تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

والله عزوجل وانا عنه راضيان وما نزلت آية رضى الّا فيه ، وما خاطب الله الّذين آمنوا الّا بدء به ، ولا نزلت آية مدح في القرآن الّا فيه ، ولا شهد الله بالجنّة في (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) الّا وله ولا أنزلها في سواه ولا مدح بها غيره ، معاشر النّاس ، هو ناصر دين الله ، والمجادل عن رسول الله ، والتّقىّ النّقىّ الهادي المهدىّ نبيّكم خير نبىّ ووصيّكم خير وصىّ ، وبنوه خير الأوصياء ، معاشر النّاس ، ذرّيّة كلّ نبىّ من صلبه وذرّيّتى من صلب علىّ ، معاشر النّاس ، انّ إبليس أخرج آدم من الجنّة بالحسد فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزلّ أقدامكم ؛ فانّ آدم اهبط الى الأرض بخطيئة واحدة وهو صفوة الله عزوجل فكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله ، الا انّه لا يبغض عليّا الّا شقىّ ولا يتولّى عليّا الّا تقىّ ولا يؤمن به الّا مؤمن مخلص ، وفي علىّ والله انزل سورة العصر (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ) الى آخره ، معاشر النّاس قد استشهدت الله وبلّغتكم رسالتي (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ، معاشر النّاس ، اتّقوا الله حقّ تقاته فلا تموتنّ الّا وأنتم مسلمون ، معاشر النّاس ، آمنوا بالله ورسوله والنّور الّذى انزل معه من قبل ان نطمس وجوها فنردّها على ادبارها ، معاشر النّاس ، النّور من الله عزوجل فيّ ، ثمّ مسلوك في علىّ ، ثمّ في النّسل منه الى القائم المهدىّ الّذى يأخذ بحقّ الله وبكلّ حقّ ، هو لنا لانّ الله عزوجل قد جعلنا حجّة على المقصّرين والمعاندين والمخالفين والخائبين والآثمين والظّالمين من جميع العالمين. معاشر النّاس ، انّى أنذركم انّى رسول الله إليكم قد خلت من قبلي الرّسل أفإن متّ أو قتلت (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) ، الا وانّ عليّا الموصوف بالصّبر والشّكر ثمّ من بعده ولدي من صلبه ، معاشر النّاس ، لا تمنّوا على الله إسلامكم فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده انّه لبالمرصاد ، معاشر النّاس ، سيكون من بعدي ائمّة يدعون الى النّار ويوم القيامة لا ينصرون ، معاشر النّاس ، انّ الله وانا بريئان منهم ، معاشر النّاس ، انّهم وأشياعهم واتباعهم وأنصارهم في الدّرك الأسفل من النّار ولبئس مثوى المتكبّرين ، الا انّهم أصحاب الصّحيفة فلينظر أحدكم في صحيفته (قال : فذهب على النّاس الّا شر ذمة امر الصّحيفة) معاشر النّاس ، انّى ادعها إمامة ووراثة في عقبى الى يوم القيامة ، وقد بلّغت ما أمرت بتبليغه حجّة على كلّ حاضر وغائب وعلى كلّ أحد ممّن شهد أو لم يشهد ولد أو لم يولد ، فليبلغ الحاضر الغائب والوالد الولد الى يوم القيامة وسيجعلونها ملكا اغتصابا ، الا لعن الله الغاصبين والمغتصبين وعندها (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ف (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) ، معاشر النّاس ، انّ الله عزوجل لم يكن يذركم على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطيّب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ، معاشر النّاس ، انّه ما من قرية الّا والله مهلكها بتكذيبها وكذلك يهلك القرى وهي ظالمة كما ذكر الله تعالى ، وهذا إمامكم ووليّكم وهو مواعيد الله والله يصدق ما وعده ، معاشر النّاس ، قد ضلّ قبلكم أكثر الاوّلين والله لقد أهلك الاوّلين وهو مهلك الآخرين ، معاشر النّاس ، انّ الله قد أمرنى ونهاني وقد أمرت عليّا ونهيته فعلم الأمر والنّهى من ربّه عزوجل فاسمعوا لأمره تسلموا ، وأطيعوه تهتدوا ، وانتهوا لنهيه ترشدوا ، وصيروا الى مراده ولا يتفرّق بكم السّبل عن سبيله ، انا صراط الله المستقيم الّذى أمركم باتّباعه ثمّ علىّ من بعدي ثمّ ولدي من صلبه ائمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون. ثمّ قرأ (ص) (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الى آخرها) وقال ، فيّ نزلت وفيهم نزلت ولهم عمّت وايّاهم خصّت ، أولئك (أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الا (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) ، الا انّ أعداء علىّ هم أهل الشّقاق العادون ، واخوان الشّياطين

١٠١

الّذين يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ، الا انّ أولياء الله هم المؤمنون الّذين ذكرهم الله في كتابه فقال عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ،) (الى آخر الآية) الا انّ أولياء الله هم الّذين وصفهم الله عزوجل فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، الا انّ أولياء الله هم الّذين يدخلون الجنّة آمنين وتتلقّاهم الملائكة بالتّسليم ان طبتم فادخلوها خالدين ، الا انّ أولياء الله هم الّذين قال الله عزوجل : (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ، الا انّ أعداءهم الّذين يصلون سعيرا ، الا انّ أعداءهم الّذين قال الله عزوجل (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ) (الآية) ، الا انّ أولياء الله هم الّذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ، معاشر النّاس ، شتّان ما بين السّعير والجنّة ، عدوّنا من ذمّه الله ولعنه ووليّنا من أحبّه الله ومدحه ، الا وانّى منذر وعلىّ هاد ، معاشر النّاس ، انّى نبىّ وعلىّ وصيّي الا وانّ خاتم الائمّة منّا القائم المهدىّ ، الا انّه الظّاهر على الدّين ، الا انّه المنتقم من الظّالمين ، الا انّه فاتح الحصون وهادمها ، الا انّه قاتل كلّ قبيلة من أهل الشّرك ، الا انّه مدرك كلّ ثأر لأولياء الله عزوجل ، الا انّه ناصر دين الله عزوجل ، الا انّه الغرّاف من بحر عميق ، الا انّه يسمّ كلّ ذي فضل بفضله وكلّ ذي جهل بجهله ، الا انّه خيرة الله ومختاره ، الا انّه وارث كلّ علم والمحيط به ، الا انّه المخبر عن ربّه عزوجل المنبّه بأمر ايمانه ، الا انّه الرّشيد السّديد ، الا انّه المفوّض اليه ، الا انّه قد بشّر به من سلف بين يديه ، الا انّه الباقي حجّة ولا حجّة بعده ولا حقّ الّا معه ولا نور الّا عنده ، الا انّه لا غالب له ولا منصور عليه ، الا انّه ولىّ الله في أرضه ، وحكمه في خلقه ، وأمينه في سرّه وعلانيته. معاشر النّاس ، قد بيّنت لكم وأفهمتكم وهذا علىّ يفهمكم بعدي ، الا وانّ عند انقضاء خطبتي أدعوكم الى مصافقتي على بيعته والإقرار به ثمّ مصافقته من بعدي ، الا وانّى قد بايعت الله وعلىّ قد بايعنى وانا آخذكم بالبيعة له عن الله عزوجل ، و (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (الآية). معاشر النّاس ، انّ الحجّ والصّفا والمروة والعمرة (مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) (الآية) ، معاشر النّاس ، حجّوا البيت فما ورده أهل بيت الّا استغنوا ولا تخلّفوا عنه الّا افتقروا ، معاشر النّاس ، ما وقف بالموقف مؤمن الّا غفر الله له ما سلف من ذنبه الى وقته ذلك ، فاذا انقضت حجّته استأنف عمله ، معاشر النّاس ، الحجّاج معانون ونفقاتهم مخلّفة والله لا يضيع أجر المحسنين ، معاشر النّاس ، حجّوا البيت بكمال الدّين والتّفقه ولا تنصرفوا عن المشاهد الّا بتوبة وإقلاع ، معاشر النّاس ، أقيموا الصّلوة وآتوا الزّكاة كما أمركم الله عزوجل لئن طال عليكم الأمد فقصّرتم أو نسيتم فعلىّ وليّكم ومبيّن لكم ، الّذى نصبه الله عزوجل بعدي ومن خلّفه الله منّى ومنه يخبركم بما تسألون منه ويبيّن لكم ما لا تعلمون ، الا انّ الحلال والحرام أكثر من أحصيهما واعرّفهما ، فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد فأمرت ان أخذ البيعة عليكم والصّفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عزوجل في علىّ أمير المؤمنين ، والائمّة من بعده الّذين هم منّى ومنه أمّة قائمة ومنهم المهدىّ الى يوم القيامة الّذى يقضى بالحقّ ، معاشر النّاس ، وكلّ حلال دللتكم عليه وكلّ حرام نهيتكم عنه فانّى لم ارجع عن ذلك ولم ـ ابدّل ، الا فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصوا به ولا تبدّلوه ولا تغيّروه ، الا وانّى اجدّد القول ، الا فأقيموا الصّلوة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، الا وانّ رأس الأمر بالمعروف ان تنتهوا الى قولي وتبلّغوه من لم يحضره وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته فانّه امر من الله عزوجل ومنّى ، ولا امر بمعروف ولا نهى عن منكر الّا مع امام ، معاشر النّاس ، القرآن يعرّفكم انّ الائمّة من بعده ولده وعرّفتكم انّهم منّى ومنه

١٠٢

حيث يقول الله وجعلها كلمة باقية في عقبه وقلت : لن تضلّوا ما ان تمسّكتم بهما ، معاشر النّاس ، التّقوى التّقوى احذروا السّاعة كما قال الله تعالى ، (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، اذكروا الممات والحساب والموازين والمحاسبة بين يدي ربّ العالمين ، والثّواب والعقاب فمن جاء بالحسنة أثيب ، ومن جاء بالسيّئة فليس له في الجنان نصيب ، معاشر النّاس ، انّكم أكثر من ان تصافقوني بكفّ واحدة وأمرني الله عزوجل ان أخذ من ألسنتكم الإقرار بما عقدت لعلىّ من إمرة المؤمنين ومن جاء بعده من الائمّة منّى ومنه على ما أعلمتكم انّ ذرّيّتى من صلبه فقولوا بأجمعكم انّا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلّغت عن ربّنا وربّك في امر علىّ وامر ولده من صلبه من الائمّة نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا ، على ذلك نحيى ونموت ونبعث ولا نغيّر ولا نبدّل ولا نشكّ ولا نرتاب ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق ونطيع الله ونطيعك وعليّا أمير المؤمنين وولده الائمّة الّذين ذكرتهم من ذرّيّتك من صلبه بعد الحسن والحسين ، الّذين قد عرّفتكم مكانهما منّى ومحلّهما عندي ومنزلتهما من ربّى عزوجل ، فقد ادّيت ذلك إليكم وانّهما سيّدا شباب أهل الجنّة وانّهما الامامان بعد أبيهما علىّ وانا أبوهما قبله وقولوا أطعنا الله بذلك وإياك وعليّا والحسن والحسين والائمّة الّذين ذكرت عهدا وميثاقا مأخوذا لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما واقرّ بهما بلسانه لا نبتغي بذلك بدلا ولا نرى من أنفسنا عنه حولا أبدا ، أشهدنا الله وكفى به شهيدا وأنت علينا به شهيد ، وكلّ من أطاع ممّن ظهر واستتر وملائكة الله وجنوده وعبيده والله أكبر من كلّ شهيد. معاشر النّاس ، ما تقولون فانّ الله يعلم كلّ صوت وخافية كلّ نفس فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فانّما يضلّ عليها ومن بايع فانّما يبايع الله عزوجل ، يد الله فوق أيديهم ، معاشر النّاس ، فاتّقوا الله وبايعوا عليّا أمير المؤمنين والحسن والحسين والائمّة كلمة باقية يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، الآية ، معاشر النّاس ، قولوا الّذى قلت لكم وسلّموا على علىّ بامرة المؤمنين وقولوا (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ،) وقولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) ، معاشر النّاس ، انّ فضائل علىّ بن ابى طالب عند الله عزوجل وقد أنزلها علىّ في القرآن أكثر من ان أحصيها في مكان واحد فمن أنبأكم بها وعرّفها فصدّقوه ، معاشر النّاس ، من يطع الله ورسوله وعليّا والائمّة الّذين ذكرتهم فقد فاز فوزا مبينا ، معاشر النّاس ، السّابقون الى مبايعته وموالاته والتّسليم عليه بامرة المؤمنين أولئك هم الفائزون في جنّات النّعيم ، معاشر النّاس ، قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول فان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فلن يضرّ الله شيئا ، اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات واغضب على الكافرين والكافرات والحمد لله ربّ العالمين. فناداه القوم ، نعم سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا وتداكّوا على رسول الله (ص) وعلى علىّ (ع) وصافقوا بأيديهم فكان اوّل من صافق رسول الله (ص) الاوّل والثّانى والثّالث والرّابع والخامس وباقي المهاجرين والأنصار وباقي النّاس على طبقاتهم وقدر منازلهم الى ان صلّيت العشاء والعتمة في وقت واحد ، وواصلوا البيعة والمصافقة ثلاثا ورسول الله يقول كلّما بايع قوم : الحمد لله الّذى فضّلنا على جميع العالمين وصارت المصافقة سنّة ورسما يستعملها من ليس له حقّ فيها (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) من الدّين يعتنى به ويسمّى شيئا امّا تعريض بالامّة أو خطاب على سبيل العموم لهم ولأهل الكتاب والمقصود خطاب الامّة بإقامتهم ما انزل إليهم في الولاية (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) بإقامة أوامرهما ونواهيهما (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من القرآن

١٠٣

بإقامة حدوده ومن جملة حدوده الأمر بالولاية وهي العمدة ، أو ما انزل إليكم من ربّكم في الولاية كما في أخبارنا على وجه التّعريض ، ويمكن ان يقال : وما أنزل إليكم من ربّكم على السنة انبيائكم وأوصيائهم من أخذ الميثاق وانتظار الفرج بمحمّد (ص) (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علىّ أو مطلقا لكن يكون المقصود ما انزل في الولاية بنحو التّعريض (طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فانّهم لانحرافهم عن باب الولاية لم يبق فيهم ما يتأسّف به عليهم ولا يضرّونك ولا عليّا (ع) أيضا بانحرافهم حتّى تتأسّف على ذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمّد (ص) بقبول الدّعوة الظّاهرة وبالبيعة العامّة النّبويّة (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) عطف على محلّ اسم انّ على ضعف أو على محلّ ان واسمها (وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ) بقبول الدّعوة الباطنة والبيعة مع علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان في قلوبهم ، فانّ به فتح باب القلب ، وبفتحه رفع الخوف والحزن والإيقان باليوم الآخر ، وبه يعمل العمل الصّالح (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) الأعمال المرتبطة بالايمان الدّاخل في القلب الّذى هو أصل كلّ صالح ، وغيره بتوسّطه يصير صالحا (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لانّ الخوف والحزن من صفات النّفس وهؤلاء قد خرجوا من دار النّفس ودخلوا في حدود دار القلب فتبدّل خوفهم خشية وحزنهم قبضا ، ولا ينافي هذا ما ورد كثيرا من نسبة الخوف والحزن الى المؤمن الخاصّ في الآيات والاخبار ، لانّ اطلاق الخوف والحزن على ما للمؤمن الخاصّ انّما هو باعتبار معناهما العامّ وقد عدّ الفرح من جنود العقل والحزن من جنود الجهل ، وما ورد من انّ المؤمن خوفه ورجاءه متساويان ككفّتى الميزان فانّما يراد بالخوف معناه الاعمّ ، وورد انّ المراد نفى الخوف والحزن في الآخرة (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى كما أخذنا ميثاقكم بولاية علىّ (ع) فاحذروا ان تكونوا مثلهم فتكذّبوا فريقا وتقتلوا فريقا كما فعلوا بعلىّ (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) (وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) الإتيان بالاستقبال لاستحضار الحال الماضية تفضيحا لهم بإحضار اشنع أحوالهم وللمحافظة على رؤس الآي (وَحَسِبُوا) من تماديهم في الغفلة والاعراض (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) عذاب وابتلاء من الله بسبب هذا التّكذيب والقتل استصغارا للّذنب العظيم (فَعَمُوا) عن الاعتبار بمن مضى (وَصَمُّوا) عن استماع حكاياتهم وعن استماع الحقّ (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بتوبتهم وقبول نصح الأنبياء وأوصيائهم (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) كرّة اخرى (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل بعض من الكلّ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) وقد وقع هذا في أمّة محمّد (ص) والمقصود بالآية التّعريض بهم ، في الكافي عن الصّادق (ع) في بيان وجه التّعريض وحسبوا ان لا تكون فتنة قال حيث كان النّبىّ (ص) بين أظهرهم فعموا وصمّوا حيث قبض رسول الله (ص) ثمّ تاب الله عليهم حيث قام أمير المؤمنين (ع) ثمّ عموا وصمّوا الى السّاعة ، ويمكن بيان التّعريض بوجه آخر وهو ان يقال : حسبوا ان لا تكون فتنة حيث تعاهدوا في مكّة فعموا وصمّوا عن دلائل صدق محمّد (ص) ثمّ تاب الله عليهم حيث بايعوا عليّا (ع) بالخلافة ثمّ عموا وصمّوا حيث نقضوا بيعته (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) حيث قالوا بآلهة عيسى (ع) وحصروها فيه امّا بالاتّحاد كما هو زعم بعض أو بالحلول كما هو زعم بعض ، أو بالفناء من نفسه والبقاء بالله وظهور الله فيه كما هو

١٠٤

زعم آخرين ، وبطلان الاتّحاد والحلول لمن ذاق من رحيق التّوحيد لا يحتاج الى مؤنة فانّهما مستلزمان للاثنينيّة والثّانى للحقّ تعالى وهو محال وقد قيل :

حلول واتّحاد اينجا محال است

كه در وحدت دوئى عين ضلال است

وبطلان الثّالث أيضا لا يحتاج الى مؤنة باعتبار الحصر ولمّا كان أتباع ملّة النّصارى تفوّهوا بهذا القول من غير تحقيق وتعمّق وذهبوا الى التّجسّم المتوهّم من ظاهره ، حكم تعالى عليهم بالكفر وهذا كما مضى مذهب طائفة منهم تسمّى باليعقوبيّة ، ومضى انّ محقّقيهم قالوا بانّ فيه جوهرا الهيّا وجوهرا آدميّا وليس هاهنا مقام تفصيل هذا المطلب وتحقيقه (وَقالَ الْمَسِيحُ) الأنسب ان يكون الجملة حالا بتقدير قد ليكون أبلغ في تفضيحهم وليكون احتجاجا عليهم بقوله تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) يعنى انّى مربوب مثلكم فاعبدوا من هو ربّى كما انّه ربّكم (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) شيئا كائنا ما كان وهو مقول قول عيسى (ع) أو ابتداء كلام من الله (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) لانّه أخطأ طريقها وهو التّوحيد (وَمَأْواهُ النَّارُ) لانّ من أخطأ طريق الجنّة سلك طريق النّار لا محالة لعدم الواسطة ولكونه متحرّكا الى جهة من الجهات وخارجا من القوى الى الفعليّات (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بظلمه وبعلّة الحكم فانّ الظّالم كما لا يتصوّر له ولىّ يتولىّ أموره ويربّيه كذلك لا يتصوّر له ناصر ينصره من عذاب الله فانّ النّصير والولىّ هما النّبىّ (ص) والولىّ (ع) وخلفاؤهما ، والظّلم عبارة عن الانصراف والاعراض عنهما وعن التّوحيد ، والمعرض لا يستحقّ القبول لانّه لا إكراه في الدّين ومن لم يكن مقبولا لم يكن له نصرة ولا ولاية ، واكتفى بذكر الأنصار لانّه إذا لم يكن له ناصر لم يكن له ولىّ بطريق اولى ، أو لانّه يستعمل كلّ من النّصير والولىّ في الاعمّ منهما إذا انفرد ، أو هذا كان تعريضا بمن قال بعد ذلك في الائمّة (ع) مثل ما قالوه في المسيح (ع) (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) اعلم ، انّ للنّصارى كاليهود وكالمسلمين مذاهب مختلفة في فروعهم وأصولهم ، فمنهم من قال بالأقانيم الثّلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، والاقنوم بمعنى الأصل وهؤلاء معظم النّصارى يقولون : انّ الإله ذات واحدة لا كثرة فيه وانّه تشأّن بشؤن ثلاثة بشأنى الابوّة والبنوّة وبشأن روح القدس ، ولا ينفصم وحدته بتشأنّه ويمنعون من القول بانّ الآلهة ثلاثة وبانّ الله ثالث ثلاثة وقيل بالفارسيّة.

در سه آئينه شاهد أزلي

پرتو از روى تابناك افكند

سه نگردد بريشم ار أو را

پرنيان لإخوانى وحرير وپرند

لكنّ الاتباع لعدم تجاوز هم عن المحسوسات والكثرات إذا تفوّهوا بمثل هذه المقالة لا يدركون منها غير الآلهة الثّلاثة ، وانّ الله الّذى هو أب باعتقادهم واحد من الثّلاثة ولا يدركون منها ما يريد منها محقّقوهم من انّه تعالى حقيقة واحدة مقوّمة لكلّ ممكن متجليّة في كلّ مظهر ، واختصاص بعض المظاهر بالمظهريّة انّما هو لشدّة ظهوره تعالى فيه ، وانّ عيسى (ع) وروح القدس لمّا كان كلّ واحد منهما أتمّ مظهر له تعالى وكذا ما سمّى بالأب سمّوهم باسم الأقانيم فردّ الله تعالى عليهم مقالتهم الّتى يلزمها التّحديد والتّشبيه لله تعالى ، وما ورد في الآيات والاخبار من انّه تعالى رابع ثلاثة انّما هو للاشارة الى قيّوميّته تعالى لكلّ الأشياء وظهوره بكلّ مظهر ودخوله في كلّ الأشياء لا بالممازجة ولا كدخول شيء في شيء (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) هو الحقيقة الغيبيّة الظّاهرة في كلّ المظاهر (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) حتّى يقول الاتباع بتقليد المتبوعين بالالهة الثّلاثة فيكفروا من

١٠٥

حيث لا يعلمون (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) اى الّذين قالوا انّ الله هو المسيح والّذين قالوا انّ الله ثالث ثلاثة (عَذابٌ أَلِيمٌ) يعنى انّهم بقولهم على الله ما لا يجوز في حقّه ممتازون بالعذاب الأليم ، وامّا رؤساؤهم الّذين ما قالوا على الله ما لا يجوز في حقّه ولم يكفروا مثل الاتباع من هذه الجهة فلهم عذاب أيضا بانكارهم نبوّة محمّد (ص) وإلقاء كلمة لا يدرك الاتباع المقصود منها (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بعد ما علموا انّ هذه الكلمة كفر وإغواء للغير (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حال للتّعليل (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) لا اله كما قال الفرقة الاولى ولا واحد الآلهة كما قال الفرقة الثّانية (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) صدقت عن الاعوجاج قولا وفعلا وحالا ، وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه ورسله والدّليل على انّهما ليسا الهين انّهما (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) فيشتركان معكم في اخسّ أحوالكم وهو الاحتياج الى الاكل ، وهو كناية عن الاحتياج الى التخلّى ومن كان محتاجا مبتلى بأخسّ الأحوال لا يصير إلها في ارفع المقام (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) يعنى انظر الى بياننا العجيب لآيات القرآن في بيان حال عيسى (ع) وأمّه مناسبا لفهمهم وشأنهم بحيث لا يمكن لهم إنكاره ، أو انظر الى بياننا لآياتنا الّتى منها عيسى (ع) وأمّه (ع) بحيث يدركه كلّ أحد ولا يبقى له ريب (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) تخليل ثمّ للتّفاوت بين التّعجّبين يعنى انصرافهم عن الحقّ في عيسى (ع) وأمّه (ع) بعد هذا البيان أو بعد ما رأوا منهم وعلموا هذه الحالة الخسيسة أعجب من كلّ عجيب (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) يعنى المسيح (ع) فانّه بعد ما علم احتياجه الى اخسّ الأحوال وعدم مالكيّته لدفع ضرّ تلك الحاجة عن نفسه يعلم انّه لم يكن مالكا للضرّ والنّفع لغيره فلم يكن أهلا لان يعبد والمقصود التّعريض بالامّة في طاعة من لا يدفع ضرّا عن نفسه (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) يعنى والحال انّ سماع الحاجات وقضائها منحصر فيه ليس لغيره (الْعَلِيمُ) والعلم بمقدار الحاجات وكيفيّة دفع المضارّ وجلب المنافع أيضا منحصر فيه (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) غلوّا غير الحقّ وهو القول والاعتقاد في الأنبياء (ع) زائدا على مرتبة فهمكم أو زائدا على مرتبتهم هذا للمتبوعين (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) اى من قبلكم باستبدادهم في الرّأى من المبتدعين الماضين أو الحاضرين وهذا للاتباع المقلّدين (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) باستتباعهم ايّاهم في رأيهم (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) السّبيل المستوى الى طرفي الإفراط والتّفريط والتّكرار باعتبار انّ الاوّل الضّلال عن احكام النّبوّة القالبيّة والثّانى الضّلال عن احكام الولاية القلبيّة وهذا تعريض بالامّة في ضلالهم عن احكام محمّد (ص) وأقواله وضلالهم عن ولاية علىّ (ع) واتباعه (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) استيناف واقع موقع التّعليل ، في المجمع عن الباقر (ع): امّا داود (ع) فانّه لعن أهل ايلة لمّا اعتدوا في سبتهم وكان اعتداؤهم في زمانه فقال : اللهمّ البسهم اللّعنة مثل الرّداء على المنكبين ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة ، وامّا عيسى (ع) فانّه لعن الّذين أنزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك فصاروا خنازير (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) فلا تعصوا أنتم ولا تعتدوا واسمعوا يا أمّة محمّد (ص) (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) يعنى لا ينهى بعضهم بعضا أو لا يرعوون

١٠٦

وعن علىّ (ع) لمّا وقع التّقصير في بنى إسرائيل جعل الرّجل يرى أخاه في الّذنب فينهاه فلا ينتهى فلا يمنعه ذلك من ان يكون أكيله وجليسه وشريبه حتّى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ونزل فيهم القرآن حيث يقول جلّ وعزّ : لعن الّذين كفروا (الآية) وفيه دلالة على ذمّ المؤانسة مع أهل المعصية (لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) من عدم نهى بعضهم بعضا قولا وفعلا وقلبا ، أو من عدم ارعوائهم عن الشّرّ (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) امّا بيان حال الامّة أو بيان حال أهل الكتاب والتّعريض بالامّة والخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) المخصوص بالّذمّ محذوف اى تولّيهم (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بتقدير اللّام أو الباء أو هو مخصوص (وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) بسبب ذلك التّولّى ، عن الباقر (ع) يتولّون الملوك الجبّارين ويزيّنون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم (وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِ) الحاضر اعنى محمّدا (ص) على ان يكون بيان حال الامّة أو نبيّهم على ان يكون بيان حال أهل الكتاب لكنّ الاوّل اولى لافراده (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) يعنى في علىّ (ع) أو مطلقا والمقصود ما انزل في علىّ (ع) (مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ) لمجانبة الايمان للكفر والتّولّى يقتضي المجانسة (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن الحقّ الّذى هو الايمان.

الجزء السّابع

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) لانّهم لتوغّلهم في الدّنيا وعدم توجّههم الى الآخرة بسبب بعد زمان نبيّهم واندراس شريعته واستبدال احكامه صارت أحوالهم بعيدة عن أحوال المؤمنين لتوجّههم الى الآخرة وتلبّسهم الأحكام الشّرعيّة فلم يبق مجانسة بينهما بوجه من الوجوه ، والعداوة ناشئة من عدم المجانسة كما انّ المحبّة ناشئة من المجانسة (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا) وضع الظّاهر موضع المضمر ليكون تصريحا بانّ ملاك عداوة أولئك ومحبّة هؤلاء هو الايمان لا غير (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) لم يقل النّصارى لانّ هذا الاسم لاشتقاقه من النّصرة يدلّ على انّهم أنصار الله ولو كانوا أنصار الله لكانوا تابعي محمّد (ص) كذا قيل ، أو لانّ التّنصّر يكون بالتّدّين بدين عيسى (ع) على شرائطها من البيعة مع خلفائه وأخذ الميثاق منهم وهؤلاء انتحلوا التّنصّر كانتحال التّشيّع لاكثر الشّيعة من غير القائلين بالأئمّة الاثنى عشر ، وامّا اسم اليهود فانّه يطلق عليهم لكونهم من نسل يهود ابن يعقوب أو من اتباع أولاده الّذين فيهم النّبوّة وان كان اتّفق تديّنهم بدين موسى (ع) (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ) العلماء الّذين يأمرونهم بأحكام الإنجيل من العقائد والأحكام الفرعية (وَرُهْباناً) الزّهّاد الّذين تركوا الدّنيا واشتغلوا بالعبادة وتحصيل العقبى ، اعلم انّ كلّ شريعة من لدن آدم (ع) كانت مشتملة على السّياسات والعبادات القالبيّة وعلى العبادات والتّهذيبات القلبيّة ولكلّ منهما كان أهل ورؤساء يبيّنها لمن أراد التّوسّل بها واتباع يعمل بها ويسمّى رؤساء كلّ منهما في كلّ ملّة باسم خاصّ كالاحبار والرّهبان في ملّة النّصارى والموبد والهربد في ملّة العجم ، والمجتهد والصّوفى ، أو العالم والعارف ، أو العالم والتّقى في ملّة الإسلام ، والمقصود انّ النّصارى بواسطة عدم بعد زمان نبيّهم وعدم اندراس أحكامهم وعدم انقطاع علمائهم الّذين يأمرونهم بطلب الآخرة قالا وعدم انقطاع مرتاضيهم الّذين يأمرونهم حالا طالبون للآخرة ومجانسون للمؤمنين فهم محبّون لهم لمجانستهم (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن انقياد الحقّ (وَإِذا سَمِعُوا

١٠٧

ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) لانّهم كانوا طالبين للحقّ فأينما وجدوه عرفوه (يَقُولُونَ) انقيادا للحقّ (رَبَّنا آمَنَّا) بما انزل الى الرّسول (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) بحقيّته (وَ) يقولون (ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) بعد معرفة الحقّ وطلبه (وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِ) وقد كنّا طالبين له ووجدناه (وَ) الحال انّا (نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا) جنّته أو محضره (مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) بلسان القال والحال أو بلسان القال قرينا بالاعتقاد فانّه عبادة لسانيّة وكمال الايمان بإقرار اللسّان منبئا عن الجنان (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) وقد نقل انّ نزول الآية في النّجاشىّ وبكائه حين قرأ جعفر بن أبى طالب (ع) وقت هجرته الى الحبشة عليه آيا من القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال فالّذين آمنوا وصدّقوا بآياتنا أولئك أصحاب الجنّة والّذين كفروا الى آخرها وهو لبيان حال منافقي الامّة أو للتّعريض بهم فانّ عليّا (ع) أعظم الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة على ان يكون النّظر الى من نزلت فيه ، فانّهم كانوا ثلاثة منهم أمير المؤمنين (ع) ولا يكون مرافقة علىّ (ع) في الارتياض الّا لمن كان مثله داخلا في قلبه الايمان سالكا الى الله رفيقا له في الطّريق ، أو بالبيعة العامّة النّبويّة على ان يكون النّظر الى التّعميم وان كان النّزول خاصّا لانّ النّهى عامّ للمسلمين (لا تُحَرِّمُوا) على أنفسكم (طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب عديدة بعضها فوق بعض الى ما لا نهاية له ، والتّكاليف الالهيّة الواردة عليه ليست لمرتبة خاصّة منه بل كما عرفت سابقا للمفاهيم الواردة في التّكاليف مصاديق متعدّدة بتعدّد مراتب الإنسان بعضها فوق بعض ، فكلّما ورد في الشّريعة المطهّرة من الألفاظ فهي مقصودة من حيث مفاهيمها العامّة باعتبار جميع مصاديقها بحيث لا يشذّ عنها مصداق من المصاديق فالإنسان بحسب مرتبته النّباتيّة له محلّلات الهيّة ، وبحسب مرتبته الحيوانيّة اخرى ، وبحسب الصّدر اخرى ، وبحسب القلب اخرى ، وبحسب الرّوح اخرى ، والتّحريم الالهىّ في كلّ مرتبة بحسبه ، وكذا تحريم الإنسان على نفسه فالمحلّلات بحسب مرتبته الحيوانيّة والنّباتيّة ما أباح الله له من المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمنكوح والمسكن والمنظور ، وبحسب الصّدر ما أباح الله له من الأفعال الاراديّة والأعمال الشّرعيّة والتّدبيرات المعاديّة والمعاشيّة والأخلاق الجميلة والمكاشفات الصّوريّة ، وبحسب القلب ما أباح الله له من الأعمال القلبيّة والواردات الالهيّة والعلوم اللّدنيّة والمشاهدات المعنويّة الكلّيّة ، وهكذا في سائر المراتب ، والطّيّبات من ذلك في كلّ مرتبة ما تستلذّه المدارك المختصّة بتلك المرتبة ، ومطلق المباح في كلّ مرتبة طيّب بالنّسبة الى مباح المرتبة الدّانيّة منه ، وانّ الله تعالى يحبّ ان يؤخذ برخصة كما يحبّ ان يؤخذ بعزائمه ، ولا يحبّ الشّره والاعتداء في رخصه بحيث يؤدّى الى الانتقال الى ما هو حرام محظور بأصل الشّرع ، أو بحيث يؤدّى الى صيرورة المباح حراما بعرض التّجاوز عن حدّ التّرخيص بالإكثار فيه كما لا يحبّ الامتناع عن رخصه ، فمعنى الآية يا ايّها الّذين آمنوا لا تمتنعوا من الرّخص ولا تحرّموا بقسم وشبهة ولا بكسل ونحوه على أنفسكم ما تستلذّه المدارك بحسب كلّ مرتبة وقوّة ممّا أباحه الله لكم ، لانّ الله يحبّ ان يرى عبده مستلذّا بما أباحه له كما يحبّ ان يراه مستلذا بعباداته ومناجاته ، ولا تمتنعوا بالاكتفاء بمستلذّات المرتبة الدّانية عن مستلذّات المرتبة العالية ، فانّه يحبّ ان يرى عبده

١٠٨

مصرّا على طلب مستلذّات المرتبة العالية كما يحبّ ان يراه في هذه الحالة معرضا عن مباحات المرتبة الدّانية مكتفيا بضروريّاتها وراجحاتها ، ولا تعتدوا عمّا أباح الله الى ما حظره أو في المباح الى حدّ الحظر ، والآية اشارة الى التّوسّط بين التّفريط والإفراط في كلّ الأمور من الأفعال والطّاعات والأخلاق والعقائد والسّير الى الله فانّ المطلوب من السّائر الى الله ان يكون واقعا بين افراط الجذب وتفريط السّلوك (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) في كلّ مرتبة (وَاتَّقُوا اللهَ) في الاعتداء عن حدّ الرّخصة الى مرتبة الحظر على ان يكون الفقرتان مطابقتين للففرتين السّابقتين أو في الاعتداء وفي تحريم رخصه على ان يكون متعلّق التّقوى اعمّ من التّحريم والاعتداء (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) توصيفه تعالى بهذا الوصف للتّهييج.

حكاية علىّ (ع) وبلال وعثمان بن مظعون عند قوله (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً)

روى عن الصّادق (ع) انّ هذه الآية نزلت في مولانا أمير المؤمنين (ع) وبلال وعثمان بن مظعون ، فامّا أمير المؤمنين (ع) فحلف ان لا ينام باللّيل ، وامّا بلال فانّه حلف ان لا يفطر بالنّهار أبدا ، ونقل انّه حلف ان لا يناجي ربّه ، وامّا عثمان بن مظعون فانّه حلف ان لا ينكح أبدا ، ومضى عليه مدّة على ما نقل فدخلت امرأة عثمان على عائشة وكانت امرأة جميلة فقالت عائشة : ما لي أراك متعطّلة؟ ـ فقالت : ولمن اتزيّن؟ ـ فو الله ما قربني زوجي منذ كذا وكذا ، فانّه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدّنيا ، فلمّا دخل رسول الله (ص) أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى الصّلوة جامعة فاجتمع النّاس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطّيّبات انّى أنام باللّيل وانكح وأفطر بالنّهار فمن رغب عن سنّتى فليس منّى ، فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله (ص) فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله آيات الحلف الآتية ، والاشكال اوّلا بانّ أمثال هذه المعاتبات ونسبة التّحريم والاعتداء والتّقوى ولغو الايمان غير مناسبة لمقام علىّ (ع) وثانيا بانّه (ع) امّا كان عالما بأنّ تحريم الحلال ان كان بالاستبداد والرّأى كان من البدع والظّلال ، وان كان بالنّذر وشبهه كما دلّ عليه الخبر كان مرجوحا غير مرضىّ لله تعالى ومع ذلك حرّمه على نفسه ، أو كان جاهلا بذلك ، وكلا الوجهين غير لائق بمقامه (ع) منقوض بقوله تعالى في حقّ رسوله (ص) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) والجواب الحلّىّ لطالبي الآخرة والسّالكين الى الله الّذين بايعوا عليّا (ع) بالولاية وتابعوه بقدم صدق واستشمّوا نفحات نشأته حال سلوكه ان يقال : انّ السّالك الى الله يتمّ سلوكه باستجماعه بين نشأتى الجذب والسّلوك بمعنى توسّطه بين تفريط السّلوك الصّرف وافراط الجذب الصّرف ، فانّه ان كان في نشأة السّلوك فقط جمد طبعه ببرودة السّلوك حتّى يقف عن السّير ، وان كان في نشأة الجذب فقط فنى بحرارة الجذب عن أفعاله وصفاته وذاته بحيث لا يبقى منه اثر ولا خبر ، وهو وان كان في روح وراحة لكنّه ناقص كمال النّقص من حيث انّ المطلوب منه حضوره بالعود لدى ربّه مع جنوده وخدمه واتباعه وحشمه وهو طرح الكلّ وتسارع بوحدته ، فالسّالك الى الله تكميله مربوط بان يكون في الجذب والسّلوك منكسرا برودة سلوكه بحرارة جذبه فالجذب والسّلوك كاللّيل والنّهار أو كالصّيف والشّتاء من حيث انّهما يربّيان المواليد بتضادّهما فهما مع كونهما متنازعين متألّفان متوافقان ، إذا علمت ذلك فاعلم ، انّ السّالك إذا وقع في نشأة الجذب وشرب من شراب الشّوق الزّنجبيلىّ سكر وطرب ووجد بحيث لا يبقى في نظره سوى الخدمة للمحبوب وكلّما رآه منافيا للخدمة رآه ثقلا ووبالا على نفسه ومكروها لمولاه فيصمّم في طرحه ويعزم على ترك الاشتغال به وهو من كمال الطّاعة لا انّه

١٠٩

ترك الطّاعة كما يظنّ ، فلا ضير ان يكون أمير المؤمنين (ع) حال سلوكه وقع في تلك النّشأة وحرّم على نفسه كلّما يشغله عن الخدمة لكمال الاهتمام بالطّاعة ، ولمّا لم يكن تحصيل الكمال التامّ الّا بالجمع بين النّشأتين أسقاه محمّد (ص) من شراب السّلوك الكافورىّ وردّه الى نشأة السّلوك لانّه كان مكمّلا مربّيا له ولغيره ولذا قالوا : لا بدّ ان يكون للسّالك شيخ والّا فيوشك ان يقع في الورطات المهلكة ، ولا منقصة في أمثال هذه المعاتبات على الأحباب بل فيها من اللّطف والتّرغيب في الخدمة ما لا يخفى ، وعلىّ (ع) كان عالما بانّ الكمال لا يحصل الّا بالنّشأتين لكنّه يرى حين الجذب انّ كلّما يشغله عن الخدمة فهو مكروه المحبوب ومرجوح عنده فحلف على ترك المرجوح ، أو يقال : انّ عليّا (ع) لمّا كان شريكا للرّسول (ص) في تكميل السّلّاك لقوله : أنت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع) ، وكان له شأن الدّلالة ولمحمّد (ص) شأن الإرشاد ، والمرشد بنشأته النّبويّة شأنه تكميل السّالك بحسب نشأة السّلوك وان كان بنشأته الولويّة وشأن الإرشاد شأنه التّكميل بحسب الجذب ، والدّليل بنشأته الولويّة شأنه التّكميل بحسب نشأة الجذب وان كان بنشأته النّبويّة ، وشأن الدّلالة شأن التّكميل بحسب السّلوك فالدّليل بولايته يقرّب السّالك الى الحضور ويعلّمه آداب الحضور وطريق العبوديّة من عدم الالتفات الى ما سوى المعبود وطرح جميع العوائق من طريقه ، والمرشد بنبوّته يبعّده عن الحضور ويقرّبه الى السّلوك ويرغّبه فيه فهما في فعلهما كالنّشأتين متضادّان متوافقان ، فأمير المؤمنين (ع) لمّا رأى بلال وعثمان مستعدّين لنشأة الجذب رغّبهما الى تلك كالنّشأة بطرح المستلذّات وترك المألوفات وشاركهما في ذلك ليستكمل بذلك شوقهما ويتمّ جذبهما ، ولمّا مضى مدّة ورأى الرّسول (ص) انّ عودهما الى السّلوك أوفق وأنفع لهما ردّهما الى نشأة السّلوك وعاتبهما بألطف عتاب ، ولا يرد نقص على أمير المؤمنين (ع) ، ولمّا قالوا بعد عتابه (ص) قد حلفنا نزل (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) وهو الّذى يؤتى به للتّأكيد في الكلام كما هو عادة العوامّ (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) ما مصدرية وهو الموافق لقوله باللّغو في ايمانكم أو موصولة والمعنى بالّذى عقّدتم الايمان عليه من الأمور المحلوف عليها من حيث الحلف عليها إذا حنثتم حذف لانّه معلوم ولكن جعل الله لكم لرفع المؤاخذة كفّارة يسيرة ترحّما عليكم (فَكَفَّارَتُهُ) اى ما يستر إثمه أو يزيله (إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) فاذا اطعمتم عشرة من المساكين الّذين هم عيالي جبرتم نقصان تعظيم اسمى واستحققتم رحمتي (أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) بان لا يملك طعاما وكسوة ورقبة ولا ثمنا لها (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) لانّ الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وحنثتم (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) بعدم بذلها لكلّ امر بتعظيم اسم الله وبعدم الحنث إذا بذلتموها وبالكفّارة إذا حنثتم (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) اى آيات حدوده وشرائعه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة التّعليم والتّسهيل ، اعلم انّ اليمين امّا من المؤكّدات في الكلام وهي المسمّاة باللّغو وامّا مع قصد ونيّة لليمين فهي امّا على ترك برّ أو فعل شرّ ، وهي أيضا لغو لكفّارتها فعل البرّ وترك الشرّ ، أو على فعل برّ وترك شرّ وهي عزم يحفظ على متعلّقها ، وإذا حنثت يكفّر عنها بما ذكر ، وامّا يمين غموس وهي الّتى تقع على منع حقّ امرء مسلم أو أخذ حقّه بغير حقّ وهي الّتى توجب النّار ، وامّا اليمين على دفع الادّعاء الباطل أو احقاق الحقّ فهي مشروعة لقطع الخصومات لكن كراهتها والاهتمام بعدم الإتيان بها تستنبط من الاخبار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

١١٠

إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) كلّ ما تقومر به (وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) قد سبقا في اوّل السّورة (رِجْسٌ) قذر تستكرهه العقول (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أكّد الحرمة بأداة الحصر ، واطلاق الرّجس عليها وكونها من عمل الشّيطان والأمر بالاجتناب فانّه يفيد التّأكيد بالنّسبة الى النّهى عن الفعل والمقصود هاهنا النّهى عن الخمر والميسر ، وقرنهما بالانصاب والأزلام مبالغة في حرمتهما ولذلك لم يذكر في بيان الغاية سواهما ، وذكر غايتهما والمفسدة الّتى تترتّب عليها مبالغة اخرى في حرمتهما فقال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) هذا بحسب الدّنيا (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وهذا بحسب الآخرة ، وذكر الصّلوة بعد الذّكر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاشارة الى انّهما صادّان عمّا هو عماد الدّين ليكون أبلغ في المنع (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) أداء الأمر بصورة الاستفهام لا الحكم تلطّف بهم يعنى بعد ما ذكر من المفاسد والأوصاف في الخمر والميسر ينبغي لكم ان تنتهوا ان تأمّلتم فيها (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في خصوص النّهى عن الاربعة المذكورة أو في كلّ ما أمرتم ونهيتم عنه ، والعمدة في الكلّ وغايته الأمر بالولاية أو في الأمر بالولاية مخصوصا فانّ الاطاعة فيه غاية جميع الطّاعات ومستلزم لجميع الطّاعات (وَاحْذَرُوا) عن عقوبة مخالفتهما (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عنهما (فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فلا يرد من تولّيكم منقصة عليه وقد بلّغ ما امر بتبليغه (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) هذه الجمل في مقام التّعليل للأمر بالاجتناب والطّاعة ، اعلم انّ للإنسان من اوّل تميزه الى آخر مراتبه تطوّرات ونشأت ، وبحسب كلّ نشأة له اعمال وإرادات وشرور وخيرات وللسّالك الى الله من بدو سلوكه الى آخر مراتبه الغير المتناهية مقامات ومراحل واسفار ومنازل ، والتّقوى تارة تطلق على التّحفّظ عن كلّ ما يضرّ للإنسان في الحال أو في المآل وهو معناها اللّغوىّ ، وبهذا المعنى تكون قبل الإسلام وقبل الايمان ومعهما وبعدهما ، وتارة تطلق على التّحفّظ عمّا يصرفه عن توجّهه الى الايمان ، وبهذا المعنى تكون مع الإسلام وقبل الايمان ومع الايمان لكن في مرتبة الإسلام فانّه ما لم يسلم لم يتصّور له توجّه واهتداء الى الايمان حتّى يتصوّر صارف له عن الايمان وحفظ عن ذلك الصّارف ، والتّقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفّظ النّفس عن جملة المخالفات الشّرعيّة ، وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطّريق الموصل له الى غايته ويدخله في الطّريق الموصلة الى الجحيم ، وبهذا المعنى لا تكون قبل الايمان لانّه لم يكن حينئذ في الطّريق بل تكون مع الايمان الخاصّ الّذى به يكون الوصول الى الطّريق ، والايمان قد يطلق على الإذعان وهو معناه اللّغوى وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامّة وهو الايمان العامّ المسمّى بالإسلام ، وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وهو الايمان الحقيقىّ ، وقد يطلق على شهود ما كان موقنا به وهو الايمان الشّهودىّ وقد سبق في اوّل سورة البقرة تحقيق وتفصيل للايمان ، والتّقوى وصلاح العمل بخروج الإنسان من امر نفسه في العمل ودخوله تحت امر آمر الهىّ ، وفساده بدخوله تحت امر نفسه ، والجناح بمعنى الحرج والإثم ، والطّعم كما يطلق على الاكل والشّرب الظّاهرين يطلق على مطلق الفعل ومطلق الإدراك من الجزئيّة والكلّيّة ففعل القوى المحرّكة أكلها ،

١١١

وادراك المدارك الجزئيّة والكلّيّة أكلها ، وكذلك تصرّفات القوى العلّامة لتهيّؤ القوى العمّالة أكلها ، والإنسان من اوّل تميّزه نشأته نشأة الحيوان لا يدرى خيرا الّا ما اقتضته القوى الحيوانيّة ولا شرّا الّا ما استكرهته ولا يتصوّر له التّقوى سوى التّقوى اللّغويّة ، فاذا بلغ مقام المراهقة حصل له في الجملة تميز الخير والشّرّ الانسانيّين وتعلّق به زاجرا الهىّ باطنيّ بحيت يستعدّ لقبول الأمر والنّهى من زاجر بشرىّ ، لكن لا يكلّف لضعفه ويمرّن لوجود الاستعداد والزّاجر الباطنىّ ويتصوّر له التّقوى بالمعنى الاوّل والثّانى في هذا المقام بمقدار تميزه الخير والشّرّ الانسانيّين ، فاذا بلغ أو ان التّكليف وقوى التميز والاستعداد والزّاجر الهىّ تعلّق به التّكليف من الله بواسطة النّذر ، وبقبوله التّكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الإسلام ويتصوّر له التّقوى أيضا بالمعنى الاوّل والثّانى ، ولا يتصوّر له التّقوى بالمعنى الثّالث لعدم وصوله الى الطّريق بعد ، وفي هذا المقام يكلّفه المكلّف الالهىّ بالتّكاليف القالبيّة وينبّهه على انّ للإنسان طريقا الى الغيب وله بحسب هذا الطّريق تكاليف أخر ويدلّه على من يريه الطّريق ويكلّفه التّكليفات الاخر اشارة أو تصريحا ، أو يريه بنفسه الطّريق فاذا ساعده التّوفيق وتمسّك بصاحب الطّريق حتّى قبله وكلّفه بالبيعة والميثاق التّكليفات القلبيّة صار مؤمنا بالايمان الخاصّ ومتمسّكا بالطّريق متّقيا بالمعنى الثّالث وسالكا الى الله وله في سلوكه مراحل ومقامات وزكوة وصوم وصلوة وتروك وفناءات. ففي المرتبة الاولى يرى من نفسه الفعل والتّرك وجملة صفاته فاذا ترقّى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله ولا حول ولا قوّة الّا بالله صار فانيا من فعله باقيا بفعل الحقّ ، فاذا ترقّى وطرح بعضا آخر بحيث لا يرى من نفسه صفة صار فانيا من صفته باقيا بصفة الله ، فاذا ترقّى وطرح الكلّ بحيث لا يرى نفسه في البين صار فانيا من ذاته وفي هذا المقام ان أبقاه الله صار باقيا بعد الفناء ببقاء الله وتمّ له السّلوك وصار جامعا بين الفرق والجمع والوحدة والكثرة ، وجعل العرفاء الشّامخون بحسب الامّهات أسفار السّالك وسيره اربعة وسمّوها أسفارا اربعة : السّفر الاوّل السّير من النّفس الى حدود القلب وهو سيره في الإسلام وعلى غير الطّريق ويسمّونه السّفر من الخلق الى الحقّ ، والثّانى سيره من حدود القلب الى الله وهو سيره في الايمان وعلى الطّريق وبدلالة الشّيخ المرشد وفي هذا السّير يحصل الفناءات الثّلاثة ويسمّونه السّفر من الحقّ في الحقّ الى الحقّ ، والثّالث سيره بعد الفناء في المراتب الالهيّة من غير ذات وشعور بذات ويسمّونه السّفر بالحقّ في الحقّ الى الحقّ ، والرّابع سيره بالحقّ في الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمّونه السّفر بالحقّ في الخلق ، إذا علمت ذلك فنقول : معنى الآية انّه ليس على الّذين بايعوا بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهره وأسلموا بقبول الأحكام القالبيّة وتوجّهوا من ديار الإسلام الّتى هي صدورهم الى ديار الايمان الّتى هي قلوبهم وعملوا الأعمال الّتى أخذوها من صاحب إسلامهم جناح فيما فعلوا وحصّلوا من الأفعال والعلوم ، ولمّا كان المراد بالتّقوى في لسان الشّارع هو المعنى الثّانى والثّالث دون الاوّل لم يقل تعالى شأنه : ليس على الّذين اتّقوا وآمنوا في تلك المرتبة واقتصر على الايمان والعمل الصّالح ، لكن نفى الجناح بشرط ان اتّقوا صوارفهم عن التّوجّه الى الايمان والترحّل الى السّفر الثّانى والوصول الى الطّريق ، وجملة المخالفات الشّرعيّة صوارفه عن هذا التّوجّه ، وآمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة وعملوا الصّالحات الّتى أخذوها من صاحب الطّريق ثمّ اتّقوا نسبة الأفعال والصّفات الى أنفسهم وآمنوا شهودا بما آمنوا به غيابا ، وفي هذا المقام يقع السّالك وفي ورطات الحلول والاتّحاد والإلحاد وسائر أنواع الزّندقة من الثّنويّة وعبادة الشّيطان والرّياضة بخلاف الشّرائع الالهيّة ومغلطة الأرواح الخبيثة بالأرواح الطّيّبة فانّه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة وأكثر ما فشا في القلندريّة من العقائد والأعمال نشأ من هذا المقام ، والسّالك في هذه المرتبة لا يرى صفة ولا فعلا من نفسه ولذلك

١١٢

أسقط العمل الصّالح ولم يذكره ثمّ اتّقوا من رؤية ذواتهم وهذا هو الفناء التامّ والفناء الذّاتيّ ، وفي هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التّقوى حتّى يتصوّر لهم ايمان أو عمل ، والسّالك في هذا السّفر لا نهاية لسيره ولا تعيّن لوجوده ولا نفسيّة له ويظهر منه الشّطحيّات الّتى لا تصحّ من غيره كما تظهر منه في المقام السّابق أيضا وكما لا يرى السّالك في هذا المقام لنفسه عينا ولا أثرا لا يرى لغيره أيضا عينا ولا أثرا ، ومن هذا المقام ومن سابقه نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتّب عليها من العقائد الباطلة والأعمال الكاسدة فان أدركته العناية وأفاق من فنائه وصار باقيا ببقاء الله صار محسنا بحسب الّذات والصّفات والأفعال ، ولذلك قال تعالى بعد ذكر التّقوى وأحسنوا وأسقط الايمان والعمل جميعا ، لانّه بعد فنائه الذّاتىّ وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسنا وإحسانا حقيقيّا ، وامّا قبل ذلك فانّه لا يخلو من شوب سوئة واسائة بقدر بقاء نسبة الوجود الى نفسه قبل فنائه ، وأيضا قبل الفناء بقدر نسبة الوجود الى نفسه يكون مبغوضا لا محبوبا على الإطلاق وبعد الفناء وقبل البقاء بالله لا موضوع له حتّى يحكم عليه بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، وبعد البقاء بالله يصير محبوبا على الإطلاق ولذلك قال : والله يحبّ المحسنين ، في آخر الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بقبول الدّعوة الظّاهرة اى أسلموا (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) يعنى في إحرامكم قيل : نزلت في غزوة الحديبية جمع الله عليهم الصّيد ، وعن الصّادق (ع) حشر عليهم الصّيد في كلّ مكان حتّى دنا منهم (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) بترك الصّيد مع سهولته بمحض النّهى (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) الابتلاء والنّهى (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) عن الصّادق (ع) إذا أحرمت فاتّق قتل الدّوابّ كلّها الّا الأفعى والعقرب والفأرة ، وذكر الوجه لكلّ وتفصيل ذلك موكول الى الفقه ، والحرم جمع الحرام بمعنى المحرم أو جمع الحرم بكسر الحاء وسكون الرّاء أو جمع الحريم بمعنى المحرم بالحجّ أو العمرة وبمعنى الدّاخل في الحرم وكلا الوجهين صحيح لفظا ومعنى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) في اخبار كثيرة انّ المراد ذو عدل وهو العدل الالهىّ من الرّسول (ص) والامام وتثنية ذوا عدل خطأ من الكتّاب ولفظ الكتاب ذو عدل بدون الالف ، ولمّا لم يرخّص في الشّريعة الالهيّة لشيء من القياس كان هذه الكلمة ذا عدل بالافراد وكان ذا عدل مختصّا بالحاكم الالهىّ حتّى يسدّ باب القياس بالكلّيّة ، وان لم يكن كذلك جاز لمجوّز القياس التّمسّك به في جواز قياسه (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) كيفيّة بلوغه الكعبة موكولة الى الفقه (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) كما فصّل في الفقه (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) وثقل هتكه لحرمة الحرم (عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ) على زمان الحكم بحرمة قتل الصّيد (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) عن الصّادق (ع) في محرم أصاب صيدا؟ ـ قال : عليه الكفّارة ، قيل فان أصاب آخر؟ ـ قال : فان أصاب آخر فليس عليه كفّارة وهو ممّن قال الله تعالى: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ) ، وفي معناه اخبار أخر ، وعنه إذا أصاب المحرم الصّيد خطأ فعليه الكفّارة فان أصاب ثانية خطأ فعليه الكفّارة أبدا إذا كان خطأ ، فان اصابه متعمّدا كان عليه الكفّارة ، فان اصابه ثانية متعمّدا فهو ممّن ينتقم الله منه ولم يكن عليه الكفّارة ، وعلى هذا فمعنى عفا الله عمّا سلف عفا عن الدّفعة الاولى السّابقة على الثّانية (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) مطلقا حال الإحرام وغيره والضّمير في طعامه للصّيد أو للبحر (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

١١٣

في مخالفة أمره ونهيه لانّ حشركم يكون اليه (جَعَلَ اللهُ) جملة مستأنفة في مقام التّعليل لتحريم صيد البرّحين الإحرام لزيارة البيت أو حين دخول الحرم الّذى هو حريم البيت ، وجعل بمعنى صيّر أو بمعنى خلق (الْكَعْبَةَ) سمّى الكعبة كعبة لتكعّبه والعرب تسمّى كلّ مربّع ونأت كعبا وكعبة (الْبَيْتَ الْحَرامَ) مفعول ثان أو بدل من الكعبة والتّوصيف بالحرام لحرمة هتكه بأخذ الصّيد من حواليه واقتصاص الملتجى الى حريمه الّذى هو الحرم (قِياماً لِلنَّاسِ) مفعول ثان أو حال من قام إذا اعتدل اى جعلها سبب اعتدال للنّاس أو جعلها معتدلة لانتفاع النّاس ، أو من قام المرأة إذا قام بشأنها وكفى أمرها والمعنى جعلها كافية للنّاس أو بمعنى القوام الّذى هو ما يعاش به أو بمعنى ملاك الأمر وعماده يعنى جعلها عماد جملة الأمور للنّاس في معادهم ومعاشهم (وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) اى جنس الشّهر الحرام وافراده اربعة ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب أو الشّهر الحرام المعهود اى شهر الحجّ وهو عطف على الكعبة سواء قدّر توصيفه بكونه قياما للنّاس أو لم يقدر (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) اى ذوات القلائد أو القلائد أنفسها وقد مضى ذكرها في اوّل السّورة ، اعلم ، انّ جعل كعبة القلب بيت الله الحرام وسبب اعتدال للنّاس في العالم الصّغير وكافية لأمورهم وما به تعيشهم وملاك أمرهم وعمادهم واضح وكذلك كون الشّهر الحرام الّذى هو الصّدر وهدى القوى وقلائدها أو ذوات القلائد منها ، وكون صاحب القلب وصاحب الصّدر والطّالبين للوصول إليهما قياما للنّاس لا خفاء فيه ، وقد مضى في اوّل السّورة اشارة الى التّأويل فيها وعند قوله : من دخله كان آمنا في سورة آل عمران وكون كعبة الأحجار قياما للنّاس يظهر ممّا سبق منّا من انّها ظهور القلب ويجرى فيها كلّ ما يجرى في القلب على انّها يربح فيها تاجروها ويرزق ساكنوها ويؤمن ملتجئوها ويخلّف نفقات زائريها ويستجاب دعاء الدّاعين فيها لمعاشهم ومعادهم ، وبقاء أهل الأرض تماما ببقائها فيهم وزيارة بعضهم لها كما أشير اليه في الخبر ، وكون الشّهر الحرام قياما لما سبق من انّه مظهر الصّدر ومظهر صاحب الصّدر وكلّما يجرى فيه يجرى فيه على انّه شهر فراغة عن القتال وشهر اشتغال بمرمّة المعاش والمعاد ، وكون الهدى والقلائد قياما للنّاس لانّهما مظاهر لطالبي العلم وهم بركات لأهل الأرض على انّه ينتفع بايعوها بثمنها وأكلوها بلحومها واهبها (ذلِكَ) يعنى جعل الكعبة الّتى هي في بلد خال من الزّراعات وأسباب التّجارات من سائر منافع البرّ والبحر وخال نواحيه القريبة والبعيدة من الزّراعات والتّجارات سبب تعيّش النّاس وأرباحهم الدّنيويّة والمنافع الغير المترقّبة وهو مبتدء خبره قوله تعالى (لِتَعْلَمُوا) بذلك (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) من الأسباب الغيبيّة الرّوحانيّة والأسباب السّماويّة العلويّة البعيدة (وَ) يعلم (ما فِي الْأَرْضِ) من الأسباب الطّبيعيّة الحسّيّة القريبة لانّكم بعد ما رأيتم ارتزاق أهل هذا البلد الخالي من كلّ ما ينتفع به مع انتفاعهم وأرباحهم الكثيرة ، علمتم انّه ليس الّا بتسبيبات الهيّة من دون استقلال الأسباب الطّبيعيّة ، بخلاف ما إذا كان الكعبة في البلاد المعمورة الكثيرة الزّراعات والتّجارات فانّه لا يعلم حينئذ انّ أرزاق أهلها بأسباب الهيّة أو أسباب طبيعيّة ، بل يعتقد انّها بأسباب طبيعيّة كما عليه أصحاب الحسّ والطّبيعيّون والدّهريّون ، إذا علمتم انّ أرزاق الخلق وأرباحهم ليست الّا بأسباب الهيّة علمتم انّه تعالى يعلم جميع الأسباب القريبة والبعيدة والرّوحانيّة والجسمانيّة والعلويّة والسّفليّة وانّه تعالى يقدر على توجيه الأسباب نحو هذا المسبّب ، ولم يقل لتعلموا انّ الله يقدر لانّ القدرة سبب قريب من المسبّب بخلاف العلم فكأنّها تستفاد من حصول المسبّب (وَ) لتعلموا (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

١١٤

لانّ من علم الأسباب الخفيّة الرّوحانيّة والجليّة الجسمانيّة وتوجيه تلك الأسباب نحو مسبّب بعيد الحصول كان عالما بكلّ شيء من الجليل والحقير وهو تأكيد وتعميم بعد اطلاق وتخصيص (اعْلَمُوا) بعد ما ذكر شمول علمه لكلّ شيء اقتضى المقام ترغيب المنحرفين عن علىّ (ع) الى التّوبة والرّجوع اليه بسبب شمول غفرانه ورحمته وترهيب المنحرفين عنه بشدّة عقابه واطّلاعه على سرائرهم فقال إذا علمتم انّه بكلّ شيء عليم من الإعلان والأسرار والضّمائر فاعلموا (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن تهاون في حرمات الله وأضمر في حقّ علىّ (ع) خلاف ما قلت لهم (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر زلّات من تهاون في الحرمات وزلّات من خالف عليّا (ع) إذا تاب وعاد الى ما تهاون به والى علىّ (ع) (رَحِيمٌ) يتفضّل عليه بسبب رحمته (ما عَلَى الرَّسُولِ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : اما يقدر الرّسول (ص) الّذى بين أظهرنا على دفع العقاب؟ أو قيل : اما يقدر الرّسول (ص) على ان يحملنا على الطّاعة واستحقاق الرّحمة فقال : ما على الرّسول (إِلَّا الْبَلاغُ) لا الحفظ من العقاب ولا الحمل على الطّاعة وقد بلّغ ما كن عليه تبليغه وأعظمها وأشرفها وأساسها الولاية وقد بلّغها على رؤس الاشهاد في محضر نحو من سبعين ألفا (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من الأقوال والأفعال من الطّاعة والمخالفة وتولّى علىّ (ع) والتولّى عنه (وَما تَكْتُمُونَ) من مكمونات نفوسكم الّتى لا تعلمونها ولا تستشعرون بها ومن عقائدكم ونيّاتكم وعزماتكم الّتى لا يعلمها غير كم ، ومن أقوالكم وأفعالكم الّتى تخفونها عن إنسان آخر أو تخفونها عن غير رفقائكم فاحذروا ان تقولوا أو تفعلوا أو تضمروا خلاف ما قال لكم محمّد (ص) في امر دينكم ، أو ما قاله في حقّ علىّ (ع) (قُلْ) يا محمّد (ص) لامّتك (لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعنى ذكّرهم بهذه الكبرى الكلّيّة البديهيّة حتّى يكونوا على ذكر منها وعلى الحذر من الخبيث والرّغبة في الطّيّب حين عراهم خبيث أو طيّب من الأعمال والأخلاق والأوصاف والحيوان والإنسان بان يقولوا هذا خبيث أو طيّب وكلّ خبيث مكروه وكلّ طيّب مرغوب فيه ، والمنظور هو المقصود من كلّ مقصود وهو ولاية علىّ (ع) وولاية أعدائه فانّ طيبوبة علىّ (ع) لا ينكره أحد (وَلَوْ أَعْجَبَكَ) كلام من الله والخطاب لمحمّد (ص) يعنى يا محمّد (ص) قل لهم لا يستويان لو لم يعجبك ولو أعجبك (كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) أو جزء مفعول للقول والخطاب حينئذ لغير معيّن يعنى قل لهم لا يستويان ولو أعجبكم كثرة الخبيث فانّ السّنخيّة الغالبة في وجود الأكثر مع الخبيث تقتضي اتّباع الخبيث وكثرته ، وعدم السّنخيّة بين الخلق والطّيّب يقتضي عدم اتّباعه وكون القلّة في جانبه «ف» لا تنظروا الى الكثرة ولا تغفلوا عن الطّيبوبة و (فَاتَّقُوا اللهَ) في ترك الطّيّب واتّخاذ الخبيث (يا أُولِي الْأَلْبابِ) فانّكم المخاطبون المعتنى بكم لا غيركم فانّهم ليس لهم تميز الطّيّب من الخبيث حتّى يستحقّوا الخطاب بترك الخبيث (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعنى ان تسألوا لا محالة عنها فحين ينزّل القرآن نظهره عليكم فقوله حين ينزّل القرآن متعلّق بتبد ، عن أمير المؤمنين (ع) خطب رسول الله (ص) فقال : انّ الله كتب عليكم الحجّ فقال عكاشة بن محصن وروى سراقة بن مالك : أفي كلّ عام يا رسول الله (ص) فاعرض عنه حتّى عاد مرّتين أو ثلاثا فقال رسول الله : ويحك وما يؤمنك ان أقول : نعم والله لو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم كفرتم فاتركوني ما تركتم

١١٥

فانّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، فالمراد بالسّؤال عن أشياء ان تبدلكم تسؤكم كثرة السّؤال والمداقّة فيما كلّفوا به وقد ورد ، انّ بنى إسرائيل شدّدوا على أنفسهم بكثرة السّؤال والمداقّة عن البقرة الّتى أمروا بذبحها فشدّد الله عليهم ، وروى انّ صفيّة بنت عبد المطّلب مات ابن لها فأقبلت فقال عمر غطّى قرطك فانّ قرابتك من رسول الله (ص) لا تنفعك شيئا فقالت : هل رأيت قرطا يا ابن اللّخناء ، ثمّ دخلت على رسول الله (ص) وبكت وشكت فخرج رسول الله (ص) فنادى : الصّلوة جامعة فاجتمع النّاس ، فقال : ما بال أقوام يزعمون انّ قرابتي لا تنفع لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في خارجكم ، لا يسألني اليوم أحد من أبوه الّا أخبرته ، فقام اليه رجل فقال من ابى يا رسول الله؟ ـ فقال : أبوك غير الّذى تدعى له ، أبوك فلان بن فلان ، فقام آخر فقال : من ابى يا رسول الله؟ ـ قال : أبوك الّذى تدعى له ثمّ قال رسول الله (ص) ما بال الّذى يزعم انّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه ، فقام اليه عمر فقال له أعوذ بالله يا رسول الله (ص) من غضب الله وغضب رسول الله اعف عنّى عفا الله عنك ، فأنزل الله الآية وعلى هذا فالمعنى لا تسألوا عن أشياء سترها الله عليكم من انسابكم ان تبدلكم تسؤكم ، ويمكن التّعميم لكلّ ما كان ظهوره سبب الاساءة من التّكاليف والأنساب والأخلاق والأوصاف والأعمال من السّائل ومن غيره (عَفَا اللهُ عَنْها) صفة اخرى لاشياء اى لا تسألوا عن أشياء تركها الله ولم يبيّنها لكم أو استيناف لإظهار العفو عن المسئلة الّتى سبقت (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) اى الأشياء الّتى في ظهورها الاساءة لكم (مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) حيث كرهوها فكفروا بها ولم يقبلوها أو كفروا برسلهم (ع) بسببها (ما جَعَلَ اللهُ) استيناف لبيان حال الكفّار في سننهم الرّديّة يعنى ما شرع الله وما سنّ (مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) عن الصّادق (ع) انّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت النّاقة ولدين في بطن واحد قالوا وصلت فلا يستحلّون ذبحها ولا أكلها ، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة ولا يستحلّون ظهرها ولا أكلها ، والحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه وروى انّ البحيرة النّاقة إذا نتجت خمسة ابطن فان كان الخامس ذكرا نحروها فأكله الرّجال والنّساء وان كان الخامس أنثى بحروا اذنها اى شقّوها وكانت حراما على النّساء ، فأنزل الله عزوجل انّه لم يحرّم شيئا من ذلك وذكر غير ذلك في تفسيرها (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بنسبة التّحريم اليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) يعنى انّ الاتباع المقلّدين لا يعقلون شيئا من الصحّة والفساد ولا من الافتراء وغيره حتّى يتنبّهوا انّ هذا افتراء على الله فلا يقلّدوهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) من حدود الشّرع (قالُوا) اكتفاء بما اعتادوه وقلّدوه من غير تعقّل (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعنى لا حجّة لهم سوى فعل آبائهم وهو افضح من الاسناد الى علمائهم (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) عليكم اسم فعل بمعنى الزموا وقرئ برفع أنفسكم فهو ظرف خبره والمعنى الزموا أنفسكم لا تتجاوزوها الى غيركم ما لم تصلحوها ، فانّ الاشتغال بالغير قبل إصلاح النّفس سفاهة ويصير سببا لفساد أخر مقتبس من الغير وسببا لاستحكام الفساد الحاصل فيصير ظلمات النّفس مستحكمة متراكمة ، فما دام الإنسان يكون مبتلى في نفسه بالفساد والمرض ينبغي ان يطلب من يطّلع على امراضه ومفاسده فاذا وجده فليتعلّم منه ما يصلح به فساده ويعالج به امراضه ، فاذا تعلّم ذلك فينبغي ان يشتغل عن كلّ شيء بنفسه ولا يفارق إصلاحها

١١٦

ما بقي الفساد فيها ، وذلك الشّخص امّا نبىّ فيكون آمنوا بمعنى بايعوا على يد محمّد (ص) أو ولىّ فيكون بمعنى بايعوا على يد علىّ (ع) ، ويحتمل ان يكون اعمّ من النّبىّ (ص) والولىّ (ع) فيكون آمنوا أيضا عامّا ، ولمّا علمت سابقا انّ الولاية هي حقيقة كلّ ذي حقيقة ونفسيّة كلّ ذي نفس وهذا المعنى يظهر لمن آمن بعلىّ (ع) واتّصل بملكوت وليّه ، فانّه يرى انّ ملكوت وليّه مع انّها انزل مراتب الولاية كانت حقيقته ونفسه وانّه كان مظهرا لها تيسّر لك تفسيرها بان تقول : عليكم إمامكم ويكون آمنوا بمعنى آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة ، فانّ البيعة العامّة لا تجعل البائع متوجّها الى قلبه ونفسه لعدم اتّصالها بالقلب وما لم يتوجّه الى قلبه لا يتيسّر له الحضور عند إمامه ، وما لم يمكن له الحضور لم يؤمر بالملازمة ، وبالملازمة يحصل له جميع الخيرات الدّنيويّة والاخرويّة ، ولذا أمروا بتلك الملازمة والاعراض عن الكلّ ، وما روى في المجمع يشير الى هذا المعنى ، فانّه روى فيه انّ أبا تغلبة سأل رسول الله (ص) عن هذه الآية فقال : ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا وهوى متّبعا وإعجاب كلّ ذي رأى برأيه فعليك بخويّصّة نفسك وذر عوامّهم ، فانّه ليس المراد بهذه الخصوصيّة خصوصيّة النّسب الصّوريّة بل النّسب الرّوحانيّة ولا شكّ انّ إمامه اخصّ هؤلاء الخواصّ (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) يعنى إذا لم تهتدوا يضرّكم ضلال من ضلّ لسنخيّتكم لهم واقتباسكم الفساد منهم (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فمن يلازم امامه أو نفسه فله جزاء ومن يراقب النّاس وينظر الى مساويهم فله جزاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا فانّ الحكم الآتي من احكام الإسلام (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) من حيث التحمّل (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) اى شهادة اثنين (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) ايّها المسلمون (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) سافرتم (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) قاربكم الأجل ولم تجدوا منكم من يتحمّل الشّهادة (تَحْبِسُونَهُما) وقت الأداء اى تقفونهما (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) لتغليظ اليمين بشرف الوقت ولخوفهما من الافتضاح بين النّاس ان حرّفوا لاجتماع النّاس حين الصّلوة (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) اى الآخران من غيركم وذلك الحبس والحلف (إِنِ ارْتَبْتُمْ) والّا فلا ، وهو جملة معترضة بين القسم والمقسم عليه ويجوز ان تكون من قول الحالفين ومن قبيل ترادف القسم والشّرط وان يكون الجواب للقسم لتقدّمه ولذلك لم يجزم (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) عرضا من الدّنيا (وَلَوْ كانَ) المقسم له (ذا قُرْبى) لنا (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ) اى اطّلع (عَلى أَنَّهُمَا) اى الشّاهدين من غيركم (اسْتَحَقَّا) استوجبا (إِثْماً) بتحريف وخيانة (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) بأمر الورثة الّذين هم المشهود عليهم وقوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) بيان لهذه المعنى اى من جانب الّذين جنى باستحقاق الإثم عليهم الاحقّان بالشّهادة لكونهما اوّل من شهدا (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذلِكَ) التّحليف الغليظ وقت احتمال الافتضاح بإقامة آخرين مقامهما (أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) اى ترجع ايمان على شهود الورثة وتقبل ايمان شهود الورثة وتكذّب

١١٧

ايمانهم فيفتضحوا بتكذيب ايمانهم ، ونسبة الخيانة إليهم وجمع الضّمائر ليعمّ الشّهود وقد ذكر في تفسير الآية ونزولها اخبار في الصّافى وغيره (وَاتَّقُوا اللهَ) ايّها الشّهود في تحريف الشّهادة والمشهود عليهم في ردّها بلا خيانة (وَاسْمَعُوا) ما توعظون به سمع اجابة وقبول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الخارجين من امر الله (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ظرف لقوله لا يهدى أو لا ذكر أو ذكّر مقدّر أو المقصود التّعريض بمن لم يجب محمّدا (ص) في ولاية أمير المؤمنين (ع) (فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) في دعوتكم العامّة أو في دعوتكم الخاصّة الى خلفائكم وفسّرت في الخبرية ، فعن الباقر (ع) انّ لهذا تأويلا يقول : ماذا أجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتموهم على أممكم فيقولون لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا وقوله تعالى (قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يشير الى هذا لانّ نفى العلم بعد رحلتهم صحيح وفي زمان حيوتهم علموا من أجاب ومن لم يجب وكيف أجابوا (إِذْ قالَ اللهُ) اذكر أو ذكّر أو هو بدل من يوم يجمع الله (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) يعنى في جميع أحوالك (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) اى النّبوّة (وَالْحِكْمَةَ) اى الولاية (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) صورتي النّبوّة (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) تكرار بإذني لرفع توهّم الآلهة فانّ ذلك ليس الّا من جهة الالهيّة (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ) وحي الهام لا وحي إرسال (إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) لمّا كان المقصود تنبيه الامّة على ما لا ينبغي لهم من مطالبة الآيات من الرّسول (ص) أو من أمير المؤمنين (ع) وكان ما ذكر سابقا من نعم عيسى (ع) توطئة لهذا المقصد واشارة الى انّهم محض هوى النّفس سألوا المائدة والّا كان فيما أنعم الله به على عيسى (ع) غنية عن غيرها من الآيات غيّر الأسلوب وأتى به من غير عطف حتّى لا يتوهّم انّه كسابقه من النّعم وقد سألوا رسول الله (ص) الآيات وبعد ما أتاهم بها كفروا وسألوا عليّا (ع) وكفروا بها بعد الإتيان بها كما في التّواريخ والاخبار (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كأنّ السّؤال كان قبل ان يعرفوا معرفة تامّة أو المقصود الاستطاعة المطابقة للحكمة وقرئ هل تستطيع بالخطاب اى هل تستطيع سؤال ربّك (أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) المائدة الخوان عليه الطّعام من ماد إذا تحرّك أو من مادة إذا أعطاه (قالَ اتَّقُوا اللهَ) من الاقتراح على الله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) به وبقدرته (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) تمهيد عذر للّسؤال (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) لا كطلب إبراهيم (ع) اطمينان القلب بقرينة (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في ادّعاء النّبوّة من قادر بليغ القدرة أو كان مرادهم الاطمينان بالشّهود مثل إبراهيم (ع) بعد اليقين العلمىّ ويكون المقصود من قوله ونعلم ان قد صدقتنا العلم الشّهودىّ (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) للغياب منّا أو من الحاضرين للأكل (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا) تكرار النّداء حين الدّعاء وظيفة الدّعاة (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً) اى يكون يوم نزولها يوم

١١٨

عيد ، أو تكون لنا سرورا لانّ السّرور يعود وقتا بعد وقت (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) بدل تفصيلىّ يعنى للحاضرين ولمن لم يأت الى يوم القيامة أو لجميعنا (وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) من وسائط الرّزق من افراد الإنسان ومن الأسباب العلويّة والارضيّة ومن القوى النّباتيّة الّتى هي أقرب الوسائط للرّزق الصورىّ ومن افراد الإنسان من الأعداء والأحباب الّذين كانوا أسباب كمال للعباد بالقهر واللّطف ومن معلّمى الحرف والصّناعات ومن مكمّلى النّفوس بالتّعليم الحقيقي الرّوحانىّ ومن المدارك الظّاهرة والباطنة الحيوانيّة والانسانيّة للرّزق الحقيقىّ الرّوحانىّ (قالَ اللهُ) مجيبا لهم (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) نزول الآية وكيفيّة المائدة وكيفيّة كلهم مذكورة في المفصّلات باختلاف في الرّوايات من أراد فليرجع إليها (وَإِذْ قالَ اللهُ) أتى بالماضي لتحقّق وقوعه أو لانّه كان بالنّسبة الى الرّسول المخاطب ماضيا بحسب المقام (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) الخطاب لعيسى (ع) والمقصود تقريع أمّته وتبكيتهم والمنظور التّعريض بامّة محمّد (ص) الّذين قالوا بالهيّة الائمّة (مِنْ دُونِ اللهِ) والسّرّ في هذا التّقييد في كثير من أمثال هذه الآية انّ جعل الخلفاء مظاهر الهيّته والهة بالهيّته كما ورد عنهم في قوله : (هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) انّه كناية عن تسلّط خلفائه لا ضير فيه ولا عقاب على قائليه وجعلهم أو غيرهم الهة مقابلة لله ومغايرة له كفر باعث للعتاب على قائليه (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي) ما ينبغي لي والتّعبير بالمضارع للاشارة الى انّه بعد كونه على أشرف الأحوال لا يليق بحاله التّفوّه بمثل هذا المقال فكيف قال وهو في اخسّ الأحوال ، كأنّه قال لا يليق بحالي وإقراري بعبوديّتك والخلوص في طاعتك في هذه الحالة (أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) فكيف قلته في اخسّ الأحوال (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) لانّك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) هو من باب المشاكلة أو المعنى ما في ذاتك أو هذه الكلمة كناية عمّا يخفى الإنسان عن الغير من غير ملاحظة نفس وروح (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) تعليل للجملتين بمنطوقه ومفهومه (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ان تفسيريّة بمنزلة اى تفسير للقول بجعل القول بمعنى الأمر أو تفسير لامرتنى بتقدير امر من القول بعد ان ، والتّقدير ما قلت لهم الّا ما أمرتني به ان قل اعبدوا الله وحينئذ لا حاجة الى تكلّف في ذكر ربّى وربّكم بعد اعبدوا الله ، أو مصدريّة بدلا أو بيانا لما والقول بمعنى الأمر أو للضّمير المجرور ولا يلزم في البدل جواز طرح المبدل منه حتّى يقال : يلزم منه بقاء الموصول بدون العائد ، أو ان تفسيريّة تفسير لامرتنى من دون تقدير ويكون ذكر ربّى وربّكم حكاية لما قال لهم من عند نفسه منضمّا الى المحكيّ اشعارا بانّه حين أمرهم بالعبادة اقرّ لنفسه بالعبوديّة وانّ إقرارهم بالرّبوبيّة له كان لاتّباع الهوى لا بشبهة نشأت من قوله ويجوز ان يكون خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) مراقبا لهم على أعمالهم (ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تعميم بعد تخصيص دفعا لتوهّم التّخصيص (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) تفعل بهم ما تشاء شروع في الشّفاعة بأحسن وجه (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) لا مانع لك

١١٩

من المغفرة (الْحَكِيمُ) تعلم بلطف علمك استحقاقهم لها وقدر استحقاقهم (قالَ اللهُ) انّى اغفر للصّادق منهم في قوله غير متجاوز من حدّه وحدّ عيسى (ع) لانّ (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) وفي تقدّم رضا العبد على رضا الله أو رضا الله على رضا العبد ما مرّ عند قوله (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وعند قوله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) من سورة البقرة (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : كان القرآن ينسخ بعضها بعضا وانّما يؤخذ من امر رسول الله (ص) بآخره وكان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء ، ولقد نزلت عليه وهو على بغلة شهباء وثقل عليه الوحي حتّى وقفت وتدلّى بطنها حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض وأغمى على رسول الله (ص) حتّى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب ، ثمّ رفع ذلك عن رسول الله (ص) فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله (ص) وعملنا. وعن الصّادق (ع): نزلت المائدة كملا ونزلت معها سبعون الف الف ملك.

١٢٠