تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

لندب أولياءه وأنبياءه اليه ، ويجوز ان يكون الخطاب عامّا لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (قُلْ) لهؤلاء الكافرين برسالتك (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) اى على التّبليغ (أَجْراً) حتّى يثقل عليكم فتكفروا برسالتي (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى) عظة (لِلْعالَمِينَ) فمن شاء اتّعظ ومن شاء كفر لكنّهم لا يتّعظون وجهلوا الله وقيّوميّته (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حتّى يعلموا سعة رحمته وكمال حكمته ورأفته بخلقه وانّ الرّسالة غاية لطف منه بالخلق (إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وأنكروا لطفه وحكمته في إرسال الرّسول (قُلْ) لهم نقضا عليهم (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) تجزّئونه (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) يعنى انّهم يبدون ما لا يظهر فيه رسالتك ويخفون ما فيه رسالتك ، وكذا يبدون ما يوافق اهويتهم ويخفون ما لا يوافقها ، وهو تعريض بأمّته (ص) حيث يبدون بعده من الكتاب ما يوافق أهويتهم ويخفون ما لا يوافقها (وَعُلِّمْتُمْ) بذلك الكتاب (ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) من احكام الشّرع وآداب المعاش والمعاد (قُلِ اللهُ) ان لم يجيبوا لك وبهتوا لانّهم لا جواب لهم سواه ، ويحتمل ان يكون هذا مستأنفا غير مرتبط بالسّؤال ويكون المقصود امره (ص) بالمداومة على ذكر الله حالا وقالا والاعراض عنهم (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ) في ظلمات اهويتهم ولجج آمالهم بحيث لم يتمكّنوا من تصديقك وداموا على تكذيبك (يَلْعَبُونَ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) مثل كتاب موسى (ع) (مُبارَكٌ) جعل فيه البركة لمن تعلّمه وعمل به ودام على قراءته (مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الّتى قبله لتذكّر به (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) مكّة والصّدر وصاحب الصّدر (وَمَنْ حَوْلَها) من أهل الشّرق والغرب في الصّغير والكبير ولمّا كان المراد بمن حولها من سكن الدّنيا بالنّسبة الى الملكوتين السّفلى والعليا صحّ تفسيره بمن في الأرض (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) اى مذعنون بها (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعنى يذعنون بالكتاب وانّه من الله وحقّ وصدق لانّه صورة الآخرة ومن أذعن بالآخرة اشتاق إليها ، ومن اشتاق إليها أذعن وصدّق بكلّ ما فيه ذكرها ، وليس في الكتاب الّا ذكرها ، ومن أذعن بالآخرة والكتاب آمن بعلىّ (ع) لانّ الآخرة والكتاب صورتا علىّ (ع) كما انّ بشريّته صورته ، ومن آمن به صار مصلّيا حقيقة ومن صار مصلّيا حقيقة شغله لّذة الصّلوة عن كلّ لّذة فهم لا يفارقونها (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) اضافه الصّلوة إليهم للاشارة الى انّه كان لكلّ صلوة مخصوصة هي روح صلوتهم القالبيّة المشتركة بين الكلّ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) نزول الآية مشهور وفي التّفاسير مسطور ، من انّها في عبد الله بن ابى سرح وانّه قدم المدينة وأسلم وكان له خطّ حسن وكان إذا نزل الوحي على رسول الله (ص) دعاه فيكتب ما يمليه رسول الله (ص) وكان يبدّل الكلمة مكان كلمة بمعناها وكان رسول الله (ص) يقول هو واحد فارتدّ كافرا ولحقّ بمكّة وهدر رسول الله (ص) يوم فتح مكّة دمه وعثمان التمس العفو منه (ص) فصار من الطّلقاء ، لكن المقصود والتّأويل في أعداء علىّ (ع) حيث ادّعوا الخلافة لأنفسهم ويجرى في من نصب نفسه للمحاكمة بين الخلق أو للفتيا وبيان أحكامهم من غير نصّ واجازة من الرّسول (ص) بلا واسطة أو بواسطة ، فانّ حكم مثله وفتياه افتراء على الله ولو أصاب الحقّ فقد أخطأ وليتّبوأ

١٤١

مقعده من النّار وليست الاجازة الالهيّة باقلّ من الاجازة الشّيطانيّة الّتى عليها مدار تأثيرات مناطرهم ونفخاتهم ولذلك ورد عنهم (ع): هذا مجلس لا يجلس فيه الّا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ ، اشارة الى مجلس القضاء وليس الوصىّ الّا من نصّ المنصوص عليه على وصايته ، وكانت سلسلة الاجازة بين الفقهاء كثّر الله أمثالهم والعرفاء رضوان الله عليهم مضبوطة محفوظة وكان لهم كثير اهتمام بالإجازة وحفظها ، حتّى انّهم كانوا لا يتكلّمون بشيء من الأحكام ولا يحكمون على أحد بل لا يقرءون شيئا من الادعية والأوراد من غير اجازة ، وقد نقل العيّاشى عن الباقر (ع) في تفسير الآية انّه قال : من ادّعى الامامة دون الامام (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) للإمام أو لأنفسهم بالافتراء على الله بقرينة ما يأتى من قوله (بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ) ، اشارة الى الافتراء وبقرينة (كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) اشارة الى الانحراف عن الأوصياء والظّلم لهم ، فالمعنى لو ترى إذا الظّالمون للإمام أو لاتباعه أو لأنفسهم أو للخلق بادّعاء الامامة أو الحكومة بين النّاس والفتيا لهم من غير اجازة (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) وشدائدها الّتى تغمر عقولهم وتدهشهم بحيث يغشى عليهم (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) لقبض أرواحهم قائلين (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) غيظا عليهم (الْيَوْمَ) متعلّق باخرجوا أو بتجزون والجملة جزؤ مقول الملائكة أو استيناف من الله كأنّه صرف الخطاب عن الرّسول (ص) وخاطبهم بنفسه وقال اليوم (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فالويل لمن اعرض عن المنصوصين وادّعى الرّأى والفتيا لنفسه من غير نصّ من المنصوصين (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) هو أيضا امّا جزء قول الملائكة أو من قول الله سواء جعل الجملة الاولى من الله أو من الملائكة ، والمراد بالفرادى الفرادى عن كلّ ما يظنّ انّه له من العيال والأموال ومن القوى والفعليّات وعن كلّ ما يظنّ انّه شفيعه عند الله ممّا جعله شركاء الله أو شركاء خلفائه (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فرادى عن كلّ ذلك وهذا يدلّ على ما قاله العرفاء من تجدّد الأمثال فانّه يدلّ على تعدّد الخلق (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ) في الدّنيا من الأموال والعيال والقوى والفعليّات (وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) من الأصنام والكواكب وغيرها من المعبودات الباطلة وممّن ادّعى الخلافة من دون اذن واجازة وممّن ادّعى الرّياسة والحكومة والفتيا من غير اجازة (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) لله أو لعلىّ (ع) (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) اى وصلكم على قراءة الرّفع والبين من الاضداد وعلى قراءة النّصب فالفاعل مضمر والبين ظرف (وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) انّهم شركاء الولاية والخلافة أو شركاء الله عن الصّادق (ع): نزلت هذه الآية في بنى أميّة وشركاؤهم ائمّتهم ثمّ لمّا ذكر حال المنحرفين وظلمهم وعقوبتهم ذكر كيفيّة تدبيره للعالم وآيات قدرته وعلمه ليكون كالعلّة للزوم كون الخلافة من الله المشار اليه بقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ) (الآية) وحجّة على المنحرفين عنها فقال (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بالنّجم والشّجر أو الإسلام من طينة طيّبة والايمان من الإسلام والكفر من طينة خبيثة أو الصّدر المنشرح بالإسلام من طينة طيّبة والقلب من ذلك الصّدر والمنشرح بالكفر من طينة خبيثة ، أو طينة المؤمن ممّا يطرؤ عليها من السّجّين وطينة الكافر ممّا يعرضها من العلّيّين ، أو العلم من العلماء والجهل من الجهلاء ، أو النّور من المستنير والظّلمة من المظلم فانّ الكلّ يسمّى حبّا ونوى باعتبار محبوبيّته وبعده من الخير كما أشير اليه في الاخبار (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)

١٤٢

خبر بعد خبر وأسقط العاطف هاهنا وفي قوله فالق الإصباح وأتى به في قسيم كلّ وكذا في قوله والنّوى للاشارة الى انّ كلّا مع قسيمه كاف في الدّلالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته وتدبيره لعباده ، لانّ كلّا من قوله يخرج الحىّ وفالق الإصباح كأنّه كلام مستأنف غير مربوط بسابقه والمراد بالحىّ النّامى من النّبات والحيوان أو ذو الحسّ والحركة من الحيوان وبالميّت غيره ، أو المراد به المسلم والمؤمن والعالم ومقابلوهم ، والعدول عن الاسم الى الفعل المضارع للاشارة الى قلّة الحىّ كأنّه قلّما يحصل إخراجه من الميّت بخلاف الميّت فانّه بكثرته كأنّه مستمرّ إخراجه (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ) أتى باسم الاشارة البعيدة للاشارة الى عظمة من كان هذه صفته (اللهَ) اى المستحقّ للالهيّة لا ما تجعلونه إلها (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تصرفون وجملة ذلكم الله معترضة ان كان قوله (فالِقُ الْإِصْباحِ) خبرا بعد خبر لانّ ، أو مستأنفة ان كان مستأنفا ، أو خبرا بعد خبر لذلكم (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) وقت راحة من سكن اليه إذا انس به واطمأنّ أو وقت سكون عن الحركة وقرئ جاعل اللّيل وعلى قراءة جعل فالاختلاف بالاسم والفعل ، كأنّه للاشارة الى انّ اقتضاء اللّيل السّكون امر ذاتىّ له لا عرضىّ محتاج الى تجديد الجعل بتجدّد اللّيل ، بل جعله سكنا لازم لخلقته اوّلا بخلاف فلق الإصباح ، واللّيل اعمّ من ليل اليوم وليل عالم الطّبع وليل عالم الجنّة وليل صروف الدّهر من القحط والزّلازل وكثرة القتل والنّهب وكثرة الأمراض وغيرها ، وكلّ مرتبة من مراتب العالم الكبير أو الصّغير جهتها الدّانية ليل بالنّسبة الى جهتها العالية ، هذا في العالم الكبير وليل الطّبع والنّفس والجهل والشّهوات والأمراض والبلايا والأحزان في الصّغير (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) سببى حسبان للأوقات لتجاراتكم وزراعاتكم وديونكم ومواعيدكم وقد يعبّر عن الولاية والنّبوّة وعن الولىّ والنّبىّ بالشّمس والقمر ، والحسبان حينئذ يكون بمعنى المحاسب أو ميزان الحساب فانّهما شاهدان ومحاسبان على الجليل والقليل وهما اللّذان يعبّر عنهما الصّوفيّة بالشّيخ المرشد والشّيخ الدّليل فانّهما في اصطلاحهم اعمّ من الولىّ والنّبىّ وخلفائهما والنّبوّة كالقمر تكسب النّور من الولاية كالدّليل من المرشد وقد يعبّر بهما عن العقل الكلّىّ والنّفس الكلّيّة وقد يعبّر عن العقل الجزوىّ والنّفس الجزويّة أو العقل الجزوىّ والقلب أو آدم وحوّاء ، كلّ ذلك في العالم الصّغير وعلى كلّ التّقادير ، فالحسبان بمعنى المحاسب أو ميزان الحساب (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) لمّا كان المراد من هذه المقدّمات تصوير تدبيره لمعاش الخلق بحيث لم يشذّ شيء ممّا يحتاجون اليه في المعاش حتّى يكون برهانا قاطعا على عدم إهمالهم فيما يحتاجون اليه في امر المعاد المشار اليه بقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها) وأحضره باسم الاشارة وصرّح بأنّه تقديره ليكون كالمشاهد للسّامع فيصير قوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) غنيّا عن الحجّة ، والنّجوم ان كانت اعمّ من الشّمس والقمر فذكرهما هناك لشأن الحسبان وهاهنا لشأن الاهتداء بهما ، والنّجوم في عالم الكون معلوم وفي الصّغير القوى والمدارك الجزئيّة والواردات الغيبيّة والإلهامات القلبيّة والاذكار السنيّة وفي الكبير الائمّة (ع) وخلفاؤهم والمراد بالظّلمات الظّلمات الصّوريّة والمعنويّة من ظلمات النّفس وشبهاتها وزّلاتها وضلالاتها وقد فسّرت النّجوم بآل محمّد (ص) (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) آيات علمنا وقدرتنا وتدبيرنا للأشياء على طبق حكمتنا بنصب رئيس في كلّ من مراتب العالم الكبير والصّغير في الكتاب التّدوينىّ والتّكوينىّ الآفاقىّ والانفسى ، ليدلّ على وجوب رئيس منّا في أشرف أجزاء العالم الكبير

١٤٣

وهو الإنسان وليس تفصيلنا للآيات لكلّ ذي شعور بل للإنسان ولا لكلّ فرقة منهم بل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فانّ غيرهم لا ينجع فيه تفصيل الآيات (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ)، والعلم قد يطلق بمعنى مطلق الإدراك تصوّرا كان أو تصديقا ، وقد يطلق بمعنى العرفان وهو التّصوّر الجزئىّ وقد يطلق بمعنى ادراك النّسبة وهما كان أو شكّا أو ظنّا أو علما عاديّا أو تقليديّا أو يقينا تحقيقيّا ، وقد يطلق على الاعتقاد الرّاجح ظنّا كان أو علما عاديّا ، أو تقليدا ، أو يقينا ، وقد يطلق على ما يقابل الظّنّ من هذه الثّلاثة وهذه ليست بمرادة وهو واضح ، وقد يطلق على اليقين واليقين ان كان متعلّقا بالأمور المعاشيّة من غير توجّه وارتباط بالآخرة كما قال تعالى ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ،) فليس تفصيل الآيات لهذا العالم لانّه لغفلته لا يدرك ذا الآية من الآيات بل ينفى عنه العلم وان كان متعلّقا بالأمور الاخرويّة من العقائد العقليّة والأعمال القلبيّة والأخلاق النّفسيّة والعبادات القالبيّة والأعمال المعاشيّة المؤدّية الى إصلاح المعاد فامّا ان لا يقارن العمل ولا يستخدم الخيال بل يستخدمه الخيال في مآربه الكاسدة ومقاصده الفاسدة ويجعل آلة الدّين شركاء للدّنيا سواء قارن صورة العمل كما في المتعبّدين المرائين أو لا ، كما في المتهتّكين الّذين لا يبالون بما عملوا ولا بما قيل فيهم أو قالوا ، فهذا لا يسمّى أيضا علما عند أهل الله لما فيه من عدم الاشتداد بل من عدم التّوجّه الى المعلوم ، الا ترى الى قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كيف اثبت لهم هذا العلم ثمّ نفاه عنهم لمّا لم يعملوا بمقتضاه ، وامّا ان يقارن العمل فيما له تعلّق بالعمل ويقارن الاشتداد فيه وفيما لا تعلّق له بالعمل بان يستخدم الخيال ويستتبع المدارك والقوى ثمّ الأعضاء في مآربة العقليّة ، ويترقّى القوى والأعضاء من حضيض التأبّى الى أوج الانقياد والتّسليم والعقل من مقام حصول صورة المعلوم عنده الى مقام حضوره ، فانّ العلم يقتضي العمل فاذا قارن مقتضاه اشتدّ ولم يقف حتّى يتحقّق العالم بالمعلوم ويتّحد العلم والعالم والمعلوم ، فهذا العالم هو الّذى يرى قدرة الله وعلمه وحكمته في كلّ مقدور ولذا جعل تفصيل الآيات من فلق الحبّ الى جعل النّجوم سببا للهداية لهذا العالم ، وقد مضى تحقيق العلم ومراتبه في سورة البقرة عند قوله تعالى (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) نفس آدم (ع) بحسب الجسم أو نفس النّبىّ (ص) بحسب الإسلام أو نفس الولىّ (ع) بحسب الايمان أو نفس الكلّ أو ربّ النّوع بحسب الحيوة الحيوانيّة وبحسب الحيوة الانسانيّة (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) هذه الكلمة مجملة متشابهة من حيث اللّفظ والمعنى والاعراب ، قرئ مستقرّ بفتح القاف اسم مفعول من استقرّه إذا وجده قارّا ساكنا ، أو من استقرّ إذا قرّ وسكن بمعنى مستقرّ فيه ، أو اسم مكان أو مصدرا ميميّا وهكذا الحال في المستودع ، وقرئ بكسر القاف اسم فاعل من استقرّ بمعنى قرّ والمعنى هو الّذى انشأكم فمنكم قارّ ومنكم غير قارّ ، أو محلّ قرار ومحلّ عدم قرار ، أو لكم استقرار وعدم استقرار ، أو محلّ قرار وعدم قرار ، أو فيكم استقرار وعدم استقرار أو محلّ قرار وعدم قرار أو قارّ وغير قارّ ، والأصلاب والأرحام والأبدان والدّنيا والبرازخ بوجه محلّ قرار وبوجه محلّ عدم قرار للنّطف والنّفوس والأبدان ، وبعد القيامة محلّ قرار على الإطلاق ، والأبدان والنّفوس والصّدور والقلوب محلّ قرار للحيوة الحيوانيّة والانسانيّة والإسلام والايمان والعلوم بوجه ، ومحلّ عدم قرار بوجه (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) ولمّا كان الاستدلال بالانشاء من نفس والاستقرار والاستيداع على تدبيره وحكمته محتاجا الى استعمال نوع فطنة فوق العلم ذكر الفقه معه (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ

١٤٤

مِنَ السَّماءِ) سماء الطّبع وسماء الأرواح والنّبوّة والولاية (ماءً فَأَخْرَجْنا) التفات اشعارا بانّ نزول الماء من السّماء كأنّه يكفيه الأسباب الطّبيعيّة ولا حاجة له الى مباشر قريب سواها بخلاف إخراج النّبات الأخضر الطّرىّ من الحبّ الجماد اليابس فانّ له مباشرا قريبا مدبّرا حكيما قديرا الهيّا سوى الأسباب الطّبيعيّة (بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) من أنواع النّبات أو نموّ كلّ شيء من أنواع الحيوان بمعنى سبب نموّه أو نباتا مناسبا لكلّ نوع من أنواع الحيوان ولرفع كلّ حاجة من أنواع الحاجات (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) اى من النّبات ورقا وغصنا (خَضِراً) وصف مثل أخضر أو من أجل الماء زرعا ونباتا خضرا وعلى هذا يكون من عطف التّفصيل على الإجمال (نُخْرِجُ مِنْهُ) اى من النّبات أو من الخضر أو من أجل الماء (حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ) خبر مقدّم (مِنْ طَلْعِها) بدل أو من الّنخل عطف على نبات كلّ شيء بإقامة من التّبعيضيّة مقام الاسم أو عطف على منه ومن طلعها خبر مقدّم والجملة حال أو مستأنفة (قِنْوانٌ) أعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو (دانِيَةٌ) قريبة التّناول (وَ) أخرجنا به أو منه أو نخرج منه (جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً) في الشّكل والطّعم واللّون (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ) اى ثمر كلّ واحد (إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) اى نضجه حتّى تعلموا انّ لها مدبّرا حكيما قديرا وانّ حالكم حالها (إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالايمان العامّ أو الخاصّ فانّ الايمان بوحدته كاف في الاستدلال بالمذكورات وان لم يكن علم وفقه (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) بدل من شركاء أو مفعول اوّل ولله حال من شركاء وذلك لانّ بعضهم يجعلون إبليس ذا الهة ، وبعضهم قائلون بالظّلمة كناية عن دار الجنّة والشّياطين ، وبعضهم يعبدون الأرواح الخبيثة الّتى هي الجنّة والشّياطين زعما منهم انّ تلك الأرواح هي الأرواح الّتى كانت واسطة بين الله وبين الخلق وجميع المشركين سواء صرّحوا بانّ معبوديهم الشّياطين والجنّة أو لم يصرّحوا بل عبدوا الشّجر والصّنم والكوكب وغيرها لا يعبدون الّا الجنّ في عبادتهم المعبودات الباطلة كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) والسّرّ في ذلك انّ الجنّ من اتباع إبليس تزيّن لهم المعبودات الباطلة فيطيعونهم في ذلك فيعبدون الجنّ من حيث لا يشعرون (وَخَلَقَهُمْ) جملة حاليّة بتقدير قد أو لا حاجة لها الى قد لو ورد الماضي حالا كثيرا وفصيحا بدون قد يعنى خلق الله الجنّ والمخلوق لا يكون معبودا كالخالق ، ويحتمل إرجاع الضّمير الى الجاعلين يعنى والخالق لهم لا يكون كغير الخالق لهم (وَخَرَقُوا لَهُ) جعلوا لله من عند أنفسهم من غير حقيقة وبرهان (بَنِينَ وَبَناتٍ) فقالوا نحن أبناء الله والمسيح ابن الله وعزيرٌ ابن الله والملئكة بنات الله وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منهم بذلك (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما من غير سبق مادّة ومدّة لا من أصل خلق ولا على مثال سبق بدعه انشأه كابتدعه والبديع الحادث لازم ومتعدّ فسماوات الأرواح وأراضى الأشباح كلّها مخلوقة (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) كيف يجوز ان يكون له ولد (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) على مثاله شريكة له غير مخلوقة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فلم يكن شيء صاحبته ولا ولده بل الكلّ مخلوق له (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

١٤٥

فلا يحتاج الى ولد وكيل في استعلام حال بعض الأشياء (ذلِكُمُ) الموصوف بالأوصاف المذكورة من قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِ) الى هاهنا والإتيان باسم الاشارة البعيدة المشيرة الى الموصوف بتلك الأوصاف للتّعظيم ولإحضارها في الّذهن وليكون اشارة الى علّة انّيّته تعالى بطريق برهان الإنّ والتّكرار مع سابقه للتّمكّن في الأذهان (اللهُ) اى المسمّى بالله الدّائر على ألسنتكم والموصوف بهذه الأوصاف حقيقة وجوديّة فالمسمّى بالله حقيقة متحقّقة (رَبُّكُمْ) اشارة الى قيّوميّته وربوبيّته لخصوص نوع الإنسان (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نفى للشّريك له في الآلهة (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) نفى للثّانى عنه تعالى ، فانّ كلّ ما يسمّى شيئا فهو مخلوق له تعالى متعلّق الوجود به تعالى وليس ثانيا له (فَاعْبُدُوهُ) يعنى بعد ما ثبت انّيّته وربوبيّته ، وان لا ثانى له فينبغي العبادة له فاعبدوه (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) حافظ لا حاجة له في تدبير الأشياء الى وكيل وواسطة من ولد وغيره لإحاطته بالكلّ ، ولمّا صار المقام مظنّة ان يقال هل يدرك مع احاطته؟ ـ فقال جوابا : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) لا ابصار العيون ولا ابصار القلوب لإحاطته وقصور المحاط عن ادراك المحيط ، ولكن تدركه القلوب بحقيقة الايمان (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لانّ شأن المحيط ادراك المحاط (وَهُوَ اللَّطِيفُ) لطفا يقصر عن إدراكه الأبصار لقصورها (الْخَبِيرُ) بالأشياء ومنها الأبصار ومثل هذا يسمّى في البديع بتشابه الأطراف (قَدْ جاءَكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا لم يدركه الأبصار فهل يمكن إدراكه؟ ـ فقال : قد جاءكم (بَصائِرُ) جمع البصيرة كالابصار جمع البصر والبصيرة للقلب كالبصر للبدن تطلق على قوّة بها يدرك المعقولات وعلى إدراكها وعلى الحجج الّتى بها يكون ذلك الإدراك وهذه هي المرادة بالبصائر هاهنا ، وهي اعمّ من الأنبياء والأولياء ومعجزاتهم وكراماتهم وسيرهم وأخلاقهم وكتبهم وشرائعهم ، ومن البلايا والواردات والعبر والآيات الّتى تكون لخصوص الإفراد أو لعموم العباد ، هذا في الآفاق ، وامّا في الأنفس فهي عبارة عن العقول والزّواجر والنّفوس والخواطر والإلهامات والمنامات خصوصا الصّادقات منها ، فانّها ادّل دليل في العالم الصّغير على وجود الآخرة وبقائها ووجود كلّ جزء من أجزاء عالم الطّبع فيها ماضياتها وآتياتها ، وهذا هو الدّليل الوافي لكلّ ذي بصيرة على بقاء الأنفس بعد فناء الأبدان فكلّ هذه بصائر (مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ) بها من أسماء الله وصفاته ومن أمور الآخرة (فَلِنَفْسِهِ) ابصر (وَمَنْ عَمِيَ) عنها (فَعَلَيْها) عمى (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) هذه حكاية قول النّبىّ (ص) بتقدير القول أو هي من الله لكنّها اشارة الى انّ حفظه تعالى وتدبيره للعباد موكول الى سبق الاستحقاق والاستعداد حتّى لا يحتجّ عليه العباد (وَكَذلِكَ) التّصريف الّذى صرّفنا الآيات والحجج في الألفاظ السّهلة التّناول بحسب المعنى (نُصَرِّفُ) متتاليات (الْآياتِ) الآفاقيّة والانفسيّة في العالم وفي النّفوس وفي الألفاظ ليعمى فرقة وليبصر فرقة اخرى (وَلِيَقُولُوا) اى الفرقة العامّيّة واللّام للعاقبة (دَرَسْتَ) قرئ درست ودارست معلوما بتاء الخطاب بمعنى قرأت وذاكرت وتعلّمت ، وقرئ درست بتاء التّأنيث بفتح الرّاء وصضمّها ودارست بتاء التّأنيث ودرست ببناء المجهول وتاء التّأنيث ودر سن بنون جمع المؤنّث ودارسات بجمع اسم الفاعل والكلّ من الدّروس بمعنى الاندراس ، ويجوز ان يكون درست مجهولا بمعنى قرئت ، وقرئ درس معلوما بالغيبة بمعنى تعلّم محمّد هذه الآيات ودرس بكلّ من معنييه لازم ومتعدّ (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)

١٤٦

لا أهواء المشركين (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بيان للموحى أو اعتراض للتّعليل (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ولا تبال بهم ولا تتّبع أهواءهم ولا تحزن عليهم لشركهم والمقصود العمدة المشركون بالولاية (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) حتّى تحزن عليهم وانّما أنت منذر (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) عائد الموصول محذوف وفاعل يدعون راجع الى المشركين ، والمقصود منه لا تسبّوا الّذين يدعوهم المنحرفون عن علىّ (ع) ممّن نصبوه إماما لهم حالكونهم بعضا من غير الله ، وهذا النّهى جار للمؤمنين الى انقراض العالم ، أو العائد فاعل يدعون ومفعوله محذوف ، أو من التّبعيضيّة قائمة مقام المفعول (فَيَسُبُّوا اللهَ) اى يسبّوا عليّا (ع) فانّه مظهر الله وسبّه سبّ الله وسبّ الله لا يتصوّر الّا في مظاهره (عَدْواً) ظلما لعلىّ (ع) أو تجاوزا عن الحقّ في سبّ علىّ (ع) (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منهم انّه مظهر الله ونقل عن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : أرأيت أحدا يسبّ الله؟ ـ فقيل : لا وكيف؟ ـ قال : من سبّ ولىّ الله فقد سبّ الله ، وقد ورد عنهم بهذا المضمون اخبار كثيرة ، وما ذكرنا كان خلاصة المقصود ولا يخفى التّعميم لكلّ مشرك ومدعوّ غير الله ولكلّ نبىّ (ع) ووصىّ (ع) ولكلّ مؤمن (كَذلِكَ) مثل ارتضاء كلّ منكم ما تدعونه وعدم ارتضاء ما يدعوه غيرهم (زَيَّنَّا) من لدن آدم (ع) (لِكُلِّ أُمَّةٍ) فرقة من الفرق المختلفة المحقّة والمبطلة (عَمَلَهُمْ) وقد سبق عند قوله تعالى ، (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، انّ الفاعل في الوجود مطلقا هو الحقّ تعالى وليس من الموجودات سوى الاستعداد والقبول وانّ فعله تعالى امّا بلا واسطة أو بوسائط وانّ مظاهر قهره تعالى من جملة وسائطه وانّ الشّيطان من مظاهر قهره فصحّ نسبة التّزيين اليه تعالى في الأعمال السّيّئة والى الشّيطان لانّه المباشر القريب والى القوابل نحو نسبة الشّيء الى القابل (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) قد سبق انّ الرّبّ المضاف هو الولاية المطلقة وانّ مظهره الاتمّ علىّ (ع) وانّ رجوع الكلّ الى الولاية الّتى هي فعله تعالى وظهوره لا الى الغيب المطلق فانّه لا راجع هناك ولا رجوع (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من خير وشرّ (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) ممّا اقترحوا (لَيُؤْمِنُنَّ بِها) اى ليذعننّ بالآية الجائية وانّها من الله أو ليؤمننّ بمحمّد (ص) بسبب تلك الآية وهذا حكاية قولهم الكاسد النّاشى من تحمّلات النّفس فانّها كالمرأة الخبيثة تكون دائمة في الاعذار الفاسدة والفرار من قبول حكم الأزواج واتّهام غيرها بمأثمها (قُلْ) يا محمّد (ص) لهم أو للمؤمنين الطّامعين في ايمانهم الطّالبين منك الإتيان بمقترحاتهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) يا محمّد (ص) لهم وباختياري (وَما يُشْعِرُكُمْ) ما استفهاميّة للاستفهام الانكارىّ والخطاب للمؤمنين الطّالبين للإتيان بمقترحاتهم حرصا على ايمانهم ، أو للكافرين المقسمين بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب ، أو ما نافية وفاعل يشعركم ضمير راجع الى الله وهو عطف على انّما الآيات ، أو حال معمول لعند الله ومن جملة مقول القول ، أو عطف على أقسموا ، أو حال معمول لا قسموا ومن قول الله (أَنَّها إِذا جاءَتْ) قرئ بفتح همزة انّ معمولة مع ما بعدها ليشعركم بلا واسطة حرف ، أو بتقدير الباء أو هي بمعنى لعلّ وقرئ بكسر الهمزة فتكون مستأنفة (لا يُؤْمِنُونَ) قرئ بالغيبة وبالخطاب ولفظة لا زائدة أو اصليّة (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) عطف على لا يؤمنون عطف السّبب

١٤٧

على المسبّب أو عطف المسبّب على السّبب ، والفؤاد يطلق على القلب اللّحمانىّ وعلى النّفس الانسانيّة وعلى اللّطيفة السيّارة الانسانيّة وعلى القلب الّذى هو مرتبة من مراتب الإنسان وعلى الجهة الرّوحانيّة من الإنسان إذا علمت ذلك ، فاعلم ، انّ روحانيّة الإنسان اى قلبه كبدنه خلق مستوى القامة رأسه من فوق وتقليبه عبارة عن تعلّقه بمشتهيات الحيوان واستقامته عبارة عن تعلّقه بما اقتضته انسانيّة الإنسان ، واستقامة الأبصار عبارة عن ادراك ما يوافق الآخرة من كلّ ما يدركه البصر أو البصيرة ، وتقليبها سبب لادراك مقتضيات الحيوان والاحتجاب عن الاعتبار بالمدركات (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) اى بما انزل من الآيات أو بالقرآن أو بالنّبىّ (ص) (أَوَّلَ مَرَّةٍ) اى قبل اقتراحهم ، أو اوّل مرّة نزول الآية أو في عالم الّذرّ أو اوّل الدّعوة (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) متعلّق بنذرهم أو بقوله (يَعْمَهُونَ) اى يتردّدون في الضّلال ويتحيّرون ، قرئ نقلّب ونذرهم بالتّكلّم وبالغيبة وقرئ تقلّب مبنيّا للمفعول بتاء التّأنيث.

الجزء الثّامن

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) ردّ لاقتراحاتهم وردع للرّسول (ص) وللمؤمنين عن ارادة الإتيان بشيء منها فانّهم كما نقل قالوا يا محمّد (ص) كان للأنبياء الماضين آيات ، فقال : اىّ شيء تحبّون منها ان آتيكم به؟ ـ فقالوا : اجعل لنا الصّفا ذهبا ، وابعث لنا بعض موتانا نسألهم عنك ، وأرنا الملائكة يشهدون لك ، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، وسأل المسلمون الرّسول (ص) ان يأتى لهم ، فأراد الرّسول (ص) ان يجيبهم فنزل جبرئيل (ع) وقال : ان سألت أجبت ولكن ان لم يؤمنوا عذّبتهم وان شئت تركتهم حتّى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله (ص) بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله تعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) في رسالتك (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) جمع القبيل بمعنى الكفيل أو جمع قبيل هو جمع القبيلة بمعنى الجماعة من النّاس أو هو مصدر بمعنى المعاينة والمقابلة والمعنى انّا لو جمعنا عليهم كلّ آية معاينة ومقابلة لهم ، أو لو جمعنا كلّ شيء من الله والملائكة وغيرهم كفلاء بما بشّروا وانذروا أو جماعات وحمل الجمع على كلّ شيء باعتبار عمومه (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ردّ لسببيّة الأسباب الظّاهرة للايمان وإثبات بسببيّة المشيّة له وردع للمشركين والمؤمنين من نظرهم الى الواسطة وغفلتهم عن سببيّة المشيّة واقتراحهم وتمنّيهم للآية ، بانّ الوسائط ليست أسبابا ، بل هي مظاهر لمشيّته والسّبب لكلّ مسبّب هو المشيّة ، فلو شاء الله لاتى كلّ نفس هديها من غير واسطة ولو لم يشأ لم تهتد وان كان لها كلّ واسطة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أكثر المؤمنين أو المشركين أو الجميع (يَجْهَلُونَ) انّ المشيّة هي السّبب للايمان لا الآية المقترحة والمتمنّاة ، ولذا يقترحون ويتمنّون أو الفعل منسىّ المفعول والمعنى أكثرهم جهلاء (وَكَذلِكَ) اى كما جعلنا لك عدوّا من قومك (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) يعنى لا تحزن على معاداة قومك فانّ سنّتنا على وفق حكمتنا جرت بجعل العدوّ لكلّ نبىّ ليكون تكميلا لهم وإصلاحا لامّتهم وسببا لامتياز المنافق منهم عن الموافق وإظهارا لفضائلهم على السنة حسّادهم ، فانّ فضل المحسود كثيرا يظهر على لسان الحاسد واحتجاجا على طالبي الدّين بمعاداة المعاندين ، فانّ معاند الأنبياء لا يظهر بمعاداته الّا اتّباعه الهوى وارادة الدّنيا وإدباره عن الآخرة ، لانّ الأنبياء لا يعارضون أحدا

١٤٨

في أمور الدّنيا بل يدعون النّاس في كمال الشّفقة الى الآخرة ، وهذا تسلية للرّسول (ص) وسائر المؤمنين ، والعدوّ ضدّ الصّديق يستوي فيه الواحد والكثير والمذكّر والمؤنّث ولذا أبدل عنه الجمع (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) اعلم ، انّ الإنسان وجملة عالم الطّبع واقع بين العالمين العلوىّ والسّفلىّ كما سبق ولأهل كلّ من العالمين جهة تسلّط وتصرّف في الإنسان ، وعالم الطّبع والعالم السّفلىّ مهوى الشّياطين والجنّ ودار الأشقياء وجحيمهم ، والعالم العلوىّ القريب من عالم الطّبع مقرّ الملائكة ذوي الاجنحة دون المقرّبين ، فان عالمهم أعلى من ذلك والإنسان قابل لتصرّف أهل العالمين وله إمكان التّوجّه الى كليهما ، فمن توجّه بسوء اختياره الى السّفلىّ وقبل تصرّف الشّياطين والجنّة وتمكّن في ذلك القبول ولم يبق له جهة استعداد قبول تصرّف الملائكة صار مظهرا للشّياطين ومتحقّقا بهم بحيث لم يكن في وجوده الّا الشّيطان وكان فعله فعله وامره امره وخلقه خلقه وقوله قوله كما قيل بالفارسىّ :

چون پرى غالب شود بر آدمي

گم شود از مرد وصف مردمى

هر چه گويد أو پرى گفته بود

زين سرى نه زان سرى گفته بود

وان كان مع ذلك باقيا عليه بعض أوصاف الإنسان كان شيطان الانس وان لم يكن كان شيطان الجنّ ، ويحتمل ان يكون المراد بشياطين الجنّ ، الجنّة الّتى تؤذي من طريق الباطن وعلى اىّ تقدير فالمقصود التّعريض بالحبتر والزّريق كما في الخبر ، ومن توجّه بتوفيق الله الى العالم العلوىّ وقبل تصرّف اهله وتمكّن في ذلك بحيث لم يبق له استعداد تصرّف الشّيطان صار مظهرا للملائكة بل لله وكان فعله وقوله وخلقه ظهور افعال الملائكة وأقوالهم وأخلاقهم كما قيل :

چون پرى را اين دم وقانون بود

كردگار آن پرى خود چون بود

پس خداوند پرى وآدمي

از پرى كى باشدش آخر كمى

وعن الصّادق (ع): من لم يجعله الله من أهل صفة الحقّ فأولئك شياطين الانس والجنّ (يُوحِي) اى يلقى أو يوحى من طريق الباطن شياطين الجنّ الى شياطين الانس (بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) حسن القول الكاذب بتمويهه (غُرُوراً) وحي غرور أو للغرور أو غارّا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) فلا تبتئس بما فعلوا فانّه بمشيّتنا وفيه مصالح وحكم لكم (فَذَرْهُمْ) من غير تعرّض لهم بالرّدّ والقبول (وَما يَفْتَرُونَ) ليقولوا ما يريدون حتّى يجرى حكمنا ومصالحنا (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) عطف على محذوف كما ذكرنا أو عطف على غرورا (وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا) يكتسبوا (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) حتّى يتميّزوا من المؤمنين ويخلصوا ايمان المؤمنين بايذائهم ايّاهم (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) بتقدير قل أو بتقدير قال أو يقول أو يقال جوابا لسؤال مقدّر (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) القرآن والنّبوّة (مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) يعنى الّذين آتيناهم النّبوّة بتسليم أحكامها وقبولها وآتيناهم كتاب النّبوّة في صورة كتاب سماوىّ كأهل الكتابين يعلمون انّ القرآن أو كتاب نبوّتك أو ولايتك فانّهما روح القرآن منزّل من ربّك (بِالْحَقِ) متلبّسا بالحقّ الّذى هو الولاية أو بسببه أو معه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)

١٤٩

وهو من قبيل ايّاك أعنى واسمعي يا جارة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) كلمة الرّبّ هي المشيّة الّتى هي الولاية المطلقة ، وتماميّتها بظهورها بنحو الإطلاق في هذا العالم ، وظهورها كذلك ما كان الّا بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) فانّ سائر الأنبياء والأولياء ولا يتهم مقيّدة جزئيّة مقتبسة من ولاية علىّ (ع) الّتى هي المطلقة الكلّيّة (صِدْقاً) من حيث الصّدق أو صادقة فانّ الولاية ما لم تخرج من التّقيّد والتّحدّد لم يتمّ صدقها (وَعَدْلاً) العدل ضدّ الجور وهو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه كما انّ الجور منع المستحقّ من حقّه وبمعنى الاستقامة ضدّ الاعوجاج وبمعنى التّوسّط في الأمور ويصحّ اعتباره بكلّ من معانيه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فلا تبال بما يقولون ولا تبتئس بما يكذبون (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما يقولون في علىّ (ع) والقادر على منعهم من إمضاء ما يقولون وإظهار ما يريدون (الْعَلِيمُ) بحال كلّ واستحقاقه (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لانّ الأكثر منكوسوا الرّؤس منحرفون عن الولاية الّتى هي سبيل الله الى عالم السّفل الّذى هو عالم الشّياطين والأرواح الخبيثة واطاعتهم تؤدّى الى الانحراف الى ما توجّهوا اليه ، وهو تعريض بالامّة وانّما قال أكثر من في الأرض لانّ الإنسان ثلاثة أصناف : صنف عرجوا من ارض الطّبع الى سماء الأرواح ، وشأنهم الطّاعة والانقياد لصاحب الرّسالة والولاية الكلّيّة لا الاستقلال والمطاعيّة ، وصنف وقفوا في ارض الطّبع لكن لهم التّهيّؤ والاستعداد للعروج الى عالم الأرواح فهم وان كانوا في ارض الطّبع لكن موافقتهم لا تصير سببا للضّلال عن التّوجّه الى عالم الأرواح ، وصنف واقفون في ارض الطّبع منكوسون الى السّفل متوجّهون الى عالم الشّياطين وهم أكثر من في الأرض ، وطاعتهم وموافقتهم توجب الانحراف عن الولاية (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) الظّنّ من صفات النّفس فانّ علومها وان كانت يقينّيّة وإدراكاتها غير ظنّيّة فهي ظنون وليست بعلوم لما مضى مرارا انّ العلم هو الّذى يكون وجهه الى العلوّ ويكون في الاشتداد وعلم النّفس الغير المطيعة يكون وجهه الى السّفل ويكون في التّنزّل ، فالمعنى ما يتّبعون الّا الإدراكات النّفسانيّة الّتى هي مبادي الآراء الرّديّة والأهواء الخبيثة ، وأيضا لمّا كان علوم النّفوس مغايرة لمعلوماتها وجائزة الانفكاك عنها كان حكمها حكم الظّنون في مغايرتها لمظنوناتها وجواز انفكاكها عنها (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الخرص التّقدير والكذب والظّنّ وهو المراد هنا يعنى لا يتّبعون الّا الظّنّ وليس لهم علم أصلا حتّى يتصوّر منهم إمكان متابعة العلم ، لانّهم في مرتبة النّفس المنكوسة لا يتجاوزون عنها فلا يكون لهم علم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فالمتّبع هو ما قاله الرّبّ لا ما قالوه من نسبة الضّلال والاهتداء الى النّاس بظنونهم فلا تبالوا بما قالوا ولا بما حرّموا واحلّوا وائتمروا بأمور ربّكم (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ولا تبالوا بما قالوا من انّكم تأكلون ما قتلتم بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله من الانعام ، وبعد ما علمت انّ الاكل أعمّ من فعل القوى والأعضاء وصفات النّفس وادراك المدارك الظّاهرة والباطنة والعقائد العقلانيّة ، وانّ الأصل في اسم الله هو الولاية وانّها الاسم الأعظم وان لا اسم الّا وهو ظلّ لذلك الاسم الأعظم ، وانّ عليّا (ع) هو مظهره الاتمّ ولذا ورد عنه : لا اسم أعظم منّى ، أمكنك تعميم الاكل في كلّ فعل وقول وأكل وشرب وادراك وخاطر وعلم ومعرفة واعتقاد وكشف وشهود وعيان ، فانّ الكلّ أكل بالنّسبة الى القوى الّتى هي مبدأه ، وكذا أمكنك تعميم اسم الله في الاسم القولىّ والقلبىّ المتّصلين بصورته الملكوتيّة الّتى تسمّى فكرا وسكينة وحضورا وذكرا حقيقيّا في لسانهم ، فكلّ ما فعل مع الحضور عند الاسم

١٥٠

الأعظم وتذكّره بصورته الملكوتيّة فهو حلال ولا وزر معه ولا وبال ، ومع تذكّر الاسم الأعظم بما قلنا لا يقع منه ما هو مكروه الاسم الأعظم ومكروهه مكروه الله فلا يقع منه حرام خارج عن السّنّة ولذا قيل :

«كفر گيرد ملّتى ملّت شود»

ومع عدم ذكر الله لا بالقول ولا بالقلب ولا بالفكر كلّما فعل وان كان مباحا كان حراما كما قيل :

«هر چه گيرد علّتى علّت شود»

وعن الصّادق (ع) في حديث ذكر الأنهار انّه قال : فما سقت واستقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا ، وليس لعدوّنا منه شيء الّا ما غصب عليه ، وانّ وليّنا لفي أوسع فيما بين ذه وذه مشيرا الى السّماء والأرض ثمّ تلا : قل هي للّذين آمنوا في الحيوة الدّنيا المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب ، وقد ورد : ولىّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحلال كما قيل :

گر بگيرد خون جهان را مال مال

كى خورد مرد خدا الّا حلال

(إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) وأعظم الآيات محمّد (ص) وعلىّ (ع) وهو شرط تهييج على نفى التحرّج عن فعل ذكر اسم الله عليه وعدم الاعتناء بقول أصحاب التّخمين والظّنّ ، أو تقييد لا باحة ما ذكر اسم الله عليه (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) اى فائدة لكم في ان لا تأكلوا ممّا ذكر اسم الله عليه (وَقَدْ) أباحه لكم (فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) بالّذات ممّا سبق في اوّل سورة المائدة في آية تحريم الدّم والميتة (الى آخرها) وما حرّم عليكم بالعرض من الصّيد حين الإحرام وما لم يذكر اسم الله عليه وما ذكر اسم غير الله عليه ، وقرئ فصّل بالبناء للفاعل وحرّم بالبناء للمفعول ، وقرئ فيهما بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) استثناء من المستتر في حرّم أو من المقدّر بعده عائد للموصول (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) عطف على ما حرّم باعتبار جواز تعليق الفعل الغير القلبىّ أو بتضمين فصّل معنى اعلم أو حال متعلّق باجزاء جملة (ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) (الى آخرها) أو باجزاء جملة قد فصّل (الى آخرها) (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) استيناف جواب للسّؤال عن علمه تعالى بهم ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بأنّهم في اضلالهم معتدون وانّه تعالى كما يعلمهم يعلم اعتداءهم وتجاوزهم عن حدود الله وقد أخبركم بتجاوزهم فلا تبالوا بما قالوا في حرمة الّذبيحة والميتة وحلّيّتهما وائتمروا بأمر الله (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) من قبيل اضافة الصّنف الى النّوع أو اضافة جهتي الشّيء الواحد اليه أو جزئي الشّيء المركّب اليه.

اعلم ، انّ الإنسان اعنى اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة واقع بين عالمي النّور والظّلمة والإطلاق والتّقييد والوحدة والكثرة والملائكة والجنّة ، ووجوده يكون دائما في الخروج من القوّة الى الفعل مثل سائر الكائنات ، وهذا معنى قولهم : الكون في التّرقّى فاذا كان أفعاله وأقواله وعلومه وعقائده وخطراته وخيالاته ناشئة من توجّهه الى عالم النّور ، أو قرينة لذلك التّوجّه كان خروجه من القوّة الى فعليّة النّور ومن التّقييد الى الإطلاق ومن الظّلمة الى النّور وكانت هذه منه طاعة ومرضيّة وعبادة ، وإذا كانت تلك ناشئة من توجّهه الى عالم الظّلمة أو قرينة لغفلته عن الله تعالى وعن عالم النّور كان خروجه من القوّة الى فعليّة الظّلمة ومن الإطلاق الى التّقييد ومن النّور الى الظّلمة ، وكانت هذه منه إثما وذنبا ومعصية سواء كانت بصورة الطّاعات أو لم تكن ، والى هذا

١٥١

أشار الصّادق (ع) بقوله : من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ومن كان غافلا عنه فهو عاص ، والطّاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضّلالة وأصلهما من الذكّر والغفلة وقوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (الى آخر الآية) اشارة الى انّ الايمان يقتضي التّوجّه الى عالم النّور ، وذلك التّوجّه يقتضي الخروج من القوّة الى فعليّة النّور ، والكفر بعكس ذلك ، وانّ الإنسان إذا تمكّن في التّوجّه الى عالم الظّلمة صار متجوهرا بالظّلمة وأصلا لكلّ الظّلمات ومتحقّقا بالإثم وأصلا لكلّ الآثام ، وإذا تمكّن في التّوجّه الى عالم النّور صار متجوهرا بالنّور وأصلا لكلّ الأنوار بعد نور الأنوار ، ولذلك كان محمّد (ص) وعلىّ (ع) أصلا لكلّ حسن وإليهما يرجع حسن كلّ حسن ، وإذا لم يتمكّن في شيء منهما فامّا ان ينضّم توجّهه الفطرىّ الى التّوجّه الاختيارىّ بالبيعة العامّة أو الخاصّة الصّحيحة أو الفاسدة أو لا ينضمّ ، وكلّ من الثّلاثة ما صدر منه من حيث التّوجّه الفطرىّ أو الاختيارىّ الى عالم النّور كان حسنا وصوابا ، وما صدر منه من حيث التّوجّه الى عالم الظّلمة كان إثما وذنبا ، إذا عرفت هذا ، فصحّ تفسير ظاهر الإثم بمخالفة علىّ (ع) وباطنه بالنّفاق معه وبالزّنا الظّاهر والزّنا الخفىّ وبنكاح زوجة الأب والزّنا وبأعمال الجوارح السّيّئة والعقائد والرّذائل والخيالات والخطرات والعزمات والنّيّات ، وباتّباع مخالفي علىّ (ع) والمنافقين معه وبالسّيّئات الشّرعيّة وصور الحسنات الشّرعيّة الفاسدة ، والمقصود منه النّهى عن متابعة المخالفين والمنافقين وعن ارتكاب ما ينشأ عن متابعتهما كائنا ما كان كما انّ المقصود ممّا يأتى الأمر بمتابعة محمّد (ص) وعلىّ (ع) المشار اليه بقوله تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (الآية) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ) يحصّلون ما ينشأ من متابعتهما (سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) الاقتراف الاكتساب أو فعل الإثم وهو في موضع تعليل للاوّل (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) تصريح بالمفهوم تسجيلا وتأكيدا (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) يعنى ما لم يذكر اسم الله عليه خارج عن الحقّ كائنا ما كان وهو عطف على محذوف ، والتّقدير انّه اثم أو حرام أو مثل ذلك وانّه لفسق أو حال (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من الكفّار (لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في قولهم انّكم تأكلون ما تقتلون بأنفسكم ولا تأكلون ما قتله الله وان أطعتموهم مطلقا في هذا أو غيره (إِنَّكُمْ) بتقدير الفاء وانّما حسن حذفه لكون الشّرط ماضيا مضعفا لحكم الشّرط (لَمُشْرِكُونَ) فانّ الإشراك هو طاعة غير من نصبه الله للطّاعة ، والمقصود انّ شياطين الجنّ ليوحون الى أوليائهم ليجادلوكم في علىّ (ع) ، أو شياطين الانس ليوحون الى اتباعهم ليجادلوكم في علىّ (ع) بإظهار ما يرى انّها مثالب لعلىّ (ع) وان أطعتموهم صرتم مشركين بالله بواسطة الإشراك في الولاية (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) عن الحيوة الانسانيّة وان كان حيّا بالحيوة الحيوانيّة (فَأَحْيَيْناهُ) بالحيوة الانسانيّة بقبول الدّعوة النّبويّة والبيعة العامّة أو باستعداد قبول الولاية واستحقاق البيعة الخاصّة (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) إماما أو ايتماما بإمام منّا (يَمْشِي بِهِ) بسببه أو معه (فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ) المثل بالتّحريك والمثل بالكسر والمثيل كأمير الشّبيه ، والمثل بالتّحريك الحجّة والحديث والصّفة والمعنى كمن هو شبيه من أحييناه حالكونه (فِي الظُّلُماتِ) أو كمن شبيهه ثابت في الظّلمات أو كمن حديثه أو صفته ثابتة في الظّلمات ، أو كمن صفته البقاء في الظّلمات سواء كان حيّا بالحيوة الانسانيّة وقبول الدّعوة النّبويّة ولم يكن له نور أو لم يكن حيّا فضلا عن النّور (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) عن الباقر (ع) الميت الّذى لا يعرف هذا الشّأن يعنى هذا الأمر ، وأقول : المراد به الولاية اى الدّعوة

١٥٢

الباطنة وقبولها والبيعة لها وقال (ع) جعلنا له نورا إماما يأتمّ به يعنى علىّ بن ابى طالب (ع) كمن مثله في الظّلمات قال (ع) بيده هذا الخلق الّذين لا يعرفون شيئا ، وبهذا المضمون اخبار كثيرة ، ويستفاد من هذا الخبر انّ المراد بالميّت غير العارف بأمر الولاية سواء كان عارفا بأمر النّبوّة أو لم يكن ، والحيوة معرفة امر الولاية بقبول الدّعوة الباطنة فانّه لا يتصوّر معرفة هذا الأمر الّا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الولويّة ، والمراد بالنّور امّا نفس قبول الدّعوة والبيعة أو الامام الظّاهر عليه بشريّته ، أو المراد بالنّور الأمر الدّاخل في القلب بالبيعة الخاصّة أو المراد به ملكوت الامام الظّاهر على السّالك فانّه به يحصل معرفة الامام بالنّورانيّة (كَذلِكَ) التّزيين الّذى زيّنّا لمن مثله في الظّلمات (زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في ظلمات جهالاتهم محجوبين عن امر الولاية وضالّين عنه (وَكَذلِكَ) اى مثل ما جعلنا في قريتك أكابر مجرميها (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) لتخليص المؤمنين وتميز المنافقين عنهم (وَما يَمْكُرُونَ) في مكر الأنبياء والمؤمنين (إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لانّهم في مكرهم يخرجون اوّلا أنفسهم من حدّ الاعتدال والتّوجّه الى كمالها الى حدّ التّفريط والتّوجّه الى نقصانها (وَما يَشْعُرُونَ) انّ المكر في الحقيقة بأنفسهم (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) بيان لمكرهم أو تعنّت آخر لهم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) وهذا ردّ عليهم بانّ الرّسالة ليست بالآية ولا بالنّسب والحسب والمال بل بعلم الله بمحلّه وصلاح محلّه وبمشيّته وحيث مفعول به ليعلم المقدّر ، أو بتقدير افعل التّفضّل بمعنى اسم الفاعل لعدم جواز تعدية اسم التّفضيل الى المفعول به (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ) في الدّنيا اى ذلّة وهو ان كما أصابهم يوم بدر ويوم فتح مكّة (عِنْدَ اللهِ) اى عند مظاهره أو في الآخرة عنده (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الآخرة (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) الى الرّسالة الّتى جعلها حيث يشاء (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) الصّدر محلّ الإسلام ومحلّ قبول الرّسالة وأحكامها باعتبار وجهه الى القلب كما انّه محلّ الكفر وقبول احكام الشّيطان باعتبار وجهه الى الحيوانيّة والطّبع ، وشرحه عبارة عن استعداده لقبول احكام كلّ من الطّرفين بجهتيه فشرحه للإسلام كمال استعداده لقبول ما يرد عليه ممّا يوجّهه الى القلب ، وشرحه للكفر عبارة عن كمال استعداده لقبول ما يرد عليه ممّا يوجّهه الى الشّيطان والى اهويتها ، وارادة الله للهداية والإضلال مسبوقة بحسن استعداد العبد واختياره أو سوء استعداده واختياره فلا جبر كما انّه لا تفويض ، وقد سبق تحقيق هذا المطلب في سورة البقرة عند قوله (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ولمّا كان شرح الصّدر للإسلام عبارة عن توجّه النّفس الى القلب وانصرافها عن جهة الدّنيا ورد عن النّبىّ (ص) حين سئل : هل لذلك من امارة يعرف بها؟ ـ انّه قال : نعم ، الانابة الى دار الخلود ، والتّجافى عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) عن قبول ما يوجّهه الى جهة القلب ، والضّيق الّذى بقي له منفذ والحرج وقرء بكسر الحاء الّذى لا منفذ فيه كما في الخبر (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) في قبول الرّسالة والإسلام (ذلِكَ) كما يجعل الشّكّ والضّيق على من يريد ان يضلّه (يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ) بكسر الرّاء وفتحها وكسر الجيم وبالتّحريك القذر والمأثم وكلّ ما استقذر من العمل والشّكّ والعقاب (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَهذا) الّذى ذكر من جعل صدر بعض منشرحا

١٥٣

للإسلام وبعض ضيّقا (صِراطُ رَبِّكَ) سنّة ربّك (مُسْتَقِيماً) غير منحرف في الإرادتين عن ميزان الاستعدادين فانّ الإرادتين بقدر استعدادهما واستحقاقهما ، أو هذا الّذى أنت عليه من الولاية الّتى هي روح نبوّتك ورسالتك صراط ربّك مستقيما فانّه لا افراط فيها ولا تفريط (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) التّدوينيّة في بيان الآيات التّكوينيّة الواردة في صدور النّاس بحسب استعداداتهم المختلفة أو الآيات التّكوينيّة مطلقة بالآيات التّدوينيّة (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يتذكّرون إشارة إلى انّ الّذاكر باللّسان فقط لا يتنبّه لتلك الآيات بل الّذاكر باللّسان والرّاجع الى الجنان يتنبّه لها فانّ الإنسان ما لم يرجع الى باطنه ولم ينظر ببصيرته الى حالاته الواردة عليه لا يميّز بين ضيق الصّدر وشرحه أو بين مطلق الآيات العلويّة والسّفليّة ، والرّاجع الى نفسه يميّز بين الواردات فيتوب عمّا يؤذيه وينيب الى ما ينفعه فيكون (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اى دار السّلامة عن الآفات أو دار الله الّتى أعطاها ايّاهم (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) لما انقطعوا عن غيره وتوسّلوا به (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الفرار عمّا يبّعدهم والعمل بما يقرّبهم (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) بتقدير اذكر أو ذكّر أو نقول والضّمير للثّقلين (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) استكثره الماء أراد منه ماء كثيرا واستكثر من الشّيء رغب في الكثير منه والمعنى طلبتم كثيرا منهم أو رغبتم في الكثير منهم فجعلتموهم من سنخكم أو اتباعكم (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) استمتاع الانس من الجنّ باتّباعهم في الالتذاذ بالشّهوات واستمتاع الجنّ من الانس بحصول مرادهم منهم من اغوائهم وتمكّنهم منهم في الأمر والنّهى قالوها تحسّرا واعترافا (بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) من القيامة أو من أمد الحياة (قالَ) الله لهم (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قبل دخول النّار حتّى لا ينافي مادّة العامل في الاستثناء أو الّا ما شاء لمن يشاء بناء على خروج بعض من النّار ، وبعض من قال بانقطاع العذاب لكلّ أحد تمسّك بأمثال هذه الآية من النّقليّات بعد التّوسّل بالعقليّات (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في عقوبة المعاقب لا يظلم أحدا (عَلِيمٌ) بقدر استحقاقه (وَكَذلِكَ) مثل ما نولّى بعض الانس بعض الجنّ في الدّنيا أو في القيامة (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) بالسّنخيّة الّتى يكسبونها بأعمالهم السّيّئة اى نصرف وجوه بعض الى بعض ونتركهم ونصرف وجوههم عن أوليائي ، أو المعنى نولّى بعض الظّالمين بعضا للانتقام منهم كما أشير اليه في الخبر (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) بتقدير القول حالا أو مستأنفا (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) من وجودكم في عالمكم الصّغير أو من سنخكم في العالم الكبير وهو توبيخ لهم ، وقد ورد انّ الله قد بعث من الجنّ رسولا إليهم ، ورسالة رسولنا (ص) كان الى الانس والجنّ كما ورد في الاخبار (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا) اعترافا بتقصيرهم (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) لمّا لم يجدوا مفرّا اقرّوا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) عطف على قالوا (ذلِكَ) اى إرسال الرّسل وقصّ الآيات والإنذار من يوم القيامة (أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) منه من دون إتمام الحجّة أو بظلمهم لأنفسهم أو لغيرهم (وَأَهْلُها غافِلُونَ) غير متذكّرين لثواب وعقاب (وَلِكُلٍ) من افراد الجنّ والانس محسنا كان أو مسيئا أو من

١٥٤

أصناف المحسن والمسيء أو من جنس المحسن وجنس المسيء (دَرَجاتٌ) في العلوّ والعالم العلوىّ وفي النّزول والعالم السّفلىّ ، والدّرجة بالضمّ والسّكون وبالتّحريك وكهمزة المرقاة وإذا اعتبر فيها الارتقاء كان تسمية دركات المسيء بالدّرجات من باب التّغليب أو باعتبارها من الأسفل فانّ الأسفل بالنّسبة الى ما فوقه درجة (مِمَّا عَمِلُوا) اى هي عبارة ممّا عملوا على تجسّم الأعمال أو ناشئة ممّا عملوا ، وما موصولة أو موصوفة أو مصدريّة (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرئ بالخطاب وبالغيبة والمقصود انّ درجات اعمال العباد ظاهرة عنده وهو غير غافل عنها فيرفع كلّا وينزل بقدر درجات اعماله ودركاتها (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) جمع بين المتقابلين من صفاته من القهر واللّطف والتّنزيه والتّشبيه وعدا ووعيدا (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) باقتضاء غناه وعدم حاجته لكن يبقيكم مدّة لتستكملوا فيها باقتضاء رحمته (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) الإتيان بما للاشارة الى كمال قدرته بحيث لو أراد أن يستخلف منكم غير ذوي العقول كان قادرا فضلا عمّن هو من سنخكم وباعدادكم نطفهم ومادّتهم لقبول صورة الإنسان (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) في زيادة الّذريّة اشارة الى انّ هذا كان مستمرّا (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) لمّا لم يقتض الشّرط وضع المقدّم صار المقام مظنّة السّؤال عن وقوع المقدّم فأجاب بانّ ما توعدون من مشيّة الاذهاب والاستخلاف واقع (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) له عن الاذهاب (قُلْ) تهديدا لهم (يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) قرئ مكاناتكم حيثما وقع اى حالكونكم ثابتين على مقامكم ومكانكم في الكفر أو مشتملين على غاية تمكّنكم فانّ المكانة كالمكان بمعنى المقام أو من التّمكّن بمعنى الاستطاعة (إِنِّي عامِلٌ) على مرتبتي في التّوحيد والإسلام (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) امّا استفهام علّق الفعل عنه ، أو استفهام منقطع عن سابقه ، أو موصول مفعول لتعلمون وعلى اىّ تقدير فالمقصود بقرينة المقام انّكم سوف تعلمون انّ لنا عاقبة الدّار ولذا علّله بقوله (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كأنّه قال لانّكم ظالمون ولا عاقبة محمودة للظّالم أو هو من قول الله تعليلا للأمر اى قل لهم ذلك لانّهم ظالمون والظّالم لا يفلح بحجّة (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) بيان لظلمهم وعطف باعتبار المعنى اى انّهم ظلموا أو جعلوا لله (مِمَّا ذَرَأَ) اى خلق (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ) من غير حجّة وسلطان (وَهذا لِشُرَكائِنا) يعنى أصنامهم (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) لانّ الوصول الى الله لا يكون الّا إذا كان الصّدور أيضا من الله وليس لهم لطيفة الهيّة تصير سببا لان يكون الصّدور من الله (وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) لما ذكر (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بتشريك المخلوق للخالق وجعل النّصيب من المخلوق للخالق من غير امر منه ، روى انّهم كانوا يعيّنون شيئا من حرث ونتاج لله ويصرفونه الى الصّبيان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحون عندها ، ثمّ ان رأوا ما عيّنوا لله ازكى بدّلوه بما لآلهتهم ، وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه لها حبّا لآلهتهم واعتلّوا لذلك بانّ الله غنىّ. اعلم ، انّ في الإنسان لطيفة الهيّة تسمّى عقلا وعقل المعاش طليعة منه وهو المتصرّف والحاكم من الله في وجوده ، ولطيفة شيطانيّة تتصرّف فيه وتحكم عليه والاوّل هو الإله في العالم الصّغير والثّانى هو الشّيطان في العالم الصّغير ، والإنسان واقع بين الحاكمين

١٥٥

والغرض من تكليف الإنسان بالأعمال الشّرعيّة خلاصه من حكومة الشّيطان ودخوله تحت حكومة الله وخلوص حكومته ، فمن أخلص نفسه لقبول حكومة الله فهو مؤمن موحّد ومن أخلص نفسه لحكومة الشّيطان فهو كافر بل هو شيطان مريد ، ومن أشرك بين الحكومتين فهو مشرك موزّع لجملة اعماله ومكاسبه عليهما ، ولمّا كان الله تعالى شأنه أغنى الشّركاء فما كان لشريكه فلا يصل الى الله ، وما كان لله فهو يصل الى شريكه ، لانّ الشّيطان ما دام له حكومة ما في وجود الإنسان فكلّما عمل لله يداخله الشّيطان قبل العمل أو حينه أو بعده من مداخل خفيّة ، حتّى يجعل نفسه شريكا للّطيفة الإلهيّة ، ولمّا كان الله اغنى الشّركاء يترك ما جعل ما بشراكة غيره الى الشّريك فما كان خالصا للشّريك كان له وما كان لله يدعه الله للشّريك ، وفي لفظ ذرأ اشارة الى كمال سفاهتهم حيث جعلوا لله ممّا خلقه نصيبا له والخالق أقوى مالك لمخلوقه (وَكَذلِكَ) اى مثل تزيين جعل النّصيب لله من مخلوقاته (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) وهم الّذين كانوا يرتكبون قتل أولادهم أو وأدهم للعار أو لخوف العلية أو للأصنام وقرئ زيّن مجهولا وقتل بالرّفع وأولادهم بالنّصب وشركاؤهم بالجرّ بناء على توسّط المفعول بين المضاف والمضاف اليه ، وقرئ زيّن مجهولا وقتل بالرّفع وأولادهم بالجرّ وشركاؤهم بالرّفع على ان يكون شركاؤهم فاعل القتل ، وقرئ زيّن معلوما وقتل بالنّصب وأولادهم بالجرّ وشركاؤهم بالرّفع ، وحينئذ يكون فاعل زيّن ضميرا راجعا الى الله وشركاؤهم فاعلا للمصدر أو شركاؤهم فاعل زيّن وفاعل المصدر محذوف يعنى المشركين أو شركاؤهم متنازع فيه لزيّن وللمصدر ، وتعميم القتل والأولاد والشّركاء لما في الكبير والصّغير يناسب كون شركاؤهم فاعلا للمصدر أو متنازعا فيه (لِيُرْدُوهُمْ) ليهلكوهم بالإغواء عن الحيوة الانسانيّة (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ) ليخلطوا عليهم (دِينَهُمْ) الفطرىّ الّذى كانوا عليه بحسب الفطرة من التّوجّه الى الآخرة والتّوحيد أو طريقتهم الّتى كانوا عليها ، الهيّة كانت أو شيطانيّة حتّى لا يستقيموا على تلك الطّريقة الّتى يسمّونها دينا (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ) تسلية للرّسول (ص) بصرف نظره عن صورة أفعالهم الى السّبب الاصلىّ لها ، حتّى لا يضيق صدره بما فعلوا ولا يتحسّر عليهم (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) تسكين له (ص) عن تعب الدّعوة والاهتمام بمنعهم من شنائع أعمالهم (وَقالُوا) بيان لظلم آخر منهم (هذِهِ) الانعام والحرث (أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) الحجر بتثليث الحاء المنع والحرام (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) يعنى من نشاء بالمواضعة الّتى بيننا وفيه تعيير لهم ، بانّ حكمهم ليس الّا بمقتضى اهويتهم كانوا يمنعون غير خدّام الأصنام من أكلها (بِزَعْمِهِمْ) متعلّق بقالوا يعنى قالوه بزعمهم من غير حجّة من الله (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) يعنى البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام (وَأَنْعامٌ) عطف على انعام اى قالوا هذه انعام لا ينبغي ان يذكر اسم الله عليها ، أو ابتداء كلام من الله والجملة معطوفة على قالوا اى لهم انعام أو انعام أخر (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا) في الذّبح والنّحر أو لا يحجّون عليها يحرّمون ذكر اسم الله بالتلبية عليها (افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا) وجه آخر لظلمهم وانحرافهم عن الحقّ واستبدادهم برأيهم من غير حجّة (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ) قرئ بالتّأنيث والتّذكير مرفوعا ومنصوبا في كلا الحالين ، والتّأنيث باعتبار معنى ما ، وهي الاجنّة ، أو التّاء فيه للمبالغة أو هو مصدر كالعافية (لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) كانوا يحرّمون

١٥٦

الجنين الّذى يخرجونه من بطون الانعام المفصّلة السّابقة حيّا على النّساء فاذا كان ميتا يأكله الرّجال والنّساء على السّواء ، وقيل : المراد بما في بطونها ألبانها ، وقيل : المراد الألبان والاجنّة كلتاهما (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) اى جزاء وصفهم هذا أو نفس وصفهم على تجسّم الأعمال (إِنَّهُ حَكِيمٌ) يعطى حقّ كلّ ذي حقّ من الخير والشّرّ (عَلِيمٌ) بمقادير استحقاقاتهم (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ) تصريح بخسرانهم وضلالهم بعد التّلويح تأكيدا وتفضيحا ، قيل : كانوا يقتلون الأولاد للأصنام ويقتلون بناتهم مخافة العار والسبي والعيلة (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) بانّ الله رازق لأولادهم وانّه خالقهم لمصلحة النّظام (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) من الانعام السّالفة على أنفسهم أو على غيرهم من النّساء أو حرّموا ما رزقهم الله من الأولاد فانّهم نعمة أيضا رزقهم الله (افْتِراءً عَلَى اللهِ) صرّح هنا بالافتراء تأكيدا لما سلف (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) الى امر الحقّ تعالى وابتغاء رضاه (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) مشتملات على الأشجار المثمرة من الكروم وغيرها (مَعْرُوشاتٍ) مرفوعات على أصولها كالأشجار الّتى لها أصول أو على ما يحملها كالكروم الّتى تحمل على غيرها (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) كالّتى تلقى على وجه الأرض من الكروم (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أكل ذلك المذكور من الاثمار والحبوب والبقول في الشّكل واللّون والطّعم والرّائحة والنّوع والجنس مع اتّفاقها في الأرض والماء (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) في المذكورات (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) قائلا (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) على ألسنة الأنبياء (ع) والأولياء (ع) ترخيصا لكم في التّصرّف قبل إخراج حقوقه أو قائلا بلسان الحال حيث أباحه لكم (إِذا أَثْمَرَ) والمراد بالثّمر مطلق ما يحصل منها من المنافع حتّى يدخل فيه ثمر الزّرع (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) اى حقّه المفروض بناء على وجوب الأداء اوّل وقت الإمكان أو حقّه المسنون من التّصدّقات على السّائلين وهكذا فسّرت في الاخبار ، فعن الصّادق : (ع) في الزّرع حقّان حقّ تؤخذ به وحقّ تعطيه ، امّا الّذى تؤخذ به فالعشر ونصف العشر ، وامّا الّذى تعطيه فقول الله تعالى عزوجل : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فالضّغث تعطيه ثمّ الضّغث حتّى تفرغ ويؤيّد كون المراد هو الحقّ المسنون قوله تعالى (وَلا تُسْرِفُوا) فانّ المفروض لا يتصوّر السّرف فيه بخلاف المسنون (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) عن الرّضا (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال كان ابى يقول : من الإسراف في الحصاد والجذاذ ان يتصدّق الرّجل بكيفيّة جميعا ، وكان ابى إذا حضر شيئا من هذا فرأى أحدا من غلمانه يتصدّق بكفيّه صاح به : أعط بيد واحدة (وَ) انشأ (مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً) ما يحمل الأثقال (وَفَرْشاً) من شعرها وصوفها ووبرها قائلا (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من لحومها وألبانها ولا تحرّموا شيئا ممّا أباحه الله لكم منها (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) بالإسراف فيما أباحه الله لكم والتّجاوز الى تحريم ما احلّه الله وتحليل ما حرّمه منها وقد سبق في سورة البقرة تحقيق وتفصيل لخطوات الشّيطان والآية تكون كسابقها اشارة الى التّوسّط بين الإفراط والتّفريط (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الاهلىّ والوحشىّ (وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) كذلك (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ) من الجنسين (حَرَّمَ) الله (أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) من الجنسين (أَمَّا

١٥٧

اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) اى الجنين من الجنسين ذكرا كان أو أنثى (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) لا بظنّ وهوى وخديعة من النّفس أو بما به يحصل العلم بانّ الله حرّم شيئا من ذلك أو بأمر معلوم مقطوع به لكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعويكم حرمة شيء من ذلك (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ) العراب والبخاتي (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) الاهلىّ والوحشىّ (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ) والمقصود انكار تحريم شيء منها وإلزامهم انّ قولهم بحرمة الذكّور منها تارة والإناث اخرى والاجنّة اخرى كما سبق ليس عن علم وحجّة بل محض تخمين وظنّ من أنفسهم (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) حاضرين (إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) يعنى أمثال ذلك امّا ان يعلم ببرهان فيمكن أعلام الغير بذلك البرهان ، أو يعلم بشهود وسماع حتّى يكون عن علم وان لم يكن أعلام الغير به ، ولمّا لم يكن لكم برهان ولا شهود لم يكن حكمكم هذا الّا محض افتراء على الله فلفظة أم وان كانت منقطعة لكنّها معادلة لقوله نبّئونى بعلم باعتبار المعنى يعنى الكم برهان أم كنتم شهداء (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) تقريع على ما تقدّم باعتبار ثبوت الافتراء أو جزاء لشرط مقدّر بهذا الاعتبار ، يعنى إذا لم يكن لكم برهان وعلم كما دلّ عليه (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) ولم تكونوا شهداء كما دلّ عليه قوله (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) فأنتم مفترون ولا أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) فهو اشارة الى نتيجة قياس مستفاد من سابقه والى قياس أخر منتج اى أنتم لا علم لكم ولا شهود ، وكلّ من لا علم له ولا شهود في قوله فهو مفتر ، وكلّ مفتر لا أظلم منه فأنتم لا أظلم منكم (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا الّذى ذكر من تفسير الأزواج بما ذكر هو الّذى ورد في الاخبار ولمّا امر الله تعالى نبيّه (ص) بالسّؤال عن حرمة شيء من الأزواج وعن البرهان عليها أو الشّهود بها امره ان يجيب ، بانّ طريق العلم امّا برهان أو شهود وهما منتفيان عنكم كما سبق وامّا وحي بتوسّط سفراء الله وملائكته أو تقليد لصاحب الوحي وأنتم اهله وانا أهل ذلك الوحي ومدّع له ، لا أنتم لعدم ادّعائكم ذلك واعترافكم بانّكم لستم أهلا للوحى فقال (قُلْ) لهم (لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) من هذه الأزواج كما تزعمون انّ بعضها محرّم على بعض كما سبق (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) وبهذا التّفسير يندفع عن هذه الآية الاشكال بانّ المحرّمات كثيرة وما ذكر هنا اقلّ قليل منها ، وامّا ما ذكر في البقرة فقد سبق هناك ما يندفع به الاشكال عن الآيتين (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) اى الّا في حال ان يكون الطّعام (مَيْتَةً) خرج عنها مقتول الكلاب المعلّمة والمقتول بآلة الصّيد على ما فصّل في الفقه لانّه في حكم المذبوح (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) مصبوبا لا البقيّة الّتى تبقى في لحوم الّذبائح وهو مجمل تفصيله موكول الى بيانهم وقد فصّل في الفقه (أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) بيّن وجه الحرمة فيه لانّ كونه رجسا مخفىّ على آكليه بخلاف سابقيه أو الضّمير راجع الى المجموع باعتبار المذكور (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) سمّى المذبوح للأصنام فسقا مبالغة وقوله اهلّ لغير الله به بيان لعلة كونه فسقا (فَمَنِ اضْطُرَّ) الى أكل شيء من ذلك (غَيْرَ باغٍ) على الامام (وَلا عادٍ) حدّ الرخصة وقد مضى في سورة البقرة تفصيل لهذه الآية (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه ويرحمه بترخصه في الاكل حفظا لنفسه (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) من الدّوابّ والطّيور ذكر التّحريم على اليهود بطريق

١٥٨

الحصر عقيب هذه الآية وتعقيبه بكونه جزاء لبغيهم للمنّ على أمّة محمّد (ص) ولتهديدهم يؤيّد الاشكال بلزوم حلّيّة ذبيحة كلّ نوع من الحيوان (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا) اى ما تعلّق بالأمعاء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ) التّحريم (جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في الاخبار (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ) لانّه لا مانع له من إنفاذه (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) جمع بين شأنى اللّطف والقهر والارجاء والتّخويف والوعد والوعيد تعليما لمحمّد (ص) وأوصيائه (ع) طريق الدّعوة وتكميلا له فيها وتثبيتا له في الدّعوة بين جهتي الرّضا والسّخط ، فانّه لا يتمّ الدّعوة الّا بهما ، فالمعنى فان كذّبوك فلا تخرج عن التّوسّط وعدهم رحمة الرّبّ بإضافة الرّبّ إليهم إظهارا للّطف بهم وقل ربّكم ذو رحمة واسعة فيرحمكم ولا يؤاخذكم بجهالاتكم ، ولكن إذا أراد مؤاخذتكم فلا رادّ لمؤاخذته فاحذروها (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) لرفع القبح عن اشراكهم بل لتحسينه بعد ان عجزوا عن الحجّة (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) كما هو ديدن النّفس والمرأة الفاحشة فانّهما لا ترضيان بنسبة السّوء الى أنفسهما بل تحسّنان القبيح بما أمكن ، فاذا عجزتا عن ذلك تنسبانه بالتّسبيب الى غيرهما من الشّيطان والقرين ومشيّة الله وهو كذب محض ، فانّ الشّيطان والقرين ليس لهما الّا الاعداد ، والمشيّة وان كانت فاعلة أو سببا للفعل لكنّ الفاعل ما دام يرى نفسه في البين ليس له نسبة الفعل الى المشيّة أو تعليقه عليها ولو نسب لا ينبغي الغفلة عن استعداد القابل وبهذا يرتفع التناقض المترائى بين تكذيبهم في قولهم هذا وبين تعليق ذلك على المشيّة في قوله ولو شاء الله لهديكم (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) اى مثل تكذيبهم ايّاك بتعليق الإشراك والتّحريم على المشيّة دون نسبة الى أنفسهم كذّب الّذين من قبلهم أنبياءهم (ع) (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) يعنى ليس عندكم برهان على دعويكم يمكنكم الاحتجاج به على الغير ، واطلاق العلم على البرهان من قبيل اطلاق المسبّب على السّبب ، أو لانّ البرهان هو العلم الّذى يحصل به علم أخر ولمّا كان البرهان هو الّذى يمكن أعلام الغير به قال فتخرجوه لنا فنفى بهذا عنهم البرهان وبقوله (إِنْ تَتَّبِعُونَ) (الى آخره) نفى علمهم مطلقا ، يعنى لا برهان لكم ولا شهود ولا سماع عن صادق أو وحي وبقوله (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) نفى صحّة تقليدهم لانّ التحدّى بمثل هذا يدلّ على عدم شاهد لهم يصحّ الاعتماد عليه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) يعنى لا علم لكم في أنفسكم بمدّعاكم كما لا برهان لكم لا علام غيركم ، ذمّهم اوّلا على اتّباع الظّنّ في أعمالهم ، وثانيا على انّ شأنهم الخرص والتّخمين لا العلم واليقين ، والعاقل لا يقف على الظّنّ والتّخمين بل يتعمّل في تحصيل العلم واليقين وما لم يحصل اليقين يقف عن العمل الّا إذا اضطرّ فيحتاط لا انّه يتّبع الظّنّ فيعمل ويفتي بظنّه من غير اذن واجازة ولا يحصل اليقين الّا بالبيان والبرهان ، أو بإدراك مدارك الحيوان ، أو بالوحي والعيان ، أو بتقليد صاحب الوحي وخليفة الرّحمن ، فمن ظنّ انّ الظّنّ مطلقا والاستحسان طريق حكم الله أو المخطئ له أجر والمصيب له أجران فقد أخطأ طريق الجنان وسلك طريق النّيران فمن فسّر القرآن برأيه واحكام الله نزول القرآن فليتبوّأ مقعده من النّيران ، وامّا الخاصّة فظنونهم قائمة مقام العلم بل نقول ظنونهم أشرف وأعلى من العلم فقد حقّقنا سابقا انّ اجازة المجيز إذا كانت الاجازة الصّحيحة بلغت الى المجاز تجعل ظنّ المجاز أشرف من علم غيره لانّ العلم بدون الاجازة

١٥٩

لا اثر في قول قائله والظّنّ مع الاجازة يؤثّر وليس الاجازة الالهيّة بأقلّ من الاجازة الشّيطانيّة ، والحال انّ المرتاضين بالأعمال الشّيطانيّة ان تعلّموا تعلّما صحيحا مع تصحيح الألفاظ جميع المناطر لم يؤثّر شيء منها ما لم يجزه صاحب الاجازة ، وإذا اجازة صاحب الاجازة يؤثّر قوله ولو كان مغلوطا ، فالاجازة تجعل المغلوط أشرف من الصّحيح وهكذا الحال في الاجازة الالهيّة ولمّا نفى البرهان عنهم في تعليق الإشراك والتّحريم على مشيّة الله المفهوم من مفهوم الشّرط ، فانّ المراد بقرينة المقام من هذا الشّرط الدّلالة على تعلّق الإشراك بمشيّة الله وان كان بحسب اللّغة أعمّ ، ونسب تكذيب النّبىّ (ص) إليهم بذلك التّعليق مشعرا بذمّهم فيه وأوهم ذلك نفى تعليق الأفعال على المشيّة امر نبيّه (ص) بان يقول لهم : انّ البرهان منحصر في الله وفيمن أخذ عن الله تمهيدا لتعليق الأفعال على مشيّة الله رفعا لتوهّم عدم سببيّة المشيّة النّاشى عمّا سبق فقال تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) في كلّ ما قال وما فعل (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) فله الحجّة في صدق هذا القول وقد أظهرها لي يعنى لي الحجّة في تعليق اشراككم وتحريمكم على مشيّة المفهوم من مفهوم قولكم لو شاء الله ما أشركنا لا لكم وله الحجّة في ترك تلك المشيّة ومشيّة ضدّه ، اعلم ، انّ مشيّة الله وهي إضافته الاشراقيّة الّتى بها وجود كلّ ذي وجود كالرّحمة والارادة عامّة وهي الّتى بها وجود كلّ ذي وجود امكانىّ بكمالاته الاولويّة والثّانويّة في سلسلة النّزول والصّعود مثل الرّحمة الرّحمانيّة وخاصّة ، وهي الّتى بها وجود الكمالات الثّانويّة للمكلّفين في سلسلة الصّعود مثل الرّحمة الرّحيميّة وتسمّى بالرّضا والمحبّة (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ، و (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) اشارة إليها فالمشيّة العامّة لها السّببيّة لكلّ ذات وفعل وصفة لكنّ الفاعل ما لم يخرج عن حدّ نفسه ولم ينظر الى مشيّة الله بنور بصيرته ويرى نفسه فاعل فعله كما يشعر به قولهم ما أشركنا بنسبة الإشراك الى أنفسهم ما صحّ له نسبة الفعل أو تعليقه على المشيّة وكان مذموما كاذبا في نسبة فعله الى المشيّة ، وبهذا أيضا يصحّ ذمّهم في قولهم لو شاء الله ما أشركنا بتعليق عدم الإشراك اى الاهتداء على المشيّة مع إثبات هذا التّعليق بقوله (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) وكذلك المشيّة الخاصّة لها السّببيّة في الأفعال التّكليفيّة الصّالحة ، فلو أرادوا تلك المشيّة فالجمع بين ذمّهم على قولهم وإثبات قولهم بمثل ما ذكر في المشيّة العامّة ولمّا أبطل قولهم ذلك بعدم البرهان وعدم علمهم في أنفسهم أراد ان يبطل علمهم التّقليدىّ أيضا باستحضار الرّؤساء الّذين قلّدوهم وإلزامهم جهلهم وضلالتهم حتّى يتبيّن لهم انّ تقليدهم فاسد ، وانّ التّقليد يصحّ إذا كان تقليدا لمن نصبه الله للتّقليد كالأنبياء وأوصيائهم وغيرهم كائنا من كان لا ينفكّ عن الهوى وتقليده اتّباع للهوى فقال (قُلْ) لهم ايّها العاجزون عن البرهان والقاصرون عن العلم (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) اى رؤساءكم الّذين تقلّدونهم (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) حتّى أظهر لكم جهلهم واتّباعهم للهوى (فَإِنْ شَهِدُوا) بذلك (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وضع الظّاهر موضع المضمر للدّلالة على انّ شهادتهم ناشئة عن اتّباع الهوى لانّهم موصوفون بتكذيب آيات الله والمكّذبون بآيات الله لا يكونون الّا صاحبي الاهوية النفسانيّة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وصف آخر باعث لاتّباع الهوى (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) اى يسوّون غيره به وصفهم بأوصاف ثلاثة كلّ واحد منها يكفى في ردّ شهادتهم (قُلْ) بعد عجزهم عن العلم واقامة البرهان وإلزامهم فساد تقليدهم لرؤسائهم (تَعالَوْا) الىّ فانّي منصوب من الله (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) حتّى تقلّدونى تقليدا صحيحا (أَلَّا تُشْرِكُوا

١٦٠