تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

سورة الانعام

مكّيّة غير ستّ آيات ؛ ثلاث منها من قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الى آخر ثلاث

آيات) وثلاث من قوله : (قُلْ تَعالَوْا) (الى آخر ثلاث آيات) أو غير الثّلاث الاخيرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد مضى (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الخلق قد يطلق على مطلق الإيجاد سواء كان مسبوقا بمدّة ومادّة وهو الخلق بالمعنى الاخصّ كالمواليد أو مسبوقا بمادّة دون المدّة وهو الاختراع كالأفلاك وما في جوفها من العناصر ، أو لم يكن مسبوقا بشيء منهما مع التعلّق بالمادّة وهو الإنشاء كالنّفوس ، أو بدونه وهو الإبداع كالعقول ، والجعل المتعدّى لواحد بمعنى الخلق لكنّ الأغلب استعماله فيما له تعلّق بمحلّ أو شيء آخر عرضا كان أو جوهرا كقوله (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لما فيه من شوب معنى التّصيير ، ولمّا كان النّور والظّلمة العرضيّان متعلّقين بالمحلّ ذكر الخلق بالمعنى الاعمّ في إيجاد السّماوات والأرض والجعل في إيجاد النّور والظّلمة ، والسّماء اسم لما له ارتفاع وتأثير فيما دونه والأفلاك الطّبيعيّة أحد مصاديقها ، فانّ العقول الطّوليّة يعنى الملائكة المقرّبين والّذين هم قيام لا ينظرون والعقول العرضيّة يعنى الملائكة الصّافات صفّا والنّفوس الكلّيّة المدبّرات امرا والنّفوس الجزئيّة الرّكّع والسّجّد والأشباح المثاليّة ذوات الاجنحة كلّها سماوات ، والأرض اسم لما فيه تسفّل وقبول عن الغير فالأرض الغبراء وعالم الطّبع بسمائها وأرضها والأشباح الظّلمانيّة يعنى عالم الجنّة والشّياطين بل الأشباح النّوريّة كلّها ارض بالنّسبة الى عالم الأرواح لتسفّلها وتأثّرها عنه ، والمادّة الاولى المسمّاة بالهيولى والثّانية المسمّاة بالجسم والثّالثة المسمّاة بالعنصر والرّابعة المسمّاة بالجماد والخامسة المسمّاة بالنّبات والسّادسة المسمّاة بالحيوان والسّابعة المسمّاة بالبشر كلّها أراض بالنّسبة الى الصّور والنّفوس وكلّها طبقات متراكمة ودركات متلاحمة في وجود الإنسان ، والأرض الغبراء ارض بالنّسبة الى الأفلاك ودركات العالم الظّلمانى السّفلىّ الّذى فيه الجنّة والشّياطين ودركات الجحيم ودار المعذّبين أراض بالنّسبة الى عالم المثال ، ومن الأرض مثلهنّ اشارة الى ما ذكر من مراتب العالم السّلفىّ أو مراتب الموادّ وقد أطلق في الاخبار السّماء والأرض على غير ما ذكر من الصّفات والأخلاق وطبقات السّماء باعتبار محيطيّتها ومحاطيّتها والكلّ راجع الى ما ذكر لهما من المفهوم وقد قيل بالفارسيّة :

آسمانهاست در ولايت جان

كارفرماى آسمان جهان

١٢١

بيان السعادة

وفي الاخبار ما يدلّ على تعدّد السّماوات في عالم الأرواح ولتقدّم السّماوات شرفا ووجودا ورتبة وعلّيّة من حيث النّزول قدّمها على الأرض ، وجمع السّماوات وافراد الأرض هاهنا وفي أكثر الآيات للاشارة الى كثرة السّماوات وقلّة الأرض وانّ الأرض مع تعدّدها وكثرتها من حيث محاطيّتها امر واحد وانّ طبقاتها متراكمة بحيث انّ الدّانيّة فانية في العالية ومتّحدة معها ، وليست السّماوات كذلك فانّها كثيرة محيطة مستقلّة غير متراكمة ، بين كلّ سماء وسماء مسافة بعيدة ، والنّور اسم للظّاهر بذاته والمظهر لغيره وهذا المعنى حقيقة حقّ حقيقة الوجود الّتى هي حقيقة الحقّ الاوّل تعالى شأنه ، فانّه ظاهر بذاته من غير علّة وفاعل يظهره ومظهر لغيره من الأنوار الحقيقيّة والعرضيّة وظلمات المهيّات والحدود ونقائص الاعدام وطلسمات عالم الطّبع وعالم الجنّة والشّياطين فالحقّ الاوّل تعالى أحد مصاديق النّور والمقصود هاهنا غيره تعالى لتعلّق الجعل به وليس الاوّل تعالى مجعولا والاولى بالنّوريّة بعد الحقّ الاوّل تعالى الحقّ المضاف الّذى هو فعل الاوّل تعالى وكلمته وإضافته الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة (ص) والمشيّة الّتى خلق الأشياء بها وهو أيضا حقيقة واحدة بوحدة الحقّ الاوّل وهو ظهوره وتجلّيه الفعلىّ واسمه الأعظم وهو تجلّيه تعالى على الأشياء. ولمّا كان الحقّ المضاف لا بشرط واللّابشرط يجتمع مع الف شرط كان متّحدا مع الأشياء الّتى ظهر هو فيها ومقوّما لها ومعها وليست الأشياء سواها والحقّ الاوّل من حيث فاعليّته هو الحقّ المضاف ، فانّ الفاعليّة هي نفس الفعل ولولا الفعل لما كان الفاعليّة والفعل بوحدته عين المنفعلات من حيث انّها منفعلات فصحّ ما قيل انّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء يعنى من حيث الفعل وصحّ ما نسب الى الفتوحات وهو قوله : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ، يعنى بحسب الفعل ومثال ذلك النّفس حيث انّها بوحدتها كلّ القوى فانّها في البصر عين البصر ، وفي السّمع عين السّمع ، وهكذا في غيرها ومع ذلك ما انثلم وحدتها وما تنزّلت عن مرتبتها العالية الغيبيّة ولولا هذا الاتّحاد والعينيّة لما صحّ نسبة فعل القوى إليها حقيقة كما انّه لو لا عينيّة الحقّ الاوّل مع الأشياء لما صح نسبة افعالها اليه حقيقة وكان قول القدريّة صحيحا وقول الثنويّة حقّا ، وهذا النّور حقيقة واحدة ظلّيّة مضيئة لسطوح المهيّات والحدود والكثرة المترائاة انّما هي بعرض المهيّات ولا ينثلم بها وحدتها الّذاتيّة كما انّ النّور العرضىّ الشّمسىّ حقيقة واحدة وتكثّره بتكثّر السّطوح لا ينثلم به وحدته ، والظّلمة عبارة عن عدم النّور فهي خافية في نفسها مخفية لغيرها وهذا شأن المهيّات والحدود والاعدام الّتى نشأت من تنزّل الوجود وضعفه ، وكلّما زاد التنزّل والضّعف ازدادت الحدود والمهيّات والخفاء والإخفاء حتّى إذا وصل الى عالم الطّبع الّذى اختفى فيه صفات الوجود ، وقد علمت انّ الكثرة بالّذات للحدود وبالحدود يتميّز الوجود كما انّ بالسّطوح تميّز النّور العرضىّ ولولاها لما ظهر ، ولذلك قدّم الظّلمات مجموعا واخّر النّور مفردا عكس الاوّل فقال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ولمّا كان الدّهريّة والطّبيعيّة والقائلون بالبخت والاتّفاق والقائلون بالاجزاء الّتى لا تتجزّى وغيرهم من الفرق الملحدة قائلين بقدم العالم بصورته ومادّته أو بمادّته فقط كانت الفقرة الاولى منعا لدعواهم ، ولمّا كان أكثر الثّنويّة قائلين بقدم النّور والظّلمة وانّها مبدءان للعالم وقد مضى وجه مغالطتهم في اوّل سورة النّساء عند قوله انّما التّوبة على الله للّذين يعملون السّوء بجهالة ، كانت الفقرة الثّانية منعا لدعواهم (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) فيه معنى التّعجّب ، وتخلّل ثمّ للاشارة الى استبعاد التّسوية مع كونه خالقا للسّماوات والأرض والظّلمات والنّور ، ولمّا كان الايمان به ينفتح باب القلب وبانفتاحه يوقن بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله ، وبدون ذلك الانفتاح لا يمكن الايمان بالله ولذا اختصّ الايمان بمن بايع عليّا (ع)

١٢٢

وخلفائه ودخل البيعة في قلبه ما به ينفتح بابه الى الملكوت كان الكفر هو ستر باب القلب وعدم انفتاحه بتلك البيعة فالكافر من لم يبايع عليّا (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة ، ولذلك فسّر الكفر في أكثر الآيات بالكفر بالولاية والكفر بعلىّ (ع) والرّبّ المضاف كما ورد عنهم في تفسير (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) هو الرّبّ في الولاية والرّبّ المطلق هو ربّ الأرباب ، والوجه في ذلك انّ الولاية هي اضافة الله الاشراقيّة الى الخلق فمعنى الآية بحسب المقصود ثمّ الّذين كفروا بعلىّ (ع) بستر وجه القلب بترك بيعة علىّ (ع) وعدم دخول الايمان في قلوبهم بعلىّ (ع) يسوّون سائر افراد البشر ويمكن تعلّق بربّهم بكفروا وكون يعدلون بمعنى يسوّون أو بمعنى يخرجون من الحقّ وبحسب التّنزيل ثمّ الّذين كفروا بالله بترك بيعة محمّد (ص) وعدم قبول الإسلام أو ثمّ الّذين كفروا بالله بترك الإقرار بالله أو بوحدانيّته بربّهم الّذى هو ربّ الأرباب يسوّون الأصنام ، وهذه الفقرة ردّ بحسب الظّاهر على مشركي العرب وغيرهم من عابدى الوثن والعجل وغيرهما ، وبحسب التّأويل ردّ على كلّ من انحرف عن الولاية (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) باعتبار مادّتكم الاولى منع لمن ادّعى الالهيّة لنفسه أو لغيره من افراد البشر (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) اى حتم أجلا لا تخلّف عنه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) لا يطلع عليه أحدا من ملائكته ورسله فانّه علم استأثره لنفسه يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، وامّا العلم الّذى يطلع عليه ملائكته ورسله فانّه محتوم لا يكذب ملائكته ورسله والبداء والمحو والإثبات في ذلك الأجل المسمّى عنده ، وتحقيق مسئلة البداء والمحو والإثبات والحكمة المودعة فيه من التّرغيب في الصّلات والدّعوات والتضرّعات والصّدقات وسائر العبادات ، وسرّ استجابة الدّعوات مع عدم تأثّر العالي عن الدّانى موكول الى محلّ آخر من هذا الكتاب (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) فيه معنى التّعجّب واستبعاد الامتراء بالنّسبة الى الخالق (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) اعلم ، انّ الله فيه معنى الآلهة والتّصرّف بل جميع الإضافات الممكنة من الخالق بالنّسبة الى المخلوق فانّه الاسم الجامع وامام ائمّة الأسماء فاعتبر فيه معنى الوصف ولذلك جاز تعلّق الظّرف به ، وبيان اعراب الآية انّ لفظ هو مبتدء والله بدله أو خبره وفي السّماوات ظرف لغو متعلّق بالله أو بيعلم أو ظرف مستقرّ خبر أو خبر بعد خبر أو حال ، ويعلم الآتي خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو مستأنف ، وجملة هو الله عطف على جملة هو الّذى خلقكم أو حال وبعد ما علم معنى معيّته تعالى وقيّوميّته واحاطته بالأشياء يظهر معنى كونه إلها في السّماء وفي الأرض ، وهذا ردّ على من أشرك معه غيره كبعض الثّنويّة القائل بانّ أهرمن أو الظّلمة مخلوق الله لكنّه شريك له في الإيجاد والشّرور كلّها منسوبة اليه ، وكجمهور الهنود القائلين بانّ الأمور موكولة الى الملائكة ويسمّونهم بأسماء ، وكبعض الصّابئين القائل بانّ الكواكب مخلوقة لله لكنّها مدبّرة للعالم دون الله ، وكبعض المشركين القائل بانّ العجل والوثن (وغيرهما) شفعاء عند الله ولها التّدبير والتّصرّف (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) من السّجايا والنّيّات والعقائد وجملة المكمونات الّتى لم تظهر بعد في وجودكم ولم تشعروا بها (وَجَهْرَكُمْ) من الأقوال والأحوال والألوان والاشكال والنّسب والأموال (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) لأنفسكم من تبعة أعمالكم الّتى تعملونها بجوار حكم تقرير لالهيّته ووعد ووعيد للمحسن والمسيء منهم (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) عطف على (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) على ان يكون مستأنفا أو حالا أو هو حال ابتداء كأنّه قيل : ما حاله مع الخلق؟ ـ وما حال الخلق معه؟ ـ أو عطف على أنتم تمترون وعلى اىّ تقدير ففيه التفات من الخطاب الى الغيبة ، وأعظم الآيات أمير المؤمنين (ع) والمقصود من الآيات هاهنا

١٢٣

اعمّ من الآيات التّكوينيّة والتّدوينيّة والآفاقيّة والانفسيّة (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) الّذى هو أعظم آياته وهو الولاية كما سبق وتكذيبهم للحقّ لتمرّنهم على تكذيب مطلق الآيات (لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من الولاية (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) فاتّكلوا على حياتهم الدّاثرة الفانية واستبدّوا بآرائهم الكاسدة وأعرضوا عن آياتنا ، والقرن برهة كثيرة من الزّمان أو هو مدّة عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستّين أو سبعين أو ثمانين سنة ، أو مائة أو مائة وعشرين سنة ، أو أهل زمان واحد أو أمّة بعد أمّة ، أو كلّ أمّة هلكت فلم يبق منهم أحد (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) بالصّحّة والقوّه في الأجسام والسّعة في الأموال والأولاد (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ) اى المطر والسّحاب (عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) يعنى هيّئنا لهم أسباب التّرفّه والسّعة والتّنزّه علاوة على تمكينهم في الأرض (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) يعنى ما صار تمكّنهم حافظا لهم عن بأسنا ولا امدادنا لهم واستدراجنا ايّاهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) تهديد بليغ لهم (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) مكتفين بالرّؤية لئلّا يقولوا سكّرت أبصارنا (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو بك (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لنهاية عتوّهم وتمرّنهم على الجحود (وَقالُوا) عنادا ولجاجا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ان كان رسولا (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) امر حيوتهم أو الأمر بقبض أرواحهم يعنى انّهم ضعفاء الأبصار ليس لهم قوّة الجمع بين الطّرفين ، والملك لا يدركه الّا بصيرة باطنة اخرويّة لا البصر الظّاهر الدّنيوىّ فلو أنزلنا ملكا حتّى يروه لا نسلخوا من ظواهرهم البشريّة ولا نقلب الدّنيا آخرة والحيوة مماة فلقصورهم وضعفهم لم ننزّل ملكا بحيث يرونه ، ولا ينافي هذا نزول الملك على الرّسل (ع) لجمعهم بين الدّنيا والآخرة كما مضى تحقيقه وكيفيّة مشاهدة الملك في المنام واليقظة للرّسل وسماع قوله للأنبياء والمحدّثين عند قوله (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) من سورة البقرة (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) جواب ثان أو جواب لاقتراح ثان فانّهم تارة قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، وتارة قالوا : لو أراد الله ان يبعث إلينا رسولا لأنزل ملكا (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) يعنى لو أنزلنا ملكا امّا جعلناه بصورة ملك ولم يقووا على إدراكه ، أو جعلناه بصورة رجل ولو جعلناه بصورة رجل لا وقعنا عليهم الالتباس والامتراء حتّى يقولوا فيه ما قالوا في الرّسول البشرىّ ، فالآية اشارة الى قياس استثنائى منفصل التّالى مرفوعة بكلا شقّيه ان كانت جوابا بكلا شقّيه لسؤال واحد ، أو اشارة الى قياسين استثنائيّين ان كانت جوابين لسؤالين منهم (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له (ص) (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعنى أحاط بهم العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن ، أو وبال القوى الّذى كانوا بسببه يستهزؤن (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى سيروا في الأرض الظّاهرة باقدامكم وفي ارض القرآن وتواريخ الأمم الماضية بابصاركم ، وفي ارض العالم الصّغير ببصائركم (ثُمَّ انْظُرُوا) اى تفكّروا ، وتخليل ثمّ لانّ التّفكّر هو ترتيب المقدّمات والانتقال منها الى النّتائج وبالسّير يحصل المقدّمات وبعد حصول المقدّمات يمكن التّفكّر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) بالرّسل (ع) في شأن أنفسهم أو في شأن أوصيائهم

١٢٤

أو عاقبة المكذّبين بأوصيائهم (قُلْ) للمكذّبين والمقترحين (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلزاما لهم على الإقرار حتّى يتنبّهوا ان ليس لهم الاقتراح على المالك وانّه يفعل ما يشاء ويرسل من يشاء (قُلْ) أنت من قبلهم ولا تنتظر جوابهم فانّه لا جواب لهم سواه (لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) فبرحمته لا يهملكم ويرسل إليكم الرّسل ويرغّبكم في طاعته ويحذّركم من مخالفته ويمهلكم في معصيته (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) قرنا بعد قرن الجملة الاولى وهذه امّا جزء مقول القول أو استيناف من الله ، ويحتمل ان يكون هذه مستأنفة والاولى مقولة القول ، ويحتمل ان يكون هذه بدلا من الرّحمة لجواز تعلّق الكتب بالجملة (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) قد مضى نظيره (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) مستأنف لاستدراك ما يتوهّم من انّه لا ينبغي لأحد ان يبقى على الكفر بعد وضوح الأمر كأنّه قال لكنّ الّذين خسروا أنفسهم لا يؤمنون ، ودخول الفاء في الخبر وتخلّل الضّمير للدّلالة على السّببيّة والحصر والتّأكيد ، وقيل موضع الّذين نصب على الّذمّ أو رفع على الخبريّة اى أنتم الّذين خسروا أنفسهم (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) هذا أيضا يحتمل كونه مقولا للقول ومستأنفا يعنى قل لهم بعد ما قلت انّ له ما سكن في الأمكنة له ما سكن في الازمنة ، وسكن من السّكنى أو السّكون ، ولمّا كان التّجدّد والانطباق على الزّمان من خواصّ الطّبيعيّات الّتى هي المتحيّزات كان ما سكن في اللّيل والنّهار يعنى ما دخل تحت الزّمان بعينه هو ما سكن في السّماوات والأرض اى ما انطبق على المكان وان عمّم السّماوات والأرض بين مطلق الأرواح والأشباح فاللّيل والنّهار يعمّان ، ولمّا كان مملوكيّة الأشياء له مهتمّا بها اكّد الاوّل بالثّانى بتغيير العبارة ليتمكّن في نفوسهم (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لا سمع الّا بسمعه ولا علم الّا بعلمه (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) بعد انّه مالك الكلّ (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التّوصيف به للاشعار بالعلّة (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) علّة اخرى للحكم (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لا يسبقني أحد في ظاهر الإسلام ولا في باطنه لانّى أمرت تكوينا وتكليفا ان أكون خاتم الرّسل وسابق الكلّ (وَ) قيل لي (لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أو هو عطف على قل (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تعريض بهم فانّه أبلغ في الإنصاف والمقصود قطع اطماعهم عن إضلاله ، عن الصّادق (ع) ما ترك رسول الله (ص) انّى أخاف ان عصيت ربّى عذاب يوم عظيم ، حتّى نزلت سورة الفتح فلم يعد الى ذلك الكلام (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) عن النّبىّ (ص) والّذى نفسي بيده ما من النّاس أحد يدخل الجنّة بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ ـ قال (ص) : ولا انا الّا ان تغمّدنى الله برحمة منه وفضل (وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) مقول القول أو مستأنف من الله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) عطف على قوله من يصرف (الى آخره) كأنّه قال ان يصرف الله العذاب عنك يؤمئذ فقد رحمك (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من اقامة السّبب مقام الجزاء يعنى فلا مانع له (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) كيفيّة قهره للعباد بفناء الكلّ تحت سطوته يستفاد ممّا مضى (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في فعاله لا يفعل ما يفعل الّا بحكمة (الْخَبِيرُ) بما يقتضي اختلاف التّدبير وأنواع التّصرّف فيهم (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) توطئة لاشهاد الله يعنى انّهم يقرّون بأنّ الله أعظم وأصدق من كلّ شهيد فنبّههم

١٢٥

على ذلك ثمّ قال (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ويحتمل ان يكون الله مبتدء محذوف الخبر جوابا من قبلهم وشهيدا خبرا محذوف المبتدأ مستأنفا لبيان المقصود (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) في اىّ مكان كان وفي اىّ زمان الى يوم القيامة يعنى لأنذركم وانذر من بلغه القرآن أو من صار بالغا مبلغ الرّجال وروى انّ من بلغ معطوف على المستتر في أنذركم وترك التأكيد بالضّمير المنفصل للفصل والمعنى لا نذركم انا ومن بلغ من آل محمّد (ص) ان يكون إماما كقوله تعالى ، و (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ) بعد ما وبّخهم على شهادتهم انّ مع الله الهة اخرى (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) من اليهود والنّصارى (يَعْرِفُونَهُ) اى رسول الله (ص) بما ذكر لهم في كتبهم من أوصافه أو الّذين آتيناهم الكتاب من أمّة محمّد (ص) يعرفون محمّدا (ص) بالصّدق في امر الولاية أو يعرفون عليّا (ع) بما شاهدوا منه من فضله وعلمه وصدقه وأمانته (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) مبالغة في إثبات معرفتهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر أو استدراك توهّم متصوّر كأنّه قيل أفأمنوا به أو توهّم انّه ما بقي منهم كافر وتكرار الموصول لانّ كلّا جواب أو استدراك لما نشأ من امر غير منشأ الآخر ، ويحتمل كون الثّانى بدلا أو مفعولا لمحذوف أو خبرا لمبتدء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بادّعاء خلافة الله لنفسه أو بنسبة ما قاسه برأيه الى الله ، أو بتوهّم انّ الرّسوم والعادات من الله ، أو بادّعاء النّيابة من الامام من غير اذن واجازة غفلة عن انّ النّيابة من الامام شفاعة عند الله للخلق ولا تكون الّا بإذن الله ، أو بكتابة كتاب النّبوّة بأيديهم ونسبته الى الله ، أو بكتب صورة القرآن بأيديهم ونسبته الى الله (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) التّدوينيّة والتّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة وأعظم الكلّ بل أصل الكلّ وحقيقته الإنسان الكامل والأصل فيه علىّ (ع) أمير المؤمنين ، ولفظ أو هاهنا لمنع الخلوّ فانّ أكثرهم جامعون بين الوصفين مع انّه لو لم يكن لهم الّا واحد منهما كفى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كأنّه قيل : فما حال الظّالم حتّى يكون من هو أظلم اشدّ فيها؟ فقال جوابا : انّه لا يفلح الظّالمون ولذا اكّده استحسانا (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) واذكر أو ذكّرهم (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله في الآلهة أو أشركوا بولاية علىّ (ع) ولاية غيره كذا ورد عنهم (ع) هاهنا وفي أكثر موارد ذكر الشّرك والكفر ، والسّرّ في ذلك كما سبق مرارا انّ معرفة الله وصفاته والايمان به لمّا كان موقوفا على فتح باب القلب وفتحه يتوقّف على الولاية والبيعة الولويّة الّتى هي الايمان وبها يدخل الايمان في القلب وينفتح بابه ، ولذا ورد بنا عرف الله ، ومعرفة الله ان تعرف امام زمانك وغير ذلك بطريق الحصر كان الكفر والشّرك هو عدم فتح باب القلب أو عدم معرفة الامام أو الكفر والإشراك بالإمام والكفر بالرّسالة يكون كفرا على كفر (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) من أصنامكم وغيرها الّتى جعلتموها بالمواضعة شركاء لله ويقال هذا تهكّما بهم (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) انّهم شركاء لله أو شركاء لعلىّ (ع) (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) اى عذرهم للخلاص كما في الخبر من : فتنت الّذهب إذا أخلصته (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) يحلفون على كذبهم لله كما كانوا يحلفون في الدّنيا للنّاس (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من آلهتهم أو من شركائهم في الولاية ، مضىّ الفعلين لتحقّق وقوعهما كأنّهما

١٢٦

وقعا سواء كان الخطاب عامّا أو خاصّا أو بالنّظر الى المخاطب المخصوص اعنى محمّدا (ص) فانّه ينظر ويرى ما لم يجيء في سلسلة الزّمان (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلو عليهم آيات الكتاب أو مناقب وصيّك (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع الكنان وهو ما يستر الشّيء كراهة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أو لئلّا يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ) اى أذان قلوبهم (وَقْراً) كراهة ان يسمعوه فان تتل عليهم كلّ آية في رسالتك أو خلافة وصيّك لا يسمعوا (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) من آياتنا العظمى ومعجزاتك (لا يُؤْمِنُوا بِها) بسبب ازدياد قسوتهم وعنادهم فكيف يؤمنون بك أو بوصيّك وازدادت قسوتهم (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) في نبوّتك أو خلافة وصيّك (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك أو بوصيّك (إِنْ هذا) القول الّذى تسميّه قول الله أو ان هذا الّذى تقوله في ابن عمّك (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) جمع اسطار جمع سطر أو جمع اسطورة كناية عن اسمارهم وخرافاتهم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) عن هذا أو عنك بطريق الالتفات أو عن علىّ (ع) بطريق التّورية (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) يعنى يمنعون النّاس عنه ويتباعدون عنه (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بالتّباعد عنه (وَما يَشْعُرُونَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) قرئ ببناء المفعول والفاعل من وقف إذا قام أو اقام أو اطّلع يعنى لو ترى إذ أقيموا أو اطّلعوا على النّار لرأيت عجيبا فظيعا بحذف الجواب (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) لما رأوا من مقامك أو مقام أوصيائك (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بمحمّد (ص) أو بأمير المؤمنين (ع) وهذا الكلام والتّمنّى منهم يكون لدهشة الخوف لا لقائد الشّوق والّا لخلصوا وما أجيبوا بكلّا وانّها كلمة هو قائلها وأمثال ذلك كما في قوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) يعنى ان كانوا يريدون الخروج منها من شوق لم يعيدوا فيها وقوله تعالى (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) دليل عليه فانّ المعنى ما حصل لهم حبّ وشوق الى علىّ (ع) لانّ فطرتهم فطرة البغض له بل بدا لهم وبال نفاقهم فخافوا غاية الخوف فتمنّوا الخلاص من الخوف لا الوصال من الشّوق (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) لانّه ذاتىّ والذّاتيّ لا يتخلّف بل قد يختفى بعارض فاذا زال العارض ظهر (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ما يقولون من انّهم ان ردّوا لا يكذبوا ويؤمنوا لما عرفت انّه ليس هذا التّمنّى من شوق ذاتىّ بل من امر عرضىّ يزول بزواله (وَقالُوا) عطف على عادوا أو عطف على (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والاختلاف بالمضىّ للاشارة الى انّ ذلك قولهم قديما وجديدا ، أو استيناف لذمّ أخر وبيان عقوبة اخرى وهو انسب بما بعده من قوله (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) يعنى تكذيبهم بالبعث يقتضي إحضارهم عند الله بأفضح حال وتكذيبهم بالآيات يقتضي دخولهم في النّار بأشدّ عذاب (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) كما يوقف العبد الجاني على مولاه للمؤاخذة والرّبّ المضاف هو ربّهم في الولاية وهو أمير المؤمنين (ع) وقد قال في بعض كلامه (ع): وإياب الخلق الىّ وحسابهم علىّ ، وقد مضى في مطاوى ما سبق بيان عدم تجاوز الخلق عن المشيّة الّتى هي الولاية وانّها مبدء الكلّ ومنتهاه (قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) تعييرا لهم على تكذيب البعث (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) لظهوره ولذا اكّدوا الجواب بالقسم تأكيدا للازم الحكم الّذى هو علمهم بالحكم (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بربّكم الّذى هو علىّ (ع)

١٢٧

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) في مظاهره الولويّة فانّ لقاءه تعالى اضافة بينه وبين عبده وحقيقة إضافاته تعالى هي إضافته الاشراقيّة الّتى هي الولاية المطلقة وهي علىّ (ع) بعلويّته (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) ساعة الموت أو ساعة القيامة أو ظهور القائم (ع) يعنى ظهور الامام عند حضور السّاعة وقد فسّرت في الاخبار بكلّ والكلّ راجع الى معنى واحد والتّفاوت اعتبارىّ (بَغْتَةً) ولقوا الله بظهور علىّ (ع) أو ظهور القائم (ع) (قالُوا يا حَسْرَتَنا) جيئي فهذا أو ان حضورك (عَلى ما فَرَّطْنا) وقصّرنا (فِيها) في السّاعة ولقاء الرّبّ عندها (وَهُمْ) حينئذ (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) أثقالهم الّتى كسبوها في الدّنيا (عَلى ظُهُورِهِمْ) لانّه لا يزر اليوم وازر وزر آخر (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا يليق بالحكيم ان يجعل مثلها غاية لفعله ، واللّعب ما كان له غاية خياليّة ، واللهو ما لم يكن له غاية ، وهو عطف على (قالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، أو على (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) ، أو على (بَلى وَرَبِّنا) ، أو على (فَذُوقُوا الْعَذابَ) ، أو على (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) ، أو على (يا حَسْرَتَنا) ، أو على (هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) ، أو حال متعلّق بواحدة من الجمل السّابقة (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وامّا الّذين لا يتّقون فهي اشدّ دار لهم عذابا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) انّه لا يليق بالحكيم جعل الاولى غاية ويليق به جعل الثّانية غاية فاطلبوها (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) في حقّك بانّه ساحر أو مجنون أو غير ذلك أو في حقّ خليفتك بان لا يردّوا هذا الأمر اليه وهو استيناف وتسلية للرّسول (ص) ولا ينبغي لك ان تتحزّن (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) من حيث انّك بشر مثلهم فقد لبثت فيهم وما قالوا فيك الّا خيرا وكنت معروفا فيهم بالصّدق والامانة حتّى لقّبت بمحمّد الأمين (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم بتكذيب الآخرة ولقاء ربّهم (بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) يعنى انّك بعد ما صرت رسولا وآية لنا كذّبوك من هذه الحيثيّة ويرجع التّكذيب من هذه الحيثيّة الى الله لا إليك ، أو انّهم لا يكذّبونك من حيث أنت رسول من الله ولكنّهم يكذّبون عليّا (ع) وتكذيبك فيما قلت في حقّه راجع الى تكذيب علىّ (ع) ، وقرئ لا يكذبونك من : أكذبه إذا وجده كاذبا ، أو نسبه الى الكذب أو صيّره كاذبا ، اى لا يجدونك كاذبا أو لا يأتون بأمر يجعل صدقك كذبا ؛ هكذا روى عنهم (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) فتأسّ بهم واصبر ولا تحزن (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) عطف باعتبار المعنى أو جملة حاليّة كأنّه قال : لا مانع من نصر الله ولا مبدّل لكلمات الله اى مواعيده وآياته العظمى من الرّسل وأوصيائهم (ع) ، أو آياته القهريّة من مظاهر الشّرور فانّه لا يقدر أحد على تبديلهم عمّاهم عليه (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) واقوامهم وانّ الغلبة بالأخرة لهم على اقوامهم لا لاقوامهم عليهم (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) عنك أو عن علىّ (ع) (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً) جحرا أو منفذا (فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) من تحت الأرض أو من السّماء وجوابه محذوف اى فافعل والمقصود التّعريض بمنافقى أمّته والعتاب لهم وإظهار انّه (ص) محزون على تولّى القوم عنه وعن علىّ (ع) ، أو المقصود التّعريض بمن هو حريص على إتيان الآية للمقترحين من موافقي أمّته (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى

١٢٨

الْهُدى) يعنى انّ هداهم وضلالهم بمشيّة الله وما كان بمشيّة الله فالرّضا به اولى من الحزن عليه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) انّ الكلّ بمشيّة الله ولمّا توهّم من هذا انّهم مجبورون في أفعالهم ولا دخل لهم في ضلالهم وهديهم رفع ذلك بانّ استعدادهم واستحقاقهم يقتضي تلك المشيّة فقال تعالى (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يعنى الّذين يستعدّون للقبول فبقدر سببيّة القابل في الفعل لهم سببيّة في ضلالهم وهديهم ولمّا توهّم من انّ المستعدّ يجيب وغير المستعدّ لا يجيب انّه لا ينبغي لغير المستعدّ دعوة ولا امر ولا نهى ولا يلزم عليه ذمّ ولوم فأجاب عنه وقال (وَالْمَوْتى) الّذين لا استعداد لهم والمتوقّفون في مراقد طبعهم إذا جاهدوا (يَبْعَثُهُمُ اللهُ) من مراقد طبعهم (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيسمعون بعد التّوجّه اليه ويجيبون بعد السّماع ليس الموت للموتى حتما ولا الحيوة للأحياء حتما (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ولا يشعرون قدرة الله على ذلك ولا يشعرون الآيات وانّ الله اجلّ من ان يقترح عليه شيء وعدم علمهم لكونهم موتى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) توصيفه بوصف الجنس وكذا ما بعده للاشارة الى ارادة الجنس (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) مخلوق مرزوق مدبّر والتّناسخيّة يتوسّلون بأمثال هذا في رواج مذهبهم والمقصود ذمّهم على عدم العلم وانّ الحيوانات العجم مثلكم في كلّ جهة وتميزكم عنها بالعلم والاشتداد فيه فاذا لم تكونوا تعلمون فلا تميز بينكم (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) اى في اللّوح المحفوظ الّذى هذا القرآن صورته التّامّة فما فرّط فيه أيضا من شيء وسائر الكتب صورته النّاقصة ولذا كان مهيمنا على الكلّ ناسخا له ، وهو من فرّط الشّيء بمعنى ضيّعه وأهمله لا من فرّط في الشّيء بمعناه حتّى يكون في الكتاب مفعوله ومن شيء مفعولا مطلقا بل في الكتاب ظرف ومن شيء مفعول به ، لانّ المقصود عدم إهمال شيء في الكتاب بترك ثبته فيه وهو يستفاد صريحا إذا جعل من شيء مفعولا به ، وامّا إذا جعل مفعولا مطلقا فلا يستفاد الّا التزاما والمقصود انّا كما احصيناكم في الكتاب وأحصينا أرزاقكم وآجالكم كذلك احصيناهم لا فرق بينكم الّا بالعلم وعدمه (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) كما تحشرون (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) عطف على محذوف اى فالّذين آمنوا بآياتنا وصدّقوها خارجون من صمم الحيوانات وبكمها وظلماتها بامتيازهم بالعلم عنها ، والّذين كذّبوا بآياتنا التّدوينيّة والتّكوينيّة الآفاقيّة وعلىّ (ع) أعظمها والانفسيّة والعقل أعظمها وهو مظهر علىّ (ع) (صُمٌّ وَبُكْمٌ) مثل سائر الدّوابّ وليس الفرق بينهم الّا بالايمان والعلم (فِي الظُّلُماتِ) زائدا على سائر الدّوابّ فانّها غير خارجة من أنوار نفوسها الضّعيفة بخلاف الكافر بالولاية فانّه يخرج من نوره القوىّ الّذى هو نور النّفس الانسانيّة وهو جهة العلم والايمان الى ظلمات الجهل السّاذج ثمّ ظلمات الجهل المركّب ثمّ ظلمات الاهوية الفاسدة ثمّ ظلمات الطّبع ثمّ استدرك توهّم انّ في ملكه ، ما ليس بمشيّته بقوله تعالى (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) ويجعله اصمّ وابكم وفي الظّلمات (وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الصّراط المستقيم كما سبق هو طريق الولاية وطريق القلب الى الله وهو الولاية التّكوينيّة وصاحب الولاية طريق أيضا بمراتبه المنتهية الى الله والأصل في صاحبي الولاية علىّ (ع) وطريق القلب وطريق

١٢٩

الولاية وصاحب الولاية متّحدة والتغاير اعتبارىّ فصحّ تفسير الطّريق المستقيم بالولاية وبعلىّ (ع) كلّما وقع كما فسّروه لنا ، فالمعنى من يشأ الله يضلله عن الولاية ومن يشأ يجعله على ولاية علىّ (ع) (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ) هذه اللّفظة لكثرة استعمالها صارت كالمثل فلا يتغيّر الضّمير المرفوع بحسب حال المخاطب وقد يلحق صورة الضّمير المنصوب بها وقد لا تلحق وإذا لحقت يلحظ فيها كثيرا حال المخاطب وهي حرف خطاب أو ضمير نصب تأكيد للضّمير المرفوع أو مفعول اوّل لرأيت وإذا كانت حرفا للخطاب أو تأكيدا للضّمير المرفوع فمفعولا رأيت كانا محذوفين ، أو جملة الشّرط والجزاء قائمة مقامهما معلّقا عنها رأيت ، أو جملة غير الله تدعون معلّقا عنها وإذا كانت مفعولا اوّلا فالمفعول الثّانى محذوف أو هو جملة الشّرط والجزاء أو جملة غير الله تدعون معلّقا عنها وإذا كانت ولمّا كان الاستفهام استخبارا وكانت هذه الكلمة غير باقية على صورتها ومعناها الاصيلين صار المقصود الاستخبار من مضمون ما بعدها من غير نظر الى مضمون نفسها فكأنّه قال أخبروني (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) في الدّنيا أو الآخرة أو المنظور منه عذاب الدّنيا فقط لاشعار السّاعة بعذاب الآخرة (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) فسّرت السّاعة بساعة الموت وساعة ظهور القائم عجّل الله فرجه وبساعة القيامة والكلّ صحيح إذ المقصود إتيان حالة لا يثبت فيه الخيال ويفرّ الهوى والآمال وهذه الحالة تكون في كلّ من هذه (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) يعنى لا تدعون في هذه الحال الّا الله المتعال لانّ كلّ ما سواه ممّا هو متشبّث الخيال ومعتمد الهوى والآمال ينسى ولا يبقى في تلك الحالة الّا الفطرة الانسانيّة المفطورة على دعاء الله وجواب الشّرط محذوف أو هو جملة أغير الله بحذف الفاء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في اشراك الأصنام أو الكواكب في الآلهة والجملة معترضة وجواب الشّرط محذوف والتّقدير ان كنتم صادقين فادعوا غير الله في تلك الحال (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) تصريح بمفهوم مخالفه قوله أغير الله تدعون (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) يعنى ليس إجابتكم حتما (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) يظنّ انّه كان المناسب ان يقدّم النّسيان لكنّه أخّر النّسيان وحذف مفعول تدعون للاشعار بانّ نسيان الشّركاء كان بمرتبة كأنّه نسي نسيانهم أيضا ولم يكن نسيانهم في ذكر المتكلّم وكان اهتمامهم بكشف الضرّ بحيث لم يبق في نظرهم الله الّذى يدعونه اليه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية للرّسول (ص) وتهديد للامّة (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) البأساء الدّاهية سواء كانت في الحرب أو في غيرها (وَالضَّرَّاءِ) النّقص في الأنفس والأموال ، يعنى في بدو ارسالهم ليتكسّر سورة خيالهم وقوّة اهويتهم حتّى يقبلوهم بسهولة أو بعد تكذيبهم وشدّة تعاندهم حتّى يرجعوا ويتوبوا (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) ويلتجئون الى رسلهم ، اعلم ، انّ الإنسان وقت الا من والصّحّة وسعة العيش خصوصا حين تشبّب القوى الحيوانيّة يعدّ نفسه من اعزّ الخلق ولا يعدّ غيره في شيء ، ويظنّ انّه أحسن الخلق رأيا ويفرّق نفسه على الاهوية والآمال ، فاذا ابتلى ببلاء في نفسه أو اهله أو ماله انكسر سورة انانيّته وتضرّع الى ربّه والتجأ الى من يظنّ انّه من قبل ربّه ، ولذلك كان تعالى إذا أرسل رسولا الى قوم ابتلاهم ببليّة ليلتجؤا الى الرّسل ويقبلوا منهم (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) اى فلو لا تضرّعوا إذ جاءهم بأسنا (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) استدراك باعتبار المعنى يعنى لا عذر لهم حينئذ في ترك التّضرّع ولكن قست قلوبهم (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) من البأساء والضّرّاء بترك الاتّعاظ بها (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ)

١٣٠

من المأمولات والمهويّات استدراجا لهم وامهالا (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) ممّا يرونهم نعمة (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) الإبلاس اليأس والتّحيّر وقيل منه إبليس وقيل انّه أعجميّ (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بالعلّة (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) جملة لانشاء الحمد والشّكر ، أو عطف على دابر القوم ، أو على قطع بمعنى بقي الحمد لله (رَبِّ الْعالَمِينَ) وفسّرت الآية في الخبر هكذا فلمّا نسوا ما ذكّروا به من ولاية أمير المؤمنين (ع) وورد أيضا انّه في ولد عبّاس (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) فيسلب تميزكم كالمجانين (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) آيات قدرتنا وشواهدها (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) يعرضون ولا يتأمّلون فيها (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) من غير تقدّم امارة (أَوْ جَهْرَةً) مع تقدّم أمارته (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بشأنهم الولوىّ (وَمُنْذِرِينَ) بشأنهم النّبوىّ (فَمَنْ آمَنَ) بالايمان العامّ (وَأَصْلَحَ) بالايمان الخاصّ ، أو من آمن بالبيعة على يد علىّ (ع) وأصلح نفسه بالوفاء بالشّروط الّتى أخذت عليه كما عرفت انّ الإصلاح لا يمكن الّا بدخول الايمان في القلب وهو مسبّب عن الايمان الخاصّ (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لما سبق انّ الخوف والحزن من صفات النّفس والمؤمن المصلح قد سافر من حدود النّفس ودخل حدود القلب الّذى من دخل فيه كان آمنا ، ويتبدّل خوفه بالخشية وحزنه بالاشتياق الّذى يعبّر عنه بالفارسيّة «بدرد» كما قيل :

قدسيانرا عشق هست ودرد نيست

درد را جز آدمي در خورد نيست

وغيّر الأسلوب لانّ الخوف منشأه امر خارج فكأنّه من طوارى النّفس والحزن منشأه القلب فهو من صفات النّفس ولملاحظة توافق رؤس الآي وقد مضى تحقيق وتفصيل لهذه الآية في اوّل البقرة (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) بلسان الحال أو لسان القال (بِآياتِنا) وأعظمها الولاية ومن تكذيبها يسرى التّكذيب الى غيرها من الآيات (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بالخروج عن حكم العقل ومظهره الّذى هو النّبىّ (ص) أو الوصىّ (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) يعنى تنزّل الى مقام البشريّة ودارهم بحسب بشريّتك وأظهر ما هو لازمها حتّى يروك مثلهم فلا ينفروا عنك فقل : ليس عندي خزائن الله فتطالبوني بمال كثير (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فتطالبوني بالاخبار المغيبات (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) فتطالبوني بما يقدر الملك عليه من الصّعود في السّماء وإتيان كتاب منه وأمثال ذلك (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) في كلّ باب من الأحكام والآيات الّتى يظهرها الله على يدي والاخبار بالمغيبات (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) عن النّبوّات وكيفيّتها (وَالْبَصِيرُ) بها وبانّ النّبىّ لا يجوز ان يكون غير البشر ويجرى عليه كلّ ما يجرى على سائر افراده ، الّا انّه يعلم بتعليم الله ما لا يعلمه غيره ويوحى اليه ولا يوحى الى غيره (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في عدم التّسوية حتّى تخرجوا من ظلمة العمى الى نور البصر (وَأَنْذِرْ بِهِ) اى بالله أو بالقرآن أو بعلىّ (ع) أو بما يوحى إليك (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ)

١٣١

المضاف الّذى هو ربّهم في الولاية (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) الولىّ هو الشّيخ في الولاية والشّفيع كالنّصير هو الشّيخ في الدّلالة ، وبعبارة اخرى الولىّ هو معلّم احكام القلب والشّفيع هو معلّم احكام القالب والاوّل شأن الولاية والثّانى شأن النّبوّة ولمّا كان النّبوّة صورة الولاية وكلّ نبىّ له ولاية لا محالة وكذا كلّ ولىّ له خلافة للنّبوّة ، فكلّ من النّبىّ والولىّ يصحّ ان يكون شفيعا ووليّا معا والضّمير في من دونه راجع الى ربّهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) عمّا يصرفهم عن ربّهم ، اعلم ، انّ الإنسان فطريّ التّعلّق وكلّما انزجر ممّا تعلّق به من الدّنيا وأهلها طلب التّعلّق بمن يطمئنّ اليه ويسلم له من جهة الآخرة ، وكلّما طلب ذلك التّعلّق والارادة والتّقليد هيّج شياطينه الجنيّة والانسيّة لتحذيره عن هذا الأمر وتخويفه وصدّه فكلّما هيّج الشّوق عزمه للطّلب صدّه الشّياطين عنه وخوفّوه وقيل بالفارسيّة :

تو چو عزم دين كنى با اجتهاد

ديو بانگت بر زند اندر نهاد

كه مرو زينسو بينديش اى غوى

كه أسير رنج ودرويشى شوى

سألها أو را ببانگى بنده

كار أو اينست تا تو زنده

فمعنى الآية على هذا انذر بالقرآن الّذى هو صورة الولاية الّتى أصلها والمتحقّق بها أمير المؤمنين (ع) الّذين يريدون ويطلبون الحضور عند ربّهم الّذى هو علىّ (ع) أو خليفته ويريدون التّعلّق به والتّقليد له بان يحشرهم الشّيخ الدّليل الّذى هو كالنّبىّ بالآداب المسنونة اليه ، ويخافون بتخويفات الشّياطين الانسيّة والجنّيّة عن الحضور لديه والتّعلّق به ، فانّهم بكيد الشّيطان قاعدون وبمحض إنذارك يرتفع كيد الشّيطان فانّ كيده كان ضعيفا ، وانذرهم بأنّه ليس لهم من دونه ولىّ يتولّى أمورهم ولا شفيع يشفع جرائمهم عند الله يعنى انذرهم بانّ ربّهم في الولاية له شأن النّبوّة والشّفاعة وشأن الولاية والتّربية ، فهو حقيق بان يخاف من التولّى عنه ولا يخاف من التّوجّه اليه لعلّهم يتّقون تخويفات الشّياطين ولا يبالون بتهديداتهم ويقطعون سلاسل تهديداتهم ويحضرون عنده كالعاشق الّذى لا يبالي بما قيل فيه وما عرض له (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) في الولاية يعنى ادع الطّالب للدّين ولا تطرد الدّاخل في الدّين بقبول ولاية علىّ (ع) والبيعة الولويّة معه فانّك بعثت لدعوة الخلق اليه لا لطردهم عنه أو لا تطرد عن نفسك الّذين يدعون ربّهم في الولاية (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) يعنى يدعون ذاته ويريدون الاتّصال بملكوته بعد الاتّصال بملكه ، فانّ الدّعاء قد يستعمل في دعاء الشّيء لأمر أخر من نصرته واعانته وغيرهما وقد يستعمل في دعاء ذات الشّيء طلبا له من غير ارادة امر آخر منه وهذا هو معناه إذا استعمل مطلقا وهو المراد هاهنا لا طلاقه ولقوله بيانا لهذا المرام (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) يعنى لا يريدون من دعاء ربّهم غير وجه الرّبّ ووجه كلّ شيء هو ما به يتوجّه الى شيء آخر ، ولمّا كان الكلّ متوجّها بحسب التّكوين الى الله فما به توجّههم الى الله هو ملكوتهم المثاليّة أو ما فوقها بحسب مرتبة الدّاعى وهذا في المربوب وامّا الرّبّ فلمّا كان متوجّها الى الخلق للتّكميل كان وجهه الى الخلق ما به يتوجّه إليهم وما به يتوجّه الى الخلق هو ملكوته أيضا ، وفي هذا دليل على ما قالت العرفاء العظام من انّ السّالك ينبغي ان يكون دائم الذكّر ، فانّ المراد بالغداة والعشىّ استغراق الازمنة ولذا لم يكتف الله تعالى في الذكّر بالإطلاق بل قيّده بالكثرة في أكثر ما وقع وينبغي ان يكون دائم الفكر ودائم الحضور ، فانّ الفكر والحضور في لسانهم هو التّفكّر في ملكوت الرّبّ والحضور عنده وغاية تلقين الشّيخ الذكّر للمريد ودعاء المريد بالّذكر المأخوذ هي حصول وجه الرّبّ له والى هذا المعنى

١٣٢

أشارت الآية فتذكّر ، وقد نقل عن الصّادق (ع) وقت تكبيرة الإحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينيك ، ولهم على مرامهم شواهد كثيرة نقليّة وعقليّة وما كان قصدنا الى بيان مقصدهم (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) من حيث شأن نبوّتك بل حسابهم على ربّهم (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) عطف على تطردهم أو جواب للنّهى كما انّ تطردهم جواب للنّفى ، يعنى انّ حساب من دخل في الولاية وطردهم وابقاءهم انّما هو على شأنك الولوىّ لا على شأنك النّبوىّ فلا تطردهم بشأنك النّبوىّ الّذى يراعى الكثرة ويربّى كلّا في مرتبته ويحفظ لكلّ ذي شأن شأنه عن ارادة شهود الرّبّ والاتّصال بوجهه ، ولا تطردهم أيضا بحسب الصّورة بشأنك الحافظ للصّورة عن مجلسك بطلب القوم طردهم فانّ شأنك النّبوىّ يستدعى ان لا تقرّب الفقراء الّذين لا شأن لهم في انظار أهل الدّنيا إليك ، وان لا تحضرهم في المجلس العامّ النّبوىّ ، وقد ذكر في شأن نزول الآية انّها نزلت في قوم من المسلمين مثل صهيب وخبّاب وبلال وعمّار وغيرهم كانوا عند رسول الله (ص) فمرّ بهم ملأ من قريش فقالوا : يا محمّد (ص) أرضيت بهؤلاء من قومك؟! أفنحن نكون تبعا لهم؟! أهؤلاء الّذين منّ الله عليهم؟! اطردهم عنك فلعلّك ان طردتهم اتّبعناك ، وقيل انّه (ص) قبل منهم ان يطردهم من عنده حين وفود القوم عليه وأراد ان يكتب لهم كتاب عهد بذلك ، فنزلت الآية ونحّى الكتاب وذكر غير ذلك في المفصّلات (وَكَذلِكَ) اى مثل ابتلاء أغنياء قومك بفقرائهم (فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا) حالا وقالا اى الّذين لا استحقاق لهم للدّين وأردنا ان نصرفهم عنك أو عن الولاية (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) استهزاء بهم وتنفّرا عنهم حتّى لا يرغبوا في الإسلام أو في الولاية ولا يؤذوا صاحب الدّين بتزاحمهم بالأغراض الدّنيويّة له ، فاللّام للغاية لا لمحض العاقبة كما قيل (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) فما بالك تطردهم وما بالهم يستهزؤن ويطلبون طردهم والله تعالى يذكرهم بالشّكر الّذى هو ابتغاء وجه ربّهم ثمّ بعد نهيه عن طردهم امره بتقريبهم والتّلطّف بهم بالتحيّة عليهم وبشارتهم بالغفران والرّحمة فقال (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا) يعنى يؤمنون بالايمان الخاصّ الولوىّ فانّ من بايع عليّا (ع) بالبيعة الولويّة يؤمن بجملة الآيات وهم الّذين يدعون ربّهم في جميع الأوقات والّذين هم على صلوتهم دائمون وهم الّذين لا يبتغون في دعائهم الّا الاتّصال بملكوت ربّهم والحضور عنده ولقاء وجهه (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحيّة لهم وتلطّفا بهم وقل لهم (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) بشارة لهم وتطييبا لنفوسهم وتأنيسا لهم الى ربّهم (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) بيان لمنشأ السّوء لا تقييد له ، يعنى من عمل منكم سوء بالتّنزّل عن دار العلم الى دار الجهل وقبول حكومة الجهل فانّ الواقع لا يكون الّا هكذا (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) عن دار الجهل (وَأَصْلَحَ) نفسه بالدّخول في دار العلم (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اى يغفر له ويرحمه لانّه غفور رحيم فهو من اقامة السّبب مقام الجزاء (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) آيات الكتاب التّدوينىّ في بيان أحوال الخلق وأصنافهم وآيات الكتاب التّكوينىّ من الأولياء والأشقياء واتباعهم بآيات الكتاب التّدوينىّ لتستبين سبيل المطيعين حذفه لادّعاء ظهوره كأنّه لا حاجة له الى البيان من حيث انّه المقصود من كلّ الأحكام (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) تنبيه على

١٣٣

انّ منشأ عبادتهم اهويتهم وقطع لاطماعهم وتأكيد لضلالتهم (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) إذ اتّبعت أهواءكم وعبدت مدعوّاتكم (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) تسفيها لرأيهم وتعريضا بهم وانّهم على اهويتهم وتقليدهم ولا بيّنة لهم والعاقل ينبغي ان يكون في طريقه ودينه وجملة أفعاله على بيّنة (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) بالقرآن أو بعلىّ (ع) (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) قيل اشارة الى ما قيل فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب اليم عند نصب علىّ (ع) بالخلافة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وليس لي حكم فيما تستعجلون به (يَقُصُّ الْحَقَ) يفصّل الولاية كيف ما يقتضيه الحكمة والحكم لما سبق انّ الولاية هي الحقّ وانّ كلّ ما سواها فحقّ بحقّيّتها (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) بين الحقّ ومن اتّصل به والباطل ومن اتّصل به (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لرفع النّزاع بيني وبينكم باهلاكى ايّاكم (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فيه معنى الاستدراك يعنى لكنّ الأمر الى الله وهو اعلم بالظّالمين ، روى عنهم (ع) انّ ورود الآيات في الولاية (وَعِنْدَهُ) ابتداء كلام من الله أو جزؤ مفعول القول حالا كان أو عطفا (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) جمع مفتح بالفتح بمعنى المخزن أو مفتح بالكسر بمعنى المفتاح ولمّا نفى عن نفسه علم الغيب والقدرة على ما يستعجلون به اثبت مخازن الغيب أو أسباب العلم به والتّصرّف فيه لله تعالى بطريق الحصر وعلى الاوّل فقوله (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) يكون تأسيسا وعلى الثّانى يكون تأكيدا ، ولمّا حصر علم الغيب فيه تعالى عمّم علمه بجملة المحسوسات الخارجة عن حدّ الإحصاء فقال (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) من أوراق شجرة الجسم أو من أوراق شجرة العلم أو من أوراق شجرة الولاية أو من أوراق الشّجرة الانسانيّة من النّطف الّتى تقع في الرّحم ثمّ تسقط قبل ان تستهلّ (إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) وقد عمّمت الحبّة في الخبر ويسهل عليك تعميمها (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) إثبات المعلوميّة دون الثّبوت بالنّسبة الى الورقة السّاقطة ، ونسبة الثّبوت في الكتاب الى الأشياء الثّابتة للاشعار بانّ السّاقط ساقط عن الكتاب والثّابت ثابت في الكتاب ، والكتاب المبين هو اللّوح المحفوظ وصورته النّبوّة وصورتها القرآن الّذى أعطاه محمّدا (ص) والكلّ صورة الولاية الّتى أصلها وصاحبها أمير المؤمنين (ع) فعنده علم الكتاب الّذى لا رطب ولا يابس الّا فيه (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) التّوفّى أخذ الشّيء بتمام اجزائه والمراد منه هنا مطلق الأخذ وبعد ذكر احاطة علمه أراد أن يذكر احاطة الهيّته وربوبيّته (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ) ما كسبتم (بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) من نومكم (فِيهِ) في النّهار (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ليمضى مدّة عمركم أو الى ان يقضى ويختم غاية عمركم (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) يحكم فيهم ما يشاء بلا مانع ولا يكتفى بقهره وتسلّطه واحاطته (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) يحفظونكم من مردة الشّياطين وهو امّ الأرض وسائر الآفات ويحفظون أعمالكم بالكتب والثّبت (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) وقد مضى بيان توفّى الله والرّسل والملائكة وملك الموت في سورة النّساء (وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) فلا يشذّ عنهم شيء من

١٣٤

قواه وجنوده وهو تأكيد لمفهوم توفّته بحسب المعنى (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) كما جاؤا منه (مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذ أو مطلقا (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يعنى الزمهم الإقرار (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً) جهرا (وَخُفْيَةً) سرّا قائلين (لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ) تهديدا لهم (هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كما بعث على قوم لوط بامطار الأحجار (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كغرق فرعون وقومه وخسف قارون (أَوْ يَلْبِسَكُمْ) يخلطكم (شِيَعاً) فرقا مختلفي المسلك متخالفى الأهواء كلّ فرقة مشايعة لإمام (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بالمقاتلة والمدافعة والسّرقة وقطع الطّريق (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) آيات قدرتنا على التّفضّل على المؤمنين والانتقام من الكافرين عن الصّادق (ع) من فوقكم من السّلاطين الظّلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السّوء ومن لا خير فيه ، ويلبسكم شيعا يضرب بعضكم ببعض بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبيّة ويذيق بعضكم بأس بعض هو سوء الجوار ، وأمثال هذا الخبر تريك طريق التّعميم في الآيات وفي الألفاظ بما أمكن ووسع اللّفظ (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) اى بكونه قادرا أو بعلىّ (ع) أو بالعذاب أو بالقرآن الّذى فيه ذكره (وَهُوَ الْحَقُ) المتحقّق (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) حتّى أمنعكم من التّكذيب وانّما علىّ التّبليغ (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) يعنى لكلّ خبر وقت وهو كالمثل في العرب (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أو ان وقوعه (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ) الخوض الإمعان في السّير في البرّ كان أو في البحر والأكثر استعماله في الماء والمراد به هاهنا الإمعان في سير النّظر (فِي آياتِنا) التّدوينيّة والتّكوينيّة وأعظمها الولاية ، وعن الباقر (ع) في هذه الآية قال : الكلام في الله والجدال في القرآن قال منه القصّاص (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) النّهى عن القعود معهم (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) اشارة الى انّ من يخوض في الآيات يشتغل عن نفسه ومن اشتغل عن نفسه فهو ظالم على انّ خوضه دليل عدم انقياده وهو ظلم آخر (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) الخوض في الآيات وان اتّفق جلوسهم نسيانا معهم (مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ممّا يحاسبون عليه من قبائح أعمالهم (وَلكِنْ ذِكْرى) ولكن عليهم ان يذكّروهم قبح الخوض ويمنعوهم منه بقدر ما يمكنهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الخوض ، فلا يذكروا الآيات بما فيه ازدراء ولا يقعوا في ضلالته وعقوبته ، عن الباقر (ع) فلمّا نزلت (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال المسلمون : كيف نصنع ان كان كلّما استهزء المشركون قمنا وتركناهم فلا ندخل إذا المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام ..!؟ فأنزل الله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) امر بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) اللّعب ما لم يكن له غاية عقليّة ولكن كان له غاية خياليّة كلعب الأطفال ، واللهو ما لم يكن له غاية عقليّة ولا خياليّة وان كان له غاية خفيّة كامضاء عادة مثلا ، والمقصود عدم التّعرّض لمن أخذ دينه بخياله ولا يتصوّر له غاية سوى الغايات الخياليّة الدّنيويّة من الجاه والمناصب أو الصحّة والسّعة أو التّوافق مع الإقران أو التّفوّق على الأمثال أو التّنعّم في الآخرة

١٣٥

والنّجاة من العقوبة فيها ، أو القرب من الأنبياء والائمّة في الجنّة ، أو القرب من الله والاختصاص من بين الأمثال بذلك القرب لانّهم أخذوا صورة الدّين للدّنيا وجعلوا آلة الدّين شركا للدّنيا ، وقوله تعالى (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) اشارة الى هذا (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) وذكّرهم الولاية بالقرآن أو ذكّرهم بولاء علىّ (ع) أو بعلىّ (ع) كراهة ان تمنع نفس من موائد الآخرة بما كسبت من أعمالها لانّ كلّ نفس بما كسبت رهينة الّا الّذين تولّوا أمير المؤمنين (ع) (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) صفة بيانيّة لنفس ، أو استيناف في موضع التّعليل ، والولىّ والشّفيع قد مضى بيانهما (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ) وان تفد كلّ فداء (لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ) المتّخذون دينهم لعبا ولهوا (الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) استيناف في موضع التّعليل (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) تعريضا بهم ومداراة معهم (ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ) الى طريقه المستقيم الّذى هو الولاية (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) أذهبته الجنّة على غير طريق (فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ) لا يدرى اين يذهب واين يذهب به (لَهُ أَصْحابٌ) لهذا المستهوى رفقة يرحمونه و (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) الى الطّريق قائلين (ائْتِنا) ترحّما عليه وهو لا يجيب لما خولط من مسيس الجنّ (قُلْ) لهم انّ مثلكم مثل هذا المستهوى فانّ الشّياطين قد غلبت عليكم وسلبتكم عقولكم وانا وأصحابي كرفقاء المستهوى ندعوكم الى الطّريق المستقيم الّذى هو ولاية علىّ (ع) ونقول لكم : انّ ولاية علىّ (ع) هو هدى الله و (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) لا هدى سواه (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) من جملة المقول يعنى قل أمرنا لنسلم لربّ العالمين اعراضا عنهم بعد إتمام الحجّة عليهم أو إنصافا لهم في إظهار الدّعوى (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) عطف على لنسلم وان تفسيريّة ، وقيل : عطف على نسلم بتقدير دخول اللّام عليه وان مصدريّة لكن دخول ان المصدريّة على الإنشاء قليل والخطاب في قوله أقيموا يمنعه (وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) جملة حاليّة أو معطوفة على جملة انّ هدى الله هو الهدى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) سماوات الأرواح والأرض الأشباح بسبب الحقّ الّذى هو المشيّة الّتى هي ولاية علىّ (ع) كما سبق تحقيقه أو متلبّسا بالحقّ ، فانّ الولاية مع الكلّ ومتقوّم بها الكلّ ولا يخلو منها الكلّ (وَيَوْمَ يَقُولُ) عطف على منصوب اتّقوه أو على السّماوات أو على (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ) بتقدير اذكر أو ذكّر ، أو خبر لقوله الحقّ والجملة عطف على جملة (هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، أو ظرف متعلّق بالحقّ أو بعالم الغيب والمعنى قوله الحقّ أو عالم الغيب يوم يقول للشّيء الّذى يريد إيجاده وانّما حذفه لقصد التّعميم مع الإيجاز (كُنْ) ذلك الشّيء (فَيَكُونُ) ويوجد ذلك الشّيء بلا تأبّ ولا تأنّ ، اعلم ، انّ اليوم كما يطلق على يوم عالم الطّبع مقابل ليله كذلك يطلق على كلّ من مراتب العالم ، فانّ كلّا بالنّسبة الى المرتبة الّتى دونها يوم والمرتبة الدّانية ليل بالنّسبة إليها ، ولمّا كان عالم الطّبع عالم الأسباب بمعنى انّ سنّته تعالى جرت بان يوجد الأشياء فيه بالأسباب ، كان موجوداته كأنّها تتأبّى عن الوجود بمحض قوله من دون تهيّة أسبابه والمكلّفون فيه أيضا يتأبّون عن قوله ، ولمّا كان مراتب الآخرة بتمام موجوداتها غير مسبوقة بمادّة ومدّة وسائر الأسباب كان موجوداتها قائمة

١٣٦

بمحض قوله موجودة بنفس امره فكان يوم يقول : كن ؛ فيكون مختصّا بايّام الآخرة (قَوْلُهُ الْحَقُ) فاعل يكون والحقّ صفة القول أو مبتدء وخبر أو مبتدء ويوم يقول خبره والمعنى قوله الحقّ الّذى هو المشيّة فانّها جملة إضافاته الى الخلق أو قوله حقيقة ثابتة هي عين فعله وليس صوتا يقرع ولا لفظا يسمع (وَلَهُ الْمُلْكُ) الملك يطلق تارة على عالم الطّبع مقابل الملكوت والجبروت ، وتارة على ما يعمّ جملة الموجودات الّتى هي مملوكة له تعالى وهذا هو المراد هاهنا ، أو أريد الاوّل على ان يكون المراد بقوله : له الملك ؛ انّ الملك يوم ينفخ في الصّور خالص له وفي غير ذلك يظنّ انّ غيره له تصرّف فيه ولذلك وهم الثّنويّة فقالوا : انّ الظّلمة مقابلة للنّور ، أو أهرمن ليزدان ، ولكلّ منهما تصرّف في الملك (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من يوم يقول ، أو ظرف مستقرّ خبر لقوله الحقّ ، أو خبر بعد خبر لقوله ، أو لغو متعلّق بقوله ، أو بالحقّ أو بالظّرف في قوله له الملك أو بعالم الغيب ، والصّور القرن الّذى ينفخ فيه من صار بمعنى صوّت (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) كالنّتيجة للسّابق (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) قيل ليس بين النّسابين اختلاف في انّ اسم ابى إبراهيم تارخ وهو موافق لما عليه الشّيعة من انّ آباء الأنبياء (ع) مطهّرون من الشّرك وانّ آزر كان جدّه لامّه أو عمّه (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى مثل إرائتنا إبراهيم بطلان الأصنام وضلالة قومه أريناه ملكوت السّماوات والتّعبير بالمستقبل لإحضاره لكونه من الأمور الغريبة ، والملكوت مبالغة في المالك كالجبروت في الجابر ، والطّاغوت في الطّاغى ، ولمّا كان عالم الطّبع لا جهة مالكيّة له بل ليس فيه الّا المملوكيّة الصّرفة لم يسمّ ملكوتا بل ملكا ، وباطن عالم الطّبع من عالم المثال فما فوقه يسمّى ملكوتا لمالكيّته وتصرّفه بالنّسبة الى ما دونه ، وقد يطلق الملك على ما سوى الله وعلى المثال وعلى الرّسالة وغير ذلك باعتبار مملوكيّتها للحقّ الاوّل تعالى ، والمراد بالملكوت هاهنا عالم المثال أو هو وما فوقه ان كان المراد بالإراءة اعمّ من الكشف الصورىّ ، والمراد بالسّماوات والأرض هما الطّبيعيّان (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) اى ليأنس ويقرب منّا وليكون من الموقنين ، والقمى عن الصّادق (ع) كشط عن الأرض ومن عليها وعن السّماء ومن فيها ، والملك الّذى يحملها والعرش ومن عليه ، وهو يدلّ على انّه لم يكن كشفا صوريّا فقط (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) ستره بظلامه (رَأى كَوْكَباً) هو الزّهرة كما في الخبر (قالَ هذا رَبِّي) هذا الكلام منه يحتمل ان يكون على سبيل المماشاة مع القوم بإظهاره الدّخول في دينهم ثمّ الاستدلال بالأفول والزّوال على عدم تربيته بالاستقلال ليكون أقرب الى الدّعوة والإنصاف وابعد عن الشّغب والاعتساف ، ولا يلزم منه الكذب المحرّم لانّه كان في مقام الإصلاح ، أو قصد تربيته بنحو تربية الكواكب للمواليد بإذن الله وورّى بحيث يظنّ انّه أراد المعبود ، أو قصد الإنكار وانّه لا يصحّ ان يكون ربّا لكنّه ورّى بصورة الاخبار وكان المقدّر في نفسه الاستفهام الانكارىّ ، ويحتمل ان يكون على سبيل الاستفهام الانكارىّ للإنكار على قومه لانّهم كانوا ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزّهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشّمس ، فأنكر على الثّلاثة عبادتهم ، ويحتمل ان يكون على سبيل الاخبار الاحتمالىّ الّذى يصحّ لكلّ مستدلّ ان يخبر على سبيل الاحتمال عمّا أدّى اليه دليله في بادي الأمر لانّه كان في اوّل خروجه من السّرب الّذى أخفته فيه أمّه ولمّا ظهر له بعد إمعان النّظر انّ ما ادّى اليه دليله في بادي النّظر لم يكن نتيجة صحيحة أنكره وقال : ليس هذا مؤدّى الدّليل الصّحيح ، ومثل

١٣٧

هذا ممدوح لكلّ من أراد التّحقيق والخروج عن التّقليد ولا يكون هذا شركا ، وكلّ هذه مروىّ عنهم (ع) لانّ القرآن ذو وجوه والحمل على جملة الوجوه ما لم يؤدّ الى فساد ورد عنهم (ع) هذا ما يقتضيه التّنزيل ، وامّا بحسب التّأويل فنقول : انّ السّالك ما دام يكون في سرب نفسه المظلم ولم يخرج بالولادة الثّانية الى فسحة عالم الملكوت يكون متحيّرا لا يدرى من اين والى اين وفي اين ، ثمّ إذا أدركته العناية الالهيّة وخرج يسيرا من قعر سربه يطرؤ وعليه حالات وأطوار وظلمات وأنوار ومنيرات فربّما يرى أنوارا عجيبة متلوّنة بألوان مختلفة ، وربّما يرى كواكب واقمارا وشموسا ويذهل عن التّفكّر واستعمال المقدّمات فيظنّ في بادي رؤيته كوكبا أو قمرا أو شمسا انّه هو ، فيصيح به جبرئيل العقل ويفيق من محوه وينظر الى افول المرئىّ وتغيّره فيعلم انّه ليس به ، ولا ضير أن يكون حال إبراهيم (ع) في بادي خروجه من سربه حال سائر السّلاك فيحسب في بادي رؤيته الكوكب انّه هو ، ثمّ ينظر بعقله الى زواله وتغيّره فيرى انّه ليس به ولا يلزم منه شرك ولا كفر لانّ تلك الأنوار ظهورات نور الأنوار ، وقد يغلب حكم الظّاهر على المظهر بحيث يظنّ انّ المظهر هو الظّاهر (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) لمّا لم يجد في نفسه داعيا قويّا على التّبرّى ونفى الرّبوبيّة وكان غرضه المماشاة مع القوم بإظهار الإنصاف من نفسه حتّى يدخل في المجادلة الحسنة ، نفى حبّ الآفل عن نفسه كناية خفيّة عن نفى الرّبوبيّة ولذلك لم يؤكّده بشيء من المؤكّدات (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) لمّا قوى الدّاعى لنفى الرّبوبيّة في نفسه ونبّه القوم بالكناية الخفيّة على نفى ربوبيّة مثل هذا كنّى كناية أظهر من الاولى بنسبة الضّلال الى نفسه اوّلا ليكون أقرب الى الإنصاف بالكناية بقوله (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، ونسبة التّمكّن في الضّلال صريحا ثانيا بقوله (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) واكّد الحكم بمؤكّدات عديدة (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) تذكير الاشارة باعتبار الخبر ولتنزيه الرّبّ عن سمة التّأنيث (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بعد ما قوى الدّاعى وتمّ الحجّة نادى القوم صريحا وأظهر التّبرّى ونفى الرّبوبيّة صريحا واكّد الحكم بانّ واسميّة الجملة ثمّ لم يكتف به وأظهر ربوبيّة الله الّذى هو خالق الكلّ بإخلاص الوجه له وصرّح بنفي الإشراك به مؤكّدا فقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) خالصا (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) فلا ينبغي لكم ان تحاجّونّى لانّى على هداية وبيّنة وأنتم على عمى وضلالة (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) كأنّهم كانوا يحاجّونه بالتّخويف من الهتهم وبما أراهم الشّيطان منهم من بعض ما لا يعتاد (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) وحينئذ لا يكون خوفي منهم بل من ربّى (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فلا أخاف ان يصيبني مكروه من غير علم ربّى به (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) بما أقول لكم من انّ ربّى خالق الهتكم وانّ علمه محيط بالكلّ ولا قدرة ولا علم لآلهتكم كما انّ ربّى له القدرة الكاملة والعلم الكامل (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) يعنى لا ينبغي لي ان أخاف ما أشركتم به بعد ما بان انّ الشّركاء عاجزون جاهلون وانّ ربّى قادر عالم (وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) يعنى انّ هذا امر عجيب اى تخويفى من العاجز الجاهل مع عدم خوفكم من اشراككم الجاهل العاجز بالعالم القادر (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً)

١٣٨

بيان لحال الشّركاء لا انّه قيد للاشراك أو تقييد للاشراك باعتبار انّ الشّخص ما لم يخرج من بيت نفسه وسجن طبعه لا يمكنه الخروج عن الشّرك بل ليس طاعته وتبعيّته للأنبياء والأولياء الّا الإشراك بالله ورؤية الثّانى له لكن هذا الإشراك ممّا نزّل الله به سلطانا وحجّة وهو طريق الى التّوحيد ومجاز وقنطرة الى الحقيقة وقد سبق تحقيق ذلك (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) نبّه على غباوتهم بانّ من له علم يميّز بين الأمن وغيره ، وعدم تميز هم لعدم شعورهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ) كرّر المسند اليه باسم الاشارة البعيدة إحضارا لهم في الذّهن واشعارا بعظم شأنهم وتأكيدا للحكم وتمييزا لهم بحصر الأمن والاهتداء فيهم (لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) عن أمير المؤمنين (ع) انّه من تمام قول إبراهيم (ع) ويحتمل بحسب اللّفظ ان يكون مستأنفا من الله ، ونقل عن رسول الله (ص) انّ المراد بالظّلم ما قاله العبد الصّالح يا بنىّ لا تشرك بالله انّ الشّرك لظلم عظيم ويستفاد من هذا الخبر انّ المراد بالايمان الايمان الخاصّ الولوىّ الحاصل بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة وانّ تنكير الظّلم للتّفخيم ، والنّفى وارد على تفخيمه وليس من قبيل النّكرة في سياق النّفى ليفيد العموم (وَتِلْكَ) الّتى ذكرناها من استدلال إبراهيم (ع) بالزّوال والدّثور وعدم القدرة والشّعور على بطلان معبوداتهم وبعكسها على حقّيّة معبوده (حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) ألهمناها باستعداده وقوّة نفسه وقدسه (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) ولمّا توهّم انّه يرفع درجات من يشاء سواء كان باستحقاق أو بعدم استحقاق رفع ذلك الوهم حتّى يتنزّه عن ارادة جزافيّة غير مسبوقة بحكمة ومصلحة بقوله (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) لا يفعل الّا عن حكمة وإتقان للفعل (عَلِيمٌ) بقدر استحقاق كلّ وكيفيّته وما يقتضيه (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) تعظيم له ببيان ما منّ به عليه (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) عن الباقر (ع) في بيان اتّصال الوصيّة من لدن آدم (ع) الى زمانه (ع) هديناهم لنجعل الوصيّة في أهل بيتهم ، وفيه اشعار بانّ هدايتهم امتنان من الله على محمّد (ص) وأهل بيته لانّهم آباؤهم كما أولاد آبائهم كما انّ هداية نوح (ع) امتنان من الله على إبراهيم (ع) لكونه جدّه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) عطف على إبراهيم والتّقدير تلك حجّتنا آتيناها إبراهيم (ع) وآتيناها بعضا من ذرّيّته أو عطف على اسحق أو يعقوب ، أو عطف على نوحا ، أو عطف على وهبنا ، أو هدينا ، بتقدير أرسلنا وهذا على ان يكون من التّبعيضيّة واقعا موقع الاسم الخالص لقوّة معنى البعضيّة فيها ويكون داود وسليمان (الى الآخر) بدلا تفصيليّا والّا فهو حال من داود وسليمان ويجرى حينئذ في داود وسليمان الوجوه المذكورة في عطف من ذرّيّته والضّمير المضاف اليه لإبراهيم أو لإسحاق أو ليعقوب ، وعلى هذا كان المعدودون في الآية الثّالثة عطفا على نوحا لانّ لوطا ليس من ذرّيّة إبراهيم (ع) وكذلك من ذكر في الآية الثّانيّة على ان يكون الياس هو إدريس جدّ نوح (ع) وعلى هذا لو كان الضّمير لنوح (ع) لم يكن من في الآية الثّانية عطفا على داود ، ويحتمل ان يكون الضّمير لنوح (ع) لانّه أقرب والامتنان بهداية ذرّيّته على إبراهيم (ع) لانّ أكثرهم كانوا ذرّيّة إبراهيم (ع) ومن لم يكن ذرّيّة كان ذرّيّة آبائه (داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ) بن اموص من أسباط عيصا بن إسحاق كذا قيل (وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ) لم يراع في ذكر الأنبياء التّرتيب الوجودىّ ولا التّرتيب الشّر فيّ (وَكَذلِكَ) الجزاء الّذى جزينا إبراهيم (ع) من إيتاء الحجّة ورفع الدّرجات وجعل الأنبياء من ذرّيّته ومن

١٣٩

فروع آبائه وهداية كثير من آبائه وذرّيّاته (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يعنى انّ جزاءنا إبراهيم (ع) بما جزينا انّما هو لكونه محسنا فكلّ من اتّصف بصفة الإحسان نجزيه مثله (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ) قيل : هو إدريس ؛ وقيل : هو من أسباط هرون أخي موسى (ع) (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) استيناف واشارة الى استعدادهم واستحقاقهم وانّ هداية الله منوطة بالاستعداد من قبل القابل لا انّ له ارادة جزافيّة (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ) بن اخطوب علم أعجميّ ادخل عليه اللّام كما يدخل في بعض الاعلام (وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) في زمانهم (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ) عطف على كلّا أو نوحا وجعلت من التّبعيضيّة لقوّة معنى البعض فيها موقع الاسم (وَاجْتَبَيْناهُمْ) عطف على فضّلنا أو هدينا (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تكرار هديناهم لتعيين المهدىّ اليه ، أو المراد بالاوّل الاراءة وبالثّانى الإيصال أو الاوّل هداية طريق النّبوّة والثّانى هداية طريق الولاية والصّراط المستقيم قد يراد به الولاية مطلقا سواء كانت قبولا أم تحقّقا ، وقد يراد به الولاية الجامعة بين الكثرة والوحدة والجمع والفرق وهو المراد هاهنا والأصل في الكلّ ولاية علىّ (ع) وهي متّحدة مع علىّ (ع) ولذلك فسّر قوله تعالى (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) بشيعة علىّ (ع) مع رجوع الضّمير ظاهرا الى نوح (ع) (ذلِكَ) المذكور من الهداية الى الصّراط المستقيم الجامع بين طرفي الكثرة والوحدة (هُدَى اللهِ) واسم الاشارة البعيدة واضافة الهدى الى الله اشعارا بتعظيمه أو ذلك الّذى هؤلاء الأنبياء عليه هدى الله لا هدى غير الله (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا) اى هؤلاء مع علوّ شأنهم (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيزول بسببه ما تفضّلنا به عليهم فكيف بكم ان تشركوا بولاية علىّ (ع) (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قد يراد به النّبوّة فانّها انتقاش القلب بالاحكام الالهيّة وقد يراد به الرّسالة فانّها انتقاش الصّدر بالاحكام الالهيّة والكتاب التّدوينىّ صورة ذلك والمراد به هنا المعنى الثّانى (وَالْحُكْمَ) بمعنى الحكمة الّتى هي الدّقّة في العلم والكتاب للاتقان في العمل وهي مسبّبة عن الولاية والمراد بها هنا الولاية (وَالنُّبُوَّةَ) يعنى انّا تفضّلنا عليهم بالمراتب الثّلاث الّتى لا كمال أتمّ منها (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) اى بالمراتب الثّلاث (هؤُلاءِ) يعنى انّهم مقرّون بالمذكورين فان كان إقرارهم لأجل اتّصافهم بتلك المراتب فينبغي ان يقرّوا بك أيضا لاتّصافك بها ، وان كان إقرارهم لاشخاصهم البشريّة مع كفرهم بتلك المراتب ولذا كفروا بك فلا يضرّونها شيئا (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) وهم أهل بيت محمّد (ص) واتباعهم وقد قيل : انّهم أبناء الفرس (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الهاء للسّكت ، امره تعالى مع كمال مرتبته وجلالة قدره بالاقتداء تعظيما لشأن الاقتداء وترغيبا للامّة عليه فانّه لا يمكن خروج نفس من ظلمات اهويتها ومضيق سجنها الّا بالاقتداء والارادة الّتى هي التّولّى وقبول الولاية والانقياد لولىّ الأمر ولذلك ورد : لو انّ عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولىّ امره (وفي خبر) ولاية علىّ بن ابى طالب لاكبّه الله على منخريه في النّار ، ونقل عن الصّادق (ع): لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء لانّه المنهج الأوضح والمقصد الاصحّ ، قال الله تعالى لا عزّ خلقه محمّد (ص): (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء

١٤٠