تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

وكفرهما ليكون اشدّ تأثيرا وأقرب قبولا وأوقع في نفوسهما (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أضاف الملّة الى آبائه اشارة الى علوّ نسبته بانتسابه الى من كان ذا ملّة وصاحب شريعة وصرّح بأسمائهم لكونهم مشهورين بعلوّ الشّأن وشرافة الرّتبة ومقبولين عند الكلّ خصوصا إبراهيم (ع) لذلك ، وبعد ما عرّفهم نسبه وانّه (ع) من أهل بيت النّبوّة والشّرف اثبت لهم مذهبه وانّه التّوحيد وعرّض بذمّ مذهبهما وانّه خلاف مذهب الأنبياء (ع) والاشراف فقال (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) شيئا يسيرا من أصناف الإشراك كالاشراك في الوجوب كاشراك أكثر الثّنويّة القائلة بانّ للعالم مبدئين قديمين واجبين النّور والظّلمة أو يزدان واهريمن ، وكاشراك الزّنادقة من الدّهريّة والطّبيعيّة القائلة بانّ الدّهر أو الطّبع واجب ومبدء فانّ هذا القول اشراك بحسب نفس الأمر ، وكالاشراك في الآلهة كاشراك بعض الثّنويّة القائلة بوحدة الواجب تعالى وألهته المبدئين ، وكاشراك الصّابئة القائلة بالهة الكواكب وتربيتها لعامل العناصر ومخلوقيّتها للحقّ الاوّل تعالى على كثرة مذاهبهم ، وكاشراك أكثر من قال بسلطنة الملائكة أو الجنّة على اختلاف طرقهم ، وكالاشراك في العبادة كاشراك الوثنيّة وعابدى العناصر ومواليدها من الأحجار والأشجار والحيوان ، وكالاشراك في الطّاعة كاشراك من أطاع السّلاطين والحكّام والأغنياء والشّياطين والأهواء ومنتحلي العلم والامامة والفتيا من غير اذن واجازة من الله ولا ممّن اجازه الله كالرّهبان والأحبار ومترأّسي الملّة والطّريق من كلّ ملّة وطريق ، وكالاشراك في النّبوّة كاشراك من بايع من ليس نبيّا ولا خليفة له بيعة عامّة نبويّة ، وكالاشراك في الولاية كاشراك من بايع من ليس بولىّ بيعة خاصّة ولوية ، ولمّا كان هذا الإشراك مستلزما لما سبق من أنواع الإشراك وبتوحيد الولاية يحصل جملة أنواع التّوحيد كما لا يخفى على العارف بالولاية ، وانّها لا تحصل الّا بما قرّر من الائمّة (ع) فسّر الإشراك في أكثر الآيات بالاشراك في الولاية في أخبارنا المعصوميّة ، وكالاشراك في الوجود قالا أو حالا أو شهودا وقلّما ينفكّ الإنسان عن هذا الإشراك والى هذا الإشراك أشار تعالى بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فأشار (ع) بقوله من شيء الى نفى جملة أنواع الإشراك سواء جعل من شيء مفعولا مطلقا كما مضى أو مفعولا به وهو تعريض بهما وبقومهما لانّهم أشركوا أكثر أنواع الإشراك ، ولمّا لم يمكن الخروج من جملة أنواع الشّرك الّا بالفناء التّامّ الّذى هو الفناء عن الفناء وكان هذا الفناء بحيث ان كان بعده بقاء لم يكن البقاء الّا بالنّبوّة والرّسالة والخلافة وكان الكلّ من شعب فضله تعالى ، كما انّ الولاية الّتى هي أصل تلك رحمته وكان النّبوّة وتاليتاها كما انّها فضل على الموصوف بها فضلا على من كان الموصوف فيهم ومبعوثا عليهم قال (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) لانّهم لا يعرفون قدر النّبوّة ولا يقومون بواجب حقّها بل يعرضون عنها ويجحدونها (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) الاضافة لأدنى ملابسة سواء كان المراد صحابة يوسف (ع) في السّجن أو صحابة نفس السّجن (أَأَرْبابٌ) متكثّرون والتّعبير بالأرباب تعبير بما اعتقدوه ليكون ادخل في النّصف (مُتَفَرِّقُونَ) غير قاهرين بعضهم لبعض وجمع العقلاء أيضا لموافقة اعتقادهم (خَيْرٌ) افعل التّفضيل للمداراة والنّصف أيضا (أَمِ اللهُ) لم يصرّح بربوبيّته لتسليم الخصم أو ادّعاء تسليمه وانّه ممّا لا ينكر (الْواحِدُ) مقابل المتكثّرين (الْقَهَّارُ) مقابل المتفرّقين (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً) قد مضى انّ ما سوى الله من الملئكة بأصنافهم والطّبائع ومواليدها والاناسىّ وصنائعهم كلّها أسماء لله تعالى وانّ الاسم لا حكم له ولا نظر اليه وانّ النّظر

٣٦١

الى الاسم والحكم عليه لا يتصوّر الا إذا جعل مسمّى مستقلا وثانيا للمسمّى وانّه شرك بالله ، وانّ النّاقصين لمّا لم يمكن خروجهم من حدّ الإشراك في الوجود اذن الله لبعض الأسماء ان يجعلوها مسمّين منظورا إليهم كالأنبياء وأوصيائهم (ع) وانزل الله لهم سلطانا على جواز جعلهم مسمّين من دلائل صدق دعواهم ولذا قال : ما تعبدون من دونه الّا أسماء لا مسمّين (سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) على مقتضى بشريّتكم النّاقصة وقد مضى في سورة الأعراف في نظير الآية وفي سورة البقرة في بيان قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) وفي بيان (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من سورة الفاتحة تحقيق تامّ للاسم وكيفيّة اسميّته ومسمّويّته (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) لفظة الباء تحتمل السّببيّة والمصاحبة والظّرفيّة ، والمراد بالسّلطان امّا الحجّة من المعجزات الدّالّة على جواز طاعتها وعبادتها أو السّلطنة والتّصرّف في الأشياء وكلتاهما كانتا للأنبياء وأوصيائهم (ع) فانّهم وان كانوا أسماء لكن انزل الله معهم حجّة دالّة على جعلهم مسمّين ومنظورا إليهم وانزل معهم سلطنة وتصرّفا مصحّحة لطاعتهم وربوبيّتهم كما لا يخفى (إِنِ الْحُكْمُ) في العالم أو في حقّ العباد (إِلَّا لِلَّهِ) فلا حكم ولا سلطنة في شيء لاربابكم (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا) ان مصدريّة أو تفسيريّة والفعل نهى أو نفى (إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ) التّوحيد من توحيد الله في الوجود المستفاد من حصر المعبودات من دونه مع انّها أشرف الموجودات في نظرهم في الاسميّة والاسم لا استقلال له في الوجود كالمعنى الحرفىّ الغير المستقلّ في لحاظ الّذهن وتوحيده في الآلهة والسّلطنة المستفاد من قوله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وتوحيده في استحقاق العبادة المستفاد من قوله (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، وقد ذكر التّوحيدات الثّلاثة مترتّبة بحسب ترتّبها في نفس الأمر فانّ توحيد الوجود يستعقب توحيد الآلهة وهو يستعقب توحيد العبادة (الدِّينُ الْقَيِّمُ) الّذى لا عوج فيه وكلّ ما كان غيره فهو معوجّ لا ينبغي ان يتّبع فانّه مفهوم الحصر المستفاد من تعريف المسند (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استدراك لما يتوهّم من انّه لا وجه للاشراك بعد الوضوح التّوحيد وبطلان الشّرك هذا الوضوح فما بال المشركين يشركون؟! ولعلّه كان لهم دليل وحجة فاستدرك وقال : لا حجّة لهم ولكنّهم ليس لهم علم وانّهم ساقطون في دار الجهل كالبهائم الّتى لا ستشعر بالبرهان وان كان أوضح ما يكون ، والتّقييد بالأكثر لانّ بعضهم يتفطّنون بالحجّة ويتّبعونها ويختارون التّوحيد وبعضهم يتفطّنون بها ويختارون الدّنيا ويعاندون الحقّ عن علم ، ولقد أجاد (ع) في الدّعوة بالموعظة الحسنة اوّلا والحكمة اليقينيّة البرهانيّة ثانيا ، فانّه لمّا رأى وثوقهما به واقرارهما بحسن سريرته وعلمهما بكونه عالما بتعبير الرّؤيا ادّعى ذلك العلم اوّلا بقوله (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) وثانيا بقوله (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وأسند ذلك الى تعليم الله رفعا لوصم الكهانة والتّعلّم من البشر والجنّة والشّياطين ، ثمّ علّل ذلك العلم الّذى رأى اقرارهما به بترك ملّتهما تنفيرا لهما عنها ثمّ ورّى عنهما بذكر قوم منكر موصوف بعدم الايمان بالله تعريضا بهما ليكون ابعد عن الشّغب وأقرب الى القبول وباتّباع ملّة المعروفين بالصّلاح والسّداد مع انتسابه الصّورىّ إليهم وبنفي الإشراك عنهم تعريضا بها وبتسميته ذلك فضلا من الله عليه وعلى النّاس ، وصرّح بعدم معرفة النّاس لقدرتك النّعمة وعدم شكرهم لها تعريضا بهما ، ثمّ لمّا رأى تأثّرهما بوعظه أعرض عن الخطابة وأقبل على الحكمة والبرهان بقولهء أرباب متفرّقون ووصف الأرباب بالكثرة والتّفرّق الدّالّ على عدم انقياد بعضهم لبعض الّذى هو سبب النّزاع والفساد الواضح اشارة الى علّة انكار ربوبيّتهم ثمّ وصف الله بالوحدة اشارة الى جواز ربوبيّته ثمّ بالقهر اشارة الى وجوب طاعته فأبطل ربوبيّة الأصنام وأثبت لزوم طاعة الله بالبرهان ثمّ اقبل على تزييف معبوداتهم وعدم استقلالها في الوجود

٣٦٢

فضلا عن الرّبوبيّة واستحقاق العبادة وعلى التّصريح بتوحيد الله في الآلهة والسّلطنة وتوحيده في العبادة بعد التّلويح الى التّوحيد في الوجود ، قيل : آمن بالله تعالى بدعوته المذكورة الصّاحبان السّائلان منه تأويل رؤياهما وجمع آخر من المسجونين والسّجّانين (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) الّذى يرى أنّه يعصر خمرا (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) وهو الّذى كان قبل إدخاله السّجن صاحب شرابه (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) وهو الّذى كان قبل إدخاله السّجن صاحب غذائه ، قيل : انّهما ما رأيا شيئا وامتحناه بذلك ، وقيل : انّهما رأيا رؤياهما ، وقيل : انّ صاحب الشّراب رأى وكان صادقا ، وصاحب الغذاء ما رأى شيئا وكذب في رؤياه وقال بعد ذلك : ما رأيت شيئا وانّما أردت امتحانك فقال في جوابه (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) رأيتما أو ما رأيتما (وَقالَ) يوسف (ع) (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) نقل انّه لمّا قال ذلك نزل جبرئيل (ع) وقال : ربّك يقرئك السّلام ويقول : من حبّبك الى أبيك؟ ـ فقال : ربّى ، فقال : من أنجاك من الجبّ؟ ـ قال : ربّى ، فقال : من حبّبك الى العزيز حتّى أكرم مثواك؟ ـ قال : ربّى ، فقال : من انجاك عن كيد النّساء وعصمك عن الفحشاء؟ ـ قال : ربّى ، فقال : ربّك يقول : اما استحييت منّى التجأت الى غيري؟ ـ وقد كان ما بقي من حبسك الّا ثلاثة ايّام وبجرم الالتجاء الى غيري تمكث فيه سبعة أعوام وقد كان في السّجن خمسة أعوام قبل ذلك فصار مدّة مكثه فيه اثنى عشر عاما (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) اى انسى الشّيطان صاحب الشّراب ذكر يوسف (ع) عند الملك أو انسى الشّيطان يوسف (ع) تذكّر الله (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) بعد ما كان قد لبث خمس سنين ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : رحم الله أخي يوسف (ع) لو لم يقل اذكرني عند ربّك لما لبث في السّجن سبعا بعد الخمس ، والبضع ما بين الثّلاثة الى التّسعة وقيل فيه شيء آخر وهو من البضع بمعنى القطع ، قيل انّه وقع ليوسف (ع) ثلاث عثرات أوليها الهمّ الّذى وقع منه بالنّسبة الى زليخا فحبس بسببه في السّجن وثانيتها الالتجاء الى غيره فلبث بسببه في السّجن بضع سنين وثالثتها ما قال لإخوته انّكم لسارقون فأجابوه بكذب مثله ، فقالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) من قبل ولمّا انقضى مدّة رياضته (ع) وحبسه وحان أوان سلطنته ووسعته ، رأى الملك انّه على سريره فخرج من النّيل سبع بقرات سمان أحسن ما يكون وجاءت الى جنب سريره ووقفت ثمّ خرج منه سبع بقرات أخر عجاف فجاءت الى البقرات السّمان فأكلتها ، ورأى انّه نبت في جنب سريره سبع سنبلات خضر ثمّ سبع سنبلات يابسات فالتّفت بالسّنبلات الخضر فاصفرّت ويبست ، فتنبّه الملك وأحضر الكهنة والمفسّرين والمنجّمين وقصّ الرّؤيا عليهم كما حكى الله (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى) التّعبير بالمضارع لاحضار صورة الرّؤيا أو لانّه كان يرى هذه الرّؤيا مكرّرة أو لانّه رأى أجزاء الرّؤيا متدرّجة فادّاه بالمضارع تصويرا للحال الماضية حاضرة مشعرا بتكرّرها أو تدرّج رؤيتها (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) اكتفى بذكر أكل العجاف عن ذكر التواء اليابسات (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) وكأنّه كان في رؤياه أشياء أخر دقائق لا يمكن للمعبّر استنباط تعبيرها والّا فتعبير تلك غير خاف على المعبّر ولخفاء دقائقها (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) اى تلك الرّؤيا أضغاث أحلام جمع الضّغث وهو الحزم من النّباتات المختلفة أستعير للصّور المختلفة المختلطة من تخيّلات المتخيّلة ، فانّ

٣٦٣

من الرّؤيا ما يشاهده النّفس في عالمي المثال من صور الطّبيعيّات الموجودة أو الآتية أو الماضية لكن قلّما يتّفق ان تشاهد الماضية لتوجّه النّفس الى الحال والآتي وادبارها عن الماضي ، فما تشاهد في المثال العلوىّ فهو امّا بشارة من الله أو تحذير وإنذار أو تنبيه واخبار ، وما تشاهد في المثال السّفلىّ فهو امّا غرور من الشّيطان على المعاصي أو تحذير منه عن الطّاعات أو اخبار بالآتيات غرورا منه أو استدراجا من الله ومنها ما تشاهده بإراءة المتخيّلة وتصويرها ممّا لم يكن واقعا وهو أضغاث الأحلام ، والأحلام جمع الحلم وهو ما يراه النّائم في المنام مطلقا أو ما يراه في المنام من غير حقيقة له (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) كأنّهم اعتذروا عن عدم علمهم بكون الرّؤيا من أضغاث الأحلام الّتى لا تعبير لها وبينما ذاك السّؤال تذكّر السّاقى يوسف (ع) ومهارته في تعبير الرّؤيا فذكر انّى اعلم عالما بتعبير الرّؤيا كما قال تعالى (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) من الزّمان سبع سنين (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) الى من أريد فاذنوا له فجاء الى يوسف (ع) وقال (يُوسُفُ) يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) منصوب على الاختصاص أو منادى ثان والمقصود ذكره بوصف مدح ترغيبا في الاهتمام بالتّعبير (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعنى بعلم تأويل ذلك لاستبعاد ترجّى الرّجوع المطلق (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تأويله أو يعلمون قدرك ومنزلتك فيخرجونك من السّجن قيل : انّه نسب الرّؤيا الى نفسه فقال يوسف (ع) : ما أنت رأيت ذلك ولكنّ الملك رأى وعبّر الرّؤيا ثمّ بيّن لهم تدبير ذلك كما حكى الله بقوله (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) قرئ بسكون الهمزة وفتحها وهما مصدرا دأب في الأمر استمرّ على عادته فيه وهو جواب السّؤال كان مذكورا لم يحك أو لسؤال مقدّر كأنّه قال : ما ندبّر لذلك؟ ـ قال : تزرعون ، ويجوز ان يكون تعبيرا للرّؤيا مع شيء زائد فانّه أفاد القحط والتّدبير والخصب قبل القحط (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) لئلّا يفسد ويتدوّد (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) في تلك السّنين تخرجونه من سنبله (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ) نسبة الاكل الى السّنين مجاز عقلىّ ومراعاة للتّطبيق بين الرّؤيا وتعبيرها (ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) لبذور الزّراعات واحتياط المجاعة قبل وصول الزّراعة (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) من الغيث أو من الغوث (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قرئ بالبناء للفاعل اى يعصرون العنب والزّيتون وكلّما يعصر لكثرتها ، وقيل : يعصرون الضّروع بمعنى يحلبون ، وقرئ تعصرون بالخطاب تغليبا للخاطب على الغيّاب ، وقرئ بالبناء للمفعول من عصره إذا أنجاه اى ينجون من القحط ، أو من أعصرت السّحابة عليهم إذا امطرهم ، وقراءة أهل البيت (ع) على ما وصل إلينا كانت هكذا بمعنى يمطرون ، فخرج الرّسول من عنده وجاء الملك بالتّعبير والتّدبير فلمّا سمع الملك ذلك ارتضاه وطلب ملاقاة يوسف (ع) (وَقالَ الْمَلِكُ) لخواصّه (ائْتُونِي بِهِ) فأرسلوا اليه لإحضاره (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وقال انّ الملك يطلبك ويستحضرك (قالَ) انّى اتّهمت عند الملك بالخيانة ومراودة النّساء وما لم اخرج من الاتّهام لم آت الملك لعدم منزلة وعرض لي عنده (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) اى العزيز أو الرّيان (فَسْئَلْهُ) ان يتجسّس ويطلب (ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) فانّى اتّهمت بهنّ حتّى يعلم انّى لم أكن خائنا وسجنت ظلما ولم يذكر امرأة العزيز مع انّ الاتّهام والسّجن كانا منها تكرّما وصونا

٣٦٤

لعرضها بخصوصه عن التّفضيح (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) تعليل لطلبه سؤال الملك عن النّسوة يعنى انّهنّ كدننى وانّى بري واكّد هذا المعنى بالاستشهاد بعلم الله فرجع الرّسول وحكى ما قاله يوسف للملك فأحضر الملك اى العزيز أو الرّيان النّسوة (قالَ ما خَطْبُكُنَ) أأنتن راودتنّ يوسف أم يوسف (ع) راودكنّ؟ أم كانت المراودة من الطّرفين؟ ـ (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) نسب المراودة إليهنّ مع انّ سؤاله يقتضي الجهل أو التّجاهل اشارة الى انّ سؤاله كان لمحض احتمال ان يكون يوسف شريكا لهنّ في المراودة لانّ مراودتهنّ كانت مشهورة بحيث لم يكن لأحد شكّ فيها (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) قد مضى بيان تلك الكلمة (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) بعد اعتراف سائر النّساء ببراءته وخروجها عن شدّة حيائها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) ظهر غاية الظّهور (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في البراءة من الخيانة (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) ربّك امّا مرتبط بسابقه وقوله قال ما خطبكنّ الى الآخر معترض بينهما في الحكاية ، أو قال ذلك يوسف (ع) بعد ما رجع الرّسول اليه وسأل عنه لم تثبّتّ في الخروج وطلبت مسئلة الملك عن حال النّساء؟ ـ فأجاب وقال ذلك التّثبّت ليعلم العزيز وهو دليل على انّ المراد بالرّبّ هو العزيز لا الملك (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) متلبّسا بالغيب أو واقعا في الغيب منّى ، حال من الفاعل أو المفعول (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) يعنى ليعلم انّ امرأته كادتنى وانّ كيدها ما نفذ وما اثّر فيّ وهو مبالغة في إظهار طهارته ولمّا بالغ في إظهار طهارته أراد أن يدفع وصمة الاعجاب والتّزكية عن نفسه وينسب ذلك الى الله فقال :

الجزء الثّالث عشر

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) فانّ شأنها التّلوّث بالواث الّذنوب لا التّنزّه منها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) الّا وقت رحمة ربّى أو الّا الّتى رحمها ربّى يعنى انّ التّنزّه من محض الرّحمة لا من فعل النّفس وقيل قوله تعالى ذلك ليعلم (الى آخرها) من تتمّة كلام زليخا اى ذلك الاعتراف بخيانتى وطهارته ليعلم يوسف (ع) انّى لم أخنه بالغيب بنسبة الكذب اليه وانّ الله لا يهدى كيد الخائنين بابقائه مستورا من غير ان يظهره وما ابرّء نفسي عن نسبة الخيانة والكذب اليه حيث خنته بنسبتهما اليه انّ النّفس لامّارة بالسّوء فبأمرها اسأت الّا ما رحم ربّى (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ) لأمر النّفس بالسّوء (رَحِيمٌ) بعصمتي عن اتّباعها ولمّا ظهر لهم طهارته وعفّته كمال الظّهور اشتدّ طلبهم له (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) بجعله من خواصّى من غير حكومة لغيري عليه فذهب الرّسول وأحضره (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) ووجده صاحب رشد وكمال وكلام وقد علم عفّته وأمانته سابقا (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة ومنزلة لرشدك وعقلك (أَمِينٌ) لظهور عفّتك وأمانتك (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) اى خزائن النّقد والجنس في ارض مصر (إِنِّي حَفِيظٌ) لما تحت يدي عن الخيانة لا أخون بنفسي ولا يمكن الخيانة لغيري لأمانتي وحسن تدبيري في الحفظ (عَلِيمٌ)

٣٦٥

بكيفيّة التّصرّف والحفظ عن الفساد والتّلف. نقل عن النّبىّ (ص): رحم الله أخي يوسف (ع) لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لولّاه من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة ، وعن الصّادق (ع) انّه قال يجوز ان يزكّى الرّجل نفسه إذا اضطر اليه اما سمعت قول يوسف (ع): (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، أقول : كأنّ غرضه من ذلك تسلّطه على ما يحتاج النّاس اليه ليتوجّهوا اليه فيسمعوا بذلك كلامه ويبلّغ رسالته وآمن بعد ذلك الملك على يده ووكل الأمر اليه ودبّر في السّبع السّنين المخصبة في تحصيل الحبوب وحفظها وشرع في السّنين المجدبة ببيعها حتّى حصّل جميع اموال مصر ومواشيها وضياعها وعبيدها وإمائها ورقاب أهلها له وصار مالكا للكلّ ، وفي بعض الاخبار انّه بعد الخصب قال للملك : ايّها الملك ما ترى فيما خوّلنى ربّى من ملك مصر وأهلها اشر علينا برأيك فانّى لم أصلحهم لافسدهم ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكنّ الله نجّاهم على يدي قال له الملك : الرّأى رأيك قال يوسف (ع) انّى اشهد الله وأشهدك انّى قد أعتقت أهل مصر كلّهم ، ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك ايّها الملك خاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الّا بسيرتي ولا تحكم الّا بحكمي ، قال له الملك : انّ ذلك لشرفى وفخرى ان لا أسير الّا بسيرتك ولا احكم الّا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له ولقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وانا اشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له وانّك رسوله فأقم على ما ولّيتك فانّك لدنيا مكين أمين (وَكَذلِكَ) عطف على محذوف اى فأنجينا يوسف (ع) من السّجن ومثل ذلك الإنجاء (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) أو مثل ذلك التّمكين المتعقّب للبلايا العديدة والمتاعب الكثيرة مكّنّا ليوسف (ع) الّذى كان من أبناء انبيائنا (ع) وجعلناه نبيّا فمن أراد التّمكين في ارض العالم الكبير أو ارض العالم الصّغير فليصبر على الرّياضات والبلايا وليتسل عن الجزع في المتاعب (فِي الْأَرْضِ) ارض مصر ما جاوزها كما في الخبر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) لتسلّطه على جميعها بل كون الجميع ملكها حقيقة وان كان أودعها ملّاكها السّابقة كما سبق (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) جواب سؤال كأنّه قيل : لم كان ذلك التّمكين؟ ـ فأجاب بأنّ فعلنا لا يسأل عنه ولأنّه كان محسنا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من تمكين يوسف (ع) في الأرض (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) بعد ما وقع القحط وأصاب كنعان أيضا القحط ليمتاروا لأهلهم وذلك انّ يعقوب (ع) أرسل بنيه سوى بنيامين مع بضاعة قليلة وكانت مقلا كما قيل (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ) لعدم تغيّر حالهم وتفرّس يوسف (ع) (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) غير عارفين له لتغيّر حاله عمّا عاهدوه عليه سنّا وصورة ومرتبة وهيبة ، نقل انّه كان بينه وبين أبيه ثمانية عشر يوما وكان أبوه في بادية وكان النّاس من الآفاق يخرجون الى مصر ليمتاروا به طعاما وكان يعقوب (ع) وولده نزولا في بادية فيها مقل فأخذ اخوة يوسف (ع) من ذلك المقل وحملوه الى مصر ليمتاروا به ، وكان يوسف (ع) يتولّى البيع بنفسه فلمّا دخل اخوته عليه عرفهم ولم يعرفوه كما حكى الله عزوجل (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) لمّا اعدّ لهم ما جاؤا لأجله وما يحتاجون اليه في سفرهم ، والجهاز ما يعدّ للسّفر ممّا يحتاج اليه (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وذلك انّه لمّا عرفهم جعل لهم مضيفا مخصوصا وأحسن ضيافتهم وتلطّف بهم وسائلهم عن محلّهم ونسبهم وسأل عن حال أبيهم وأولاده فأجابوه بالتّفصيل وقالوا : انّ لنا أخا من ابنيا

٣٦٦

لا من أمّنا فأحسن إليهم ووقّر ركائبهم من غير ان ينظر الى انّ بضاعتهم لا تفي بثمنها وجعل بضاعتهم اى ثمن المقل الّذى جاؤا به بضاعة في رحالهم ، وقيل : كانت بضاعتهم نعالا وأدما ، وقال (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) اؤدّيه من غير بخس (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لما رأيتم من حسن ضيافتي لكم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) بدخول بلادي بالغ في إياس اخوته تأكيدا لهم على الإتيان به (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ذلك الاجتهاد في أخذه من أبيه أو لفاعلون الإتيان به ، قيل : لمّا دخلوا عليه وعرفهم قال : من أنتم لعلّكم عيون؟ ـ وكان مقصوده الحيلة في ان يكون أحدهم عنده من غير معرفة بحاله قالوا : لسنا عيونا انّما نحن بنو أب واحد وهو يعقوب النّبىّ (ص) قال : كم كنتم؟ ـ قالوا : اثنى عشر ، ذهب واحد منّا الى البراري فهلك وبقينا أحد عشر ، قال : كم أنتم في بلدنا؟ ـ قالوا : عشرة ، قال : فأين الآخر؟ ـ قالوا : خلّفناه عند أبينا قال : فمن يشهد لكم؟ ـ قالوا : لا يعرفنا هاهنا من يشهد لنا ، قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وأتوني بأخيكم حتّى اصدّقكم فاقترعوا فأصاب شمعون (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) يعرفون حقّ ردّها أو يعرفون أعيانها ، فرغبوا في الرّجوع (إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) حكم بمنعه ان لم نذهب بأخينا (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) برفع المانع فانّ سبب المنع عدم ذهابنا بأخينا بنيامين ، وقرئ يكتل اى بنيامين لنفسه أو لنا أيضا اى يصير سببا للاكتيال أو يكتل الكيّال لنا برفع المانع ولمّا كانوا مسبوقين بما فعلوا بيوسف (ع) وخدعوا أباهم فيه تبادروا الى قولهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) تعييرا لهم على قولهم بما قالوا في حقّ يوسف (ع) ولم يفوا به (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (ع) (مِنْ قَبْلُ) ثمّ انصرف عنهم من الاعتماد على قولهم والتجأ الى الحافظ الحقيقىّ فقال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فعلى حفظه ورحمته أعتمد لا على قولكم في حقّ يوسف (ع) وأخيه ، نسب الى الخبر انّه تعالى قال : فبعزّتى لاردّنهما إليك بعد ما توكّلت علىّ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) اوعية متاعهم (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) ثمن مقلهم أو نعالهم واديمهم (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا) استبشارا (يا أَبانا ما نَبْغِي) يعنى لا مزيد على ذلك الإحسان حيث أحسن ضيافتنا ومثوانا وجعل بضاعتنا في رحالنا (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا) اى نذهب بأخينا ونمير أهلنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) أو نبغى من البغي اى لا نبغى ونمير أهلنا (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) بمصاحبة أخينا (ذلِكَ) الكيل الّذى كيل لنا (يْلٌ يَسِيرٌ) أو ذلك الكيل المزيد على اكيالنا كيل يسير لا يضايقنا الملك فيه أو هو من كلام يعقوب (ع) جوابا لبنيه وردّا عليهم يعنى ذلك الكيل المزيد كيل يسير لا ينبغي للعاقل ان يجعل ابنه في معرض المخاوف لمثل ذلك (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ) بلا وثيقة كما أرسلت يوسف (ع) (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) عهدا وثيقا من الله أثق به عليكم في حفظه (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب قسم محذوف اى احلفوا ، أو جواب حتّى تؤتون موثقا من الله فانّه في معنى القسم (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) اى الّا ان تمنعوا وتغلبوا بحيث لا تقدرون أو تهلكوا جميعا فلا يبقى منكم أحد (فَلَمَّا آتَوْهُ

٣٦٧

مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) استشهد بوكالة الله تأكيدا للوثيقة أو توكّلا عليه لا على الوثيقة يعنى انّى توكّلت عليه وفعلت ما كان علىّ من التّوسّل بالأسباب أو تيمّنا بذكره لإمضاء الوثيقة (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) لمّا علم انّ الملك وأعوانه عرفوهم وعلموا انّهم بنو أب واحد خاف عليهم العين فوصّاهم بحسب البشريّة بالتّدبير له في العين (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) ولمّا لم يعتمد على تدبيره قال (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وأمري بهذا التّدبير كان لمحض التّوسّل بالأسباب الّذى امر الله عباده به في التّوكّل (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) من الأبواب المتفرّقة (ما كانَ) أبوهم أو تدبيره أو دخولهم بحسب تدبيره (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ) من تقدير الله (مِنْ شَيْءٍ) شيئا من الإغناء أو شيئا من التّقدير فنسبوا الى السّرقة وأخذ بنيامين (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) وهي التّوسّل بالتّدبير مع التّوكّل على الله مع العلم بعدم إغناء التّدبير عن التّقدير (قَضاها) امضيها والاستثناء منقطع (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) بانّ التّدبير لا يغني من التّقدير (لِما عَلَّمْناهُ) لأجل تعليمنا ايّاه أو بالّذى علّمناه لا بكلّ الأشياء والآية اشارة الى سعته وكماله (ع) في مرتبة البشريّة والعمل بمقتضاها من حيث انّها تقتضي التّوسّل بالأسباب والمرتبة العقليّة من حيث انّها تقتضي الانقطاع عن الأسباب والعلم بالاستقلال المسبّب في كلّ ذي سبب وانّ الأسباب حجّب لظهور اثر المسبّب (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) انّ الحذر لا يغني من القدر أو لا يتّصفون بمرتبة العلم استدراك لما يتوهّم من انّه ان كان ذو علم ينبغي ان لا يظهر مقتضى البشريّة الّذى يوهم الجهل يعنى انّه ، وان كان ذو علم ولكنّ أكثر النّاس ليس لهم علم فابرز مقتضى البشريّة لموافقتهم ومنهم أبناؤه المخاطبون له ، أو المعنى أنّه لذو علم ومقتضى علمه التّوسّل بالأسباب في التّوكّل ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون انّ مقتضى العلم التّوسّل بالأسباب ما لم يخرجوا من عالم الأسباب (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) وكيفيّة دخولهم عليه وايوائه ايّاه مذكورة بتفصيلها في المفصّلات (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) لا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الاساءة الىّ وإليكم فانّها صارت سببا لرفعتنا وموجبا لسلطنتنا ويجمع الله بيننا وبين أبينا وإخوتنا في أحسن حال (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ) المشربة الّتى بها تكال الاطعمة (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) بنيامين (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) من قبل السّلطان (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) اسم للإبل الّتى تنقل السّيّارة متاعهم عليها الى مقاصدهم ثمّ غلّب على السّيارة الّتى فيها تلك العير (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) تورية عن سرقتهم يوسف (ع) وبيعه بعنوان الرّقيّة أو عن سرقتهم ذرّيّة عقولهم واستخدامها بل استرقاقها لنفوسهم حتّى لا يكون كذبا ، وقيل بعد ما فقد الصّواع نسب السّرقة إليهم من دون اذن يوسف (ع) ، وفي الاخبار انّه كذب في مقام الإصلاح وما سرقوا وما كذب لانّ الكذب في مقام الإصلاح ليس بكذب وذلك لانّ يوسف (ع) أراد إصلاحهم بأخذ أخيه وخلاصهم من نفوسهم الامّارة بتضرّعهم الى الله والتجائهم الى يوسف (ع) وتذلّلهم عند أبيهم (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) حال بتقدير قد ، أو عطف قبل تمام المعطوف عليه ، أو اعتراض ووجهه التّنبيه على كمال اطمينانهم وتجرّيهم على المجادلة لقطعهم بأنّهم غير فاعلين (ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ

٣٦٨

وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) قيل : كان ذهبا أو فضّة مكلّلا بالجواهر الثّمينة ولذلك وعدوا من جاء به حمل بعير من الغلّة مع انّها كانت غالية ولغلائها جعلوا مكيالها غاليا (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قالُوا تَاللهِ) قسم لتأكيد الدّعوى (لَقَدْ عَلِمْتُمْ) تأكيد آخر استشهدوا بعلمهم على صدق الدّعوى لانّهم كانوا إذا دخلوا بلاد مصر جعلوا على أفواه رواحلهم اوكية لئلّا تدخل زراعاتهم كما قيل ، وقيل : ردّوا البضاعة المردودة إليهم الى الملك ظنّا منهم انّهم جعلوها فيها سهوا واشتهر بذلك أمانتهم وصلاحهم (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ قالُوا فَما جَزاؤُهُ) اى السّارق أو السّرق (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) هو جزاؤه تأكيد للقضيّة الاولى ولذا أتى بالفاء اشارة الى ابلغيّته في التّقرير ، أو من موصولة مبتدء أو شرطيّة وقوله فهو جزاءه خبره أو جزاء الشّرط ودخول الفاء على الاوّل لتضمّن المبتدء معنى الشّرط والجملة خبر جزاؤه (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يدلّ هذا القول على انّ هذا كان من شريعة يعقوب (ع) لا انّهم قالوه اطمينانا وتجريّا ولا انّه كان دين الملك كما قيل (فَبَدَأَ) المؤذّن أو يوسف (ع) لانّهم رجعوا أو ردّوا الى العزيز بعد نسبة السّرقة إليهم (بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) لئلّا يرتابوا انّه كان من فعلهم (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ) الكيد الّذى هو إخفاء الصّواع وتفويض الحكم الى اخوته حتّى يحكموا باسترقاق السّارق موافقا لشريعة أبيهم (كِدْنا لِيُوسُفَ) وما يترائى من تخلّل اداة التّشبيه بين الشّيء ونفسه مدفوع بانّ ذلك مثل ان يقال : الإنسان كزيد بتخلّل الكاف بين الكلّىّ والجزئىّ (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) في طريقته وآداب سياسته (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقوله كذلك كدنا ليوسف رفع لتوهّم الخديعة من يوسف (ع) وانّه ينافي مقام النّبوّة (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) الى عليم لا عليم فوقه ، قيل : أخذ عمّال يوسف (ع) بيد بنيامين واسترقّوه فرجع اخوته ضرورة اليه ، وقيل : رجعوا اوّل المشاجرة اليه (قالُوا) لشدّة حزنهم وغيظهم (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) اشارة الى منطقة إسحاق (ع) الّتى ورثتها عمّته فربطتها في حقوه لتأخذه حبّا له ، وقيل انّ : ليان ابارا حيل امّ يوسف (ع) كان يعبد الأوثان وكان له صنم من الّذهب فأخذه يوسف (ع) خفية وأعطاه أمّه ترحّما على جدّه في استخلاصه من عبادة الصّنم ، وعلى أمّه في استخلاصها من الفقر ، وقيل : انّه كان يأخذ الطّعام من خوان أبيه ويعطيه الفقراء خفية ، وقيل : انّه أخذ شاة من أغنام أبيه وأعطاها فقيرا خفية ، والاوّل هو المروىّ عن ائمّتنا (ع) والمشهور عند أهل مذهبنا (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) اى كلمة قد سرق أخ له من قبل ليعيّرهم بها ، أو اسرّ هذه الكلمة من حيث كذبها ، أو اسرّ كلمة أنتم شرّ مكانا فيكون من قبيل العود على ما تأخّر ويكون قوله قال أنتم شرّ مكانا بدلا منه ويكون المعنى اسرّ مقالة أنتم شرّ مكانا (فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) يعنى (قالَ) في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) مرتبة ومنزلة اى حالا أو نسب الشّرّ الى المكان والمحلّ مجازا للمبالغة في وصفهم بذلك يعنى ان كان نسبة السّرقة الى أخيه صحيحة فأنتم شرّ منه حيث دخلتم في امر فيه أذى أبيكم النّبىّ (ع) من الله وان لم يكن في الشّرّ معنى التّفضيل فالمعنى واضح (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) من نسبة السّرقة الى يوسف (ع) ، ولمّا تذكّروا حال أبيهم وحزنه وعهدهم المؤكّد باليمين في ردّ بنيامين انقبضوا

٣٦٩

والتجأوا الى يوسف (ع) وعلى سبيل التّضرّع والاستكانة (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) ذكروا في مقام استرحامه أو صافا ثلاثة : ابوّته له الموجبة لحزنه بفراقه ، وشيخوخته المستلزمة للتّرحّم ، وغاية كبره في السّنّ مبالغة في الشّيخوخة أو في المنزلة المستلزمة لمراعاته (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في أخذ أحدنا عوضه أو مطلقا أو إلينا سابقا (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) استثناء مفرّغ من الموجب لكون المستثنى منه محدودا اى ان نأخذا أحدا منكم الّا من وجدنا منكم متاعنا عنده ، أو من المنفىّ باعتبار المعنى لانّ المعنى ما نأخذ الّا من وجدنا متاعنا عنده ، أو لفظة الّا بمعنى الغير وكان الأصل نأخذ وأحدا الّا من وجدنا متاعنا عنده ثمّ حذف الموصوف وأقيم الصّفة مقامه (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) في استرقاق من لا يستحقّ الاسترقاق ؛ هذا بحسب الظاهر وامّا بحسب الواقع فالمعنى انّا لظالمون في أخذ من لم يأذن الله لي أو في أخذ من لم نجد متاعنا اى السّنخيّة منّا عنده (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ) بعد الالتجاء والمسئلة وعدم الاجابة (خَلَصُوا) من أصحاب العزيز وانفردوا عنهم (نَجِيًّا) للنّجوى أو متناجين والإفراد لكونه مصدرا أو وصفا شبيها بالمصدر (قالَ كَبِيرُهُمْ) في السّنّ وهو روبيل ، أو كبيرهم في الأمر والحكم وهو شمعون ، أو كبيرهم في العقل وهو يهودا كذا قيل (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) نسب الوثيقة الى الله لانّه (ع) استشهد به وقت العهد (وَمِنْ قَبْلُ) عطف على محذوف اى أخذ موثقا حين المسافرة الى مصر ومن قبل ، وعلى هذا فلفظة ما في قوله (ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) نافية والجملة مستأنفة أو حاليّة والمعنى ما فرّطتم في حقّ يوسف (ع) على سبيل التّهكّم أو ما فرّطتم في التّعدى على يوسف (ع) أو ما استفهاميّة تعجّبيّة أو ما زائدة وحينئذ فقوله من قبل مثل سابقه وفرّطتم جملة مستأنفة ، أو حاليّة أو من قبل متعلّق بفرّطتم والجملة حاليّة ، أو معطوفة على جملة الم تعلموا أو ما مصدريّة وما فرّطتم وفي يوسف معطوفان على اسم انّ وخبرها ومن قبل حال أو ما فرّطتم عطف على انّ واسمها وخبرها ومن قبل حال ، وفي يوسف متعلّق بفرّطتم ، أو من قبل خبر ما فرّطتم والجملة عطف على اسم انّ وخبرها ، أو على انّ وما بعدها أو ما موصولة واعرابها كاعراب المصدريّة (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) ارض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) باستخلاص أخي أو بالفرج لي باىّ نحو شاء (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) حكاية مجادلة اخوة يوسف (ع) معه مذكورة في المفصّلات (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) على ما شاهدنا (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) حيث رأينا استخراج الصّواع من رحله (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) حتّى نعلم باطن امره وانّه سرق أو نسب الى السّرقة من غير جرم ، وقيل : المعنى كنّا نحفظه حين حضوره عندنا عن أمثال ما نسب اليه من السّرقة وما كنّا في غيبه حافظين له لعدم إمكان الحفظ حينئذ ، وقيل : الغيب بمعنى اللّيل في لغة حمير والمعنى وما كنّا في اللّيل حافظين له عن مثل السّرقة ، وقيل : انّه جواب لسؤال يعقوب (ع) حين قال : من قال للملك جزاء السّرقة الاسترقاق؟ قالوا : نحن قلناه ، قال : فلم قلتم ذلك؟ ـ قالوا ما شهدنا الّا بما علمنا من شريعة الأنبياء (ع) وما كنّا للغيب حافظين حتّى نعلم انّ الصّواع في رحله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) بإرسال من يسئل أهلها عن تلك القضيّة أو بالمسئلة ممّن كان في العير من أهل مصر (الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تصريح

٣٧٠

بصدقهم اللّازم من أخبارهم تأكيدا ولذلك اكّدوه بانّ واللّام واسميّة الجملة وهو عطف على انّ ابنك سرق وتوسيط قوله واسئل القرية الى الآخر لاشعار بعلّة صدق ادّعاء الصّدق ، ويحتمل ان يكون وصيّة كبيرهم الى قوله واسئل القرية ويكون واسئل القرية من كلام الرّاجعين الى يعقوب (ع) حين المخاطبة معهم ويكون المعنى فرجعوا وقالوا لا بينهم انّ ابنك سرق فكذّبهم يعقوب (ع) فقالوا واسئل القرية (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) معنى ظاهره انّ إبني ما سرق وانّكم تكذبون وخدعتمونى في إذهابه ، كما انّ معنى هذه الكلمة كان في قصّة يوسف (ع) هكذا والحال انّهم ما خدعوا في بنيامين وما كذبوا في اتّهامه بالسّرقة وما سوّلت لهم أنفسهم في حقّه امرا ، ويعقوب (ع) كان نبيّا ولم يفرّق بين القضيّتين والجواب انّ المعنى بل سوّلت لكم أنفسكم في يقينكم بنسبة السّرقة اليه والحال انّه ما سرق أو سوّلت لكم أنفسكم وزيّنت إصراركم على إذهابه بمظنّة تكثير النّفع غافلا عن تقدير الرّبّ فجعلتمونى مضطرّا في الاذن وادخلتموه في الضّرر (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ) بثلاثتهم (جَمِيعاً) فانّ الصّبر مفتاح الفرج (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بعواقب الأمور ولعلّ الابتلاء بفراقهم كان خيرا لي ولهم (الْحَكِيمُ) في فعاله يفعل ما يقتضيه حكمته وهو تسلية لنفسه وتسهيل للصّبر على البلاء (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) رغبة في الخلوة والعزلة لغاية الحزن لمّا رأى انّ إقباله على أولاده واعتماده عليهم ذهب بثلاثة منهم تنبّه انّ الاعتماد على الغير يوجب التّضرّر وتولّى عنهم ولكن لمّا كان حبّ يوسف (ع) قويّا في قلبه لم يقو على التّسلّى عنه (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) كناية عن العمى ، وقيل عن كثرة البكاء لانّ الحدقة إذا اغرورقت في الدّمع تترائى مبيّضة (فَهُوَ كَظِيمٌ) بمعنى مكظوم اى مملوّ من الغيظ على أولاده أو من الحزن على يوسف (ع) أو بمعنى كاظم مثل الكاظمين الغيظ اى ممسك غيظه أو حزنه غير مظهر الّا الخير ، والفاء للسّببيّة المحضة مشعرة بسببيّة ما بعدها لما قبلها سببيّة ما قبلها لاعتقاد بما بعدها (قالُوا) بعد ما رأوا انّه ما زال يذكر يوسف (ع) بعد طول المدّة وكثرة البلايا لانّهم كانوا قد غلب عليهم القحط وطال مدّة فراق يوسف (ع) قريبا من ثمانين سنة أو سبعين أو أربعين أو اثنتين وعشرين أو ثماني عشرة (تَاللهِ تَفْتَؤُا) بحذف لا اى لا تفتؤ (تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) مريضا مشفيا على الهلاك (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) بلائي من البثّ بمعنى الشّرّ (وَحُزْنِي) وما أتجرّعه من البلاء (إِلَى اللهِ) لا إليكم فدعوني وشأنى (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) من قبل الله بايحائه الىّ حيوة يوسف (ع) ووصاله لي أو من رحمته وانّه لا يبتلى الّا ويأتى بعده بالفرج (ما لا تَعْلَمُونَ يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا) تفحّصوا (مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) من فرجه (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) فخرجوا الى مصر في طلب إخوتهم (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) على يوسف (ع) (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) المجاعة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) رديّة غير عزيزة القيمة وكانت مقلا أو دراهم رديّة لا تنفق في ثمن الطّعام أو خلق الجوالق والحبل ورثّ المتاع أو الصّوف والسّمن اللّذين هما متاع العرب أو الصّنوبر وحبّة الخضراء أو اقطا أو النّعال والأدم (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) كما أوفيت لنا سابقا (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) بلا ثمن أو بأخينا بنيامين (إِنَّ اللهَ

٣٧١

يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) وقد كانت الشّدّة بلغت بهم الغاية مع الخجلة عمّا نسب إليهم من السّرقة ولذلك استكانوا غاية المسكنة وعرّفهم يوسف (ع) نفسه ورقّ لهم وفرّج عنهم و (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) ولمّا رأى خجلتهم من معرفته وما صنعوا به اعتذر عنهم فقال (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) ولعلّه كان المراد بما فعلوا بأخيه إذلالهم له لأنّه ما كان يقدر على التّكلّم معهم الّا بالعجز والانكسار. روى عن الصّادق (ع) كلّ ذنب عمله العبد وان كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه معصية ربّه فقد حكى الله تعالى قول يوسف (ع) لإخوته هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) استفهام تقريرىّ؟ حيث علموا من مكالمته انّه يوسف (ع) ولذلك أكّدوه بتأكيدات ، وقرئ بدون همزة الاستفهام على الاخبار أو على حذف اداة الاستفهام ، وقرئ آنّك بالمدّ على تخفيف الهمزة الثّانية (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) برفع منزلتنا وإعطاء الملك والسّلطنة لنا (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله في مخالفة رضاه (وَيَصْبِرْ) على البلاء والطّاعات وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) اعترفوا بخطائهم في تدبيرهم في مقابلة التّقدير أو بخطائهم في خلاف طاعة الله ورضا أبيهم ، ولمّا رأى خوفهم من عتابه ومن عقوبة الله آمنهم من ذلك و (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فلا تخافوا من عتابى (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فلا تخافوا من عقوبته (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) عطف فيه معنى التّعليل أو حال كذلك أو عطف أو حال لازدياد رجائهم يعنى يغفر لكم ويتفضّل عليكم فوق المغفرة لانّه ارحم الرّاحمين (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) وقد ابتلّ القميص بدموعه أو كان قميص إبراهيم (ع) الّذى أتى به جبرئيل من الجنّة حين إلقاء نمرود في النّار فصارت بردا وسلاما وقد جعله إبراهيم (ع) تعويذا لإسحاق (ع) وجعله إسحاق (ع) تعويذا ليعقوب (ع) وجعله يعقوب (ع) تعويذا ليوسف (ع) على اختلاف الاخبار (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) عير اخوة يوسف (ع) الّتى فيها القميص عن مصر (قالَ أَبُوهُمْ) لمن حضره (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تنسبونى الى الفند والخرافة من الكبر (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) يهودا ابنه أو ابن الجارية الّذى باعه يعقوب (ع) في صغره (أَلْقاهُ) اى القميص (عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) لانتعاش الشّوق والحرارة الغريزيّة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) استفهام تعجّب والمحكيّ محذوف يعنى انّ يوسف حىّ وانّى ألاقيه أو المحكيّ قوله (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقد نقل مكاتبات يعقوب (ع) وعزيز مصر بعد المجاعة وارتهان واحد من ابنائه واسترقاق بنيامين من غير علم منه بانّ العزيز هو يوسف (ع) وكيفيّة تظلّم يعقوب (ع) الى يوسف (ع) وتأديب الله ايّاه ببثّ شكواه الى غيره تعالى في المفصّلات (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) تضرّعوا اليه وتابوا ممّا فعلوه واعترفوا بسوء فعالهم (إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) تسويف الاستغفار كما في الاخبار كان لانتظار وقت السّحر لانّ جنايتهم كانت على غيره

٣٧٢

فانتظر أشرف الأوقات رجاء الاجابة ، وامّا يوسف (ع) فانّ جنايتهم كانت على نفسه فبادر الى الاستغفار (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) روى انّ بينهم وبين يوسف (ع) كان مسير ثمانية عشر يوما وأسرع العير الّتى جاءت بالبشارة في تسعة ايّام وسافر يعقوب (ع) مع أولاده أيضا في تسعة ايّام (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) يعقوب وأمّه راحيل وروى انّ أمّه توفّيت في نفاس بنيامين وتزوّج يعقوب بأختها خالة يوسف (ع) واسمها كانت ياميل أو يامين وتسمية الخالة امّا شائعة وكانت مربّية ليوسف (ع) وتسمية المربّية أيضا أمّا شائعة (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الاستثناء للتّيمّن ولذلك قدّمه على آمنين حالا من فاعل ادخلوا وانّما دخلوا عليه قبل دخولهم مصر لانّه استقبلهم ونزل لهم في بيت أو مضرب خارج مصر. عن الصّادق (ع) انّ يوسف (ع) لمّا قدم عليه الشّيخ يعقوب (ع) دخله عزّ الملك فلم ينزل اليه فهبط عليه جبرئيل (ع) فقال : يا يوسف (ع) ابسط راحتك فخرج منها نور ساطع فصار في جوّ السّماء فقال يوسف (ع) : يا جبرئيل (ع): ما هذا النّور الّذى خرج من راحتي؟ ـ فقال : نزعت النّبوّة من عقبك عقوبة لما لم تنزل الى الشّيخ يعقوب (ع) فلا يكون في عقبك نبىّ ، وفي خبر آخر : جعلت النّبوّة في ولد لاوى أخيه الّذى نهى الاخوة عن قتله ، وقال : لن أبرح الأرض فشكر الله له ذلك وكان أنبياء بنى إسرائيل (ع) من ولده (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكان سجودهم ذلك عبادة لله (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) لم يذكر ما فعل اخوته به ونجاته منهم لئلّا يكون تثريبا عليهم (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) لانّهم كانوا أصحاب البدو والمواشي ينتقلون في المياه والمراعى (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) وسوس وأفسد (بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) نسب فعل الاخوة الى الشّيطان مراعاة لهم (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) دقيق علما وعملا لما يشاء فيدبّره على ادقّ ما يكون بحيث لا يدرك مسالك تدبيره أحد (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) البالغ في العلم (الْحَكِيمُ) الكامل في العمل ، ولمّا تمّ له النّعمة بإيتاء الملك والإنجاء من المهالك والجمع بينه وبين أرحامه حين كمال العزّة والسّلطنة توجّه الى الله وتذكّر نعمه فقال (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) ظاهرا وباطنا (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) بعضا من تأويلها (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ثمّ طلب حسن العاقبة كما أحسن اليه في الدّنيا فقال (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الكاملين في الصّلاح ، في الخبر عاش يعقوب بن إسحاق (ع) مائة وأربعين سنة ، وعاش يوسف (ع) مائة وعشرين سنة ، وفي الخبر : دخل يوسف (ع) السّجن وهو ابن اثنى عشر ومكث فيها ثماني عشرة سنة وبقي بعد خروجه ثمانين سنة ، وعاش يعقوب (ع) بمصر حولين ، وروى غير ذلك الى اربع وعشرين سنة (ذلِكَ) المذكور من قصّة يوسف (ع) واخوته وحزن يعقوب (ع) وامرأة العزيز ومراودتها وسجن يوسف (ع) وسلطنته واجتماعه مع أبويه واخوته (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) من أنباء ما غاب عنك وعن غيرك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا محمّد (ص) (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى اخوة يوسف (ع) (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) عزموا على الأمر الّذى اتّفقوا عليه (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) بالنّسبة الى يعقوب (ع) ويوسف (ع) فليس علم ذلك لك الّا بالوحي (وَما أَكْثَرُ

٣٧٣

النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ) على ايمانهم (بِمُؤْمِنِينَ) استدراك بمنزلة ولكنّ ما أكثر النّاس مع ظهور أمثال تلك الآيات والاخبار المغيّبة من مثلك الامّىّ بمؤمنين بك وبرسالتك ولو حرصت على ايمانهم وبالغت فيه (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ) اى على التّبليغ أو على الاخبار بانباء الغيب أو على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) حتّى يكون ذلك مانعا من ايمانهم (إِنْ هُوَ) اى التّبليغ أو الاخبار بتلك الأنباء أو القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سماوات العالم الكبير والعالم الصّغير وكذا في اراضيهما (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) فلا غروفى اعراضهم عمّا ظهر منك من الآيات وهو تسلية له (ص) (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) اى ما يذعن أو ما يؤمن بالايمان العامّ أو بالايمان الخاصّ (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) في الوجوب أو في الآلهة أو في العبادة أو في الطّاعة أو في الولاية واقلّه في الوجود والشّهود (أَفَأَمِنُوا) اى الّذين أنكروا رسالتك أو الّذين آمنوا مع الإشراك تهديد لهم حتّى يخلصوا التّوحيد ويستوجبوا المزيد (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) عقوبة تغشاهم (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) ساعة القيامة الصّغرى أو الكبرى أو ظهور القائم عجّل الله فرجه (بَغْتَةً) من غير ظهور علامة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حتّى يستعدّوا ويتهيّئوا لها (قُلْ هذِهِ) الدّعوة الى التّوحيد والخلاص من الشّرك وتأسيس قانون المعاش بحيث يؤدّى الى حسن المعاد (سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ) تفسير لهذه سبيلي مع زيادة سواء جعلت بدلا من هذه سبيلي أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر أو حالا عن سبيلي بتقدير عائد لها (عَلى بَصِيرَةٍ) بصحّة دعوتي لكون دعوتي عن اذن صريح من الله بلا واسطة بخلاف طريقة غيري من الدّاعين الى الباطل فانّهم لا بصيرة لهم بدعوتهم وصحّتها لعدم كونها بإذن صريح من الله بلا واسطة أو بواسطة أو على بصيرة بالمدعوّ اليه لكونه مشهودا لي صحّته معاينا حقّيّته بخلاف غيري من الدّاعين لعدم علمهم بصحّة المدعوّ اليه وحقّيّته فضلا عن معاينتهم ايّاه أو على بصيرة بالدّعوة والمدعوّ اليه كليهما (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) من الدّاعين بإذني بلا واسطة أو بواسطة فانّهم أيضا على شهود بصحّة الدّعوة والمدعوّ اليه أو على يقين ان لم يكن شهود فمن لم يكن دعوته بإذن من الله أو ممّن اذن الله ولم يكن على يقين بالمدعوّ اليه لم يكن من اتباعه ولا على سبيله ، ولمّا كان قوله (هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) مشعرا بالاشراك في الوجود لانّه اثبت انانيّة لنفسه وسبيلا ودعوة واتّباعا قال (وَسُبْحانَ اللهِ) اى اسبّح الله عن الإشراك فانّ إثبات الكثرة بحسب مراتب الوجود توسعة للوحدة وتأكيد لها لا انّها منافية لها ولذلك قال (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في الوجود فيما اثبّته (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) ردّ لانكارهم الرّسالة من البشر (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ونميّزهم عن غيرهم بمحض الوحي وأنت مثل سائر الرّسل (ع) أتى بالمستقبل إحضارا للحال الماضية واشعارا بتكرر الوحي وتجدّده على الرّسل (ع) (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يعنى من الاناسىّ المتوطّنين في الأرض لا من الاملاك المتنزّلة من السّماء المتمثّلة بصور الرّجال أو لا من أهل البدو فانّ البدوىّ لا يستعدّ للرّسالة وقبول الوحي (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير أو الصّغير أو ارض القرآن أو ارض احكام الشّريعة أو ارض السّير والاخبار الماضية (فَيَنْظُرُوا

٣٧٤

كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الرّسل والمرسل إليهم المؤمنين والمكّذبين فيعتبروا بحالهم وينصرفوا عن تكذيبك ويقبلوا على تصديقك (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من حسن العاقبة في الدّنيا الّذى عرفتموه من أخبارهم (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشّرك وتكذيب الرّسل (ع) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من حسن العاقبة وسوئها في الدّنيا حسن العاقبة وسوئها في الآخرة ؛ وقد قال المولوىّ قدس‌سره :

سحر رفت ومعجزه موسى گذشت

هر دو را از بأم بود افتاد طشت

بانگ طشت سحر جز لعنت نماند

بانگ طشت دين بجز رفعت نماند

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) هو غاية لمحذوف مدلول عليه بسابقه والتّقدير فقد سمعتم طول تكذيب الأمم الماضية للرّسل (ع) وامهال الله ايّاهم أو فقد كذّب الأمم الماضية الرّسل (ع) حتّى إذا استيأس الرّسل (ع) عن ايمان الأمم وإنجاز الله وعده (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرئ بالتّشديد والبناء للمفعول وبالتّخفيف والبناء للمفعول والفاعل وعلى كلّ القرائات يحتمل إرجاع فاعل ظنّوا الى الرّسل والمرسل إليهم المؤمنين والمرسل إليهم المكذّبين وإرجاع ضمير انّهم الى كلّ وقد ورد في الخبر في وجه تخفيف كذبوا والبناء للمفعول وإرجاع الضّمائر الى الرّسل انّهم وكلّهم الله الى أنفسهم طرفة عين أو اقلّ حتّى ظنّوا انّهم قد كذبوا في وعد النّصر وإتيان العذاب على المكّذبين بتمثّل الشّيطان لهم بصورة الملك الموحى واخبار النّصر والعذاب (جاءَهُمْ نَصْرُنا) وذلك لانّه تعالى لغاية رحمته بعباده يتوانى بهم خصوصا في وعد نزول العذاب وإهلاكهم (فَنُجِّيَ) قرئ نجّى ماضيا مبنيّا للمفعول من التّفعيل ومضارعا متكلّما مع الغير من الأفعال ، وماضيا معلوما من الثّلاثىّ المجرّد (مَنْ نَشاءُ) من الرّسل (ع) واتباعهم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أتى بالمضارع الدّالّ على الاستمرار مصرّحا بوصف المهلكين من الأمم الماضية بالمجرمين اشعارا بانّ ذلك ثابت لمن أجرم من أهل كلّ عصر تعريضا بامّة محمّد (ص) (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) قصص اخبار الرّسل (ع) وأممهم المؤمنين والمكذّبين ، أو قصص اخبار يوسف (ع) وأبيه (ع) واخوته (عِبْرَةٌ) ما يعتبر به ويستبصر (لِأُولِي الْأَلْبابِ) فانّ غيرهم يمرّون عليها وهم عنها معرضون يستمعونها كالاسمار (ما كانَ) هذا القصص أو هذا الكتاب الّذى فيه قصصهم (حَدِيثاً يُفْتَرى) كالاسمار المختلقة (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ولكن وحيا من الله لانّه تصديق الّذى بين يديه من الكتب السّماويّة السّالفة والاخبار الحقّة الماضية في أحوال الأمم الماضية والشّرائع السّابقة (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) من أحوال يوسف واخوته وأبيه أو من الأمور الماضية والآتية والسّنن الحقّة والباطلة (وَهُدىً) يعنى هو حقيقة الهدى من الله تصوّرت بصور الحروف والنّقوش والمعاني الذّهنيّة أو هاديا فانّه هدى باعتبار وهاد باعتبار آخر (وَرَحْمَةً) من الحقّ تعالى متصوّرة كذلك نازلة إليكم أو سبب رحمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فانّ غيرهم يضلّهم ذلك القرآن أو القصص ويصير نقمة عليهم ، نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قال : لا تعلّموا نساءكم سورة يوسف (ع) ولا تقرئوهنّ ايّاها فانّ فيها الفتن ، وعلّموهنّ سورة النّور فانّ فيها المواعظ ؛ والسّرّ في ذلك انّهنّ لضعف نفوسهنّ سريعة التّأثّر بالمسموع.

٣٧٥

سورة الرّعد

مكّيّة كلّها ، وقيل : مكّيّة الّا آية آخر السّورة ، فانّها نزلت في مثل سلمان وعبد الله بن

سلام ، وقيل : انّها مدنيّة الّا آيتين وهما قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ) ، وما بعدها.

عدد آيها عند قرّاء كوفة ثلاث وأربعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر) قد مضى نظائره (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) في الآية وجوه من الاعراب نظير ما سلف في اوّل البقرة ، والمراد بالّذى انزل القرآن أو الأحكام أو القصص أو الولاية (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) مبتدء وخبر أو مبتدء وصفة والخبر يدبّر الأمر أو يفصّل الآيات مع كون يدبّر الأمر حالا أو صفة لأجل مسمّى بتقدير فيه أو مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) مفهوم القيد يدلّ على انّ هناك عمدا ولكن لا ترونها ، كما روى عن الرّضا (ع) ولمّا كان تماميّة العرش بوجه بتماميّة خلقة السّماوات والأرض والاستواء عليه والاحاطة به بعد تماميّته أشار اوّلا الى خلقة السّماوات مرتفعة المستلزمة لخلقة الأرض ، فانّ الارتفاع لا يتصوّر الّا بتحقّق الأرض ثمّ أتى بالاستواء معطوفا بثمّ للاشعار بذلك فقال (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد مضى معنى العرش والاستواء عليه في سورة الأعراف (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) في مدّة معيّنة لانقضاء دورة من الفلك وبانتظام تلك المدّة في دورانها ينتظم أمور العالم كما هو مشهود وهو دليل على كمال حكمته وعلمه ، أو كلّ يجرى الى غاية معلومة لجريه وهو وقت خراب السّماوات والأرضين (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) المعلوم وهو فعله الّذى هو إضافته الاشراقيّة المسمّاة بالمشيّة والولاية المطلقة والحقيقة المحمّديّة (ص) ، ومعنى تدبيره انزاله من مقامه العالي وتعليقه بكلّ ما يتعلّق به على وفق التّدبير الكامل والحكمة البالغة فالمعنى ينزّل الأمر بالتّدبير الى أراضي القوابل ، ولمّا كان الآيات في مقام الأمر بنحو الإجمال والوحدة موجودة بوجود واحد جمعىّ وبعد التّنزيل الى مقام الكثرة تصير موجودة بوجودات متكثّرة مفصّلة قال بعد ذلك (يُفَصِّلُ الْآياتِ) التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة والتّدوينيّة

٣٧٦

القرآنيّة (لَعَلَّكُمْ) بتدبير الأمر على ما اقتضته الحكمة من غير نقص وفتور فيه ، وبتفصيل الآيات الدّالّة على كمال قدرة صانعها وتكثيرها تعلمون انّ لها صانعا عليما حكيما قديرا ترجعون اليه وبعد ذلك العلم (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) فيكون عملكم على ما يرتضيه لا على ما يسخطه (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها لتسهيل توليد النّبات والحيوان فيها وتعيّشها على أكمل وجه (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت لتسهيل إخراج الماء من تحتها وإجرائها على وجه الأرض لسقي الزّروع والأشجار ولذلك ضمّ الأنهار الى الجبال فقال (وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) فائدة التّأكيد بالاثنين الاشعار بانّ الاهتمام بالعدد لا بالجنس فقط والمراد بالاثنين الحاصل في الجبال والجزائر من دون تربية مربّ ، والمغروس والمزروع في البساتين والمزارع بتربية الإنسان كما في قوله ثمانية أزواج من الضّأن اثنين الآية (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يستره ويحيط به (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) عديدة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) باستعمال عقولهم في المبادى واستنباط الغايات منها وترتيب الحكم والمصالح عليها ، ولمّا كان في رفع السّماوات وجعل الأرض وسطها وتسخير الشّمس والقمر في جريهما وفي تدبير الأمر وتعليقه بكلّ على حسب حاله ، وفي مدّ الأرض وجعل الرّواسى والأنهار والأشجار والاثمار واللّيل والنّهار مصالح لا تحصى وحكم لا تضبط وآيات لا تعدّ والانتقال إليها يحتاج الى استعمال المتخيّلة باستخدام العقل والانتقال من المبادى إليها خصّصها بالمتفكّرين بخلاف ما بعده ، فانّ كثرتها ليست بهذه المثابة ولذا اكتفى فيه بمحض العقل (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) متلاصقات مختلفات في الأثر والزّرع (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) نخلات من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الثّمر والحبوب من حيث المقدار والشّكل واللّون والطّعم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالّة على علمه وقدرته وكمال حكمته وعلى انّ الاناسىّ وان كانوا من أصل واحد قد يختلفون في الآثار والأعمال والأخلاق (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمّد (ص) من إنكارهم المعاد مع ظهور دلائله ، أو ان تعجب ايّها المنكر للمعاد والأحياء بعد الاماتة ، أو الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (فَعَجَبٌ) تعجّبهم عن الاعادة و (قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)

اعلم ، انّ الإنسان كالعالم الكبير ذو مراتب كثيرة بعضها بالإمكان وبعضها بالفعل فمرتبة منه البدن الجسمانىّ ، ومرتبة منه النّفس النّباتيّة ، ومرتبة منه النّفس الحيوانيّة ، ومرتبة منه النّفس الانسانيّة ، ومرتبة القلب ، ومرتبة الرّوح ، وهكذا الى ما لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم وأكثر النّاس لمّا لم يتجاوزوا المدارك الحيوانيّة ولم يشاهدوا بالشّعور التّركيبىّ المراتب المجرّدة من الإنسان بل حصروه فيما شاهدوا منه من مرتبته الجسمانيّة وفعليّته الطّبيعيّة وشاهدوا انّ الموت يفنى تلك المرتبة ويفسدها ، ولم يعلموا انّ انسانيّة البدن انّما كانت عرضيّة بعرض تعلّق النّفس الانسانيّة به وانّه حجاب للانسانيّة مانع عن ظهورها وفعليّتها ولولاه لا نجلت كمال الانجلاء قالوا متعجّبين : أئذا متنا! بنسبة الموت الى أنفسهم باعتبار موت البدن وكنّا ترابا! بنسبة التّرابية والفساد الى أنفسهم بترابيّة البدن وفساده أئنّا لفي خلق جديد؟! ولو انّهم علموا انّ البدن مرتبة نازلة من الإنسان بل حجاب وقيد له وانّ الإنسان حقيقة مجرّدة منزّهة عن الفساد باقية دائمة لما قالوا ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وقدرته وسعته

٣٧٧

ونعمته البالغة في حقّ الإنسان وتوسعته وبسطه بحسب مراتب العالم (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ) النّاشئة من الطّبع والنّفس الحيوانيّة (فِي أَعْناقِهِمْ) فلا يقدرون على ان يرفعوا رؤسهم فيشاهدوا مقامات الإنسان فيعلموا انّ فساد البدن لا يفنيه بل يقويّه (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعذاب والعقوبة (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يعنى دون الحسنة فانّه يستعمل تلك الكلمة في هذا المعنى كثيرا (وَقَدْ خَلَتْ) والحال انّه قد مضت (مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) جمع المثلة بفتح الميم وضمّ الثّاء وفتحها بمعنى العقوبة من مثل بفلان نكّل والمعنى قد مضت العقوبات على الأمم الماضية الّذين صاروا أمثالا في الاشتهار ولا يعتبرون بها لغاية حمقهم وجهلهم ، وقرئ المثلات بفتح الميم وضمّ الثّاء أو سكونها ، وبضمّ الميم وضمّ الثّاء أو سكونها ، وبفتح الميم والثّاء ، ونسب الى أمير المؤمنين وامام المتّقين (ع) انّه قال : احذروا ما نزل بالأمم من قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال فتذكّروا في الخير والشّرّ أحوالهم واحذروا ان تكونوا أمثالهم (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) فلذا لا يجيبهم عن استعجالهم بالعذاب (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) إذا أخذ العباد (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّ كفرهم بالله ستر عنهم الآيات الدّالّة على صدقه فاقترحوا نزول آية من الآيات كأنّه لم ينزل عليه شيء من الآيات (إِنَّما أَنْتَ) بشأن الرّسالة لا بشأن الولاية (مُنْذِرٌ) فلا بأس عليك آمنوا أو لم يؤمنوا ، قبلوا أو لم يقبلوا ، وهو تسلية له (ص) عن عدم اجابة قومه (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) في عصرك ومن بعدك وقد مضى معنى الإنذار وانّ الرّسول كمن ينبّه من النّوم وينذر من المخاوف من كان في بادية لا طريق فيها الى عمران وكان فيها سباع كثيرة وحيّات مهلكة وموذيات قويّة ولم يشعر بضلالته وبمهلكات تلك البادية فاذا تنبّه وأنذر طلب لا محالة من يدلّه على طريق العمران ويخرجه من تلك البادية ، وذلك الدّالّ هو الهادي الّذى يوصله الى المعمورة (اللهُ يَعْلَمُ) استيناف كلام لإظهار كمال علمه وقدرته في مقابل الآلهة الّتى هي في كمال العجز والجهل ليكون حجّة على صحّة دعوته وبطلان دعوتها (ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) من كلّ نوع من الحيوان يعلم عدد المحمول وذكره وأنثاه وحسنه وقبيحه (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) قد فسّر في الاخبار غيض الأرحام بنقصان عدد الايّام عن تسعة أشهر وبعدم الحمل ، وفسّر بمطلق النّقص سواء كان في عدد الايّام أو في الخلقة أو في نقص الرّحم بعدم الحمل أو في إسقاط الجنين قبل التّمام ، وعلى هذا يجوز حمل ما تحمل على مدّة تحمل فيها يكون ما مصدريّة أو موصولة (وَما تَزْدادُ) على تسعة أشهر أو مطلق الزّيادة في الخلقة أو في عدد الايّام أو في عدد المحمول بان يكون اثنين أو ثلاثة ، وقد ورد في الاخبار انّ المرأة ما رأت الدّم في ايّام الحمل يزداد عدد الايّام على تسعة أشهر بعدده (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) لا يتجاوزه ولا ينقص عنه (عالِمُ الْغَيْبِ) ما غاب عن المدارك البشريّة (وَالشَّهادَةِ) ما يشهده المدارك أو عالم الغيب وعالم الشّهادة (الْكَبِيرُ) الّذى لا يوصف (الْمُتَعالِ) على كلّ شيء بعظمته (سَواءٌ مِنْكُمْ) في علمه (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) يعنى قول من اسرّ القول (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ) بارز (بِالنَّهارِ لَهُ) اى لله أو لمن اسرّ القول ومن جهر به (مُعَقِّباتٌ)

٣٧٨

ملائكة يعقّب بعضهم بعضا ، من عقّبه تعقيبا إذا جاء بعقبه (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ) حفظا ناشئا (مِنْ أَمْرِ اللهِ) أو من أجل امر الله ، عن الصّادق (ع) انّه قرئ الآية عنده هكذا فقال لقاريها : ألستم عربا؟! فكيف يكون المعقّبات من بين يديه؟ ـ وانّما المعقّب من خلفه ، فقال الرّجل : جعلت فداك كيف هذا؟ ـ فقال : انّما أنزلت له معقّبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله ومن ذا الّذى يقدر ان يحفظ الشّيء من امر الله وهم الملائكة الموكّلون بالنّاس ، وعن الباقر (ع) من امر الله يقول بأمر الله من ان يقع في ركىّ أو يقع عليه حائط أو يصيبه شيء حتّى إذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه الى المقادير وهما ملكان يحفظانه باللّيل وملكان بالنّهار يتعاقبانه ، وقيل : يحفظونه من امر الله بالاستمهال والاستغفار (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النّعم (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من حسن الحال والطّاعة والبرّ وصلة الأرحام (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) يعنى لا ناصر سواه ولا متولّى لأمور النّاس غيره (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) خائفين وطامعين أو اراءة خوف وطمع أو يريكم من البرق خوفا وطمعا يعنى يظهر فيكم ذلك (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) بالماء يعنى يرفعها الى السّماء (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) وتسبيح كلّ بحسبه وكذا حمده (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) وإجلاله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه (وَهُمْ) لغاية جهلهم وعنادهم وعدم تدبّر هم في تسخّر هم تحت تلك المسخّرات (يُجادِلُونَ فِي اللهِ) ومبدئيّته ومرجعيّته وتفرّده بالالهة واستحقاق العبادة وسائر صفاته (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) المماحلة المكائدة ، أو شديد القوّة من المحل بمعنى القوّة وفسّر بشديد الأخذ وشديد الغضب وهما من لوازم ما ذكر (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ).

اعلم ، انّ الحقّ المطلق هو الاوّل تعالى والحقّ المضاف هو فعله وكلّ حقّ حقّ بحقّيّة فعله بل متحقّق بفعله الّذى هو الولاية المطلقة كما مرّ مرارا ، وكلّ قول وفعل وخلق يكون عن ولاية اختياريّة كما انّها آثار اختياريّة فهو حقّ بحقّيّتها ، وكلّ مأذون من الله بلا واسطة لدعوة الخلق اليه تعالى أو لدعوة الخلق ايّاه وسيلة بينهم وبين الله فهو داع حقّ ومدعوّ حقّ ، ودعوة كل داع حقّ وكلّ مدعوّ حقّ هي دعوة الله تعالى ومنتهية اليه وخاصّة به لا مدخليّة لأحد فيها من حيث انّ الدّاعى والمدعوّ الحقّين مظهر ان له تعالى وما يظهر ويتعلّق بهما يظهر ويتعلّق بالله ، وامّا دعوة الدّاعى الباطل كخلفاء الجور ودعوتهم الى الإسلام والى الله وكذا دعوة الخلق المدعوّ الباطل كالأصنام والكواكب وخلفاء الجور باطلة وضائعة كنفس الدّاعى والمدعوّ حيث لا يترتّب عليه شيء ولا ينتهى به الى شيء ، وبالجملة كلّ من لم يأذن الله في كونه داعيا للخلق أو للوسائط بينه وبين الله أو مدعوّا باطل كائنا من كان ودعوته أيضا باطلة ، وعلى هذا فقوله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) يحتمل ان يكون معناه والدّاعون الّذين يدعون الخلق الى اتّباعهم من دون اذن الله أو حالكونهم من غير الله لا يستجيب المدعوّون لهم بشيء وان يكون معناه والمدعوّون الذين يدعوهم الخلق من دون اذن الله أو من غير الله لا يستجيب المدعوّون للخلق بشيء (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) الّا كاجابة الماء لمن بسط كفّيه مشيرا اليه وداعيا الى نفسه أو مغترفا له (لِيَبْلُغَ) الماء (فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) لعدم استشعاره بالاشارة أو عدم حصوله في الكفّ المبسوطة (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) لله (إِلَّا فِي ضَلالٍ) لانّ الكافر دعاءه لله دعاء للشّيطان من حيث

٣٧٩

لا يشعر أو ما دعاء الكافرين للخلق الى أنفسهم أو الى الله أو الى غيرهما ، أو ما دعاء الخلق للكافرين الّا في ضلال في ضياع وعدم ترتّب الأثر وهو كالنّتيجة لسابقه (وَلِلَّهِ) لا لغيره (يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ) من في (الْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) السّجود لغة الخضوع ولمّا كان غاية الخضوع السّقوط على التّراب لمن يخضع له سمّى سجدة الصّلوة بالمواضعة الشّرعيّة بالسّجود وإذا كان الخضوع عبارة عن كسر الانانيّة عند من يخضع له فكلّما كان هذا المعنى أتمّ كان الخضوع أكمل. ولمّا كان جميع الموجودات بالنّسبة اليه تعالى لا انانيّة لها بل كلّها لها حكم الاسميّة وعدم النّفسيّة بالنّسبة اليه تعالى ونفسيّة الكلّ هي انّيّة الحقّ الاوّل تعالى كان الكلّ سماواتها وسماويّاتها وأرضوها وارضيّاتها ذوو علمها وغير ذوي علمها ساجدة لله لعدم انانيّة لها بالنّسبة اليه تعالى ، لكنّ الشّاعرين منها أكثرهم يسجدون طوعا كالاملاك بأنواعها وبعض الاناسىّ والجنّ وبعضهم لا يسجدون الّا كرها كبعض الاناسىّ وبعض الجنّ فانّ الكفّار منهما لا يسجدون لله طوعا اختيارا ومن لا يسجد طوعا لله بلا واسطة يسجد له طوعا بواسطة مظاهره ، فانّ نفوسهم فطريّة التّعلّق فاذا لم تتعلّق بالله تعلّق بغيره من مظاهره من كوكب وصنم وغيره واقلّه الدّراهم والدّنانير والمواليد الثّلاثة تسجد بصورها ونفوسها تكوينا طوعا وبعناصرها تسجد لله كرها ، لانّ العناصر مقسورة في المواليد على الامتزاج ، وعلى هذا فالإتيان بمن الّتى هي لذوي العقول امّا من باب التّغليب أو باعتبار نسبة السّجدة إليها لانّ السّجود لا يكون الّا من ذوي الشّعور ويسرى حكم السّجدة الى نفس السّماوات والأرض لما مرّ مرارا انّ نسبة الحكم الى المظروف تسرى الى الظّرف خصوصا إذا كان المظروف أشرف من الظّرف (وَظِلالُهُمْ) جمع الظّلّ وهو الفيء الحاصل من الشّاخص الّذى ينتقل بانتقاله ويسكن بسكونه وبالجملة لا انانيّة له الّا انانيّة الشّاخص وكلّ موجود علوىّ أو سفلىّ له في مقامه الخاصّ به حقيقة وله اظلال في العالم الأعلى والأسفل منه والموجودات الطّبيعيّة الارضيّة من المواليد لها اظلال صوريّة حاصلة من محاذاة الشّمس والكلّ سجّد لله وآخرون طوعا (بِالْغُدُوِّ) جمع الغدوة (وَالْآصالِ) جمع الأصيل وما ورد في الاخبار في تفسير الظّلال يرتفع اختلافه ممّا ذكرنا ، والسّجود وكذا الغدوّ والآصال في كلّ بحسبه (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) أجب عنهم بذلك لانّه لا جواب لهم سواه (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) تقريعا وتوبيخا لهم على ذلك بعد الاعتراف بربوبيّته لهما (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فكيف بغيرهم من أمثالهم فضلا عن تربية السّماوات والأرض اللّتين لا يصلون إليهما ولا يحيطون بهما ولا بعلمها (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى) الّذى لا يبصر طريق ضرّه ولا نفعه (وَالْبَصِيرُ) الّذى يبصر غيره ويحيط بضرّه ونفعه ويتصرّف فيه كيف يشاء أو هل يستوي الأعمى الّذى لا يفرّق بين من لا يضرّ ولا ينفع ومن يضرّ وينفع كالمشرك والبصير الّذى يبصر ذلك ويفرّق كالمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ) كالكفر (وَالنُّورُ) كالايمان (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) صفة لشركاء (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) ولتشابه خلقهم وخلق الله حكموا باستحقاق عبادتهم والحال انّهم اتّخذوا شركاء عاجزين غير قادرين على ما قدروا بأنفسهم عليه (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فهم مخلوقون فضلا عن كونهم خالقين (وَهُوَ الْواحِدُ) الّذى لا يبقى معه شيء في الوجود فلا وجود لشيء سواه فضلا عن الخالقيّة وغيرها من الأوصاف (الْقَهَّارُ) الّذى كلّ شيء فان تحت وجوده مضمحلّ لا انانيّة له (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) جواب لسؤال كأنّه قيل : ان كان هو الواحد

٣٨٠