّموا فيها وفي كيفيّة قسمتها وتنازعوا في ذلك (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) ما بينكم لا ما بين الله والرّسول (ص) وبينكم فانّه ليس إصلاحه إليكم وذات هي الّتى بمعنى الصّاحبة ثمّ استعملت في مثل ذات الصّدور وذات بينكم بمعنى ما في الصّدور وما بينكم لمصاحبة ما في الصّدور وكذا ما في البين لهما (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ولا تكلّموا فيما امره إليهما (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فانّ الايمان يقتضي تسليم أمر الله وتكلّمكم في امر الله ورسوله (ص) يورث الشّكّ في ايمانكم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) تعليل لما يفهم من الشّرط من الشّكّ في ايمانهم أو جواب لسؤال ناش من الشّرط كأنّه قال قائل : ان كان هؤلاء مشكوكا في ايمانهم فمن المؤمن الّذى لا يشكّ في ايمانه؟ ـ فقال : انّما المؤمنون (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) لذكره (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) لكون قلوبهم خالية عن رين الاهوية فيؤثّر ذكر الله وآياته فيها وقد مضى انّ الايمان له مراتب ودرجات

٢٢٧

وانّه بزداد وينقص (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) عطف على جملة الشّرط والجزاء الواقعة صلة لعدم تقيّده بحين دون حين وللاشارة الى انّ التّوكّل لا بدّ وان يحصل آنا فآنا أتى بالمضارع دون الماضي (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) اشارة الى وصفي الايمان من التّولّى المعبّر عنه بالصّلوة والتّبرّى المعبّر عنه بالزّكوة ، والإنفاق وهما أساسا جملة الأعمال الصّالحة البدنيّة وهو بدل من الموصول أو مبتدء مستأنف وخبره الجملة الآتية أو هو خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدّر (أُولئِكَ) الموصوفون بما ذكر ، والإتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم بالأوصاف المذكورة ليكون كالتّعليل للحكم وتعظيما لهم (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ضمير الفصل وتعريف المسند للحصر والتّأكيد ، يعنى انّ هؤلاء الّذين قرنوا بين صورة الايمان العامّ الّتى هي البيعة مع النّبىّ (ص) بالبيعة العامّة وحقيقته الّتى تظهر بآثاره المذكورة الّتى هي تأثّر القلوب من آثار من آمنوا به وهو من لوازم المحبّة الّتى هي من لوازم صفاته الجماليّة والإقرار به وتفويض الأمور اليه الّذى هو من آثار صفاته الجلاليّة ، هم المؤمنون الّذين لا يشكّ في ايمانهم لا البائعون بالبيعة العامّة فقط من غير التّحقّق بحقيقته فانّ ايمانهم مشكوك فيه (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) خبر بعد خبر أو حال أو استيناف جوابا لسؤال مقدّر (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ذكر أوصافا ثلاثة لهم هي أمّهات ما يطلبه الإنسان ، الاوّل سعة المقام ولوازمها وللاشارة الى انّ الدّرجات ليست مغايرة لذواتهم بل هي شؤنهم وسعة ذواتهم قال تعالى في آية اخرى ؛ (هُمْ دَرَجاتٌ) ، والثّانى ستر المساوى وما يلحقه منها ، والثّالث وجدان ما يحتاج اليه (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) بالغاية الحقّة الثّابتة وهو إعلاء الدّين وإعزاز المؤمنين وانهزام المشركين أو متلبّسا بالحقّ الّذى هو الولاية أو متسبّبا عن الحقّ الّذى هو الولاية وهو كلام مستأنف لبيان ضعف يقينهم كما انّ ما سبق أيضا كان لبيان ضعف يقينهم ، والمراد بالإخراج الإخراج من مكّة أو من المدينة لعير قريش وغز وبدر فانّهم كرهوا خروجه لعدم عدّتهم وهو متعلّق بقوله : (يُجادِلُونَكَ) يعنى كما كرهوا ان أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ يكرهون القتال مجادلين فيه كأنّما يساقون حين الّذهاب الى القتال الى الموت ، والاحتمالات الاخر في تركيبه بعيدة من سوق الكلام فانّه مسوق لتمثيل حالهم في كراهة القتال جهلا بعاقبته بحالهم في كراهة الخروج جهلا بعاقبته وفي الاخبار اشارة الى انّه منقطع عمّا قبله منزل وحده (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) الجملة حاليّة (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) الّذى يستتبع غاية حقّة متحقّقة وهو القتال الّذى به ارتفع امر المؤمنين وتقوّوا بالغلبة وأخذ الغنيمة وهو قتال البدر (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) الحقّ باعلام الرّسول انّ الغلبة لهم ومشاهدة صدق اخباره في موارد عديدة (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) اى الى الموت وذلك انّه أخبرهم الرّسول (ص) بعير قريش وانّ الله وعدهم عير قريش فخرجوا من المدينة ، ثمّ أخبرهم انّ قريشا خرجوا لحماية العير وانّ الله وعده النّصرة على قريش فكرهوا معارضة قريش لقلّة عددهم وعددهم فجادلوه في ذلك لضعف يقينهم (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ) عطف على بعد ما تبيّن أو بتقدير اذكروا عطف على جملة (كَما أَخْرَجَكَ) (الى آخر الآية) فانّه في معنى اذكروا وقت خروجكم ومجادلتكم كأنّه قال : اذكروا إذ أخرج الله نبيّه (ص) من بيته وكراهتكم له والحال انّ فيما كرهتموه إعلاء كلمتكم واذكروا إذ يعدكم الله (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) وتكرهون قريشا (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ

٢٢٨

ذاتِ الشَّوْكَةِ) السّلاح (تَكُونُ لَكُمْ) وهو العير فانّه لم يكن فيها كثرة عدد ولا كثرة سلاح بخلاف قريش فانّ عددهم كان قريبا من الالف وكلّهم كانوا شاكي السّلاح (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) يثبّته ويظهره (بِكَلِماتِهِ) بخلفائه واتباعهم (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) بالاستيصال بحيث لا يبقى منهم اثر ولا عقب (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) يعنى انّ نفس احقاق الحقّ هو المطلوب منه لا امر آخر فهو من قبيل ما كان الفعل مطلوبا لنفسه لا مقدّمة لأمر آخر فكأنّه قال : يريد الله ان يحقّ الحقّ لنفس احقاق الحقّ (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) ظرف لقوله (يُرِيدُ اللهُ) أو لقوله (كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أو بدل من قوله (إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) بدل الاشتمال فانّ الوعد كان في المدينة والاستغاثة حين القتال ومشاهدة قلّتهم وعدم عدّتهم وكثرة العدوّ عدّة وعدّة (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) بعضهم بعضا أو مردفين لكم من اردفه إذا تبعه (وَما جَعَلَهُ اللهُ) اى الأمداد (إِلَّا بُشْرى) اى لكم بإنجاز الوعد بالنّصر (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ولكنّكم لضعف يقينكم وتوكّلكم لا تنظرون الّا الى الأسباب ولذا اجرى النّصر بتوسّط الأسباب (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) ظرف لقوله استجاب أو لممدّكم أو لمردفين أو لجعله الله أو لتطمئنّ أو لقوله من عند الله على الانفراد أو على سبيل التّنازع ، ويحتمل إبداله من قوله إذ يعدكم وقوله إذ تستغيثون بدل اشتمال (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من الحدث والخبث (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) الجنابة أو وسوسته وتخويفه عن العطش ، روى انّهم نزلوا في كئيب اعفر تسوخ فيه الاقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء فوسوس إليهم الشّيطان وقال : كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلّون محدثين وتزعمون انّكم أولياء الله وفيكم رسوله فأشفقوا ، فأنزل المطر فمطّروا ليلا حتّى جرى الوادي واتّخذوا الحياض على غدوته وسقوا الرّكاب واغتسلوا وتوضّأوا وتلبّد الرّمل الّذى بينهم وبين العدوّ حتّى ثبتت عليه الاقدام وزالت الوسوسة (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) لمّا كان ربط القلوب تنزيلا من أشرف خصائل الإنسان والمرابطة تأويلا من آخر مقامات السّلاك كرّر اللّام اشارة الى انّه مغاير مع سابقيه شرفا ورتبة والمعنى وليربط المحبّة على قلوبكم أو ليربط الولاية الحقيقيّة الّتى هي مثال النّبىّ أو الولىّ على قلوبكم (وَيُثَبِّتَ بِهِ) اى بالمطر تنزيلا وبالرّبط تأويلا (الْأَقْدامَ) البدنيّة على التّراب لتلبّده وعلى الدّين لوصولكم الى مطلوبكم (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ) يجوز ان يكون ظرفا لكلّ من الأفعال المذكورة من قوله يغشّيكم الى قوله يثّبت به الاقدام منفردا أو على سبيل التّنازع ، ويجوز ان يكون بدلا من إذ الاولى ومن إذ الثّانية والثّالثة (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعنى لست مخالفكم في التّثبيت حتّى لا يتيسّر لكم التّثبيت (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) اعانة لكم في التّثبيت حتّى يتمّ لكم امره (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) حتّى اطرقوا رؤسهم أو فاقطعوا رؤسهم (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) رؤس الأصابع ، وتكرار اضربوا واضافة لفظة فوق من التّطويل المطلوب

٢٢٩

في مقام اشتداد الغضب وتنزيل ضرب البنان واضح وتأويله عبارة عن ضرب بنان نفوسهم الخبيثة الّتى بها يثلمون دين الإسلام وعقائد ضعفاء المسلمين (ذلِكَ) التّشديد الشّديد عليهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكُمْ) ايّها الكافرون فهو التفات وهو من باب الاشتغال وتخلّل الفاء بتقدير امّا أو توهّمها وهو مبتدء محذوف الخبر اى ذلكم لكم أو مفعول فعل محذوف اى خذوا ذلكم أو هو اسم فعل بمعنى خذوا لغلبة استعماله بعد حذف الفعل في هذا المعنى (فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) شأن نزول الآية وقصّة بدر مذكور في الاخبار ويكفى منها للاطّلاع عليها ما في الصّافى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) كثيرا ، والزّحف العسكر لانّهم يزحفون اى يدبّون (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) يوم إذ لقيتم الّذين كفروا زحفا (دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) طالبا حرفا من محلّ القتال للتّمكّن من المقاتلة أو للاحتيال مع العدوّ ليتخيّل انّه انهزم ليكيد بالعدوّ (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) للاستغاثة بهم (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هذه احدى الكبائر الّتى توعد عليها النّار وهو المسمّى بالفرار من الزّحف ، ولمّا ذكّر المؤمنين نصرة الملائكة ومعيّته تعالى للملائكة وامره لهم بالضّرب فوق الأعناق وضرب كلّ بنان وتوهّم انّ المؤمنين لا دخل لهم في القتال وفرارهم وثباتهم ومجاهدتهم وقعودهم متساوية استدرك ذلك التّوهّم ، بانّ فعل الملائكة لا يظهر الّا بالمظاهر البشريّة فأنتم وان لم تكونوا فاعلين حقيقة لكنّكم مظاهر فعل الملائكة فاذا لقيتم الّذين كفروا فلا تولّوهم الأدبار حتّى يجرى قدر الله وفعل الملائكة بتوسّطكم ثمّ اثبت مقتضى نصره بالملائكة وامره ايّاهم بالقتل والضّرب فقال : إذا كان القتل بالملائكة والنّصرة بهم «ف» أنتم (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ثمّ صرف الخطاب الى نبيّه (ص) وقال (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اعلم ، انّ حقّ هذه العبارة الّتى هي في مقام قصر القلب أو الإفراد ان يقال : فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم وما أنت رميت ولكنّ الله رمى ، ثمّ حقّ القرينتين ان تكونا متوافقتين وقد اختلفتا في اداة النّفى وذكر المفعول وحذفه ومضىّ الفعل ومضارعته وإثباته لمن نفى عنه وعدمه ؛ والوجه في ذلك انّ الإنسان له وجهة الهيّة بها فاعليّته ووجهة نفسيّة بها ينسب الأفعال الى نفسه وقد يرتفع عنه بالرّياضات والمجاهدات إذا كان سالكا الى الله وجهته النّفسيّة بحيث لا يرى من نفسه أثرا في البين ولا يرى في الوجود الّا الله ووجهته ، فحينئذ يصحّ سلب الأفعال عنه حقيقة وفي نظره أيضا لانّه لا يرى لنفسه وجودا ولا أثرا ، ويسمّى هذا المقام في اصطلاحهم مقام الفناء ، فاذا صحا من فنائه وغشوته صار باقيا بالله لا بنفسه يعنى يرى للوجود مراتب ولكن لا يرى للحدود وجودا فيرى وجوده مرتبة من وجود الله لا مباينا لوجود الله ، فحينئذ يرى لمرتبة نفسه وجودا هو وجود الله في تلك المرتبة وهو المسمّى بالبقاء بالله ، فيصحّ منه نسبة الوجود الى نفسه ونسبة اثر الوجود إليها حسب استشعاره لمراتب الوجود لكن نسبة اثر الوجود حينئذ غير النّسبة الّتى كانت قبل الفناء ، وان لم يصح من فنائه فلم يكن نسبة للفعل اليه في نظره لانّه لا يرى في الوجود الّا الله ولا يرى الفعل الّا من الله ، وقد يذهل عن وجهته النّفسيّة بأسباب خارجة وعوارض طارية كغلبة الخوف والغضب والفرح وغير ذلك ، وحينئذ لا يستشعر بنفسه ولا بفعل نفسه ولا يصحّ نسبة الفعل اليه في نظره كمن يرى في حال اشتغاله من كان في مقابله ولا يستشعر برؤيته بل ينفى الرّؤية عن نفسه ؛ إذا تقرّر هذا فنقول : انّ المؤمنين في حال القتال ذهلوا عن أنفسهم لغلبة الدّهشة عليهم بحيث لم يستشعروا

٢٣٠

بأنفسهم ولا بفعل أنفسهم بل كانت الملائكة تقلّبهم وتوقع الحركة فيهم وتظهر صورة القتال على أيديهم فلو قال تعالى : أنتم لم تقتلوهم كان اثباتا لنفسيّة لهم ونفيا للفعل عنهم ، وكذا لو قال : إذ قتلتموهم كان اثباتا للفعل والنّفسيّة جميعا لهم ، والحال انّه لم يكن في نظرهم نفسيّة لأنفسهم ولا فعل وأيضا لو قال : ما قتلتموهم ، كان اشعارا بنفسيّة ما لهم حيث صرّح بالفاعل بخلاف لم تقتلوهم ، فانّ الواو وان كان ضميرا لكنّه مشترك بين الغائب والحاضر وحرف الاعراب فكأنّه غير مصرّح بالفاعل ، والرّسول (ص) لمّا كان له نفسيّة بنفسيّة الله وبقاء ببقاء الله أتى بالماضي المصرّح بالفاعل ثمّ اثبت له الفعل المنفىّ ولم يقدّم المسند اليه هاهنا لانّه يقتضي المقابلة لله أو المشاركة معه وكلاهما منتف في الواقع وفي نظره (ص) ، لانّ نفسيّته لم تكن الّا بنفسيّة الله ومنه يظهر وجه اختلاف اداتى النّفى أيضا. وامّا وجه الاختلاف بذكر المفعول وحذفه فهو انّ القتل ظهر على أيديهم وبحسب اقتضاء ظهوره في المظاهر البشريّة وصل الى المقتولين بخلاف الرّمى ، فانّه وان ظهر على يده (ص) إذ روى انّه (ص) أخذ كفّا من الحصا بوحي من الله وقرأ : شاهت الوجوه للحىّ القيّوم ، ورماه فلم يبق أحد الّا اشتغل بعينه لكنّ القوّة القسريّة المودعة في الحصاء من المظهر البشرىّ لم تقتض سعة كفّ من الحصا نحوا من الف رجل ولا انحرافها الى كلّ في كلّ ناحية ، فالرّمى كان منه بحسب مظهريّته والإيصال الى المشركين لم يكن منه لا حقيقة ولا بحسب مظهريّته فأسقط المفعول هنا اشعارا بانّ أصل الرّمى ظهر على يده ولكنّ الإيصال الى المشركين لم يجر على يده (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أتى بالعاطف مع انّ المقصود انّ الله قتل ورمى ليبلى المؤمنين لانّ المقصود من الاوّل نفى القتل والرّمى عنهم وإثباته لنفسه تعالى مع قطع النّظر عن السّبب والغاية ولو أتى بالقيد لأوهم انّ المراد نفى الفعل عنهم مقيّدا بالغاية المخصوصة وإثباته كذلك ، مع انّه لم يكن المقصود الّا نفى أصل الفعل وإثباته فهو معطوف على قوله (لكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ورماهم بتقدير قتلهم أو هو خبر مقدّم لقوله ذلكم والمعنى انّه قتلهم ورماهم لينعم على المؤمنين نعمة حسنة من الغنيمة وإعلاء الكلمة ، أو المعنى ليختبر المؤمنين من قبله اختبارا حسنا لا تعب فيه ولا انحراف عن الحقّ يعتبريه ابتلاهم بمجاهدة الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة العدوّ ، وكونه اختبارا وامتحانا واضح ، وكونه حسنا لحسن عاقبته بحصول قوّة القلب لهم وقوّة الايمان مع الغلبة وإعلاء الكلمة والغنيمة الوافرة وفداء الأسرى ، ولعلّ هذا كان أوفق بسياق العبارة ومعاني اللّغة فانّ الإبلاء والبلاء بمعنى الاختبار كثير الاستعمال وبمعنى الانعام لم يذكره بعض اللّغويّين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لدعاء النّبىّ (ص) واستغاثة المؤمنين (عَلِيمٌ) بما يصلحهم من الانعام وعدمه أو انّ الله سميع لمقالتهم للنّبىّ (ص) وكراهة المقاتلة عليم بما هو صلاحهم من الجهاد مع العدوّ ومعارضة العير والغارة عليهم (ذلِكُمْ) البلاء أو القتل والرّمى وهو مبتدأ مؤخّر أو خبر مبتدء محذوف (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) عطف على ليبلي أو على ذلكم (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) ايّها الكافرون على ان يكون الخطاب لمشركي مكّة كما قيل : انّهم وقت الخروج من مكّة لغزو بدر تعلّقوا بأستار الكعبة وطلبوا الفتح والنّصرة على محمّد (ص) ونقل أيضا انّ أبا جهل استفتح يوم بدر وطلب النّصرة من الله وقيل الخطاب للمؤمنين (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) تهكّما (وَإِنْ تَنْتَهُوا) عن معاداة الرّسول (ص) وجحوده (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) يعنى هو المختار وليس المقصود اعتبار التّفضيل ، أو التّفضيل مقصود بالنّسبة الى اعتقادهم (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً) اى إغناء أو ضرّا كما لم تغن هذه الكثرة (وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) الجملة حاليّة على قراءة انّ بالكسر ، وعلى قراءة انّ بالفتح فهي معطوفة

٢٣١

على شيئا يعنى لن تغني عنكم فئتكم ضرّا ولا كون الله مع المؤمنين الّذى هو سبب هزيمتكم وضرّكم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذكر معيّته للمؤمنين ونصرتهم بالملائكة ناداهم تلطّفا بهم وترغيبا لهم في طاعة الرّسول (ص) الّتى هي ملاك الايمان وتحذيرا عن مخالفته الّتى هي تنافي الايمان (أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) تلك المواعظ ومعيّة الله ونصرته ، ولمّا كان طاعة الله بطاعة الرّسول (ص) لم يكرّر الفعل وأفرد الضّمير المجرور (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) سماع لفظ كالحيوان (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع المعنى كالإنسان (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُ) عن المقصود (الْبُكْمُ) عن التّنطّق بالحقّ المقصود من السّماع (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) المقصود من إشارات المسموع (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) هذه الشّرطيّة لانتفاء الثّانى لانتفاء الاوّل كما هو أكثر موارد استعمال لو لغة وليست لمحض بيان الملازمة بين التّالى والمقدّم كما هو طريقة استعمال المنطقيّين (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) هذه الشّرطيّة لبيان الملازمة بين التّالى والمقدّم الّذى هو ضدّ ملزوم التّالى مع الاشعار بتحقّق ملزومه الواقعىّ مبالغة في تحقّق التّالى مثل : لو لم يخف الله لم يعصه ، فليست القضيّتان على طريقة استعمال الشّرطيّات في المنطق واقيستها حيث يظنّ انهما صورة قياس اقترانىّ من الشّكل الاوّل ، ولو سلّم فالكبرى مهملة غير منتجة فالبحث بانّه قياس من الشّكل الاوّل وينتج : لو علم الله فيهم خيرا لتولّوا ، ساقط من أصله ، ولو سلّم صحّة القياس فالنتيجة صحيحة من قبيل : لو لم يخف الله لم يعصه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) بالحيوة الانسانيّة وهو الايمان الخاصّ الحاصل بالولاية الّتى هي سبب دخول الايمان في القلب الّذى هو سبب حيوة القلب ، فالمعنى إذا دعاكم الرّسول (ص) لولاية علىّ (ع) ودعاؤه دعاء الله فاستجيبوه ، وقد فسّر في الاخبار بولاية علىّ (ع) والسّرّ في ذلك انّ حيوة الإنسان بانفتاح باب قلبه الى دار الحيوان ووصول اثر الحيوة من تلك الدّار اليه وهو الايمان الدّاخل في القلب ، وانفتاح باب القلب ووصول اثر الحيوة اليه لا يتصوّر الّا بالولاية الّتى هي الاتّصال بولىّ الأمر الّذى هو الحىّ بالحيوة الاخرويّة وبإعطاء اثر الحيوة بنفخته في القلب بتلقين الذّكر الّذى هو سبب انفتاح بابه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) اى يصير حائلا بين المرء ونفسه فان أراد سعادة المرء يمنع من وصول اثر عصيانها اليه لئلّا يقوده الى النّار ، وان أراد شقاوته يمنع من وصول اثر طاعتها اليه لئلّا يقوده الى الجنّة ، أو يصير حائلا بين المرء وقلبه الّذى به خيراته وحيوته الحقيقيّة فيمنع ان شاء من وصول اثر الحيوة الانسانيّة اليه ، أو يصير حائلا بينه وبين النّفس لئلّا يعلم انّ الحقّ باطل والباطل حقّ ، أو يصير حائلا بين المرء حين اشتهى شيئا من مشتهياته وبين قلبه الّذى فطر على الحقّ حتّى لا يخرج المشتهيات المرء عن الحقّ الى الباطل أو يصير حائلا بين المرء ونفسه اى مشتهياتها ، فلا يدع المرء ان يتّبع مشتهيات النّفس أو يوقع الحالات بين المرء وقلبه يعنى بيده تسخير الأحوال أو يتردّد بين المرء وقلبه فيعلم خفيّات أحوالهما أو يتردّد بين المرء وقلبه فيوصل الحيوة الابديّة الى المستجيب ويمنعها من غير المستجيب ، والمقصود على كلّ المعاني التّحذير عن ترك الاستجابة والتّرغيب في الاستجابة ، وفي الاخبار تصريح بالبعض وتلويح الى البعض الآخر (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) لا تصيبنّ صفة لفتنة فانّ المقصود التّحذير عن فتنة مخصوصة مقيّدة لا فتنة ما ، ولا الفتنة المطلقة فانّ الاولى لا يتعلّق بها غرض والثّانية

٢٣٢

يناسبها التّعريف باللّام ، ولا تصيبنّ منفىّ مؤكّد بالنّون يجبر شذوذ تأكيده بالنّون بمطلوبيّة المبالغة فيه أو منهىّ مقدّر بالقول ، وفيه وجوه أخر بعيدة عن اللّفظ غير متعلّق بها غرض معنوىّ. اعلم ، انّ الظّلم عبارة عن منع الحقّ عن المستحقّ وإيصاله الى غير المستحقّ وهذا المعنى لا اختصاص له بشيء دون شيء وشخص دون شخص وحقّ دون حقّ ، فمنع الأطفال والنّسوان والأراذل عن مشتهياتهم ظلم بوجه وان كان عدلا بوجه ولذا ورد ثلاثة ان لم تظلموهنّ ظلموك : النّساء والصّبيان والسّفلة ، ومنع الننفس وقواها عن مشتهياتها ظلم بوجه وبالنّسبة إليها وان كان بالنّسبة الى اللّطيفة الانسانيّة عدلا «ظلم بين كز عدلها گو مى برد» ومنع النّفس من حكومة العقل والانقياد تحت امره ظلم ، ومنعها من الانقياد تحت حكومة نبىّ الوقت بالبيعة العامّة ظلم ، وحقيقة الظّلم وأصله وملاكه هو منع اللّطيفة الانسانيّة من قبول الولاية وبواسطته يتحقّق حقيقة الظّلم في كلّ ظلم ، ولولاه لم يكن الظّلم ظلما ، وان كان بصورة الظّلم كقتل محمّد (ص) ونهبه واجلائه كثيرا من مخالفيه وكقتل علىّ (ع) النّاكثين والمارقين والقاسطين ولكونه بصورة الظّلم حملوه على الظّلم وقالوا فيه ما قالوا وفعلوا ما فعلوا حتّى قتلوه ، ولو لا الولاية لم يكن عدل وان كان الخالي عن الولاية بصورة العدل كفعل معاوية وعدله في الامّة ، والمقصود من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم الّذين كانوا من أمّة محمّد (ص) وبايعوا بالبيعة العامّة بقرينة قوله (مِنْكُمْ) خطابا للامّة وظلموا بمنع الإسلام عن حقّه الّذى هو الهداية الى الايمان وترك مودّة ذوي القربى الّتى هي غاية التّبليغ ، والبيعة كأنّ غيره من الخطايا لا تعدّ ظلما منهم وأيضا التّقييد بقوله (مِنْكُمْ) واعتبار حيثيّة القيد يشعر به ، فالظّلم الّذى هو بعد الدّخول تحت حكومة النّبىّ (ص) من حيث هو بعد الدّخول المذكور ليس الّا منع اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة عن الدّخول تحت حكم ولىّ الأمر بالبيعة الخاصّة الّتى بها يدخل الايمان في القلب وبها يتحقّق حقيقة العدل في كلّ عدل وبها ينفتح باب القلب الى الملكوت ، وبها يمكن السّير على الطّريق المستقيم الى الله ، والمراد بالفتنة المقيّدة هو الانحراف عن ولّى الوقت فانّ من كان واقفا على البيعة العامّه كان ظالما على اللّطيفة الانسانيّة والفتنة المصيبة لهم هو الوقوف والانحراف عن البيعة الخاصّة مع ولىّ الوقت الّذى هو علىّ (ع) وهي الفتنة المجاوزة عنهم الى المبتاعين بالبيعة الخاصّة مع محمّد (ص) بعد رحلته والمبتاعين بالبيعة الخاصّة مع علىّ (ع) بعد رحلته والى المبتاعين بالبيعة الخاصّة مع الحسن (ع) بعد رحلته وهكذا الى انقراض العالم. وتفسير الفتنة بما يصل اثره الى غير الفاعل كالغيبة والبدعة وغيرهما يناسب ظاهر التّنزيل واللّفظ لكن ليست هي المقصودة ؛ وقد ورد في الاخبار الاشعار بما ذكرنا غاية الأمر انّها داخلة تحت الآية من باب سعة وجوه القرآن (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فاتّقوا مطلق الفتنة خصوصا الفتنة المذكورة الّتى هي أصل كلّ الفتن (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) من حيث العدد أو من حيث المال ولفظ قليل قد يفرد وقد يجمع (مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) تذكير لهم بنعمه والمراد ضعفهم قبل المهاجرة (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) من قريش (فَآواكُمْ) الى المدينة (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) من الغنائم وغيرها (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وجعل الخطاب للعرب تماما وجعل ضعفهم ذلّتهم عند الرّوم والعجم بعيد جدّا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ان كان نزوله في ابى لبابة بن عبد المنذر الانصارىّ في غزوة بنى قريظة ومشورتهم له في نزولهم على حكم سعد بن معاذ كما قرّره الرّسول (ص) وقوله لهم : ان تنزّلوا على حكمه

٢٣٣

تقتلوا ، كما في الاخبار فالمقصود عامّ والمراد بخيانة الله والرّسول (ص) هو خلاف ما أظهر للرّسول (ص) في البيعة والميثاق من عدم مخالفته ظاهرا وباطنا وارادة خير المؤمنين كذلك ، والمراد بالأمانات امّا الأمانات التّكوينيّة الّتى أصلها واسّها وملاكها الامانة المعروضة على السّماوات والأرض ، الّتى هي اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة المستتبعة لتمام القوى الانسانيّة المستلزمة لتمام التّكاليف الشّرعيّة النّبويّة والاصليّة الولويّة الحاصلة منها تمام المراتب الانسانيّة ، أو الأمانات التّكليفيّة الولويّة القلبيّة من الذكر المأخوذ من ولىّ الأمر وسائر ما يؤخذ ، أو الأمانات التّكليفيّة النّبويّة المأخوذة من نبىّ الوقت من الأعمال القالبيّة الشّرعيّة ، وتخونوا امّا معطوف على المنهىّ فيكون كلّ نهيا مستقلّا أو بتقدير ان بعد الواو بمعنى مع فيكون مشعرا بمعيّة الثّانى للاوّل معيّة المسبّب للسّبب (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) اى تشعرون غير غافلين ووجه التّقييد بالحال الاشارة الى انّ الإنسان قلّما ينفكّ عن غفلة عمّا امر به وانّه خيانة بوجه ما ، لكنّه غير مضيّق عليه وغير مشدّد عليه مثل عدم الغفلة ، ولمّا كان الخيانة كثيرا ما تقع بسبب الأموال والأولاد فانّ الإنسان يدع دينه لأولاده عقّبه بذمّ الأموال والأولاد فقال (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) امتحان لكم من الله هل تشغلون بها عن أماناتكم أم تثبتون معها على أماناتكم فمن شغل بها خلص شقاوته ومن ثبت على أماناته استحقّ اجرا عظيما لخلوص سعادته (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمن ثبت وخلص عن الفتنة سالما ، أو المعنى واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة وفساد لكم فلا تغترّوا بها وانّ الله عنده أجر عظيم فاطلبوه منه بترك الاشتغال بالأموال والأولاد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) في مخالفة الرّسول (ص) (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) نورا فارقا بين الحقّ والباطل وهو نور الولاية ، فالمراد بالتّقوى هي التّقوى المتقدّمة على الايمان الخاصّ ، أو ان تتّقوا الله في الانحراف عن الطّريق المستقيم الى الطّرق النّفسانيّة المعوجّة بالولاية والايمان الخاصّ الدّاخل في القلب بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ حقيقة التّقوى وهي التّحفّظ عن الانحراف الى الطّرق النّفسانيّة لا تحصل الّا بالوصول الى الطّريق الى الله بالولاية ، يجعل لكم فرقانا وتميزا بين الحقائق وحدودها واصيلها واعتباريّها فالمراد بالتّقوى التّقوى الحقيقيّة الحاصلة بالايمان الخاصّ. اعلم ، انّ حقيقة التّقوى وهي التّحفّظ عن اتّباع النّفس في الصّغير وعن اتّباع أصل الشّرور واظلاله في الكبير لا تحصل الّا باتّباع العقل في الصّغير وباتّباع علىّ (ع) في الكبير واتّباع العقل أيضا لا يحصل الّا باتّباع علىّ (ع) وقبول ولايته بالايمان الخاصّ ، لانّ الإنسان ما لم يدخل في الولاية ولم يدخل الايمان في قلبه لا ينفتح باب قلبه وكلّ ما فعل باعتقاده من آثار التّقوى كان صدوره من نفسه وغايته راجعة الى نفسه ، فما تصوّره انّه كان تقوى لم يكن تقوى ، وإذا قبل الولاية بشرائطها المقرّرة عندهم انفتح باب قلبه واقبل الى الوحدة وأدبر عن الكثرة وحصل له امتثال امر الله بالإقبال عن الكثرة ، فكلّما فعل من هذه الجهة كان تقوى من طرق النّفس والكثرة مغيّى بالوحدة ، فكلّما قرأ آية من آيات الايمان وهو القرآن رقى درجة من درجات الايمان وهي درجات الجنان ، وكلّما رقى درجة من درجات الايمان حصل له نور به يبصر الكثرات واعتباريّتها والوحدة واصالتها حتّى إذا وصل الى آخر مراتب التّقوى وهو الفناء الذّاتيّ والتّقوىّ الحقيقيّة حصل له آخر مراتب الفرقان وهو الحشر الى اسم الرّحمن والمالكيّة لما سوى الرّحمن وكأنّه للاشارة الى حصول الفرقان بتدريج الارتقاء أتى بالمضارع الدّالّ على الحصول بالتّدريج ، أو المراد ان تنتهوا في تقوى الله بالفناء من أنفسكم يجعل لكم فرقانا حاصلا بالحشر الى الرّحمن وهذا الفرقان هو النّبوّة أو الرّسالة أو الخلافة

٢٣٤

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الّتى تحتاج الى التّعمّل في الزّوال الّتى هي الحدود الظّلمانيّة والتّعيّنات الّتى هي مساوي الإنسان إذ بعد حصول الفرقان لا يرى الّا مراتب الوجود الّتى هي مراتب النّور لا حدوده الّتى هي مراتب الظّلمات الّتى بعضها فوق بعض (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) مساويكم الّتى لا تنفكّ عن الإنسان وهي تبعة المراتب ونقائصها (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) من قبيل اقامة السّبب مقام المسبّب اى ويتفضّل عليكم لانّ الله ذو الفضل العظيم ذكر أوصافا اربعة : النّور الفارق ، وتكفير المساوى ، وإزالتها بواسطة النّور وغفران الصّغائر ، والفضل العظيم الّذى لا يحدّ ولا يوصف (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) واذكر أو ذكّر إذ يمكر بك (الَّذِينَ كَفَرُوا) تذكير لما أنعم عليه من النّجاة مع غاية مكر قريش حين اجتمعوا وتشاوروا في دار النّدوة واجتمع رأيهم على قتله بالاتّفاق حتّى يكون من كلّ قبيلة رجل فيتفرّق دمه على القبائل ولا يتيسّر لبني هاشم القصاص ، وقصّتهم مذكورة في الصّافى وغيره (لِيُثْبِتُوكَ) بالحبس (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ) وإذ يمكرون بأىّ نحو يتصوّر فهو معطوف على يمكر أو هو عطف باعتبار المعنى كأنّه قيل : مكروا ومكر الله ويمكرون في الحال (وَيَمْكُرُ اللهُ) بأخذهم من حيث لا يعلمون أو هو استيناف (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) من حيث لا يمكن الاطّلاع على سبب اخذه لغاية خفائه ومن حيث لا يتخلّف المقصود من مكره (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) عطف على يمكرون (قالُوا قَدْ سَمِعْنا) استهزاء (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) قيل قائله النّضر بن الحارث بن كلدة الّذى قتل يوم بدر بعد أسره على يد علىّ (ع) (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) اسمار الاوّلين فانّه يكنّى بالاساطير عنها (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قيل : قائله كان بمكّة قبل الهجرة حين ادّعى النّبىّ (ص) النّبوّة ووعد قريشا انّهم يملكون بتصديقه (ص) ملوك الأرض وقائله كان النّضر أو أبا جهل ، وقيل : قائله ابو جهل يوم بدر ، وقيل : قائله كان بغدير خمّ ، وقيل : بمدينة بعد غدير خمّ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يعنى انّ لهم امانين من عذاب الله أنت والاستغفار ، فما دمت فيهم لم يعذّبهم ، وما داموا استغفروا أيضا لم يعذّبهم ، وتكرار الفعل واختلافهما في الخبر للاشارة الى انّ كلا منهما أمان بالاستقلال والاوّل أتمّ وأقوى فانّ الإتيان بلام الجحود في خبر كان للمبالغة (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) يعنى انّ امهال الله ايّاهم ليس بسبب من أنفسهم بل ليس من قبل أنفسهم الّا استحقاق العذاب (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعنى يمنعون النّاس عن البقعة المخصوصة أو عن نبوّة النّبىّ (ص) ويمنعون النّاس في العالم الصّغير عن الدّخول في المسجد الحرام الّذى هو الصّدر المتّصل بالقلب أو يعرضون ، وعلى هذا ان كان النّزول خاصّا فالمقصود عامّ يشمل الامّة المنافقة المنحرفة الى انقراض العالم (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) كما يفتخرون بأنّهم أولياء البيت وكما افتخروا بأنّهم أولياء محمّد (ص) وغصبوا حقّ علىّ (ع) (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) بالتّقوى العامّة أو الخاصّة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معنى ولاية البيت وانّ ولاية البيت مخصوصة بمن اتّقى عن الشّرك واتّباع النّفس وهواها (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء الصّفير ، والتّصدية التّصفيق كانوا يطوفون

٢٣٥

بالبيت عراة يشبّكون بين أصابعهم ويصفرون ويصفّقون وكانوا يفعلون إذا قرأ رسول الله (ص) في صلوته يخلّطون عليه (فَذُوقُوا الْعَذابَ) بالقتل والأسر يوم بدر أو بالنّار في الآخرة (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) يستمرّون على الإنفاق. اعلم ، انّه لا اختصاص للمال بالاعراض الدّنيويّة بل يعمّها والقوى البدنيّة والقوى النّفسانيّة بل هي اولى بكونها مالا من الاعراض لانّ نسبة المملوكيّة هنا حقيقيّة وهناك اعتباريّة صرفة لا حقيقة لها ، والإنسان ما لم يخرج من هذا البنيان شغله اكتساب المال الصّورىّ والمعنوىّ وإنفاقه ، فان كان متوجّها الى الله يصدق عليه انّه ينفق في سبيل الله اى حالكونه في سبيله أو في حفظ سبيله وتقويته وان كان متوجّها الى الملكوت السّفلى يصدق عليه انّه ينفق في سبيل الطّاغوت بمعنييه ويصدق عليه انّه ينفق لصدّ النّاس عن المسجد الحرام وعن سبيل الله صورة ومعنى ، ولصدّ القوى والمدارك عن التّوجّه الى القلب فالكافرون شغلهم الإنفاق مستمرّا (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) اى سبيل الحجّ أو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) أو الصّدر المنشرح بالإسلام أو القلب (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) لعدم عوض للمنفق بل لنقصان ذواتهم بالإنفاق (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) ظاهرا وباطنا ان كان نزول الآية في قريش حين خروجهم لغزو بدر وإنفاقهم في ذلك كما ورد في الخبر فلا ينافي عمومها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) تكرار الموصول للتّفضيح والاشارة الى علّة الحكم (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) يعنى كما انّ شغلهم الإنفاق للصّدّ كذلك سلوكهم ليس الّا الى جهنّم ، لانّ شغلهم الإنفاق في سبيل الطّاغوت فسلوكهم على سبيل الطّاغوت وهو سبيل جهنّم ، وفعلنا ان نحشرهم آنا فآنا حشرا بعد حشر الى جهنّم وغاية هذا الفعل كراهة اختلاط المؤمن والكافر وتميز الكافر من المؤمن ، هذا في الكبير ، وامّا في الصّغير فالقوى الحيوانيّة البهيميّة والسّبعيّة والقوى الشّيطانيّة اللّاتى شأنها الكفر بالعقل تنفق قوّتها لصدّ سائر القوى عن سبيل العقل وهو سبيل الله وهي متوجّهة الى السّفل الّذى هو دار الشّياطين والجنّة ، وفيه جهنّم فتحشر الى جهنّم آنا فآنا وفي الخبر اشارة الى التّعميم وذلك الحشر (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ) لضيق السّفل وعدم سعته (فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) فيجعله متراكما متداقّا (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) بعد انتهاء حشره وتراكمه (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) في موضع التّعليل والإتيان بالمسند اليه باسم الاشارة موضع الضّمير لاحضار حالهم الفظيعة اشعارا بعلّة الحكم ، وتعريف المسند وضمير الفصل للتّأكيد والحصر (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) مخاطبا لهم قولي (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أو مضمون ان ينتهوا يغفر لهم أو قل في حقّهم فالعبارة على ما هو حقّها ، والمراد بالكفر الكفر بالله أو بالنّبىّ (ص) أو بالولىّ (ع) أو بالولاية التّكوينيّة الّتى هي وجهة القلب وطريق الآخرة ، ولذا ورد عن الباقر (ع) انّه قال له رجل : انّى كنت عاملا لبني أميّة فأصبت مالا كثيرا فظننت انّ ذلك لا يحلّ لي فسألت عن ذلك فقيل لي : انّ أهلك ومالك وكلّ شيء لك فهو حرام فقال (ع) : ليس كما قالوا لك ، قال فلي توبة؟ ـ قال (ع) : نعم ، توبتك في كتاب الله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) ما قد سلف ، فعدّه (ع) من الكافرين حيث كفر بالولاية التّكليفيّة أو التّكوينيّة (وَإِنْ يَعُودُوا) الى ما كانوا فيه من الكفر بأحد معانيه ولوازمه من معاداة الرّسول (ص) ومقاتلته مضت معاداتهم على نبيّنا (ص) ولم يبق عليه شينها وبقي عليهم عقوبتها (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الّذين

٢٣٦

كفروا وعادوا أنبياءهم (ع) أو المعنى ان يعودوا الى ما هم فيه فليتوقّعوا عذابنا وانتقامنا كما انتقمنا عمّن سلف ولا اختفاء في انتقامنا عن السّالفين فقد مضت سنّة الاوّلين وصارت اسمارا بحيث لم يبق أحد الّا وقد سمعها (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فساد من الشّرك ولوازمه (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ولا يكون لكلّ دين أو أديان وكان بعضه للّشيطان كالاديان الباطلة وبعضه لله كدينك ، هذا في الصّغير ظاهر ، وامّا في الكبير فقد ورد انّه لم يجئ تأويل هذه الآية بعد انّ رسول الله (ص) رخّص لهم لحاجته وحاجة أصحابه فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم ولكنّهم يقتلون حتّى يوحّدوا الله وحتّى لا يكون شرك (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من الانتهاء والإسلام (بَصِيرٌ) فيجازيهم على حسبه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) فلا تحزنوا ولا تضيّقوا صدرا من تولّيهم (نِعْمَ الْمَوْلى) المتولّى أموركم وتربيتكم (وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

الجزء العاشر

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) اسم الغنيمة قد غلبت على ما كان يؤخذ من الكفّار بالقهر والغلبة حين القتال والّا فهي اسم لكلّ ما استفاد الإنسان من اىّ وجه كان واىّ شيء كان ، فعن الصّادق (ع): هي والله الافادة يوما بيوم (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وقد فسّر ذوي القربى بالإمام من آل محمّد (ص) فانّه ذو القربى حقيقة وفسّر الثّلاثة الاخيرة بمن كان من قرابات الرّسول (ص) جعل ذلك لهم بدلا عن الزّكاة الّتى هي أوساخ النّاس تشريفا لهم (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) جزاؤه محذوف اى فأعطوا خمسه فانّه عبادة ماليّة هي أحد ركني العبادة الّذين هما الصّلوة والزّكاة (وَما أَنْزَلْنا) اى بما أنزلنا (عَلى عَبْدِنا) من احكام العبادات الماليّة والبدنيّة ومن جملتها حكم الخمس أو من الملائكة المنزلين (يَوْمَالْفُرْقانِ) يوم بدر لظهور الحقّ عن الباطل والفرق بينهما فيه وهو متعلّق بآمنتم أو بانزلنا (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) لظهور دلائل صدق النّبوّة بظهور نصرة الحقّ بالملائكة أو بظهور نزول الملائكة وجنود الله للنّصرة ولذا فسّر ما أنزلنا بانزال الملائكة والنّصرة في ذلك اليوم تذكيرا لهم بدلائل صدق النّبوّة وقدرة الله على نصرهم حتّى لا يشمئزّوا عن امره بإعطاء مالهم ثقة بامداده وإعطائه ولذا قال (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعميما بعد تخصيص وهو عطف على ما هو المقصود كأنّه قال فالله قادر على الأمداد ونصرة القليل على الكثير فلا تخافوا من كثرة العدوّ وقلّتكم والله على كلّ شيء قدير فلا تخافوا من قلّة ما في اليد والإنفاق فانّه قادر على اعطائكم (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بدل من يوم الفرقان أو ظرف لا لتقى أو لقدير والعدوة مثلّثة شطّ الوادي (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) والمراد الدّنيا من المدينة والقصوى منها (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعنى عبر قريش والمراد تذكيرهم بقوّة المشركين وشدّة اهتمامهم بالقتال لحفظ العير واستظهارهم بمن كان في العير وهم ابو سفيان وأصحابه وكون مكانهم اثبت للاقدام ومكان المؤمنين يسوخ فيه الاقدام حتّى لا يبقى لهم شكّ في انّ غلبتهم لم تكن الّا بنصرة الله ولذا قيل : كان غزوة بدر من ادلّ الدّلائل على نبوّة نبيّنا (ص) (وَ) الحال

٢٣٧

انّكم لغاية ضعفكم وقوّة أعداءكم (لَوْ تَواعَدْتُمْ) للقتال معهم (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ) ثبّتكم على القتال على هذه الحال ولم يدعكم حتّى تفرّوا (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) اى حقيقا بان يفعل أو مفعولا في الذّرّ من إعلاء كلمته وإعزاز دينه وإذلال أعدائه ، أو هلاك الهالك عن بيّنة أو إنزال الملائكة وإظهار دلائل النّبوّة (لِيَهْلِكَ) بدل عن قوله ليقضى الله على ان يكون المراد بالأمر المفعول إتمام الحجّة وإهلاك الهالك وحيوة الحىّ بعدها أو متعلّق بيقى والمراد الهلاك الصّورىّ أو المعنوىّ (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) بعد بيّنة أو متجاوزا عن بيّنة هي إعزاز المؤمنين وغلبتهم في مقام لا يظنّ الّا ذلّتهم ومغلوبيّتهم ولم يكن ذلك الّا بنزول الملائكة وامدادهم بحيث لم يخف على أحد من الطّرفين (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) لاستغاثتكم فيجيبكم (عَلِيمٌ) بصدوركم وخفّياتها من الخوف والاضطراب وما يصلحها من التّثبيت والأمداد أو لسميع بمقال الهالك والحىّ عليم بحاله ، عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : انّ الله يقضى أو انّ الله يهلك وانّ الله لسميع أو هو استيناف (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) لتخبر أصحابك بقلّتهم ليجترؤا على القتال وهو متعلّق بمتعلّق ليقضى أو بدل من ، إذ أنتم بالعدوة الدّنيا أو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلّق بعليم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) فأخبرت أصحابك (لَفَشِلْتُمْ) جبنتم (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) امر القتال لانحراف آراء أكثركم عن القتال (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) نفوسكم عن الفشل والتّنازع (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بالخفيّات الّتى تصاحب الصّدور فيدبّر أمركم عن علم بما لا تعلمون ، نقل انّ المخاطبة للرّسول (ص) والمعنى لأصحابه يعنى أرى أصحابه المشركين قليلا في منامهم ، وعن الباقر (ع): كان إبليس يوم بدر يقلّل المسلمين في أعين الكفّار ويكثّر الكفّار في أعين النّاس فشدّ عليه جبرئيل (ع) بالسّيف فهرب منه (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) تصديقا لرؤيا الرّسول (ص) وتشجيعا لكم (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) لئلّا يفرّوا من القتال فيقع ما اراده الله من القتال ونصرة المؤمنين وإعلاء كلمتهم ، نقل عن ابن مسعود انّه قال : لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل الى جنبي ، أتراهم سبعين؟ ـ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم؟ ـ قال : ألفا ، وقلّل المؤمنون في أعين الكفّار حتّى قال قائل منهم : انّما هم اكلة جزور ، هذا كان قبل المقاتلة وامّا حين المقاتلة فقد رأوا المؤمنين مثليهم رأى العين (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) كرّره تأكيدا واشعارا بان لا غرض من الأمر بالقتال وتدبير امر المقاتلين من رؤيا القلّة ورؤية القليل وتشجيع المؤمنين وتثبيتهم الّا قضاء ما في اللّوح وإمضاءه من إظهار دينه على الأديان (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) كما انّ منه تدبيرها وصدورها ثمّ بعد ما أظهر انّ النّصر من عنده وانّ أسبابه الظّاهرة أيضا منه وشجّع المؤمنين وثبّتهم قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) من المشركين والكفّار للقتال فانّ اللّقاء غلّب في القتال (فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ثقة بنصره واستظهارا بذكره فانّ القلب يطمئنّ عن الاضطراب والخوف بذكره (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بالظّفر على الأعداء (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركم به في امر القتال وغيره (وَلا تَنازَعُوا) باختلاف الآراء (فَتَفْشَلُوا) تضعفوا عن القتال (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) عظمكم في نظر الأعداء شبّهت العظمة المعنويّة بالرّيح

٢٣٨

الدّاخلة تحت الثّياب الّتى بها تعظم جثّة الإنسان ، أو بالانتفاخ والانتقاش الّذى يكون للسّباع حين ثوران الغضب وهو مثل دائر في العرب والعجم (وَاصْبِرُوا) على الجهاد (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعنى قريشا حين خرجوا مع آلات اللهو (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) ليثنوا عليهم بالشّجاعة والشّوكة فانّهم أخرجوا معهم القيان والخمور وآلات اللهو (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فلا يخفى عليه أعمالكم ولا نيّاتكم (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) عطف على (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ) أو (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) ، أو (إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) على جواز عطف عدّة معطوفات كلّا على سابقه (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) وكان تزيينه بإذن الله ليقضى الله امرا كان مفعولا (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) مجير لكم أو مجاور تمثّل لهم بصورة شخص بشرىّ يقال له سراقة كما في الخبر ، أو أوقع في روعهم ذلك ووسوس إليهم انّ الثّبات على الأصنام وحفظ دينهم امر الهىّ وهو مجيرهم ويحفظهم (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى وهو مثل يضرب لمن خاب من مأموله ورجع عن طلبه (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) يعنى الملائكة (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) من كلامه أو من كلام الله عطفا على قال ، في الخبر : انّ إبليس كان في صفّ المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث : يا سراقة اتخذ لنا على هذه الحال؟ ـ فقال : انّى ارى ما لا ترون ، فقال : والله ما ترى الّا جواسيس يثرب ، فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم النّاس ، فلمّا قدموا مكّة قال النّاس : هزم سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتّى بلغني هزيمتكم فقالوا : انّك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلمّا أسلموا علموا انّ ذلك كان الشّيطان (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ممّن أسلم ظاهرا متعلّق بواحد من الأفعال السّابقة أو بدل من إذ زيّن لهم الشّيطان (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) عزّ وغلب (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يغلب من يتوكّل عليه (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته ما هو صلاح عباده من تجرئة القليل على الكثير وغلبتهم ليظهر حقّيّة دينهم (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) لو للتمنّى لأنّه كثيرا ما يستعمل ليت في أمثال تلك القضايا ولا مانع من جعل لو بمعناها مع انّه غنىّ عن تقدير الجواب ولو جعل لو للّشرط فالجواب محذوف اى لرأيت امرا فظيعا والخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ والمراد توفّيهم يوم بدر أو عامّ (الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يعمّ الضّرب جميع أطرافهم أو المراد الوجوه والأستاه كما في الخبر لانّ الله حيي ويكنّى (وَ) يقولون (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أو يقول الله : ذوقوا عذاب الحريق في الدّنيا أو في الآخرة (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) من قول الله أو الملائكة (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدّمت والمقصود نفى سببيّة ظلمه تعالى وحقّ العبارة حينئذ ان يقول لا بانّ الله ظلّام للعبيد لكنّها لمّا كانت موهمة لنسبة الظّلم اليه تعالى ونفى سببيّته للعقوبة ادّاه بصورة نفى الظّلم وسببيّة النّفى للعقوبة فانّه كثيرا ما يؤتى بأداة التّسبيب ويراد نفى السببيّة كما يقال : فلان بنفسه يفعل كذا ويراد لا بسبب فهو نفى لنسبة الظّلم اليه تعالى صريحا وبسببيّة الظّلم فحوى لا انّه

٢٣٩

بيان لسببيّة عدم الظّلم خصوصا على قاعدة انّ الاعدام لا سببيّة لها لشيء أصلا وما يقال : عدم الشّرط سبب لعدم المشروط فهو بالمقايسة الى الملكات ، والظّلّام من صيغ النسب كتمّار لا من صيغ المبالغة (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) اى ما هم عليه من الكفر والمعاصي المستتبعة للعقوبة كدأب آل فرعون أو هو متعلّق بقوله يتوفّى والتشّبيه تمثيلىّ والدّأب الخصلة والسنّة الّتى اعتادها وداوم عليها صاحبها (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كاقوام الأنبياء (ع) السّلف (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) استيناف جوابا للسّؤال المقدّر عن دأبهم كأنّه قيل : ما كان دأبهم؟ وما فعل بهم؟ (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكَ) العقاب عقيب الكفر والعصيان بانّ عادة الله جرت بان يغيّر النّعمة عقيب تغيير صاحب النّعمة حاله فحقّ العبارة ان يقال بانّ الله يغيّر ما بقوم من نعمة بتغييرهم أحوالهم لكنّه قال (بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) افادة للحصر مع هذا المعنى ونفى التّغيير عنه لا التّصريح بنسبة التّغيير اليه ابتداء (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فيسمع مقالّتهم السّوءى ويعلم تغييرهم حسن أحوالهم فيجري عادته بتغيير نعمته (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) يعنى ذلك التّغيير المستتبع لتغييرنا النّعمة المنعمة كدأب آل فرعون والتّكرار للتّأكيد ومطلوبيّة التّكرار حين الغضب (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ولكون التّكرار للمبالغة ولا بداء اشتداد الغضب بالغضب بالغ وبدّل كفروا بكذّبوا (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) وهذا من مطلوبيّة التّطويل والتّفضيح في مقام الغضب (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا أيضا من التّفضيح والتّغليط والتّطويل في مقام الغضب مثل ما بعده (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) قد فسّروا ببني قريظة فالمراد بالمعاهدة عهد المتاركة وفسّروا أيضا بمنافقى أصحابه فالمراد بالمعاهدة عهد البيعة والاولى التّعميم (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) سخط الله أو لا يتّقون بأسك وبأس المؤمنين (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) ان كان المراد منافقي الامّة فجريان الأمر على يد علىّ (ع) (فَشَرِّدْ بِهِمْ) بقتلهم والنّكاية فيهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) من سائر الكفّار بان يتسامعوا بشدّة بأسك بقتل المقاتلين فلا يطمعوا في مقاتلتك وهو امر بشدّة نكايتهم على أبلغ وجه (لَعَلَّهُمْ) اى من خلف المقاتلين (يَذَّكَّرُونَ) صدق نبوّتك وشدّة بأسك (وَإِمَّا تَخافَنَ) زيادة ما على اداة الشّرط هنا وفي سابقه ولحوق نون التّأكيد للمبالغة في لزوم الجزاء (مِنْ قَوْمٍ) معاهدين بقرينة قوله (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ خِيانَةً) في العهد بنقضه بان يلوح لك اثر المخالفة ونقض العهد ، نقل انّها نزلت في معاوية لمّا خان أمير المؤمنين (ع) وهو ممّا قلنا انّه ممّا جرى على يد علىّ (ع) (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) عهدهم ولا تراعه مشتملا (عَلى سَواءٍ) اى استواء معهم أو حالة مساوية لحالهم في نقض العهد فانّه منك غير مذموم بعد ابتدائهم بنقض العهد (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بنبذ العهد يعنى انّ الخائنين لا جهة محبّة لهم حتّى تراعيها ولا تنقض عهدك معهم (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع المظهر موضع المضمر تصريحا بكفرهم وتفظيعا لهم (سَبَقُوا) فاتوا عنّا أو غلبوا ولعلّه كان انسب لانّه لرفع الخوف

٢٤٠