تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

وبايعوا محمّدا (ص) بيعة اسلاميّة بقرينة قوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) لانّ المراد بالكتاب الكتاب المعهود المفسّر بكتاب النّبوّة ، ولمّا كان لقبول الدّعوة الظّاهرة والأحكام القالبيّة الاسلاميّة شرافة واثر فمن قبل وعمل ولم يكن له نصيب من الآخرة يناله اثر ذلك العمل والحظّ الموعود في الدّنيا حتّى يخرج من الدّنيا وليس له حقّ على الله ، من كان يريد ثواب الدّنيا بإسلامه وقبول احكامه يؤته منها وماله في الآخرة نصيب (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) بقبض أرواحهم حال من الفاعل أو المفعول أو كليهما أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر ، أو هي جواب إذا وقوله و (قالُوا) حال أو مستأنف ، أو عطف على جاءتهم أو يتوفّونهم يعنى قال الرّسل تقريعا لهم (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالاعراض عن خلفائه ومظاهره الولويّة ودعوة غيرهم من مظاهر قهره وأعوان أعدائه ممّن ادّعى الخلافة في مقابل أوصياء أنبيائه (ع) (قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) قالوا ذلك لانّهم كانوا أصحاب الخيال والكثرات ودعوتهم لائمّة الجور كانت من جهة الحدود والتّعيّنات وحين المحاسبة وظهور الوحدة لا يبقى حدّ وتعيّن ويرون انّهم كانوا ساترين في تلك الدّعوة جهة الوحدة والولاية (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) لوجهة القلب والولاية (قالَ) الله (ادْخُلُوا) بعد عودهم عن الوحدة الى مقرّ الكثرة حالكونكم (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الّذين كانوا من سنخكم داعين لمن لم يؤذنوا في دعوتهم (فِي النَّارِ) ظرف الدّخول ، ويحتمل ان يكون في أمم ظرف الدّخول وفي النّار بدلا منه بدل الاشتمال ، أو حالا من سابقه (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) امّا المتألّفون والمتحابّون منهم فلظهور انّ مجالسة بعضهم بعضا ومؤانسته ومحادثته منعتهم من الايمان بخلفاء الله واتّباع أوليائه ، وامّا الأجانب وغير المعروفين فلاستحقاقهم اللّعن مثلهم وهذا بعينه ديدن أهل الدّنيا فانّهم وقت الدعة والرّاحة احبّاء ، ووقت الشّدّة والبلاء أعداء ، ويلعن بعضهم بعضا خصوصا النّسوان ومن كان على طباعهنّ من الرّجال ، والجملة امّا حال من فاعل ادخلوا أو من أمم أو من فاعل خلت أو الجنّ والانس أو من النّار والكلّ بتقدير العائد أو معترضة ذمّا للأمم (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) يعنى لحق التّابعون للمتبوعين في الدّرك الأسفل (قالَتْ أُخْراهُمْ) التّابعون اللّاحقون (لِأُولاهُمْ) المتبوعين يعنى في حقّهم (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) لضلالهم واضلالهم (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ) باعتبار قوّتى العلّامة والعمّالة أو باعتبار تجسّم العمل في النّفس واستتباعه لمثله في الجحيم أو باعتبار الضّلالة وإهمال التميّز ، أو باعتبار صفحتي كلّ من العلّامة والعمّالة (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) انّ لكلّ ضعفا لخفائه وخفائه سببه عليكم (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) مخاطبين لهم (فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) لاستحقاقكم الضّعف جاؤا بالفاء تفريعا لقولهم على قول الله لاثبات قولهم (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) امّا من قول الله تقريعا وتهكّما ، أو من قول الرّؤساء (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) قد مضى تفصيل في مثلها (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) سماء الأرواح لانّ بابها القلب وفتحه بالولاية التّكليفيّة وقد كذّبوا بها (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) تعليق على ما لا يكون ، أو المراد انّ انانيّاتهم مانعة من دخول الجنّة

١٨١

فلا يدخلونها ما دام جمل انانيّاتهم باقية فاذا ذاب انانيّاتهم دخلوها (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) امّا من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر إبداء لوصف آخر لهم مشعر بالّذمّ وإظهارا لاستحقاق العقاب من جهة اخرى ، أو المراد بالمجرمين غير المكذّبين وهكذا الحال في قوله نجزى الظّالمين (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) حال أو استيناف لبيان حالهم ، والغواشي جمع الغاشى بمعنى المغمى ، أو جمع الغاشية بمعنى الغطاء أو الإغماء ، وفي لفظ مهاد وغواش بمعنى الأستار تهكّم بهم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى مثله ، وانّ المراد بالايمان ان كان الإسلام الحاصل بالبيعة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة فالمراد بعمل الصّالحات الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب وتوابعه من الأعمال القلبيّة المستتبعة للأعمال القالبيّة ، وان كان المراد به الايمان الخاصّ فالمراد بعمل الصّالحات مستتبعات هذا الايمان ، ولمّا جاء بالصّالحات معرّفة بلام الاستغراق وأو هم الإتيان بجميع الصّالحات وليس في وسع افراد البشر الإتيان بجميع الصّالحات استدركه بقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) معترضا بين المبتدء وخبره (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تكرار المبتدء باسم الاشارة اوّلا وبالضّمير ثانيا لتأكيد الحكم وإحضار المبتدء بوصفه المذكور وتفخيما لشأنهم بالاشارة البعيدة وتثبيتا لهم في الأذهان بالتّكرار (وَنَزَعْنا) في الدّنيا أو في الجنّة (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الغلّ بالكسر الحقد وتشبيه الغلّ بالثّوب واستعمال النّزع فيه استعارة تخييليّة وترشيح للاستعارة ، والمقصود انّه تعالى يطهّر صدور المؤمنين من موجبات الغلّ من الكدورات الدّنيويّة والصّفات الرّذيلة النّفسانيّة حتّى تصفو صدورهم من الحقد والحسد ، خصوصا بالنّسبة الى إخوانهم المؤمنين وكذا من العجب والرّياء والشّكّ والشّرك الخفىّ فلا يبقى في صدورهم الّا الودّ الخالص والصّدق التّامّ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الجملة حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر أو خبر بعد خبر (وَ) بعد ما صارت صدورهم مصفّاة ممّا يوذيهم ومقامهم مأمنا عمّا لا يلائمهم ومجالسوهم فارغين ممّا يسوؤهم (قالُوا) تبجّحا وشكرا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) المقام أو هذا الفضل والمراد بالهداية الإيصال الى المطلوب أو الى طريق المطلوب مع تهيّة أسباب سلوكه (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) قالوا ذلك لانّهم كانوا مؤمنين بالغيب غير مشاهدين فلمّا شاهدوا ما آمنوا به فرحوا بما شاهدوا واظهروه لغاية السّرور (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يعنى ما كنتم تعملون سبب من طرف القابل لا انّه سبب فاعلىّ. اعلم ، انّ الإنسان بانسانيّته له قوّة الوصول الى الجنان وبفطرته له النّسبة الى العقل الكلّىّ ومظهره الّذى هو النّبىّ (ص) والولىّ (ع) وبتلك النّسبة يصحّ نسبة الابوّة والبنوّة بينهما تكوينا ويصحّ نسبة الأخوّة بين كلّ الاناسىّ تكوينا ، فاذا اتّصل هذه النّسبة بالنّسبة التّكليفيّة بالبيعة العامّة النّبويّة أو الخاصّة الولويّة تقوى تلك النّسبة وظهرت بحيث يصير الولد والدا والوالد ولدا ، وبتلك النّسبة وقدر ظهورها يرث الولد من والده بعضا من ملكه أو جميع ممالكه وإذا لم يتّصل النّسبة التّكوينيّة بالنّسبة التّكليفيّة لا بالبيعة ولا حال الاحتضار انقطعت لا محالة ، وإذا انقطعت نسبته عن الوالد الّذى هو العقل الكلّىّ ومظهره لم يرث منه شيئا وورثه ما كان ينبغي ان يرثه هو اخوه المناسب له في بعض الجهات

١٨٢

فصحّ ان يقال أورثتموها من الله أو من العقل أو من مظهر العقل ، وصحّ ان يقال أورثتموها من أهل الجحيم كما يصحّ ان يقال : أهل الجحيم أورثوا منازل أهل الجنّة من الجحيم وقد مضى تحقيق الايراث وكيفيّته (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) إظهارا للنّعمة تبجّحا وتقريعا لأصحاب النّار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) من الله (بَيْنَهُمْ) والمؤذّن هو صاحب مرتبة الجمع وهو الّذى على الأعراف ولذا فسّر بأمير المؤمنين (ع) وقال : انا ذلك المؤذّن (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ولمّا كان الظّلم الحقيقىّ هو ستر وجهة القلب الّتى هي الولاية التّكوينيّة ، ثمّ الاباء عن الولاية التّكليفيّة الّتى بها يفتح باب القلب ويوضح طريقه الى الله ، وبهذين الظّلمين ينسدّ طريق القوى المستعدّة للاتّصال الى صاحب الولاية وهي باتّصالها بصاحب الولاية تصير من عترة الرّسول تكوينا ، فسدّ طريقها ظلم عليها وظلم على العترة بوجه وظلم على صاحب الولاية بوجه ، ثمّ جحود الولاية ثمّ الاستهزاء بصاحب الولاية ثمّ سدّ طريق العباد عن الولاية وذلك أيضا ظلم على عترة محمّد (ص) بالوجوه السّابقة ، فسّر الظّلم في الكتاب بالظّلم على آل محمّد (ص) ووصف الظّالمين بقوله (الَّذِينَ يَصُدُّونَ) اى يعرضون أو يمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تفسيرا للظّلم (وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) فانّ سبيل الله هو وجهة القلب تكوينا وولاية الامام الّذى هو المتحقّق بتلك الوجهة تكليفا ، والكفر بالآخرة هو الكفر بالولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة أو مسبّب عنه (وَبَيْنَهُما) اى الفريقين أو الجنّة والنّار (حِجابٌ) والمراد بالحجاب البرزخ الاخروىّ الّذى هو واسطة بين الملكوتين ولا بدّ لأهل كلّ من العبور عليه ، كما انّ المراد بالسّور في قوله (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) هو هذا البرزخ ، وتحقيق كون الدّنيا برزخا والبرزخ الاخروىّ واسطة بين الملكوتين وكون الملكوت السّفلى ظلّا ظلمانيّا للدّنيا والملكوت العليا عكسا نورانيّا لها ، وبعد الخلاص من عالم الطّبع لا بدّ من عبور كلّ على البرزخ الاخروىّ الّذى هو بوجه جهنّم ، كما انّ عالم الطّبع أيضا بوجه جهنّم ، والبرزخ الاخروىّ هو الحجاب الّذى ظاهره يلي الملكوت السّفلىّ من قبله عذاب الملكوت السّفلى وباطنه الّذى يلي الملكوت العليا فيه الرّحمة الّتى هي نعم الجنان الصّوريّة ثمّ نعم الجنان المجرّدة عن الصّورة والتّقدّر قد مضى اجمالا وسيجيء في سورة الحديد (وَعَلَى الْأَعْرافِ) اى اعراف الحجاب جمع العرف وهو ما ارتفع من الأرض ومنه عرف الدّيك وعرف الفرس والمعنى على اعالى الحجاب (رِجالٌ) مخصوصون وهم الّذين أدركوا البقاء بعد الفناء ووصلوا الى مقام الجمع وردّوا من الحضور الى الخلق لتكميلهم وهم الأنبياء (ع) والأولياء (ع) ، فانّهم بعد ردّهم يقفون بملكوتهم على البرزخ لكن على جهاته الّتى فيها الرّحمة وهي أعاليه حتّى يمكنهم الاحاطة والاتّصال بالملك والملكوتين ، لانّهم بشأنهم الجبروتىّ اجلّ شأنا من ان يراقبوا الكثرة لانّ العالي لا التفات له الى الدّانى بالذّات وبشأنهم الملكىّ لا سعة لهم ولا احاطة حتّى يتيسّر لهم المراقبة وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، بل بشأنهم الملكوتي الّذى يتنزّلون به عن الملكوت العليا الى اعالى البرزخ فيراقبون أهل الملك والملكوت العليا والسّفلى ويعطون كلّا حقّه ، ولمّا كان النّبوّات والولايات الجزئيّة اظلالا من الولاية الكلّيّة وكان المتحقّق بالولاية الكلّيّة عليّا وأولاده الطّاهرين ، صحّ تفسير الرّجال بهم وحصرهم فيهم ولمّا كان البرزخ مرتبة من مراتبهم وشأنا من شؤنهم قال علىّ (ع): نحن الأعراف ولمّا كان جهة البرزخ العليا

١٨٣

جهة يعرف بها كلّ من عليها غيره من أهل الملك والملكوتين وكانت سبيل معرفة الله لغير من عليها صحّ قولهم (ع): نحن على الأعراف ، نعرف أنصارنا بسيماهم ، ونحن الأعراف الّذين لا يعرف الله عزوجل الّا بسبيل معرفتنا ، ونحن الأعراف يوقفنا الله عزوجل يوم القيامة على الصّراط فلا يدخل الجنّة الّا من عرفنا وعرفناه ، ولا يدخل النّار الّا من أنكرنا وأنكرناه ، ولمّا كان المراد بالاعراف اعالى البرزخ صحّ تفسير أصحاب الأعراف بالّذين هم أصحاب البرزخ من الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فانّهم أصحاب البرزخ وكون صحابتهم للاعراف غير كون صحابة الّذين على الأعراف فانّهم مالكون للاعراف بوجه ومتحقّقون بها بوجه ، بخلاف الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم فانّهم (ع) واقفون في البرزخ وتحت الأعراف للحساب (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من أهل الجنّة والنّار (بِسِيماهُمْ) بالعلامة الّتى هي على ظواهرهم من سرائرهم ، فالضّمير راجع الى كلّا لا الى الرّجال (وَنادَوْا) الضّمير راجع الى أصحاب الأعراف من شيعة علىّ (ع) الّذين استوت حسناتهم وسيّئاتهم كأنّهم ذكروا بالالتزام ذكر الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) الّذين تجاوزوا البرزخ وصحبوا الجنّة (أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحيّة لهم ورجاء للوصول إليهم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) الدّخول (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) كان أبصارهم وانظارهم بالاصالة الى أصحاب الجنّة (قالُوا) تعوّذا والتجاء الى علىّ (ع) (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) الّذين هم على الأعراف (رِجالاً) من أهل النّار (يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ) يعنى ما اغنى الله عن عذابكم هذا بحسب مفهومه اللّغوىّ والمقصود ما دفع عنكم العذاب (جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ما موصولة أو مصدريّة (أَهؤُلاءِ) اشارة الى أصحابهم الّذين معهم في الأعراف الّذين يطمعون دخول الجنّة ولم يدخلوها بعد لاختلاطهم السّيّئات بالحسنات (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) في الدّنيا (لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) قالوها تقريعا وشماتة ثمّ صرفوا الخطاب عن أصحاب النّار الى أصحابهم الّذين معهم في الأعراف وقالوا لهم في حال شهود أصحاب النّار لازدياد تحسّرهم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وبما ذكرنا يمكن الجمع بين جميع ما ورد في الاخبار في بيان الأعراف وأصحاب الأعراف وكيفيّة وقوفهم على الأعراف مع كثرتها واختلافها (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) لانّ الحجاب الّذى بينهما مانع من الوصول لا من الرّؤية إذا شاء الله (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) السّاترين وجهة القلب الّتى هي الطّريق الى الله (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) الّذى أخذوها من صاحب الدّين اى الإسلام الّذى أخذوها من النّبىّ (ص) بالبيعة والميثاق أو صورة الإسلام الّتى انتحلوها من دون أخذها من صاحبها والوقوف على شرائعها (لَهْواً وَلَعِباً) غير مغيى بغاية أو مغيى بغاية خياليّة نفسانيّة راجعة الى دنياهم لانّهم سدّوا الطّريق الى الله وأبطلوا استعداد سيرهم بواسطة الإسلام الى الطّريق فلا غاية لاسلامهم أو لنحلتهم الإسلام سوى ما تصوّروه من الغاياب الرّاجعة الى الدّنيا ولذا قال تعالى (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) تعليلا لاخذ دينهم لهوا ولعبا (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) يعنى لا نلتفت إليهم وهذا على طريقة مخاطباتهم حيث يقولون نسينا فلان يعنى لا يلتفت

١٨٤

إلينا ولا يذكرنا بعطيّة (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) وكما كانوا (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) اى كتاب النّبوّة (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) متعلّق بجئنا أو بفصّلناه أو متنازع فيه لهما على أخذ مثل معنى الإيراد في المجيء والتّفصيل اى أوردناه على علمهم بحقّيّة الكتاب أو الرّسول (ص) ، أو هو حال عن فاعل جئنا أو فصّلنا أو عن مفعول جئناهم أو عن كتاب (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالايمان العامّ لتوجّهم الى وجهة القلب وتهيّؤهم لقبول الولاية التّكليفيّة أو بالايمان الخاصّ لكونهم على الطّريق وإنارة كتاب النّبوّة الّذى كان الكتاب التّدوينىّ صورته طريقهم فيسرعون في السّير أو المراد بكتاب فصّلناه مكتوب مفروض عظيم وهو الولاية الّتى هي غاية النّبوّة ، لانّ جميع النّبوّات والكتب التّدوينيّة لتنبيه الخلق عليها واعدادهم لقبولها ولذلك جاء به مفردا منكّرا مشيرا الى عظمته (هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينظرون (إِلَّا تَأْوِيلَهُ) ما يئول الكتاب اليه أو تأويلنا وارجاعنا ذلك الكتاب الى حقيقته الّتى هي مقام الولاية الّتى هي روحه وأصله ومرجعه (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) ضمير المفعول راجع الى دينهم أو الى لقاء يومهم هذا أو الى كتاب فصّلناه أو الى تأويله ومآل الكلّ واحد والمعنى يقول الّذين نسوا حقيقة الدّين أو الكتاب يعنى تركوها مع الاستشعار بها ، فانّ النّسيان قد يستعمل في التّرك ، أو غفلوا عنها بعد الاستشعار والتّذكّر بها أو لم يستشعروا بها ولم يتذكّروا بها فانّها كانت معلومة مشهودة وبعد تنزّل الإنسان الى هذا البنيان صارت منسيّة وجميع الشّرائع والعبادات والرّياضات لان يتذكّروا ما نسوه من حقيقة الدّين واتّخذوا صورته للأغراض الدّنيويّة (مِنْ قَبْلُ) من قبل إتيان التّأويل تحسّرا وإقرارا بحقّيّته (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) وبالولاية الّتى كانت حقّا أو بالرّسالة الحقّة وقد أعرضنا عنه ظلما على أنفسنا (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) اليوم (فَيَشْفَعُوا لَنا) عند ربّنا في الولاية الّذى هو ولىّ أمرنا أو عند ربّ الأرباب (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بصرف دينهم الّذى هو أعظم بضاعة لهم في الأغراض الفانية (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) اشراكه بالله وشفاعته عند الله من الأصنام والكواكب ورؤساء الضّلالة ، والمنظور هو العجل وسامريّة ووجه ضلال مفترياتهم انّهم كانوا ينظرون إليها من حيث حدودها وتعيّناتها ، لانّهم كانوا جعلوها مسمّيات ويفنى كلّ شيء حينئذ من حيث الحدود من حيث كونه مسمّى لفناء التعيّنات والحدود حين ظهور الولاية الّتى هي الوحدة الحقّة الظّليّة كما سبق (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) اعلم ، انّ فعل الله تعالى لا يتقيّد بالزّمان وقد قالوا : انّ الأفعال المنسوبة الى الله منسلخة عن الزّمان فانّ المحيط كما لا يحاط ذاته بالزّمان لا يحاط فعله بالزّمان ، وانّ ايّام الله محيطة بالايّام الزّمانيّة ومقادير ايّام الله متفاوتة بحسب تفاوت مراتب فعله فقد تتقدّر بألف سنة وقد تتقدّر بخمسين الف سنة ، وانّ السّماوات في عرف أهل الله عبارة عن عوالم الأرواح المجرّدة عن المادّة وعن التّقدّر ، والأرض عبارة عن عوالم الأشباح مادّيّة كانت أو مجرّدة عن المادّة كعالمى المثال ومنها سماوات عالم الطّبع لتقدّرها وتعلّقها بالمادّة ، وانّ مراتب الممكنات الّتى هي مخلوقات الله وفيها تتحقّق السّماوات والأرض بوجه ستّ وبوجه ثلاث صائرة بحسب النّزول والصّعود ستّا وهي مرتبة المقرّبين المهيمين الّذين هم قيام لا ينظرون ، ومرتبة الصّافّات صفّا ويعبّر عن الصّنفين بالعقول الطّوليّة والعقول العرضيّة المسمّاة

١٨٥

بأرباب الأنواع في لسان حكماء الفرس ، ومرتبة المدبّرات امرا ومرتبة الرّكّع والسّجّد ، ومرتبة المتقدّرات المجرّدة عن المادّة ، ومرتبة المادّيّات وخلقة السّماوات والأرض وتماميّتها في تلك المراتب السّتّ ، وإذا أريد بالسّماوات والأرض سماوات عالم الطّبع وأرضه فخلقتها بوجودها الطّبيعىّ وان كانت في عالم الطّبع لكنّها بوجودها العلمىّ موجودة في المراتب العالية عليه وهذه هي الايّام الستّة الرّبوبيّة الّتى خلقت السّماوات والأرض فيها ، وتلك المراتب مع المشيّة الّتى هي عرش الرّحمن بوجه وكرسيّه بوجه تصير سبعا نزولا ، وباعتبار صعودها تصير مثاني وهذه هي السّبع المثاني الّتى أعطاها الله محمّدا (ص) ، ولمّا كان المتحقّق بتلك المراتب نزولا وصعودا منحصرا في الائمّة (ع) ، لانّهم المتحقّقون بها على الإطلاق وغيرهم متحقّقون بها بتحقّقهم قالوا : نحن السّبع المثاني الّتى أعطاها محمّدا (ص) بطريق الحصر ، ثمّ لمّا كان عرش الرّحمن الّذى هو المشيّة الّتى هي الحقّ المخلوق به إضافته الاشراقيّة المأخوذة لا بشرط وكان بهذا الاعتبار متّحدا مع جميع الأشياء ، بل كان حقيقة كلّ ذي حقيقة وكان باعتبار كونه اضافة ومأخوذا لا بشرط لا تحقّق له الّا بتحقّق جميع ما ينضاف اليه ولا يتمّ الّا بما ينضاف اليه ، قال بعد ذكر خلق السّماوات والأرض الّتى هي جملة الأشياء (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) معطوفا بكلمة التّراخى ، لانّ الاستواء في العرف هو الجلوس على العرش ولا يتمّ هذا المعنى الّا بتماميّة العرش وليس تماميّة العرش الّا بتماميّة السّماوات والأرض ، ولذا فسّروا الاستواء لنا باستواء نسبته الى الجليل والدّقيق ، ولمّا كانت المشيّة إضافته الحقيقيّة الى الأشياء كانت ذات جهتين جهة الى المضاف وجهة الى المضاف اليه ، وباعتبار جهتها الى المضاف تسمّى عرشا ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الله ، وباعتبار جهتها الى المضاف اليه تسمّى كرسيّا ولذا يطلق عليها هذا الاسم حين تنسب الى الأشياء وسع كرسيّه السّماوات والأرض ، وورد ان جميع الأشياء في الكرسىّ والكرسىّ في العرش ، ووجه كون الكرسىّ في العرش انّ الجهة المنسوبة الى المضاف محيطة بالجهة المنسوبة الى المضاف اليه ، وقد يسمّى عقل الكلّ بالعرش ونفس الكلّ بالكرسىّ لكونهما مظهري الجهتين ، وقد يسمّى الفلك المحيط عرشا والفلك المكوكب كرسيّا لكونهما مظهري هذين المظهرين (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) يغطّى بليل الزّمان نهار الزّمان ، وبليل عالم الطّبع نهار عالم الأرواح ، وبليل الملكوت السّفلىّ نهار الملكوت العليا ، وبليل طبع الإنسان نهار روحه ، وبليل جهله نهار علمه ، وبليل شهواته وسخطاته نهار رغباته ومرضاته ، وبليل رذائله نهار خصائله ، وبليل اسقامه نهار صحّته ، وبليل ضعفه نهار قوّته وهكذا (يَطْلُبُهُ) يتعقّبه كالطّالب له (حَثِيثاً) وفي استعمال الطّلب والحثّ هناك دليل على التّعميم وكان المناسب ان يقول : ويكشف النّهار اللّيل أو يغشى النّهار اللّيل ، ولكنّه تعالى تركه اشارة الى اصالة النّهار وعرضيّة اللّيل ولو قال ذلك لأوهم اصالتها وانّ تقابلهما تقابل الوجوديّين (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قرئ بنصب الشّمس والقمر والنّجوم ومسخّرات ، وقرئ برفعها فهي معطوفة على السّماوات على قراءة النّصب فيها ، أو على خلق بتقدير جعل ، أو على يغشى بتقدير يجعل وعلى قراءة الرّفع فيها فهي مبتدء وخبر (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فذلكة لما سبق ولذا أتى بأداة التّنبيه فانّه لمّا ذكر انّه خالق سماوات الأرواح وأراضي الأشباح وانّه المستوى القاهر على العرش الّذى هو جملة عالمي الأمر والخلق ، ثمّ ذكر تدبيره للعوالم باغشاء اللّيل النّهار على وفق حكمته البالغة ، فانّه بهذا الاغشاء يتمّ تربية المواليد ولا سيّما غايتها الّتى هي الإنسان ، فانّ الإنسان بقالبه وقلبه تستكمل بتضادّ اللّيل والنّهار وتعاقبهما بجميع معانيهما وتسخير الشّمس

١٨٦

والقمر والنّجوم الّذى به يتمّ نظام العالم وينتظم معاش بنى آدم ، استفيد منه مبدئيّته لعالمى الخلق والأمر ومالكيّته لهما فنبّه على المستفاد وأتى باللّام الدّالّة على المبدئيّة والمالكيّة والمنتهائيّة ، مشيرا الى الاختصاص المؤكّد بتقديم الظّرف ثمّ مدح نفسه بكثرة الخيرات مؤكّدا بربوبيّة العالم بقوله (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ثمّ فرّع عليه الأمر بالدّعاء والتّضرّع ، فانّ من لا شأن له سوى المخلوقيّة والمربوبيّة لا ينبغي له الخروج عن التّعلّق والدّعاء والتّضرّع عند ربّه الّذى هو مالك الكلّ وصاحب الخيرات الكثيرة بقوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ) كأنّه قال إذا كنتم كذلك فادعوا ربّكم ، والدّعاء يستعمل في طلب ذات المدعوّ وفي طلب امر آخر منه كأنّ المدعوّ في الحقيقة هو ذلك الأمر ، والمدعوّ مطلوب من باب المقدّمة وكلّما أطلق الدّعاء كان المطلوب ذات المدعوّ لا امرا غيره الّا إذا قامت قرينة على انّ المطلوب غيره ، والمطلوب هناك ذات المدعوّ كأنّه قال انّه حاضر عليكم في تدبير أموركم وأنتم غائبون عنه فادعوه الى بيوت قلوبكم حتّى تحضروا عنده بخروجكم عن غيبتكم ؛ وهو مشعر بما قالت الصّوفيّة من الفكر والحضور (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) مصدران لا دعوا من غير مادّته فانّ التّضرّع والخفية عبارة عن نوعي الدّعاء ما يظهر على اللّسان وما لا يظهر ، فانّ التّضرّع ملازم للظّهور على اللّسان أو ما يجهر به وما لا يجهر به فانّ التّضرّع قلّما يخلو عن جهر أو بتقدير المصدر اى دعاء تضرّع وخفية ، أو حالان بكون المصدر بمعنى المشتقّ أو بتقدير مضاف الى ذوي تضرّع ، ولا استبعاد في ان يقال : المراد بالتّضرّع هو الدّعاء مع الشّعور به سواء كان بلسان القالب أو بلسان القلب ، وبالخفية هو الدّعاء بلسان الحال والاستعداد من غير استشعار به فانّ الخفية الحقيقيّة هي الّتى لا يستشعر الدّاعى بها ، وتعلّق الأمر والتّكليف بها باعتبار مقدّماتها الّتى هي بشعوره واختياره ، أو يقال : المراد بالتّضرّع هو الدّعاء بلسان القالب وبالخفية هو الدّعاء بلسان القلب شاعرا بهما ؛ وهما اللّذان يسمّيان في عرف الصّوفيّة بالّذكر الجلىّ والذكّر الخفىّ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) المتكبّرين المستنكفين عن الدّعاء المتجاوزين مرتبتهم وشأنهم ، لانّه من لا يدعو الله من العباد فقد تجاوز عن شأن عبوديّته ، أو المراد بالمعتدين المتجاوزون في الدّعاء حدّ الدعاء وشأن الدّاعى من التّضرّع والانكسار أو حدّ الوسط بالإجهار بالصّوت في الدّعاء ، أو حدّ الوسط بين التّرك والإصرار فانّه ورد : انّه ما زال المظلوم يدعو على الظّالم حتّى يصير ظالما (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) اعلم ، انّ الإنسان ما لم يبلغ حدّ الرّشد والتّكليف شأنه شأن البهائم في طلب المشتهيات بأىّ نحو اتّفق ودفع المولمات كذلك وليس له شأن الايتمار والانقياد الّا لمن يخاف منه على بدنه ، وليس له شأن الإصلاح في ارض العالم الصّغير ولا في ارض العالم الكبير ، فاذا بلغ وحصل له العقل حصل له شأنيّة الايتمار والإصلاح في ارضى العالمين في الجملة ، فان ساعده التّوفيق ودعاه الدعاة الالهيّون دعوة عامّة ظاهرة وقبل منهم وانقاد لهم بالبيعة العامّة النّبويّة وصار مسلما كمل له شأنيّة الإصلاح وحصل له الانقياد في الجملة ، فان زاد توفيقه ودعاه الدّعاة الالهيّون دعوة خاصّة باطنة وقبل منهم وبايع معهم البيعة الخاصّة الولويّة وتمّ له الانقياد ، فامّا ان يلتحق بملكوت الدّاعى ويحصل له حالة الحضور معه وهو المصلح الحقيقىّ في العالمين ، وامّا ان يطلب الالتحاق وشأنه دعاء ربّه والتّضرّع والالتجاء اليه في غيبته حتّى يلتحق به وهو المصلح في الجملة ، وان خذله الله بعد حصول العقل وشأنيّة الإصلاح ولم يطلب الإسلام ، أو طلب ودخل فيه ولم يطلب الايمان ، أو طلب ودخل فيه ولم يكن يدعو ربّه ولم يطلب الالتحاق بملكوته صار مفسدا في العالمين فكأنّه قال : ادعوا ربّكم ولا تتركوا الدّعاء فتفسدوا في الأرض (بَعْدَ إِصْلاحِها) بالقوّة

١٨٧

لحصول العقل أو بالفعل بالإسلام والايمان وهكذا في بواقى الأقسام فقوله : ولا تفسدوا في الأرض ، من قبيل اقامة المسبّب مقام السّبب كأنّه قال : لا تتركوا الدّعاء والالتجاء والتّضرّع عليه فتفسدوا في الأرضين بعد شأنيّة اصلاحهما أو بعد فعليّة اصلاحهما ولكون هذا الدّعاء هو غاية كلّ عبادة وطاعة كرّره بذكر جهة اخرى من جهات الدّعاء فقال (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) مصدران أو حالان كما سبق والمعنى خوفا من فراقه وعدم اجابته وطمعا في لقائه واجابته ، وسائر الوجوه المحتملة راجعة الى هذا ، أو ضعيفة بحسب مقام دعوة الرّبّ ؛ كخوف سخطه وخوف عقابه وخوف ردّه وخوف عدله وخوف ميزانه وخوف خذلانه والخوف من جلاله فانّ من استشعر في حضور الملوك جلالهم استشعر خوفا وهيبة في نفسه من غير استشعار بسبب لتلك الهيبة ، واستعمال الطّمع للاشارة الى انّ الإنسان لا بدّ وان يكون مترقّبا للقاء الرّبّ ورحمته من غير نظر الى حصول أسبابه من قبله أو من قبل الله فانّ فعل الله لا يناط بالأسباب ، لانّ الطّمع هو ترقّب حصول الشّيء من غير تهيّة سبب لحصوله بخلاف الرّجاء ولمّا أو هم ذكر الطّمع قرينة للخوف ترجيح جانب الرّجاء وعدم الاناطة بسبب وشرط واستواء نسبة الرّحمة الى الكلّ بحسب القابل كما هو كذلك بحسب الفاعل ، رفع ذلك بقوله (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) تعليلا للخوف والطّمع ، يعنى انّ رحمته من جهة الفاعل وان كانت مستوية النّسبة الى الكلّ غير موقوفة على سبب وشرط لكنّها من جهة القابل متفاوتة النّسبة فليخف غير المحسن ولا يتّكل على عموم رحمته واستواء نسبتها وليطمع المحسن وليجدّ في طلب لقائه ، وتذكير قريب بتأويل الرّحمة بالرّحم أو بتشبيهه بالفعيل بمعنى المفعول (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً) قرء بالنّون وبالباء جمعا للنّشور والبشير وبالضمّتين على الأصل وبإسكان العين تخفيفا وبالفتح كالنّصر مصدرا وهو عطف على قوله ، انّ ربّكم الله الّذى خلق السّماوات ، وهو لبيان الاعادة بطريق التّمثيل كما انّ الاوّل لبيان الإبداء والتّدبير (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعنى المطر ، فانّه يسمّى بالرّحمة في العرف ولا يخفى تعميم الرّياح والرّحمة وان كان التّمثيل بحسب ظاهر التّنزيل (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) بالاجزاء الرشّية المائيّة ، جمع الوصف وافراد الضّمير في (سُقْناهُ) باعتبار معنى الجنس ولفظه (لِبَلَدٍ) اليه أو لسقيه أو لا حيائه (مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا) في ذلك البلد الميّت (بِهِ الْماءَ) اى بالسّحاب أو الضّمير راجع الى البلد والباء بمعنى في (فَأَخْرَجْنا بِهِ) بالماء أو بالسّحاب أو بالبلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ) اى كما ترون من نشر الرّياح وحمل السّحاب وسوقه الى البلد الميّت واحيائه بإخراج الثّمرات (نُخْرِجُ الْمَوْتى) عن الحيوة الحيوانيّة أو عن الحيوة الحقيقيّة الانسانيّة بنشر الرّياح المختلفة وسوق سحاب الرّحمة باعداد الرّياح المختلفة من الاستحالات والانقلابات والانتقالات والبلايا والامتحانات ، وتهييج الشّهوات وإيذاء السّخطات ووسوسة الشّياطين الجنّيّة والانسيّة ، وإذا هم الّذى عاهدناهم عليه بقولنا (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) حتّى ينزعجوا عن قبر الطّبع الجمادىّ أو النّفس النّباتيّة أو النّفس الحيوانيّة ويحيوا بالحيوة الانسانيّة ويخرج في ارض وجودهم كلّ الثّمرات الالهيّة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) غاية للممثّل به أو للمثل أو للتّمثيل (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) كأنّه استدراك لما توهّم من تساوى البلاد في خروج النّبات منها وتساوى الأموات في كيفيّة الأحياء وحالة الحيوة ، كأنّه قال ولكنّ البلد الطّيّب يخرج نباته بإذن ربّه يعنى يخرج جميع ما يمكن ان ينبت فيه ، فانّه المستفاد منه بحسب مخاطبات العرف خصوصا مع

١٨٨

اضافة النّبات المشعرة بالعموم ومع المقابلة مع قرينه وهو قوله (وَالَّذِي خَبُثَ) بالنّسبة الى الأراضي الصّالحة بسبب كونه سبخة (لا يَخْرُجُ) نباته (إِلَّا نَكِداً) قليل المقدار عديم النّفع (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمنا الظّاهرة والباطنة وان كان بصورة الرّياح المختلفة والابتلاءات والنّقمات ، فانّ تصريف أمثال هذه الآيات لمن عرف انّها نعم لا لمن رآها نقما ولا يشكر بل يكفر بسببها ، فانّ كفره وكفرانه ليس غاية لفعلنا بل هو مترتّب عليه بالعرض ، ونقل انّه قال عمرو بن العاص للحسين بن علىّ عليهما‌السلام : ما بال لحاكم أو فر من لحانا؟ فقرأ هذه الآية ، وأمثال هذا التّفسير للآيات تدلّ على جواز تعميمها في كلّ ما يمكن ان تصدق عليه حقيقة أو مجازا (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) بعد ذكر الإبداء والتّربية والتّدبير والاعادة بالتّمثيل ذكر تعالى إرسال الرّسل ليكونوا على ذكر منه فلا يستغربوا رسالة البشر ، وذكر قصصهم مع اقوامهم وما قالوا لهم وما فعل بالمقرّ والمنكر منهم تسلية للمؤمنين وتهديدا للمنكرين المكّذبين (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أمرهم بالتّوحيد وعبادة ذلك الواحد كما هو ديدن جميع الأنبياء (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان تتركوا عبادته وتوحيده (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) اى المترفون والرّؤساء ، فانّ الاتّباع لا شأن لهم الّا القبول والتّقليد وعدم اتّباعهم للأنبياء لانّ نظرهم الى الدّنيا وكان المترفون في نظرهم اجلّ شأنا من الأنبياء (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لما رأوه مخالفا لسيرتهم المحبوبة الدّنيويّة الّتى يحسبونها أحسن ما يكون فانّ كلّ حزب بما لديهم فرحون ، ولذا اكّدوه بتأكيدات (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) داراهم بنفي معتقدهم ولذا لم يؤكّده مثل تأكيداتهم (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) أتى باللّام اشارة الى خلوص النّصح عن شوب الخديعة (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) يعنى من صفاته وتدبيره أو بإفاضة الله (ما لا تَعْلَمُونَ) بلّغ اوّلا رسالته مع تعقيبه بالإنذار ولمّا كذّبوه بابداء اعتقاد ضدّ الرّسالة وهو الضّلالة نفى معتقدهم واثبت دعواه مع لازمها الّذى هو التّبليغ ، ثمّ عقّبها بما لا ينبغي ردّه من النّصح والعلم بما ليس لهم علم به مداراة معهم وإظهارا للرّأفة بهم (أَوَعَجِبْتُمْ) اى أكذّبتم وعجبتم يعنى لا ينبغي التّعجّب منكم (أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) اى ما به تذكّر كم للآخرة (عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) أبدل الرّسالة الّتى فيها الشّقاق والعناد بلازمها الّذى فيه صلاحهم وهو تذكّرهم بعواقب أمورهم واضافه الى الرّبّ المضاف إليهم حتّى يكون أقرب الى النّصح والقبول ، ثمّ عقّبه بغايات ثلاث مترتّبة منسوبة الى الرّسول والمرسل إليهم والمرسل وفي الكلّ صلاحهم ونفعهم لابداء انّ دعواه الرّسالة ليست الّا محض نفعهم حتّى يكون ابعد من الشّغب ، فقال (لِيُنْذِرَكُمْ) عمّا أنتم عليه ممّا ليس فيه الّا الشّرّ والسّوء (وَلِتَتَّقُوا) عمّا فيه فسادكم بالتّوجّه والرّغبة فيما فيه صلاحكم (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) من ربّكم وهو حسن العاقبة (فَكَذَّبُوهُ) مع انّه لم يبق لهم عذر في تكذيبهم (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من المؤمنين (فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) ولم يبق لهم بصيرة حتّى نترقّب استبصارهم ولا نؤاخذهم (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) المراد اخوة العشيرة والقبيلة لا اخوة الدّين (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قالَ

١٨٩

الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) تسفيه العقل في الانظار أقبح من نسبة الضّلالة (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) كأنّه كان معروفا بينهم بالامانة ولذا توسّل به (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) ذكّرهم بنعم الله عليهم بعد تذكيرهم ضمنا بنقم الله على قوم نوح تخويفا لهم من زوالها بأحسن وجه (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تعميم بعد تخصيص تأكيدا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عن الصّادق (ع) انّه قال : أتدري ما آلاء الله؟ ـ قيل: لا ، قال : هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا (قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جعلوا لغاية سفههم مقلّدات آبائهم علوما قطعيّة ولذلك تحدّوا بما ذكر (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ) اى عذاب أتى بقد والماضي تحقيقا لتحقّقه ، أو للاشارة الى انّ ما هم عليه من السّفاهة والضّلالة والمجادلة مع رسول الله (ص) عذاب اليم ، لكنّهم لا يدركون ألمه لكون مداركهم خدرة (وَغَضَبٌ) أخّر الغضب مع انّه بالتّقديم اولى لتقدّمه ذاتا وشرفا ، لانّه لا يظهر الّا بالرّجس المسبّب عنه فالرّجس أسبق ظهورا منه (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) اعلم ، انّ الاسم ما يدلّ على شيء آخر بحيث لا يكون حين الدّلالة على المسمّى منظورا اليه ومقصودا ومحكوما عليه بشيء ، سواء كان ذلك الدّالّ لفظا أو نقشا أو مفهوما ذهنيّا أو ذاتا خارجيّا مثل لفظ زيد ، فانّه اسم للّذات المعيّنة المخصوصة وإذا أريد دلالته على تلك الّذات في قولنا : جاء زيد ، لم يكن ذلك اللّفظ منظورا اليه ولا محكوما عليه بهذا الاعتبار ، بل النّظر والقصد الى تلك الّذات بحيث يكون اللّفظ مغفولا عنه ، وبهذا الاعتبار هو اسم للّذات ولا يحكم عليه بشيء من الأحكام ، وإذا اعتبر هذا اللّفظ من حيث اعتباره في نفسه مع قطع النّظر عن اعتبار دلالته على المسمّى بل من حيث انّه مركّب عن حروف ثلاثة متحرّك الاوّل ساكن الأوسط يصير حينئذ محكوما عليه ومنظورا اليه ومسمّى باسم اللّفظ والموضوع والاسم المقابل للفعل ، وهذان الاعتباران كما هما ثابتان للألفاظ الدّالّة والأسماء اللّفظيّة كذلك ثابتان لكلّ ما يدلّ على غيره من الّذوات ، ثمّ اعلم ، انّ جميع الأشياء من الّذوات النّوريّة الملكيّة والظّلمانيّة الطّبيعيّة والشّيطانيّة آثار صنعه تعالى ودوالّ وحدته وعلمه وقدرته ومظاهر جوده ولطفه وقهره ، وهي بهذا الاعتبار أسماؤه ولا حكم لها ولا اسم ولا رسم وليست مسمّيات وهي بهذا الاعتبار قضاؤه ؛ والرّضا بها واجب وعبادتها عبادة الله ومحبّتها محبّة الله لأنّها غير منظورات ولا مقصودات بهذا الاعتبار ، وإذا جعلت منظورا إليها ومحكوما عليها ومسمّيات بأسمائها الخاصّة كانت بهذا الاعتبار مقابلات له تعالى وثواني ولم تكن دوالّ ذاته وعلمه وقدرته بل كانت حينئذ مدلولات ومسمّيات ومقضيّات ، والنّظر إليها وعبادتها والرّضا بها كفر وشرك والنّاظر ملوم ومذموم ، وبهذا الاعتبار ورد : الرّضا بالكفر كفر. ثمّ اعلم ، انّ الإنسان ما لم يخرج من بيت نفسه ولم يهاجر الى رسول صدره ولم يتوجّه الى نبىّ قلبه بإعانة ولىّ امره لا يمكن له النّظر الى الأشياء من حيث انّها دوالّ ذاته تعالى بل لا يرى في الوجود الّا الأشياء المتكثّرة المقابلة للوحدة مستقلّات مدلولات مسمّيات وان كانت بحسب الواقع ونفس

١٩٠

الأمر متعلّقات صرفة غير مستقلّات لا حكم لها أصلا ، لكنّها في نظر هذا المتوطّن في بيت نفسه وبلد طبعه لا شأن لها الّا المباينة والاستقلال وعدم التّعلّق والدّلالة على شيء ، لكنّه لمّا كان مأمورا بالخروج من هذا البيت وحجّ بيت الله القلب والطّوف به بل الاقامة عنده ثمّ الوصول الى ربّه والحضور لديه ، ولا يمكنه الخروج الّا بإعانة معاون خارجىّ ورفاقة رفيق بشرىّ وكلّما فرض معاونا له ليس في نظره الّا محكوما عليه ومستقلّا ومسمّى غير دالّ على الله وغير اسم له ، جعل الله تعالى له معاونا يعينه على خروجه وامره باتّباعه ونصب له حجّة على جواز النّظر اليه والأخذ منه والتّضرّع لديه وان كان في نظره مسمّى ومحكوما عليه ومستقلّا ، فكونه مطاعا ومتبوعا ومعبودا عبادة الطّاعة مع كونه ثانيا لله ومقابلا ومسمّى ومحكوما عليه في نظره ممّا انزل الله به حجّة وسلطانا وليس النّاظر اليه مذموما وملوما ولا كافرا ومشركا ، إذا علمت ذلك فمعنى الآية لا ينبغي لكم المجادلة مع الرّسول في تصحيح أسماء لا حكم لها وليست مسمّيات ومستقلّات بل متعلّقات صرفة وروابط محضة جعلتموها أنتم وآباؤكم مسمّيات بمقتضى وقوفكم في رساتيق أنفسكم ، والحال انّها (ما نَزَّلَ اللهُ بِها) اى معها أو فيها أو بسببها (مِنْ سُلْطانٍ) اى سلطنة أو حجّة وبرهان من هذه الحيثيّة اى كونها مسمّيات ومنظورا حتّى يرفع اللّوم عنكم ويتبدّل شرككم بالنّظر الى حجّة بالتّوحيد بوجه ما (فَانْتَظِرُوا) امر الله في حقّكم وحقّى (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ) آمنوا (مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) التّقييد به تنبيه على انّه لا يجوز لأحد النّظر الى عمله والاتّكال عليه ، فانّ العمل ليس له الّا اعداد القابل للقبول وامّا فعل الفاعل فغير مسبّب عنه كما مرّ مرارا (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) تكليفا (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) تكوينا أو كلاهما عامّان أو خاصّان بمعنى واحد ، والثّانى تأكيد للاوّل ومعنى قطع الدّابر الاستيصال وعدم بقاء عقب لهم ، وورد انّ هودا (ع) وصالحا (ع) وشعيبا (ع) واسمعيل (ع) ونبيّنا (ص) كانوا يتكلّمون بالعربيّة (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ثمود اسم قبيلة مسمّاة باسم أبيهم ثمود من أولاد سام بن نوح (ع) وصالح (ع) كان من أولاده ، أو ثمود اسم قرية صغيرة على ساحل البحر لا تكمل أربعين بيتا كما في الخبر (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) هذه ناقة الله مبتدء وخبر مستأنف لبيان البيّنة ولكم حال عن ناقة الله ، أو عن آية ، أو خبر بعد خبر ، وآية حال مترادفة ، أو متداخلة ، أو منفردة ، أو ناقة الله بدل من هذه ، أو عطف بيان ولكم خبر وآية حال من المستتر فيه (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا) تذكير للنّعم بعد التّهديد من النّقم (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ) الّتى هي خزنتها (بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) تعميم بعد تخصيص (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) دينا أو مالا أو حالا أو جسما (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من قوله تعالى للّذين بدل الكلّ ان كان المراد الاستضعاف في الدّين والطّريقة ، أو بدل البعض ان كان المراد مطلق الاستضعاف (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) استهزؤا بهم (قالُوا) في جوابهم من غير مبالاة باستهزائهم زائدا على الجواب الّذى هو الإقرار برسالته بالانقياد لما أرسل به والطّاعة له (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا

١٩١

بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) بتحريك بعضهم ورضا بعض وعقر بعض (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) على لسان صالح وهو قوله فذروها تأكل في ارض الله أو عن مطلق امره على لسان نبيّه ولم يطيعوه في شيء منه ، أو عن امر ربّهم الّذى هو العقل وحكمه فانّه امر تكوينىّ (وَقالُوا) تجرّيا على الرّبّ ورسوله (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزّلزلة ولا ينافيها قوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) كما في سورتي هود والحجر لانّ الزّلزلة كانت مسبّبة عن الصّيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) ملزقين بالأرض والجثوم اللّزوم بالمكان (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) بعد ما ابصرهم صرعى ، والإتيان بالمضارع في قوله (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) لتصوير المضىّ حالا إحضارا له واشارة الى انّ هذا كان ديدنهم كأنّه لا ينفكّ عنهم حتّى بعد الموت ، أو المعنى فتولّى عنهم بعد إتمام الحجّة عليهم والإتيان به مصدّرا بالفاء بعد ذكر إهلاكهم لانّه تفصيل لسبب الإهلاك ومن قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (وَقالَ) تحسّرا أو تبرّيا (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) قصّة صالح وناقته وكيفيّة خروجها باقتراحهم عن الجبل ومتاركته مع قومه وكيفيّة عقر النّاقة وإهلاكهم مذكورة في المفصّلات (وَلُوطاً) عطف على نوحا ولوط (ع) كان ابن خالة إبراهيم (ع) وكانت سارة زوجة إبراهيم (ع) أخت لوط وخرج إبراهيم (ع) من بلاد نمرود الى الشّام ومعه لوط وسارة وخلّف لوطا بأدنى الشّامات للدّعوة وذهب هو الى أعلى الشّامات (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) في الدّعوة والمعاشرة لا في النّسب والملّة (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) المعهودة وهي إتيان الرّجال والاعراض عن النّساء (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) صرّح بما كنّى عنه اوّلا تفضيحا وتوبيخا ولذلك أتى به مؤكّدا بتوكيدات توكيدا للتّوبيخ (مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) يعنى لستم عادلين بل أنتم قوم مسرفون ، فهو من قبيل العطف باعتبار المعنى (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) يعنى ما كان لهم جواب يصلح لمقابلة محاجّته ونصحه ولذا عدلوا عن المحاجّة اللّسانيّة الى المغالبة القالبيّة وعلّلوه بما هو دليل صحّة نصحه ، فقالوا (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) من الفواحش وأمثال أفعالنا (فَأَنْجَيْناهُ) بعد إتمام الحجّة عليهم (وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) فانّها كانت تسرّ الكفر وتوالى أهل القرية (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) عجيبا وهو امطار الحجر (فَانْظُرْ) يا محمّد (ص) أو يا من يمكن منه النّظر (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) في الخبر انّ لوطا (ع) لبث في قومه ثلاثين سنة وكان نازلا فيهم ولم يكن منهم يدعوهم الى الله وينهاهم عن الفواحش ويحثّهم على الطّاعة ، فلم يجيبوه ولم يطيعوه وكانوا لا يتطهّرون من الجنابة بخلاء اشحّاء على الطّعام فاعقبهم البخل الدّاء الّذى لا دواء له في فروجهم ، وذلك انّهم كانوا على طريق السّيّارة الى الشّام ومصر وكان ينزل بهم الضّيفان فدعاهم البخل الى ان كانوا إذا نزل بهم الضّيف فضحوه ، وانّما فعلوا ذلك لينكل النّازلة عليهم من غير شهوة لهم الى ذلك فأوردهم البخل هذا الدّاء حتّى صاروا يطلبونه من الرّجال ويعطون عليه الجعل ، وكان لوط (ع) سخيّا كريما يقري الضّيف إذا نزل بهم فنهوه عن ذلك ، فقالوا لا تقر ضيفانا تنزل بك فانّك ان فعلت فضحنا ضيفك فكان لوط (ع) إذا نزل

١٩٢

به الضّيف كتم امره مخافة ان يفضحه قومه وذلك انّه لم يكن للوط (ع) عشيرة فيهم (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) نقل انّهم كانوا أولاد مدين بن إبراهيم (ع) وشعيب كان منهم وسمّوا باسم جدّهم وسمّيت قريتهم به أيضا وهي لا تكمل أربعين بيتا (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) والبيّنة هي محاجّته الواضحة الّتى لا يمكنهم ردّها لانّها كانت ممّا يرتضيها كلّ ذي شعور خال عن اللّجاج ، فانّ معرفة الرّسول برسالته اولى من معرفته بالمعجزة أو معجزة كانت له مثل معجزة صالح ولكن لم تذكر لنا (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) يعنى بعد إتيان البيّنة لا عذر لكم في عدم قبول قولي فتقبّلوه وأوفوا الكيل والميزان والإيفاء أداء تمام ما حقّه ان يؤدّى والمراد إيفاء ما يتقدّر بالكيل والوزن نسب إليهما لاستلزام نقصان المكيل نقصان الكيل وكذا الموزون وما يوزن به كما نسب النّقص إليهما في محلّ أخر ، ولا يخفى عليك تعميم الكيل والميزان للمحسوس منها وغيره من الأنبياء والأولياء وأخلاقهما وسننهما وآدابهما ومن الكتب السّماويّة والشّرائع الالهيّة ، وهكذا التّعميم في العالم الكبير والصّغير (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) امّا تأكيد لايفاء الكيل والميزان على ان يكون المراد بالأشياء هي المكيلات والموزونات أو يكون المراد بالمكيل والموزون هو مطلق الأشياء بناء على تعميم الكيل والميزان ، فانّه ما من شيء جسمانىّ أو غير جسمانىّ الّا يمكن فيه تحديد أو تعميم بعد تخصيص على ان يكون المراد بالمكيل والموزون المتقدّرين بالآلة المخصوصة ، أو تأسيس وتفصيل مع سابقه لكيفيّة المعاشرة على ان يكون المراد ببخس النّاس أشياءهم أخذ الزّيادة عن الحقّ منهم ، أو تخصيص بعد تعميم بناء على تعميم الكيل والوزن حتّى يكون اعمّ من المعاملة مع النّاس ومن المعاملة مع الله ويكون شاملا لجميع الأشياء وتخصيص البخس بالنّاس أو بينهما عموم من وجه بناء على تخصيص الكيل والميزان بما يتقدّر بهما سواء كان المعاملة مع الله أو مع النّاس وتعميم الأشياء وتخصيص البخس بالنّاس (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) تعميم بعد تخصيص كسابقه أو تأسيس على ان يكون المراد بالإفساد اهراق الدّماء وإلقاء العداوة بين العباد والأسر والنّهب والتّعدّى عليهم ومنع جميع الحقوق من أهلها واعطائها لغير أهلها ، أو على ان يكون المراد بالإفساد هو منع العباد من طريق الآخرة وهو طريق الولاية فيكون قوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) تفسيرا له ، والمراد بالأرض اعمّ من ارض العالم الصّغير والعالم الكبير (بَعْدَ إِصْلاحِها) بالعقل في الصّغير وبالأنبياء وأوصيائهم في الكبير ، والمراد بهذا القيد بيان انّ الواقع هكذا والاشعار بغاية قبح الإفساد لا التّقييد به (ذلِكُمْ) المذكور من الإيفاء وترك البخس والإفساد (خَيْرٌ لَكُمْ) ممّا تزعمونه خيرا من جلب النّفع بالتّطفيف والإفساد ، أو المراد مطلق الفضل لا التّفضيل فانّه كثيرا ما يستعمل من غير ارادة التّفضيل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) معتقدين بالله والآخرة شرط تهييج بناء على كون ايمانهم بالله مقطوعا به للمتكلّم والمخاطب بحسب إقرارهم ، أو شرط تقييد بناء على كونه مشكوكا فيه أو منزّلا منزلة المشكوك سواء قدّر الجزاء موافقا لاوفوا (الى آخره) أو موافقا لقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) وعلى التّقييد يكون بمفهومه تهديدا لهم يعنى ان لم تكونوا مؤمنين فافعلوا ما شئتم أو فليس ذلكم خيرا لكم بل لم يكن حينئذ فرق بينه وبين ضدّه لكم (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) اخّره عن قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) اشارة الى عدم تسويته مع ما سبق في القبح وانّه لا يتصوّر فيه خير

١٩٣

نفسانىّ أيضا وانّه أقبح الأشياء للمؤمنين وغيره ، وقيل في نزوله : انّهم كانوا يقعدون في الطّريق يتوعّدون من أراد شعيبا ومن آمن به ويلقون الشّبهات على الخلق بإظهار اعوجاج دينه واختلال طريقه كما كان ديدن الخلق كذلك قديما وجديدا خصوصا في زماننا هذا ، أو المقصود نهيهم من القعود في طرق النّفوس كالشّيطان وصدّ سبيلهم الى الله والى خلفائه (وَتَصُدُّونَ) عطف على توعدون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ) اى بالله يعنى تصدّون من أيقن بالله عن سبيل الله الّتى هي قبول النّبوّة بالبيعة العامّة أو تصدّون من آمن بالله بقبول الدّعوة العامّة وبالبيعة النّبويّة عن سبيل الله الّتى هي قبول الولاية بالبيعة الخاصّة (وَتَبْغُونَها عِوَجاً) تطلبون لسبيل الله اعوجاجا حتّى تظهروه على الخلق وتصدّونهم عنها أو تبغونها من حيث عوجها أو تبغونها حالكونها معوجّة يعنى ان كانت معوّجة تطلبونها بخلاف ما إذا كانت مستقيمة لاعوجاجكم (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) بعد ما أمرهم ونهاهم بضدّ فعلهم ذكّرهم نعمة الله الّتى هم فيها من البركة في النّسل أو في المال ليكسر به سورة غضبهم حتّى يستعدّوا لقبول نصحه بتذكّر النّعمة وشكرها (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ذكّرهم النّعمة الّتى هي اثر رحمته تعالى والنّقمة اللّاحقة لأمثالهم بسبب الإفساد الّتى هي اثر غضبه جمعا بين اللّطف والقهر والتّبشير والإنذار كما هو وظيفة الدّعوة والنّصح (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) الإتيان بأداة الشّكّ امّا للتّجاهل أو لشكّ المخاطب (فَاصْبِرُوا) فانتظروا ، الخطاب لمجموع الطّائفتين وعدا للمؤمنين ووعيدا للكافرين (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) امّا في الدّنيا بنصرة المحقّ على المبطل أو في الآخرة بأنعام المحقّ والانتقام من المبطل.

الجزء التّاسع

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) بعد العجز عن المحاجّة والحجّة أجابوه بالتّخويف كما هو شأن أهل الزّمان من المبادرة الى التّهديد بالقتل ونحوه عند العجز عن الحجّة (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) لمّا كان اعتقادهم انّ شعيبا كان على ملّتهم ثمّ خرج منها وادّعى النّبوّة إعزازا لنفسه قالوا : لتعودنّ ، أو كان (ع) قبل التّكليف مستنّا بظاهر سننهم ثمّ خرج منها حين الرّشد أو حين إظهار النّبوّة أو غلّب جانب اتباعه في اطلاق العود ، عليه أو العود بمعنى الصيرورة من الأفعال النّاقصة ، وعلى اىّ تقدير لا يلزم منه ان يكون (ع) على ملّة باطلة حتّى يرد انّ الأنبياء (ع) معصومون عن الخطاء والشّرك (قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) تعيدوننا في ملّتكم يعنى انّ الدّخول في الملّة حقيقة لا يكون الّا عن اعتقاد بصحّتها ، ولا يقع الاعتقاد بصحّة ملّة الّا من حجّة ، ولا حجّة لكم على صحّتها بل لي الحجّة على بطلانها فكيف يتصوّر لي الدّخول في ملّتكم مع كراهتي للدّخول فيها (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً) مصدر تأكيدىّ أو الكلام مبتن على تجريد الافتراء من مفهوم الكذب (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) يعنى ان عدنا في ملّتكم يلزمنا الافتراء على الله وهو الّذى افرّ منه واذمّكم عليه ، ولزوم الافتراء امّا باعتبار ادّعاء النّبوّة من الله ، أو باعتبار تصحيح ملّتهم مع انّها عند الله باطلة ، أو باعتبار ابطال ملّتهم قبل العود فانّه يلزم عند العود

١٩٤

فيها افتراء ابطالها ، أو باعتبار ابطال ملّته بعد الدّخول أو باعتبار الكلّ (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) وفي إتيان نجّينا دون أخرجنا دلالة على انّه (ع) لم يكن على ملّتهم ، ولمّا كان المفهوم من قولهم (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) بحسب المقام تهديدهم بإجبار العود لم يكتف في الجواب بقوله (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) وأتى بما يدلّ على انّهم لا يقدرون على الإجبار الّا إذا شاء الله ليكون ردّا عليهم وإظهارا لدعوى التّوحيد بوجه آخر فقال (وَما يَكُونُ لَنا) يعنى ما يمكن لنا فلا يمكن لكم إجبارنا أيضا (أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) التّوصيف للاشارة الى انّ له التّصرّف والتّعريض بعدم جواز تصرّف الكفّار في وجودهم ليصير كالعلّة لتعلّق العود على المشيّة (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) كرّر ربّنا لازدياد تمكّن ربوبيّته والجملة امّا حال من الله أو مستأنفة جوابا لسؤال محتمل أو للمدح (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) وضع الظّاهر موضع المضمر تمكينا له بالالهيّة في النّفوس واشعارا بعلّة الحكم (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) التجأ الى الله واستغاث منه بعد ما حاجّ قومه وأجابهم بما أجابهم ولم ينجع فيهم ، والفتح بمعنى القضاء أو بمعنى الفصل أو من الفتح الّذى يستعمل في الأمور الصّعبة (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) في الدّنيا بعدم عزّتكم في الخلق وعدم حسن معاشرتهم معكم ، وفي الآخرة باستحقاقكم العذاب لضلالتكم وعدم شفيع لكم لانحرافكم عن الأصنام وأمثالها ، وعن السّيرة الّتى شاهدناها من آبائنا وكنّا عليها واعتدناها وما تضرّر نابها (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزّلزلة ولا ينافي هذا ما في سورة هود من قوله تعالى وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة في حقّ قوم شعيب لانّ الزّلزلة قلّما تنفكّ عن الصّيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) جثم الإنسان من باب ضرب ونصر لزم مكانه فلم يبرح أو وقع على صدره أو تلبّد بالأرض (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) اى في الدّار سواء أريد منها القرية أو الدّور ، والمعنى المنزل ووضع الموصول موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وذمّا لهم بهذا الوصف وتمكينا له في الأذهان ليكون عبرة ولذلك كرّره وقال (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) وهو ردّ لقولهم (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ولكونه ردّا عليهم جاء بضمير الفصل للاشارة الى الحصر الاضافىّ (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) بعد إهلاكهم أو قبل إهلاكهم ، وإتيان الفاء للتّرتيب في الاخبار لا في التّحقّق (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) اى كيف احزن عليهم لهلاكهم مع كفرهم أو كيف أدعو لهم ولا ادعو عليهم (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ) البأساء الشّدّة والفقر والشدّة في الحرب (وَالضَّرَّاءِ) في الأموال والأنفس (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) اعلم ، انّ المانع من قبول النّبوّة والانقياد تحت احكام القالب وكذا من قبول الولاية والانقياد تحت احكام القلب هو استبداد الإنسان بالرّأى واستقلاله في الأمر وظنّ عدم احتياجه الى غيره ، وكلّ ذلك من صفات النّفس والخيال ، وهذه هي المانعة من ظهور حقّيّة المحقّ وبطلان المبطل ، ولمّا كان تماميّة الدّعوة بوجود الدّاعى ودعوته واستعداد القابل واستحقاقه وانتفاء المانع ومنعه فاذا أراد الله تعالى

١٩٥

هداية قوم ودعوتهم الى الحقّ ، سواء كان ذلك في العالم الكبير أو الصّغير بعث إليهم من يدعوهم اليه ليتحقّق الدّعوة وأخذ المدعوّين بالبأساء والضّراء ، ليستعدّوا بذلك ويرتفع المانع من قبول دعوة الدّاعى والحاجب من ظهور حقّيّته وليتضرّعوا ويلتجؤا بترك الاستبداد والانانيّة حتّى يستحقّوا بذلك رحمة الله وقبول دعوة الدّاعى (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) يعنى عادتنا الابتلاء تارة بالسّيّئات وتارة بالحسنات ليتمّ حجّتنا ودعوتنا ولم نجعلهم مسلوبي الاختيار في قبول الدّعوة فانّه في إجبارهم لا يحصل المطلوب من امتياز السّعيد عن الشّقىّ وعمارة الدّارين (حَتَّى عَفَوْا) محوا عن قلوبهم آثار البأساء والضّرّاء وألمهما أو محوا تضرّعهم والتجاءهم أو زادوا في المال والأولاد أو زادوا في العلم فبطروا (وَقالُوا) حالا أو قالا (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) يعنى انّ الضّرّاء والسّراء من عادة الدّهر قالوا ذلك للتّلويح بانّه لا ينبغي ترك التّمتّع ولا الالتجاء والتّضرّع (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) من غير تقديم أمارات (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لعدم تقدّم الأمارات (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) قرى العالم الكبير أو قرى العالم الصّغير (آمَنُوا) بالبيعة العامّة (وَاتَّقَوْا) بالبيعة الخاصّة فانّ التّقوى الحقيقيّة لا يمكن حصولها الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة ، لانّ حقيقة التّقوى كما سبق هي التّحرّز عن الطّريق الحقيقيّة لا يمكن حصولها الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة ، لانّ حقيقة التّقوى كما سبق هي التّحرّز عن الطّريق المعوجّة النّفس الّتى توصّل السّالك الى الملكوت السّفلى ، وبعبارة أخرى هي التّحرّز عن السّلوك الى الملكوت السّلفى ودار الجنّة ولا يمكن ذلك التّحرّز الّا بامتياز الطّريق المستقيم الّذى يوصل سالكه الى الملكوت العليا وسلوك ذلك الطّريق ، ولا يحصل الامتياز الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة لانّ بها انفتاح باب القلب الى الملكوت العليا وظهور طريقه إليها الّذى هو الطّريق المستقيم ، وللاشارة الى هذا المعنى أخّر التّقوى هاهنا عن الايمان وان كانت بمعنى آخر مقدّمة على الايمان ، أو المعنى ، لو انّ أهل القرى آمنوا بالايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة واتّقوا ما ينافي ايمانه الدّاخل في قلبه من الفعليّة الحاصلة في قلب المؤمن من قبول الولاية ومن الذّكر المأخوذ من صاحبه ومن الفكر الحاصل من مداومة الذكّر الّذى هو ملكوت الامام وصورته المثاليّة الّتى تظهر على قلب المؤمن السّالك ويشاهدها في مرآة صدره ؛ هذا في الكبير ، وامّا في الصّغير فالمعنى لو انّ أهل القرى آمنوا وأذعنوا بحكومة العقل ولا سيّما العقل المنقاد لولىّ الأمر وأطاعوه في حكومته واتّقوا من مخالفة احكامه (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) اعلم ، انّ الإنسان بحسب التّحليل الاوّل ينحلّ الى جزء روحانىّ سماوىّ وجزء جسمانىّ ارضىّ ، وله بحسب كلّ جزء حاجات وطلبات وملائمات ومنافرات وهما اللّتان يعبّر عنهما بالخيرات والشّرور ، والبركة هي الزّيادة والكثرة في الخيرات فاذا آمن الإنسان وانقاد لكثر خيراته الجسمانيّة الحاصلة من الأرض وخيراته الرّوحانيّة الحاصلة من السّماء ، وأيضا كثر خيراته الرّوحانيّة والجسمانيّة من اعتناق سماوات الطّبع مع ارض الطّبع ، ومن اعتناق سماوات الأرواح مع أراضي الأشباح النّوريّة والظّلمانيّة ذلك تقدير العزيز العليم (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرّسل (ع) وأوصياءهم (ع) والعقل وحكمه (فَأَخَذْناهُمْ) اى عاقبناهم (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من نتائج أعمالهم وتكذيبهم (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) امّا بتقدير معطوف بين الهمزة والفاء اى الم يؤمنوا بعد ذلك فأمنوا ، أو هو على التّقديم والتّأخير معطوف على أخذناهم بتقدير القول والتّقدير فيقال بعد ذلك : أأمن أهل القرى (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) والمقصود من أهل القرى المكّذبون لمحمّد (ص) والواقفون من الايمان به (أَوَأَمِنَ

١٩٦

أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) وقت ارتفاع الشّمس (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) لمّا كان المقام مقام التّهديد كرّر أهل القرى ولفظ بأسنا جريا على ما عليه العرف في المخاطبات فانّهم كثيرا ما يكرّرون الألفاظ من شدّة الغيظ أو لتمكين التّهديد (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) أتى بالفاء لتفاوت ما بين البأس حين الغفلة والمكر بخلاف بأس اللّيل وبأس الضّحى ، فانّ إتيان عذاب الله امّا مع تقدّم أمارات له أو من غير تقدّم أمارات وهو البأس بغتة حين النّوم أو حين اللّعب أو مع تقدّم أمارات ضدّه وهو المسمّى بالاستدراج والمكر لشباهته بمكر المخلوق (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) بنقص عقولهم الّتى هي بضاعتهم فانّ العاقل حين تجدّد النّعمة يحتمل النّقمة بالنّعمة فيخاف عاقبتها بخلاف الجاهل فانّ نظره الى صورة النّعمة لا يتجاوزها الى احتمال اندراج النّقمة فيها (أَوَلَمْ يَهْدِ) قرئ بالنّون وبالغيبة وعلى هذا القراءة فالفاعل ضمير المصدر اى الم يقع الهدى أو ضمير أخذ المكّذبين بما كانوا يكسبون ، أو الفاعل قوله ان لو نشاء أصبناهم يعنى الم يهد قدرتنا على الاصباة ان شئنا ، بمعنى علمهم بقدرتنا من ملاحظة حال الماضين (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) اللّام للتّقوية أو لتضمين يهد معنى يبيّن اى الم يبيّن للّذين يرثون الأرض (مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أو من بعد إهلاكنا أهل الأرض (أَنْ لَوْ نَشاءُ) اى انّه لو نشاء وهو مفعول ثان ليهد أو فاعل كما ذكر (أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كما سمعوا وشاهدوا من الماضين (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) عطف على أصبناهم أو على الم يهد فانّ الاستفهام التّوبيخيّ يقرّر ما بعده نفيا كان أو اثباتا كأنّه قيل: ما يهتدون الى طريق الآخرة والتّوحيد ونطبع أو هو مستأنف بمعنى ولكن نطبع على قلوبهم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الخبر (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) بعض انبائها (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) استخدام في الضّمير أو المراد بالقرى أهلها مجازا (بِالْبَيِّناتِ) بأحكام الرّسالات أو الحجج والمعجزات الواضحات (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) دخول كان في مثله لتأكيد النّفى (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) من احكام العقل والنّبوّة التّكوينيّة ، فانّ من انقاد للعقل قبل ظهور دعوة النّبىّ يقبل دعوة النّبىّ ومن كذّب العقل يكّذب النّبىّ لا محالة لانّ النّبىّ عقل بوجه والعقل نبىّ بوجه ، أو بما كذّبوا في الّذرّ كما في الاخبار ، وبعد التّحقيق يرجع التّكذيب في الّذرّ والتّكذيب بالعقل الى امر واحد (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) يعنى كما طبع الله على قلوب أهل هذه القرى حتّى لا يؤمنوا مع ظهور الحقّ يطبع الله على قلوب جملة الكافرين (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) بمنزلة التّعليل للطّبع والمراد بالعهد هو العهد مع النّبىّ (ص) أو الولىّ وبعبارة اخرى هو عقد الإسلام أو الايمان ، أو المراد بالعهد هو الفعليّة الحاصلة من عقد البيعة يعنى ما عاهدوا أو عاهدوا وأبطلوا ؛ ولا ينافي ذلك ما ورد في الاخبار من تفسير العهد بوفاء العهد الحاصل في الّذرّ فانّ المراد بالوفاء بالعهد في الّذرّ هو قبول النّبوّة أو الولاية (وَإِنْ وَجَدْنا) انّه وجدنا (أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) خارجين من حكومة العقل ، فانّ الفسق هو الخروج من تحت حكم الله سواء كان على لسان النّبىّ الخارجىّ أو الباطنىّ وبعد تفسير العهد بما ذكر فالاولى تفسيره بالخروج من حكومة النّبىّ الباطنىّ موافقا لما سبق في تفسير قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا) التّسع (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ

١٩٧

فَظَلَمُوا بِها) يعنى ظلموها لانّهم وضعوا موضع الإقرار بما ينبغي الإقرار به لوضوحه وظهوره الكفر به ، ولذا بدلّ الكفر بالظّلم وعدّاه بالباء على تضمين معنى الكفر ، أو مثل معنى الإلصاق ، أو ظلموا موسى بسبب الآيات الّتى هي أسباب الطّاعة فيكون اشارة الى نهاية وقاحتهم وظلمهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من إغراق فرعون وملائه وإهلاك الأمم السّابقة بما اهلكوا به (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) إليكم (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) كان القياس ان يجعل ان لا أقول على الله الّا الحقّ مرفوعا بحقيق ويجعل مدخول على هو المتكلّم كما قرئ به ، لكنّه قلب مجازا للمبالغة في الصّدق كأنّه امر متجوهر والمتكلّم من أوصافه ، أو للاشارة الى ما هو حقيقة الأمر من اصالة الوجود واعتباريّة المهيّات فانّ الإنسان على المذهب الحقّ نحو من الوجود متحدّد بالحدود المتعيّنة ووصفات الوجود متّحدة معه والتّغاير في مفهومها فقط ، والحدود أمور اعتباريّة عدميّة لا حقيقة لها والوجودات الامكانيّة لا استقلال لها ولا انانيّة بل هي متعلّقات محضة وفقراء الى الله والله هو الغنىّ ، والانانيّة الّتى هي عبارة عن الاستقلال انّما هي باعتبار الحدود العدميّة فهي من اعتبارات الإنسان وتابعة لحقيقته لا انّها حقيقته فهي تابعة لصدقه الّذى هو حقيقته ، فصحّ ان يقال انا حقيق على الصّدق بهذا الاعتبار كما يصحّ ان يقال حقيق ان لا أقول على الله الّا الحقّ علىّ بتشديد الياء باعتبار ملاحظة مفهومى الانانيّة والصّدق وبهذا الاعتبار قيل : حقّ القضايا الّتى تنعقد بين الممكنات ان يجعل الموضوع نحوا من الوجود والمحمول مهيّة من المهيّات فيقال : الوجود إنسان مثلا ، لانّ الانسانيّة الّتى هي عبارة عن حدّ الوجود عرض تابع للوجود والوجود متبوع ، وقيل فيه بتضمين حقيق معنى حريص وكون على بمعنى الباء وغير ذلك من الوجوه ، وقرئ بوجوه أخر غير ما ذكر أيضا ، ولمّا كانت الدّعاوى العظيمة من شأنها ان لا يسامح فيها ولا تسمع الّا ببيّنة وشاهد بادر إليها قبل مطالبتها فقال (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فاقبلوا قولي ولا تخالفوا (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ولمّا كان صحّة الدّعوى وسقمها منوطة بالبيّنة طالبها منه ولم يتعرّض لغيرها (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) اى من خواصّهم خطابا للملأ الاخرى حوله من غير الخواصّ ولعلّ فرعون شاركهم في هذا القول بقرينة قوله (فَما ذا تَأْمُرُونَ) فلا ينافيه ما في الشّعراء من قوله تعالى : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) ويحتمل ان يكون قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ) مستأنفا من فرعون وان يكون هذا مع ما في الشّعراء في مجلسين (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) وتشيرون (قالُوا) قالت الخواصّ أو الملأ حوله غير الخواصّ (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) من الارجاء بمعنى التّأخير يعنى أخّر أمرهما حتّى يمكن لك التّدبير ، قرئ ارجئه على الأصل بسكون الهمزة وضمّ الهاء ، وارجئه بسكون الهمزة وكسر الهاء على خلاف القياس ، وارجهى من أرجيت بكسر الهاء مع الإشباع ، وارجه بكسر الهاء بدون الإشباع وارجه بسكون الهاء مع الإشباع وارجه بكسر الهاء بدون الإشباع وارجه بسكون الهاء ، تشبيها له بالواو والياء الضّمير من كما قيل ، أو تشبيها لهاء الضّمير بهاء السّكت أو اجراء للوصل مجرى الوقف (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) يعنى فأرسل وحشروا

١٩٨

وجاؤا فرعون (قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) وقرئ بهمز واحد على المعاهدة والميثاق (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) يعنى ابتداء (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) خيّروه إظهارا للأدب أو الجلادة وعدم المبالاة بما يقابل سحرهم ، لكن لرغبتهم في الإلقاء ابتداء غيّروا النّظم واكّدوا الجملة وان ذكروا القاءهم مؤخّرا جلادة أو مراعاة للأدب (قالَ أَلْقُوا) قدّمهم على نفسه كرما ومقابلة لادبهم بترجيحهم على نفسه وقلّة مبالاة بسحرهم (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) السّحر يقال لكلّ علم وعمل خفىّ مدركه ومأخذه سواء كان بتمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة أو بالتّصرّف في القوى الطّبيعيّة فقط ، ويقال لتمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة واحداث آثار خارجة عن مجرى العادة ومنه التّصرّف في المدارك البشريّة بحيث يرى ويسمع ما لا حقيقة له ، وكأنّهم سحروا بتسخير الرّوحانيات الخبيثة وتمزيجها مع القوى الطّبيعيّة واحداث آثار خارجة عن العادة ولذا قال سحروا أعين النّاس ، فما نقل : أنهم القوا حبالا وعصيّا مجوّفة مملّوة من الزيبق ؛ ان كان صحيحا كان أحد جزئي سحرهم من القوى الطّبيعيّة والّا لم يكن لنسبة السّحر الى أعين النّاس حينئذ وجه (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) نقل انّ السّاحة الّتى القوا سحرهم فيها كانت ميلا في ميل وملئوا الوادي من الحبال والخشب الطّوال المتحرّكة كأنّها أفاع عظيمة ولذلك أوجس في نفسه خيفة موسى (ع) (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ) حية (تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) من الافك بمعنى الصّرف وقلب الشّيء عن وجهه نقل ، انّها لمّا تلقفت حبالهم وعصيّهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتّى هلك جمع كثير منهم ، ثمّ أخذها موسى (ع) فصارت عصا فأيقن السّحرة انّها لو لم تكن الهيّة لبقي حبالهم وعصيّهم واعترفوا برسالة موسى (ع) ونقل ، انّهم قبل الموعد آمنوا بموسى (ع) خفية وأظهروا ايمانهم يوم الموعد (فَوَقَعَ الْحَقُ) اى ثبت (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا) اى قوم فرعون والسّحرة جميعا أو قوم فرعون (هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) كأنّهم ألقاهم ملق من شدّة اضطرابهم كأنّه لم يبق لهم تماسك (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بيّنوا المجمل بالابدال منه (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) اى مدينة مصر (لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) المالكين لها المتصرّفين فيها وهم القبطيّة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تهديد لهم (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) اليد من جانب والرّجل من جانب آخر (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) تعذيبا وتفضيحا لكم وعبرة لغيركم توعيد وتغليظ (قالُوا) إظهارا لعدم مبالاتهم بتوعيده (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فالموت والقتل كان خيرا لنا فتهديك بالقتل بشارة لنا لا تهديد كما زعمت ، وفي قولهم : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ؛ اشارة الى هذا ، أو المقصود انّا نحن وأنتم الى ربّنا منقلبون آخر الأمر فيجازى كلّا بحسب عمله وفي قولهم (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا) اشعار بهذا المعنى يعنى نحن وأنتم راجعون الى الله والحال انّ انتقامكم منّا ليس الّا بسبب ايماننا بربّنا فأنتم اولى بالخوف منّا فيكون تهديدا لهم ، ولمّا أظهروا عدم مبالاتهم بتهديده خافوا من عدم ثباتهم وصبرهم على القطع والصّلب فتضرّعوا الى الله تعالى

١٩٩

واستغاثوا وقالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) عظيما ولذلك قالوا افرغ اشارة الى كثرته تشبيها له بالماء الكثير ونكرّوا صبرا (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) لنبيّك مسلمين لقضائك ، نقل انّه فعل بهم ما أوعدهم ونقل ، انّه لم يتيسّر له (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) بعد ظهور امر موسى (ع) وقوّته لفرعون (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ارض مصر بتغيير الخلق ودعائهم الى مخالفتك وترك دينك وترك العبادة لك (وَيَذَرَكَ) اى عبادتك أو سلطنتك (وَآلِهَتَكَ) أصنامك الّتى تعبدها أو الأصنام الّتى صنعتها لان يعبدوها ليتقرّبوا بها إليك كما قيل : انّه صنع لهم أصناما ليعبدوها للتّقرّب اليه ، وقرئ والهتك مصدرا بمعنى عبادتك (قالَ) جوابا لهم (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) قاله إظهارا لتسلّطه وتسكينا لقومه مع خوفه من موسى (ع) ولمّا وصل ذلك الخبر الى موسى (ع) وقومه ورأى فزعهم من تهديده (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) تسلية لهم ووعدا (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) بالتّضرّع عليه والالتجاء اليه (وَاصْبِرُوا) على يسير أذاه (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) في موضع التّعليل (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) لا لفرعون وقومه حتّى يفعلوا فيها ما يشاؤن فالتجئوا اليه واسئلوا منه وخافوا منه لا من غيره (وَالْعاقِبَةُ) الحسنى الّتى هي الآخرة ودار الكرامة (لِلْمُتَّقِينَ) الجزع عند الشّدائد ، وعد وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتسليطهم على مصرفى الدّنيا ومن الجنان في الآخرة (قالُوا) تضجّرا بوعده وعدم إنجازه (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) متسلّين بوعد مجيئك (وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) فبم نتسلّى بعد مجيئك (قالَ) بعد تضجّرهم بوعده (عَسى رَبُّكُمْ) أتى بكلمة التّرجّى وصرّح بهم بعد ما وعدهم بالقطع وعرّض بهم خوفا من إنكارهم وردّهم وتسلية لهم تصريحا (أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ارض مصر (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ) السّنة غلبت على عام القحط ولذا أطلق السّنين (وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ) بعاهات اخرى غير الجذب (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) انّ الخصب والسّعة بقدرة الله لا باختيارهم فيؤمنوا برسله ولا يجحدوه ، فانّ المانع من قبول الحقّ هو قوّة الخيال وجولانه في الخواطر وعند الشّدائد يضعف الخيال ولا يمنع من تذكّر الحقّ وقبوله (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) بيان لغاية سفاهتهم ووخامة رأيهم حيث عقّبوا ما غايته التّذكّر وقبول الحقّ بالتّأنّف وجحوده ، وفي الإتيان بإذا ومضىّ الفعل وتعريف الحسنة اشارة لطيفة الى كثرة الحسنة بحيث لا ينكر تحقّقها ومعهوديّتها لكثرة دورانها بخلاف قرينتها فانّها لندورها كأنّها مشكوك فيها ولم تتحقّق وان تحقّق فرد منها فكأنّها امر منكور غير معهود ولذلك أتى بان واستقبال الفعل وتنكير السّيّئة فقال (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) والمراد بالحسنة هاهنا ما يعدّونه أهل الحسّ حسنة من الصّحة والخصب وسعة المال وبالسّيّئة ما يقابلها (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) كانوا إذا استقبلهم طائر وقتما أرادوا مهمّا فان طار الى اليمين أو الى اليسار تفأّلوا وتشأمّوا كما قيل (وقيل : كانوا يتشأّمون بالبارح وهو الّذى يأتى من قبل الشّمال ويتبرّكون بالسّابح وهو الّذى يأتى

٢٠٠