تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

فالنّفوس الانسانيّة بعد الموت والخروج من غلاف البدن مثلها بعد التّولّد والخروج من غلاف الرّحم ، فكما أنّها بعد التّولّد تنمو وتشبّ بحسب بدنه وتخرج من الدّنيا ، كذلك بعد الموت تنمو وتشبّ وتخرج من عالم الصّورة والمثال ان كانت من المقرّبين ، أو تخرج من البرزخ فقط وتقف في صورة هي مقرّها ان كانت من أصحاب اليمين أو من أصحاب الشّمال سواء كان موتها اختياريّا أو اضطراريّا ، وبعد خروجها من عالم الصّور الى عالم المجرّدات الصّرفة وانتهائها الى صورة لا تتجاوز عنها يكون قيامتها الكبرى ودخولها في مقامها من جنّات أو في نار الدّنيا كما في أخبارنا ، وهما اللّتان تكونان في البرازخ قبل الوصول الى محلّ القرار ؛ وقد فسّر الجنّة والنّار في هذه الآية بولاية آل محمّد (ص) وولاية أعدائهم (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) لكن على طريقة ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، والفاء للجزاء اى إذا علمت حال آلهة الأمم السّالفة وانّها لا تغني عن عابديها شيئا بما قصصناه عليك وبما شاهدت من آثارهم فلاتك في مرية (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من عبادة هؤلاء لانّ عبادتهم مثل عبادة أسلافهم أو من الآلهة الّتى يعبدها هؤلاء فانّ حالها كحال آلهة السّالفين (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) اى الأمم السّالفة الّذين قصصتهم عليك والتّقدير كما كان يعبد آباؤهم فحذف لدلالة قوله (مِنْ قَبْلُ) عليه (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) اى قسطهم من العذاب كآبائهم أو نصيبهم من أرزاقهم الى آجالهم حتّى نذهب بهم الى دار شقائهم (غَيْرَ مَنْقُوصٍ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وصورته التّوراة كما آتيناك الكتاب (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) كما اختلف في كتابك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بإمهالهم حتّى يخوضوا في طغيانهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين المختلفين من قوم موسى (ع) أو من قومك بتمييز المبطل عن المحقّ وإهلاك المبطل وإبقاء المحقّ (وَإِنَّهُمْ) اى منكرون قومك (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) من كتابك (مُرِيبٍ) بالغ سواء كان من قبيل ظلّ ظليل أو بمعنى موقع للغير في الشّكّ على ان يكون من أرابه بمعنى أوقعه في الشّكّ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) قرئ انّ بتشديد النّون وتخفيفها وعلى قراءة التّخفيف قرئ كلّا بالنّصب وبالرّفع وعلى كلّ فلمّا بالتّشديد وبالتّخفيف وقرئ لمّا بالتّنوين فعلى قراءة تشديد النّون فكلّا اسم انّ ولمّا بالتّشديد مركّبة من لام الابتداء ومن الجارّة وما الموصولة أو ما الموصولة ، ولام ليوفّينّهم موطّئة والجملة صلة ما أو صفته والمعنى لمن الّذين ليوفّينّهم أو لمن اشخاص ليوفّينّهم بتقدير القول ، أو لمّا نافية والمنفىّ محذوف وليوفّينّهم جملة مستأنفة والمعنى لمّا يوفّ ربّك أعمالهم ليوفّينّهم أعمالهم أو لمّا أصله لمّا بالتّنوين بمعنى جميعا تأكيدا لكلا أبدل النّون ألفا اجراء للوصل مجرى الوقف ، أو لمّا فعلى من لمّ بألف التّأنيث بمعنى جميعا لم ينصرف لمكان الالف وعلى قراءة تشديد انّ وتخفيف لما فلام لما لام خبر انّ ولام ليوفّينّهم مطوّئة أو بالعكس وما زائدة للفصل بين اللّامين ، أو لام لما لام خبر انّ وما موصولة أو موصوفة اى انّ كلّا من المؤمنين والمنكرين للّذين ليوفّينّهم ربّك أعمالهم ، وهكذا تقدير الموصوفة ، وعلى قراءة تخفيف النّون ونصب كلّا وتشديد لمّا فان مخفّفة عاملة على أصلها وكلّا اسمها ولمّا على الوجوه السّابقة أو ان نافية وكلّا مفعول فعل محذوف ولمّا استثنائيّة والمعنى ان ارى كلّا الّا ليوفّينّهم ، أو ان مخفّفة مهملة وكلّا مفعول فعل محذوف ولما على الوجوه السّابقة وعلى قراءة تخفيف ان ونصب كلّا وتخفيف لما فان مخفّفة عاملة مثل كونها مشدّدة عاملة مع لما

٣٤١

بالتّخفيف أو ان مخفّفة مهملة وارى مقدّرة ولام لمّا موطّئة أو لام خبر انّ وما للفصل بين اللّامين أو لام لمّا خبر انّ وما موصولة أو موصوفة ، أو ان نافية وارى مقدّرة ولام لما بمعنى الّا على قول من يجعل اللّام بعد ان بمعنى الّا وما للفصل أو ما موصولة أو موصوفة ، وعلى قراءة ان بالتّخفيف وكلّ بالرّفع ولمّا بالتّشديد فان مخفّفة مهملة وكلّ مبتدء ولمّا على الوجوه السّابقة ، أو انّ نافية ولمّا استثنائيّة وعلى قراءة ان بالتّخفيف وكلّ بالرّفع ولمّا بالتّخفيف فان مخفّفة مهملة أو نافية ولمّا على الوجوه السّابقة ، والمقصود تهديد المنكرين فالمعنى وانّ كلّا من المنكرين أو تهديد المنكرين وترغيب المؤمنين ، فالمعنى وان كلّا من المؤمنين والكافرين ليوفّينّهم ربّك أعمالهم (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) اى إذا كان الأمر هكذا فاستقم وتمكّن والاستقامة من قام من الانحناء أو من قام بالأمر بمعنى كفاه والهيئة للطّلب أو للمبالغة فمعنى استقام طلب القيام من نفسه أو القيام بالأمر من نفسه وهو أيضا يفيد المبالغة أو بالغ فيه ، ومعنى الآية فاستقم استقامة مماثلة لمأموريّتك وموازية لها أو استقامة مثل الاستقامة الّتى أمرت بها.

اعلم ، انّ الإنسان مأمور تكوينا بالسّير من ادنى مراتب الوجود وهو العناصر الاربعة بل مادّة الموادّ الى أعلاها وهو مقام الإطلاق والخروج من التّعيّن والتّقيّد وسيره من مقام الطّبع على مراتب الجماد والحيوان الى مقام البشر وظهور العقل الجزئىّ الّذى هو مناط التّكليف وظهور الاختيار بمحض الأمر التّكوينىّ من دون مداخلة اختيار وتكليف ، وبعد ظهور العقل وتمييز الخير والشّرّ الانسانيّين لمّا كان قد يعارض اختياره الأمر التّكوينىّ ويمنعه عن سيره على المراتب العالية أدركه الرّحمة والعناية الالهيّة بالأوامر والنّواهى التّكليفيّة على السنة رسله وأوصيائهم (ع) ، فان ساعده التّوفيق في امتثال الأوامر والنّواهى وسار بمقتضى فطرته على المراتب العالية من الملكوت والجبروت الى مقام الإطلاق المعبّر عنه باللّاهوت والمشيّة والحقّ المخلوق به والولاية المطلّقة وتمكّن في ذلك صار منتهيا في سيره الى ما امر به وصار مستقيما متمكّنا في جميع ما امر به تكوينا وتكليفا ، وان لم يساعده التّوفيق وتنزّل الى الملكوت السّفلى وعالم الجنّة والأرواح الخبيثة صار مخالفا للأمر التّكوينىّ والتّكليفىّ فضلا عن ان يكون مستقيما فيه ، فانّ الاستقامة هو التّمكّن في المأمور به بحيث يصير راسخا غير محتمل الزّوال بسهولة ، والسّالك الى الله عروجه على المقامات وان كان صعبا لكن تمكّنه فيها بحيث لا يزول عنه أصعب من دخوله فيها فانّ الدّخول في مقام التّوكّل صعب لكن تمكّنه في التّوكّل بحيث لا يزول عنه في حال من الأحوال أصعب من دخوله فيه ، وهكذا الإنسان الملكىّ عروجه الى الملكوت صعب لكن تمكّنه فيها بعد عروجه إليها بحيث لا يشغله شأن من شؤنه عنها أصعب وقد أشار المولوىّ قدس‌سره الى السّير على تلك المراتب والتّمكّن فيها والانتهاء الى مقام الإطلاق بقوله :

از جمادى مردم ونامي شدم

وز نما مردم بحيوان سر زدم

مردم از حيوانى وآدم شدم

پس چه ترسم كى ز مردن كم شدم

حمله ديگر بميرم از بشر

تا برآرم از ملايك بال وپر

واز ملك هم بايدم جستن ز جو

كلّ شيء هالك الّا وجهه

بار ديگر از ملك پرّان شوم

آنچه اندر وهم نايد آن شوم

پس عدم گردم عدم چون ارغنون

گويدم انّا اليه راجعون

فانّه أشار بذكر الموت الى التّمكّن في المقام الّذى مات منه لانّه لو لم يتمكّن في ذلك المقام لم يكن حيّا به بل كان آثار ذلك المقام عرضيّا لا ذاتيّا فلم يكن حيوته الّتى هي قوام ذاته به ، وما لم يكن حيّا به

٣٤٢

لم يتصوّر موته منه وأراد بالملك جنس الملائكة ذوي الاجنحة الّتى عالمها الملكوت ، والمراد بما لم يدخل في الوهم المجرّدات الصّرفة الّتى لا يتصوّرها الواهمة لانّ تصوّرها لا يتجاوز عن المتقدّرات وهي وجه الله الباقي بعد هلاك كلّ شيء ، وصيرورته عدما اشارة الى مقام الإطلاق أو المراد بصيرورته غير مو هوم مقام الإطلاق وصيرورته عدما تأكيدا له ، ولمّا كان التّمكّن في جملة المراتب امرا عظيما صعبا امره (ص) بالاستقامة في جميع ما امر به دون المؤمنين لانّه لا يتيسّر لهم التّمكّن في جميع ما أمروا به الّا من ندر منهم ، فانّ تقديم كما أمرت على المعطوف للاشارة الى هذه اللّطيفة ولذلك لم يصرّح بأمرهم بالاستقامة فيما يتيسّر لهم بل جعل أمرهم تابعا لأمره (ص) وقال من غير تصريح بأمرهم (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) كأنّه صار مأمورا باستقامة المؤمنين دون المؤمنين ولهذا ورد عنه (ع): شيّبتنى سورة هود وورد انّه ما نزلت آية كانت اشقّ على رسول الله (ص) من هذه الآية ، ووجهه انّه امر فيها باستقامة أمّته والّا فاستقامته بنفسه كانت سهلا عليه ولم يقل: شيّبتنى سورة الشّورى ، لانّ الآية هنا لك مطلقة عن ذكر من تاب معه الّذين بايعوا معه البيعة العامّة النّبويّة الاسلاميّة فانّ التّوبة جزؤ للبيعة واحد أركانها سواء كانت البيعة اسلاميّة أو ايمانيّة ومعك ظرف للتّوبة من حيث انّ النّبىّ (ص) أو الولىّ يحصل له رجوع وانسلاخ من الكثرات حين البيعة وتوبة البائع أو ظرف للاستقامة أو هو حال أو المراد بمن تاب عموم المؤمنين بالبيعة الخاصّة خصوصا أمير المؤمنين (ع) أو المراد أمير المؤمنين خاصّة (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا من الاستقامة فانّه نحو من الطّغيان أو لا تتجاوزوا حدود الله ولجواز اتّصاف المؤمنين بالطّغيان اشركهم معه (ص) في النّهى أو صرف الخطاب عنه (ص) إليهم (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تهديد وترغيب للمستقيم والطّاغى (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ تأكيدا ، والرّكون هو الميل اليسير والمراد بالظّلم ظلم آل محمّد (ص) ويجرى في كلّ من ظلم غيره من حيث ظلمه ، وامّا من ظلم نفسه فقط فهو وان كان من حيث ظلمه لنفسه ظالما لكن لمّا كان حيثيّة ظلمه لنفسه خفيّة غير ظاهرة لغيره لم يكن داخلا فيه ظاهرا وان كان بحسب الطّريق داخلا والرّكون اليه موجبا لمسيس نار ظلمه النّاشئة من جهله (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) عن الصّادق عليه‌السلام هو الرّجل يأتى السّلطان فيحبّ بقاءه الى ان يدخل يده كيسه فيعطيه ، وعنه (ع) امّا انّها لم يجعلها خلودا ولكن تمسّكم فلا تركنوا إليهم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) فلا تتّخذوهم أولياء (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) الجملة الاولى حال عن مفعول تمسّكم والثّانية عطف على تمسّكم (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) عطف على استقم أو لا تطغوا أو لا تركنوا (طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) المراد بطرفي النّهار كما في الخبر الغداة والمغرب وزلفا جمع زلفة بمعنى القريبة اى ساعات قريبة من النّهار والمراد العشاء (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) تعليل لاقامة الصّلوة والمقصود دفع توهّم نشأ من النّهى عن الطّغيان بمعنى عدم التّمكّن والنّهى عن الرّكون الى الظّلمة كأنّه توهّم انّه لا يخلو أحد من عدم التّمكّن والرّكون الى الظّالم ولا سيّما الظّالم لنفسه ، وفي الخبر انّ الصّلوة الى الصّلوة كفّارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر ، وورد انّ الله يكفّر بكلّ حسنة سيّئة ، وورد انّه ليس له شيء اشدّ طلبا ولا أسرع دركا للخطيئة من الحسنة امّا انّها لتدرك الّذنب العظيم القديم المنسىّ عند صاحبه فتحطّه وتسقطه وتذهب به بعد إثباته ، وذلك قوله سبحانه : انّ الحسنات يذهبن السّيّئات ، وعن أحد الصّادقين (ع) : انّ عليّا (ع) قال : سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول : أرجى آية في كتاب الله أقم الصّلوة طرفي النّهار (الآية) وقال: يا علىّ

٣٤٣

والّذى بعثني بالحقّ بشيرا ونذيرا انّ أحدكم ليقوم الى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذّنوب ، فاذا استقبل الله بقلبه ووجهه لم ينفتل وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمّه (ذلِكَ) اى اذهاب الحسنات للسّيّئات أو قول انّ الحسنات يذهبن السّيّئات (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) اى تذكّر لهم لما يرونه في وجودهم وعالمهم من انمحاء السّيّئات بالحسنات ومن غسل الصّلوة لدرن الذّنوب عن وجودهم والمراد بالّذاكرين من كان شأنهم تذكّر المساوى الحاصلة لهم من أفعالهم الشّنيعة وهم الّذين قبلوا الولاية ودخلوا الأبيات من أبوابها وذكروا الله من جهة ذكره (وَاصْبِرْ) على أذى قومك حتّى لا يخرجك عن الاستقامة ولا يدخلك في الطّغيان والرّكون الى غير الله وعلى الطّاعات خصوصا الصّلوات الخمس بإتيانها بجميع شرائطها (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وضع المظهر موضع المضمر ليكون كالبرهان ويكون تلويحا الى الأمر بالإحسان الى المسيء ووجه اختلاف الخطاب في تلك الآيات من قوله فاستقم الى قوله واصبر بالخصوص والعموم غير خاف على المتأمّل في لطائف الخطاب (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) بعد ما نهى عن الطّغيان وذكر مسيس النّار بالرّكون الى الظّالم وانّ الصّلوة حسنة وانّ الحسنات يذهبن السّيّئات وامر بالصّبر على الطّاعات وأذى القوم وأشار الى الأمر بالإحسان ، وبّخهم على ترك النّهى عن الطّغيان والرّكون وعلى عدم الصّبر على الأذى والطّاعات مشعرا بتسبّبه عمّا قبله بإتيان الفاء ، اى إذا كان الأمر هكذا فأنتم موبّخون على ترك النّهى عن هذا الأمر العظيم الّذى يدخل بسببه عباد الله النّار ، والمراد بالبقيّة هو بقيّة الله وقد مضى في تفسير بقيّة الله انّ العقل وجنوده رسول الله الى العالم الصّغير وبعد استيلاء الشّيطان على مملكة هذا العالم فان بقي من العقل وجنوده شيء كان الإنسان ذا بقيّة من جنود الله والّا فلا (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الصّغير وارض العالم الكبير (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) استثناء متّصل من أولوا بقيّة باعتبار النّفى المستفاد من اداة التّخصيص اى ما كان من القرون أولوا بقيّة من رسول الله الباطنىّ أو الظّاهرىّ الّا قليلا هم من أنجينا أو بعض ممّن أنجينا أو ناشئا ممّن أنجينا ومتولّدا منهم ، ومنهم ظرف لغو أي أنجينا من بينهم حين هلاكهم أو أنجيناهم من شرّ تلك القرون أو ظرف مستقرّ اى ممّن أنجينا حالكونهم بعضا من القرون أو متولّدا منهم (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) عطف للحاظ المعنى كأنّه قال : فنهى اولو البقيّة واتّبع الّذين ظلموا ما أترفوا فيه وتركوا النّهى طلبا للرّاحة وخوفا من أذى القوم وزوال النّعمة والآية توبيخ لأهل عصر الرّسول (ص) وبيان لذمائمهم (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) تمرّنوا عليه وصار الاجرام سجيّة لهم (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) اى بظلم صادر من بعضهم أو بظلم منّا لهم من دون استحقاقهم بسوء أعمالهم وجرائمهم (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) تهديد عن الاجرام وترغيب في الإصلاح في العالم الكبير والصّغير (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) على دين واحد متوجّهين الى مقصد واحد دفع توهّم نشأ من التّهديد والتّرغيب من انّهم مستقلّون في الإصلاح والاجرام وتسلية للنّبىّ (ص) عن حزنه على اختلافهم (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أبدا كما لم يزالوا مختلفين ازلا (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) قد مرّ مرارا انّ الولاية المطلقة هي رحمة الحقّ وانّ صورتها النّازلة المتصوّرة بصور الحروف والنّقوش المعبّر عنها بالايمان الدّاخل في القلب وانّ ملكوت الامام السّاكنة في القلب صورة الرّحمة وحقيقتها وقد حقّق

٣٤٤

أيضا انّ الدّاخلين في الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة وجهتهم واحدة ومقصدهم واحد الّا إذا خرجوا وارتدّوا فطرة بعد ما آمنوا وانّ غيرهم سواء كانوا منتحلين لملّة واحدة أو لملل مختلفة أو لم يكونوا ينتسبون الى ملّة الهيّة كلّهم مختلفون لانّهم لا قائد لهم من ولىّ مرشد ولا سائق من دليل ناصر ولا اتّصال لهم بشيخ واحد وملكوت واحدة وقد قال المولوىّ قدس‌سره تفسيرا للآية :

جان حيوانى ندارد اتّحاد

تو مجو اين اتّحاد از جان باد

جان گرگان وسگان از هم جداست

متّحد جانهاى شيران خداست

همچو آن يك نور خورشيد سما

صد بود نسبت بصحن خانه ها

ليك يك باشد همه انوارشان

چونكه برگيرى تو ديوار از ميان

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) لانّ فيه تعمير الدّنيا وبه بقاء أهلها وتكميل الأتقياء وتطهيرهم من وسخ الدّنيا وقد فسّر المرحوم في الاخبار بشيعة آل محمّد (ص) وانّهم متّحدون وانّ غيرهم مختلفون وان كانوا صورة على طريقة واحدة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) عطف على خلقهم اى ولذلك تمّت كلمة وربّك فيكون اشارة الى حكمة الاختلاف أو على مجموع لذلك خلقهم (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلًّا) اى من الاقتصاص على ان يكون نائبا للمصدر أو كلّا من الأنباء على ان يكون مفعولا به (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) حتّى لا يعتريه خوف واضطراب ولا شكّ وارتياب ولا ينصرف عن طريق الطّاعة الى غيرها ولفظة ما مفعول به على الاوّل وبدل أو عطف بيان على الثّانى (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) القصص لا في غيرها (الْحَقُ) فلا تملّ من تطويلها وتكرارها فانّ فائدتها وهي مجيء الحقّ وثبات الفؤاد أعظم الفوائد وأسناها والمراد بمجيء الحقّ هو ظهور الملكوت والملكوتيّين عليه فانّها صورة الحقّ لانّ الحقّ هو مقام الولاية والجبروت والملكوت صورتها والملك أيضا بجهة حقيّة صورتها لكنّه لاكتناف الباطل به اختفى الحقّ عنه ولذلك لا يسمّى حقّا على الإطلاق ولمّا لم يكن مجيء الولاية الّا بصورة ولىّ الأمر على الأشخاص البشريّة فالمراد بمجيئها هو نزول السّكينة الّتى هي ملكوت ولى الأمر وبها ثبات فؤاد البشر (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يعنى انّ الأوليين لك خاصّة وهاتين لجملة المؤمنين (وَقُلْ) عطف باعتبار المقصود اى فذكّرهم وعظهم بها وقل (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يعنى انذرهم (إِنَّا عامِلُونَ) أشرك المؤمنين لانّ المراد بالعمل العمل على الدّين المدّعى صحّته وهم شركاء له (ص) فيه (وَانْتَظِرُوا) نزول ما تهدّد وننابه من الهتكم وانتظروا نزول ما تهدّدكم به (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) نزول ما نعدكم من الله أو نزول ما تعدوننا (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) إثبات لمبدئيّته ومرجعيّته تمهيدا للأمر بالعبادة ولذلك أتى بالفاء السّببيّة فيه اى إذا كان الأمر كذلك (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنتم ومخالفوكم ؛ ترغيب وتهديد وتعليل للعبادة.

٣٤٥

سورة يوسف

مكّيّة ، وقيل : غير اربع آيات نزلن بالمدينة ثلاث من اوّلها والرّابعة :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر) قد سبق انّ تلك الحروف تعبير عن مراتب العالم أو مراتب وجوده (ص) المشهودة له حين انسلاخه عن غواشي الطّبع ولذلك عدّت من أسمائه (ص) فصحّ جعلها مناداة وجعلها مبتدء وما بعدها خبرها وجعلها منقطعة غير عاملة ولا معمولة لمحض إظهار تلك المراتب في نظره وعلى وجه الابتداء فقوله (تِلْكَ) بدل منها و (آياتُ الْكِتابِ) خبرها أو تلك مبتدء ثان وآيات الكتاب (الْمُبِينِ) خبره والجملة خبرها والمبين بمعنى الظّاهر أو المظهر والمراد القلم العالي أو اللّوح الكلّىّ أو عالم المثال أو عالم الطّبع أو القرآن أو جملة العالم (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) اى الكتاب في صورة الحروف والنّقوش (قُرْآناً) جامعا لجهتى الوحدة والكثرة والأمر والخلق (عَرَبِيًّا) بلغة العرب أو عربيّا ذا علم وفقه لا اعرابيّا ذا جهل وسبعيّة وبهيميّة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) اى يسهل عليكم تعقّله لكونه بلغتكم أو تصيرون ذا عقل وفقه لاشتماله على ما يحصل به عقل وفقه (نَحْنُ نَقُصُ) نملي (عَلَيْكَ) لا غيرنا على ان يكون تقديم المسند اليه لافادة الحصر والمقصود النّهى عن الإصغاء الى الغير بايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو المقصود النّهى عن النّظر الى الواسطة من الملك الآتي به (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) إملاء أحسن من كلّ إملاء ، واحسنيّة الاقتصاص امّا بأحسنيّة اللّفظ المقتصّ به أو بأحسنيّة الاخبار المقتصّة لا غريبيّتها أو ابعديّتها عن الأذهان أو اكثريّة فوائدها وانفعيّتها أو احسنيّة موضوعاتها ، أو كون محمولاتها أشهى وألذّ عند النّفس ولا يخفى انّ الكلّ مجتمعة في القرآن خصوصا في سورة يوسف (ع) وقد ذكر لا حسنيّة قصّة يوسف أوجه أخر ما ذكرنا أوجهها والمقصود اقتصاص جملة القرآن لانّ فيه اخبار الأنبياء (ع) والأخيار والأشرار أو اقتصاص سورة يوسف (ع) (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) جملة القرآن أو سورة يوسف (ع) فانّ القرآن كان اسما لما نزل عليه (ص) آية كان أو سورة أو جملة القرآن ثمّ غلّب على المجموع بكثرة الاستعمال وهو مفعول

٣٤٦

أوحينا أو نقصّ أو كليهما على سبيل التّنازع على ان يكون أحسن القصص مفعولا مطلقا والّا فهو مفعول أو حينا أو بدل من أحسن القصص (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) لانّك ما اختلفت الى العلماء ولا الى القصّاص وما تجسّست الكتب والغفلة من الله مذمومة ومن غير الله للاشتغال به ممدوحة والمراد الغفلة من تلك القصّة (إِذْ قالَ) إذ اسم خالص مفعول نقصّ أو أوحينا أو بدل من أحسن القصص أو هذا القرآن ، أو بتقدير الأمر من الذّكر وعلى اىّ تقدير فليقدّر مثل المثل والحكاية مضافا الى كلمة إذ قال (يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب (ع) بن إسحاق (ع) بن إبراهيم (ع) وكان لقبه إسرائيل وهو في لغة العبرىّ خالص الله (يا أَبَتِ) الحاق التّاء بالأب والامّ مناديين لإظهار الشّفقة والاستعطاف كتصغير الابن منادى (إِنِّي رَأَيْتُ) من الرّؤيا (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) رأيتهم تأكيد لرأيت ولى ساجدين مفعول ثان لرأيت الاوّل أو رأيتهم جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : على اىّ حال رأيتهم؟ ـ أو جواب سؤال كان مذكورا في المحكىّ فحذف من الحكاية كما قيل : انّ يعقوب (ع) قال على اىّ حال رأيتهم؟ وتأخير الشّمس والقمر للاشارة الى التّرتيب في الرّؤيا ، وقيل : كان تحقّق تعبير الرّؤيا أيضا كذلك لانّ اخوته سجدوا اوّلا ثمّ سجد أبوه وأمّه ، أو للاهتمام بالشّمس والقمر شبه التّخصيص بعد التّعميم ، والإتيان بضمير ذوي العقول وجمعهم لنسبة السّجدة الّتى هي من افعال ذوي العقول إليهم (قالَ يا بُنَيَ) صغّره شفقة (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) لمّا كان شفيقا على أولاده لم يقتصر على نسبة الكيد إليهم واعتذر عنهم بانّ الكيد كان من تصرّف الشّيطان ، نقل انّ يوسف (ع) قال : يا ابه انّ كلماتك تدلّ على انّ إخوتي سيدخلون في سلك الأنبياء (ع) ولا ينبغي الكيد من الأنبياء؟ ـ فقال : لا يتأتّى الكيد من الأنبياء (ع) لكن قد يتصرّف الشّيطان فيهم كما وقع منه بالنّسبة الى آدم (ع) ، انّ الشّيطان للإنسان عدوّ مبين ، نهاه (ع) عن قصص رؤياه على اخوته لما شاهد منهم من حقدهم وحسدهم على يوسف (ع) وعلم انّهم عالمون بتعبير الرّؤيا وانّهم يحسدونه على ما يتفطّنون من تعبير رؤياه. نقل انّ يعقوب (ع) لمّا منع يوسف (ع) من قصص رؤياه على اخوته قبل تعبير رؤياه تغيّر لون يوسف (ع) وارتعدت فرائصه لما كان قد علم من شدّة صولة اخوته وقوّتهم فأخذه يعقوب (ع) وعبّر رؤياه تسكينا له فقال : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) عطف على محذوف اى يرفعك وكذلك يجتبيك ربّك ، ويحتمل انّه كان مذكورا في المحكىّ فأسقطه الله عن الحكاية ايجازا ، أو استيناف شبه العطف بلحاظ المعنى لانّه بعد ما قال : لا تقصص رؤياك استنبط منه انّ تلك الرّؤيا دليل رفعته والمشار اليه الاجتباء بإراءة سجدة الكواكب (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أتى بمن للاشعار بأنّ لتأويل الأحاديث مراتب عديدة لا يحيط بجملتها الّا الله ، والأحاديث ، قيل : اسم جمع للحديث ، وقيل : جمع له على خلاف القياس ، وقيل : جمع الاحداث وهو جمع الحديث أو جمع الحدث بمعنى ما يحدث آنا فآنا ، وتأويل الأحاديث عبارة عمّا تؤل اليه من مبدئها وغايتها ان كان التّأويل بمعنى المؤوّل اليه وان كان بمعناه المصدرىّ فالمقصود كيفيّة إرجاعها الى مبدئها ومنتهاها ، ومبدء الكلّ وكذا غايته هو الله بتوسّط المبادى والغايات المتوسّطة فهو مبدء المبادى وغاية الغايات ، وتأويل الأحاديث بهذا المعنى امر عظيم غامض جدّا لا يتيسّر الّا لمن كان رسولا بعد ما كان عبدا وليّا ، والاحاطة بجميع مراتب التّأويل خاصّة بالله وبمن كان خاتم الكلّ في كلّ الكمالات كما قال تعالى : لا يعلم

٣٤٧

تأويله الّا الله خاصّة على ان يكون والرّاسخون ابتداء كلام أو لا يعلم إجمال تأويل ما تشابه منه الّا الله والرّاسخون في العلم خاصّة (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أصل النّعمة هو الولاية والنّبوّة صورتها المكمّلة لها وهكذا الرّسالة والنّعم الدّنيويّة والاخرويّة صورتها الدّانيّة والمراد بإتمام نعمته عليه إتمام نعمة الولاية بنعمة النّبوّة والرّسالة والسّلطنة في الدّنيا والآخرة هذا بالنّسبة الى من تحقّق بقبول الولاية أو بحقيقة الولاية وامّا النّعمة وإتمامها بالنّسبة الى من لم يقبل النّبوّة بعد أو قبل النّبوّة ولم يقبل الولاية فهي قبول النّبوّة وإتمامها قبول الولاية كما في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) يعنى باتّصال البيعة الاسلاميّة النّبويّة بالبيعة الايمانيّة الولويّة (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) بواسطتك وإتمام النّعمة عليهم جمع خير الدّنيا والآخرة لهم بعد ما أزلّهم الشّيطان (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) باستحقاق كلّ وقدره (حَكِيمٌ) ينظر الى دقائق الاستحقاق فيعطى بحسبها وأنت مستحقّ بحسب فطرتك فيعطيك ما تستحقّه (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) اى في قصّتهم (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) اى السّائلين عن قصّتهم كما قيل : انّ رؤساء المشركين سألوا محمّدا (ص) بتلقين اليهود عن قصّتهم ، أو الصّحابة سألوا عنه سورة مشتملة على الحكايات خالية عن الأمر والنّهى ، أو اليهود جاؤا ليسألوا قصّة يوسف (ع) عنه فرأوه يقرؤها كما وجدوها في كتبهم. أقول : نزول الآية ان كان فيمن ذكر فالحقّ انّ السّؤال اعمّ من السّؤال بلسان القال والحال والاستعداد ، وان كلّ طالب للآخرة ولما يعتبر به في جهة الآخرة سائل عنها ، وفي تعليق الحكم على الوصف اشعار بانّ غير السّائل محروم عن ادراك آيات تلك القصّة وعبرها ، فانّ غير السّائل لا يسمع من تلك القصّة غير ما يسمع من الأسمار والتذاذه بها مثل التذاذه بالاسمار سواء لم يكن سائلا بلسان القال أو كان سائلا بلسان القال دون لسان الحال كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ، وفي تلك القصّة آيات عديدة للطّالب المستيقظ دالّة على علمه وحكمته وقدرته وربوبيّته وتصريفه للأشياء على ما يشاء ، وعدم إنجاء الحذر من القدر ، وعدم الانتفاء بالتّدبير فيما يريد غيره ، وعدم الإضرار بمكر الماكرين ، وسببيّة حسد الحاسدين لدرجات شرف المحسودين وانتشار فضلهم ، وعلى فضل العفّة وحسن عاقبتها ، وانّ الإنسان ينبغي ان يكون عفيفا ولو مع خوف التّلف ووخامة البغي وابتلاء الباغي بالالتجاء بنفسه أو بعقبته الى المظلوم وترك الكذب ولو تورية ، وابتلاء الكاذب بمثل كذبه ممّن كذّب له أو من غيره ومكافاة العمل في الدّنيا وان كان من الأنبياء (ع) على سبيل ترك الاولى وغير ذلك من الآيات المندرجة في تلك القصّة (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) قالوا ذلك بعد اطّلاعهم على رؤيا يوسف (ع) وتعبير يعقوب (ع) رؤياه له وكانوا يكذّبون يوسف (ع) في رؤياه ويقولون : انّه افترى ليصرف وجه أبينا الى نفسه ، ونقل في سبب اطّلاع اخوته انّ امّ شمعون بن يعقوب (ع) كانت تسمع حين نقل يوسف (ع) رؤياه وتسمع تعبير يعقوب (ع) لها من حيث لا يريانها فأخبرت ابنها بذلك وقالت : التّعب لكم والشّرف لغيركم ، وقيل : انّهم اطّلعوا على انّ يوسف ذكر رؤياء ليعقوب (ع) وامره بالإخفاء فاحلفوه حتّى أخبرهم ، وقيل : انّه رأى بعد ذلك رؤيا اخرى فأخبر أباه بمحضر اخوته فحسدوه وقالوا ما قالوا وعزموا على الكيد والغدر ، ولفظة إذ بدل من يوسف واخوته بدل الاشتمال بتقدير قصّة إذ قالوا ، أو مفعول للسّائلين أو استيناف كلام بتقدير اذكر في جواب السّائلين قصّة إذ قالوا ، واضافة اخوّة بنيامين الى يوسف (ع)

٣٤٨

لكونه من أمّه دونهم (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء على دفع الضّرّ وجلب النّفع له دونهما ، والعصبة كما قيل من العشرة الى الأربعين (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر رتّبوا قياسا بعقولهم منتجا لضلال أبيهم وترتيب القياس هكذا : نحن أقوى منهما وكلّ من كان أقوى كان اولى بالمحبّة فنحن اولى بالمحبّة وأبونا اختار غير الاولى على الاولى وكلّ من اختار غير الاولى على الاولى فهو ضالّ عن طريق العقل وحكمه فأبونا ضالّ ، لكن قياسهم الخيالىّ كان سقيما عقيما عند العشق وسلطانه ، لانّ العشق ارفع من ان يعارضه الخيال أو يداخله القياس وأعظم شأنا من ان يناط بالأسباب بل هو من صفات الله العليا يعطى منه ما يشاء لمن يشاء ، كما سنحقّقه ان شاء الله في بيان عشق امرأة العزيز ليوسف (ع) (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) مجهولة (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) عن مزاحمة التّوجّه الى يوسف (ع) (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) بعد يوسف وقتله أو طرحه (قَوْماً صالِحِينَ) بان تتوبوا الى الله ثمّ تعبدوه في أوامره ونواهيه وهذا دليل على انّهم في ذواتهم كانوا طيّبين وانّما عرض ذلك لهم من الشّيطان (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) قيل : كان القائل يهودا وورد أنّه كان لاوى وهو الّذى بقي النّبوّة في عقبه (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) عظّم القتل ونهاهم عنه ووضع الظّاهر موضع المضمر تعليلا للنّهى بتذكيرهم انّه يوسف (ع) وابن أبيهم وأحبّهم اليه ليعظّموا قتله أيضا (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قعره الّذى يغيب عن الانظار (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) فيذهب به عن أرضكم ويبعّده عن أبيكم (إِنْ كُنْتُمْ) لا محالة (فاعِلِينَ) به ما يفرّق بينه وبين أبيه (قالُوا) بعد ما عزموا على ما أرادوا (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أظهروا الشّفقة عليه بعد ما أنكروا عدم اطمينانه (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ) النّظر في الازهار (وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) عطف على يرتع والعدول عن الفعليّة لتأتّى التّأكيدات من اسميّة الجملة وانّ واللّام وتقديم الجارّ فانّه يشعر بالاهتمام به المستلزم لحفظه (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) لشدّة محبّتى له وقلّة صبري عن مفارقته (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قيل : انّ الأرض كانت مذئبة ؛ وما في الاخبار يشعر بأنّها لم تكن مذئبة لكنّه ورّى عن حسدهم وحقدهم وأظهر انّه يخاف الّذئب الصّورىّ كما في الخبر : لا تلقّنوا الكذب فتكذبوا فانّ بنى يعقوب (ع) لم يعلموا انّ الذّئب يأكل الإنسان حتّى لقّنهم أبوهم ، وورد في سبب ابتلاء يعقوب (ع) انّه ذبح كبشا سمينا ورجل من أصحابه محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله ولم يطعمه ، وورد انّه كان له جارية ولدت ابنا وماتت امّ يوسف (ع) في نفاس بنيامين وكانت الجارية تربّى بنيامين وترضعه وكان ابنهار ضيع بنيامين فأخذه يعقوب (ع) منها بعد كبره أو بعد مراهقته وباعه فأخذت الجارية من فراقة حرقة وتضرّعت الى الله فسمعت هاتفا يقول : يبتلى يعقوب (ع) بفراق احبّ أولاده ولا يصل اليه الّا وتصلين أنت قبل ذلك الى ولدك (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) جماعة أقوياء (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) هذا على عادة العرف تقول : ان وقع كذا فانا ملوم أو افعل بى ما شئت والّا فليس هو جوابا له (ع) ، أو هو جواب بأبلغ وجه كأنّهم ادّعوا بعصابتهم وقوّتهم محاليّة أكل الّذئب له فكأنّهم قالوا أكل الّذئب له مستلزم لخسراننا وخسراننا محال فهو محال (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) جزاؤه محذوف اى القوه فيها (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) وحيا بتوسّط الملك كما في أخبارنا ؛ ورد انّه كان ابن سبع سنين أو تسع سنين وقيل :

٣٤٩

انّه كان ابن سبع عشرة سنة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بانّك يوسف (ع) وهو قوله هل علمتم ما فعلتم الآية (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) بعد ما ذبحوا جديا ولطّخوا قميصه بدمه (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) الاستباق التّسابق في الرّمى ، والتّسابق في الخيل ، والتّسابق في العدو ؛ وهو المراد هنا (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) مصدّق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ذي كذب أو مكذوب أو كاذب أو وصف بالمصدر للمبالغة ووصف الدّم بالكذب باعتبار انّه خلاف ما اظهروه ، ورد انّه (ع) قال بعد أخذ القميص ما كان اشدّ غضب ذلك الّذئب على يوسف (ع) واشفقه على قميصه حيث أكل يوسف (ع) ولم يخرق قميصه (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) سهّلت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) عظيما هو أذى يوسف من غير جرم وأذى نبىّ الله والكذب لنبىّ الله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) هذه الكلمات كانت في الشّرائع الماضية مثل كلمة الاسترجاع في الشّريعة المحمّديّة (ص) وأصلها فاصبر صبرا جميلا ، أسقط الفعل وأقيم المصدر مقامه ثمّ عدل الى الرّفع نظير سلاما وسلام فعلى هذا كان تقدير : لي صبر جميل ، اولى من تقدير صبري صبر جميل ، أو صبر جميل صبري ، أو أمرى صبر جميل ، لانّ تعلّق المصدر بالفاعل والمفعول وربطه به بواسطة حرف الجرّ بعد حذف الفعل واقامة المصدر مقامه منصوبا ومرفوعا مطّرد مثل ظنّا منهم وسلام منّا عليك والحمد لله وحمدا لله (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من هلاك يوسف (ع) اى على الصّبر عليه (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) جماعة سيّارة للتّجارة وفي لفظ السّيّارة اشعار بانّ السّير كان شغلهم وقصّته انّ مالك بن زعر الّذى كان أمير العير وكان من ولد إبراهيم الخليل (ع) بأربعة آباء ، رأى رؤيا عبّروها له بالتقاط غلام في ارض كنعان يكون له فيه خير كثير في الدّنيا والآخرة ، وكان رؤياه قبل ذلك بخمسين عاما ، وكان يمرّ في تلك المدّة على ارض كنعان بعيره كلّ عامّ مرّة وفي ذلك العام ضلّ الدّليل الطّريق ومرّوا على ذلك البئر بعد مضىّ ثلاثة ايّام أو خمسة ايّام أو سبعة ايّام من إلقاء يوسف فيه ، وقيل : انّ البئر كان على طريق المارّة ، ويستفاد من قوله تعالى يلتقطه بعض السّيّارة انّ البئر كان على طريق المارّة (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) الّذى يرد الماء ليستقى للنّاس والدّوابّ (فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى) جواب سؤال كأنّه قيل : ما رأى وما فعل بعد إخراج الدّلو ، ونداء البشرى اشارة الى غاية سروره واستبشاره كأنّه تمثّل البشرى لديه فاستبشرها بشهود الغلام ، وقيل : كان له صاحب اسمه بشرى فناداه ليبشّره بشهود الغلام (هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ) اى الوارد وخواصّ أصحابه كتموا التقاطه من البئر لئلّا يمتدّ اليه اطماع الرّفقة ، أو كتموا نفس يوسف (ع) لئلّا يراه رفقتهم فيطمعوا فيه ، أو اسرّوا بمعنى أظهروا ، ويحتمل رجوع ضمير الفاعل الى اخوة يوسف (ع) كما يحيء (بِضاعَةً) حال من مفعول اسرّوه ، قيل : انّ يهودا كان يأتى كلّ يوم الى البئر ويتعاهد يوسف (ع) ويأتى له بطعام فلمّا جاء اليوم الى البئر لم يجد يوسف (ع) فيه فأتى العير فوجده هناك وأخبر اخوته فجاؤا الى العير وكتموا أمر يوسف (ع) وهدّدوه من القتل حتّى أقرّ بالعبوديّة فعابوه بالسّرقة والإباق (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ) منهم ويحتمل إرجاع ضمير الفاعل الى الوارد ورفقته أو الى السّيّارة وكون الشّراء بمعنى الاشتراء (بِثَمَنٍ بَخْسٍ) مغشوش أو قليل (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) عشرين

٣٥٠

أو اثنين وعشرين أو ثمانية عشر (وَكانُوا) اى السّيّارة أو اخوة يوسف (فِيهِ) في يوسف أو في الثّمن (مِنَ الزَّاهِدِينَ) غير راغبين أو ناظرين بنظر الزّهد لا بنظر الخيانة ، وكان المشترى من اخوة يوسف (ع) مالك بن زعر أمير العير فجاء به الى مصر وكان من كنعان الى مصر مسيرة اثنى عشر يوما أو ثمانية عشر يوما وقد سار يعقوب (ع) وولده بعد بشارة حيوة يوسف (ع) وسلطنته في تسعة ايّام (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) بعد وصول العير الى مصر وإبراز يوسف (ع) في معرض البيع واشتراء عزيز مصر الّذى كان بحكم الملك على خزائن مصر والملك يومئذ ريّان بن الوليد وآمن بيوسف (ع) ومات في حيوته (لِامْرَأَتِهِ) زليخا (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) بالاعانة في أمورنا وجمع أموالنا وتعهّد ضياعنا وعقارنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) لانّه لم يكن له ولد امّا لانّه كان عنّينا ويكتفى من النّساء بالملامسة والملاصقة أو كان عقيما ، وقد نقل انّ زليخا كانت بكرا لعننه ، أو لانّه كلّما يريد الدّخول ضعف عن الرّجوليّة ولم يتيسّر له الدّخول (وَكَذلِكَ) مثل ذلك التّمكين في دار العزيز وهو عطف على محذوف اى فمكّنّا ليوسف (ع) في دار العزيز ومثل ذلك (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) تمام ارض مصر أو المراد مثل ذلك التّمكين المسبّب عن المتاعب حتّى يكون تسلية للمبتلى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) عطف على محذوف اى ليعدل في النّاس ولنعلّمه من تأويل الأحاديث فيدبّر على وفقها سواء أريد بالأحاديث ، الاحداث أو أحاديث الرّؤيا أو أحاديث الكتب السّماويّة واخبار الأنبياء أو اعمّ من ذلك (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) مسلّط على ما يريده لا رادّ لمراده وقد ظهر ذلك في قصّة يوسف (ع) لانّه أراد إعزازه في الدّنيا والآخرة بابتلائه وأراد يعقوب (ع) ان لا يفارق عنه ففرّق بينهما ، وأراد عدم اخبار يوسف (ع) اخوته برؤياه فأخبروا ، وأراد اخوته بحسدهم ان يقتلوه فصرفوا ، وأرادوا ان يذلّوه فصار عزيزا بإذلالهم ، وأرادوا رقّيّته ما دام عمره فصار مالك رقاب أهل مصر ، وأراد زليخا إضلاله فعصمه ، وأرادوا اتّهامه بسجنه فصار سبب ظهور طهارته وعلوّ مرتبته (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) اللّعب المعكوس منه وجعله الاضداد أسبابا للاضداد وإظهار الشّرّ بابتلاء العبد وكتمان الخير فيه (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد سبق تفسير الاشدّ وانّه أوان كمال جميع القوى وهو سنّ الوقوف بين الثّلاثين والأربعين والحقّ انّ مبدأه الثّامن عشر ومنتهاه الأربعون (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) نبوّة ورسالة سواء أريد بالحكم كمال القوّة العمليّة بحيث ينقاد له جميع القوى النّفسانيّة أو الحكومة والتّسلّط أو القوى النّفسانيّة ، فانّ الاوّل النّبوّة والثّانى لازمها والعلم وهو الاستبصار بالأشياء على ما هي عليه من لوازم الرّسالة ، ويجوز ان يراد بالحكم لازم الولاية من التّسلّط على القوى وبالعلم النّبوّة والرّسالة فانّ النّبوّة أيضا تستلزم الاستبصار بما في العالم الصّغير ، وعلى اىّ تقدير فتقديم الحكم لتقدّم رتبته على العلم ولمكان هذا الحكم كان ليوسف (ع) كمال العفّة حين تهيّؤ أسباب الشّهوة والشّره ولذا قدّم ذكر إعطاء الحكم على المراودة (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يعنى كما انّ يوسف (ع) كان محسنا فأعطيناه الحكم لإحسانه كذلك نعطى كلّ محسن لإحسانه ، والإحسان قد مضى مرارا انّه الايمان الخاصّ وقبول الأحكام القلبيّة الولويّة بالبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب فالمراد بالمحسن هاهنا هو الّذى صار ذا حسن أو الّذى أحسن الى نفسه بإدخالها تحت ولاية وليّه ، والإحسان الى الغير لازم ذلك الإحسان (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ

٣٥١

نَفْسِهِ) راود ذهب وجاء لطلب شيء ولتضمين معنى الطّلب والسّؤال عدّاه بعن والمقصود تشبيه ملاطفاتها له وفتح أبواب الرّغبة عليه ، وانّه كلّما سدّ بابا من أبواب ترغيبها فتحت بابا آخر بالمراودة الصّوريّة ، والتّعليق على الموصول للاشعار بكمال قوّتها في المراودة وعدم عذر له من جهة الأسباب الصّوريّة وارتفاع حجاب الحياء بكثرة المعاشرة ولذلك عقّبه بقوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) حتّى يكون تعفّفه في تلك الحال دالّا على كمال قوّته الالهيّة وتسلّطه على قواه النّفسانيّة ، والتّضعيف للتّكثير فانّ الأبواب كما نقل كانت سبعة وكانا في البيت السّابع. وقد ذكر في التّواريخ انّها كانت تعشق يوسف (ع) وهو في بيتها سبع سنين وكانت تكتم عشقها ولا يعلمه الّا الله وما أظهرتها على يوسف (ع) أيضا حتّى ذاب جسمها واصفّر لونها واغورّت عيناها وكانت لها امرأة مربّية كانت صاحبة اسرارها ، فسألتها عن حالها فأظهرت حال عشقها وانّ يوسف (ع) لا يلتفت إليها ولا ينظر إليها كلّما تزيّنت له ، فأشارت إليها ان تبنى قبابا متزيّنة بأنواع الجواهر وان تنقش في جوانب كلّ قبّة صورتها وصورة حبيبها متعانقة وتجعل مسكن يوسف (ع) فيها وتظهر عشقها له لعلّه يرغب فيها بعد مشاهدة الصّور المنقوشة المرغّبة ؛ ففعلت وأدخلت يوسف (ع) في القبّة السّابعة وغلّقت الأبواب لئلّا يبقى له عذر في عدم المخالطة معها. وقيل : انّها بنت قبّة نصبت في سقفها وجميع جدرانها المرائى بحيث إذا أدخلت يوسف (ع) فيها لا تنظر الى شيء الّا تشاهد صورة يوسف (ع) ولا ينظر يوسف (ع) الى طرف الّا يرى صورتها ، وذلك انّها كلّما الحّت ودبّرت ان ينظر يوسف (ع) الى صورتها لعلّه يرغب فيها كان لا ينظر إليها فدبّرت ذلك لعلّه يرى صورتها ويرغب فيها وأيضا لغاية محبّتها كانت لا تريد النّظر الّا الى جمال يوسف (ع) (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) اسم فعل بمعنى أقبل أو بمعنى تهيّئت واللّام لتبيين الفاعل أو المفعول وقرئ هيت بضمّ التّاء وهيت بكسرها مثل حيث وجير ، وقرئ هيت بكسر الهاء وفتح التّاء ، وهئت مثل جئت بضمّ التّاء فعل ماض بمعنى تهيّئت (قالَ) في جوابها اعتذارا من عدم إجابتها مستعيذا بالله خوفا من ان يفتتن بصحبتها (مَعاذَ اللهِ) عذت بالله معاذا ولمّا كان في الاستعاذة اشعار بعدم الاجابة علّله بقوله (إِنَّهُ رَبِّي) انّ العزيز سيّدى اشتراني بثمن غال لا يليق بى الخيانة بأهله وحريمه ، أو انّ الله ربّى ربّانى من اوّل استقرار نطفتي ومادّة بدني في رحم أمّي فلا ينبغي مخالفته فيما نهى عنه (أَحْسَنَ مَثْوايَ) أظهر وصفا آخر مقتضيا لقبح الخيانة ، ونسبة الإحسان الى المثوى كناية عن إكثار الانعام ووفور الإحسان ، ومن أساء الى المحسن فهو ظالم والظّالم لا ينجو من العذاب الأليم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ذكر في الاعتذار ثلاثة أشياء : الرّبوبيّة وكثرة الإحسان وكون الخيانة ظلما خصوصا مع المنعم مع عدم فلاح الظّالم تعريضا بنصحها وردعها عمّا أرادت.

بيان العشق ومراتبها ومراتب الحبّ

اعلم ، انّه لا خلاف ولا شكّ في انّ زليخا تعشّقت يوسف (ع) ولم يكن مراودتها عن محض شهوة حيوانيّة وسفاد قوّة بهيميّة كما قال من لا خبرة له بالحقائق الالهيّة والصّفات الرّبوبيّة حيث نظر الى تهديدها له بالسّجن ورضاها بكونه في السّجن ، والحال انّ العاشق لا يمكنه تهديد المعشوق ويعدّ البلاء والملامة فيه من شعار عشقه ومستلذّات لوعته وموجبات ازدياد محبّته واشتعال شوقته ، بل الخلاف في انّ عشقها أكان سفليّا صارفا لها عن الجهة الانسانيّة العالية الالهيّة داعيا لها الى الحيوانيّة البهيميّة المقتضية للسّفاح والفجور لانّ مراودتها كانت لذلك لدلالة هيت وقولها (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقولها (لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَ) وقول يوسف (ع) (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) أم علويّا صارفا عن الجهة الحيوانيّة

٣٥٢

السّفليّة الى الانسانيّة العالية مقتضيا لنزاهة النّفس عن الأدناس والارجاس موجبا لقرب الحقّ الاوّل تعالى ، لانّ تعشّقها ليوسف انتهى بها الى محبّة الله ومشاهدة جماله والاستغناء عن مشاهدة المظاهر فضلا عن المواقعة والسّفاح كما ورد انّ يوسف (ع) افتتن بها وهي استغنت عنه بالله تعالى وتحقيق ذلك يستدعى تحقيق معنى العشق والمحبّة وبيان حقيقته ومراتبه ؛ فنقول ومنه الاعانة والتّوفيق : العشق من صفات الله العليا وبه دعمت السّماوات والأرضون وهو الّذى ملأ أركان كلّ شيء ولولاه لما كان ارض ولا سماء ولا ملك ولا ملكوت وهو يساوق الوجود ، حقيقته حقيقة الحقّ الاوّل تعالى وهو بإطلاقه غيب مطلق لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر ولذا قيل :

هر چه گويم عشق را شرح وبيان

چون بعشق آيم خجل مانم ازان

عقل در شرحش چو خر در گل بخفت

شرح عشق وعاشقى هم عشق گفت

لانّ العشق كالوجود لا يكتنه ولا يحاط لانّه عين الواقع وحاقّ التّحقّق فلو أدرك بالكنه لا نقلب الواقع ذهنا والواقعىّ ذهنيّا. وأيضا حقيقة العشق المطلق كحقيقة الوجود المطلق منزّه عن ادراك الحسّ والخيال والعقل للزوم السّنخيّة بين المدرك والمدرك بل لزوم الاتّحاد بينهما ولا سنخيّة ولا اتّحاد بين المطلق والمقيّد ولذلك ورد هو مع كلّ شيء ، هو معكم أينما كنتم وهو حقيقة كلّ شيء وهو بفعله كلّ الأشياء ولا شيء من الأشياء معه :

آنجا كه توئى چو من نباشد

كس محرم اين سخن نباشد

وأيضا العشق المقيّد الّذى هو من اجلّ أوصاف الإنسان وبه تميّزه عن سائر الحيوان وفي الحقيقة هو فعليّته وبه تحقّق انسانيّته لا يدرك حاله بالحال والقال ولا بالعقل والخيال لخروجه عن سلطان العقل فكيف بعقال الخيال ، فانّه يقتضي الدّهشة والحيرة والاسترسال عن انتظام الحركات وتدبير الأمور كالجنون والاختبال ولا يدرك العقل المقتضى للتّدبير وحفظ النّاموس حقيقة تلك الأحوال لتقيّده واسترسال العشق ، ولهذا ظنّ العقلاء من الحكماء انّه جنون من اختلال في الدّماغ أو فساد في المزاج وترقّى بعضهم لانّه لم يدرك له سببا طبيعيّا فقال : انّه جنون الهىّ. فالعشق كالوجود مرتبة منه واجب الوجود وليس لأحد الكلام فيه إذا بلغ الكلام الى الّذات فأمسكوا ، ومرتّبة منه العشق المطلق والحقّ المضاف الّذى به قوام كلّ شيء وهو اضافة الحقّ تعالى الى الأشياء وهو حقيقة كلّ ذي حقيقة وبه معيّته وقيّوميّته وهو الظّاهر والباطن والاوّل والآخر وهو بكلّ شيء محيط ، وبه يقال بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس شيئا من الأشياء ولا يبقى معه شيء وان كان هو مع كلّ شيء. ومرتبة منه المجرّدات الصّرفة بسعتها وعدم نهايتها ، ومرتبة منه النّفوس ، ومرتبة منه الأشباح النّوريّة وعالم المثال وفيه جنان أصحاب اليمين ، ومرتبة منه المادّيّات وعالم الطّبع وفيه التّكليف والتّرقّى الى عالم المجرّدات النّوريّة والتّنزّل الى عالم الأرواح الخبيثة ، ومرتبة منه عالم الأرواح الخبيثة وفيه جحيم الأشقياء ، وهناك يتمّ نزول العشق ومن هناك ابتداء الصّعود كما أشير اليه في أخبارنا ، بانّ الجنّ منهم مؤمنون اى متصاعدون عن مقام الأرواح الخبيثة أو ابتداء الصّعود من عالم الطّبع كما عليه معظم أهل النّظر والبيان ، ولمّا كان عالم الطّبع مكتنفا بالاعدام موصوفا بالتّضادّ والتّعاند ملفوفا بالغيبة والفقدان ، بحيث لا يدرك منه أهل الحسّ والخيال العشق والمحبّة لكونهما مسبوقين بالعلم والحيوة ولا يدركون منه حيوة ولا شعورا ما سمّوا ميل الطّبائع الى أحيازها ولا عشقها لحفظ موادّها وصورها ولا ميل النّبات في حركاتها ولا ميل الحيوان في ارادتها عشقا ، بل فرّقوا بين مراتب الطّلبات فسمّوا طلب الاجرام الثّقال والخفاف لا حيازها عند الخروج عنها ميلا ، وعشق الجماد لبقاء صورته حفظا ، وعشق النّبات للنموّ وتوليد المثل تنمية وتوليدا ، وطلبه للغذاء جذبا ، وعشق الحيوان للغذاء والسّفاد شهوة ، وعشقها

٣٥٣

لأولادها من حيث انّه يشبه انس الإنسان حبّا ، وسمّوا حبّ الإنسان من حيث انّه إنسان باعتبار مراتبه من الشّدّة والضّعف وباعتبار متعلّقه بالميل والشّهوة والحبّ والعشق والشّوق ؛ فسمّوا اوّل مراتبه ميلا ، وإذا اشتدّ بحيث يتمالك معه شهوة وحبّا ، واشدّ مراتبه بحيث لا يتمالك معه عشقا ، إذا كان الحبّ للمحبوب الموجود ، وإذا كان للمحبوب المفقود يسمّى شوقا ، وقد يطلق كلّ على كلّ. والحبّ على المعنى الاعمّ وعلى مراتب عشق الحيوان والنّبات حقيقة أو على سبيل المشاكلة ، ويسمّى عشق الإنسان من حيث نفسه الحيوانيّة بالهوى والشّهوة ، ويطلق الحبّ على جملة المراتب فيكون اعمّ من الكلّ ، ولا شكّ انّ الهوى والشّهوة والميل والحبّ والشّوق الغير الشّديد من لوازم وجود الإنسان ولا يمكن بقاء الشّخص ولا بقاء النّوع ولا عمارة الدّنيا والآخرة الّا بها فهي من الكمالات المترتّبة عليها غايات ومصالح عديدة. وامّا العشق والشّوق اللّذان لا يتمالك معهما الإنسان ولا يكونان الّا متعلّقين بصور الحسان وقد يتعلّقان بأصوات القيان وتناسب الالحان فقد اختلف كلمات أصحاب البيان وأرباب الّذوق والوجدان في انّهما من الخصائل أم من الرّذائل؟ فقال أكثر العقلاء : انّ العشق رذيلة مستلزمة لرذائل كثيرة وأوصاف مذمومة مثل البطالة في الدّنيا والقلق والدّهشة وسهر اللّيالى واصفرار اللّون واغورار العين وخروج الحركات عن ميزان العقل ، ولذا قيل : انّه جنون الهىّ أو مرض سوداوىّ وجنون حيوانىّ وعدم الانتزاع بالنّصح والرّدع بل اشتداده به كما قال المولوىّ :

سخت تر شد بند من از پند تو

عشق را نشناخت دانشمند تو

وعدم الخوف من التّخويف بالحبس والقتل كما قال أيضا :

تو مكن تهديدم از كشتن كه من

تشنه زارم بخون خويشتن

گر بريزد خون من آن دوست رو

پاى كوبان جان بر افشانم بر أو

والوحشة من أبناء النّوع وطلب العزلة والخلوة عنهم وجعل الهموم مقصورة على لقاء المعشوق نافرا عن كلّ شغل سواه ولو في ترك العبادات والأعمال المعاديّة كما قال أيضا :

غير معشوق ار تماشائى بود

عشق نبود هرزه سودائى بود

عشق آن شعله است كه چون برفروخت

هر چه جز معشوق باقى جمله سوخت

واقتضاؤه في بعض الأحيان للفجور واشتداد الشّهوة الحيوانيّة بحيث لا يتمالك عنه ويدخل فيما منعه الشّارع ، وهذا كلّه من الرّذائل والمناهي الشّرعيّة التّحريميّة أو التّنزيهيّة ، وقال بعض أهل النّظر وجملة العرفاء والصّوفيّة : انّه من حيث هو من الفضائل النّفسانيّة وان صار بالنّسبة الى من غلب عليه البهيميّة رذيلة بالعرض وبالنّسبة الى من هو مشغول بالله صارفا عن الأشرف الى الاخسّ.

وتحقيق الحقّ في ذلك ان نقول : شرافة الأوصاف امّا بشرافة مباديها أو محالّها أو بشرافة لوازمها أو متعلّقاتها أو غاياتها ؛ والكلّ مجموعة في عشق الإنسان للصّور الحسان والحان القيان وتخلّف البعض في بعض الأحيان بعارض لا ينافي الاقتضاء الذّاتيّ لو لم يعارضه عارض ، فانّ مبدأه القريب لطافة النّفس ودقّة الإدراك ورقّة القلب ، ولذا ترى النّفوس الغليظة والقلوب الجافية منه خالية كالاكراد الّذين لا يعرفون منه الّا السّفاد ومبدأه البعيد هو الله بتوسّط المبادى العالية باعداد الأبصار أو السّماع واستحسان شمائل المعشوق ، فانّ عشق كلّ عاشق ظلّ ومعلول لعشق الاوّل تعالى لا كمعلوليّة الأوصاف القهريّة له تعالى فانّها معلولة له بالعرض أو بتوسّط المبادى القهريّة ، فانّ كمال الوجود من حيث هو وجود ينتهى الى الوجوب ومحلّ تحقيقه الحكمة العالية ولا شكّ في شرافة ذلك كلّه ومحلّه النّفس الانسانيّة الّتى هي الصّراط المستقيم الى كلّ خير وهي الجسر الممدود

٣٥٤

بين الجنّة والنّار وهي الكتاب الّذى كتبه الرّحمن بيده ، ومن لوازمه جعل الهموم همّا واحدا وكفى العشق فضلا ان يجعل الهموم همّا واحدا وقد قال المولوىّ قدس‌سره :

عقل تو قسمت شدة بر صد مهم

بر هزاران آرزو وطمّ ورمّ

جمع بايد كرد اجزا را بعشق

تا شوى خوش چون سمرقند ودمشق

وطهارة النّفس عن جملة الرّذائل كما قال أيضا :

هر كه را جامه ز عشقى چاك شد

أو ز حرص وعيب كلى پاك شد

شاد باش اى عشق خوش سوداى ما

واى طبيب جمله علّتهاى ما

اى دواى نخوت وناموس ما

اى تو أفلاطون وجالينوس ما

فانّه لا يبقى للعاشق المفتون دواعي الغضب ولا الشّهوة ولذا قيل : العشق يحرق الشّهوة لا انّه يوقدها وما يرى من هيجان الشّهوة في بعض فانّما هي لبقاء النّفس البهيميّة وغلبتها على النّفس الانسانيّة ، أو لسعة النّفس الانسانيّة وأخذ البهيميّة من العشق حظّها ، وقد علمت انّ حظّ البهيميّة من العشق هو قضاء الشّهوة ، ومنها رقّة القلب في كلّ حال والتّواضع لكلّ أحد ولا سيّما المنسوب الى المعشوق والقرب من عالم المجرّدات والتّشبّه بالملائكة ولذلك ورد : من عشق وعفّ وكتم ومات مات شهيدا ؛ وقد قال المولوىّ بلسانه :

خونبهاى من جمال ذو الجلال

خونبهاى خود خورم كسب حلال

ومنها الزّهد الحقيقىّ في الدّنيا بلا تكلّف ولا تعب في الاتّصاف به :

عاشقان را با سر وسامان چه كار

با زن وفرزند وخان ومان چه كار

والرّغبة في الآخرة وطلب الخلاص من سجن الدّنيا :

عاشقان را هر زماني مرد نيست

مردن عشّاق خود يك نوع نيست

أو دو صد جان دارد از نور هدى

وان دو صد را ميكند هر دم فدا

ومتعلّقه بحسب الظّاهر هو الا وجه الحسان باعداد الأبصار أو السّماع ونغم الالحان باعداد السّماع فقط ، وقد يكون تعلّق العشق بالاوجه الحسان باعداد غلبة الشّهوة مع النّظر أو السّماع ، وشرف حسن الصّورة ثابت بالكتاب والسّنّة والعقل والفطرة والمنكر له خارج عن الكلّ ومن لا يميّز بين الصّور الحسان وغيرها ليس بإنسان ، ودقيق النّظر يقتضي ان يكون متعلّق العشق امرا غيبيّا متجلّيا على العاشق من مرآة جمال المعشوق ، ولمّا كان ازدياد حسن الصّورة وبهاؤها دليلا على ازدياد حسن السّيرة وصفاء النّفس وكان ازدياد صفاء النّفس موجبا لاشتداد تجلّى ذلك الأمر الغيبىّ ، فكلّما كانت الصّورة أحسن كان تجلّى الأمر الغيبىّ اشدّ وبحسب اشتداده يشتدّ العشق ، وممّا يدلّ على انّ متعلّق العشق هو الأمر الغيبىّ لا الحسن البشرىّ فقط انّه لو كان المعشوق امرا جسمانيّا لانطفى حرارة شوقه وانسلى من حرقة فرقته عند الوصول الى معشوقه والحال انّ العاشق إذا وصل الى المعشوق وحصل له الاتّصال الجسمانىّ ازداد حرقته واشتدّ لوعته كما قيل :

اعانقها والنّفس بعد مشوقة

إليها فهل بعد العناق تدانى

والثم فاها كى يزول حرارتى

فيزداد ما يبقى من الهيجان

وانّه لو حصل للعاشق اتّصال ملكوتىّ بالمعشوق لتسلّى عن صورته الجسمانيّة كما نقل عن المجنون العامرىّ انّه وقفت على رأسه ليلى العامريّة فقالت : يا مجنون انا ليلاك فلم يلتفت إليها وقال : لي منك ما يغنيني ، وقد قال المولوىّ قدس‌سره برهانا على هذا المطلب :

٣٥٥

بيلن السعادة

آنچه معشوقست صورت نيست آن

خواه عشق اين جهان خواه آن جهان

آنچه بر صورت تو عاشق گشته

چون برون شد جان چرايش هشته

صورتش برجاست اين زشتى ز چيست

عاشقا وا بين كه معشوق تو كيست

آنچه محسوس است اگر معشوقه است

عاشق استى هر كه أو را حسّ هست

چون وفا آن عشق افزون ميكند

كى وفا صورت دگرگون ميكند

وغايته قد علم انّها التّجرّد من مقتضيات الشّهوة والغضب ومن ادناس الدّنيا والتّعلّق بالآخرة بل بالله ولا شرف أشرف منها ، فعلم انّ المحبّة الشّديدة للاوجه الحسان من الخصائل الشّريفة وقد يعرضها ما تصير بسببه مذمومة كتعشّق المقرّبين وافتتانهم بالصّور الملاح أو السّماع ، فانّ هذا العشق من أوصاف الاواسط وأصحاب اليمين وهو سيّئة بالنّسبة الى المقرّبين. وقد نقل عن بعض الكمّلين من المشايخ افتتانهم بالسّماع أو الأوجه الحسان ، ومثل تعشّق من اشتدّ بتعشّقه نار الشّهوة سواء كان نفسه البهيميّة غالبة على نفسه الانسانيّة أو مغلوبة ، فانّه بسبب اشتداد الشّهوة واقتضاء الفجور يصير مذموما عقلا وذوقا وحراما شرعا. ولمّا كان عشق أكثر الخلق مورثا لاشتعال نار الشّهوة ومؤدّيا بهم الى الفجور ورد النّهى عن النّظر الى الامارد والتّشبّب بالاجانبة وذمّ أهل الذّوق ذلك كما قال المولوىّ :

عشقهائى كز پى رنگى بود

عشق نبود عاقبت ننگى بود

ولا يوجد آثار العشق الممدوح في ذلك بل هو من توابع الشّره المذموم ، وعشق زليخا وان كانت البهيميّة أخذت منه حظّها واستدعت الفجور كما يدلّ عليه ظواهر الآيات والاخبار ، لكنّ الانسانيّة كانت غالبة والعشق نشأ منها والبهيميّة أخذت حظّا منه تبعا ولذا كانت كاتمة له سبع سنين وانتهى العشق بها الى الانسلاخ ممّا كانت مقيّدة به من الافتتان بصورة يوسف (ع) والى الافتتان بالمعشوق الحقيقىّ فارّة من المعشوق المجازىّ.

بيان البرهان الّذى رآه يوسف (ع)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بمخالطته وقصدت الفجور (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) همّ بها في المعنى جزاء للولا كأنّه قال : لولا ان راى برهان ربّه لهمّ بها يعنى انّ ترك الهمّة منه كان مسبّبا عن رؤية برهان الرّبّ لا عن امر آخر من عنن وضعف أو مانع ، وتقديم الجزاء لا يهام تحقّق الهمّة اشعارا بقوّة المقتضى من حيث بشريّته وعدم المانع من قبلها بل شدّة الاقتضاء منها وعدم مانع آخر لكونهما في بيت خال من الأغيار وعدم احتمال دخول النّظّار وهذا غاية المدح له (ع) وقيل : الكلام ليس على تقدير التّقديم والتّأخير والمعنى وهمّ بها لو لا ان راى برهان ربّه لعزم على المخالطة أو لفعل ، لكنّ الهمّة عبارة عن الشّهوة الفطريّة والرّغبة الاضطراريّة والخطرة القلبيّة الّتى لا مدخليّة للاختيار فيها وهو بعيد عن مفهوم الهمّة لغة وعرفا ، فان المتبادر من الهمّة هيجان النّفس للفعل بعد تصوّره والرّغبة فيه اختيارا وهو بعيد عن عصمة الأنبياء وحرمتهم (ع). وورد في الاخبار ما يشعر بعدم تقدير التّأخير لكن فرّق بين الهمّتين وانّ المعنى ولقد همّت بمخالطته وهمّ بالفرار أو بقتلها لو الجأتها أو بدفعها أو بوعظها لولا ان رأى برهان ربّه لهمّ بمخالطتها بحسب بشريّته ، وقالت جماعة من المعترفين بجواز الخطاء على الأنبياء (ع) : انّه همّ بمخالطتها وقالوا ما لا يليق بأدنى عبد من عباد الله ممّا لا ينبغي ذكره. ونسبوا الى الباقر (ع) انّه نقل عن أمير المؤمنين (ع) انّه همّ ان يحلّ التّكّة ، وذكر انّ يوسف (ع) حين قال إظهارا لطهارته ذلك ليعلم انّى لم أخنه بالغيب نزل جبرئيل (ع) وقال : ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف (ع) وما ابرّئ نفسي انّ النّفس لامّارة بالسّوء ، وحاشا مقام النّبوّة عن التّلوّث بأمثال هذه الخطايا ، والعجب انّهم يذكرون انّ الله تعالى أخذ يوسف (ع) حين

٣٥٦

قال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَ) ، بالسّجن بسبب توجّهه الى السّجن وغفلته عن العصمة واخذه (ع) حين قال اذكرني عند ربّك ، بتوسّله الى المخلوق باللبّث في السّجن بضع سنين ولم يذكروا انّه تعالى أخذه بتلك المعصية العظيمة كأنّهم سفّهوا الحقّ تعالى بالمؤاخذة على الالتفات الى الغير في محضر حضوره وعدم المؤاخذة على المخالفة وارتكاب معصية عظيمة في حضوره بل ذكروا انّ الآية في مدحه (ع) بطهارة ذيله ، ولو كانت كما ذكروها لكانت غاية الّذمّ له (ع) ، وقد ذكر انّ كلّ من كان له ارتباط بتلك الواقعة شهد بطهارته وهم اغمضوا عن ذلك ونسبوه الى التّلوّث ، فانّ الله تعالى قال (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، والعزيز قال (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) والشّاهد الصّبىّ قال : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) الى الآخر والنّسوة قلن (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وزليخا قالت (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وإبليس قال : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقد كان بنصّ الآية من المخلصين.

والمراد بالبرهان هو السّكينة الّتى كانت تنزل على الأنبياء (ع) والمؤمنين وبها كانت نصرتهم على الأعداء في العالم الكبير والصّغير ، وقد مضى انّها تجلّى ملكوت الشّيخ على صدر السّالك وانّها الاسم الأعظم الّذى يفرّ منه الشّيطان ، وقد كان شيخ يوسف (ع) الّذى تاب على يده وبايعه البيعتين أباه يعقوب (ع) ، وبرهان الرّبّ هو صورته الملكوتيّة النّازلة على صدره ، وذكر الرّؤية يشعر بها وفي الاخبار ما يدلّ عليه نصّا أو اشعارا ، واختلاف الاخبار في تفسير البرهان يمكن رفعه بما ذكر ، فقد ورد انّ البرهان كان جبرئيل (ع) لانّه نزل حين همّتها وقال : يا يوسف (ع) اسمك في الأنبياء مكتوب فلا يكوننّ عملك عمل الفجّار ، وورد انّه رأى صورة يعقوب (ع) ، ونقل انّه رأى يدا بينه وبين زليخا ، وفي أخبارنا انّ البرهان ما قاله لها حين سترت الصّنم : أنت تستحيين من صنم لا يبصر ولا يسمع وانا لا استحيى ممّن خلق الإنسان وعلّمه؟! ونقل انّ البرهان اسم ملك أو انّ طيرا ظهر عليه أو انّ حوراء من حور الجنّة ظهرت عليه أو انّه ايّد بالنّبوّة حين مراودتها ، وقد قيل فيه أشياء أخر لا ينبغي ذكرها ، والحقّ انّ البرهان هو ما ذكرنا وانّه لغاية الانزجار عن مراودتها والدّهشة عن محادثتها انسلخ عن البشريّة واتّصل بعالم الملكوت وفاز بشهود الملكوت وأنوارها واستلذّ بجمال شيخة بحيث لم يبق له حالة توجّه والتفات الى زليخا ومحادثتها ، وما ورد في الاخبار من انكار ظهور يعقوب (ع) أو جبرئيل (ع) أو غيرهما فانّما هو باعتبار ما يذكره العامّة من انّه ظهر حين أراد يوسف (ع) الفجور ومنعه عن الفجور فالانكار في الحقيقة راجع الى ما يستفاد من قولهم من الاشعار بهمّة يوسف (ع) للفجور (كَذلِكَ) امّا متعلّق بقوله تعالى همّ بها اى همّ بها مثل همّها به ، وتخلّل لولا ان رأى بينهما لئلّا يتوهّم تحقّق همّه مثل همّها وانقطاع لو لا ان رأى عمّا قبله وقوله (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) جواب سؤال بتقدير أريناه وهذا أوفق بما ورد من تفاسير ائمّتنا (ع) من جعل هم بها جزاء للولا في المعنى أو هو مع عامله المحذوف جملة مستقلّة ولنصرف متعلّق به اى كذلك عصمناه لنصرف عنه السّوء اى الخيانة في حقّ من أكرم مثواه والفحشاء اى الزّنا (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) في موضع التّعليل وقرئ بفتح اللّام وكسرها (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) تسابقا ؛ بقصده الفرار منها وقصدها منعه (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) اى وصلت اليه وتمسّك بقميصه لتمنعه من الخروج فقدّته (مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها) زوجها العزيز (لَدَى الْبابِ قالَتْ) جواب سؤال مقدّر اى بعد ما رأت العزيز واستحيت منه ورأت افتضاحها وانّه لا يمكن لها انكار الفضيحة قالت دفعا للتّهمة عن نفسها ورميا بها غيرها لا يهام انّها فرّت منه كما هو شأن كلّ خائن بعد

٣٥٧

الافتضاح بخيانته (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لفظة ما استفهاميّة إنكاريّة أو نافية اخباريّة (قالَ) دفعا للتّهمة والعذاب عن نفسه (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وألهمه الله ان يقول : سل هذا الصّبىّ الّذى في المهد وكان الصّبىّ من أقارب زليخا ابن عمّها أو ابن خالتها وقيل : كان ابن أخت العزيز جاءت الى دار العزيز حين سمعت النّزاع فيها ومعها ابنها ابن ثمانية ايّام أو ثمانية أشهر وكان العزيز قد سلّ سيفه غضبا على يوسف (ع) وهمّ بقتله فالتجأ يوسف (ع) الى الله وقال : اللهمّ ادفع عنّى هذه التّهمة والقتل ؛ فنطق الصّبىّ من غير سبق سؤال (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) اى الصّبىّ (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ادّى الشّهادة بما يكون دليلا عليه (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ) عتابا عليها (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أشرك سائر النّساء اشارة الى انّ الكيد في أمثال تلك سجيّة للنّساء ليكون العتاب مشوبا بالاعتذار عنها مراعاة لما هو شأن النّصح والوعظ من امتزاج التّهديد والارجاء والرّحمة والغضب وحفظا لعرضه عن الافتضاح ، ويدلّ عليه وصيّته ليوسف (ع) بالكتمان (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) في مراودة الرّجال لوجود المقتضى في سجيّة الرّجال وعدم المانع حين مراودتكنّ وقلّما ينفكّ الرّجل عن شرّ كيد كنّ (يُوسُفُ) بحذف حرف النّداء (أَعْرِضْ عَنْ هذا) أوصاه بالكتمان صونا لعرضه ، وقيل : ما وفي يوسف (ع) وأخبر بما كان لانّ النّاس كانوا يلومونه على ما سمعوه منه ثمّ اعرض عن يوسف (ع) وخاطب زليخا بالأمر بالاستغفار وبالتّلطّف معها في ضمن التّعيير فقال (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) ذكر جمع المذكّر تغليبا وجريا على ما هو الغالب على الألسن من الإتيان بجمع المذكّر (وَقالَ نِسْوَةٌ) أتى بالفعل بدون التّاء مع نسبته الى المؤنّث الحقيقىّ الغير المفصول نظرا الى صورة الجمع المكسّر ؛ على ان يكون جمعا للنّساء الّذى هو جمع للمرأة وقيل : النّسوة بكسر النّون وضمّها والنّساء والنّسوان والنّسون بكسرهنّ كلّها اسم جمع للمرأة ، وقيل : كلّها جمع لا واحد لها من لفظها وإسقاط التّاء للاشعار بانّهنّ كنّ موصوفات بخصال الرّجال لافتتانهن بجمال يوسف (ع) حين مشاهدتهنّ ايّاه ، وقيل : كنّ أربعا أو خمسا أو اربع عشرة وقيل : صارت القضيّة منتشرة بين نساء مصر حتّى انّ أكثر النّساء كنّ يتحدّثن بها (فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) تعييرا لها بافتتانها بعبد مملوك لها وكأنّهنّ كنّ مفتتنات به وكنّ يردن بذلك ان يخرجه العزيز من داره لعلّهنّ يرينه بسبب ذلك ولذلك سمّاه مكرا فيما يأتى (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أحاط بها من الشّغاف بمعنى الغلاف يعنى اعميها واصمّها بحيث لا تبصر معايب المراودة ولا تسمعها ممّن يعيبها لانّها كانت كلّما تسمع الملامة يزداد عشقها ويشتدّ التهاب شوقها كما قيل :

نسازد عشق را كنج سلامت

خوشا رسوائى كوى ملامت

ملامت شحنه بازار عشق است

ملامت صيقل زنگار عشق است

أو وصل الى باطنها بحيث ملأ جميع أركانها من شغاف القلب بمعنى باطنها أو وصل من باطن قلبها الى ظاهره فأحاط به من شغاف القلب بمعنى غشائه المحيط به.

٣٥٨

سورة يوسف

بيان مراتب القلب

اعلم ، انّ أهل الله المكاشفين قالوا : انّ القلب تارة يطلق على معنى يشمل اللّحمة المودعة في أيسر الصّدر وتارة على مراتب الرّوح المتعلّق به وبهذا المعنى يقال : للقلب أطوار سبعة اوّلها الصّدر وهو محلّ نور الإسلام وظلمة الكفر كما في الكتاب الالهىّ ، وثانيها القلب وهو محلّ الايمان (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، وثالثها الشّغاف وهو محلّ المحبّة الانسانيّة المتعلّقة بالخلق قد شغفها حبّا ، ورابعها الفؤاد وهو محلّ المشاهدة للأنوار الغيبيّة ما كذب الفؤاد ما رأى وخامسها حبّة القلب وهي محلّ المحبّة الالهيّة ، وسادسها سويداء القلب وهي محلّ المكاشفات والعلوم الدّينيّة ، وسابعها مهجة القلب وهي محلّ تجلّى الله بأسمائه وصفاته.

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لانّها كانت قد خرجت من جادّة العقل وسهّلت على نفسها الشّين والعار واختارت عشق مملوك لها لا يلتفت إليها (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) قد مضى وجه اطلاق المكر على ذمّهنّ (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) للضّيافة وهيّأت مجلسا لائقا بشأن الملوك وسألت يوسف (ع) ان يخرج عليهنّ إذا سألت الخروج (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) احدّ ما يكون بعد الفراغ من الغذاء واعطت كلّ واحدة منهنّ اترجّا (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) بعد ما زيّنته بالالبسة الفاخرة وأنواع ما يتزيّن به (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) بحيث لم يبق لهنّ شعور بانفسهنّ ومحين في جماله ، وقيل : اكبرن بمعنى حضن فانّ الإكبار ورد في اللّغة بهذا المعنى لانّ الحيض علامة دخول المرأة في الكبر كالاحتلام للمرء يعنى من غلبة الوله أو من غلبة الشّبق حضن (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) جرحنها جرحا كثيرا (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) كلمة تعجّب وحاش حرف نزّل منزلة المصدر اى تنزيها لله وعلى هذا فاللّام للتّبيين مثل لام سقيا لك ، أو للقسم سواء جعل حاش كلمة برأسه أو كان أصله حاشا خفّف ألفه الاخيرة ، وقيل : أصله حاشا فعلا خفّف بحذف الالف من الحشى بمعنى النّاحية والفاعل ضمير يوسف (ع) واللّام للتّعليل والمعنى تنحّى يوسف عن التّلوّث لله أو لتبيين المفعول والمعنى نزّه يوسف الله والفعل لازم والفاعل هو الله واللّام لتبيين الفاعل ، أو اللّام للقسم سواء جعل الفعل لازما أو متعدّيا وفاعل الفعل ضمير يوسف (ع) ، وقرئ حاشا الله فعلا لازما والله فاعله وحاشا لله بتنوين حاش حرفا منزّلا منزلة المصدر أو منزلة أسماء الأصوات ، أو بجعله اسم صوت ولام لله حينئذ تكون للتّبيين أو للقسم (ما هذا بَشَراً) جرين على عادة العرف من نفى البشريّة عمّن يبالغون في كماله يعنى انّه فوق البشريّة في جماله ولم يردن نفى البشريّة حقيقة ، أو أردن ذلك حقيقة (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) هذا أيضا على عادة العرف من إثبات الملكيّة لمن يبالغون في كماله (قالَتْ) اعتذارا عن افتتانها به ودفعا لملامتهنّ أو تفاخرا بعشقه أو جوابا عن سؤالهنّ لانّهنّ بعد مشاهدة جماله وقطع ايديهنّ قلن : يا زليخا من هذا الّذى أريتناه؟ ـ قالت في جوابهنّ (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) يعنى انّ الملامة ليست في موقعها لانّ جماله اقتضى الافتتان به ولا يمكن الصّبر عنه (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ) بعد ما رأى انّ مدافعتهنّ أصعب شيء له (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) واتنزّل من مقام العلم والعقل (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) السّاقطين في مقام الجهل أشرك النّسوة مع زليخا في استدعائه الخلاص

٣٥٩

منها لانّهنّ كنّ يرغّبنه على اجابة زليخا ويخوّفنه منها ويدعونه خفية الى انفسهنّ ولمّا كان المراد من إظهار احبّيّة السّجن والصّبا إليهنّ لو لم يصرف كيدهنّ دعاء الخلاص منهنّ قال تعالى (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) بنجاته من ايديهنّ بإرادتهنّ السّجن له (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعاء كلّ داع أو لكلّ صوت ومنه دعاء الدّاعين (الْعَلِيمُ) بما يصلح كلّ أحد (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) لمّا رأت امرأة العزيز انّها افتضحت بين النّاس ولم تصل الى وصال يوسف (ع) شاورت خواصّها فدبّرن ان يرسلوه الى السّجن حتّى ينتشر في النّاس انّ الإثم كان منه ، ولعلّه يرضى بمواصلتها بعد ما ذاق مرارة السّجن فسألت زليخا من العزيز ان يرسله الى السّجن فشاور خواصّه فأشاروا اليه بذلك فاستقرّ رأى الجميع على سجنه ولذلك قال تعالى : بدا لهم اى للمرأة وخواصّها وللعزيز وخواصّه والمراد بالآيات آيات صدقه وطهارة ذيله من تنطّق الصّبىّ وقد القميص من الدّبر واستباقهما الباب حتّى سمع العزيز مجاذبتها ايّاه على الباب وقطع النّسوة ايديهنّ (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) مدّة قليلة ليسحب النّاس انّه كان الآثم (وَدَخَلَ) ادخل (مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) كانا عبدين للملك أحدهما كان خبّازه والآخر صاحب شرابه واستعمال الفتى والفتاة في العبيد والإماء غالب في عرفهم وقيل : انّه لمّا ادخل السّجن استدعى من السّجّان ان ينزله تحت شجرة يابسة كانت في وسط السّجن فآواه هناك فتوضّأ (ع) تحتها وصلّى فأصبحت الشّجرة مخضّرة ، وكان ينصح أهل السّجن ويسلّيهم ويعظهم ويتعاهدهم كلّ صباح ومساء فعرفوه بالصّلاح واحبّوه وكان يبثّ كلّ شكواه اليه ورأى في المنام صاحباه ما قصّ الله تعالى فأتيا (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) اى عصيرا أو عنبا ، واطلاق الخمر للاشارة الى انّه يعصره للخمر أو المراد انّى أعصر الخمر عن درديّها واصفّيها (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) جفنة فيها خبز (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) ورد عن الصّادق (ع) انّه لمّا امر الملك بحبس يوسف (ع) في السّجن ألهمه الله تعالى علم تأويل الرّؤيا فكان يعبّر لأهل السّجن رؤياهم وانّ فتيين ادخلا معه السّجن يوم حبسه فباتا فأصبحا فقالا : انّا رأينا رؤيا فعبّرها لنا فقال : وما رأيتما؟ فقصّا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من صاحبي السّجن أو ممّن يحسن الى جلسائه ومعاشريه لانّه كان يقوم على المريض ويلتمس للمحتاج ويوسّع في المجلس على جلسائه أو ممّن يحسن تعبير الرّؤيا لانّه كان يعبّر لأهل السّجن ويوافق تعبيره الواقع (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) وكان وقت إتيان الطّعام لأهل السّجان (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) لمّا كان المستثنى مفرّغا وحالا ممّا قبله والحال تقتضي الاقتران بالعامل زمانا وكان مقصوده انّه يعبّره قبل الإتيان قيّده بقوله (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) وأخرّ التّعبير لترغيبهم في التّوحيد وتنفيرهم عن الإشراك بعد ما رأى وثوقهما به وظنّ تأثّرهما بوعظه كما هو شأن كل ناصح إذا رأى التّأثّر بنصحه ولم يكن التّأخير لتأمّله في التّعبير والّا لم يسجّل الاخبار به (ذلِكُما) العلم بتعبير الرّؤيا (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) لا ممّا تعلّمته بنفسي من بشر مثلي كعلوم القافة والمشعبذة وغير ذلك ولا ممّا تعلّمته من الشّياطين والجنّ كعلوم الكهنة والسّحرة بل علّمنى ربّى بالوحي والإلهام من غير كسب منّى علوما كثيرة هذا أحدها ثمّ علّل تعليم الرّبّ بترك ملّتهم واتّباع ملّة الأنبياء (ع) تنفيرا وترغيبا لهما بقوله (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) عرّض بهما وورّى عن ملّتهما

٣٦٠