تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

السّافلين ويحصل الملكوت السّفلى ودار الجنّة والشّياطين وذلك قبل خلقة مواليد عالم الطّبع أو قبل خلقة الإنسان وقد مضى في اوّل البقرة عند قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ؛ الآية ، تحقيق تامّ لكيفيّة خلق الجنّة والشّياطين هذا في العالم الكبير ، وامّا في العالم الصّغير فالجانّ ابو الجانّ هو الواهمة المتولّدة من حرارة الاخلاط الحاصلة من تسخّنها بشمس الرّوح وخلقتها قبل خلقة الإنسان كما هو المشهود (وَإِذْ قالَ) واذكر إذ قال (رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتممت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقد خلقتني من النّار الّتى هي أشرف العناصر وذلك الصلصال اخسّ مواليد العناصر (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) من السّماء أو من الجنّة أو من الملائكة أو من المنزلة والرّياسة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) حرصا على البقاء وفسحة في الإغواء (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) لمّا أراد البقاء الى يوم البعث وهو يوم الأحياء بالنّفخة الثّانية وأمد إبليس الى النّفخة الاولى قال اجابة لملتمسه لكن لا الى الوقت المسؤل بل الى الوقت المعلوم الّذى هو وقت النّفخة الاولى ، وقد فسّر في الاخبار الوقت المعلوم بظهور القائم عجّل الله فرجه وذبحه ايّاه أو ذبح رسول الله (ص) ايّاه وبوقت النّفخة الاولى والكلّ راجع الى امر واحد وان ادّى باختلاف الاعتبارات بعبارات مختلفة (قالَ) غيظا (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) كما هو عادة اتباعه فانّهم إذا لم يجدوا ما طلبوا نسبوا التّقصير الى غيرهم بل الى سيّدهم (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) قرئ بكسر اللّام وفتحها (قالَ هذا صِراطٌ) حقّ (عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) لا اعوجاج فيه والمشار اليه امّا الإخلاص أو عدم تسلّطه على المخلصين أو تزيينه أو اغواؤه لغير المخلصين ، وسرّ كونه صراطا مستقيما حقّا على الله تعالى انّ الإنسان خلق ومن كلّ شيء فيه قوّة بنصّ (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) ، والمقصود من خلقته ان يصير في الكلّ بالفعل لكن لمّا كان في كلّ شيء جهة تعيّن وبطلان وجهة اطلاق وحقّيّة والمقصود من فعليّتها فعليّة حقّيّتها في الإنسان مع استخلاصها من البطلان ولا يحصل الفعليّة الخالصة من جهة البطلان الّا بوسوسة الشّيطان وإغوائه فانّ وسوسته كالنّار للّذهب وقد قال المولوىّ قدس سرّه :

ديو كه بود كو ز آدم بگذرد

بر چنين نطعى از أو بازى برد

در حقيقت نفع آدم شد همه

لعنت حاسد شدة آن دمدمه

بازيى ديد ودو صد بازى نديد

پس ستون خانه خود را بريد

خود زيان جان أو شد ديو أو

گوئى آدم بود ديو ديو أو

فالصّراط المستقيم هو النّفس الانسانيّة الواقعة بين طرفي وساوس الشّيطان وزواجر الملك وبهما يحصل كمال له ويتمّ سيره الى مولاه :

٤٠١

بيان السعادة

من چو آدم بودم اوّل حبس كرب

پر شد اكنون نسل جانم شرق وغرب

ولولا وسوسة الشّيطان واغواؤه لما امتلأ الدّنيا من نسل آدم (ع) ، وقرئ : صراط علىّ وعلى وزن فعيل وصفا للصّراط ، ونقل : صراط علىّ بإضافة الصّراط الى علىّ (ع) وفسّر الصّراط أو علىّ بأمير المؤمنين (ع) (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ممّن هو مثلك في الغواية والضّلالة الّذاتيّة التّكوينيّة (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الغاوين المتّبعين (جُزْءٌ) صنف (مَقْسُومٌ) كون أبواب جهنّم ودركاتها سبعة باعتبار طبقات الأرض السّبع : الهيولى الاولى والامتداد الجسمانىّ والطّبع العنصرىّ والمادّة الجماديّة والمادّة النّباتيّة والمادّة الحيوانيّة والمادّة الانسانيّة المعبّر عنها بالصّدر المنشرح بالكفر والنّفس الامّارة ، ولكلّ طبقة باب منه يدخل فيها ويخرج منها ، وهذه الطّبقات بظواهرها المدركة واقعة في الدّنيا وببواطنها واقعة في الملكوت السّفلى ودار الأشقياء ودركات جهنّم وأبوابها بإزاء تلك الطّبقات ، وما ورد من انّ جهنّم في الأرض السّابعة أو تحت الأرض اشارة الى ما ذكر وتلك مجتمعة في الإنسان لكنّها منصبغة بالنّفس الانسانيّة بحيث لا حكم لها سوى حكم النّفس ، ولذلك يسمّى الإنسان إنسانا ولا يسمّى أرضا ولا نارا ولا جحيما وخلدا وما لم تفارق النّفس الانسانيّة عنها لم يكن لها حكم وكان أبوابها غير منفتحة بل مطبقة كما أشير اليه في الآيات والاخبار ، ولمّا كان بإزاء كلّ طبقة من طبقات الأرض سماء والجنان الثّمان كانت بإزاء السّماوات السّبع وكان فوق السّبع جنّة اللّقاء والرّضوان صارت درجات الجنان ثمانيا وكانت أبوابها ثمانية. ولمّا كانت اللّطيفة الانسانيّة سماويّة ومجانسة للّسماوات فهي من اوّل خلقته داخلة في السّماوات الّتى هي بإزاء درجات الجنان وأبوابها ولذلك كانت أبواب الجنان مفتوحة والإنسان واقع في تلك الأبواب وان لم يكن داخلا في الجنان ففي الآيات القرآنيّة بالنّسبة الى أهل الجحيم : ادخلوا أبواب جهنّم ، في عدّة مواضع ، وبالنّسبة الى أهل الجنان : ادخلوها وليس في الكتاب ادخلوا أبواب الجنان ، وقد تفسّر أبواب الجحيم بالرّذائل السّبع الّتى هي أمّهات الرّذائل على اختلاف الأقوال في تعيينها ، وأبواب الجنان بالخصائل الثّمان الّتى هي أمّهات الخصائل على اختلاف في تعيينها. وقد تفسّر أبواب الجحيم بالمدارك الخمسة الظّاهرة والخيال المدرك لصّور والوهم المدرك للمعاني ، وأبواب الجنان بتلك المدارك مع العاقلة ولا يخفى وجه المناسبة لكنّ الحقّ والتّحقيق انّ الجحيم وأبوابها حقيقة موجودة في خارج هذا العالم في الملكوت السّفلى ، وما ذكروا مناسبات لعدد طبقاتها وأبوابها لا انّه هي بعينها. وفي الخبر انّ للنّار سبعة أبواب ؛ باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون ، وباب يدخل منه المشركون والكفّار ومن لم يؤمن بالله طرفة عين ، وباب يدخل منه بنو أميّة هو لهم خاصّة لا يزاحمهم فيه أحد وهو باب لظى وهو باب سعير وهو باب الهاوية يهوى بهم سبعين خريفا فكلّما هوى بهم سبعين خريفا فار بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفا فلا يزالون هكذا أبدا خالدين مخلّدين ، وباب يدخل منه مبغوضنا ومحاربونا وخاذلونا وانّه لأعظم الأبواب واشدّها حرّا (الى آخر الحديث) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وعد للمتّقين عن متابعة الشّيطان في مقابلة وعيد التّابعين له (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) على تقدير القول (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الحقد يعنى نزعنا في الدّنيا قبل الآخرة ولذلك دخلوا الجنّة بسلام آمنين ، أو نزعنا في الجنّة ما في صدورهم من قوّة الحقد فانّ الإنسان ما دام في الدّنيا قلّما بخلو من

٤٠٢

قوّة الحقد (إِخْواناً) حال (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في الاخبار : أنتم والله الّذين قال الله ونزعنا ما في صدورهم ، وو الله ما أراد بهذا غيركم (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) تعب (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تقوية لرجائهم (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) تقوية لخوفهم (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) لامتناعهم عن الاكل كما سبق (قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) ورد في الاخبار انّ البشارة جاءته من الله فمكث ثلاث سنين ثمّ جاءته البشارة مرّة بعد اخرى بعد ثلاث سنين (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) بأمر واقع حقّ (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) لقدرته تعالى على ما لم يوافقه الأسباب (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) من طريق معرفة الله وقدرته (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أمركم وشغلكم بعد البشارة (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) اى قوم لوط (إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء من قوم مجرمين منقطعا أو متّصلا أو من المستتر في مجرمين (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) علّق قدّرنا لما فيه من معنى العلم ، والغابر بمعنى الباقي اى من الباقين مع الكفرة للهلاك (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ) لوط (ع) بعد مشاهدتهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) لا أعرفكم اولا آنس بكم لظنّ الشّرّ بكم (قالُوا) لسنا بذي شرّ لكم (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) من العذاب (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) بالأمر الحقّ الّذى لا تخلّف فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد لتحقّقه (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) وكن على ادبارهم كالمراقب الحافظ (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ) الى ورائه (أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) يعنى يدرككم الأمر الالهىّ حين الخروج فامضوا حيث تؤمرون حينئذ (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) الى لوط (ع) (ذلِكَ الْأَمْرَ) اى انهينا اليه علم ذلك الأمر المبهم الّذى يفسّره قوله (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) يعنى يستأصلون من اخرهم (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) بعد اطّلاعهم بواسطة امرأة لوط (ع) كما مضى (يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط (ع) طمعا فيهم وبدخول لوط (ع) على زعمهم في مثل فعلهم (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) لا تذلّون من الخزي بمعنى الهوان أو لا تخجلون عند ضيفي من الخزاية بمعنى الحياء (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) اى عن ضيافة النّاس (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لَعَمْرُكَ) يا محمّد (ص) اى بحيوتك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يتحيّرون والإتيان بالمضارع لاحضار الحال الماضية (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) داخلين في وقت شروق الشّمس (فَجَعَلْنا عالِيَها) عالى قراهم (سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) معرّب «سنگ گل» وقد مضى تفصيل اهلاكها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) المتفرّسين الّذين يعرفون الأشياء بسماتها (وَإِنَّها)

٤٠٣

اى القرى أو آثار الهلاك أو الآيات (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) باق غير مندرس يسلكه النّاس ويشاهدون آثار قراهم وهلاكهم ، وورد عنهم (ع) انّا نحن المتوسّمون وانّ السّبيل فينا مقيم ، وورد انّ في الامام آية للمتوسّمين وهو السّبيل (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) تأكيد للاوّل بابدال المتوسّم بالمؤمن ، أو المراد انّ في ذلك التّوسّم لآية للمؤمنين (وَإِنْ كانَ) انّه كان (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيك الشّجر الملتفّ الكثير أو الجماعة من كلّ شجر حتّى من النّخل الواحدة الايكة ، أو الاجمة الكثيرة الشّجرة والمراد بهم قوم شعيب (ع) من أهل مدين أو من أهل القرية الّتى كانت غير مدين (لَظالِمِينَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما) اى الايكة ومدين أو قرئ قوم لوط وقرئ أصحاب الايكة (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) طريق واضح يؤمّه المارّة ، والامام ما يؤمّ من طريق وغيره (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) يعنى ثمود كذّبوا صالحا ولعلّه كان لهم رسل اخرى ، أو جعل تكذيب الواحد تكذيبا للكلّ ، أو الجمع باعتبار من كان مع الرّسول من المؤمنين ، والحجر اسم واديهم وهو واد بين المدينة والشّام وكانوا يسكنونه (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) كالنّاقة وولدها وشربها (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) لقوّة أبدانهم وطول أعمارهم وآمالهم (آمِنِينَ) من الانهدام ونقب السّرّاق وتخريب الأعداء ، أو آمنين من عاقبة أمرهم ونزول العذاب بهم في الدّنيا أو في الآخرة ، أو مريدين كونهم بذلك آمنين من الآفات (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) من البيوت في الأحجار وكثرة المال والعدد (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) مرّ نظائر الآية مرارا وهذا تمهيد للأمر بالصّفح يعنى انّ قومك متلبّسون بالحقّ وأنت أكمل الأنبياء (ع) فلا ينبغي لك ان تنظر الى تكذيبهم وسوء صنيعهم بك وتدعو عليهم أو تغضب عليهم فانّ غضبك كدعائك موجب لبعدهم عن الرّحمة وأنت نبىّ الرّحمة فكن سببا لقربهم من الرّحمة لا لبعدهم عن الرّحمة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فمن كان منهم مستحقّا للعقوبة والسّياسة لا يفلت عنّا فتوكّل علينا وكل أمورهم إلينا ولا تعاجلهم بالدّعاء كسائر الأنبياء (ع) (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) الّذى لا عتاب فيه ولا منّ ، والعفو ترك المكافاة ، والصّفح إخراج اثر المساءة من القلب ، ويستعمل كلّ في كلّ وكلّ في الاعمّ وكأنّهما كالفقراء والمساكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) التّعليق على وصف الرّبوبيّة دون سائر الأوصاف للاستعطاف والمعنى انّ الّذى يربّيك ويتلطّف بك هو خالقهم فلا ينبغي لك المعاجلة في معاقبة مخلوق من هو يربّيك (الْعَلِيمُ) بحالهم فيكافئهم على ما اقتضته حالهم فالآية من قوله : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ) (الآية) استعطاف له (ص) على قومه واستبطاء عن المعاجلة في المعاتبة والدّعاء (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) تمهيد لقوله : لا تمّدن عينيك فانّ من اعطى السّبع المثاني كان غنيّا مطلقا فلا ينبغي مدّ نظره الى غيره ، والمثاني جمع المثنى بمعنى اثنين اثنين ، وقيل ، جمع المثنى من الثّناء وقد سبق انّ مراتب العالم باعتبار سبع ، وانّها باعتبار النّزول والصّعود تصير متكرّرة ومثاني وانّ القرآن صورة تدوين تلك المراتب وانّ فاتحة الكتاب مختصرة من القرآن وانّه مجموع فيها ، وانّ الائمّة هم المتحقّقون بتلك المراتب ، وانّ محمّدا (ص) صاحب المقام المحمود وهو مقام جمع الجمع في لسان الصّوفيّة وانّ ذلك المقام هو القرآن العظيم فصحّ تفسير السّبع المثاني بالقرآن جملة ، وبسورة

٤٠٤

فاتحة الكتاب ، وبالمثاني من السّور وبالسّور السّبع الطّول من اوّل القرآن الى آخر براءة على ان يجعل الأنفال وبراءة واحدة وبالصّحف السّابقة وبالكتب السّماويّة تماما وبالأئمّة (ع) (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أصنافا من الكفّار لانّه في غاية الحقارة في جنب ما أوتيت فلا ينبغي قطع النّظر عمّا أوتيت والنّظر الى مثل هذا الشّيء الحقير (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يعنى انّك أوتيت ما به كما لك في دنياك وآخرتك فلا ينبغي ان تتأثّر من غيرك بان تنظر الى ظاهر المتنعّمين فيتحرّك رغبتك البشريّة أو تنظر الى باطنهم وانّهم منصرفون عن الايمان الموصل الى الجنان الى الكفران الموصل الى النّيران فتنقبض وتحزن على ذلك بل كن في الحالين كأمير الحالين غير متأثّر منهما وليكن حالك بالنّسبة الى من آمن حال التّواضع والتّذلّل والتّحبّب لانّهم بلطيفة الايمان مظاهرك بل مظاهر الله تعالى والتّواضع لهم تواضع لله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) مستعار من خفض الطّيّور جناحها لقرينها حين التّذلّل والتّحبّب لها ، عن رسول الله (ص) : من أوتى القرآن فظنّ انّ أحدا من النّاس اوتى أفضل ممّا اوتى لقد عظّم ما حقّر الله وحقّر ما عظّم الله (وَقُلْ) بالنّسبة الى من نهيتك عن الرّغبة في ظاهرهم والحزن على باطنهم (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) الّذى يظهر إنذاره بحيث لا يخفى دلالته على صدقه ولا دلالته على المنذر به (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) يعنى آتيناك سبعا من المثاني كالّذي أنزلنا على المقتسمين من أهل الكتاب الّذين اقتسموا هممهم على الأطماع والأحزان والآمال فجعلوا القرآن ما يوافقهم منه مقبولا وما يخالفهم منه مردودا ، أو قل انّى انا النّذير المبين بعذاب مهين كما أنزلنا على المقتسمين قيل : المقتسمون كانوا اثنى عشر رجلا اقتسموا محالّ دخول مكّة وخروجها ايّام الموسم لينفروا المؤمنين عن الايمان بالرّسول (ص) ، وقيل : هم الّذين تقاسموا على قتل محمّد (ص) ، وقيل : هم الّذين تقاسموا على ان يبيّتوا صالحا (ع) ، وقيل : هم اليهود اقتسموا الكتب السّماويّة فأظهروا بعضها وأخفوا بعضها ، أو التّوراة فأظهروا بعضها وأخفوا بعضها ؛ وعلى هذا فالمراد بالقرآن فيما بعد مطلق المقروّ السّماوىّ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جمع العضة من العضوة بمعنى العضو اى جعلوا القرآن أعضاء وأجزاء ، أو جمع العضة من عضيته إذا بهتّه اى جعلوا القرآن اسمارا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من تقسيم القرآن أو جعله اسمارا أو من سائر ما فعلوا (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ولا تبال بقبولهم وردّهم وباستهزائهم وعدم استهزائهم ، والمراد منه اجهر به من صدع بالحجّة إذا تكلّم بها جهارا ، أو فرّق به بين الحقّ والباطل ، أو فرّق الحقّ وانثره بحيث لا يكاد تجمع ويذهب به أو شقّ وفرّق به جماعات الكفّار (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم وقد ورد في أخبارنا انّ الآية نزلت بمكّة بعد ان اكتتم محمّد (ص) امره بعد بعثته خمس سنين أو ثلاث سنين ولم يكن معه الّا علىّ (ع) وخديجة (ع) ثمّ امر بالإظهار فكان يظهر امره على قبائل العرب (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) من تكذيبك والطّعن فيك والاستهزاء بك وبدينك وبإلهك وبكتابك وصلوتك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فاشغل نفسك عنهم واشتغل بما هو شأنك من عبادة ربّك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) اى الموت فانّه المتيقّن فالمعنى حتّى يأتيك الأمر المتيقّن ، أو لانّ اليقين الكامل بالمغيبات

٤٠٥

لا يحصل الّا بعد رفع حجاب البدن بالموت الاختيارىّ هذا ما قيل ؛ والحقّ انّ اعتبار مفهوم الغاية ودخولها وخروجها عن المغيى بها امر لا حجّة عليه من العرف واللّغة ، فالمقصود انّك علمت علما اجماليّا وكلّ من علم امرا اجمالا طلب التّفصيل فيه واليقين به بمراتب اليقين من علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين كما أشار اليه المولوىّقدس‌سره :

هر گمان تشنه يقين است اى پسر

ميزند اندر تزايد بال وپر

چون رسد در علم پس بر پا شود

مر يقين را علم أو پويا شود

علم جوياى يقين باشد بدان

وان يقين جوياى ديد است وعيان

اندر ألهيكم بيان اين ببين

كه شود علم اليقين عين اليقين

فكأنّه قال : ان كنت تريد اليقين بمراتبه وتفصيل المعلوم فاشتغل بعبادة ربّك حتّى يحصل لك مطلوبك من مراتب اليقين ، امّا عدم العبادة بعد اليقين فغير مستفاد منه الّا باعتبار مفهوم الغاية وقد عرفت ضعف اعتباره ؛ وقد قال بعض المتصوّفة المسقطين للعبادات : انّ العبادة لحصول اليقين فاذا حصل اليقين فلا حاجة الى العبادات ، وتوسّلوا بمفهوم مثل هذه الآية ومتشابهات الآيات والاخبار وأقوال الكبار من أهل اليقين من غير غور وتعمّق في مغزاها.

٤٠٦

سورة النّحل

مائة وثمان وعشرون آية ، وهي مكّيّة كلّها ، وقيل : من اوّلها الى قوله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا

فِي اللهِ) مكّيّة ، والباقي مدنيّة ، وقيل : مكّيّة غير ثلاث آيات وهي قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ)

(الى آخر السّورة)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) كانوا يستعجلون ما وعدهم الرّسول (ص) من العذاب والإهلاك وقيام السّاعة والحساب والعقاب يوم القيامة استهزاء به وبرسالته وبايعاده فقال تعالى : أتى أمر الله بالإهلاك بالماضي للاشارة الى تحقّقه أو للاشارة الى قرب حصوله وكانوا يقولون استهزاء إذا وقع ما توعّده فأصنامنا تشفع لنا فقال تعالى (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فلا يشفع شيء لهم ولا يدفع الأصنام شيئا من عذابه (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار مادّته في الرّحم يقع في تدبير الملائكة فيربّونه ويجلبون ما يحتاج اليه ويدفعون عنه ما يضرّه وانّ الله تعالى يبعث عليه بمحض فضله ملائكة ويزداد عددهم يوما فيوما وآنا فآنا الى أو ان البلوغ ، فان ساعده التّوفيق واستعان بالله اختيارا كما كان مستعينا به تكوينا قبل ذلك لم ينقطع إمداده بالملائكة بعد ذلك أيضا ، والملائكة الّذين كانوا موكّلين به كانوا ملائكة ارضيّين وهم الملائكة الّذين أمروا بالسّجود لآدم (ع) وبعد ذلك يكون الأمداد بالملائكة السّماويّة ويزداد كلّ يوم عددهم الى ان بلغ الى مقام العبوديّة واوّل ظهور الرّبوبيّة وحينئذ بمدّة بالعظام من الملائكة كجبرئيل وميكائيل ، ويمدّه أيضا بالرّوح وهو أعظم من جبرئيل وميكائيل كما ورد في الاخبار ، ولعلّ الرّوح هاهنا اشارة الى الملك المعتنى بتربية نوع الإنسان ويسمّيه الاشراقيّون ربّ النّوع وله بعدد كلّ إنسان وجه كما في الخبر وهو المحيط بجميع افراد الإنسان بل بجميع موجودات العالم لانّ جميع الأنواع تحت نوع الإنسان ، وجميع أرباب الأنواع تحت ربّ النّوع الانسانىّ ، وجميع الموجودات تحت أرباب أنواعها فجميع الموجودات تحت ربّ النّوع الانسانىّ وعلى هذا فالمعنى ينزّل الملائكة مع الرّوح ، أو ينزّل الملائكة بسبب الرّوح وتوسّطه ، وعلى الاوّل فالمنزّل عليه الخواصّ من الأنبياء وعلى الثّانى جملة الأنبياء ، أو المراد بالرّوح ما يحيى به القلوب من الجهل تشبيها بالرّوح الّتى يحيى

٤٠٧

به الأبدان ، أو المراد بالرّوح الّنّبوّة الّتى بها حيوة كلّ شيء ، وعلى هذا فالمعنى ينزّل الملائكة الرّوح من عالم امره على من يشاء من عباده وللرّوح معان أخر مذكورة في الاخبار ومصطلحة بين أرباب الصّنائع وهذا الرّوح الّذى هو أعظم من جبرئيل يكون مع العظماء من الأنبياء والأولياء (ع) كخاتم النّبيّين (ص) وخلفائه المعصومين (ع) وقوله : من امره ، اى من عالم امره فانّ الملائكة النّازلة والرّوح من عالم الأمر مقابل عالم الخلق (أَنْ أَنْذِرُوا) ان مصدريّة أو تفسيريّة فانّ الانزال يستلزم معنى القول ، وانذروا بمعنى اعلموا أو بمعنى احذروا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وكون التّوحيد محذرا به لاستلزامه الاستقلال في الحكومة والتّصرّف والمستقلّ في الحكومة يحذر من مخالفته (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) بمنزلة التّعليل للتّوحيد (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) بدل نحو بدل البعض (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ولا يتمشّى من الطّبع والدّهر مثل ذلك الخلق (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ما تستدفئون به من أصوافها وأوبارها واشعارها وجلودها (وَمَنافِعُ) من لحومها وضروعها وظهورها واثارة الأرض بها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من الشّحوم واللّحوم والألبان (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) ترجعونها بالرّواح الى المناخ والمغنم (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرجونها للسّرح والرّعى بالغداة فانّ الافنية تتزيّن بها في الوقتين ويجلّ أهلها في أعين النّاظرين إليها ، وتقديم الاراحة لانّها حينئذ تقبل والإقبال أزين من الأدبار ملاء البطون ثمّ تأوى الى الحظائر حاضرة لأهلها ، وفي الغداة بالعكس ، (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا) بأنفسكم (بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) فضلا عن ان تحملوا الأثقال على ظهوركم (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) بكم لانّه خلق لكم ما تنفعون به وتحتاجون اليه (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) لانتفاعكم من موجودات عالم الطّبع ممّا في الأرض والسّماء وموجودات عالم الأرواح (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) لمّا ذكر في خلقة الإنسان جملة ما يحتاج اليه في معاشه ووصوله الى خيراته وكان السّبيل المقتصد الخارج عن الإفراط والتّفريط في كلّ شيء ان يكون أسباب وصوله الى خيراته الاوّليّة الّذاتيّة والى خيراته الثّانويّة بقدر حاجته موجودة ، والسّلوك الى خيراته الاوّليّة الّذاتيّة والى خيراته الثّانويّة بقدر حاجته ، موجودة وكان السّلوك الى خيراته غير متعسّر قال : لا اختصاص لقصد السّبيل بالإنسان بل على الله قصد السّبيل لكلّ شيء (وَمِنْها جائِرٌ) وبعض السّبل حائد عن الاعتدال أو المقصود انّ خلقتكم وخلقة ما تحتاجون اليه هي السّبيل الى خيراتكم البدنيّة وكمالاتكم الدّنيويّة التّكوينيّة الغير الاختياريّة ، وامّا خيراتكم الرّوحيّة الاخرويّة وكمالاتكم الانسانيّة الاختياريّة فعلى الله قصد السّبيل في ذلك بإعطاء العلم والمعرفة وإرسال الرّسل وإنزال الكتب وتهيّة جميع ما تحتاجون اليه في تحصيل هذه ، فان وقع حيف وميل ونقص وجور فهو من عند أنفسكم غير راجع الى الله ، فمن خرج عن الاقتصاد في الطّريق الى الجور فيه فهو بشآمة استعداده وكسبه (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالايصال الى قصد الطّريق والسّير عليه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) اعمّ من النّبات (فِيهِ تُسِيمُونَ) في الشّجر ترعون مواشيكم (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)

٤٠٨

لمّا كان كون إنزال الماء وإنبات النّبات والأشجار آية محتاجا الى تأمّل وترتيب مقدّمات قال : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) قرئ الشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات كلّها بالرّفع ، وقرئ الشّمس والقمر بالنّصب والنّجوم مسخّرات بالرّفع ، وقرئ الجميع بالنّصب وفائدة الحال المؤكّدة تأكيد التّسخير وبيان واسطة التّسخير وهو عالم الأمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يكفيه العقل من غير فكر لظهور دلالة المذكورات بالنّسبة الى إنزال الماء وإنبات النّبات وجمع الآيات لكون كلّ منها آية على حياله (وَما ذَرَأَ لَكُمْ) وسخّر لكم ما خلق لكم (فِي الْأَرْضِ) من المواليد من المعادن وأصناف النّبات وأنواع الحيوان والعناصر وما في الأرض من الجبال والوهاد والتّلال ، والمراد بتسخيرها تسخيرها فيما خلق لأجله لا تسخيرها للإنسان نحو تسخير الحيوان للإنسان ولكن تسخيرها بالمطاوعة للإنسان في وجه الانتفاع بها وان كان وجه الانتفاع ببعضها مخفيّا ، أو ما ذرأ مبتدء ولكم خبره أو في الأرض خبره والجملة حال أو عطف على جملة هو الّذى انزل ، أو على جملة سخّر لكم اللّيل (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) اكتفى ببيان اختلاف اللّون عن ذكر اختلاف النّوع وجهات الانتفاع لانّه الظّاهر على الأبصار والأغلب انّ الأنواع المختلفة بالّذات مختلفة باللّون (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) لا يكفيه العقل فقط ولا يحتاج الى التّفكّر بل يكفيه تذكّر العقل (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كأنواع ما يخرج من البحر (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) جواري من المخر وهو شقّ الماء أو صوت شقّ الماء (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بالتّجارات (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعنى غاية الكلّ ان تنظروا الى الانعام وتشكروا حقّ النّعمة برؤيتها من المنعم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كراهة ان تميد الأرض بكم باضطرابها.

اعلم ، انّ الأرض كرويّة الشّكل حيّزها حول مركز العالم بحيث انّ كلّ جزء من اجزائها لتوافقها مع الكلّ في الطّبع لو خلّى وطبعه لما استقرّ الّا في حيّز المركز كما هو المشهود ، ولو كان الاجزاء طالبة للكلّ ولسنخها كما قيل للزم عدم افتراق ما اتّصل بقلل الجبال الى السّفل والأرض ساكنة في حيّزها غير متحرّكة ، وان قال بحركتها المتحدّسون بقوّة الحسّ وليست تلك الكرة كالكرة الواقعة في الماء الطّافية فوق الماء حتّى تحتاج الى ما يسكنها عن الحركة والانقلاب وليست الجبال بما يزيد في سكونها لانّه ليس ارتفاع الجبال المرتفعة البالغة غاية الارتفاع بالنّسبة الى قطر الكرة الّا مقدار شعيرة أو اقلّ ، وظاهر الآية يدلّ على انّ تلك الكرة لو لم يكن الجبال تضطرب وتنقلب وتتحرّك ولا يمكن التّعيّش عليها الّا بالجبال فنقول : انّ الجبال وان لم تكن أسبابا لسكون الكرة كما عرفت لكنّه قد يقع الزّلزلة القويّة بأسباب سماويّة وارضيّة ولو لا الجبال لسرت تلك الزّلزلة الى مجاورات القطعة الّتى وقعت فيها الزّلزلة مسافات كثيرة والجبال تمنع من تلك السّراية كما لا يخفى ، وهذا القدر كافى في صدق ظاهر الآية مع انّ المقصود بطونها ، وأيضا قد سلف منّا انّ العالم بتمام اجزائه مظاهر لا سماء الله وانّ خلفاء الله أسماء الله العظماء والجبال مظاهر لها بسكونها وارتفاعها وثقلها وصلابتها وجريان المياه من تحتها ، وقد يجرى احكام الظّاهر على المظاهر كما مضى من جريان احكام القلب والصّدر على بيت الله ومكّة ، وقد ورد في الاخبار لو لا الامام لماجت الأرض بأهلها ، أو لو فقد الحجّة لساخت الأرض بأهلها ، وغير ذلك من الاخبار فبوجود خلفاء الله (ع) وجود الأرض وسكونها وقرارها ، ولمّا كانت الجبال مظاهر لخلفاء الله حكم عليها انّ

٤٠٩

بها قرار الأرض وسكونها اجراء لحكم الظّاهر على المظهر ، هذا بحسب التّنزيل ، وامّا بحسب التّأويل فالعقول الكلّيّة المعبّر عنها بالقيام لا ينظرون وبالمقرّبين بوجه جبال الأرض ، والعقول العرضيّة المعبّر عنها بالصّافّات صفّا جبال الأرض ، والنّفوس الكلّيّة المعبّر عنها بالمدبّرات امرا والنّفوس الجزئيّة المعبّر عنها بالرّكّع والسّجّد والأقدار المثاليّة المعبّر عنها بذوي الاجنحة كلّها جبال الأرض ، وخلفاء الله في الأرض أعظم جبال الأرض ، هذا في الكبير وكلّ ما في الكبير فهو بعينه جار في العالم الصّغير (وَأَنْهاراً) بواسطة الرّواسى (وَسُبُلاً) في الأرض (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بالسّبل الى مقاصدكم من الاسفار البعيدة والامتعة الّتى في غير أمكنتكم أو لعلّكم تهتدون الى المقصد الحقيقىّ من التّوجّه الى الله والسّير على سبيله الّذى جعل لكم من الأنبياء والأولياء (ع) (وَعَلاماتٍ) ممّا يستدلّ السّيّارة على استقامة سيرهم الى مقاصدهم (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) بجنس النّجم في اللّيل كما هو شأن السّيّارة أو بالنّجم الخاصّ الّذى هو الجدي كما في الخبر وباطنه رسول الله (ص) والائمّة (ع) وأصحابهم وخلفاؤهم كما أشير اليه في الاخبار (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) من الأصنام والكواكب وغيرها (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) حتّى لا تجعلوا المخلوق مشاركا للخالق (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ) فلا يؤاخذكم بالتّقصير في القيام بشكرها (رَحِيمٌ) فلا يقطعها عنكم بتقصير كم بل يزيدها يوما فيوما (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ) من الأعمال والأحوال والنّيّات والخيالات والخطرات والأخلاق والعقائد والأقوال والمكمونات الّتى لم تظهر بعد على أنفسكم (وَما تُعْلِنُونَ) ممّا ذكر ، والإعلان في كلّ بحسبه (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) كالملائكة والكواكب والأصنام والشّياطين والرّؤساء في الضّلالة (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) فلا يستحقّون الدّعوة (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فلا يمتازون عنكم حتّى تختاروهم بالدّعوة (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) فهم أدون منكم فأنتم اولى بان يدعوكم الّذين تدعون من دون الله (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) لا شعور لهم ببعثتهم فكيف بوقت بعث غيرهم والمجازاة والشّفاعة لهم (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) كالنّتيجة وقد مضى مثله وانّ المقصود انّ الّذى هو إلهكم اله ومستحقّ للعبادة وواحد لا متعدّد بخلاف ما جعلوه إلها (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) لا يعرفون الإله ولا امر الآخرة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) فانّ الاستكبار هو الخروج عن حكم الله وحكم خلفائه وهم خارجون لعدم اعتقادهم بالله وبخلفائه (لا جَرَمَ) مصدر من الجرم بمعنى كسب الّذنب ومعنى لا جرم لا ذنب في الأصل لكنّه يستعمل بمعنى حقّا وأصل المعنى لا جرم اى لا ذنب في كذا يعنى في اعتقاد كذا لكونه متحقّقا ثابتا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) تعليل للمقصود من التّهديد على أفعالهم بالمؤاخذة وفي الخبر لا يؤمنون بالآخرة يعنى الرّجعة قلوبهم منكرة يعنى كافرة وهم مستكبرون يعنى عن ولاية علىّ (ع) انّه لا يحبّ المستكبرين يعنى عن ولاية علىّ (ع) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) قالوا ذلك اضلالا للنّاس وصدّا وكان غاية ذلك ان يحملوا أو زار ذلك القول والصّدّ وبعض أوزار من اضلّوهم وبغير علم ظرف مستقرّ حال من مفعول يضلّونهم أو فاعله

٤١٠

أو فاعل ليحملوا ، أو ظرف لغو متعلّق بيحملوا أو يضلّونهم ، وفي الخبر انّما لم يعذر الجاهل لانّ عليه ان يبحث وينظر بعقله حتّى يميّز بين المحقّ والمبطل ، وعن الباقر (ع) ما ذا انزل ربّكم في علىّ (ع) قالوا أساطير الاوّلين وعن الصّادق (ع) والله ما أهريقت محجمة من دم ولا قرع عصا بعصا ولا غصب فرج حرام ولا أخذ مال من غير حلّه الّا وزر ذلك في أعناقهما من غير ان ينقص من أوزار العالمين شيء (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) تمثيل لحالهم في مكرهم بحال من بنى سقفا على أساطين محكمة قصدا للرّاحة تحته فاستوصلوا به وخرب تلك السقوف من جهة الأساطين الّتى بها استحكامها ، والمراد بإتيان الله إتيان امره بالإهلاك (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ) عذاب خراب السّقف (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بل من حيث يظنّون بقاءه أو أتاهم عذاب غير خراب السّقف (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) من الأصنام والكواكب والاهوية وغيرها أو شركاء مظاهري من الأولياء والأصل علىّ (ع) (الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تعاندون المؤمنين ومظاهري في حقّهم ، أو تخالفون الأنبياء والأولياء (ع) في حقّهم (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الأنبياء (ع) وأوصيائهم أو جملة المؤمنين وائمّتهم (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) الخزي الهوان والسّوء العذاب (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف أو صفة للكافرين (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ظالمين في حقّهم أو في حقّ امامهم فانّه بمنزلة أنفسهم بل اولى بهم منهم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) اى الاستسلام والانقياد أو القول بالاستسلام والانقياد (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) تفسير للسّلم على الّذين أنكروا ما فعلوا من الجحود والإنكار والاستهزاء في الدّنيا (بَلى) ردّ من الملائكة أو من الله اى قالوا أو قال بلى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلا ينفعكم إنكاره الآن (فَادْخُلُوا) جزاء لأعمالكم (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) كلّ من بابه الخاصّ به (خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) جهنّم (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) قد مرّ مرارا انّ التّقوى الحقيقيّة لا تكون الّا بالولاية والبيعة الخاصّة الولويّة (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) إقرار بالانزال من الرّبّ وتصديق لكونه خيرا استسلاما (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) صاروا ذا حسن والحسن على الإطلاق علىّ (ع) وكلّما اتّصل به من طريق الولاية كان ذا حسن به أو أحسنوا الى أنفسهم أو الى غيرهم (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) وهو طيبوبة المآكل والمشارب والمناكح والمراكب (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لخلوص الطيبوبة لهم هناك من غواشي المادّة وآلامها وقوله للّذين أحسنوا مقول لقولهم تفسير الخير أو استيناف من الله (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ) مخصوص نعم أو مبتدأ خبره (يَدْخُلُونَها) أو يدخلونها صفة و (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) خبره أو تجري صفة بعد صفة و (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) خبره ويحتمل كون الجمل حالات مترادفة أو متداخلة وكون بعضها حالا وبعضها صفة وبعضها خبرا وقد مضى في آل عمران في نظير الآية مع جريان الأنهار من تحت الجنّات (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) وفي الخبر : ولنعم دار المتّقين الدّنيا (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) صفة للمتّقين أو خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف

٤١١

أو مبتدء خبره يقولون أو ادخلوا بتقدير القول (طَيِّبِينَ) من المعاصي أو من الشّرك (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحيّة لهم أو بمعنى سلامة لكم من كلّ سوء (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) على طريق الولاية (هَلْ يَنْظُرُونَ) ينتظرون اى الّذين لا يؤمنون بالآخرة (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) حين الموت (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب أو بخروج القائم (ع) (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتدميرهم وعذابهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب أو المعاد أو الرّجعة أو مطلق ما قاله رسلهم (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في جواب من لامهم على شركهم وتحريمهم وقد مضى الآية بتفسيرها مفصّلا (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يعنى انّ نسبتهم فعلهم السّيّء الى الله كنسبة المرأة الفاحشة شامة فعلها الى غيرها وليس لها وجه صحّة لانّ ما على الله هو إرسال الرّسل لهدايتهم وليس على الرّسل الّا البلاغ (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) ولقد بلّغ الرّسل فقد ادّينا ما علينا وادّوا ما عليهم فالنّقص والتّقصير كان منهم (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فلم يقبلوا من رسولهم (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) بقبوله قول الرّسول (ع) (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) ووجه اختلاف الفعلين في النّسبة ظاهر لانّ الهداية منتسبة الى الله اوّلا وبالّذات والإضلال منتسب اليه تعالى ثانيا وبالعرض وفي الخبر ، ما بعث الله نبيّا قطّ الّا بولايتنا والبراءة من أعدائنا وذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا) (الآية) الى قوله من حقّت عليه الضّلالة يعنى بتكذيبهم آل محمّد ووجه الخبر قد مضى مفصّلا من انّ شأن النّبوّة الإنذار والدّلالة الى الولاية وانّ ولاية كلّ ولىّ ظلّ من ولاية الأولياء الكلّيّة وهم آل محمّد (ص) وانّ عبادة الله لا تتصوّر الّا من طريق الولاية وانّ آل محمّد (ص) مظاهر الله وعبادة الله لا تتصوّر الّا بتوسّط طاعة المظاهر (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض عالم الطّبع لتعلموا آثار المكّذبين وأخبارهم أو ارض القرآن واخبار الماضين أو ارض العالم الصّغير (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) يا محمّد (ص) (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) اقناط له (ص) عن هديهم وتهديد بليغ للمكّذبين (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) تعليل لاقناطه (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) وجهد الايمان الايمان المغلّظة المؤكّدة ومن لا يعتقد البعث لا ينجع فيه نصح (بَلى) ردّ عليهم (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ولو علموا لعلموا انّهم في البعث آنا فآنا ويوما فيوما من غير انتظار البعث الكلّىّ الآتي (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) متعلّق بيبعث المقدّر بعد بلى (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو الآخرة أو بالولاية (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في انكار البعث والجزاء والعقاب أو في ادّعاء الخلافة والاستبداد (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) بيان لسهولة الاعادة عليه ، وقد ورد عن الصّادق (ع) انّه قال لأبي بصير : ما تقول في هذه الآية؟ ـ فقال : انّ المشركين يزعمون ويحلفون لرسول الله (ص) انّ الله لا يبعث الموتى قال : فقال : تبّا لمن قال هذا ؛ سلهم هل كان المشركون يحلفون بالله أم باللّات والعزّى؟! قال قلت : جعلت فداك

٤١٢

فأوجدنيه قال : فقال : يا أبا بصير لو قد قام قائمنا بعث الله قوما من شيعتنا قبائع (١) سيوفهم على عواتقهم فيبلغ ذلك قوما من شيعتنا لم يموتوا فيقولون : بعث فلان وفلان وفلان من قبورهم وهم مع القائم (ع) فيبلغ ذلك قوما من عدوّنا فيقولون يا معشر الشّيعة ما أكذبكم هذه دولتكم وأنتم تقولون فيها الكذب لا والله ما عاش هؤلاء ولا يعيشون الى يوم القيامة قال فحكى الله قولهم فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) ، وبهذا المضمون اخبار كثيرة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) تنزيله في رسول الله (ص) والّذين هاجروا معه وبعده الى المدينة والّذين هاجروا قبله الى الحبشة بعد ما آذاهم المشركون إيذاء كثيرا والّذين حبسوهم قريش بمكّة بعد هجرة رسول الله (ص) وآذوهم ثمّ هاجروا الى رسول الله ، ومعنى قوله في الله في طريق الله وهو الرّسول (ص) والامام أو الرّسالة والولاية والطّريق الموصل إليهما أو في طلب الله أو في ابتغاء مرضاة الله أو في طاعة الله ، ولمّا كان التّنزيل غير مختصّ بمن نزلت الآية فيه بل تعمّه وغيره ممّن هو متّصف بوصفه كانت الآية شاملة لكلّ من هاجر من وطنه الصّورىّ ابتغاء دين الله الى نبىّ أو ولىّ من بعد ما تأذّى بانقلابات الزّمان وأذى الإقران وتصرّفات الشّيطان ، وتأويله كلّ من هاجر من أوطان شركه النّفسانيّة كما قال (ع): المهاجر من هجر السّيّئات الى رسوله العقل ونبيّه القلب وإمامه الرّوح والكلّ دين الله وطريق الله ومظاهر الله ، والهجرات الثّلاث متعاقبة مترتّبة فانّ الهجرة تقع اوّلا من دار الشّرك النّفسانيّة الى دار الإسلام الصّدر ثمّ منها الى دار الايمان القلب ثمّ منه الى دار العيان الرّوح وعبارة اخرى تقع الهجرة من دار الشّرك الى الرّسول وقبول احكامه القالبيّة ثمّ منه الى النّبىّ وقبول احكامه القلبيّة ثمّ منه الى الولىّ وقبول وإرادته الرّوحيّة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا) دارا (حَسَنَةً) أو تبوئة حسنة أو حالا حسنة كما وقع في الصّورة للمهاجرين مع الرّسول (ص) إذ آواهم وعزّزهم أهل مدينة وكما وقع لجعفر وأصحابه إذ آواهم النّجاشى وعزّزهم ، وفي الباطن لكلّ من هاجر من دار النّفس الامّارة إذ يأوى الى دار الصّدر السّالمة من تنازع القوى النّفسانيّة وتحاسد المتحاسدين وإيذاء الموذين وهكذا ، وهذا أجر الدّنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) وهو لقاء الرّحمن وجنّة الرّضوان (أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كان النّاس يعلمون ذلك لاختاروا الهجرة أو لما تثبّطوا أو لو كان الّذين هاجروا يعلمون لسرّوا بذلك أو ليتهم كانوا يعلمون فيتبادروا الى ذلك أو فيسرّوا بذلك (الَّذِينَ صَبَرُوا) بدل من الّذين هاجروا أو صفة له أو خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) فلا غروفى كونك رجلا من جنسهم فانّك مثل الرّسل الماضين (نُوحِي إِلَيْهِمْ) وكان امتيازهم بالوحي كما انّ امتيازك بالوحي فانكارهم لرسالتك لكونك بشرا مثلهم انكار لرسالة جميع الرّسل (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) الذّكر هو اضافة الحقّ الى الخلق وهي المشيّة والحقّ المخلوق به وهو حقيقة الولاية وخاتم الأولياء وهو علىّ (ع) هو المتحقّق بها ومظهرها التّامّ وسائر الأولياء (ع) مظاهر علىّ (ع) ومن اظلاله ، والنّبوّة الّتى هي المصباح مظهر الولاية والرّسالة الّتى هي كالزّجاجة مظهر النّبوّة ، وما في عالم الطّبع من بشريّة الرّسل والأنبياء والأولياء (ع) وكتبهم وأحكامهم القالبيّة والقلبيّة وسائر أجزاء عالم الطّبع الّتى هي كالمشكاة بتمامها مستنيرة بنور المصباح وذلك النّور هو ذكر الحقّ وتذكّره ، وأهل الذّكر تارة يطلق على من بتصرّفه الذّكر كالاولياء والأنبياء والرّسل (ع) وتارة يطلق على من أضيف اليه الذّكر وهو كلّ من قبل دعوة الرّسل (ع) والأنبياء الدّعوة الظّاهرة أو دعوة الأولياء (ع) الدّعوة

__________________

(١) قبيعة السّيف ، كالسقيفة ما على طرف مقبض السّيف من فضة أو حديد.

٤١٣

الباطنة ، وكذا يطلق أهل الذّكر على من انتحل الدّعوة العامّة كاليهود والنّصارى والمجوس وأكثر أهل الإسلام فانّهم ليسوا من أهل الذّكر والملّة الالهيّة حقيقة إذ تحقّق الانتساب الى ملّة له شرائط وعهود ومواثيق وليست تلك لهم ، والذّكر يطلق على الأولياء وأحكامهم وعلى الأنبياء والرّسل (ع) وأحكامهم وكتبهم الالهيّة فتفسير الذكّر بالرّسول (ص) وبعلىّ (ع) وبالقرآن وبسائر الكتب السّماويّة وبأحكام الرّسالة والنّبوّة الّتى هي الملّة الالهيّة صحيح ، وكذلك تفسير أهل الذّكر بالأنبياء والأولياء (ع) والأصل في الكلّ آل محمّد (ص) وبمن قبل الدّعوة العامّة ومن قبل الدّعوة الخاصّة وبمن انتحل الانتساب الى نبىّ وملّة الهيّة وكتاب سماوىّ كلّها صحيح ، والسّؤال قد يكون عن حال الرّسل والأنبياء والأولياء (ع) ، وقد يكون عن علامات رسولنا الختمىّ (ص) وعن أوصيائه ، وقد يكون عن احكام النّبوّة ؛ إذا عرفت ذلك سهل عليك التّفطّن بصحّة ما في الاخبار من اختلاف تفسير الآية ومن التّفاسير الّتى هي مخالفة لظاهر الآية من انكار تفسير أهل الذّكر باهل الكتاب وانّ أهل الكتاب إذا سألوا يدعونكم الى دينهم ومن تفسير أهل الكتاب وتخصيصهم بأنفسهم (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أوصاف الأنبياء أو أوصاف محمّد (ص) الموعود أو لا تعلمون احكام الدّين أو لا تعلمون (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) البيّنات آثار النّبوّة والرّسالة وأحكامها والزّبر آثار الولاية وأحكامها ، والتّفسير بالمعجزات والكتب السّماويّة لانّهما آثار النّبوّة والولاية ، وقيل : قوله (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) متعلّق بما أرسلنا ، وقيل : متعلّق بمحذوف وهو مستأنف كأنّه قيل : بم أرسلوا؟ ـ فقال : بالبيّنات والزّبر (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) اى القرآن أو احكام النّبوّة أو الولاية (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) والمقصود من مجموع ما نزل ولاية علىّ (ع) فلا ينبغي لك ان تنظر الى ردّهم وقبولهم بل عليك النّظر الى غاية الأمر والتّنزيل وهي التّبيين ردّوا أو قبلوا (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعلموا انّ الأصل في جملة الأحكام هو الاقتداء والخروج من الرّأى والاستبداد ولا يتيسّر ذلك الّا بوجود من يقتدى به وانّه لا بدّ لك من تعيين من يقتدى به بإذن الله حتّى يسلّموا الأمر لخليفتك ومن عيّنته فيقتدوا به ويفلحوا (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) وخصوصا انكار الولاية الّتى بها قوام الصّالحات وفي إنكارها ليس الأعمال الّا السّيّئات (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) بمجيئه من تلك الحيثيّة كإتيان العذاب من حيث يرجى الثّواب وهو صورة الأعمال الصّالحة إذا لم تكن بأمر خليفة الله كما قال : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) فانّ صورة الأعمال الشّرعيّة تصير سببا لغرور النّفس وحسبان انّها على خير لكنّها ان لم تكن بأمر ولىّ الأمر (ع) وخليفة الرّسول (ص) بل باستبداد النّفس ورأيها أو رأى من ليس للرّأى باهل فهي ضالّة غير نافعة ، أو المقصود من حيث لا يشعرون بشيء من العذاب وعدمه كوقت المنام والغفلة عن الأعمال والعذاب ولعلّه أوفق بما بعده (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) في مكاسبهم ومتاجرهم أو في تقلّبهم في آرائهم ومكرهم ، أو في تقلّبهم فيما يحسبونه صلاحا لهم كصور الأعمال الصّالحة (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) لنا ان نعذّبهم في عين استيقاظهم وتفطّنهم (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) حالكونهم على حذر والتفات الى العذاب وتمحّلهم لدفعه بان يتنبّهوا بما نزل بأمثالهم (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الفاء للسّببيّة المحضة لا من الذّين مكروا السّيّئات يعنى لا ينبغي ان يأمنوا بسبب رحمته فانّ رحمته لا تصل إذا لم يكن استحقاق ، أو للجواب والجزاء لشرط محذوف يعنى ان يمهلكم

٤١٤

ولا يعاجلكم فانّ ربّكم لرؤف رحيم ، أو للسّببيّة لمحذوف من غير تقدير بشرط كأنّه قيل : لم لا يؤاخذهم؟ ـ فقال : لا يؤاخذ فانّ ربّكم لرؤف رحيم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يتقلّب ظلاله بتقلّبه (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) توحيد اليمين وجمع الشّمائل للاشارة الى وحدة جهة اليمين في المعنى وكثرة جهة الشّمائل فانّ اليمين المعنويّة لكلّ شيء هي وجهته الالهيّة وشماله هي وجهته الخلقيّة والوجهة الالهيّة كثرتها منطوية في الوحدة والوجهة الخلقيّة وحدتها فانية في الكثرة (سُجَّداً لِلَّهِ) حال من ظلاله أو ممّا خلق الله ، وجمعه باعتبار المعنى (وَهُمْ داخِرُونَ) حال مترادفة مع سابقه أو متداخلة أو كلّ حال من ذي حال ، والدّخور الانقياد وجمعه بالواو والنّون لانتساب وصف الدّخور أو السّجود الّذى هو من أوصاف العقلاء إليهم ، أو لانّ الكلّ من حيث انتسابها الى الله عقلاء علماء.

اعلم ، انّ الضّالّ هو شاكلة الشّاخص الّتى تحدث من الشّاخص الكثيف إذا قابل شيئا منيرا في طرف مقابل للمنير وهي تتقلّب بتقلّب الشّاخص وتسكن بسكونه ولا اختصاص لها بما يقابل الشّمس ولا بما في عالم الطّبع بل تحصل من كلّ ما يقابل منيرا ، والمنير الحقيقىّ هو الله وفعله المعبّر عنه بالمشيّة ، وعالم العقول بالنّسبة الى المشيّة كالشّاخص ، وعالم النّفوس بالنّسبة الى العقول كالشّاخص ، والمثال بالنّسبة الى النّفوس ، وعالم الطّبع بالنّسبة الى عالم المثال ، وعالم الجنّة بالنّسبة الى عالم الطّبع ، فظلّ كلّ عبارة عمّا دونه من العوالم وسجود كلّ عبارة عن تسخّره لله تعالى شأنه وتذلّله له تكوينا ، ودخوره عبارة عن اتّباعه وحركته وسكونه على وفق إرادته ومشيّته والكلّ بالنّسبة اليه ذوو شعور وارادة وعلم. ولمّا كان لعالم الطّبع ظلّ نورانىّ كما يحدث من المرآة حين مقابلة الشّمس وينعكس منها الى جهة الشّعاع لا الى خلافه وهو المعبّر عنه بالمثال الصّاعد وظلّ ظلمانىّ كما يحدث من خلف المرآة وينعكس الى الجهة المخالفة للشّعاع وهو المعبّر عنه بالمثال النّازل والملكوت السّفلىّ وعالم الظّلمة ، وكانت الملكوت السّفلىّ محلّ الكثرات والاختلاف والتّغيّرات وكانت الشّمال تعبيرا عن هذه ، والملكوت العليا محلّ الوحدة واتّحاد المتكثّرات واجتماع المتغايرات وكانت اليمين تعبيرا عنها قال عن اليمين والشّمائل اشارة بوحدة الاوّل وجمع الثّانى الى جهة اتّحاد الاوّل وكثرة الثّانى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) نتيجة لسابقه كأنّه قيل : ما في السّماوات وما في الأرض ظلّ لله تعالى وكلّ ظلّ ساجد منقاد لذي ظلّه كما هو مشهود من ظلال الأشياء ، فما في السّماوات والأرض ساجد داخر لله (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما في السّماوات وما في الأرض على ان يكون الدّابة هي الّتى تتحرّك أو بيان لما في الأرض (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على دابّة بطريق النّشر خلاف اللّفّ أو على ما في السّماوات والمراد الملائكة الّذين هم فوق السّماوات والأرض (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) حال على سبيل التّرادف أو التّداخل أو مستأنف لبيان حالهم أو للتّعليل على عدم استكبارهم وفاعل لا يستكبرون امّا الملائكة أو جملة ما في السّماوات وما في الأرض والملائكة وليس المراد بالخوف ما هو من صفات النّفس ومنفىّ عمّن تخلّص من النّفس وصفاتها كما قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) بل المراد هو التّذلّل والانقباض الّذى هو حاصل لكلّ محاط بالنّسبة الى المحيط المعبّر عنه بالخشيّة والهيبة والسّطوه باعتبار مراتب الموصوفين ولذلك قيّده بقوله : من فوقهم سواء كان ظرفا مستقرّا حالا من ربّهم ، أو ظرفا لغوا متعلّقا يخافون اى يخافون خوفا ناشئا من فوقهم (وَيَفْعَلُونَ

٤١٥

ما يُؤْمَرُونَ) فانّ حالهم كحال القوى النّفسانيّة بالنّسبة الى النّفس الانسانيّة من حيث انّها لا تعصيها إذا كانت باقية على السّلامة الطّبيعيّة بل كحال الصّور الذّهنيّة بالنّسبة الى النّفس من حيث انّها لا وجود لها سوى وجود النّفس ، فحال الملائكة بل حال جميع الموجودات تكوينا كحال القوى والصّور الذّهنيّة وان كان حال الإنسان اختيارا غير حاله تكوينا لانّه يعصى ويتأبّى ممّا امر به ويزعم انّ له وجودا وفعلا بنفسه (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) لمّا كان الهين مشتملا على الجنس والعدد اكّده باثنين اشعارا بانّ النّهى عن الاتّخاذ انّما هو بالنّسبة الى العدد كما فعل الثّنويّة لا الى الجنس فانّ أخذ الإله مأمور به مع وصف الوحدة كما قال (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) اثباتا للجنس مؤكّدا بالوحدة ولم يقل : بل اتّخذوا إلها واحدا ؛ اشعارا بانّ كونه إلها ليس بجعل جاعل حتّى يؤمر بالاتّخاذ بل هو امر ثابت في نفسه أخذ أو لم يؤخذ (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) جواب شرط محذوف كأنّه قال : إذا كان الإله واحدا وانا ذلك الواحد فايّاى فارهبون يعنى ايّاى اتّخذوا إلها وارهبونى (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عطف في معنى التّعليل (وَلَهُ الدِّينُ) الدّين هاهنا الطّريق المؤدّى للسّالك فيه الى غايته (واصِباً) واجبا لازما حال من الدّين اى حالكونه لازما يعنى الدّين التّكوينىّ الفطرىّ بخلاف التّكليفىّ الاختيارىّ فانّه قد يكون للشّيطان ومنهيا للّسالك الى الشّيطان أو وصف للمفعول المطلق مؤكّدا لغيره اى له الدّين حقّا واصبا ، والدّين على هذا هو الطّريق الحقّ وعلى اىّ تقدير فالمقصود انّ الدّين الفطرىّ له أو الدّين الحقّ له فاجعلوا الدّين بحسب اختياركم له (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) عطف على محذوف اى أغير الله تتّخذون إلها فغيره تتّقون أو جواب شرط محذوف اى إذا كان الآلهة له وحدة فأغير الله تتّقون على ان يكون الهمزة على التّقديم والتّأخير (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) حال من الله أو من فاعل تتّقون (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) تتضرّعون يعنى أغير الله تتّقون والحال انّ النّعمة منه ولا دافع للمضرّة الّا هو والاتّقاء من الإله امّا للخوف من منع النّعمة أو إيصال النّقمة (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بدل ان يوحّدوه ويعظّموه لنعمة كشف الضّرّ (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة كشف الضّرّ وسائر النّعم يعنى يصير غاية اشراكهم ذلك (فَتَمَتَّعُوا) امر للتّهديد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) عطف على يشركون وبيان لاشراكهم (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) من اتّخاذ الآلهة والتّقرّب بهم الى الله وجعل النّصب من رزق الله لهم (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) وفيه افتراءان ؛ جعل الملائكة إناثا ، ونسبة التّوالد اليه تعالى (سُبْحانَهُ) عن نسبة التّوالد وهو للتّعجّب اله البنات (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) اى البنون (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) جملة حاليّة (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) ساتر للغيظ أو مملوّ من الغيظ (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) قائلا عند نفسه متفكّرا (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) وهوان من إمساكه (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) ليتخلّص من هوانه (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) من جعل النّصيب في رزق الله لغيره وجعل البنات له وجعل الملائكة إناثا وجعل البنين لأنفسهم (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ

٤١٦

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) يعنى ان كانوا يريدون بجعل الملائكة بنات تمثيلا لحال الملائكة في غاية قربهم من الله وكرامتهم عليه لا التّوالد الحقيقىّ فليمثّلوا بالمثل الأعلى له ولا يمثّلوا بمثل السّوء له ويبقوا المثل الأعلى لأنفسهم ، أو لله المثل الا على فليمثّلوا بالأمثال اللّائقة بعلوّه ممّا يدلّ على التّنزّه عن التّوالد (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يتطرّق شبه الحاجة اليه ولا يمثّل له بما يوهم الحاجة (الْحَكِيمُ) الّذى لا يقول الّا عن علم بكنه كلّ شيء (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ) ومنه تسمية الملائكة إناثا ونسبة الولد الى الله أو التّمثيل له بمثل غير لائق بشأنه (ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) لانّ ظلمهم قد سرى الى البهم من الدّوابّ وبجزائهم يهلك الدّوابّ أيضا (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ليبلغوا ما بلغوا من الشّقاوة ويتوب من يتوب ويسعد من يسعد (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) قد مضى انّ المعنى إذا قدّر مجيء أجلهم حتّى لا يستشكل بيستقدمون (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) من البنات والشّركاء في الرّياسة وأراذل الأموال (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ان قرئ برفع الكذب فهو صفة لألسنتهم كما انّه قرئ الكذب بضمّتين مرفوعا وجمعا للكذوب وصفة لا لسنتهم ، وان قرئ بنصب الكذب كما هو المشهور فهو مفعول تصف وعلى الاوّل فقوله (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) مفعول تصف وعلى الثّانى فهو بدل من الكذب وقد قالوا لئن رجعت الى ربّى انّ لي عنده للحسنى ، ويجوز ان يكون انّ لهم الحسنى بتقدير اللّام تعليلا لتصف على الوجهين والمعنى لانّ لهم الحسنى في الدّنيا (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) لا كسب جرم في ذلك إثبات لضدّ ما ادّعوا لأنفسهم (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) فيما ادّعوا لأنفسهم أو في أعمالهم (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما أرسلتك الى هذه الامّة (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) كما زيّن لهؤلاء فلا تحزن على ما فعلوا فانّه ليس بأمر حادث في زمانك (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) فالشّيطان ولىّ الأمم الماضية في النّار اليوم أو هو ولىّ أمّتك اليوم بتزيين السّوء لهم كما كان ولىّ الأمم الماضية قبل ذلك (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) للأمم الماضية أو لامّتك وعلى اىّ تقدير فهو تهديد لامّته (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) لمّا علمت انّ غاية النّبوّة الدّلالة على الولاية ولو لا الولاية لما كان للنّبوّة غاية وانّ الّذى هو معظم ما اختلفوا فيه هو الولاية وهو النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون علمت انّ المعنى لتبيّن لهم الولاية (وَهُدىً وَرَحْمَةً) عطف على الفعل المؤوّل (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يذعنون بالله وبالآخرة أو يؤمنون بالايمان العامّ والبيعة النّبويّة ، واطلاق التّبيين لكونه عامّا ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حىّ عن بيّنة ، وتقييد الهداية والرّحمة لاختصاصهما بمن استحقّهما (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بانبات الحبوب الّتى تحت ترابها والعروق الّتى فيها وكذلك احياؤكم بعد موتكم حالكونكم نطفة وجمادا وبعد موتكم عن الحيوة الحيوانيّة واحياؤكم في النّشور (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالّة على بعثكم وعلى علم الله وقدرته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يستسلمون فانّ السّماع اوّل مراتب الايمان ثمّ بعده الايمان ثمّ العقل ثمّ الفكر ، والتّذكّر يأتى في كلّ من المراتب ، والمراد بالسّماع الانقياد كما في قوله (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ولمّا كان دلالة إنزال الماء وإنبات عروق الأرض وحبوبها على علمه وقدرته واحياء

٤١٧

الموتى يكفيها الخروج من العناد والدّخول في مقام الانقياد اكتفى فيها بالسّماع (وَإِنَّ لَكُمْ) ايّها المؤمنون أو ايّها النّاس (فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) استيناف أو حال وتذكير الضّمير هاهنا وتوحيده امّا لكون الانعام مفردا في معنى الجمع أو لرجوعه الى البعض وانّثه في سورة المؤمنون على اعتبار اللّفظ أو المعنى (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) من الدّم والفرث وآثارهما (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) عن رسول الله (ص): ليس أحد يغصّ بشرب اللّبن لانّ الله يقول : (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) ، وقوله (إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) خطابا للمسلمين أو للنّاس أجمعين وقع موقع انّ في ذلك لآية لقوم يؤمنون أو لقوم يشعرون (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) من ثمرات النّخيل امّا عطف على ما في بطونه بدون التّقدير ان كان نسقيكم مستأنفا أو على نسقيكم بتقدير نسقيكم ان كان حالا وحينئذ يكون تتّخذوا حالا أو مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر وامّا مستأنف متعلّق بتتّخذون ولفظة منه تكون حينذ تأكيدا للاوّل وامّا مبتدء وتتّخذون خبره بجعل من التّبعيضيّة لقوّة معنى البعضيّة فيها قائمة مقام الاسم المبتدء من دون تقدير أو بتقدير موصوف محذوف أو بجعله اسما مبتدء بنفسه اى بعض من ثمرات النّخيل تتّخذون منه اى من ذلك البعض ، وافراد الضّمير امّا باعتبار تقدير مضاف قبل الثّمرات أو بلحاظ معنى البعضيّة في من والمراد بالسّكر الخمر ولا ينافي حرمتها ذكرها في مقام الامتنان لانّ حرمتها شرعيّة وكونها نعمة امر عرفيّ عقلىّ ، على انّ فيها منافع باستعمالها من غير شرب لها ، ولمّا دلّ الامتنان بها على إباحتها ورد في الخبر : انّها منسوخة بآية حرمة الخمر ، وقيل : فيها أشياء أخر لكنّ الإتيان بقوله (وَرِزْقاً حَسَناً) بعده يدلّ على انّ المراد به الخمر وانّها غير حسن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لا يكفى فيه السّماع والايمان وان كان لا يحتاج الى استعمال المفكّرة (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وحي الهام فطريّ تكوينىّ بمعنى انّه أودع في وجوده التّدبير الّذى يعجز عن مثله العقلاء فانّ تدبير بيوتها مسدّسة مثلا صفّة بحيث لا يكون بينها فرجة ، ونظامها في خروجها ودخولها في طاعة يعسوبها ، وعدم وقوعها على الأشياء المنتنة امر يتحيّر فيه العقلاء ، ولمّا كان الآية شاملة بجميع المراتب من التّنزيل والتّأويل كان الوحي بالنّسبة الى الأنبياء (ع) على معناه الّذى هو الإلقاء بتوسّط الملك ، وبالنّسبة الى الائمّة والأولياء (ع) التّحديث والإلهام ، وبالنّسبة الى النّحل الصّوريّة إيداع قوّة بها يقع هذا النّحو من التّدبير (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) من الكروم الّتى يعرشونها ومن السّقوف الّتى يرفعونها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) لطيفها وخالصها (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) الّتى ألهمك سلوكها الى البيوت ، أو فاسلكي السّبل الّتى ألهمك لعمل العسل ، أو فاسلكي سبل ربّك من البيوت الّتى هي مسالك لادخال العسل (ذُلُلاً) حالكون السّبل ذلك يسهل السّلوك فيها بتسهيل الله أو حالكونك منقادة لأمر ربّك (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) وهو العسل باختلاف ألوانه بالابيضاض والاصفرار والاحمرار والاسوداد (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) منفردا أو منضّما الى غيره لمبرودى المزاج ومحروريه والعجب انّه يخرج من محلّ السمّ ما فيه شفاء ، وفي الخبر : نحن والله النّحل الّذى اوحى اليه ان اتّخذى من الجبال بيوتا أمرنا ان نتّخذ من العرب شيعة ، ومن الشّجر يقول من العجم وممّا يعرشون يقول من الموالي ، والّذى يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه اى العلم الّذى يخرج منّا إليكم ، وفي رواية اخرى :

٤١٨

والشّيعة هم النّاس ، وغيرهم الله اعلم بهم ، ولو كان كما تزعم انّه العسل الّذى يأكله النّاس اذن ما أكل منه ولا شرب ذو عاهة الّا شفى لقول الله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ولا خلف لقول الله وانّما الشّفاء في علم القرآن (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) لأهله لا شكّ ولا مرية واهله ائمّة الهدى الّذين قال الله (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ولمّا كان النّحل وتدبيرها وشراب بطنها مظاهر للائمّة (ع) وتربيتهم للشّيعة وعلمهم كان التّفسير بالنّحل والبيوت المسدّسة وعسلها في محلّه ، ولمّا كان الوقوف على ظاهر الآية وحصر المقصود في النّحل الصّوريّة واستقلال النّحل بالقصد منافيا لمقصود الآية من كون القصد الى النّحل من حيث كونها مظهرا لا اصالة وكون المقصود استقلالا هو رؤساء الدّين كان انكار التّفسير بالنّحل الصّوريّة في محلّه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فانّه لا يكفى فيه السّماع والايمان ولا العقل والتّذكّر لكثرة دقائقه وخفاء طريق الانتقال الى قدرة بارئها والى ما يمثّل بها له (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) بآجالكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو وقت الهرم ، وفي الخبر : إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر ، وفي خبر آخر : ان يكون عقله مثل عقل ابن سبع سنين (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) لا يعلم ما علمه قبل ذلك ، وفي الخبر: انّ هذا ينقص منه جميع الأرواح وينقص روح الايمان وليس يضرّه شيئا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بما ينبغي وانّ الموت قبل أرذل العمر خير لكم ولذلك لا يصل أكثركم الى أرذل العمر (قَدِيرٌ) على الإيصال الى أرذل العمر (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) هذه الجملة وسابقتها ولاحقتها إظهار لنعمه تعالى تمهيدا لذمّ الإشراك والكفران والتّفضيل بجعل بعض غنيّا وبعض فقيرا وبعض مالكا لرزقه ورزق غيره ، وبعض مملوكا هو ورزقه في يد غيره (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ذكر اوّلا نعمة التّفضيل في الرّزق وانّ المنعم بها هو الله لا غير ، ثمّ ذكر تمهيدا لابطال الشّركاء انّكم لا ترضون فيما فضّلكم الله بتسوية مماليككم المجازيّة لكم فكيف ترضون بتسوية مماليكه الحقيقيّة فيما يختصّ بذاته تعالى له فالمعنى انّ الله فضّل بعضكم على بعض في الرّزق فما الّذين فضّلوا براضين لردّ الرّزق عن أنفسهم وإعطائه لمماليكهم حتّى يكونوا مساوين في رزق هو لهم من غيرهم ، أو المقصود إظهار الانعام عليهم وعلى مماليكهم على السّواء وانّ المنعم من كمال انعامه لا يفرّق بينهم وبين مماليكهم فالمعنى والله فضّل بعضكم على بعض في الرّزق وجعل رزق المماليك أيضا بيده لا بيد المالكين ، فما الّذين فضّلوا برادّى رزقهم على المماليك بل الله هو معطي أرزاق المماليك ؛ وعلى الاوّل فمعنى قوله (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) لا يرضون ان يكونوا مع المماليك في الرّزق سواء ، وعلى الثّانى فمعناه انّ المالكين والمملوكين في الارتزاق من الله سواء ولا فضيلة للمالكين على المملوكين في أصل الرّزق بل رزق الكلّ بيده يجرى عليهم على السّواء ، ويؤيّد هذا المعنى ما نقل انّ أبا ذرّ رحمه‌الله سمع النّبىّ (ص) انّه قال : انّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكتسون ، وأطعموهم ممّا تطعمون ، فما رأى عبده بعد ذلك الّا ورداؤه رداءه وإزاره إزاره من غير تفاوت فقوله (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) على هذا انكار لترك التسّوية بين الأنفس والمماليك وتسوية له جحودا ، وعلى الاوّل انكار لجحود نعمة التّفضيل والغفلة عنها وجعل عبيده تعالى شركاء له ومتساوين معه تعالى في الآلهة مع انّهم لا يرضون ذلك لأنفسهم (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)

٤١٩

من جنسكم لتأنسوا بهنّ وترغبوا فيهنّ وترتاحوا إليهنّ وهذا بيان لنعمة اخرى (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) قد فسّر الحفدة في الاخبار ببني البنت وبالبنين أنفسهم فيكون من عطف الأوصاف المتعدّدة لشيء واحد وباختان الرّجل على بناته لانّ الحافد بمعنى المسرع في الخدمة والكلّ مسرعون في الخدمة والكلّ من عظام النّعمة (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أعطاكم من جملة الطّيّبات من المركوب والمسكون والمطعوم والمشروب أو رزقكم من الأرزاق الطّيّبة من المطعوم والمشروب (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) يعنى بالشّركاء الباطلة أو بانتساب ذلك الى الشّركاء (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) من حيث انّهم يسترون انعامه تعالى فيها وينسبونها الى غيره تعالى من الشّركاء (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) بدل من رزقا امّا لتأكيد التّحقير المستفاد من تنكير رزقا ، وامّا للاشارة الى تعميم رزقا وكونه بمعنى نصيبا ، والمراد برزق السّماوات هو أرزاق الإنسان من حيث انسانيّته وحيوانيّته وبرزق الأرض أرزاق الإنسان من حيث نباتيّته وحيوانيّته ، أو المراد برزق السّماوات والأرض رزق كلّ من المراتب بتعميم الرّزق لما يرزق وأسبابه (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ان يملكوه ، اولا استطاعة لهم ولا قدرة (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) اى لا تجعلوا له أمثالا تعبدونها لعبادته ، أو لا تضربوا له الأمثال بتشبيه حاله بحال الملوك وارتضاء الخدمة من عبيدهم ومقرّبيهم واجرائهم أرزاق العساكر على أيدي وزرائهم وامنائهم وبان تقولوا انّ خدمة مقرّبى السّلطان ادخل في التّعظيم وأمثال ذلك فانّه أعلى من ان تعرفوه وتعرفوا كيفيّة أوصافه وأفعاله حتّى تضربوا له الأمثال (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) فقولوا ما علّمكموه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فلا تقولوا من عند أنفسكم شيئا في شيء فضلا عن ضرب المثل فيه تعالى (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للشّركاء ولنفسه أو للكافر والمؤمن (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) والمراد بالرّزق الحسن هو العلم والحكمة والعيان والتّصرّف في الملك والملكوت ، وإنفاق السّرّ هو ما يصل الى الملك ببركته ومن طريق السّرّ ، وإنفاق الجهر هو ما يعلمه ويلقّنه غيره بحسب الظّاهر ، وحاصل المرام وغاية المقصود من الآيات السّابقة واللّاحقة هو تمثيل حال علىّ (ع) فانّ النّعمة الحقيقيّة هو علىّ (ع) وولايته والباطل الحقيقىّ هو اعداؤه وأصل من رزقه الله تعالى رزقا حسنا هو علىّ (ع) وغيره كائنا من كان مرتزق بتوسّطه والمملوك الّذى لا يقدر على شيء هو أعدائه (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على نعمة عدم التّسوية وحكمة إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وهو تعليم للعباد ان يحمدوا على كلّ النّعم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حال المملوك العاجز والقادر المنفق ولذلك يسوّون بينهما أو لا يعلمون عدم جواز التّسوية بينهما أو لا يرتقون الى مقام العلم عن مقام الجهل ولذلك يسوّون بينهما ويختارون العاجز على القادر (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) للشّركاء ولنفسه أو للكافر والمؤمن أو لعلىّ (ع) ولاعدائه ومخالفيه (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ولد أخرس لا ينطق ولا يفهم نطق غيره (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من النّطق وسائر الأفعال كمن كان جميع حواسّه وجميع قواه المحرّكة معطّلة (وَهُوَ كَلٌ) ثقل (عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) يعنى من كان متّصفا بالعدل في جميع أحواله وأقواله وأفعاله ويعرف العدل في جميع موارده ويأمر غيره

٤٢٠