تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

الشرط المذكور إذا الموصولة في مثل هذا المقام متضمّنة لمعنى الشّرط لكن يقدّر حينئذ بعد الفاء القول اى فيقال لهم : استبشروا ، والوجه الاوّل اولى لتناسبه لقوله وعدا عليه حقّا (وَذلِكَ) البيع الّذى بايعتم على أيدي خلفائه أو ذلك الوعد (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ) هو على قراءة الرّفع مقطوع عن الصّفة للمدح أو مستأنف مقطوع عمّا قبله جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : من المؤمنون المستبشرون؟ ـ فقال : التّائبون ، وعلى كلا التّقديرين فهو خبر مبتدء محذوف ، ونسب الى المعصومين (ع) انّهم قرءوه بالجرّ صفة للمؤمنين والمراد التّائبون بالتّوبة الخاصّة على أيدي خلفاء الله الّتى هي من أجزاء البيعة المذكورة (الْعابِدُونَ) الصّائرون عبيدا خارجين من رقّيّة أنفسهم داخلين في رقّيّة مولاهم أو فاعلين فعل العبيد يعنى كان فعلهم بأمر مولاهم لا بأمر أنفسهم (الْحامِدُونَ) المعتقدون المشاهدون كلّ كمال وجمال من الله فانّه الحمد حقيقة الّذاكرون الله بكماله وجماله بألسنتهم طبق اعتقادهم وشهودهم (السَّائِحُونَ) في أراضي العالم الصّغير والعالم الكبير وفي اخبار الأمم الماضية وفي شرائع الأنبياء ومواعظ الأولياء ونصائحهم وفي الكتب السّماويّة ولا سيّما القرآن المهيمن على الكلّ وقد أشير في الاخبار الى كلّ ، وفسّر أيضا بالصّائمين وقد ورد انّ سياحة أمّتي الصّيام وهو من قبيل التّفسير بالسّبب ، فانّ الصّيام وهو منع القوى الحيوانيّة عن مشتهياتها يضعّفها وبتضعيفها يرتفع الحجاب عن المدارك الانسانيّة وينفتح بصيرة القلب وينطلق رجل العقل فيسيح في أراضي وجوده ويسرى سياحتها الى أراضي سيرة الأنبياء (ع) والأولياء (ع) وكتبهم ، أو يسرى الى سياحة العالم الكبير بالنّظر في آياته والعبرة من تقليباته بأهله فانّه السّياحة حقيقة لا المشي في وجه الأرض خاليا من ذلك النّظر وتلك العبرة (الرَّاكِعُونَ) بالرّكوع المخصوص الّذى هو من أركان الصّلوة الصّوريّة أو بإظهار الخضوع والّذلّ لله ولخلفائه (السَّاجِدُونَ) بسجدة الصّلوة أو بمطلق السّجدة لله أو بغاية الخضوع والتّذلّل (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) لأهالى عوالمهم أو لأهل العالم الكبير بعد استكمال أهالي عوالمهم والفراغ منهم (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) هكذا ، والإتيان بالعاطف لتماميّة السّبعة والعرب في التّعداد إذا تمّ عدد السّبعة يأتى بالواو وتسمّى وأو الثّمانيّة وسرّه تماميّة العوالم الكلّيّة الالهيّة بالسّبع ، وقد مضى في اوّل سورة البقرة تحقيق للأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر عند قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) (الاية) (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) بعد الفراغ من الأمر والنّهى بابقاء المأمورين والمنهيّين على الايتمار والانتهاء في العالم الصّغير والعالم الكبير والحافظون على حدود احكام الله من العبادات والمعاملات وغاياتها المقصودة منها ، مثل ان يحفظ في الصّلوة على الانقياد والخشوع والتّشبّه بالملائكة والشّخوص بين يدي الله والانصراف من التّوجّه الى عالم الطّبع والحيوان الى الله ، ومثل ان يحفظ في النّكاح على التّوالد وإبقاء النّسل وازدياد المودّة والرّحمة والاستيناس ، لا ان يكون نكاحه لمحض قضاء الشّهوة الحيوانيّة واللّذّة النّفسانيّة بل يكون حين اللّذّة حافظا لتلك الغايات ناظرا إليها ، وما ورد في تفسيره بالحفظ على الصّلوة بحفظ أوقاتها وركوعها وسجودها أو بحفظ احكام الله فهو مشير الى هذا المعنى.

أمّهات منازل السّالكين

اعلم ، انّ الآية الشّريفة جامعة لامّهات منازل السّالكين الى الله وأسفارهم مشيرة الى جميع مقامات السّائرين ، فانّ التّائبون اشارة الى منازلهم الحيوانيّة ومقاماتهم الخلقيّة لانّ التّوبة هي السّير من الخلق الى الحقّ وهو السّفر الاوّل من الاسفار الاربعة وللإنسان في هذا السّفر مقامات ومراحل عديدة وليس له الّا التّعب والكلفة ولا يوازى لذّته كلفته ، ولذا ترى أكثر السّالكين

٢٨١

واقفين في هذا السّفر حائرين لا يمكنهم الرّجوع ولا الوقوف على مقامهم الحيوانىّ ، لما أيقنوا من انّ ذلك المقام من مقامات الجحيم ولما رأوا لأنفسهم فيه من العذاب الأليم ولا يمكنهم التّجاوز والسّير الى ما فوقه لكثرة المتاعب وضعف يقينهم وقلّة التذاذهم بالمقامات الانسانيّة وضعف نفوسهم عن التحمّل وقوّة قويهم في طلب مقتضياتها ، والعابدون اشارة الى مقاماتهم الحقّيّة الخلقيّة ، لانّ العبوديّة هي السّير في المقامات الانسانيّة وعلى المراحل الرّوحانيّة الى الانتهاء الى حضرة الأسماء والصّفات ، وهو السّفر الثّانى من الاسفار الاربعة اى السّفر من الحقّ الى الحقّ ، و (الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) اشارة الى مقاماتهم الحقّيّة اى السّير في حضرة الأسماء والتّمكّن في التّحقّق بحقائق الصّفات الالهيّة ، وهو السّفر الثّالث اى السّفر بالحقّ في الحقّ ، و (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) اشارة الى مقاماتهم الالهيّة ومراتبهم الرّبوبيّة اى السّير في المظاهر الالهيّة متّصفين بصفات الرّبوبيّة مبدّلين للخلقيّة بالحقّيّة ناظرين الى المظاهر الى كلّ في مرتبته معطين لكلّ ذي حقّ حقّه ، وهو آخر الاسفار الاربعة يعنى السّفر بالحقّ في الخلق. وبيان هذه الاسفار ومقاماتها وما يرد فيها وما يشاهد منها من الآيات ممّا يضيق عنه بيان البشر ولا يسعه هذا المختصر ، وإجمال القول فيها : انّ الإنسان في زمان الصّبا الى أوان البلوغ حيوان كالخراطين والدّيدان أو كالبهائم والسّباع لا يدرى من الخيرات الّا ما اقتضته القوى الحيوانيّة ولا من الشّرور الّا ما تستضرّ به ، وبعد بلوغ الاشدّ وظهور اللّطيفة الانسانيّة وتميز الخيرات والشّرور العقليّة الانسانيّة ، امّا يقف على الحيوانيّة باقيا فيه شيء من الانسانيّة ، أو يهوى عن الحيوانيّة الى أسفل السّافلين مهلكا للطّيفة الانسانيّة ، أو ينزجر عن الحيوانيّة ويرغب في الخيرات الانسانيّة متدرّجا فيه الى ان يطلب من يبيّن له طريق جلب خيراته ودفع شروره الانسانيّة ، لانّه خارج عن ادراك مداركه الحيوانيّة غير مدرك بمداركه العقليّة لضعفها ، وذلك التّدرّج في الانزجار وان كان توبة وانابة لغة لكنّه لا يسمّى عند أهل الله توبة ولا انابة ، لانّ التّوبة والانابة عندهم اسم للرّجوع عن الحيوانيّة الى الانسانيّة الالهيّة ولخفاء طريقها كثيرا ما يقع الرّاجع عن الحيوانيّة الى حيوانيّة أو شيطانيّة بتدليس الشّيطان وظنّه انّها خيرات انسانيّة فيقع فيما فرّ منه ، فما لم يظهر صحّة رجوعه عن الحيوانيّة الى الانسانيّة لم يطلق عليه اسم التّوبة وصحّة الرّجوع عن الحيوانيّة الى الانسانيّة لا تظهر الّا بقبوله من الله ، وقبوله من الله لا يظهر الّا بقبول خلفاءه وهم المظاهر الانسانيّة والكاملون الفارقون ببصيرتهم بينها وبين الحيوانيّة ، فاذا وصل الى نبىّ أو ولىّ وتاب هو عليه وهي توبة الله عليه واستغفر له في البيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة صدق على رجوعه التّوبة والانابة بجهتيه وصار تائبا ، وبتلك التّوبة لا يحصل له الّا خيراته القالبيّة المؤدّية الى خيراته الانسانيّة ولا يلتذّ بها بل لا يرى فيها الّا التّعب والكلفة ولا يسكن حرارة طلبه للخيرات الانسانيّة ولا يتمّ توبته ، فاذا طلب ووجد وتاب بالتّوبة الخاصّة في البيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب وهناك يتمّ صورة توبته فقد يلتذّ بانمودج خيراته الانسانيّة ، لكنّه ما لم يخرج من ملكه ولم يلج ملكوت السّماوات ولم يشاهد ملكوت شيخة كان تائبا ولم يخلص له اللّذّات الانسانيّة وكان بعد في تعب وكلفة وضيق لا يرضى بحال من أحواله ويتقلّب في الأحوال ، حتّى يشاهد ملكوت الشّيخ ويسكن الشّيخ في ارض صدره ويتمكّن له دينه الّذى ارتضاه له وحينئذ يتمّ سيره من الخلق الى الحقّ ، فانّ ملكوت الشّيخ هي الحقّ بحقّيّة الحقّ الاوّل ويصير حينئذ سالكا الى الله ، لانّه كان قبل ذلك سالكا الى الطّريق ويصير عبدا خارجا من رقّيّة نفسه داخلا في رقّيّة الله ويصير فعله أيضا فعل العبد حيث تمكّن الشّيخ في وجوده وصار بالنّسبة الى شيخة كالملائكة بالنّسبة الى الحقّ

٢٨٢

الاوّل ، لا يعصى الشّيخ وهو بأمره يعمل لا بأمر نفسه ويصدق عليه انّه عبد وعابد ويصير مسافرا بالسّفر الثّانى من الحقّ الى الحقّ لانّ المبدأ ملكوت الشّيخ وهي الحقّ ، والمنتهى هو الحقّ المضاف ، ومراحل هذا السّفر ومقاماتها خارجة عن الحصر والعدّ ، والسّالك في هذا السّفر واله غير شاعر كالمجذوب فاذا وصل الى حضرة الأسماء والصّفات تمّت عبوديّته وفنى عن أفعاله وصفاته وذاته واتّصف بالرّبوبيّة إذا تمّ له هذا السّفر وصحا عن فنائه وصدق ما قالوا : الفقر إذا تمّ هو الله ، وانتهاء العبوديّة ابتداء الرّبوبيّة ، وفي هذا المقام يظهر بعض الشّطحيّات من السّالكين مثل : انا الحقّ ، وسبحاني ما أعظم شأني ، وليس في جبّتى سوى الله ، والسّالك حينئذ مسافر في الحقّ وهو السّفر الثّالث ولا انتهاء لمقامات هذا السّفر ، وفي هذا السّفر لا يرى في الوجود الّا الله ولا يرى جمالا وكمالا الّا لله فينسب تمام الكمال والجمال اليه تعالى من غير شعور بهذه النّسبة منه وهو حمده بل يتحقّق بالصّفات الجماليّة والأسماء الحسنى الالهيّة وهو حامديّته حقيقة ، ويصدق حينئذ عليه انّه سائح حيث انّ السّياحة هي السّير لمشاهدة غرائب صنع الله وهو في السّفر الاوّل لا يمكنه مشاهدة صنع الله بل لا يرى الّا المصنوع ، وفي السّفر الثّانى امّا لا يشعر بصنع ومصنوع بل لا يشعر الّا بشيخه أو لا يرى الّا المصنوع بحسب تقليباته ذات اليمين وذات الشّمال ، وفي هذا السّفر حين يفيق من جذبته يرى ويشاهد لكن لا يرى الّا صنع الله وغرائبه لخروجه من التّعيّنات الكونيّة فلا يرى في الوجود الّا صفاته وأسماءه تعالى ، وكلّ ما يشاهد يتذلّل ويخضع له وهو الرّكوع والسّجود بحسب تفاوت مراتب خضوعه ، فاذا تحقّق بأسمائه وصفاته وتمّ سفره هذا عاد الى ما منه رجع لا صلاح العباد وسافر بالحقّ في الخلق وامر بأمر الله ونهى بنهي الله وحفظ الأمر والنّهى على المأمورين والمنهيّين ، وكذا يحفظ غايات أو امره ونواهيه عليهم ، والمسافر بهذا السّفر امّا نبىّ أو رسول أو خليفة لهما ، ومقامات هذا السّفر أيضا غير متناهية بحسب عدم تناهي كلمات الله وبحسب مقاماته يتعدّد ويختلف مراتب الأنبياء والرّسل ، وما ورد من تحديد الأنبياء بمائة وعشرين ألفا أو بمائة واربعة وعشرين ألفا فهو امّا لمحض بيان الكثرة أو لتحديد أمّهات المقامات ؛ وما ورد عن المعصومين (ع) من تخصيص الأوصاف بأنفسهم قد علم وجهه حيث لا يوجد تلك الأوصاف بحقائقها الّا فيهم لكن إذا صحّ ايمان المؤمن وصدق في ايمانه توجد رقائقها وانموذجاتها فيه فليطلب المؤمن من نفسه فاذا لم يجد لم يكن صادقا في ايمانه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على الأمر السّابق وبينهما اعتراض لبيان حال المؤمنين ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للاشعار بعلّة الحكم ولتصويرهم بأوصافهم المذكورة حيث انّ اللّام للعهد الذكّرىّ والمذكور المؤمنون الموصوفون بالأوصاف المذكورة (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعنى ما صحّ (أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ) بلغ غاية الوضوح (لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) اعلم ، انّ الكافر ما لم ينقطع فطرته الّتى هي لطيفته الانسانيّة لا منع في الاستغفار والدّعاء بالخير له حيّا وميّتا ولا يجوز لعنه على الإطلاق بل يجوز من حيث كفره وشركه ، وللاشارة الى هذا المعنى قوله تعالى (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) ، و (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، وإذا انقطع فطرته يجوز لعنه على الإطلاق ولا يجوز له الدّعاء بالخير ولا يعلم قطع الفطرة الّا بشهود مراتب وجوده أو بوحي من الله أو بسماع من صاحب الكشف أو الوحي ، وما ورد في الاخبار وافتى به العلماء (رض) أيضا من انّ المرتدّ الفطرىّ لا يقبل توبته ناظر الى هذا المعنى ، وما ذكروه من الفرق بين المرتدّ الملّىّ والفطرىّ كما في الاخبار انّما هو باعتبار انّ التّولّد على الإسلام والتّولّد على الكفر ثمّ الخروج عن الإسلام كاشف

٢٨٣

عن الارتدادين وقد مضى تحقيق الارتداد في سورة آل عمران عند قوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا ، وللاشارة الى ما ذكرنا قال تعالى من بعد ما تبيّن بالكشف والوحي أو بالسّماع من صاحب الكشف والوحي لهم : انّهم أصحاب الجحيم منقطعوا الفطرة غير مرجوّى النّجاة يعنى لا قبل هذا التبيّن (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) عطف لاستدراك ما يتوهّم من انّ إبراهيم (ع) كان نبيّا واستغفر لأبيه المشرك (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) يعنى كان استغفاره وفاء بوعده وهو خصلة حسنة وكان قبل ان تبيّن له انّه أصحاب الجحيم بقرينة قوله (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) اى فطرة بمعنى انقطاع جهة محبّته لله وهي اللّطيفة الانسانيّة (تَبَرَّأَ مِنْهُ) مع انّه كان أقرب قراباته وفسّر قوله تعالى الّا عن موعدة وعدها ايّاه بوعد آزر لابنه ان يسلم وهو يؤيّد ما ذكرنا لانّ وعد الإسلام لا يكون الّا عن فطرة الإنسان (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الاوّاه الكثير التّأوّه وأكثر ما يكون التّأوّه إذا كان حزن على فراق محبوب وهو يستلزم كثرة الدّعاء والتّضرّع في الخلوات وحال العبادات فما ورد من تفسيره بالدّعّاء أو بالمتضرّع تفسير باللّازم وهو تعليل لاستغفاره (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) تكوينا بايصالهم الى مقام الانسانيّة الّتى بها يتميّز الخيرات والشّرور الانسانيّة أو تكليفا بايصالهم الى من يبايعهم بيعة عامّة أو بيعة خاصّة وتبيّن لهم خيراتهم وشرورهم التّكليفيّة (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ) تكوينا أو تكليفا (ما يَتَّقُونَ) ما ينبغي ان يتّقوه من شرورهم الانسانيّة لا تمام الحجّة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) جواب سؤال كأنّه قيل ما يعلم دقائق ما يضلّون ويهتدون به وما يتّقون (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتداء كلام غير مرتبط بالسّابق أو تعليل لعلمه بكلّ شيء ، أو تعليل لنسبة الإضلال والهداية والتّبيين الى نفسه ، أو جواب لسؤال عن حالهم مع الله ونسبته تعالى إليهم (يُحْيِي) بالحيوة الحيوانيّة أو بالحيوة الانسانيّة (وَيُمِيتُ) هكذا (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى أموركم بجلب ما هو خيركم إليكم (وَلا نَصِيرٍ) يدفع عنكم شروركم وقد مضى مرارا انّ النّبىّ (ص) بولايته هو الولىّ الّذى يتولّى أمور التّابع من إصلاح حاله في نفسه وبنبوّته ورسالته هو النّصير الّذى ينصر التّابع بدفع الشّرور عنه ، وهذا النّفى لدفع توهّم يرد على قلب المريد النّاقص حيث لا يرى من شيخة المرشد الّا بشريّته وكذا من شيخة الدّليل فيظنّ انّهما بحسب البشريّة أو بأنفسهما يتولّيان مستقلّين أو بالاشتراك مع الله تعليم المريد وإصلاحه ، فرفع هذا الوهم بحصر ذلك في نفسه بمعنى انّهما في تولّى أمور المريد ليسا الّا مظهرين والظّاهر المتولّى هو الله لا هما وحدهما ولا باشتراكهما مع الله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) وقرئ بالنّبى وعلى قراءة على النّبىّ فتوبته تعالى عليه باعتبار توبته على أمّته إعطاء لحكم الجزء للكلّ ، أو لحكم التّابع للمتبوع ، أو التّوبة بمعنى مطلق الرّجوع لانّهم وقعوا في غزوة تبوك في الشّدّة والقحط وشدّة الحرّ وقلّة الماء فرجع بالرّخاء والرّاحة وعدم الحاجة الى القتال والصّلح على الخراج بدون زحمة القتال (وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) حيث تخلّف بعضهم وكره بعض آخر الخروج الى تلك الغزوة فلحق المتخلّفون ورغب الكارهون (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) حين خروجه على كراهة أو بعد خروجه بلحوقهم له (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) في زمان العسرة فانّ غزوة تبوك اتّفقت في شدّة الحرّ وزمان القحط مع بعد السّفر (مِنْ بَعْدِ ما كادَ

٢٨٤

يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن اتّباعه واعتقاد رسالته وقيل : همّ قوم منهم ان ينصرفوا بعد الخروج بدون اذنه فعصمهم الله ، وروى انّ عدد العسكر في تلك الغزوة بلغ خمسة وعشرين ألفا سوى العبيد والاتباع ، وقيل : بلغ عدد جميعهم أربعين ألفا (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) بعصمتهم عن الزّيغ (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) الفرق بين الرّأفة والرّحمة كالفرق بين الأحوال والسّجايا فانّ الرّأفة عبارة عمّا يظهر من آثار الرّحمة من النّصح والحمل على الخير (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) استعمال الخوالف في النّساء والمخلّف في الرّجال للاشارة الى انّ التّخلّف شأنهنّ فتخلّفهنّ لا تعمّل فيه ، وامّا الرّجال فانّ شأنهم التّهييج للقتال وتخلّفهم كأنّه كان بتعمّل وقبول من غيرهم ، ولمّا فهم العامّة من ظاهره انّ رسول الله (ص) خلّفهم أنكر المعصومون (ع) قراءة خلّفوا وقرءوا خالفوا والّا فقد سبق استعمال المخلّف في المتخلّفين المخالفين عند قوله فرح المخلّفون والمعنى فرح الّذين حملهم الشّيطان على التّخلّف لا الرّسول (ص) ، والثّلاثة المخلّفون كانوا كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة كانوا تخلّفوا عن غزوة تبوك واستقبلوا رسول الله (ص) بعد مراجعته ، فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم الجواب وأمر أصحابه ان لا يسلّموا عليهم ولا يكلّموهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ، فدخلوا المدينة ولا يكلّم معهم أحد ، ودخلوا المسجد فلا يسلّم عليهم أحد ، وجاءت نساؤهم الى رسول الله (ص) وقالت : بلغنا سخطك على أزواجنا ؛ أنعتزلهم؟ ـ فقال : لا تعتزلنهم ولكن لا يقاربو كنّ ، فلمّا رأوا ما حلّ بهم قالوا : ما يقعدنا بالمدينة فخرجوا الى الجبال وقالوا : لا نزال في هذه الجبال حتّى يتوب الله علينا ، وكان أهلوهم يأتونهم بالطّعام فيضعونه عندهم ولا يكلّمونهم فلمّا طال عليهم الأمر قال بعضهم : يا قوم سخط الله علينا ورسوله وإخواننا وأهلونا فلا يكلّمنا أحد فما لنا نجتمع ولا يسخط بعضنا بعضا ، فتفرّقوا وحلفوا ان لا يتكلّم أحد منهم أحدا حتّى يموتوا أو يتوب الله عليهم ، فبقوا على هذه الحال فأنزل الله توبتهم على رسوله حين اشتدّ الأمر عليهم (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) بعدم تكلّم رسول الله (ص) ولا أصحابه ولا أهليهم (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) بعدم اجتماعهم وعدم تكلّم بعضهم بعضا (وَظَنُّوا) اى علموا وأيقنوا واطلاق الظّنّ على العلم لما مرّ مرارا انّ علوم النّفس ان كانت يقينيّات فهي ظنون لتوجّهها الى السّفل وتخلّف المعلوم وغاياتها عنها بخلاف علوم العقل فانّ معلوماتها ثابتة وغاياتها غير متخلّفة ، وهؤلاء لمّا كانوا قبل قبول توبتهم واقعين في مرتبة النّفس كانت علومهم ظنونا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) رجع بالرّحمة والتّوفيق عليهم (لِيَتُوبُوا) صادقين الى الله فيقبل توبتهم (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير المراجعة على العباد بالرّحمة والتّوفيق سهل القبول لتوبتهم (الرَّحِيمُ) فلا يدعهم لرحمته ان يدوموا على العصيان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذمّ المتخلّفين عن رسول الله (ص) رغّب المؤمنين في طاعته وعدم التّخلّف عنه ليكون أوقع ولان يجمع بين الوعد والوعيد كما هو شأن النّاصح الحكيم (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اعلم ، انّ الايمان قد يطلق على الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة وانقياد النّفس والقالب تحت احكام القالب المأخوذة من نبىّ (ع) أو خليفته (ع) ، وقد يطلق على الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة وانقياد القلب تحت احكام القلب المأخوذة من صاحب أحكام القلب وهو الايمان حقيقة لصحّة سلب

٢٨٥

اسم الايمان عن الإسلام كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ،) يعنى ما اعتقد تموه ايمانا ليس بإيمان بل هو إسلام ، والتّقوى من سخط الله وعذابه قد تطلق باعتبار مطلق الانزجار عن النّفس ومقتضياتها وهو مقدّم على الإسلام الحقيقىّ الّذى هو هداية للايمان ، وقد تطلق باعتبار الانصراف عن النّفس وطرقها الى طريق القلب والسّلوك اليه والتّقوى بهذا المعنى لا تحصل الّا بالايمان الخاصّ والبيعة الولويّة ، لانّ الإنسان ما لم يبايع بتلك البيعة لم يتّضح له طريق القلب فضلا عن التّوجّه اليه والسّلوك عليه ولم يدخل الايمان في قلبه ، فهذه التّقوى لا تحصل قبل الإسلام ولا قبل الايمان بل هي مع الايمان وتكون بعد الايمان الى ان تحصل التّقوى من ذاته من غير شعور بتقواه وهو الفناء التّامّ الّذى لا فناء بعده وبعده صحو وبقاء بالله واتّصاف بصفات الله الحقيقيّة والاضافيّة الّتى هي داخلة تحت اسم الرّحمن كما قال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) يعنى بعد انتهاء التّقوى لهم صحو واتّصاف بصفة الرّحمانيّة الّتى هي مجمع سائر الصّفات الاضافيّة وباعتبار هذا المعنى خصّصوا التّقوى بشيعتهم ، والصّدق لغة وعرفا مطابقة القول اللّفظىّ أو النّفسىّ للواقع ، وعند أهل الله النّاظرين الى الأشياء بما هي عليه الصّدق مطابقة الأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم لما ينبغي ان يكون الإنسان عليه ، ولما هو نفس الأمر لما ينتسب الى الإنسان بما هو إنسان ، فانّ اللّطيفة الانسانيّة مظهر للعقل ان لم تكن محجوبة باغشية الآراء النّفسيّة والكدورات الطّبيعيّة والعقل مظهر لله تعالى ومظهر المظهر مظهر ، وما ينسب الى مظهر شيء من حيث انّه مظهر ذلك الشّيء ينسب الى ذلك الشّيء حقيقة ويصحّ سلبه عن المظهر كما في قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) في عين انّ القتل كان بأيديهم فسلب نسبة القتل عنهم حيث انّهم لغاية الدّهشة ونزول السّكينة الّتى هي ظهور الحقّ تعالى كانوا مظاهر للسّكينة والسّكينة مظهر لله تعالى فسلب القتل عنهم واثبته للظّاهر فيهم وهو السّكينة اوّلا والحقّ الاوّل ثانيا فقال : (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) إسقاطا لحكم الظّاهر الاوّل أيضا وكذا قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فما هو نفس الأمر لما ينسب الى الإنسان ان يكون بحيث ينسب حقيقة الى الله ويصحّ سلبه عن الإنسان فما ينسب الى الإنسان إذا لم يصحّ نسبته الى الله تعالى أو لم يصحّ سلب نسبته عنه كان كذبا ، وكما انّ القول فعل اللّسان كذلك الأفعال والأحوال والأخلاق والعلوم قول الأركان والجنان ، وصيغة الصّادق لغة تطلق على من اتّصف بصدق ما من غير تعرّض لكونه سجيّة له أو عرضيّا لكنّه غلب في العرف على من صار الصّدق سجيّة له ، فعلى هذا كان الصّادق من تمكّن في الانسانيّة وصار كلّما صدر عنه موافقا لما اقتضته انسانيّته ، وهذا المعنى مخصوص بالإنسان الكامل ولذا حصروا الصّادقين في أنفسهم ، وصيغة الأمر من الكون تدلّ على الاستمرار إذا أطلقت خصوصا إذا كان بعدها ما يدلّ على المعيّة المشعرة بالاستمرار وان كان الأمر من غير الكون مطلقا عن التّقييد بالاستمرار وعدمه إذا أطلق ، والمعيّة تصدق على المصاحبة البدنيّة البشريّة لكن استمرار تلك المصاحبة غير ممكن لافراد البشر حيث تحتاج لبعض ضروريّاتها الى المفارقة البدنيّة على انّها لا تفيد فائدة اخرويّة يعتنى بها إذا لم تقترن بالمصاحبة النّفسيّة ، اما سمعت انّ أكثر المنافقين كانوا اشدّ مصاحبة للنّبىّ (ص) من سائر الصّحابة! وبعضهم سابقا في الهجرة ومذكورا في الكتاب بالمصاحبة! ولمّا كان مصاحبتهم محض المصاحبة البدنيّة لم تنفعهم في الآخرة ، وتصدق على المصاحبة النّفسيّة مع رقائق الصّادقين المأخوذة منهم من الفعليّة الحاصلة في نفوس التّابعين بسبب البيعة والاتّصال الصّورىّ ، وقبول الولاية الّتى هي بمنزلة الانفحة للبن الأعمال وبمنزلة البذر لزرع الآخرة ومن الذّكر

٢٨٦

الّذى يلقّنهم الصّادقون قلبيّا كان أو لسانيّا ، فانّ الذّكر المأخوذ من ولىّ الأمر رقيقته ونازلته الّتى نزلت من مقامه العالي ولبست لباس الذّكر القلبىّ أو اللّسانىّ وتحقيق هذا المطلب قد مضى شطر منه ، وتصدق على المصاحبة النّفسيّة مع حقائقهم الملكوتيّة الّتى يعبّر عنها بصورة الشّيخ وبالسّكينة القلبيّة وبالفكر والرّحمة والنّعمة والآية الكبرى والاسم الأعظم وللاشارة الى تينك المعنيين قال تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) لانّ هذا الذّكر والفكر صلوة حقيقيّة والصّلوة القالبيّة صورة تلك الصّلوة وقالت الصّوفيّة : ينبغي للسّالك ان يكون دائم الذّكر والفكر وقيل بالفارسيّة : «خوشا آنان كه دائم در نمازند» واستمرار تلك المعيّة امر ممكن وان كان النّاقصون من السّلاك في تعسّر منه ، فمعنى الآية يا ايّها الّذين أسلموا بالبيعة العامّة النّبويّة اتّقوا الله بالبيعة الخاصّة الولويّة وداوموا على الذّكر المأخوذ من الصّادقين ان لم تكونوا من أهل الفكر ، أو على الذكّر والفكر ان كنتم من أهل الفكر ، أو يا ايّها الّذين آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة اتّقوا الله في الانصراف عن طريق القلب وداوموا على الذكّر والفكر (ما كانَ) استيناف لتعليل الأمر السّابق والمعنى ما ينبغي (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) من أهل الشّرق والغرب فانّ ما حول المدينة بالنّسبة الى العوالم الاخر تمام الدّنيا وأهلها ما لم يدخلوا في الإسلام اعراب كلّهم وكذلك ما كان لأهل المدينة القلب والصّدر المنشرح بالإسلام ومن حولهما (أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) الّذى هو أصل في الصّدق ، وصدق سائر الصّادقين فرع صدقه (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ) بسبب محبّة أنفسهم أو في أنفسهم أو لا يرغّبوا أنفسهم على ان يكون الباء للتّعدية (عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ) اى عدم جواز التّخلّف والرّغبة (بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش (وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ) مجاعة (فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) من غلبة وقتل وأسر ونهب (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) يعنى سواء أصيبوا أو أصابوا أثيبوا ، وللفرق بين ما عليهم وما لهم أتى بقوله في سبيل الله بين المتعاطفين كما انّ توسّط الاستثناء وتعليله بين المتعاطفات كان لذلك وللتّأكيد بالتّكرير (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يعنى انّهم باتّباعهم لرسول الله (ص) محسنون والله لا يضيع أجر المحسنين (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ) ذلك (لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعنى يكتب كلّما عملوا لينظر إليها ويجزى كلّها بإزاء أحسنها وليس المراد انّه لا يجزى الّا أحسنها ، ويجوز ان يراد هنا انّهم يجزون بأحسن ممّا عملوا. اعلم ، انّ الإنسان كما يكون في الاستكمال بحسب بدنه من اوّل صباه يكون في الاستكمال بحسب نفسه وكلّ فعل يصدر منه خيرا كان أو شرّا يحصل منه فعليّة له ، ولمّا كان واقعا بين عالمي الملائكة والشّياطين ، فان لم يتمكّن في أحد العالمين لا يمكن الحكم عليه بكونه من أهل الرّحمة أو أهل العذاب من غير تقييد بشرط البقاء على الإسلام أو الكفر ، وكان بحسب العاقبة محكوما عليه بكونه مرجى لأمر الله وان لم يكن داخلا في صنفهم ، وان دخل في أحدهما وتمكّن فيه صار جميع الفعليّات الحاصلة له مسخّرة لحاكم ذلك العالم اى العقل أو الشّيطان وصارت محكومة بحكم أحسنها أو اسوئها ، فانّ أحسن الأعمال ما كان الفعليّة الحاصلة منه مسخّرة للعقل وأسوأها ما كان الفعليّة الحاصلة منه مسخّرة للشّيطان ، وغير هذين حسن وسيّئ باعتبار قربهما الى العقل والشّيطان فاذا صار الفعليّات كلّها مسخّرة للعقل بسبب تمكّن صاحبها في اتّباع الأخيار والانقياد لهم كان جزاء كلّ الأعمال سيّئها وحسنها وأحسنها

٢٨٧

بجزاء أحسنها ، وإذا صارت مسخّرة للشّيطان كان الجزاء بالعكس ، وأيضا إذا صار الإنسان متمكّنا في اتّباع الأبرار صار محبوبا لله بمنطوق فاتّبعونى يحببكم الله وإذا صار محبوبا لله صار كلّ اعماله محبوبة سيّئها وحسنها كأحسنها فيجزى الكلّ بمثل أحسنها ، وإذا صار مبغوضا صار كلّ اعماله مبغوضة مثل أقبحها فيجزى بأسوء الّذى كان يعمل من اوّل عمره ، وقد حقّقنا في موضع آخر انّ أسماء الأشياء أسماء لفعليّاتها الاخيرة وأحكامها أيضا جارية على فعليّاتها الاخيرة فمن كان فعليّته الاخيرة فعليّة الولاية كان جزاء جميع فعليّاته جزاء فعليّته الاخيرة وجاريا عليها (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) جميعا عطف على ما كان لأهل المدينة واستدراك لما يتوهّم من الآية السّابقة من لزوم ملازمة النّبىّ (ص) لجميع المؤمنين وعدم جواز التّخلّف عنه في حال من الأحوال ، مع امتناعه عادة لاختلال معيشتهم وعدم كفاية ما في يد النّبىّ (ص) بحاجتهم وضيق محلّه عن سكناهم ، وكون الآية استدراكا مبتن على تلازم العلم والعمل وانّ الغاية من جميع الأعمال حصول العلم ، وحينئذ فوضع المؤمنين موضع ضمير أهل المدينة للاشارة الى انّ ملازمة خدمة النّبىّ (ص) واجبة لأهل الشّرق والغرب ما لم يحصّلوا الإسلام فاذا حصّلوا الإسلام فليس عليهم الّا خروج طائفة مستعدّة لتلك الملازمة حتّى يستكملوا بالعلم والعمل ويستحقّوا الاذن في إرشاد قومهم ، وامّا إذا جعل الآية الاولى في الجهاد والثّانية في تحصيل العلم فهي عطف من دون اعتبار استدراك (فَلَوْ لا نَفَرَ) الى الجهاد أو الى خدمة النّبىّ (ص) أو مشايخه لتحصيل العلم (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) مستعدّون لاستكمال القوّتين العلميّة والعمليّة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ليطلبوا الفقاهة أو ليكمّلوها (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) بعد استكمالهم في القوّتين وإذنهم في الإرشاد وتعليم العباد. اعلم ، انّ الفقه كما مرّ علم دينىّ يتوسّل به الى علم آخر والمقصود العلوم العقليّة الانسانيّة فانّ العلم الدّينىّ هو العلم الانسانىّ العقلىّ عقليّا كان أو خياليّا ، لانّ الإنسان بانسانيّته طريق الى الآخرة وواقع في الطّريق وسائر عليه ، وحيث انّه بانسانيّته سألك على الطّريق يكون علمه في الاشتداد والازدياد دون العلم الخيالىّ الّذى يحصل بتصرّف الواهمة دون العقل سواء سمّى عقليّا أو خياليّا ، فانّه علم نفسىّ حيوانىّ موصل الى الملكوت السّفلى صاد عن طريق الآخرة وان كان صورته صورة علم الآخرة ، فالفقه كما في الصّحيحة النّبويّة امّا علم بالاحكام القالبيّة المسمّاة بالسّنّة القائمة ولا طريق إليها الّا الوحي الالهىّ لخفاء ارتباطها الى عالم الآخرة وخفاء كيفيّة إيصالها اليه ، واختلافها باختلاف درجات المكلّفين بها فهي لا تحصل الّا بالأخذ والتّقليد من نبىّ أو ممّن أخذها منه ، وامّا علم بالنّفس وأخلاقها وأحوالها وهي الفريضة العادلة ، وامّا علم بالعقائد الحقّة الدّينيّة وهي الآيات المحكمات لكون كلّ منها آية وعلامة من الحقّ تعالى ومبدئيّته ومرجعيّته ؛ هذا إذا جعل العقل ذلك وسيلة الى مقاصده الاخرويّة ، وامّا إذا جعله أولهم وسيلة الى آماله الدّنيويّة ومآربه الحيوانيّة فلم يكن فقها ولا علما وأشباه النّاس سمّوه فقها وعلما ، والمراد بالتّفقّه كمال الفقاهة سواء جعل الهيئة للمبالغة أو غيرها لانّه تعالى غيّاه بالإنذار والمراد بالإنذار ما يكون مؤثّرا في المنذر ، ولا يكون الإنذار مؤثّرا في المنذر الّا إذا كان المنذر كاملا في قوتيه العلميّة والعمليّة ، والّا فلفظ الإنذار كثيرا ما يجرى على لسان غير المتفقّه كانذار خلفاء الجور وعلماءهم وقصّاصهم ووعّاظهم ، الّذين كانوا يأمرون ولا يأتمرون وينهون ولا ينتهون ويعظون ولا يتّعظون ولم يحصل من ذلك الّا وبال إتمام الحجّة عليهم لا تأثّر المخاطبين ، ولخفاء كمال النّفس في هاتين القوّتين على المتفقّه وعلى غيره كانوا يحتاجون في الإنذار والأمر والنّهى الى الاذن والاجازة من الامام أو نائبه وكانت

٢٨٨

سلسلة الاجازة منضبطة في سلسلة العلماء الظّاهرة والباطنة (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) موبقات أنفسهم وقد ورد في تفسير قول النّبىّ (ص): اختلاف أمّتي رحمة ؛ انّه اختلافهم من البلدان اليه (ص) أو الى خلفائه (ع) للتّفقّه لا اختلافهم في الدّين حتّى يكون اجتماعهم عذابا ، ويمكن تصحيح ظاهره بان يكون المراد اختلافهم في كيفيّة التّكليف حيث انّ كلّا مكلّف على قدر مرتبته كما قيل : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، وقد ورد في تعميم الآية انّه يجرى في النّفر بعد وفاة الامام (ع) لتعيين الامام الّذى يكون بعده ودرك خدمته وتجديد التّوبة والبيعة معه ، وقد فسّرت أيضا هكذا ، فلو لا نفر من كلّ فرقة طائفة للجهاد واقام طائفة للتّفقّه ليتفقّه المقيمون (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) اى يقربون منكم فانّ التجاوز عنهم الى الأباعد لا يرتضيه العقل لانّه إيقاع للأنفس بين الأعداء وترك للاحتياط بالنّسبة الى من خلّفتموه في أوطانكم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) وشدّة بأس حتّى لا يجترءوا عليكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فاتّقوا أغراض النّفس في القتال من المراياة والصّيت والغنيمة تنصروا فهو تخصيص على التّقوى (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) عطف على مقدّر كأنّه قال لكن إذا أمروا بالقتال تثبّط بعضهم وإذا ما أنزلت سورة (فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) استهزاء (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) جواب وردّ عليهم من الله (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بنزولها لانّهم يرونها نعمة لهم (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) تعريض بالمنافقين (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) شكّا ووسوسة الى شكّهم (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) فاستحقّوا الخلود (أَوَلا يَرَوْنَ) توبيخ لهم على عدم عبرتهم وعدم توبتهم (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) بالبلايا في أبدانهم وفي أنفسهم أو يمتحنون بجهاد الأعداء وظهور آثار صدق النّبوّة بغلبتهم مع عدم تهيّة أسباب الغلبة (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم وكفرهم وخديعتهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) انّ الافتتان من الله وانّه قادر على عذابهم (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) ذمّ آخر يعنى أشاروا بأنظارهم استهزاء أو غيظا لما يرون فيها من عيوبهم قائلين (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) يعنى ان قمتم وصرفتم من هذا المجلس (ثُمَّ انْصَرَفُوا) قاموا من مجلس محمّد (ص) وانصرفوا عنه غيظا (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) استيناف ، دعاء عليهم أو اخبار عن حالهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) لا يدركون إدراكا يوصلهم الى طريق الآخرة ويستعقب إدراكا آخر من امر الآخرة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) من جنسكم بشر أو عرب أو إنسان كامل على ان يكون الخطاب للائمّة ، وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء اى من أشرفكم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) عنتكم (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) على حفظكم وايمانكم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) التفات من الخطاب الى الغيبة ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم ، وعلى تخصيص الخطاب بالأئمّة فالتّصريح بالمؤمنين للتّعميم كما ورد عنهم انّ من أنفسكم فينا ، وعزيز عليه ما عنتّم فينا ، وحريص عليكم فينا ، وبالمؤمنين رؤف رحيم شركنا المؤمنون في هذه الرّابعة (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عنك وعن الايمان بك (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) استظهارا به وبإعانته (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفيا للغير فضلا عن الحاجة اليه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) من قبيل عطف العلّة.

٢٨٩

سورة يونس

مائة وتسع آيات ، وقيل : عشر آيات وهي مكّية كلّها : وقيل : سوى ثلاث آيات (فَإِنْ كُنْتَ

فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) (الى آخرها) وقيل : الّا آية هي (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) (الاية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر) قد مضى في اوّل البقرة وفي مطاوى ما سبق انّ أمثال هذا من الرّموز الّتى يعبّر بها عمّا عاينه المنسلخ عن هذا العالم من مراتب الوجود وآياته العظمى فيلقّيها الملك بالوحي أو بالتّحديث مشارا بها الى تلك المراتب والآيات ، وإذا أريد التّعبير عن المقصود بها للراقدين في فراش الطّبع يعبّر بالمناسبات والتّمثيلات كما يظهر الحقائق للنّائم بالمناسبات والتّمثيلات فيحتاج الى تعبير من خبير بصير ، فما ورد في تفسيرها من كون الالف اشارة الى الله ، واللّام اشارة الى جبرئيل ، والميم أو الرّاء اشارة الى محمّد (ص) ، وكذا ما ورد من انّ معناه : انا الله الرّؤوف ، تمثيل محتاج الى التّعبير ، وما ورد انّ الحروف المقطّعة في القرآن حروف اسم الله الأعظم يؤلّفها الرّسول (ص) أو الامام فيدعو بها فيجاب فهو اشارة الى خواصّها الّتى تترتّب عليها بحسب اعدادها ونقوشها كما أشير اليه في الاخبار ، أو كناية عن اتّصافه بحقائقها (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) اشارة الى المراتب المشهورة المعبّر عنها بتلك الحروف ووجوه الاعراب في أمثاله والفرق بين الكلام والكتاب قد سبق في اوّل البقرة (الْحَكِيمِ) ذي الحكمة في العلم والعمل لانّ المراد بالكتاب مراتب الوجود من العقول والنّفوس وهي ذات حكمة في العلم والعمل يعنى علمها وعملها مشتملان على الدّقائق أو المحكم الّذى لا نسخ فيه فانّ المتشابه هو جملة عالم الطّبع بحقائقها وآثارها ومنه الكتاب التّدوينىّ وعالم الطّبع من حيث ذاته متشابه وان كان من حيث انتسابه الى الله محكما (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) لمّا اعتقدوا انّ الرّسول لا بدّ وان يكون مناسبا للمرسل والمناسب لله هو الملك تعجّبوا من ادّعاء البشر لرسالة من الله واعتقدوا انّه فرية عظيمة وهذا حمق وسفاهة منهم ، فانّ الرّسول كما يكون مناسبا للمرسل ينبغي ان يكون مناسبا للمرسل إليهم ولا يكون الّا من كان ذا شأنين ؛ شأن الهىّ وشأن خلقىّ حتّى يناسب بشأنيّة الطّرفين فأنكر سبحانه تعجّبهم ووبّخهم على ذلك (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) وضع المظهر موضع المضمر لئلّا يتوهّم ارادة المتعجّبين منهم

٢٩٠

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) خصّ البشارة بالمؤمنين لانّ الإنذار عامّ لهم ولغيرهم والبشارة بنعم الآخرة لا تكون الّا للمؤمنين وقد يخصّ الإنذار بالكفّار لانّ إنذار المؤمنين لا يكون الّا من جهة غفلتهم وكفرهم الخفىّ (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) كما يكون سلوك البدن بالمركب أو الرّجلين كذلك سلوك النّفس ومركبها ورجلاها الصّدق ، فالصّدق بحسب الظّاهر استعارة تخييليّة وإثبات القدم له ترشيح وتنكير الصّدق وافراد القدم اشارة الى كفاية ثبات قدم واحدة لشيء من الصّدق (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لانّه يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون فاذا ثبت لهم قدم واحدة من صدق ما فازوا بكلّما وعد الله المقرّبين ، وقد فسّر في الاخبار بالشّفاعة وبمحمّد (ص) وبالولاية والكلّ صحيح كما عرفت (قالَ الْكافِرُونَ) بيان لانكارهم الوحي المستفاد من تعجّبهم ولذا لم يأت بالعاطف وجعله جوابا للسّؤال عنهم (إِنَّ هذا) القرآن أو الادّعاء من محمّد (ص) أو تصرّفه في النّاس وصرفهم الى نفسه أو المجموع (لَساحِرٌ مُبِينٌ) كلّ فعل أو قول دقيق يؤثّر في النّفوس ولا يعلم سبب تأثيره يسمّى سحرا سواء كان بالتّصرّفات الملكوتيّة السّفليّة أو العلويّة أو امتزاجات القوى الرّوحانيّة مع القوى الطّبيعيّة أو بالتّصرّفات الطّبيعيّة المحضة (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) صرف الخطاب إليهم بعد ما أنكر عليهم ووبّخهم مزجا للوعد والوعيد والرّحم والغضب كما هو عادته تعالى وعادة خلفائه في الوعظ والنّصح من الشّروع في الإنذار والوعيد والختم بالبشارة والوعد ، ولذلك ختم بوعد المؤمنين بأبسط وجه وللتّباين بينهما لم يأت بأداة الوصل ، وقد سبق تفسير الآية بتمام اجزائها في سورة الأعراف (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر أو حال عن فاعل خلق أو استوى منفردا أو على التّنازع ولمّا كان خلقة السّماوات والأرض وكذا استواؤه على العرش امرا قضى بحسب ظاهر الحسّ والتّدبير امرا يحتاج اليه المخلوق ما بقي ادّاه بالمضارع الدّالّ على التّجدّد ، والأمر يقال على كلّ فعل كما يقال : باىّ امر اشتغلت؟ وعلى حال الشّخص ، وعلى طلب الشّيء بحكومة ، وعلى فعل ذلك الطّلب ، وعلى المجرّدات الإله الخلق والأمر اشارة اليه ، وعلى المشيّة الّتى بها خلق الأشياء الّتى يعبّر عنها بوجه بالعرش وبوجه بالكرسىّ وهي الولاية المطلّقة والحقيقة المحمّدية (ص) ، والتّدبير عبارة عن النّظر في ادبار الأفعال والأحوال واختيار الأحسن غاية منها ، والمقصود انّ الّذى هو خالقكم غير غافل عنكم ينظر في أموركم وأحوالكم ويختار ما هو خير لكم بحسب دنياكم وآخرتكم ، ومنه إرسال رسول من جنسكم ، أو ينظر في الأمر الّذى هو عالم المجرّدات وكيفيّة تنزيله الى المادّيّات فينزلّه على وفق حكمته وما ننزّله الّا بقدر معلوم اقتضته قابليّاتكم اشارة اليه ، ومنه إرسال الملك فانّه لا يرسل الملك إليكم بلا واسطة بشر استعدّ لمشاهدته لانّه لو أرسل الى غير المستعدّ لاهلكه وهو خلاف التّدبير والنّظر في عاقبة الأمور وهكذا القول في بيانه ان فسّر الأمر بالمشيّة.

تحقيق تعلّق الشّفاعة ومنها الإفتاء للنّاس على الاجازة من الله

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) استيناف جواب لسؤال كأنّه قيل : أليس لأحد دخل في امر النّاس وحالهم؟ أو في تعلّق فعل الله وامره بعالم الطّبع؟ ولا شفاعة أصلا؟ ـ فقال : لا شفاعة الّا باذنه ودخل الشّفيع باذنه تدبيره تعالى لا غير ، أو حال متداخلة أو مترادفة ، والشّفاعة هاهنا بمعنى مسئلة العفو عن ذي سلطنة لغيره أو مسئلة الإحسان اليه وشاع استعماله

٢٩١

في سؤال العفو للغير والشّفاعة عند الله غير مختصّة بالآخرة كما يظنّ ، بل هي ثابتة في الدّنيا للأنبياء (ع) وأوصياءهم إذ استغفار هم للتّائبين البائعين على أيديهم شفاعة ، واستغفارهم بعد ذلك لهم شفاعة ، وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشّرّ ونصحهم ووعظهم كلّها نحو شفاعة ، فمن اجترأ على امر الخلق ونهيهم وبيان حلال الله وحرامه بالفتيا والوعظ الّذى جعلوه صنعة كسائر الصّنائع المعاشيّة والقضاء بين النّاس من غير اذن من الله بلا واسطة أو بواسطة فقد اجترأ على الله ، والاجتراء على الله نهاية الشّقاوة وهذا كسر عظيم على من دخل واجترأ على أخذ البيعة من النّاس من غير اذن من الله ، كما كان ديدن الخلفاء من بنى أميّة وبنى العبّاس ، وكما اجترأ المتشبّهة المبطلة بالصّوفيّة فدخلوا في ذلك من غير اذن من مشايخ المعصومين (ع) ، ولذلك كانت السّلف لم ينقلوا الحديث فضلا عن بيان احكام الله بالرّأى والظّنّ ما لم يجازوا من المعصوم (ع) أو ممّن نصبوه ، ومشايخ الاجازة واجازة الرّواية مشهورة مسطورة وسلسلة اجازتهم مضبوطة ، وكذا الصّوفيّة المحقّة كانوا لا يدخلون في الأمر والنّهى وبيان الأحكام والاستغفار للخلق وأخذ البيعة منهم الّا إذا أجيزوا وسلاسل إجازاتهم مضبوطة عندهم ، وذمّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر والاقدام على الفتيا والوعظ ممّن ليس له باهل خصوصا ممّن جعله وسيلة الى أغراضه الفاسدة ، من جمع المال والتّبسّط في البلاد والتّسلّط على العباد والصّيت وصرف وجوه النّاس اليه وإدخال محبّته في قلوبهم قد كثر وروده في الاخبار ، أعاذنا الله من هذا العار وحفظنا من شرّ أمثال هؤلاء الأشرار ، وقد ورد في وصف مجلس القضاء : هذا مجلس لا يجلس فيه الّا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ ، ومعلوم انّ الوصاية اذن من النّبىّ (ص) في التّصرّف فيما له التّصرّف فيه من حيث نبوّته وماله التّصرّف فيه من حيث نبوّته هو الأحكام الالهيّة الّتى يبلّغها الى عباده وحديث : العلماء ورثة الأنبياء ، يشعر بما ذكرنا ، لانّ الوراثة ليست الّا بالولادة الجسمانيّة أو بالولادة الرّوحانيّة وليست الولادة الجسمانيّة مقصودة ، والولادة الرّوحانيّة لا تحصل بمحض الادّعاء بل هي نسبة خاصّة واتّصال مخصوص ووراثة المتّصل بالنّبىّ (ص) بقدر اتّصاله وقربه وبعده عن النّبىّ الّذى هو مورّثه ، ولا يحصل أصل اتّصال النّسبة الرّوحانيّة الّا بالعمل الصّورىّ والتّفاضل في الاتّصال بحسب التّفاضل في القرب الحاصل بمتابعته وقدر الإرث يختلف بحسب التّفاضل فمن كان له شأن الانوثة كان له قسط من الإرث ، ومن كان له شأن الذّكورة كان له قسطان ، والعارف لذلك التّفاضل لا يكون الّا النّبىّ (ص) أو خليفته فوراثته لا تكون الّا بايراثه وهو الاذن المذكور (ذلِكُمُ) الموصوف بالخالقيّة والاستواء على العرش الّذى هو جملة الأشياء وبتدبير أمركم في البقاء وعدم مداخلة أحد في أمركم الّا باذنه (اللهُ) خبر أو بدل أو صفة على تقدير اعتبار معنى الوصفيّة فيه (رَبَّكُمُ) خبر لذلكم أو صفة لله أو خبر بعد خبر (فَاعْبُدُوهُ) يعنى إذا كان الله الموصوف بتلك الصّفات ربّكم فافعلوا له فعل العبيد أو صيروا له عبيدا ، ولمّا كان المقصود ترغيبهم في عبادته لم يصرّح بحصر العبادة في نفسه ونفى استحقاق الغير (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الا تفكّرون فيه وفي أوصافه وفي آلهتكم الظّاهرة من الأصنام والكواكب وغير المستحقّين للنّيابة الالهيّة وفي آلهتكم الباطنة من اهويتكم الفاسدة واغراضكم الكاسدة فلا تذكّرون انّ الحقيق بالعبادة والاطاعة هو الله ومظاهره البشريّة النّائبة عنه لا آلهتكم الّتى لا جهة استحقاق عبادة فيهم (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) استيناف جواب لسؤال عن العلّة أو عن حاله مع خلقه وعلى الثّانى أيضا يستلزم التّعليل (وَعْدَ اللهِ) وعد الله وعدا (حَقًّا) مفعول مطلق تأكيد لنفسه ان جعل من قبيل له علىّ درهم حقّا ، أو تأكيد لغيره ان جعل من قبيل : إبني أنت حقّا ، أو حال من وعد الله ، والموعود امّا

٢٩٢

إرجاع الكلّ اليه أو بدء الخلق واعادتهم للجزاء (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) بيان للموعود ولذا لم يأت بأداة الوصل ، أو تعليل لرجوع الكلّ اليه ان جعل الموعود إرجاع الكلّ اليه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) بالعدل الّذى هو لائق به من جزاء كلّ أعمالهم بجزاء أحسنها ، أو ذكر القسط هنا تمهيد لوعيد الكفّار للاشارة الى انّه لا ظلم معهم وهو لا ينافي المعاملة معهم بالفضل بعد مراعاة القسط ، والحقّ انّ حقيقة القسط هي الولاية المطلقة المتحقّق بها علىّ (ع) ، وانّ كلّ قسط يوجد في العالم انّما هو من فروع تلك الولاية ، لكن لا يسمّى القسط قسطا شرعا الّا إذا اتّصل الولاية التّكوينيّة بالولاية التّكليفيّة بالبيعة العامّة النّبويّة أو بالبيعة الخاصّة الولويّة ، فالقسط شرعا يستلزم الإسلام أو الايمان والمنظور هاهنا هو ذلك اللّازم كأنّه قال ليجزي الّذين آمنوا بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة وعملوا الصّالحات بالبيعة الخاصّة وما يشترط فيها ، أو بامتثال شرائط البيعة الخاصّة بالإسلام أو بالايمان ويؤيّد هذا المعنى موافقته لقرينته في قوله تعالى : بما كانوا يكفرون ، ولم يعيّن الجزاء تفخيما له بإبهامه اشارة الى انّه جزاء لائق بإعطاءه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على الّذين آمنوا ، وعلى هذا فقوله (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) جملة مستأنفة بيان للجزاء أو عطف على (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أو على مقدّر مستفاد من قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) (الى الآخر) كأنّه قال : فالّذين آمنوا (الى آخر الآية) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) (الى آخر الآية) وعلى هذا فتغيير الأسلوب للاشارة الى انّ جزاء الكفّار من الغايات بالعرض وانّه ينسب الى أنفسهم لانّهم اولى بسيّئاتهم من الله (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) استيناف في معرض التّعليل للبدءة والاعادة للجزاء أو للتّدبير أو في معرض البيان لتدبيره تعالى ، ولم يذكر منازل الشّمس ولا غاية إيجادها ومنافع سيرها لانّها كثيرة لا يحيط بها البيان ولانّ أكثرها مشهودة للعوامّ ولعدم شهرة منازل للشّمس بخلاف القمر (وَالْقَمَرَ نُوراً) الفرق بين النّور والضّياء بالعموم والخصوص وحمل الضّياء والنّور للمبالغة أو باعتبار ما يرى منهما من انّهما نوران متجوهران (وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) قدّر له منازل أو قدّره ذا منازل أو سيّره منازل (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) فانّ الأعوام والشّهور في نظر العوامّ منوطة بدورات القمر دون الشّمس (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) بسبب الحقّ أو بالغاية الحقّة (يُفَصِّلُ الْآياتِ) قرئ بالغيبة والتّكلّم (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اى نفصّلها بالبيان وفي الوجود لقوم لهم صفة العلم.

اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار نطفته في الرّحم بل من اوّل تولّد مادّته من العناصر الى زمان بلوغه سألك على الطّريقة القويمة الانسانيّة بتسبيبات الهيّة ، ومدرك لخيراته بإدراك جمادىّ أو نباتىّ أو حيوانىّ لا بإدراك انسانىّ ، ولا يسمّى إدراكه ذلك علما كما لا يسمّى ادراك غير الإنسان من المواليد علما ، فاذا بلغ بهذا السّلوك أو ان بلوغه واستغلظ في بدنه ونفسه وحصل له العقل الّذى هو مدرك خيراته وشروره الانسانيّة ، فان كان إدراكه للأشياء بقدر مرتبته الدّانية وقوّته الضّعيفة من حيث انّها دوالّ قدرته تعالى وآيات حكمته وأسباب توجّهه وسلوكه الى الحقّ القديم سمّى إدراكه ذلك علما ، وان لم يكن إدراكه كذلك بل يدرك الأشياء مستقلّات في الوجود ولم يدركها من حيث انّها متعلّقات دالّات على صانعها لم يسمّ علما ، بل يسمّى جهلا مشابها للعلم ، مثل ان يرى أحد من بعيد ظلّا لشاخص ويظنّ انّ الظّل شاخص مستقل في الوجود ، وهذا كما يجرى في الآيات الجزئيّة الآفاقيّة والانفسيّة يجرى في الآيات

٢٩٣

القرآنيّة والاخبار المعصوميّة والأحكام الشّرعيّة خصوصا في حقّ من جعلها وسائل للأغراض الدّنيويّة ، والحاصل انّ كلّ ادراك يكون سببا لسلوكه الفطرىّ على الطّريق الانسانىّ ولاشتداد مداركه الانسانيّة وازدياد إدراكاته الاخرويّة يسمّى علما ، وكلّ ادراك يكون سببا لوقوفه عن السّلوك أو لرجوعه عن الطّريق الى الطرق السّفلية الحيوانيّة يكون جهلا بل الجهل السّاذج يكون أفضل منه بمراتب ؛ إذا تقرّر هذا فتفصيل الآيات تكوينا وتدوينا لا يكون الغرض منه الّا ادراك من له صفة العلم لعدم انتفاع الغير به (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) جواب لسؤال ناش عن السّابق وهكذا الجمل المذكورة فيما بعد الّتى لا عاطف فيها (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) لمّا كان الشّمس والقمر من الآيات الظّاهرة علّق كونهما آية على صفة العلم الّتى هي اوّل مراتب الانسانيّة بخلاف سائر المخلوقات وبخلاف اختلاف اللّيل والنّهار ولذلك علّق كونهما آية على التّقوى الّتى مرتبتها فوق مرتبة أصل العلم فانّ التّقوى عمّا يتّقى بعد العلم بما يتقى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) جواب لسؤال ناش عن تعليق الآيات على العلم والتّقوى ، وعدم رجاء اللّقاء كناية عن عدم العلم فانّ العالم بالله طالب للقائه والطّالب راج كما انّ قوله (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) كناية عن عدم التّقوى لانّ الاطمينان بالحيوة الدّنيا مضرّ بالحيوة العليا ومفنيها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) من قبيل عطف المسبّب عن السّبب (أُولئِكَ) تكرار المسند اليه والتّعبير عنه باسم الاشارة لتصويرهم واستحضارهم بالأوصاف المذكورة (مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فانّ الغافل كلّما كسب كان جاذبا له الى السّفل والجحيم وان كان كسبه صورة الصّلوة والصّيام (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اى البيعة الخاصّة وشرائطها أو شرائط البيعة الخاصّة والأعمال الّتى كلّفوا بها فيها (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) المضاف الّذى هو ولىّ أمرهم الى ملكه وولايته على الاوّل والى ملكوته على الثّانى (بِإِيمانِهِمْ) بإسلامهم أو بايمانهم الخاصّ أو يهديهم في الآخرة الى الجنّة (تَجْرِي) حال أو مستأنف جواب سؤال (مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلّق بتجرى أو ظرف مستقرّ حال متداخلة أو مترادفة أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير مبتدء محذوف (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) مستأنف أو حال من جنّات النّعيم أو من المؤمنين على التّرادف أو التّداخل (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ان هي المخفّفة. اعلم ، انّ في الآية اشارة اجماليّة الى درجات المؤمنين ومقامات السّالكين فانّ ، آمنوا اشارة الى البيعة الاسلاميّة ، وعملوا الصّالحات الى البيعة الايمانيّة والأعمال القالبيّة والقلبيّة أو المجموع الى البيعة النّبويّة والأعمال القالبيّة ، ويهديهم الى البيعة الولويّة الايمانيّة والأعمال القلبيّة والسّلوك من مقام النّفس الى مرتبة القلب ، وتجري من تحتهم الأنهار اشارة الى سيرهم فوق مرتبة القلب في مراتب الرّوح والعقل ، ودعواهم فيها سبحانك اللهمّ اشارة الى انتهاء سيرهم وآخر مراتب فناءهم وهو فناؤهم عن ذواتهم وعن فنائها ، وتحيّتهم فيها سلام اشارة الى بقاءهم بالله في الله من غير صحو وبقاء فانّ فيه السّلامة على الإطلاق

٢٩٤

(وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) اشارة الى حشرهم الى اسم الرّحمن وبقاءهم بالله في الخلق لتكميل الغير ، وبعبارة اخرى اشارة الى أسفارهم الاربعة اى السّفر من الخلق الى الحقّ بقوله : آمنوا وعملوا الصّالحات ، والسّفر من الحقّ الى الحقّ بقوله : يهديهم (الى) سبحانك اللهمّ ، والسّفر في الحقّ بقوله تحيّتهم فيها سلام ، والسّفر بالحقّ في الخلق بقوله وآخر دعواهم ، رزقنا الله وجميع المؤمنين (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) عطف على انّ الّذين لا يرجون لقاءنا وتخلّل انّ الّذين آمنوا غير مخلّ بالوصل والعطف لانّه جواب لسؤال ناش عن المعطوف عليه فكأنّه من متعلّقاته كأنّه قال : انّ الّذين لا يرجون لقائنا حالهم كذا مع انّ حال المؤمنين كذا ولو عجّلنا لهم الشّرّ الّذى استحقوه لم يبقوا في الدّنيا متمتّعين (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير فالباء للتعدية أو مثل حثّه وحمله ايّاهم على العجلة في الخير أو بالخير فالباء بمعنى في أو للسببيّة أو مثل عجلتهم في الخير أو بسبب الخير (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأقضي إليهم قضاء مدّتهم الّتى اجّلوا فيها أو لأقضي إليهم آخر عمرهم الّذى اجّلوا اليه (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) عطف على لو يعجّل الله باعتبار المعنى اى لم يعجّل فنذر الّذين لا يرجون أو جزاء شرط محذوف اى إذا لم نقض إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ) حالكونه على جنبه فاللّام بمعنى على والمقصود مطلق إلقاء البدن على الأرض سواء كان على الجنب أو الظّهر أو الوجه ويعبّر بالإلقاء على الجنب عن مطلق أحوال الإلقاء كثيرا في العرب والعجم (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) اى في جملة الأحوال فلفظة أو لتفصيل الأحوال (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) كان المناسب ان يقول فاذا كشفنا حتّى يصحّ تعقيبه للشّرط المستقبل لكنّه ادّاه بالشّرط الماضي اشارة الى انّ مسيس الضّرّ والدّعاء عقيبه سجيّة للإنسان مستغرق للماضي والمستقبل كأنّه قال : إذا مسّ الإنسان الضّرّ دعانا وقد مسّه الضّرّ فدعانا فلمّا كشفنا عنه ضرّه (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) كناية عن اعراضه وعدم عنايته بشأن من كان محتاجا اليه ومتنعّما به وقد صار هذه العبارة مثلا في العرب والعجم في هذا المعنى إذا ذكر بعده ما يدلّ على تشبيه حال المحتاج بغير المحتاج (كَذلِكَ) اى مثل ما زيّن للمكشوفى الضّرّ أعمالهم حتّى لا يبالوا بمن دعوه لكشفه وغفلوا عنه (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اتّباع الشّهوات والانهماك فيها حتّى وقعوا في الغفلات (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بالغفلة وعدم المبالاة بسخط الله ومكره وهو تهديد للغافلين (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) فما اكترثوا بهم وببيّناتهم لغاية غفلتهم (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) لغاية غفلتهم وانهماكهم في الشّهوات لتزيين الشّيطان لهم أعمالهم الشّهويّة (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ) اى خلائف لنا أو للاسلاف (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) وهم الواقعون في جهنّام النّفس والنّفس كالمرأة الخبيثة لا ترضى بوضع يحصل لها وتتمنّى دائما غير الوضع الّذى هو حاصل لها وهؤلاء باقتضاء فطرة النّفس سئلوا تبديل القرآن (أَوْ بَدِّلْهُ) يعنى اترك هذا القرآن وائت بمكانه قرآنا نرتضيه ، أو غيّره بتبديل ما لا نرتضيه

٢٩٥

الى ما نرتضيه (قُلْ ما يَكُونُ) ما يصحّ (لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) اى اغيّره بترك أصله أو بتبديل آياته أو اقتصر على الامتناع عن التّبديل ليدلّ على انّ تركه أصلا اولى بالامتناع (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) بدون امر ربّى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) يعنى ليس لي نفسيّة وامر نفس واتّباع لأمر النّفس لانّ شأنى واتّباعى مقصور على امر ربّى (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) جواب سؤال عن العلّة وتعريض بهم حيث يعصون ولا يخافون (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) اى لا أعلمكم الله به على لساني يظنّ في بادي النّظر انّ حقّ العبارة ان يقال : لو لم يشأ الله ما تلوته حتّى يفيد ترتّب عدم التّلاوة على عدم المشيّة ويستفاد من مفهومه ترتّب التّلاوة على المشيّة ، ومفاد الآية ترتّب عدم التّلاوة على المشيّة واستلزامه بحسب المفهوم لترتّب التّلاوة على عدم المشيّة والحال انّ الوجودىّ يحتاج الى العلّة الوجوديّة والعدم لا علّة له ، وما قالوا : علّة العدم عدم ، فهو من باب المشاكلة ولو سلّم فيقتضى تعليق عدم التّلاوة على عدم المشيّة لا على نفس المشيّة ، والجواب انّه تعالى أراد أن يشير الى انّه لا شأن له (ص) عدميّا كان أو وجوديّا الّا وهو متعلّق بمشيّة الله والعدم الصّرف وان كان لا علّة له ولا تعلّق له بشيء ، لكنّ الاعدام الشّأنيّة اى اعدام الملكات كالوجوديّات تقتضي علّة وتعلّقا وإذا كان عدم تلاوته مع انّه عدميّ متعلّقا بمشيّته تعالى فتلاوته كانت متعلّقة بالطّريق الاولى ، لانّها حادثة وجوديّة مقتضيته للعلّة والتّعلّق ، ومفهوم الآية تعلّق التّلاوة بعدم مشيّة عدم التّلاوة وهو اعمّ من مشيّة التّلاوة أو عدم المشيّة مطلقا (فَقَدْ لَبِثْتُ) الفاء عاطفة على لو شاء الله ما تلوته بملاحظة المعنى مع اشعاره بالسببيّة للاثبات كأنّه قال : تلوته بمشيّة الله لا بمشيّتى وادّعائى ذلك بسبب لبثى فيكم وعدم ظهور مثل ذلك منّى ، كأنّه أشار بتلك السببيّة الى قياسين اقترانيّين من الشّكل الاوّل وقياس استثنائى مأخوذ من نتيجة القياس الثّانى واستثناء نقيض تاليه ترتيبه هكذا : لو لم يكن القرآن باتّباع الوحي ومشيّة الله لكان باختلاق من تلقاء نفسي وكلّما كان باختلاق من تلقاء نفسي ظهر مثل ذلك منّى قبل ذلك ؛ ينتج لو لم يكن بمشيّة الله لظهر مثله قبل ذلك وكلّما ظهر مثله قبل ذلك شاهدتموه وسمعتموه ولكن لم تشاهدوه منّى فقد لبثت (فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) قبل القرآن مدّة أربعين سنة لا يظهر عنّى أمثال ذلك ، وما سمعتم منّى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) لا تدركون بعقولكم أو لا تتصرّفون في مدركاتهم بعقولكم أو لا تصيرون عقلاء (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) تعريض بنفسه وبهم على سبيل التّرديد على طريقة الإنصاف مع الخصم بعد ما اثبت كونه غير مفتر كأنّه قال : ان كنت مفتريا على الله كما تكنون بذلك فانا أظلم النّاس وان كنت آتيا بآيات الله وتكذّبونها فأنتم أظلم النّاس ، أو تعريض بكلتا القرينتين بهم ويكون أو للتّفصيل لا للتّشكيك كأنّه قال بعد ما اثبت انّى غير مفتر : فأنتم أظلم النّاس من جهة افترائكم على الله بنصب الآلهة لأنفسكم وبتكذيب آياته (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) في موضع التّعليل (وَيَعْبُدُونَ) عطف بملاحظة المعنى المقصود بالتّعريض يعنى هم يفترون ويكّذبون ويجرمون ويعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) من الأصنام والكواكب عبادة العبيد ومن الاهوية والآراء والشّياطين عبادة اتّباعيّة ، ومن غير من نصبه الله من رؤساءهم الدّنيويّة أو رؤساءهم الدّينيّة بزعمهم عبادة طاعة ، والمقصود من نفى الضّرّ والنّفع نفى ما يتوهّمونه ضرّا ونفعا ممّا يئول الى دنياهم من غير نظر الى عبادتهم والّا فهي بعبادتهم

٢٩٦

ايّاها تضرّهم غاية الضّرّ (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) كما يقول الوثنىّ : انّ أصنامنا شفعاؤنا عند الله ، وكما يقول أكثر الصّابئين : انّ الكواكب شفعاؤنا ، وبعض يقول : هي قديمة مستقلّة في الآلهة ، كما يقول الزّرداشتيّون : النّار تشفعنا عند الله ، وكما يقول المطيعون لمن يزعمونهم رؤساء الدّين : هؤلاء وسائط بيننا وبين الله ، وكما يقول المتّبعون للأهواء والشّياطين في صورة الأعمال الشّرعيّة الصّادرة من اتّباع النّفس والشّياطين : هي وسائل بيننا وبين الله وأسباب قربنا الى الله والحال انّها وسائل الشّيطان وأسباب القرب الى الجحيم والنّيران (قُلْ) استهزاء (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) بالشّفعاء من حيث شفاعتهم أو بشفاعتهم يعنى انّ ما في السّماوات والأرض معلوم له وما ليس معلوما له فيهما فلا يكون (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) يعنى قبل بعثة الرّسل البشريّة كانوا على مقتضيات شهوات النّفوس آمّة لها متوجّهة إليها وبعد بعثة الرّسل انصرف طائفة عنها الى ما دعتهم الرّسل اليه من الخيرات الاخرويّة الانسانيّة وابى طائفة (فَاخْتَلَفُوا) وقبل بعثة الرّسل الباطنة من العقول كانوا على مقتضيات النّفوس الحيوانيّة آمّة لها وبعد بعثة الرّسل الباطنة انصرف طائفة من قواهم الى ما دعتها الرّسل اليه وبقيت طائفة فاختلفوا وتنازعوا وتقاتلوا (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) كلمة إمهالهم وآجالهم المؤخّرة المعيّنة سبقت فيما كتبه الملك المصوّر في أرحام أمّهاتهم أو سبق ثبتها في الألواح والأقلام العالية (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) لحكم بإظهار الحقّ والباطل وتميّز الحقّ عن المبطل (وَيَقُولُونَ) استهزاء أو استظهارا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) اى على محمّد (ص) (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ممّا اقترحناه أو ممّا يدلّ على رسالته (فَقُلْ) الفاء جواب شرط محذوف أو متوهّم اى إذا قالوا فقل (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) علم الغيب مختصّ به فلا اعلم انا ولا أنتم ما يترتّب على إنزال الآية من المفاسد والمصالح وهو يعلم فلا ينزل الآية لما فيها من المفاسد وفي تركها من المصالح أو عالم الغيب ملك الله ليس لي تصرّف فيه ولا تسلّط عليه حتّى أجيب مقترحكم أو انزل منه ما أريد ، فانا وأنتم سواء في ذلك (فَانْتَظِرُوا) نزول الآية والفاء مثل سابقه (إِنِّي) مثلكم (مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ويحتمل ان لا يكون قوله (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ) (الآية) مماشاة معهم بل يكون تهديدا لهم على استهزاءهم والمعنى انّ الغيب لله ينزّل منه ما يشاء من عذابكم وعذابي والرّحمة بكم وبى فانتظروا نزول عذابه انّى معكم من المنتظرين ويؤيّد هذا المعنى تهديدهم بالآية الآتية (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) سعة وصحّة وأمنا فانّها من آثار الرّحمة وان كانت قد تصير نقمة أو هي رحمة في انظارهم القاصرة عن ادراك الغايات (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) وهي ضدّ المذكورات (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) الكبرى البشريّة أو الصّغرى الآفاقيّة والانفسيّة والتّدوينيّة فانّ الإنسان ليطغى ان رآه استغنى ، والمكر في الآيات الكبرى بالإضرار بالحيل الخفيّة ، وفي الآيات الصّغرى في المعجزات بحملها على السّحر ونحوه من الوجوه الخفيّة ، وفي غيرها بإخفائها وتلبيسها على الغير أو تأويلها على مقتضى شهواتهم (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أنفذ مكرا وأسبق مكرا فانّ مكركم في الآيات في الحقيقة مكر الله فيكم فمكره أسبق من مكركم في كلّ حال ونسبة المكر الى الله من باب المشاكلة أو المشابهة والّا فالماكر يقال للعاجز عن إعلان المخاصمة المنصرف عنه الى اخفائها (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) تهديد لهم بظهور ما يظنّونه خافيا عليه بواسطة

٢٩٧

الرّسل وصرف للخطاب عنه (ص) إليهم والتفات من الغيبة الى التّكلّم ليكون أبلغ في الإنذار على قراءة تمكرون بالخطاب وهو جواب سؤال ناش عن سابقه كأنّه قيل : هل الله يعلم ما نمكر حتّى يمكر بنا (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) بمنزلة التّأكيد والاضراب من غير الأبلغ الى الأبلغ في الجواب كأنّه قال : بل نعلم ما تمكرون بدون واسطة الرّسل وأنتم بحسب الفطرة تعلمون ذلك لانّا نحن الّذى نسيّركم ، والتّسيير يستلزم العلم بدقائق أحوال المسيّر والمسيّر فيه والمسيّر له وأنتم إذا رفع عنكم غشاوة الخيال تعلمون ذلك ، لانّكم تدعونه وقت انقطاع الوسائل وحيل الخيال عنكم فتعلمون انّه هو الّذى يعلم حالكم ودعاءكم ويقدر على إجابتكم ورفع البلاء عنكم فتدعونه مخلصين عن أغراض الخيال ، لكنّكم إذا رفع عنكم البلاء وتسلّط عليكم الخيال احتجب بأغراضكم الخياليّة واهويتكم النّفسانيّة معلومكم الّذى تكونون مفطورين عليه فتشركون به غيره ، فهو تأكيد للجواب وتفظيع لهم بالتّبع ، والمراد بتسييره تعالى تمكينه ايّاهم من السّير بتهيّة أسبابه الدّاخلة من قواهم العلّامة والعمّالة والخارجة من تسطيح الأرض وتسخير المراكب وجعل ما يحتاج اليه من المأكول والمشروب والملبوس ممّا يمكن نقله ، أو نقول لكلّ متحرّك محرّك لا محالة والمحرّك الاوّل في الحركات الاختياريّة هو النّفس المسخّر لها القوى والنّفس بالنّسبة الى الله تعالى مثل القوى بالنّسبة الى النّفس لا استقلال لها في شأن من شؤنها ، فكما انّ فعل القوى ينسب الى النّفس حقيقة بل النّفس اولى بنسبتها من القوى فكذلك فعل النّفس بالنّسبة الى الله تعالى فالمسيّر وان كان هي النّفس اوّلا لكنّه الحقّ الاوّل تعالى حقيقة والنّفس كالآلة له ؛ فصحّ نسبة التّسيير اليه تعالى بطريق الحصر (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) التفات من الخطاب الى الغيبة (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من امكنة البحر يعنى من جميع جوانب السّفن (وَظَنُّوا) أيقنوا لما مرّ مرارا انّ علوم النّفس ان كانت يقينيّة فهي ظنون ، أو المراد حقيقة الظّنّ لانّ ظاهر الأمواج وان كان مورثا ليقينهم لكن رجاءهم بالغيب المفطور على العلم به وبقدرته على انجائهم مورث لاحتمال الإنجاء (أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) اى اهلكوا والتّأدية بالماضي للاشارة الى تحقّقه كأنّه وقع وهذا يؤيّد كون الظّنّ بمعنى اليقين وهو صار مثلا في الهلاك ، وأصله من قولهم : أحاط به العدوّ فلا سبيل للخلاص له ولا مسلك للخروج (دَعَوُا اللهَ) بدل من ظنّوا بدل الاشتمال ، أو جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلوا؟ (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) طريق الدّعاء أو طريق النّفس الى الله أو اعتقادهم التّوحيد وسائر عقائد الدّين أو ملّتهم الّتى أخذوها دينا من نبيّهم ووجه الإخلاص قد مضى من انّ تسلّط الخيال وتصرّفه يورث الشّرك الظّاهر والباطن وحين تراكم البلاء وتلاطم أمواجه ينقطع حيله ويفرّ ويقول كالشّيطان : انّى ارى ما لا ترون انّى أخاف الله ربّ العالمين فيبقى التّوحيد الفطرىّ بلا معارض ولا حجاب (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) تفسير للمدعوّ به المحذوف تقديره : دعوا الله بشيء لئن أنجيتنا ، أو مفعول لقول محذوف حالا (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) يعنى خرجوا من الشّكر ونكثوا حلفهم ونقضوا عهدهم لعود الخيال وحيله واغشيته إليهم بغى عليه عدا وظلم ، وبغى وعدل عن الحقّ واستطال وكذب ، وبغى في مشيه اختال وأسرع ، وبغاه طلبه والكلّ مناسب هاهنا (بِغَيْرِ الْحَقِ) تقييد للبغي فانّ البغي باىّ معنى كان قد يكون بالحقّ

٢٩٨

مثل ما يرى من أهل الحقّ من التّجاوز عن الحدّ وصورة الظّلم والعدول عن الحقّ تقيّة والاستطالة والكذب في موقعه والاختيال في محلّه وطلب الدّنيا بأمر الرّبّ (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بعد ما ذمّهم بالنّكث والبغي توجّه إليهم بالنّداء وذكر انّ وبال بغيهم راجع عليهم ليكون أردع (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) لا يتعدّاها في الحقيقة الى غيركم فانّ الإنسان ما لم يفسد قوى نفسه بصدّها عن مطاوعة العقل لا يفسد غيره ، وإفساده غيره وان كان إفسادا له ظاهرا لكنّه إصلاح له حقيقة ، فيبقى البغي إفسادا لنفس الباغي فقط وعلى هذا فعلى أنفسكم خبر عن بغيكم ويحتمل وجوها من الاعراب وهي كون بغيكم بمعنى أو بتضمين معنى يقتضي التّعلّق بعلى وكون الجارّ متعلّقا به و (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بالرّفع خبرا عنه أو على أنفسكم خبرا ومتاع الحيوة الدّنيا خبرا بعد خبر ، أو خبر مبتدء محذوف حالا من المستتر في الظّرف أو مستأنفا ، وعلى قراءة نصب متاع الحيوة الدّنيا فالخبر هو الظّرف ومتاع الحيوة الدّنيا نائب عن مصدر بغيكم ، أو مصدر لفعل محذوف حالا أو مستأنفا ، أو منصوب على الّذمّ اى اذمّ متاع الحيوة الدّنيا ، وعلى قراءة نصب المتاع يحتمل كونه مفعولا لبغيكم أيضا ، ويحتمل وجوها أخر بعيدة مثل كون الظّرف لغوا ومتاع الحيوة الدّنيا بالرّفع أو بالنّصب بوجوه كونه غير خبر والخبر محذوفا مثل محذور أو ثقل ووبال (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) جواب سؤال ناش عن ذمّ متاع الحيوة الدّنيا (كَماءٍ) كمثل ماه (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) اختلاط النّباتات كثرتها وتداخل أنواعها المختلفة بعضها خلال بعض (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) ألوان نباتها فانّ زخرف الأرض ألوان نباتها (وَازَّيَّنَتْ) تزيّنت بأصناف النّبات وأزهارها واخضراها واختلاف ألوان رياحينها وأشكالها واختلاطها بحيث يعجب النّاظر إليها (وَظَنَّ أَهْلُها) أهل الأرض أو أهل الزّخرف فانّه باعتبار معناه الّذى هو ألوان النّبات إذا أضيف الى الأرض يجوز إرجاع ضمير المؤنّث اليه (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) على الأرض بإنباتها وانماء نباتها وابقائه الى ان انتفعوا به أو على الزّخرف بإنباتها وانمائها وابقائها وذلك لكمال غفلتهم واغترارهم بتدبيرهم (أَتاها) أتى الأرض أو الزّخرف (أَمْرُنا) بإهلاكها واستيصالها بالعاهات والآفات (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) اى الزّخرف (حَصِيداً) محصودة والفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكّر والمؤنّث وهو في اللّغة اسم لما حصده الإنسان بالحديد لكنّه صار مثلا في كلّ ما استوصل بحيث لم يبق منه شيء (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) لم تقم أو لم تكن (بِالْأَمْسِ) يعنى قبل ذلك الزّمان فهو أيضا صار مثلا في الزّمان القريب ، اعلم ، انّ هذه التّمثيل من أحسن اقسامه لتطابق جميع أجزاء الممثّل به والممثّل له في التّشبيه حيث انّ النّفس الانسانيّة النّازلة من سماء الأرواح كالماء النّازل من السّماء الدّنيا وبدن الإنسان كالأرض في استقرار النّفس والماء وقواه كنبات الأرض في اختلاف أنواعها واغترار الإنسان بقوّة قواه واشتدادها كاغترار أهل الأرض بزخرفها واستيصال قوى الإنسان بالأجل كاستيصال أصناف النّبات بالآفة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) آيات العالم الكبير والعالم الصّغير (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يستعملون قوّتهم المتصرّفة في معلوماتهم بالضّمّ والتّفريق الّتى تسمّى باعتبار استخدام العاقلة

٢٩٩

لها مفكّرة وباعتبار استخدام الواهمة متخيّلة ، فانّه التّفكّر هو استعمال المفكّرة أو المتخيّلة في التّصرّف في المعلومات ، وأمثال هذه الآيات المتراكمة المتداخلة المتوافقة المتخالفة لا يدركها الّا من كان عالما متفكّرا (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) عطف على نفصّل الآيات أو على كذلك نفصّل الآيات ومقتضى المقام ان يقول وندعو الى دار السّلام ليتوافق المتعاطفان في الفعليّة وفي المسند اليه لكنّه عدل عن التّكلّم وعن الفعليّة الى الاسميّة ولذا يتراءى المنافرة بين المتعاطفين للاشارة الى علّة الحكم وانّ الالهيّة تقتضي ذلك ، وتقديم المسند اليه لتأكيد الحكم ولشرافته وللاشارة من اوّل الأمر الى علّة الحكم ، ودار السّلام دار الله لانّ السّلام من أسمائه تعالى ، أو دار السّلامة من جملة الآفات البدنيّة والنّفسانيّة ، ولمّا كان الدّعوة عامّة بخلاف الهداية الخاصّة أطلق هذه وقيّد الهداية (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والمراد بالدّعوة الدّعوة الظّاهرة الجارية على السنة الأنبياء ولذا كانت عامّة وبالهداية الهداية الخاصّة الى ولىّ الأمر وهو الصّراط المستقيم ولذا أتى بها بعد الدّعوة ، لانّ تلك الهداية تكون بعد قبول النّبوّة والبيعة العامّة النبويّة وقيّدها بمن يشاء لانّ الدّعوة الباطنة والبيعة الخاصّة خاصّة بمن شاء ان يتّخذ الى ربّه سبيلا (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما لمن انتفع بالآيات وقبل الدّعوة واهتدى؟ ـ فقال : للّذين أحسنوا منهم العاقبة الحسنى ، أو المثوبة الحسنى ، وأصل الإحسان قبول الولاية وكلّ قول وفعل وحال وخلق يكون للإنسان من جهة الولاية كان إحسانا لانّ الحسن الحقيقىّ هو الولاية المطلقة الّتى مظهرها علىّ (ع) ، والولايات الجزئيّة حسنة بحسنها وكلّ من اتّصل بالبيعة الخاصّة بعلىّ (ع) بلا واسطة أو بواسطة الأولياء الجزئيّة صار ذا حسن ، وهو المراد بالإحسان هنا ، ومن صار ذا حسن ولم ينقطع حبل اتّصاله ولا ينقطع الّا نادرا اتّصل اتّصاله البشرىّ بالاتّصال الملكوتىّ والجبروتىّ بملكوت علىّ (ع) وجبروته ، وهو العاقبة الحسنى والمثوبة الحسنى لا أحسن منها (وَزِيادَةٌ) هي لوازم الاتّصال بملكوت ولىّ الأمر من الرّاحة في الدّنيا والخلاص من آلامها والجنّة ونعيمها في الآخرة ، واختلاف الاخبار في تفسيرها يرفعه ما ذكرنا (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ) لا يغشيها (قَتَرٌ) غبرة فيها سواد (وَلا ذِلَّةٌ) وهما كناية عمّا يعروها من اثر الحزن وشدّة الحاجة وذلك لما عرفت من انّ المتّصل بملكوت ولىّ الأمر ليس له الم حزن ولا حاجة (أُولئِكَ) التّأدية باسم الاشارة البعيدة للتّفخيم ولتصويرهم بما ذكر من الأوصاف (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) عطف على جملة للّذين أحسنوا الحسنى من قبيل عطف الجملة أو على الّذين أحسنوا الحسنى بتقدير اللّام من قبيل العطف على معمولى عاملين مختلفين عطف المفرد وهو اولى لموافقته لسياق الكلام ولسلامته عن الحذف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) قد سبق انّ السّيّئة لمّا كانت مخالفة لمقتضى الفطرة لا تقوى على تنزيل الإنسان زيادة على قدر قوّتها ، والحسنة لمّا كانت موافقة لفطرته ترفعه زائدا على قدر قوّتها عشر أمثالها الى سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ) من سخط الله أو من جانب الله (مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) لغاية الحزن وشدّة الألم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) يعنى المؤمنين والكافرين ، أو الكافرين وشركاءهم ، أو المؤمنين وأئمّتهم والكافرين وشركاءهم (جَمِيعاً) عطف على محذوف متعلّق بالجمل

٣٠٠