تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

لْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالمعاد سواء كفروا بالمبدء أم لا (إِنْ هذا) القول بالعود (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) السّحر يطلق على عدّة معان منها القول الباطل الّذى لا يعلم وجه صحّة له وقد ابرز بتمويهات وتخييلات مبرز الحقّ (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) الّذى وعدناهم على لسانك (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الامّة هاهنا البرهة من الزّمان لكونها مقصودة متوجّها إليها والمعدودة القليلة ، أو المراد أصحاب القائم عجّل الله فرجه الثّلاثمائة وبضع عشر ؛ وقد أشير في الاخبار الى كليهما (لَيَقُولُنَ) استهزاء (ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) يوم ظهور القائم (ع) أو يوم الموت أو يوم عذاب الدّنيا أو يوم السّاعة (وَحاقَ بِهِمْ) قبل هذا الزّمان العذاب الموعود فانّ مادّته محيطة بهم وصورته مكمونة فيهم لكن لا يشعرون به لغشاوة أبصارهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) نعمة صحّة وسعة وولد (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) عن اعطائها لعدم صحّة اعتقاده بفضلنا (كَفُورٌ) لتعلّق قلبه بالنّعمة نفسها وبعد انتزاعها لا يبقى له حالة شكر على النّعمة لغفلته عن المنعم وانقطاعه بالزّوال عن النّعمة (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) كان حقّ العبارة ان يقول: ولئن أصبناه بضرّاء ثمّ كشفناها عنه حتّى يوافق قرينته لكنّه تعالى أراد أن يفتتح القرينتين بنسبة الانعام اليه ولا ينسب مسيس الضّرّ الى نفسه لانّه تابع لاعمال الإنسان (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) لانّ نظره كان مقصورا على صورة النّعمة غير متجاوز الى المنعم والى غاية النّعمة (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) جواب سؤال عن علّة القول اى يقول ذلك لانّ في جبلّته الفرح بالنّعمة والفخر على الخلق بها أو جواب سؤال عن حال القائل (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فانّهم لصبرهم وثباتهم على النّظر الى المنعم لا يخرجهم زوال النّعمة الى اليأس والكفران غفلة عن المنعم ولا تجرّهم النّعمة الى البطر والفخر لخوفهم عن الاستدراج وعن زوالها (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والمراد بالصّبر حقيقة هو الدّخول في الإسلام وتحت احكام النّبوّة ولقد فسّر الصّبر في قوله واستعينوا بالصّبر بمحمّد (ص) لنبوّته والمراد بعمل الصّالحات حقيقة هو الدّخول في الايمان وتحت احكام الولاية وقد فسّر الصّلوة في الآية المذكورة وهي أصل الأعمال الصّالحة بعلىّ (ع) لولايته (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) في فضيلة علىّ (ع) أو في ولايته كما روى انّه (ص) دعا لعلىّ (ع) فاستهزأ قومه أو انّه (ص) بعد ما نزل الوحي بولاية علىّ (ع) خاف من تكذيب قومه فنزل الآية أو بعض ما يوحى إليك مطلقا على ظاهره (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) لان يقولوا أو كراهة ان يقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ان كان صادقا في انّه ينزل عليه الوحي أو في انّه يجاب دعاؤه (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) فيعينه أو يصدّقه (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) تعليل للمقصود من قوله لعلّك تارك يعنى لا ينبغي لك التّرك لقولهم واستزهائهم لانّ شأنك الإنذار وليس عليك قبولهم وردّهم حتّى تترك شأنك لردّهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) لا أنت فعليه ترك الإنذار والإهمال حيثما استحقّوا ذلك والأمر بالإنذار والرّدع عن المساوى حيثما استحقّوا ذلك وعليه اثابة الفاعل وعقوبة المنكر فليس عليك الّا ما هو شأنك من الإنذار والتّبليغ ما لم تنه عنه من الله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ) متحدّيا معهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) فيما تدركون منه من حسن

٣٢١

النّظم وتناسق الحروف والكلمات وتأدية معان كثيرة بألفاظ قليلة والإتيان بحقّ ما يقتضيه كلّ مقام والتّأدية بأحسن ما يمكن التّأدية به بحسب كلّ مقام ، وامّا ما لا تدركونه منه ممّا يترتّب على حروفه من فوائد العلوم المنوطة بحروفه من علم الاعداد والحروف والطّلسمات ، وممّا يستنبط منه من المغيبات الّتى كلّها عند أهل القرآن وليس لأحد الوصول إليها الّا بتطهير قلبه من الاحداث والاخباث ودخوله في سلك المشاهدين أو المتحقّقين بحقيقة القرآن ، لانّ القرآن لا يمكن مسيسه الّا للمتطهّرين فلا كلام فيه معكم فانّكم متباعدون عن التّخاطب بأمثال هذه (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) من الشّياطين والجنّة الّتى يدعوها الكهنة ، ومن الكواكب والأصنام الّتى يدعوها المشركون ، ومن الفصحاء الّذين يظنّهم النّاس قادرين على الإتيان بمثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انّه مفترى (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) اى ان لم يستجب الشّركاء لكم ايّها المنكرون أو ان لم يستجب المنكرون لكم ايّها المؤمنون الى ما تحدّيتم به ، ولمّا كان الغرض من هذا التّحدّى تسلية المؤمنين وتقوية ضعفاء المسلمين جعلهم شركاء له (ص) في الخطاب على هذا الوجه ، ويجوز ان يكون هذا ابتداء كلام ويجوز ان يكون مقول قوله (ص) (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ) القرآن (بِعِلْمِ اللهِ) اى باطّلاعه أو انّ الّذى انزل انزل باطّلاع الله لا بافتراء عليه (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يعنى انّ الّذين يدعونه من دون الله من الشّياطين والأصنام والكواكب لا تصرّف ولا تسلّط لهم على شيء ولا استحقاق للعبوديّة الّا له يعنى انّ عجزهم عن الإتيان دليل على صدق محمّد (ص) وعلى نفى استحقاق غيره للعبادة وعلى كذب المكذّبين في دعوى الآلهة لغيره تعالى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون خالصون عن الرّيب ان كان الخطاب لضعفاء المسلمين أو فهل أنتم معتقدون لدين الإسلام داخلون فيه ان كان الخطاب للكّفار بصرف الخطاب عن المسلمين الى المشركين يعنى ان علمتم ايّها المؤمنون أو ان عجزتم وعلمتم عجز شركائكم ايّها المشركون فهل أنتم مسلمون (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) بأعماله الاسلاميّة وارتكاب صور الأعمال الحسنة وتحمّل المشّاق وإنفاق الأموال في حفظ الإسلام واعلائه كما فعل المنافقون من أصحاب الرّسول (ص) واظلالهم من اتباعهم الى يوم القيامة وكلّ من تحمّل المتاعب الشّديدة من متاعب الغربة والاسفار البعيدة والصّبر على الجوع والحرّ والبرد في تحصيل المسائل الدّينيّة لغرض الوصول الى المناصب الدّنيويّة داخل في مصداق الآية ويدلّ على هذا التّفسير قوله تعالى (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) لانّ توفية الأعمال في الدّنيا ليست الّا لمن عمل الأعمال الصّالحة صورة وذلك لان يخرجوا من الدّنيا ومالهم من صورة أعمالهم المشابهة لاعمال المؤمنين شيء (وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) هذا بحسب حال الأغلب والّا فقد يريد الدّنيا ويتعب نفسه في تحصيلها وفي تحصيل العلم وارتكاب صور الأعمال الشّرعيّة لغرض من الأغراض الدّنيويّة ولا يصل إليها كما ترى من حرمان بعض عن أغراضهم فليس له الآخرة لانّها لم تكن مقصودة له ولا الدّنيا لحرمانها عنها فيشبه دنياه آخرة يزيد لعنه الله وآخرته دنيا ابى يزيد ولهذا قيّد الإتيان في آية اخرى بما يشاء لمن يشاء (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) اى في الدّنيا أو في الآخرة ظرف للصّنع أو للحبط (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لمّا توهّم من ذكر الحبط انّ أعمالهم لها شوب من الحقّيّة قال باطل اشارة الى انّه لا حقّيّة لها أصلا بل هي بالفعل باطلة لا انّها يطرؤها البطلان في الآخرة (أَفَمَنْ كانَ

٣٢٢

عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الهمزة للإنكار والخبر محذوف اى كمن ليس له بيّنة في دعواه ويريد الدّنيا ، والمراد بالموصول محمّد (ص) أو علىّ (ع) أو جملة المؤمنين والمراد بالبيّنة الرّسول (ص) أو رسالته أو معجزاته أو كتابه أو احكام رسالته أو علىّ (ع) أو ولايته ، ويتلوه امّا من التّلاوة أو من التّلو وضمير المنصوب امّا للموصول أو للبيّنة والتّذكير باعتبار المعنى أو للقرآن بقرينة ذكره سابقا والشّاهد امّا محمّد (ص) أو علىّ (ع) أو القرآن أو البرهان الّذى يؤتيه الله المؤمن من الآيات الآفاقيّة والانفسيّة ، وضمير المجرور امّا للموصول أو للرّبّ أو للبيّنة ، وضمير من قبله راجع الى الموصول أو الى البيّنة أو الى الشّاهد ، ومن قبله كتاب موسى امّا جملة حاليّة أو معطوفة على خبر كان والجملة امّا ظرفيّة مكتفية بمرفوعها عن الخبر أو اسميّة وخبره مقدّم ، أو من قبله كتاب موسى (ع) عطف على شاهد عطف المفرد ، وإماما ورحمة امّا حال عن الموصول أو عن البيّنة أو عن الشّاهد أو عن كتاب موسى (ع) ، فهذه تسعة آلاف وسبعمائة وعشرون (٩٧٢٠) وجها حاصلة من ضرب بعض الوجوه في بعض هذا بالنّظر الى المعنى ، وامّا بالنّظر الى وجوه الاعراب واعتبارات النّحو مثل احتمال كونه إماما حالا من المستتر في كان أو في على بيّنة أو من مفعول يتلوه أو المجرور في منه أو المستتر في من قبله وكذلك احتمالات كون جملة من قبله كتاب موسى (ع) حالا من كلّ من المذكورات السّابقة ، فالوجوه والاحتمالات تصير أكثر من ذلك ويسقط بعض الاحتمالات لعدم صحّتها أو تكرّرها أو بعدها ويبقى الباقي صحيحا ، وقد أشير الى اجمالها في الاخبار وهذا من سعة وجوه القرآن وصحّة حمله على كلّ وجه ويستفاد من تفاسيرهم (ع) انّ أحسن الوجوه الّذى أمروا بالحمل عليه فيما نسب إليهم (ع) من مضمون : انّ القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه ؛ هو ما يوافق مقام البيان (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالقرآن أو الرّسول (ص) أو علىّ (ع) أو ما انزل من ولاية علىّ (ع) (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) من القرآن أو شأن رسالتك أو علىّ (ع) أو شأن ولاية علىّ (ع) ، هذا على ان يكون الخطاب لمحمّد (ص) وان كان الخطاب عامّا فالمعنى فلا تك يا من يتأتّى منه الخطاب في مرية من محمّد (ص) أو رسالته أو القرآن أو علىّ (ع) أو ولايته (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) صورة الآية عامّة في كلّ من ادّعى شيئا وادّعى انّه من الله ، مثل الوثنىّ والصّابئىّ وغيرهم من المشركين المدّعين انّ اشراكهم من الله ، ومثل المبتدعين من أصحاب الملل الالهيّة مع ادّعائهم انّ ابتداعهم من نبيّهم ومن دينهم ، ومثل المنحرفين من أهالي المذاهب المختلفة من أمّة محمّد (ص) ، ومثل أصحاب الفتاوى من العامّة ومثل أصحاب الفتاوى من أهل المذهب الحقّ من غير اذن واجازة من المعصوم (ع) عموما أو خصوصا بواسطة أو بلا واسطة ، ومثل المنتحلين للتّصوّف من غير اذن واجازة صحيحة من المشايخ الحقّة سواء كانوا مدّعين للشّيخوخة من غير اذن أو للسّلوك من غير أخذ ؛ لكنّ المقصود أصل الكاذبين الّذين نصبوا أنفسهم دون ولىّ الأمر (ع) وادّعوا انّه من الله ومن رسوله (ص) والاشهاد خلفاء الله الّذين يشهدون على اعمال أهل الأرض ويقبل الله منهم الشّهادة يوم القيامة على أهل عصرهم أو الملائكة الموكّلة عليهم (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) من قول الاشهاد ومن قول الله ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بأنّهم ظالمون وللاشارة الى انّ المراد مخالفوا آل محمّد (ص)

٣٢٣

وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بيان للظّالمين يعنى انّ الظّالمين آل محمّد (ص) حقّهم هم الّذين يعرضون عن آل محمّد (ص) ويمنعون غيرهم عنهم ، وسبيل الله هو الامام وولايته في العالم الكبير والعقل أو اتباعه في العالم الصّغير ، والاعراض عن الامام (ع) لا يكون الّا بعد الاعراض عن العقل وكذا المنع بل هما متلازمان (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) اى يطلبون لها عوجا أو يطلبونها معوجّة يعنى ان كانت معوجّة يطلبونها لا إذا كانت مستقيمة امّا لانّ الإنسان عدوّ لما جهل أو لانّه بفطرته يطلب ان يكون كلّ طريق مثل طريقه أو المعنى كما في الخبر يحرّفونها عن أهلها الى غير أهلها أو يخلطونها على الضّعفاء بإظهار ما يظنّونه عيبا فيها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) تكرير الضّمير لتأكيد الاختصاص (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) تهديد لهم وتسلية للرّسول (ص) (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) حتّى يمنعوهم من عقوبة الله ويصلحوا ما فسد من أمورهم ومن يظنّونهم أولياء ممّن نصبوهم دون ولىّ الأمر (ع) فهم لا يمنعون عن أنفسهم ولا يصلحون أنفسهم فكيف بغيرهم (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) جواب سؤال مقدّر عن حالهم أو عن حال الأولياء (ع) من دون الله كأنّه قيل : فما حال أوليائهم الّذين يتولّونهم من الأصنام والأحبار والرّهبان والرّؤساء الّذين يظنّون هم رؤساء الدّين والمقصود غاصبوا آل محمّد (ع) حقّهم ، فقال يضاعف لهم العذاب فكيف ينصرون غيرهم وهذا انسب بالمقام (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) حال من الضّمير المجرور أو استيناف أخر يعنى لشدّة العذاب لا قدرة لهم على استماع شيء أو كانوا لا قدرة لهم على سماع فضيلة علىّ (ع) في الدّنيا لبغضهم له (ع) ، واسم كان امّا ضمير الظّالمين أو الأولياء (ع) (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) بالوجهين (أُولئِكَ) الظّالمون أو الأولياء أو المجموع (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ممّا ادّعوا انتسابه الى الله من ادّعاء الخلافة والفتاوى الباطلة وادّعاء شفاعة الآلهة وشفاعة من يظنّونهم خلفاء الرّسول (ص) ورؤساء الدّين وشفعاء يوم القيامة (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) حيث بدّلوا بضاعتهم بما لم يبق منه عين ولا اثر وظنّوا انّه اجلّ عوض أخذوه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ايمانا عامّا بالبيعة العامّة النّبويّة أو ايمانا خاصّا بالبيعة الخاصّة الولويّة ودخول الايمان في قلوبهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بعد الايمان العامّ بالدّخول في الايمان الخاصّ أو العمل بشرائط الايمان الخاصّ ممّا أخذ عليهم في الميثاق والبيعة الولويّة إذ مرّ مرارا انّ أصل الصّالحات هو الولاية ولا يكون عمل صالح الّا بقبول الولاية ودخول الايمان في القلب (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) الإخبات الاطمينان مع الخشوع من الخبت بمعنى المتّسع من الأرض المطمئنة والمعنى اطمأنّوا اليه بالخشوع والانقطاع عن غيره ، والرّبّ المضاف هو الولىّ الّذى بايعوا معه بيعة خاصّة ولويّة ولا يصدق الإخبات الّا بعد لقائه بالوصول الى ملكوته والحضور عنده ، فانّ تلك البيعة تورث المحبّة والمحبّة تورث الاضطراب وعدم الاطمينان دون الاتّصال بالمحبوب ولا يقنع المحبّ بالاتّصال البشرىّ حتّى يحصل له الاتّصال الملكوتىّ ويجد المحبوب في عالمه ويتّحد معه وهو الّذى يعبّر عنه بالفكر والحضور والسّكينة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) الصّادّين عن سبيل الله والمؤمنين به (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) كالّذي يعمى في انّه لا يبصر طريقه وموبقات طريقه ، وكالّذي

٣٢٤

يصمّ في انّه لا يسمع من الصّوت ما هو مقصوده أو في انّه لا يسمع نداء منادى الله في العالم الكبير ولا في العالم الصّغير أو كالّذي يعمى ويصمّ ليكون تشبيها واحدا لا ان يكون التّشبيه تشبيهين (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) تقديم الكافرين لمراعاة اللّفّ (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ) بأنّى على قراءة فتح الهمزة : وقائلا انّى لكم (نَذِيرٌ مُبِينٌ) على قراءة كسر الهمزة ، أو هو مستأنف على هذه القراءة جوابا لسؤال مقدّر (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ان تفسيريّة وتفسير لأرسلنا أو لنذير أو لمبين على ان يكون بمعنى مظهر لإنذاري أو بمعنى ظاهر الإنذار على ان يكون النّهى عن عبادة غير الله بيانا للانذار من الله أو للافعال الثّلاثة شبه التّنازع وذلك لانّ ان التّفسيرية في الحقيقة تفسير لمتعلّق مجمل للفعل المفسّر بها ويجوز ان يكون تفسير واحد تفسيرا لعدّة أشياء مجملة كأنّه قيل : لقد أرسلنا نوحا بشيء انّى لكم نذير بشيء مبين إنذاري بشيء هو النّهى عن عبادة غير الله ، أو ان مصدريّة بدلا من انّى لكم نذير على قراءة فتح همزة انّى أو متعلّقا بأرسلنا بتقدير الباء أو اللّام على قراءة كسر همزة انّى أو متعلّقا بنذير أو مفعولا لمبين ويجوز تعلّقه بالثّلاثة على سبيل التّنازع ولا تعبدوا حينئذ يجوز ان يكون نفيا ونهيا (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) في موضع التّعليل (فَقالَ) اى فقال نوح لهم ما أرسلناه به فقال (الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) يعنى انّ المطاعيّة تقتضي ان يكون المطاع أفضل من المطيع والفضيلة امّا اضافيّة بالاضافة الى من ادّعى الانتساب اليه أو نفسيّة بكونه في نفسه أفضل من المطيع وكلاهما منتف عنك ، امّا الاوّل فلكونك بشرا مثلنا والبشر لا يكون مناسبا للخالق الّذى ادّعيت الانتساب اليه لكونك مادّيا سفليّا محدودا متحيّزا وكون الخالق بخلاف ذلك ولو فرض وجود بشر على خلاف ذلك فلست أنت ذلك لكونك مثلنا ، وامّا الثّانى فلكون اتباعك أراذل النّاس وبين التّابع والمتبوع يكون مناسبة فأنت أرذل النّاس (بادِيَ الرَّأْيِ) من بدا يبدو بمعنى ظهر أو من بدء بمعنى ابتدأ وهو منصوب على الظّرفيّة بتقدير مضاف اى وقت بادي الرّأى والاتّباع وقت اوّل الرّأى أو ظاهر الرّأى من غير تعمّق دليل على الارذليّة (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يعنى لا فضل سوى ما ذكر ولو فرض فضل سوى ما ذكر لم تكن أنت له باهل لانّا لا نرى لكم علينا شيئا من الفضل ، أشركوا اتباعه معه في نفى مطلق الفضل ليكون كالدّليل على نفى مطلق الفضل عنه لانّه ان كان للمتبوع فضل يسر ذلك الفضل الى التّابع وان خفي في بعض ظهر من بعض آخر ، ويجوز ان يكون قوله وما نرى لكم كالنّتيجة للأوليين يعنى ان لم يكن لك فضل نفسىّ ولا اضافىّ فلا فضل لكم علينا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) في دعوى الرّسالة وتصديقهم ايّاك ولمّا لم يكن مقدّماتهم يقينيّة بل كلّها كانت ظنّيّة خطابيّة صرّحوا بظنّهم أخيرا ، ولكن قياسهم يشبه ان يكون من القياسات الشّعريّة المركّبة من المقدّمات الوهميّة الممّوهة حيث أنكروا الرّسالة بقصر النّظر في الرّسول على بشريّته وانّها تنافي الرّسالة عن الخالق ولم ينظروا الى روحانيّته وانّها مناسبة للخالق وانّ الرّسول بوجهه الرّوحانىّ يأخذ من الله وبوجهه البشرىّ يبلّغ الى خلقه ، وانّه لو لم يكن ذا بشريّة لا يمكنه التّبليغ الى البشر ، وأنكروا فضل الاتباع أيضا بقصر النّظر على بشريّتهم وجهة دنياهم ولم ينظروا الى روحانيّتهم المناسبة لروحانيّة الرّسول المناسبة للأرواح المجرّدة ولو أدركوا روحانيّتهم ، وان لا روحانيّة لأنفسهم لعلموا انّ لاتباع النّبىّ (ص) فضلا

٣٢٥

كثيرا جدّا عليهم (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) من الرّأى بمعنى الاعتقاد ولمّا كان حقيقة الاستفهام الاستخبار ومعنى الاستخبار طلب الاخبار عن اعتقاد المستخبر عنه استعملوا تلك الكلمة في معنى أخبروني مجرّدا عن الاعتقاد لئلّا يلزم التّكرار وقد مرّ نظيره (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) فعمّيت جواب الشّرط ، وجملة الشّرط والجزاء متعلّق أرأيتم وأ رأيتم معلّق عنها والحقّ انّ التّعليق كما يقع بأداة الاستفهام يقع بأداة الشّرط أيضا وحينئذ يكون جملة أنلزمكموها مستأنفة منقطعة عمّا قبلها أو الفاء عاطفة وعمّيت معطوف على الشّرط والجزاء محذوف بقرينة أرأيتم أو بقرينة أنلزمكموها وأ نلزمكموها مفعول أرأيتم معلّقا عنه بأداة الاستفهام ، والبيّنة قد مرّ مرارا انّها النّبوّة كما انّ الزّبر هي الولاية وإطلاقها على الرّسالة وأحكامها وعلى المعجزة المبيّنة لصدق الدّعوى وعلى الكتاب السّماوىّ لكونها صورة النّبوّة وظهورها ، والرّحمة هي الولاية والنّبوّة وتوابعها صورة الرّحمة ولذا وحدّ الضّمير في عمّيت ونلزمكموها ولتوحيد الضّمير وجوه أخر لا فائدة معتدّا بها في ذكرها (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) بعد ما أظهر الدّعوى وادّعى خفاء المدّعى عليهم تعرّض لجوابهم لانّهم عرّضوا بتكذيبه الى انّه (ص) طالب للدّنيا والرّياسة وبتحقير الاتباع الى طردهم عنه بل صرّحوا بطردهم كما نقل فقال : ان كنت طالبا لدنياكم ينبغي ان يظهر منّى التّعرّض لها حينا ما ، والحال انّى لا اسألكم عليه مالا (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) وان كان ازدراء المؤمنين في أعينكم سببا لتوهينى ومانعا من اتّباعكم لي فليس أمرهم الىّ (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بملاقاة خليفته ومظهره وبملاقاة ملكوت ربّهم المضاف في الدّنيا والآخرة ولذا أتى باسم الفاعل اشارة الى تحقّق الملاقاة في الحال (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) استدراك لما أوهم كلامهم واستدلالهم على تكذيبه من انّهم أهل علم وعقل ومقابلة لما قالوا له من قولهم ما نريك يعنى انّ تكذيبي وعدم اتّباعى ليس لما ذكرتم بل لوقوعكم في دار الجهل وبعدكم عن دار العلم والعقل (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) يعنى انّ ايمانهم بمشيّة الله ولا يجوز طردهم الّا بمشيّة الله فلو طردتهم بهواي أو باهويتكم سخط الله علىّ ومن ينصرني من سخطه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ذلك حتّى لا تسألونى طردهم (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) حتّى تكذّبونى واتباعى بفقرنا وفاقتنا (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) حتّى تكذّبونى بعدم اكثارى المال بالمكاسبات الرّابحة أو تكذّبونى بعدم إجابتكم في السّؤال عن المغيبات والجملة معطوفة على جملة عندي خزائن الله ولا زائدة لتأكيد النّفى والعدول الى الفعليّة لكون العلم وصفا للعالم دون الخزائن أو معطوفة على جملة لا أقول ولا نافية وعدم إدخاله في جملة القول للاشعار بانّ علم الغيب خاصّ بالله لا يوصف غيره به بخلاف الخزائن فانّه قد يوكّل الله بعض خواصّه عليها لكن لا يقول ذلك ولا يدّعيه (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) حتّى تكذّبونى بما ترون من بشريّتى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) تعيبهم أعينكم افتعال للمبالغة من زرأه إذا عابه ونسبته الى الأعين للاشعار بانّ ازدرائهم انّما هو لأجل ما رأوه من ظاهر حالهم من الرّثاثة والحاجة من غير تبصّر بحالهم الواقعيّة (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) حتّى تطالبونى بطردهم وتكذّبونى بقبولهم (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي

٣٢٦

أَنْفُسِهِمْ) تعليل (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) تعليل أخر وتعريض بهم حيث عابوهم (قالُوا) بعد عجزهم عن المحاجّة (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) وامللتنا بجدالك وكنت تعدنا العذاب من ربّك (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فانّه لا ينفع فينا جدا لك (قالَ) لست بقادر على إتيان العذاب ووعده وانّما نسبتموه الىّ بجهلكم (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) لا غيره (إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) فلا تجترئوا على التّحدّى (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) هذا الكلام منه تحسّر عليهم بانصرافهم عمّا يدعوهم اليه والإتيان بأداة الشّكّ وذكر الارادة مع انّه نصحهم وأكثر نصحهم للاشعار بانّهم لغاية بعدهم كأنّه لم ينصح ولا ينبغي ان يريد نصحهم (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) جزاء الشّرط الاوّل محذوف بقرينة لا ينفعكم نصحى وجزاء الشّرط الثّانى محذوف بقرينة مجموع الشّرط والجزاء الاوّل (هُوَ رَبُّكُمْ) تعليل لعدم النّفع مع ارادة الله الإغواء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعليل للتّهديد من العذاب (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) اى قال الله لنوح (ع) أم يقولون افتراه فهو حكاية قوله تعالى لنوح (ع) وضمير يقولون راجع الى قوم نوح أو قال الله لمحمّد (ص) فهو اعتراض من الله خطابا لمحمّد (ص) كأنّه بعد ما ذكر قصّة نوح (ع) مع قومه زعم بعض انّه افتراء من محمّد (ص) من غير وقوعه ومن غير وحي فأتى الله بتلك الجملة المعترضة بين قصّة نوح (ع) (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) بعد ما دعا نوح (ع) بأنّى مغلوب فانتصر (فَلا تَبْتَئِسْ) لا توقع نفسك في شدّة الحزن وضيق الغمّ (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) لمّا كان لغاية رحمته عليهم مغتمّا بصنائعهم القبيحة نهاه الله تعالى عن ذلك (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) اى بمحضرنا وفي مرآنا يقال : افعله في محضري لأمر يكون به اهتمام ، وجمع الأعين لكون المضاف اليه متكلّما مع الغير أو الأعين جمع العين بمعنى الدّيد بان والباء بمعنى في أو للسّببيّة ، ولمّا كان النّبىّ (ص) ذا شأنين وحين الاشتغال بالشّأن الخلقىّ لا يبقى له الحضور التّامّ كما انّه حين الاشتغال بالشّأن الالهىّ لا يبقى له الالتفات الى الكثرات لطروّ الغشي أو شبه الغشي عليه ويكون موصوفا بالحضور حينئذ امره بالقيام في مقام الحضور وعدم الاشتغال بالكثرات حين نجرّ السّفينة (وَوَحْيِنا) تعليمنا بواسطة الملك أو من لدنّا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) كأنّه (ع) من غاية رحمته كان يراجع الله تعالى في دفع العذاب عن قومه بعد ما أخبره بنزول العذاب وهكذا كان شأن أكثر الأنبياء (ع) خصوصا اولو العزم منهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) محكوم عليهم بالاغراق حتما (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) روى عن الباقر (ع) انّ نوحا (ع) لمّا غرس النّوى مرّ عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد غرّاسا ، حتّى إذا طال النّخل وكان طوالا قطعه ثمّ نحته فقالوا قد قعد نجّارا ، ثمّ الّفه فجعله سفينة فمرّوا عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون قد قعد ملّاحا في فلاة من الأرض ، حتّى فرغ منها ، وكأنّه أشار الى إجمال سخريّتهم والّا فانّهم سخروا منه بأنواع ما يسخر به كما نقل (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) وهكذا كان شأن كلّ محقّ ومبطل لانّ كلّ من رأى غيره خارجا من طريقته يسخر منه لكن سخريّة المحقّ عقليّة وسخريّة المبطل خياليّة نفسيّة

٣٢٧

(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) من استفهاميّة مفعول تعلمون والفعل معلّق عنها ويخزيه صفة عذاب (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) عطف على يأتيه أو موصولة مفعولا لتعلمون بمعنى تعرفون وباقي أجزاء الجملة كما ذكر أو موصولة مفعولا اوّلا لتعلمون ويخزيه مفعول ثان ويحلّ عطف على يخزيه أو موصولة مبتدء ويخزيه خبرها ويحلّ عطف عليه والجملة مستأنفة وتعلمون مطلق عن المفعول (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) غاية لقوله قال ان تسخروا الآية أو لقوله ويصنع الفلك (وَفارَ التَّنُّورُ) في التّنّور وموضعه وفورانه وموضعه أقوال والحمل على الظّاهر أظهر ، وموضع التّنور معروف في مسجد الكوفة اليوم وتفصيل نبع الماء وقصّة نوح (ع) وقومه والاختلاف في التّنور وموضعه ونبع الماء منه مذكورة في المفصّلات وإجمال الصّافى والمجمع يكفى للتّبصّر (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ومن سبق عليه القول هي امرأته الخائنة امّ كنعان كما قيل (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) قرئ كلاهما بضمّ الميم وفتح الرّاء والسّين وقرئ بفتح الميم وفتح الرّاء والسّين وقرئ الاوّل فقط بفتح الميم وكسر الرّاء وهما امّا منصوبان على الظّرفيّة سواء أريد بهما المكان أو الزّمان أو المعنى المصدرىّ أو مرفوعان فاعلين لقوله بسم الله أو مبتدئين وخبرهما بسم الله وبسم الله ظرف لغو متعلّق باركبوا ومجريها يكون منصوبا على الظّرفيّة أو مستقرّ حال من الضّمير المجرور ومجريها فاعله أو من فاعل اركبوا بتقدير لكم حتّى يتمّ الرّبط أو مستقرّ خبر لمجريها والجملة امّا حال من الضّمير الفاعل بتقدير لكم أو من الضّمير المجرور أو مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر عن حال السّفينة أو عن علّة الأمر بالرّكوب ، وورد انّهم كلّما أرادوا جريها قالوا بسم الله مجريها وكلّما أرادوا ارساءها قالوا بسم الله مرسيها ، وعلى هذا فالمناسب ان يكون جملة بسم الله مجريها محكيّا لقول محذوف والتّقدير اركبوا قائلين بسم الله سواء قدّر مجريها مبتدء أو منصوبا على الظّرفيّة (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن تلبّس باسمه أدركته مغفرته ورحمته (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) وورد في الاخبار انّه لم يكن ابنه انّما كان ابن امرأته وفي لغة طىّ يقال لابن المرأة ابنه بفتح الهاء وقد ورد قراءة علىّ (ع) والباقر (ع) والصّادق (ع) بفتح الهاء وروى ابنها والضّمير لامرأته (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) الّا من كان شأنه الرّحمة وهو الله أو من كان خليفة له أو الّا مكان من رحمة الله يعنى السّفينة أو العاصم بمنى المعصوم أو الاستثناء منقطع أو العامل والمستثنى منه محذوف اى فليس اليوم معصوم من امر الله الّا من رحمه‌الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ) فصار (مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) اختلف في تعيين الجودىّ فقيل : انّه بناحية آمل ، وقيل : بقرب جزيرة الموصل ، وقيل : بالشّام ، وفسّر بفرات الكوفة ، وقيل : انّه اسم لكلّ جبل وارض صلبة وكذلك اختلف في مدّة كون نوح (ع) في السّفينة ، فورد انّها كانت سبعة ايّام بلياليها ، وقيل : كانت مائة وخمسين يوما ، وقيل : اوّلها كان عاشر رجب وآخرها عاشر محرّم ، ولا يخفى حسن نظم الآية وقد ذكروا وجوها عديدة بيانيّة وبديعيّة

٣٢٨

في الآية الشّريفة من أرادها فليرجع الى التّفاسير الاخر (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) باهلاك من لا يدخل السّفينة وإنجاء أهلي (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) بعد تضرّعه والتجائه ودعائه في حقّ ابنه تبرّى عن مشيّته وحكومته واقرّ بأنّه أحكم الحاكمين دفعا لتوهّم عدم رضائه بحكمه (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) وذلك لانّه على فرض صحّة ما اشتهر انّه كان ابنه كان نسبته جسمانيّة ونوح (ع) صار متحقّقا في الدّنيا بالرّوحانيّة والنّسب الجسمانيّة منقطعة في العالم الرّوحانىّ والنّسب الرّوحانيّة معتبرة هناك كالقيامة ولمّا لم يكن له نسبة روحانيّة واتّصال ملكوتىّ لم يكن من أهل نوح (ع) (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) حمل المصدر للمبالغة وهو تعليل للنّفى ومن قرأ انّه عمل غير صالح بالاضافة كما في بعض الاخبار نفيا لنسبته الجسمانيّة بجعله لغيّة العياذ بالله فقد أخطأ وقرئ انّه عمل غير صالح بالاضافة كما في بعض الاخبار نفيا لنسبته الجسمانيّة بجعله لغيّة العياذ بالله فقد أخطأ وقري انّه عمل غير صالح فعلا ماضيا وغير مفتوح الرّاء (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما لم تعرف حقيقة مسئولك حتّى تعرف صحّة سؤالك (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) حيث يسألون ما لا يعلمون (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) امتثالا لحكمك واتّعاظا بعظتك (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) قاله تضرّعا واستكانة (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) بسلامة (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) من الأمم الّتى في السّفينة فانّهم كانوا جماعات مختلفة من أنواع الحيوان أو من أصناف الإنسان (وَأُمَمٌ) ممّن معك أو ممّن يولدون ممّن معك (سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) عن الصّادق (ع) فنزل نوح (ع) من السّفينة مع الثّمانين وبنوا مدينة الثّمانين وكانت لنوح ابنة ركبت معه في السّفينة فتناسل النّاس منها وذلك قول النّبىّ (ص) نوح (ع) أحد الأبوين (تِلْكَ) القصص (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ) الحسنى فانّها غلبت فيها (لِلْمُتَّقِينَ) عن الجزع والتّسرّع الى الدّعاء (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) وقد مضى في سورة الأعراف انّه كان أحدهم (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) في نسبة الآلهة الى الأصنام وجعلها شركاء الله وشفعاءكم عنده (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) دفع لما يتوهّمونه قياسا على أنفسهم من انّ ادّعاء الرّسالة للأغراض الدّنيويّة ولما يخافونه من تفويت ما لهم باتّباعه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) تدركون إدراكا عقلانيّا غير مشوب بتصرّفات الخيال فتعلمون انّ من ادّعى امرا لغرض دنيوىّ يكون في الأغلب مطمح نظره المال (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) قد مضى في هذه السّورة تفسيره (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) درّ السّماء بالمطر سالت به والمدرار بمعنى كثير الدّر حال من السّماء وإرسال السّماء عبارة عن إرسال السّحاب أو المطر من جهة انّهما يجيئان من جهتها ، أو المراد بالسّماء هو السّحاب أو المطر من دون ملاحظة علاقة لاطلاقها على كلّ علوىّ (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) رغّبهم في الايمان بذكر ترتّب الغايات الدّنيويّة عليه لانّ حالهم كانت كحال الصّبيان لا يرون الخير الّا فيما

٣٢٩

احسّوه خيرا من الاعراض الدّنيويّة وكان المناسب لحالهم وعدهم بما يظنّونه خيرا ، وقيل : لم يمطروا ثلاث سنين وكانوا قد اعقمت نساؤهم فكانوا طالبين للمطر وللأولاد والمراد بزيادة القوّد زيادة العدد (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) دالّة على صدقك قالوه عنادا (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) يعنى ما نقول وما نحتمل في حقّك شيئا الّا هذا القول وهو قولنا اعتريك اى أصابك بعض الهتنا بسوء فصرت مجنونا ، أو ما نقول معك الّا هذا القول يعنى لا تخاطب لنا معك لانّك مجنون بإصابة بعض آلهتنا.

اعلم ، انّ الشّياطين كانوا يظهرون حينا ما على هياكل الأصنام بعض الغرائب مثل التّكلّم على ألسنتهم ولذا كانوا مغترّين بها مع انّها جمادات بلا روح والّا فالعاقل لا ينسب الى الجماد ما يخوّف به الإنسان (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) أجابهم عن التّخويف بالأصنام بالتّحدّى وعدم المبالاة بها (فَكِيدُونِي) أنتم وآلهتكم (جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) كناية عن تسخيره تعالى وقهره لكلّ دابّة.

بيان في وحدة الوجود

اعلم ، انّ الأصل في التّحقّق هو الوجود كما سبق في اوّل البقرة وعليه معظم الحكماء والمشّائين والاشراقيّين ، وقرّره جميع أهل الّذوق من العرفاء والصّوفيّة الصّافيّة الطويّة رضوان الله عليهم وانّه حقيقة واحدة وسيعة ذات مراتب عديدة وبحسب تنزّلاتها وكثرة مراتبها يطرؤها الحدود الكثيرة ، وباعتبار الحدود ينتزع منها مهيّات عديدة متباينة ومتشاركة ، وبكثرة الحدود والمهيّات لا ينثلم وحدتها إذ وحدتها ليست اعتباريّة حتّى تنثلم باعتبار الكثرة ، ولا جنسيّة حتّى تنثلم بانضمام الفصول ، ولا نوعيّة ولا صنفيّة حتّى تنثلم بالمصنّفات والمشخّصات ، ولا عدديّة حتّى يتصوّر لها ثان ، ولا تركيبيّة ولا اتّصاليّة حتّى تنثلم بالتّحليل والتّقسيم بل لا تركيب فيها من جنس وفصل ولا نوع ومشخّص ولا مهيّة ووجود ولا وجود وحدّ وجود ، ولذا كانت لا اسم لها ولا رسم وكانت غيبا مطلقا لا خبر عنها ولا اثر والأسماء والرّسوم والكثرات المتراءات فيها انّما هي في مقام ظهورها فحقيقة الوجوب هي الظّاهرة في كلّ المظاهر وهي الغاية عن الكلّ ومن قال : سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ؛ نظر الى تلك الحقيقة فانّها باعتبار مقام الغيب ومرتبة الوجوب خالق الكلّ ومظهرها ، وباعتبار مقام الظّهور عين الكلّ وحقائقها فانّه ليس في تلك العبارة اشعار بوحدة الوجود المؤدّية الى الاباحة والإلحاد فانّه نزّهه سبحانه اوّلا عن الاختلاط بالكثرات ثمّ أسند الإظهار اليه واثبت الأشياء فأشار الى الكثرات والى تنزّهه تعالى عن الكلّ وعلوّه على الكلّ ثمّ قال : انّه باعتبار حقيقة الوجود عين الكلّ والكلّ متحقّق به لا باعتبار مرتبة الوجوب والّا لزم التّناقض في كلامه وهو اجلّ شأنا من ان يأتى بالتّناقض في كلام واحد ، والى هذا المعنى أشير في الكلام الالهىّ بقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) اى الله باعتبار حقيقة الوجود لا باعتبار مقام الوجوب ، وما ورد من أمثال هذا في كلمات الكبار من الصّوفيّة فهو ناظر الى تلك الحقيقة لا الى مقام الوجوب حتّى يرد عليهم ما أوردوه مثل قولهم :

غيرتش غير در جهان نگذاشت

زان سبب عين جمله أشياء شد

كه يكى هست وهيچ نيست جز أو

وحده لا اله الّا هو

جنبشى كرد بحر قلزم عشق

صد هزاران حباب پيدا شد

ليس في الدّار غيره ديار

٣٣٠

هر لحظة بشكلي بت عيار بر آمد دل برد ونهان شد

هر دم بلباس دگران يار بر آمد گه پير وجوان شد

الى آخر ما قاله المولوىّ من هذا القبيل ، فانّ الكلّ اثبتوا الكثرات ثمّ ذكروا تحقّقها بحقيقة الوجود لا بمقام الوجوب والّا لزم التّناقض في كلامهم وتلك الحقيقة من حيث هي منزّهة عن جملة الكثرات وتمام القيود والاعتبارات حتّى اعتبار الإطلاق وقيد اللّابشرطيّة ، ولذا صارت مقسما لجملة المقيّدات والمطلّقات لا كمقسميّة المفاهيم العامّة ولا كمقسميّة الأجناس والأنواع بل مقسميّته فوق ما ندركه مجهولة الكنه كنفس تلك الحقيقة ، فاذا اعتبرت بشرط لا كانت مقام الوجوب ، وإذا اعتبرت مطلقة مقيّدة بالإطلاق كانت مقام الفعل ومرتبة المشيّة والصّراط المستقيم بين الخلق والحقّ ، وإذا أخذت بشرط شيء كانت ممكنة ومخلوقة بمراتبها المتكثّرة ، فالحقيقة في الواجب وجود وفي مقام الفعل وجود وفي مقام الممكن وجود ولا يلزم من ذلك تشبيه ولا تشريك ، لانّ المخلوقيّة في الحقيقة راجعة الى المهيّات الّتى ما شمّت رائحة الوجود أبدا ووجود المخلوق هو خالقيّته تعالى وفعله الّذى هو إضافته الى الأشياء ولا حكم له على حياله بل هو باعتبار المهيّات محكوم عليه بالمخلوقيّة وباعتبار الفاعل بالوجوب فهو في الخارجيّات كالمعنى الحرفىّ في الذّهنيّات وهو ليس ايّاه وليس غيره بل هو هو بوجه وغيره بوجه ، فمن نظر الى وجود الممكنات من حيث تحدّدها وتعيّنها بالمهيّات فهو ناظر الى المصنوع مردود ملعون عن الله ، ومن نظر اليه من حيث انّه فعل الرّبّ وصنعه فهو مرحوم مكرم :

عاشق صنع خدا با فرّ بود

عاشق مصنوع أو كافر بود

ناظر الى ما ذكرنا والاشكال بانّ الرّضا بالقضاء واجب والرّضا بالكفر كفر مع انّ الكفر من القضاء مشهود ، مدفوع بما ذكر ، إذا تقرّر هذا فعلم ، انّ ناصية كلّ شيء ما به اوّل ظهوره وما به توجّهه الى ما يتوجّه اليه وهي في كلّ الممكنات جهة وجودها الّتى بها ظهورها وتحقّقها وبها توجّهها الى أصلها الّذى هو حقيقة الوجود والوجودات الامكانيّة اظلال الوجود المطلق الّذى هو ظلّ الحقّ تعالى ، والاظلال الوجوديّة كلّها محاطة مقهورة مسخّرة تحت الوجود المطلق ، والحقّ الاوّل تعالى شأنه محيط بفعله آخذ له قاهر عليه والوجود المطلق هو الصّراط المستقيم فقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ) اشارة الى جملة الممكنات بذكر أشرفها الّا هو اشارة الى مقام الوجوب آخذ اشارة الى الوجود المطلق بناصيتها اشارة الى الوجودات الامكانيّة ولذا علّله بقوله (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لانّه محيط بالوجود المطلق الّذى هو محيط بالوجودات الامكانيّة وباعتبار كثرة العوالم في العالم الكبير والعالم الصّغير تتكثّر مصاديق الآية الشّريفة ومظاهر مصداقها الحقيقي (فَإِنْ تَوَلَّوْا) اى تتولّوا (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) من الإنذار بالعذاب الدّائم والعذاب الدّنيوىّ ونصحت لكم وأتممت الحجّة عليكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي) بعد إهلاككم بالعذاب المنذر به (قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتولّيكم وهلاككم بالعذاب فانّه يستخلف أمثالكم فلا ينقص في ملكه ولا في خلقه بهلاككم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) فيحفظ نوع الإنسان وجملة خلقه باستخلاف أمثال الموجودين من بعد هلاكهم (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) باهلاك القوم (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) عليهم لاستحقاقهم الرّحمة بايمانهم (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال والفائدة تأكيد الإنجاء ولذا كرّر نجّينا والتّصريح بما نجوا منه تهويلا لعذابهم لتهديد السّامعين ويمكن ان يراد بالثّانى الإنجاء من عذاب الآخرة (وَتِلْكَ عادٌ

٣٣١

جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) بكفرانهم بهود (ع) ومعجزاته فكأنّهم جحدوا جميع الآيات وقد مرّ مرارا ان أمثال هذه تعريض بامّة محمّد (ص) وجحودهم بعلىّ (ع) وكفرهم به (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) بعصيان هود (ع) فانّ من أنكر واحدا أنكر الجميع أو بعصيان رسل زمانهم وبلادهم (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) لانّهم إذا اتّبعوا امر جبّار من الجبابرة والكلّ سنخ واحد فاتّبعوا امر كلّ جبّار أو باتّباع امر جبابرة بلادهم أو الإتيان بصيغة الجمع للاشارة الى جحود آيات العالم الصّغير وعصيان رسل ذلك العالم واتّباع كلّ جبّار فيه وهو تعريض بامّة محمّد (ص) كأنّه قال فلا تجحدوا يا أمّة محمّد (ص) بآيات ربّكم وخلفائه ولا تعصوا رسوله في مخالفة قوله في علىّ (ع) ولا تتّبعوا امر الجبّار الّذى يتجبّر على علىّ (ع) ويعانده (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) المضاف الّذى هو هود (ع) ثمّ بربّهم المطلق فلا تكفروا أنتم بعلىّ (ع) فيقال بعدا لكم كما يقال (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) وتكرير ألا وعادا والإبدال منه بقوم هود (ع) لكون المقام مقام السّخط والتّهديد والتّكرير والتّغليظ والتّطويل مطلوب في ذلك المقام (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) استبقاكم أو أعطاكم وعلّمكم ما به تعمرون البلاد (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) للخير لما رأينا عليك من الصّلاح والعقل والكفاية (قَبْلَ هذا) الزّمان الّذى أظهرت فيه ما ننكره وما لم نعرفه قبل ذلك من غيرك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) الهمزة للتّعجّب (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) صفة شكّ من قبيل ظلّ ظليل سواء كان بمعنى موقع في الشّكّ أو بمعنى ذي ريبة (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي) ان اتّبعتمونى فيكون بمنزلة قوله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) وأبلغ منه (لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) برجوعى اليه كما سألتمونيه (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) إيقاع الخسران علىّ أو نسبتي الى الخسران (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أجمل قصّته اتّكالا على سائر ما ورد في الكتاب من حكايته (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) عاجل (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) تعيّشوا في منازلكم أو بلدكم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) وعيد بالعذاب والإهلاك بعد الثّلاثة (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) باهلاكهم (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) عطف على محذوف اى نجّيناهم من ذلك العذاب ومن مسيس الخزي منه أيضا في يوم ذلك العذاب أو في يوم القيامة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ) يقوى على عذاب جمع وإنجاء جمع منهم (الْعَزِيزُ) غالب لا مانع له من مراده (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ميّتين (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) يقيموا بها (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) قد مرّ مرارا انّ أمثال هذه تعريض بامّة محمّد (ص) (وَلَقَدْ جاءَتْ

٣٣٢

رُسُلُنا) اى الملائكة وكانوا اربعة كما ورد في الخبر جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وكرّوبيل (إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) ببشارة الولد اى إسماعيل من هاجر أو إسحاق من سارة باختلاف الاخبار (قالُوا سَلاماً) حيّوه بتلك التّحيّة (قالَ سَلامٌ) أجابهم بالبلغ من تحيّتهم حيث عدل عن النّصب الى الرّفع (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ) اى ما لبث زمانا معتدّا به الى ان جاء (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) يعنى أسرع في قراهم وفي طبخه والحنيذ المشوىّ النّضيج ، فقال كلوا ، فقالوا لا نأكل حتّى تخبرنا ما ثمنه؟ ـ قال إذا أكلتم فقولوا بسم الله وإذا فرغتم فقولوا الحمد لله ، فقال جبرئيل لأصحابه حقّ على الله ان يتّخذه خليلا (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) انكرهم وأضمر انّهم أعداء لا أضياف (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) احسّ وأضمر خوفا (قالُوا) بعد ما رأوا انّه خاف (لا تَخَفْ إِنَّا) ملائكة الله وأحبابك (أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) وليس شأننا الاكل (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) وهي سارة تسمع مكالمتهم (فَضَحِكَتْ) تعجّبت من مكالمتهم أو حاضت بعد ما ارتفع حيضها منذ دهر لانّها كانت حينئذ ابنة تسعين سنة وإبراهيم (ع) ابن عشرين ومائة سنة وقد فسّر ضحكت في الاخبار بكلّ من المعنيين وهذا من سعة وجوه القرآن (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ) الظّرف حال ممّا بعده (يَعْقُوبَ قالَتْ) بعد البشارة تعجّبا من الولد بعد سنّ اليأس منه (يا وَيْلَتى) كلمة تعجّب وان كان أصله ان يستعمل في الشّرّ (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) آئسة من الولد (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) لا يرجى منه الاستيلاد (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ) يفعل بمن استحقّ الإحسان فوق استحقاقه (مَجِيدٌ) لا ينظر في إحسانه الى استحقاق فكيف ولكم الاستحقاق ، وفي الخبر انّه اوحى الله تعالى الى إبراهيم (ع) انّه سيولد لك فقال لسارة فقالتء ألد وانا عجوز؟ ـ فأوحى الله اليه انّها ستلد ويعذّب أولادها اربعمائة سنة بردّها الكلام علىّ قال : فلمّا طال على بنى إسرائيل العذاب ضجّوا وبكوا الى الله أربعين صباحا فأوحى الله الى موسى (ع) وهارون (ع) نخلّصهم من فرعون فحطّ عنهم مائة وسبعين سنة وقال هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا فامّا إذا لم تكونوا فانّ الأمر ينتهى الى منتهاه (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) سكن الخوف بمعرفته ايّاهم (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) يعنى انّه بعد ما سكن الخوف وحصل له البسط ببشارة الولد وأخبره الملائكة بانّهم نزلوا لعذاب قوم لوط جادلنا يعنى بمجادلة رسلنا في دفع العذاب عن قوم لوط وهذا من كمال رحمته على خلق الله وسعة خلقه وكمال مرتبة نبوّته فانّ قوم لوط بشؤم أعمالهم استحقّوا سؤال العذاب منه وهو يجادل الله في دفع العذاب ، عكس ما روى عن بعض الأنبياء (ع) الجزويّة من سؤال العذاب بعد التّبليغ وتأبّيهم عن الانقياد من غير صبر على أذاهم فضلا عن طلب الرّحمة ودفع العذاب عنهم ، وصورة مجادلته الملائكة كما نقل انّه قال ان كان فيها مائة من المؤمنين أتهلكونهم؟ ـ فقال جبرئيل : لا ، قال : فان كان فيها خمسون؟ ـ قال لا ، قال : فان كان فيها ثلاثون؟ ـ قال لا ، قال : فان كان فيها عشرون؟ ـ قال : لا ، قال : فان كان فيها عشرة؟ ـ قال : لا ، قال : فان كان فيها خمسة؟ ـ قال : لا ، قال : فان كان فيها واحد؟ ـ قال : لا ، قال : فانّ فيها لوطا ؛ قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجّينّه واهله ، وهذا من استكماله (ع) في نبوّته لانّه كما روى بعد ما أرى ملكوت السّماوات

٣٣٣

والأرض رأى رجلا وامرأته على معصية الله فدعا عليهما فأهلكا وبعد كمال النّبوّة يجادل في قوم لوط مع انّه (ع) كان يراهم على معاصي الله وعلى اشدّها (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) غير عجول على المسيء بالمؤاخذة وبالدّعاء عليه (أَوَّاهٌ) كثير الدّعاء (مُنِيبٌ) راجع الى الله في كلّ ما يرى (يا إِبْراهِيمُ) قلنا على السنة رسلنا أو قالت الملائكة يا إبراهيم (أَعْرِضْ عَنْ هذا) اى سؤال دفع العذاب والمجادلة فيهم (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) باهلاكهم ولا مردّ له (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فلا فائدة في جدالك (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) لانّهم أتوه بصور غلمان فخاف تفضيحهم لعلمه بسيرة قومه (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) كناية عن العجز عن الحيل في دفع الشّدّة كأنّه لا يمكنه مدّ اليد الى شيء في دفعها (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) شديد بليّته لعدم حياء قومي وعدم قدرتي على دفعهم وكمال اهتمامي في محافظة أضيافي (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) يسرعون كأنّهم يدفعون لطلب الفاحشة من أضيافه (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) بحيث لم يبق لهم حياء وتجاهروا بفعلهم وطلبوا الفاحشة من أضيافه (قالَ يا قَوْمِ) يعنى قالوا أعطنا اضيافك فانّك شاركتنا في فعلنا فقال يا قوم (هؤُلاءِ بَناتِي) يريد التّزويج بهنّ أو مقصوده أزواجهم فانّهنّ كنّ بناته لكون كلّ نبىّ أبا أمّته ومقصوده كما في الخبر ان يأتوا من أدبارهنّ لانّه قد علم انّهم لا يريدون الفروج (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) من حيث الإثم أو من حيث الجسم ولذلك ورد عن الرّضا (ع) انّه قال احلّه آية من كتاب الله قول لوط (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) وقد علم انّهم لم يريدوا الفروج (فَاتَّقُوا اللهَ) في هذا الفعل الشّنيع (وَلا تُخْزُونِ) لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء أو لا تفضحوني من الخزي (فِي ضَيْفِي) فانّ إخزاء ضيف الرّجل اخزاؤه (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) يهتدى الى الحقّ ويرعوى عن القبيح (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) حاجة وميل (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) من إتيان الذكّران (قالَ) بعد عجزه عن النّصح والمحاجّة متمنّيا ما ليس له الوصول اليه باعتقاده (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ) بمدافعتكم (قُوَّةً) بنفسي (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) قوىّ على دفعكم حتّى أدفعكم به استعار لفظ الرّكن الّذى هو الجبل الّذى لا يمكن تحريكه أو قاعدة البيت الّتى هي كذلك للقوىّ الممتنع عن إزعاجه ، نقل انّه قال جبرئيل انّ ركنك لشديد افتح الباب ودعنا وايّاهم (قالُوا) اى الملائكة بعد ما رأوا عجزه عن دفعهم ونهاية تضجّره بهم تعريفا لا نفسهم تسكينا لا لاضطرابه (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) فلا تغتمّ (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بما يريدون (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) مظلما كذا روى عن علىّ (ع) (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) يعنى لا يتخلّف وعلى هذا فقوله (إِلَّا امْرَأَتَكَ) استثناء من أحد أو لا ينظر الى وراءه وعلى هذا فهو استثناء من أهلك (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) تعليل (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) جواب سؤال مقدّر أو كان مذكورا فأسقطه تعالى ايجازا كأنّه قال استعجالا بالعذاب : متى كان موعد عذابهم؟ ـ فقال : انّ موعدهم الصّبح ، روى انّه قال : متى موعد إهلاكهم؟ ـ قالوا : الصّبح ، فقال : أريد أسرع من ذلك لضيق صدره بهم فقالوا (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) ومن هذا يظهر فضل مقام إبراهيم (ع) على مقام لوط (ع) مع انّه كان يراهم على الفاحشة

٣٣٤

مثل لوط أو أزيد وأتمّ لانّه كان له رؤية الملكوت فيرى ما كان غائبا عن لوط (ع) ومع ذلك يجادل في دفع العذاب ولوط (ع) يستعجل بالعذاب (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) بان جعل جبرئيل جناحه في أسفلها ثمّ رفعها الى السّماء ثمّ قلبّها عليهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) معرّب «سنگ گل» اى الطّين المتحجّر (مَنْضُودٍ) نضد واعدّ لعذابهم أو متتابع في النّزول عليهم وألصق بعضه ببعض (مُسَوَّمَةً) معلّمة بالنّقاط للعذاب (عِنْدَ رَبِّكَ) متعلّق بمسوّمة أو ظرف مستقرّ حال من المستتر في مسوّمة (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) تعريض بأمّة محمّد (ص) والمراد مطلق من ظلم أو من ظلم مثل ظلمهم بإتيان الذّكور روى انّه من مات مصرّا على اللّواط لم يمت حتّى يرميه الله بحجر من تلك الأحجار فيكون فيه منيّته ولا يراه أحد وقصّة لوط (ع) وقومه وسوء فعلهم وخراب ديارهم مذكورة في المفصّلات (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) كانوا يعاملون بنقص الميزان إذا أعطوا واستيفائه إذا أخذوا ، فنهاهم عن سوء صنيعهم (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) ان تركتم البخس في المعاملة (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) بعذابه كلّ النّاس أو بجميع جوانب كلّ أحد أو محيط بجميع ايّام الدّنيا ، وعد ووعيد كما هو شأن الأنبياء (ع) في دعوتهم حيث يجمعون بين التّبشير والإنذار (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) تصريح بمفهوم النّهى تأكيدا ورفعا لتوهّم ان يريد بالنّهى عن النّقص الأمر بإعطاء الزّيادة فانّ مفهوم مخالفته اعمّ من الإيفاء وإعطاء الزّيادة ولذا قيّد الإيفاء بقوله (بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تعميم لمطلق الأشياء مكيلة كانت أو موزونة أو غيرها وتأكيد آخر فانّهم لمّا كانوا مصرّين على التّطفيف كان التّأكيد في النّهى عنه والأمر بالإيفاء مطلوبا (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حال تأكيدىّ وتعميم آخر ونهى عن مطلق الإفساد. اعلم ، انّ الآية كما تجري في الاعراض الدّنيويّة تجري في الأوصاف النّفسانيّة من حسن المعاشرة وترك سوء الخلق مع المعاشرين والإنصاف معهم وترك طلب الإنصاف منهم وحسن الظّنّ بهم واتّهام نفسه فيهم وستر العيوب منهم ورؤية العيوب من نفسه والاعتذار لهم والملامة لنفسه ، وكما تجري في العالم الكبير تجري في العالم الصّغير والمعاملة مع أهل مملكته ، وكما تجري في المعاملة بين الشّخص وسائر الخلق تجري في المعاملة بينه وبين الله ، فلا تغفل عن تعميم الآية ، بل ينبغي للنّاظر المتدبّر في الآيات الالهيّة ان ينظر ويتدبّر اوّلا في مصداق كلّ آية في وجوده ومملكته ثمّ ينظر في مصاديقه الخارجيّة ولا يخصّص الآية بمن نزلت فيه ، مثلا إذا تلا آية فيها ذكر فرعون وموسى (ع) فلينظر اوّلا الى وجوده وفرعون مملكته الدّاعى للالهة والاستقلال والاستبداد ، وموسى وجوده الدّاعى لأهل مملكته وفرعونهم الى الإقرار بالله والانقياد له ، ثمّ لينظر الى حال موسى (ع) وفرعون ومالهما وما عليهما ليعتبر بذلك ويعين به موسى وجوده على دعوته ، ثمّ لينظر الى موسى زمانه وفرعونه ليعتبر بهما ويقيس حالهما الى من مضى وينزجر عن فرعونه ويطلب موساه ليعين أيضا بذلك موسى وجوده ويفرّ من فرعونه (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) يعنى ما يبقى لكم من مكاسبكم من دون ارتكاب البخس والتّطفيف والاضافة الى الله للاشارة الى انّ المعطى هو الله وانّ المكاسب وسائل إعطاء الله سترا على إعطائه لئلّا ينصرفوا عن المكاسب ، أو بقيّة الله من الفطرة الالهيّة واللّطفيّة السّيّارة الانسانيّة والعقل وجنوده

٣٣٥

بعد احاطة النّفس وشهواتها والشّيطان واغوائه والجهل وجنوده بمملكتكم خير لكم من قضاء الشّهوات والآمال الّتى زيّنها الشّيطان ، أو بقيّة الله من خلفائه في أرضه الدّاعين لكم اليه خير لكم من رؤسائكم في ضلالتكم وكان هذا القول منه تلويحا الى نفسه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تقييد بالايمان فانّ بقيّة الله لغير المؤمن نقمة وعذاب أو شرط تهييجىّ لانّهم كانوا مدّعين انّهم مؤمنون بالله وأصنامهم شفعاؤهم عند الله (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ضمّنه مثل معنى الوكالة والمراقبة فعدّاه بعلى اى ما انا وكيل عليكم بحفظكم من الشّيطان ومن شرور أنفسكم (قالُوا) في جوابه عن دعوته الى التّوحيد وترك الفساد في الأعمال (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) استهزءوا به بتحقير صلوته من حيث انّها كانت غريبة في انظارهم شبيهة بأفعال المجانين لانّهم ما رأوا مثلها من أمثالهم وبتعظيم عبادة أصنامهم متوسّلا في ذلك بانّها كانت فعل آبائهم وانّهم اعتادوها وأخذوها من أسلافهم (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) بالتّطفيف (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) من قبيل استعمال الضّدّ في الضّدّ تهكّما واستهزاء اى انّك ذو طيش سفيه أو تهييج له على ارتداعه عن دعواه وموافقته لهم يعنى انّك كنت رجلا حليما لا يرجى منك ما يظهر من أمثال الصّبيان ، رشيدا لا ينبغي ان يصدر منك افعال السّفهاء والمجانين (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) قد مضى بيان البيّنة (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) اشارة الى موائد الولاية فانّها الرّزق الحسن ، والجزاء محذوف اى انصرف عن دعواي؟ وأخف غير مولاي؟! (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يعنى ليس مطمح نظري دنياكم حتّى تكذّبونى بمنزلة ما أسألكم عليه مالا (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) لمّا نسب الارادة الى نفسه تبرّى عن استقلاله فقال (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يعنى لا انظر في فعلى ودعوتي الى نفسي وحولي وقوّتى ولا في غاية فعلى الى غير ربّى فالآية اشارة الى التّبرّى من حوله ومن النّظر الى غاية سوى مولاه (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) لا يكسبنّكم كسبا سيّئا (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) يعنى ان كان زمان الأمم السّالفة بعيدا منكم ولستم تعتبرون منهم لعدم مشاهدة آثار هلاكهم بعصيانهم فقوم لوط غير بعيد منكم تشاهدون آثارهم وتتسامعون أخبارهم فاعتبروا بهم واجتنبوا عن مثل أفعالهم في مخالفة نبيّهم وهو تهديد لهم بهلاك الامام الماضية بمخالفتهم رسولهم (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) قد مضى تفسيره في هذه السّورة (قالُوا) بعد ما لم يقدروا على الاحتجاج معه (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) استهزؤا بقوله وهدّدوه بقولهم (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) فيمنعنا عزّة وجودك علينا عن قتلك ورجمك (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) يعنى ترقبون في حقّى رهطي ولا ترقبون ربّى وربّى الّذى أرسلني إليكم اولى بالتّرقّب (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) الظّهرىّ من كان وراء الظّهر منسوب الى الظّهر بالفتح بتغيير هيئته أو منسوب الى الظّهر بالكسر لكنّه لم يستعمل في غير النّسبة وهو عطف بيان أو بدل أو حال تأكيدىّ أو مفعول

٣٣٦

ثان ووراءكم حال حينئذ أو ظرف للظّهرىّ أو هو مفعول بعد مفعول كالخبر بعد الخبر لانّه كان في الأصل خبرا بعد خبر (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) تعليل للإنكار والتّوبيخ المستفاد من الهمزة ، أو جواب للسّؤال عن حال الله معهم (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) منزلتكم عند الهتكم أو رزانتكم في أنفسكم وهو تهكّم بهم لكنّه أبرزه في صورة الإنصاف ولذا لم يقيّد قوله (إِنِّي عامِلٌ) بمكانتى (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) مضى مثله (وَارْتَقِبُوا) نصر آلهتكم وعذابي (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) نصر الهىّ وعذابكم (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) باهلاك قوم شعيب (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) الإتيان بالواو قبل لمّا هاهنا وفي قصّة هود (ع) وبالفاء في قصّتى صالح (ع) ولوط (ع) للتّصريح في قصّتى صالح ولوط (ع) بوعد العذاب المستعقب لإتيانه المسبّب منه دون قصّتى هود (ع) وشعيب (ع) (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) روى انّه صاح بهم جبرئيل صيحة فزهق روح كلّ منهم (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) الآيات هي الآيات التّسع الّتى بها ظهور رسالته وسلطان مبين هو الولاية الّتى لها السّلطنة على الكلّ ، ولمّا كان جعل عصاه الّتى كانت جمادا حيّة حيّة من ظهور سلطنة الولاية وبه صار سلطنته تامّة كان المراد به في الظّاهر هو عصاه (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) سبب رشد المأمور (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لانّه كان أصل ضلالتهم في الدّنيا فهكذا يصير يوم القيامة رئيسا لهم في الذّهاب الى النّار (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) لانّهم يتّبعونه في الذّهاب الى النّار والتّأدية بالمضىّ اشعار بتحقّقه تأكيدا (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) الدّنيا أو في هذه الخصلة (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) اى العطاء المعطى رفدهم واستعمال الورد والرّفد وتوصيفهما مبالغة في الّذمّ وتهكّم بهم (ذلِكَ) المذكور من أنباء قرى نوح (ع) وهود (ع) وصالح (ع) ولوط (ع) وشعيب (ع) وموسى (ع) شيء يسير (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) وللاشارة الى قلّتها أتى باسم الاشارة مفردا مذكّرا (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ) من اسم بمعنى البعض مضاف الى الضّمير مبتدأ وقائم خبره أو منها لقوّة معنى البعض في من قائم مقام موصوفه الّذى هو المبتدأ ومنها خبر مقدّم وقائم مبتدء مؤخّر والجملة حال ، أو مستأنفة ، أو منها حال معتمد على ذي الحال عامل عمل الوصف ومبتدء وصفّى وقائم مرفوعه ومغنى عن الخبر (وَحَصِيدٌ) والمراد بقيامها قيام أهلها وعدم ابادتهم أو قيام آثار القرى المهلكة وعدم انمحائها وهكذا الحصيد والحصاد هو القطع بالحديد لكن يقال للّذى استوصل بحيث لم يبق منه اثر حصيد ومحصود ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قرئ فمنها قائما وحصيدا بلفظ الفاء قبل منها ونصب قائما وحصيدا فيكونان حينئذ خبرين لكان محذوفا أو مفعولين لنقصّ محذوفا والتّقدير فمنها كان قائما وحصيدا أو فمنها نقصّ قائما وحصيدا (وَما ظَلَمْناهُمْ) عطف لدفع توهّم انّ حصادهم واستيصالهم بالكلّيّة ظلم من الله (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بارتكاب ما جلب عليهم العذاب من دعاء غير الله وشنائع الأعمال يظنّ انّ الأليق بسياق هذه العبارة ان يقال : وما نحن ظلمناهم ولكنّهم ظلموا أنفسهم لانّه إذا أريد نفى الفعل عن فاعل وإثباته لفاعل آخر يؤتى بالفاعل المنفىّ

٣٣٧

عنه عقيب اداة النّفى وبالفاعل المثبت له عقيب اداة الاستدراك ، لكنّه تعالى أراد أن يشير الى انّه لم يكن في الاستيصال ظلم بل كان عدلا وانّما الظّلم كان أفعالهم الشّنيعة المؤدّية الى الاستيصال فنفى في الاوّل أصل الظّلم بواسطة الاستيصال واثبت ظلما آخر سوى الاستيصال لهم (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) ولا دفعت (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام السّفليّة والأجسام العلويّة والأشخاص البشريّة الّتى ما انزل الله بها من سلطان دون ولىّ الأمر (مِنْ شَيْءٍ) من العذاب (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالعذاب والإهلاك (وَما زادُوهُمْ) اى ما زادهم الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) غير الإهلاك والتّخسير (وَكَذلِكَ) الأخذ بالحصاد والاستيصال بالكلّيّة (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) اى أهلها (وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ) في موضع التّعليل (أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وذلك انّه تعالى يمهل الظّالم الّذى انصرف عنه الى الشّيطان حتّى استتمّ جهات الغواية واستحقّ كمال العقوبة (إِنَّ فِي ذلِكَ) الأخذ والإهلاك الواقع بالأمم الماضية الهالكة (لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) فانّه وان كان في الدّنيا لكنّه من تصرّف الغيب وأنموذج الآخرة (ذلِكَ) اليوم الّذى هو الآخرة والتّذكير باعتبار الخبر (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) لانّ المتعاقبين متلاحقون في ذلك اليوم (وَذلِكَ) تكرار اسم الاشارة للتّهويل (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) يشهد فيه كلّ حاضر وغائب أو يقوم الاشهاد من الأنبياء (ع) وأوصيائهم (ع) بالشّهادة فيه أو يطلب منهم الشّهادة فيه (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ) اى الى وقت أو في وقت أو لانقضاء أمد (مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم على ان يكون الفاعل راجعا الى اليوم المضاف أو اليوم المشهود وقرئ يأتى بإثبات الياء وحذفها اجراء للوصل مجرى الوقف (لا تَكَلَّمُ) تتكلّم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لظهور السّلطنة التّامّة والمالكيّة الكاملة بحيث يكون نسبة الكلّ اليه تعالى نسبة القوى والجوارح الى النّفس ، فكما انّ حركات القوى والجوارح إذا كانت سليمة باقية على طاعة النّفس ليست الّا بالاذن التّكوينىّ من النّفس الانسانيّة ، كذلك لا يكون حركات الموجودات تماما ومنها نطق الإنسان وتكلّمه في ذلك اليوم الّا بالاذن التّكوينىّ من الله تعالى ، ولا ينافيه قوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) ولا يؤذن لهم ، لانّ ذلك بالنّسبة الى العاصين أو بالنّسبة الى الاعتذار عن المعصية وهذا بالنّسبة الى المطيعين أو في غير الاعتذار عن المعصية أو ذلك في يوم وموقف وهذا في يوم وموقف آخر ؛ بل نقول ذلك أيضا يدلّ على توقف التّكلّم على الاذن موافقا لهذا (فَمِنْهُمْ) اى من النّاس المذكورين أو من صاحبي النّفوس المدلول عليهم بالنّفس المنكّرة الواقعة في سياق النّفى الدّالة على العموم أو من أهل المحشر المدلول عليهم التزاما أو من المتكلّمين وهو من عطف التّفصيل على الإجمال ولذا أتى بالفاء (شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) اى ومنهم سعيد فهو من عطف الأوصاف المتعدّدة لذوات متعدّدة لا لذات واحدة وإسقاط منهم للاشارة الى انّ القسمة غير مستوفاة امّا لانّ الضّمير راجع الى جملة المبعوثين من الحيوان والإنسان ولا يحكم على أكثرهم بالشّقاوة ولا بالسّعادة والإتيان بضمير ذوي العقول حينئذ للتّغليب أو لانّ أكثر النّاس من السّواقط لا اعتناء بهم حتّى يدخلوا في القسمة أو لانّ الأكثر مؤخّر حكمهم الى الفراغ من حساب الأشقياء والسّعداء ، وتقديم الشّقىّ امّا لانّ المقام للوعيد ، أو لكثرة الأشقياء بالنّسبة الى السّعداء ، ولان يختم الآية بذكر السّعداء والرّحمة (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) قرئ معلوما ومجهولا من شقاه بمعنى أشقاه (فَفِي النَّارِ) خبر الموصول (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الجملة حاليّة أو مستأنفة

٣٣٨

جواب لسؤال عن حالهم ، وإذا كانت حالا فامّا حال عن فاعل شقوا أو عن المستتر في الظّرف أو عن النّار ، أو لهم حال عمّا سبق وزفير وشهيق فاعل للظّرف لاعتماده على ذي الحال وللآية وجوه أخر من الاعراب ، والزّفير إخراج النّفس بشدّة والشّهيق إدخاله كذلك ، أو شبّه صراخهم بنهيق الحمير فانّ الزّفير والشّهيق حالتا نهيق الحمير (خالِدِينَ فِيها) حال عن واحد ممّا سبق بطريق التّداخل أو التّرادف (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ظرف للخلود أو لكون الزّفير لهم أو لثبوتهم في النّار استقلالا أو على سبيل التّنازع (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من مدّة الخلود أو مدّة كونهم في النّار لا من مدّة زفيرهم وشهيقهم ليوافق قسيمه ولفظة ما نافية أو مصدريّة أو موصولة أو موصوفة ، ولمّا كان المتوهّم من استثناء مدّة عن مدّة ان يكون المستثناة آخر المدّة المستثنى منها أشكل الآية على القائلين بدوام العذاب والخلود في النّار واستدلّ القائلون بانقطاع العذاب أو خروج أهل النّار من النّار بأمثالها.

بيان في خلود أهل النّار وعدم خلودهم

اعلم ، انّ المتشرّعين من المتكلّمين والفقهاء رضوان الله عليهم قالوا بدوام العذاب وخلود أهل النّار الّذين لا يدركهم شفاعة الشّفعاء في النّار وفي العذاب واستدلّوا على ذلك بظواهر الآيات والاخبار ، وعلى هذا فالاستثناء من مدّة الخلود باعتبار اوّلها نظيره ان يقال : حبست يوم الجمعة الّا ساعة من اوّله ، فانّ أهل النّار قبل دخول نار الآخرة معذّبون في البرازخ أو غير مستفيقين من غشيهم وإماتتهم بالنّفخة الاولى وحالهم حينئذ كحال النّائم والمغشىّ عليه ، أو الاستثناء من مدّة الخلود باعتبار آخر المدّة لكن بالنّسبة الى من يدركه شفاعة الشّافعين كأنّه قال : الّا ما شاء الله لمن شاء الله أو الاستثناء من مدّة الخلود باعتبار آخرها لكنّ المراد بالنّار نار البرازخ المعبّر عنها بنار الدّنيا كما في الاخبار ، وتلك النّار وان مكثوا فيها ما مكثوا لكنّهم يخرجون عنها أخيرا الى نار الآخرة وسنحقّق نار الدّنيا ونار الآخرة وكذا جنان الدّنيا وجنان الآخرة عن قريب ان شاء الله ، وقد ذكر في تصحيح الاستثناء وجوه أخر لا فائدة في ذكرها ولا تليق بهذا المختصر. وبعض الحكماء من المشّائين والاشراقيّين قالوا بخلود النّار وتسرمد العذاب على النّوع بتعاقب الإفراد وامّا الإفراد فلا يتسرمد العذاب عليهم بل امّا يصير العذاب عذبا كما قال بعض أو يخرجون من الجحيم والنّار الى النّعيم ، أو يخرج بعضهم ويصير العذاب عذبا على بعضهم ، واستدلّوا على ذلك بأصولهم المقرّرة عندهم من انّ القسر لا يكون دائميّا ولا اكثريّا والّا بطل الحكمة في إيجاد القوّة المقسورة وإذا لم يكن القسر دائميّا ولا اكثريّا فان كان الإنسان مخلّدا في النّار فليبدّل القوّة المتألّمة منه بقوّة ملائمة للنّار حتّى يستريح منها ويلتذّ بها ، أو يخرج من النّار ويصل الى ما يلائمه ، واعتقد جمع من المتصوفّة أيضا عدم تسرمد العذاب واستدلّوا على ذلك بأصولهم الذّوقيّة وشواهدهم الكشفيّة من انّ الرّحمة ذاتيّة وسابقة على الغضب وشاملة للكلّ وانّ الغضب عرضىّ لا حق للمرحوم بالّذات ، والعرضىّ يزول والذّاتيّ لا يزول فبعد مدّة العذاب اللّائق بحال المعذّب يصير العذاب عذبا للكلّ كما قال بعض أو يخرج المعذّبون جميعا وينبت من قعر الجحيم الجرجير كما قال بعض ، أو يتسرمد العذاب على النّوع بتعاقب الأشخاص وخروجهم تدريجا كما قال جمع ، أو يخرج بعض ويبقى بعض في الجحيم ملتّذا بنارها وحيّاتها وعقاربها مثل ما قال الحكماء ، ولا إشكال في الاستثناء على قولهم لكن هذا القول يشبه قول اليهود وقد كذّبهم الله في قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً)(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) تعليل لسابقه (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) قرئ بفتح السّين وضمّها من سعده الله بمعنى أسعده (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) الاستثناء هنا

٣٣٩

باعتبار المبدء كما سبق أو باعتبار المنتهى لكنّ المراد بالجنّة جنّة الدّنيا كما في أخبارنا ، فالمعنى اما الذين سعدوا ففي جنة الدنيا خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الا ما شاء ربك ان يخرجوا منها الى جنّات المأوى ومقام الرّضوان ويدلّ عليه التّقييد بدوام السّماوات والأرض فانّها باقية في الجنّات الدّانية ، وامّا جنّات المأوى فليس فيها سماء ولا ارض ليس عند ربّنا صباح ولا مساء ويدلّ عليه أيضا قوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فانّهم ان خرجوا منها لا الى مثلها أو ما فوقها كان العطاء مجذوذا لا محالة.

شرح في عوالم البرازخ والمثال والآخرة

اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار نطفته ومادّة بدنه في الخلع واللّبس والموت والبعث فله في كلّ آن موت وحشر وخلع لصورة ولبس لأخرى الى آخر حيوته الدّنيويّة واوّل مماته الطّبيعيّة ، لكنّه لمّا كان بنحو الاتّصال التّدريجىّ في عالم واحد طبيعىّ خصوصا بعد تولّده الى آخر عمره ولا يظهر على أهل الحسّ ظهورا غير مغفول عنه ما سمّوه في الشّريعة المطهّرة موتا وحشرا ، ويذهل أهل لحسّ عن تبدّله وخلعه ولبسه مع انّه مشهود معلوم لكلّ أحد من حيث انّه يشهد انّ النّطفة أضعف جماد ويعلم انّه مادّة البدن ثمّ يراها حيوانا ثمّ إنسانا صبيّا ثمّ مراهقا ثمّ شابّا وكهلا وهرما ، لكن خلعه البدن وانتقاله الى عالم آخر لمّا كان من عالم الى عالم ومن مادّة طبيعية الى صورة اخرويّة مجرّدة ودفعة لا تدريجا صار ممتازا عمّا قبله منظورا اليه مسمّى بالموت والارتحال كما انّ خروجه من رحم أمّه وانفصاله منها لمّا كان دفعة وانتقالا من عالم الى عالم وخروجا من مضيق الرّحم وظلماته الثّلاث صار ممتازا منظورا اليه مسمّى بالولادة ؛ وبعد خروجه من بطن الدّنيا ورحم غلاف البدن ومشيمة اغشية الأهواء ، وولادته في الآخرة له حالات وانتقالات وفي كلّ انتقال موت وحيوة وخلع ولبس وقبر وبعث. فاوّل حالاته الاماتة التّامّة والغشي العامّ الحاصل بالنّفخة الاولى ونفخة الاماتة ويمكث في تلك الحالة ما شاء الله كما أشير اليه في أخبارنا ، وبعد ما يبعث من تلك الحالة بالنّفخة الثّانية ونفخة الحيوة له حالات وانتقالات من صورة الى صورة بحسب ما اكتسبه في الدّنيا من الأعمال والأخلاق ، فان كان من أهل الشّقاوة يتقلّب في الصّور الموذية والنّار الدّانية الى ان ينتهى الى نار الآخرة وان كان من أهل السّعادة وكان عليه شوب من الأعمال السّيّئة والأخلاق الرّذيلة يتقلّب في الصّور الموذية الى ان يتخلّص منها الى الصّور البهيّة ، وان لم يكن عليه شوب من ذلك يتقلّب في الصّور الموذية الى ان يتخلّص منها الى الصّور البهيّة ، وان لم يكن عليه شوب من ذلك يتقللّب في الصّور البهيّة الى ان ينتهى الى جنان الآخرة وجنّة المأوى ويسمّى عالم التّقلّبات برزخا بين عالم الطّبع وعالم الآخرة وفي هذا العالم يكون ترقيّات وتنزّلات في الآخرة ، ونصوص الآيات والاخبار تدلّ على ذلك ، وقرّره العرفاء الشّامخون والصّوفيّة المكاشفون والعقل لا يأباه فلا اعتناء بما قاله بعض المتفلسفة من عدم التّرقّي والتّنزّل بعد الموت بناء على انكار عالم البرزخ والمثال أو على انقطاع المادّة والاستعداد وانّ التّرقّي والتّنزّل لا يكونان الّا بالمادّة والاستعداد. امّا عالم البرزخ والمثال فقد اثبته الآيات والاخبار وحقّقه المكاشفون الأخيار واحتجّ عليه الاشراقيّون من الحكماء الأبرار ومحلّ تحقيقه الحكمة العالية. وامّا انقطاع الاستعداد فمسلّم لكن لا ينافيه ظهور المكسوبات بالاستعداد في الدّنيا بعد الموت بصور مناسبة لها متعاقبة لعدم سعة النّفس لظهور الصّور تماما واستجماعها دفعة حتّى تنتهي الصّور الى صورة لا خروج للنّفس منها بحسب آخر أعمالها في السّعادة أو الشّقاوة ، كما هو شأن أصحاب اليمين وأصحاب الشّمال ، أو تخرج النّفس من عالم الصّورة الى عالم المجرّدات الصّرفة كما هو شأن المقرّبين ، وهناك ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وخروجها الى عالم المجرّدات الصّرفة لا ينافي سعتها وتنعّمها بنعيم الجنان الصّوريّة بحسب مراتبها النّازلة وجنودها الدّانية فانّ المقرّبين مشاركون لأصحاب اليمين في لذّاتهم الصّوريّة وهم لا يشاركون المقرّبين في لذّاتهم المعنويّة

٣٤٠