تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

عنهم لمناقضة عهدهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) لا يفوتون أو لا يغلبون من أعجزه إذا فاته أو جعله عاجزا ، وقرء لا يحسبنّ بالغيبة وانّ بالفتح ووجوه الاعراب لا يخفى على البصير بالعربيّة (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ممّا به قوّتكم وشوكتهم من الخيلاء بين الصّفّين فانّ التّكبّر ممدوح في القتال ومن سلاح وغيره ، وورد في الخبر انّ منها الخضاب بالسّواد (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) من عطف الخاصّ على العامّ إذ الرّباط مصدر بمعنى المربوط أو جمع ربيط غلب على الخيل الّتى تربط للجهاد (تُرْهِبُونَ بِهِ) بما استطعتم من القوّة (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) اى الّذين تخافون خيانتهم والإتيان بالمظهر للاشعار بالعلّة وذكر وصف آخر للتّفظيع (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) من دون من تخافون خيانتهم من الكفرة الّذين لا عهد بينهم وبينكم أو لا تخافون منهم نقض عندكم (لا تَعْلَمُونَهُمُ) خائنين كمنافقى الامّة الّذين أظهروا الإسلام وأخفوا النّفاق أو لا تعلمونهم بأعيانهم حيث غابوا عنكم كالعجم والرّوم والشّام (اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فلا تخافوا من الفقر وتهيّؤا بما استطعتم من القوّة في سبيل الله (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بنقص شيء ممّا أنفقتم (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) اى الصّلح والدّخول في الإسلام أو الدّخول في الايمان كما عن الصّادق (ع) انّه الدّخول في أمرنا (فَاجْنَحْ لَها) فانّ قتالك ليس الّا مقدّمة الصّلح والسّلم بمعنى الصّلح يؤنّث سماعا (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تخف من خديعتهم بالصّلح فانّ الله عاصمك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لكلّ ما قالوا فيك فيدبّر ما فيه صلاحك (الْعَلِيمُ) يعلم نيّاتهم وعاقبة أمرك وأمرهم فلا يفوته شيء ولا يسبقه شيء (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصّلح بان أرادوا إطفاء نائرة القتال بالصّلح حتّى يتهيّئوا للقتال ويضع أصحابك اسلحة القتال فيباغتوكم فلا تخف (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) في موضع التّعليل على الاستيناف البيانىّ والمراد نصره بالملائكة (وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قلوب المؤمنين فيقدر ان يؤلّف بينكم وبين الخائنين ان أرادوا بالصّلح الخيانة (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) فانّ تصريف القلوب بيده لا بيدك البشريّة ولا بيدك النّبويّة (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) قيل : نزلت في الأنصار فانّ الأوس والخزرج كان بينهم مقاتلة ودماء وتؤالفوا وتحابّوا بالإسلام (إِنَّهُ عَزِيزٌ) لا يمنعه من مراده شيء (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته ما فيه صلاح عباده (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) كرّره مقدّمة للأمر بالتّحريض ولانّ التّكرار مرغوب فيه في مقام الامتنان وإظهار المحبّة والإحسان (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) لنصرة الله (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) فلا يثبتون ثبات من آمن بالله وعلم انّ النّصر بيد الله والظّفر من الله (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) هذه الآية نزلت بعد ما كثر المؤمنون ولذا ورد انّها ناسخة لما قبلها (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمراد

٢٤١

بالضّعف الضّعف في القلوب لا في الأبدان حتّى ينافي كثرتهم (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) جواب لأصحابه (ص) حين سألوه ان لا يقتل الأسرى ويأخذ منهم الفداء والمقصود من الإثخان كثرة القتل من اثخن في العدوّ إذا غلب وأكثر الجرح فيهم (تُرِيدُونَ) بأخذ الفداء (عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) لكم بان يكون جهادكم غير مشوب بالأغراض الدّنيويّة بل خالصا للآخرة (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب لا يخاف من ذلّة نبيّه على فرض أخذ الفداء من الأسرى فهو لاستدراك توهّم خوف الضّعف والمغلوبيّة (حَكِيمٌ) يأمر بالقتل لمصالح يعلمها (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) اى حكم سبق في اللّوح من إباحة الفداء وإعزاز المؤمنين أو ابقاءهم الى أجل موعود حتّى يعزّ دين الله بهم وهو تهديد وردع عن مثل ما فعلوا ببدر في باب أخذ الفداء من الأسرى واصرّوا على ذلك مع انكار الرّسول (ص) حتّى رضوا بقتل عدد الأسرى ومن يأخذون منه الفداء من المؤمنين في عام قابل (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الفدية أو فيما فعلتم من الإصرار على أخذ الفدية (عَذابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا) اى إذا كان سبق كتاب في إباحة الفداء واعزازكم فكلوا (مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الفداء فانّه غنيمة أو هو إباحة للغنيمة كأنّهم أمسكوا عنها وتردّدوا في إباحتها اى إذا كان سبق كتاب في إباحة الفداء واعزازكم وإعلاء كلمتكم فلا تتحرّجوا من الغنيمة وكلوا منها (حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ) في السّرف فيها ، أو في الخيانة فيها ، أو في مخالفته (ص) فيها وارضوا فيها بما أعطاكم الرّسول (ص) (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) إذ غفر تجرّيكم على الإصرار في الفدية (رَحِيمٌ) إذ رحمكم بإباحة الغنيمة والفدية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) اسرى بدر أو العبّاس وعقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث خاصّة كما ورد في الخبر انّ الآية نزلت في العبّاس وعقيل ونوفل وقصّتهم وقصّة غزو بدر مسطورة في الصّافى مبسوطة (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) رغبة وميلا في الايمان (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الغنيمة في الغزو ومن الفداء بعد الأسر (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ) فيغفر لكم ما صدر منكم من معاداة الرّسول (ص) (رَحِيمٌ) فيؤتيكم خيرا ممّا أخذ منكم فحقّ العبارة ان يقول يغفر لكم ويؤتكم خيرا فانّ المغفرة وهي ستر المساوى مقدّمة على الرّحمة والانعام لكن لمّا كان المقام مقام الاهتمام بإتيان العوض لما فاتهم قدّمه (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) عطف من الله على مقول الرّسول باعتبار المعنى وملاحظة نفس المحكيّ مع قطع النّظر عن كونه حكاية ومثله كثير كأنّه قال : ان يعلم الله في قلوبهم خيرا يؤتهم خيرا ممّا أخذ منهم وان يريدوا خيانتك فلا غرو فيه (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) اى من قبل ارادة خيانتك بمخالفة حكم العقل الّذى هو رسولهم الباطنىّ فأمكن المؤمنين منهم فليحذروا من إمكان المؤمنين ثانيا منهم وقد فسّر هكذا وان يريدوا خيانتك في علىّ (ع) فلا غرو فيه فقد خانوا الله فيك من قبل (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) فلا تحزن لذلك فانّه يمكّن عليّا (ع) وأصحابه منهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بإرادة كلّ مريد (حَكِيمٌ) يدبّر أمرك وامر الخائنين على وفق حكمته (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ بقبول الدّعوة الظّاهرة والبيعة العامّة (وَهاجَرُوا) من دار الشّرك الى مدينة الرّسول (ص) (وَجاهَدُوا) مع أعداء الرّسول (ص) (بِأَمْوالِهِمْ)

٢٤٢

ببذلها على أنفسهم وعلى المجاهدين في الجهاد (وَأَنْفُسِهِمْ) ببذلها بالقتل في سبيل الله حالكونهم (فِي سَبِيلِ اللهِ) أو في حفظ سبيل الله وهو النّبوّة أو في تحصيل سبيل الله وهو الولاية ، أو المعنى انّ الّذين آمنوا بالايمان العامّ من افراد الإنسان في العالم الكبير ومن أولاد آدم الّذين هم القوى الانسانيّة في العالم الصّغير وهاجروا من أوطان شركهم النّفسانيّة الى مدينة صدورهم الّتى هي مدينة رسولهم الباطنىّ ، وجاهدوا في سبيل الله الّذى هو سبيل القلب بأموالهم الحقيقيّة الّتى هي قواهم ومداركهم بتضعيفها بالرّياضات والمجاهدات ، أو المعنى انّ الّذين آمنوا بالايمان الخاصّ بالبيعة الخاصّة وهاجروا من أوطان شركهم الى مدن صدورهم وجاهدوا بأموالهم الحقيقيّة وأنفسهم حالكونهم في سبيل الله وهو طريق الولاية الموصلة لسالكها الى الفناء في الله أو في حفظ سبيل الله وكلّ المعاني لكونها مترتّبة متصاعدة طوليّة لا عرضيّة مرادة من غير لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى كما مرّ مرارا (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) هم الأنصار الصّوريّة بحسب المعنى الاوّل وبحسب المعاني الاخر من يليق بها (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أولياء المحبّة ادّاه بصورة الخبر اشارة الى انّ ولاية المحبّة لازمة لهم أو أولياء الميراث كما ورد في الاخبار وورد انّها منسوخة بآية (أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَلَمْ يُهاجِرُوا) من دار الشّرك الصّوريّة أو من دار الشّرك النّفسانيّة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لانّهم لم يقرنوا وصلهم الصّورىّ الحاصل بالبيعة الصّوريّة بالوصل المعنوىّ بالخروج في طريق الخليفة الصّوريّة أو الباطنيّة فلم يتّصلوا معنى بكم ولا بمن اتّصلتم به فلا ولاية ولا اتّصال بينكم وبينهم فلا توارث ولا موادّة بينكم وبينهم (حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) لا في الأمور الدّنيويّة اعتبارا لمفهوم القيد (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) لانّ وصلتهم الصّوريّة لها حرمة وعليكم بها حقّ لهم (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) فانّ الميثاق وان كان حقّه وحرمته أدون من البيعة والإسلام لكن هو أيضا وصلة بنحو ولها حرمة ولا قوّة للوصلة الاسلاميّة من دون اقترانها بالوصلة المعنويّة بحيث تفوق تلك الوصلة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من موالاة من أمرتم بموالاته وترك موالاة من أمرتم بترك موالاته (بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بترك البيعة النّبويّة أو الولويّة (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) بحكم السّنخيّة والمجانسة والّا فهم كالكلاب الضّارية يعضّ بعضها بعضا ، نعم إذا رأت غير جنسها اتّفقت وحملت مجتمعة عليه :

متّحد جانهاى شيران خداست

جان گرگان وسگان از هم جداست

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ) يعنى ما ذكرنا من الموالاة وتكرها انّما هو لصلاح نظام المعاش مؤدّيا الى نظام المعاد لانّه يورث الاتّحاد في الآراء ، وفي ترك موالاة المؤمنين المهاجرين وموالاة الكفّار وان كانوا أرحاما يحصل اختلاف الآراء وبه يحصل فساد نظام المعاش وفي فساده للنّاقصين فساد نظام المعاد فالمراد بالفتنة اختلاف الآراء المستتبع للفساد (فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير وارض العالم الصّغير (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) لتجرّى الكفّار باختلاف آرائكم عليكم واطّلاعهم بموالاتكم على ما يمكنهم الغلبة به عليكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا

٢٤٣

وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) كرّره بلفظه إحضارا لهم بمديحتهم واشعارا بعلّة الحكم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) علوىّ لا كالارزاق الارضيّة الّتى في تحصيلها كلفة ومشقّة وحال الارتزاق فيها زحمة وبعد الارتزاق حاجة الى المدافعة (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) يعنى من بعد ايمانكم وهجرتكم (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) ويجب موالاتهم كموالاتكم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) في مكتوبة في اللّوح وهو نسخ للتّوارث بالهجرة والنّصرة (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيحكم تارة بالتّوارث بالهجرة وتارة بالرّحم لمصلحة يعلمها ويأمركم بموالاة أنفسكم وترك موالاة الكفّار أيضا لمصلحة.

٢٤٤

سورة التوبة

مائة وتسع وعشرون آية وهي مدنيّة كلّها وقيل : غير آيتين وهما قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) (الى آخر السّورة) واسماؤها عشرة سورة براءة ، والتّوبة ، والفاضحة ، والمبعثرة لبحثها عن اسرار المنافقين ، والمقشقشة لتبرئتها من النّفاق ، والبحوث لبحثها عن اسرار المنافقين ، والمدمدمة اى المهلكة ، والحافرة من الحفر بمعنى التّنقية ، والمثيرة ، وسورة العذاب. عن أمير المؤمنين (ع) لم ينزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) على رأس سورة براءة لانّ بسم الله للأمان والرّحمة ونزلت براءة لدفع الامان والسّيف ، وعن الصّادق (ع) الأنفال وبراءة سورة واحدة ولذلك لم ينزل بينهما بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وقيل : كان النّبىّ (ص) ينزل عليه الآيات فيدعو بعض الكتّاب فيقول : ضع هذه الآيات في سورة كذا وكذا ، وكان الأنفال في اوّل ما نزلت في المدينة وبراءة في آخر ما نزلت وقبض رسول الله (ص) ولم يبيّن انّها منها فوضعناها عقيبها من دون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) هذه من المصادر النّائبة عن افعالها وأصلها برء الله ورسوله براءة من الّذين عاهدتم ثمّ حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ووصل الفاعل بحرف الجرّ صفة له ، نظيره ما يقولون زعما منهم وخلافا لهم فانّهما أصلهما زعموا وخالفوا وأبدل لفظة من بلفظة الى اشعارا بتضمين معنى الوصول أو تقديره ، ثمّ عدل من نصب براءة الى الرّفع مبالغة وتأكيدا وقد قرئ بالنّصب على أصله وعلى هذا فهي مبتدء مخصّص بالصّفة وخبره الى الّذين عاهدتم ويحتمل ان يكون خبرا لمبتدء محذوف ومن الله والى الّذين عاهدتم صفتين له اى براءة ناشئة من الله واصلة الى الّذين عاهدتم ، أو هذه براءة وأصله من الله الى الّذين عاهدتم ونسب المعاهدة الى المسلمين لانّها مع كونها من رسول الله (ص) كانت لمصلحة المسلمين فكأنّها كانت منهم ، ونسب البراءة الى الله والرّسول مخاطبا للمسلمين اشارة الى وجوبها عليهم والّذين عاهدتهم وان كان عامّا لكنّه مخصّص بالنّاقضين بقرينة الاستثناء الآتي ، فالنّظر في انّه كيف يجوز نقض العهد من الرّسول (ص)؟ ساقط من أصله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أعلام وامهال نصفا ورجاء ان يتوبوا والمراد بأربعة أشهر عشرون من ذي الحجّة الى عاشر ربيع الثّانى ، ونقل انّ فتح مكّة كان في الثّامن من الهجرة ونزول سورة براءة في العام التّاسع وحجّة الوداع في العاشر واتّفق مفسّروا العامّة والخاصّة انّه بعث رسول الله (ص) أبا بكر أميرا على الموسم فقالت الخاصّة : بعثه بسورة براءة ثمّ نزل عليه الوحي ان لا يؤدّى عنك الّا رجل منك فبعث عليّا (ع) فلحق بأبى بكر وأخذ سورة براءة منه وقالت العامّة: نزل براءة بعد بعثه (ص) أبا بكر فبعث بعده عليّا (ع) فقيل له (ص) في ذلك فقال : لا يؤدّى الّا رجل منّى وتفصيل قصّته مذكورة في كتب الفريقين (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) تهديد لهم بانّ الامهال لا ينفعهم (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ)

٢٤٥

هذا نظير براءة من الله في نيابة المصدر عن الفعل والعدول الى الرّفع (إِلَى النَّاسِ) وهذا من التّكرار المطلوب في مقام التّهديد والغضب (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) سمّى يوم النّحر بالحجّ الأكبر في مقابل العمرة ، أو لانّ في يوم النّحر معظم افعال الحجّ ، أو لانّه كان سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) اى بانّ الله ورسوله عطف على المستتر في بريء وقرء بالنّصب عطفا على اسم انّ (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) هذا أيضا من التّكرير المطلوب في مقام التّهديد (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) من قبيل استعمال الضّدّ في الضّدّ تهكّما (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين لبيان بقاء عهد غير النّاكثين (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) فانّ نقض الشّروط ومظاهرة العدوّ نقض فعلىّ (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) من نقض العهد بلا سبب (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) هي أشهر السّياحة الّتى جعلها الله حرما لامان المشركين (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حلّ وحرم (وَخُذُوهُمْ) بالأسر (وَاحْصُرُوهُمْ) عن المسجد الحرام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) لئلّا يبسطوا في البلاد (فَإِنْ تابُوا) بالتّوبة النّبويّة (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) بانقياد احكام الإسلام (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) لانّهم حينئذ يكونون أمثالكم ولهم مالكم وعليهم ما عليكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما صدر عنهم بالتّوبة (رَحِيمٌ) برحمهم بالإسلام واقامة احكامه (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) من شرّ المؤمنين أو من غيرهم طلبا للأمان في الدّنيا (فَأَجِرْهُ) فانّ التّوجّه إليك وان كان للدّنيا له حرمة فلا تهتكها كما انّ لنحلة الإسلام بواسطة التّشابه بالإسلام واقامة احكامه لها حرمة وغاية الاجارة سماع كلام الله وفيه حصول المقصود من ارسالك (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فانّ في سماع كلام الله كسرا لسورة عنادهم واستمالة لهم الى الحقّ ومقاتلتك ليست الّا لذلك (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) بعد ارادة العود الى وطنه بان لا يتعرّض أحد من المسلمين له حتّى يبلغ بأمان منك وحافظ من المسلمين ان احتاج اليه الى وطنه أو المكان الّذى هو مأمنه (ذلِكَ) الإلجاء حين الالتجاء وإبلاغ المأمن حفظا لحرمة التّوجّه إليك وان كان لأغراض دنيويّة وانتظار سماع كلام الله (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) لاشتداد جهلهم بحيث ستر جهة علمهم الّذى هم مفطورون عليها وبسماع كلام الله يضعف جهة جهلهم ويظهر جهة علمهم فيرجى منهم قبول قولك بعد ظهور جهة علمهم (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) استفهام إنكارىّ في معنى النّفى وفيه معنى التّعجّب اى لا يكون للمشركين عهد عند الله وهو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : كيف يصحّ الغدر ونقض العهد؟ ـ فقال ليس لهم عهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) عن نقض العهد (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) تكرار كيف لمناسبة مقام الّذمّ والسّخط

٢٤٦

(لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) قرابة أو حلفا وعهدا (وَلا ذِمَّةً) عهدا على التّفسير الاوّل لإلّا أو حقّا في ذمّتهم على التّفسير الثّانى (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) عمّا يقولون بأفواههم (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن حكومة العقل وحكومة خليفة الله وذكر الأكثر لانّ بعض الكفّار لهم حالة انقياد لطاعة العقل ان نبّههم منبّه (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) استيناف في موضع التّعليل لفسقهم والآيات اعمّ من الآيات التّكوينيّة النّفسانيّة والآفاقيّة والتّدوينيّة (ثَمَناً قَلِيلاً) من الاعراض الدّنيويّة والأغراض الفاسدة والتّمتّعات الفانية (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) اعرضوا أو منعوا عن سبيله التّكوينىّ وهو سبيل العقل في العالم الصّغير أو عن سبيله التّكليفىّ وهو النّبوّة أو الولاية (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من اشتراء الآيات والصّدّ عن السّبيل فانّ وباله لا يرجى غفرانه (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ) التّكرار باعتبار مطلوبيّة التّكرار في مقام الّذمّ والسّخط (إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) الكاملون في الاعتداء (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) التّكرار هنا أيضا من التّكرار المطلوب (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) التّكوينيّة بالآيات التّدوينيّة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) جمع اليمين بمعنى العهد لانّ العهد ينعقد باليمين أو لأنّ العهد شبيه باليمين بمعنى الحلف (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بوصف ذمّ لهم (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) فانّ الايمان إذا لم تقترن بالوفاء كان وجودها كالعدم (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) عن الكفر والغدر في الايمان ، اعلم ، انّ تنزيل الآيات في المشركين بالله وتأويلها في المشركين بالولاية فانّ كلّ من بايع محمّدا (ص) أخذ عليه ان لا يخالف قوله فكلّ من خالف قوله في علىّ (ع) نكث عهده ويمينه كأصحاب السّامرىّ وعجله وكأصحاب الصّفّين وكلّ من بايع عليّا (ع) ثمّ خالفه كأصحاب الجمل والنّهروان فقد نكث عهده ويمينه لكنّ القتال ما وقع الّا مع أصحاب الجمل والصّفّين والنّهروان وفي الاخبار ورد تفسيرها بحسب التّأويل بالمشركين بالولاية (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) تحريص على القتال وتكرير للحكم بلفظ آخر لاقتضاء مقام الغضب له (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) قبل الايمان فانّ مشركي مكّة قبل المعاهدة والحلف مع الرّسول (ص) همّوا بإخراجه عام الهجرة فانّ المشاورة والهمّة بإخراجه كانت عام الهجرة قبل الهجرة كما مضى حكاية مشاورتهم في دار النّدوة والمعاهدة والايمان كانت عام الحديبية وعام فتح مكّة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالمعاداة ومقابلة البادي بالمقاتلة كان جزاء عمله لا تعدّى فيها (أَتَخْشَوْنَهُمْ) لا ينبغي لكم ان تخشوهم مع كونكم مؤمنين بالله مستظهرين به تجرئة لهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط تهييج فانّ ايمانهم العامّ محقّق وهو يقتضي الاستظهار به وعدم الخوف من غيره والخوف من سخطه (قاتِلُوهُمْ) تكرار باعتبار اقتضاء السّخط ولبيان العلل المختلفة والغايات المترتّبة فانّ قوله : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) ؛ معلّل بأنّهم لا ايمان لهم وقوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا) ؛ الّذى هو في معنى قاتلوا معلّل بنكث الايمان وهمّة إخراج الرّسول والبدأة في القتال ، وقوله (قاتِلُوهُمْ) مغيّى بتعذيبهم على أيدي المؤمنين

٢٤٧

والعمدة مطلوبيّة التّكرار لاقتضاء مقام السّخط له (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) ذكر غايات خمس : الاوّل ـ تعذيبهم بالنّسبة الى من يقتل ويجرح ، ونسب التّعذيب الى أيدي المؤمنين للاشارة الى انّ أيديهم كما انّها أجزاء لهم ومنسوبة إليهم كذلك هي آلات لفعله تعالى وواسطة اثره ، والثّانى ـ اخزاؤهم بالاذلال وإتلاف المال بالنّسبة الى من سلم من القتل والجرح وهما راجعان الى الكفّار ، والثّالث ـ ظهور نصرته وغلبة المؤمنين عليهم فانّه لولا المقاتلة لم يظهر النّصرة ، والرّابع ـ شفاء صدور المؤمنين واستعمال الشّفاء والتّشفّى منتسبين الى الصّدر وباعتبار الألم الّذى يصل إليها من اعتداء المعتدى ، والخامس ـ اذهاب غيظ قلوبهم وغيظ القلوب عبارة عمّا يحمل الإنسان على ارادة الانتقام وهو ناش من الم القلوب ، وهذه الثّلاثة بالنّسبة الى المؤمنين ونسبة الشّفاء واذهاب غيظ القلوب الى قوم من المؤمنين للاشارة الى انّ بعض المؤمنين لا يتألّمون من اعتداء المشركين بل يرون اعتداءهم سائقا لهم الى ربّهم ، كما انّ مرافقه مولاهم قائدة لهم وقوله بالفارسيّة «در بلا هم مى چشم لذّات أو» اشارة الى هذا (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ادّاه مرفوعا بصورة الاستيناف للاشارة الى عدم لزومه للمقاتلة كسوابقه لكن أتى بأداة العطف مشعرا بانّه أيضا قد يترتّب على المقاتلة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالغايات المترتّبة على المقاتلة ولذا يأمركم بها (حَكِيمٌ) لا يأمركم الّا بما فيه صلاحكم وصلاح أعداءكم (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) على فراغكم ولا تؤمروا بالمقاتلة (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) اى جهاد المجاهدين فانّ في الإتيان بالموصول إيماء الى اعتبار حيثيّة الصّفة ولمّا كان لعلمه تعالى مراتب وبعض مراتبه مع الحادث وفي مرتبة الحادث وان كانت بالنّسبة اليه تعالى قديمة واجبة بقدمه ووجوبه تعالى صحّ نفى العلم عنه باعتبار نفى حدوث الحادث ، أو الفعل مضمّن معنى الظّهور اى ولمّا يظهر علمه بالّذين جاهدوا منكم ، أو نسبة نفى العلم اليه تعالى باعتبار مظاهره اى لمّا يعلم النّبىّ الّذى هو مظهر الله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) عطف على جاهدوا والوليجة الجماعة الّتى يكون الشّخص مراودا لهم ومستظهرا بهم وخاصّتك من الرّجال ومن تتّخذه معتمدا عليه من غير أهلك واللّصيق بالشّخص الّذى لا ينفكّ عنه ، والمراد بالمؤمنين الائمّة كما في الاخبار لانّهم الكاملون في الايمان ولانّهم الأصل فيه وايمان غيرهم فرع ايمانهم ، ولانّهم يجعلون النّاس في أمان الله بالبيعة معهم ويجيز الله أمانهم ، ويجوز تعميم المؤمنين ، وفسّر الوليجة في الاخبار بالبطانة وبمن يقام دون ولىّ الأمر (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيعلم المجاهد ، وآخذ الرّسول (ص) والمؤمنين وليجة ، ويعلم القاعد ، والآخذ غير الله ورسوله والمؤمنين وليجة ، وهو ترغيب في المجاهدة والاعتماد على الله وتهديد عن القعود والاعتماد على غير الله (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) استيناف لردّ مفاخرة المشركين بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ وحجابة البيت وفكّ العناة كما فسّر في الاخبار ، وفيه أيضا ردع للمؤمنين عمّا يتخاطروا به من عدم جواز مقاتلة المشركين مع كونهم مباشرين لتلك الأعمال السّنيّة والمناصب الشّريفة ، والمقصود انّه ليس الاعتبار بمشاكلة صورة اعمال الأبرار وان صدرت من الأشرار بل الاعتبار بمصدر الأعمال فتعميرهم في الحقيقة تخريب لمسجد القلب حيث يراؤن ويفتخرون به ، وسقايتهم صدّ متعطّشى مملكتهم عن ماء الحيوة حيث يعجبون به ، وحجابتهم حجابة الشّيطان لبيته الّذى هو بيت النّفس ،

٢٤٨

وفكّ العناة أسر لاحرار قواهم وصدّ لهم عن الرّجوع الى مولاهم ، (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) يعنى بالايمان بالله ومساجد الله هي الصّدور المنشرحة بالإسلام والقلوب المستنيرة بنور الايمان وعمارتها بالإسلام والايمان ؛ ولذا قال اشارة الى هذا البيان (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) حالا حيث يعملون اعمال الكفر وقالا حيث يقولون ما يلزم الكفر من عدم الاعتقاد بالبعث والحساب وبإرسال الرّسول وإنزال الكتاب وغير ذلك ممّا يستلزم الكفر وعدم المعرفة بالله (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فلا يباهوا بصور أعمالهم ولا تنظروا ايّها المؤمنون الى صورها لانّها ساقطة بل هي كالاجساد الميتة الّتى توذي حاملها (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) لا غيرهم فهو تأكيد للنّفى السّابق بمفهومه ولمّا كان عمارة المساجد الصّوريّة مع الاتّصاف بالشّرك تخريبا للمساجد الحقيقيّة الّتى هي القلوب وأربابها وكان حكم التّخريب غالبا وحكم العمارة مغلوبا كأنّها لم تكن ، وكان الايمان بالله واليوم الآخر الّذى هو كمال القوّة النّظريّة في اعتقاد المبدء والمعاد وقد اندرج فيه جميع المعارف الرّاجعة الى المبدء والمعاد واقام الصّلوة وإيتاء الزّكاة اللّذان هما كمال القوّة العمليّة ، وهما أصلان لجميع النّسك والعبادات عمارة للمسجد الحقيقىّ الّذى هو القلب وصاحبه وصار حكمها غالبا بحيث تنسب الى المساجد الصّوريّة وان لم تكن فيها عمارة قال بطريق الحصر : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) آتيا بالجمع المضاف المفيد للعموم وبمن الموصولة المفيدة للعموم ، مع انّ أكثر المؤمنين لم يعمروا مسجدا قطّ ولو صححّ بتضمين يعمر معنى يصحّ فالتّأدية بهذه الصّورة للاشارة الى هذا المعنى (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) تعريض بالضّعفاء من المؤمنين (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ) اى كعمل من آمن أو هو بتقدير مضاف في جانب المسند اليه وهو خطاب للمشركين أو للمؤمنين أو للجميع (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وهو كمال العلم (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهو إجمال الصّلوة والزّكاة اللّتين هما كمال العمل ، والتّكرار باعتبار مطلوبيّته في مقام الّذمّ والمدح (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) بحسب العلم والعمل اى الحال الّتى هم عليه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فلا يستوون بحسب الغاية أيضا لانّ الله يهدى المؤمنين ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بذمّ لهم وبعلّة عدم هدايتهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) تكرار الأوصاف باعتبار اقتضاء مقام المدح (وَأُولئِكَ) الموصوفون بتلك الأوصاف العظيمة (هُمُ الْفائِزُونَ) لا غيرهم (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) تفصيل لفوزهم ، والرّحمة هنا محمّد (ص) ونبوّته لانّها صورة الولاية الّتى هي الرّحمة ، والرّضوان علىّ (ع) وولايته ، والتّنكير للتّفخيم (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) كأنّه استكثر ما ذكر فقال تعالى : هذا في جنب ما عند الله لهم قليل فهو استيناف جواب لسؤال مقدّر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) فانّ نسبة الايمان قطعت النّسبة الجسمانيّة فهي مقدّمة على نسبة القرابة الجسمانيّة ، ونقل عن الباقر (ع) انّ الكفر في الباطن في هذه الآية ولاية

٢٤٩

مخالفي علىّ (ع) والايمان ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) ؛ وعلى هذا فليعمّ الايمان الايمان الخاصّ ، ومعلوم انّ احكام الايمان العامّ جارية في الايمان الخاصّ بل هو اولى بها من الايمان العامّ (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) حيث وضع ولايته في غير موضعها وظلم نفسه بالصّرف عن جهة الايمان الى جهة الكفر (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) ذكر أصول مشتهيات النّفس (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) اعلم ، انّ الإنسان واقع بين النّفس والعقل ومقتضيات النّفس هي الاعراض الدّنيويّة المعدودة وأصولها في الآية ومقتضيات العقل الأمور الاخرويّة الباقية والانزجار عن الاعراض الفانيّة ورفضها الّا من باب المقدّمة ، والمبتلى بالنّفس ومقتضياتها واقع في جهنّامها ولا محالة يكون سبيله الى السّجّين ودار الشّياطين ، والمتنعّم بالعقل ومقتضياته واقع في طرف الآخرة ولا محالة يكون سبيله الى الجنان ونعيمها ، فمن غلب عليه حبّ الاعراض فليعالج نفسه وليتضرّع الى ربّه حتّى لا يكون ممّن أو عده الله بقوله (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) من إزهاق الرّوح وحضور الموت فانّه حينئذ ينكشف له انّه كان في جهنّام النّفس وسبيله الى السّجّين (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) يعنى انّ اختيار الاعراض الفانية على الأمور الباقية فسق والفاسق لا يهديه الله الى سبيل الجنان فوضع الظّاهر موضع المضمر للدّلالة على فسقهم وعلّة تهديدهم ، روى انّه لمّا آذن أمير المؤمنين (ع) بمكّة ان لا يدخل المسجد الحرام مشرك بعد ذلك العام جزعت قريش جزعا شديدا وقالوا : ذهبت تجارتنا وضاع عيالنا وخربت دورنا فأنزل الله تعالى (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) (الآية) (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) فليرجّح طالب الاعراض الفانية محبّة الله ورسوله حتّى يحصل مأموله روى انّ المواطن كانت ثمانين وهي مواقع الحرب (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ وسبب غزوة حنين وهو واد بين مكّة والطّائف انّ رسول الله (ص) حين خرج لفتح مكّة أظهر انّه يريد هوازن ، وبلغ الخبر إليهم فتهيّؤا وجمعوا أموالهم ونساءهم وذراريهم وحملوها معهم وقصدوا رسول الله (ص) ، فبلغ الخبر اليه (ص) فجمع القبائل ووعدهم النّصر والغنيمة فجمع اثنى عشر ألفا وخرج من مكّة يستقبلهم ، فقال ابو بكر معجبا لن نغلب اليوم فلمّا التقى الفريقان في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد انهزم المسلمون هزيمة فاحشة ثمّ نصرهم الله بالملائكة فأخذوا غنائم وافرة وأسارى كثيرة بلغ عدد الأسارى ستّة آلاف ، ولمّا لم يخف نصرة الله في ذلك اليوم على أحد حتّى على المشركين حيث قال بعض أساراهم : اين الخيل البلق؟! والرّجال عليهم ثياب بيض؟ ـ وكان الغنائم والأسارى أكثر ما يكون ؛ خصّه الله بالذّكر (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قد مضى انّ المعجب كان ابو بكر وقد ساء مقالته رسول الله (ص) (فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) من الإغناء أو شيئا من بأس الأعداء فانّ الكثرة إذا لم تكن قرينة للنّصرة لا تنفع ، والنّصرة هي المغنية سواء كانت قرينة للكثرة أو للقلّة (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ) حين غلبتم وانهزمتم (بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) عن رسول الله (ص) وعن الجهاد (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعنى بعد ما صرتم مغلوبين وعلمتم انّ الكثرة وتهيّة الأسباب لا تغني ولا تصير سببا للغلبة انزل الله سكينته الّتى هي سبب اطمينانكم وقوّة قلوبكم ، والسّكينة على ما فسّرت

٢٥٠

في الاخبار من ، انّها ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، تناسب ما فسّرها به الصّوفيّة الصّافية من انّها صورة ملكوتيّة تظهر على صدر الإنسان متصوّرة للاتباع بصورة الشّيخ المرشد وللمتبوعين بصورة مناسبة لهم تسمّى بالملك أو بجبرئيل بحسب تفاوت مراتبهم ، وحين تمثّل صورة الشّيخ أو الملك يصير ملكوت المتمثّل له غالبة وملكه مغلوبا وحينئذ يكون له الغلبة على النّفس واهويتها وعلى الملك ومن وقع فيه ، لانّه مؤيّد بالّسكينة الّتى هي من سنخ الملك وجاذبة للملائكة ولذا قال بعد إنزال السّكينة (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وقد مضى تحقيق السّكينة في سورة البقرة عند قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر ونهب الأموال (وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) تعريض بالامّة حيث كانوا يكفرون بعد محمّد (ص) بالولاية ، وقصّة حنين مذكورة في المفصّلات مفصّلة من أراد فليرجع إليها (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التّعذيب (عَلى مَنْ يَشاءُ) يعنى لا تنظروا إليهم بعد التّعذيب بنظر التّحقير لإمكان تدارك رحمته تعالى لهم لانّهم عباد الله وصنائعه (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قد يؤاخذ عباده إصلاحا لهم كما قد يؤاخذ نقمة لهم والّا فمغفرته ورحمته سابقة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) إبداء حكم آخر (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) بسبب قلّة تجارتكم لمنع المشركين عن التردّد الى بلدتكم فثقوا بالله وارجوا فضله (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) التّعليق على المشيّة لقطع الاغترار بالوعد ولانّه لم يكن لكلّهم وقد أنجز وعده بعد اجلاء المشركين بتبسّط أهل المدينة ومكّة على سائر البلاد وبعد ذلك بتوجّه أهل الشّرق والغرب إليها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بعواقب أو امره ونواهيه (حَكِيمٌ) لا يأمر ولا ينهى الّا لمصلحة وحكمة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) بعد ما أظهر حكم المشركين واجلاءهم ومقاتلتهم بتأكيد وتغليظ بيّن حكم أهل الكتاب ولم يصدّره بالنّداء اشارة الى التّفاوت بينهم وبين المشركين في التّغليظ (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) لفظ من للتّبعيض (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ما يقرّر ويقضى من جزى دينه إذا قضاه (عَنْ يَدٍ) عن قوّة وبطش منكم وهذا مثل سائر في العرب والعجم يقول العاجز الّذليل تحت يد غيره : افرّ عن يده ، كما يقول العجم «فرار كردم از دست فلان كس» وهذا المعنى هو المناسب للمقام ولتنكير لفظ اليد ، وقد ذكر له معان أخر مثل : منقادين ، وعن غنى ، وعن انعام ، وعن يدهم لا يد غيرهم (وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلّاء وحكم الجزية وأهلها مذكور في المفصّلات من التّفاسير والكتب الفقهيّة (وَقالَتِ الْيَهُودُ) امّا استيناف على القول بمجيء الواو للاستيناف ، أو عطف باعتبار المعنى فانّ تعليق الأمر بالمقاتلة على الموصول للاشعار بعلّة الحكم فكأنّه قال : قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله من جهة انّهم لم يؤمنوا وقالوا (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) ووضع الظّاهر موضع المضمر لارادة التّفصيل وتعيين قائل كلّ قول ، اعلم ، انّ القائلين عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ونحن أبناء الله ، لم يريدوا بتلك الكلمة ما يفهم منها بحسب الظّاهر من التّوليد والتّجسيم وإثبات الزّوج لله ، بل أرادوا بيان النّسبة الرّوحانيّة بهذه الكلمة وقالوا من حصل له القرب من الله بحيث يأخذ الأحكام والآداب منه تعالى بلا واسطة بشر فهو ابن الله ، وكذا من انتسب الى الله بواسطة الاتّصال بنبىّ أو ولىّ فهو ابن الله بيانا لشدّة القرب أو لصحّة

٢٥١

الانتساب ولا شكّ في صحّة هذا المعنى ، ولكنّها ممنوعة في حقّه تعالى لا يهامها معناها الظّاهر والتّجسيم والتّوليد كما حمل الاتباع هذه الكلمة على ظاهرها وقالوها بمعناها الظّاهر ، ولا شكّ انّ معناها الظّاهر كفر وفرية ، ولهذا حكاها تعالى شأنه عنهم ذمّا لهم (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) نقل انّه كان يقول : انّ ابى يقول كذا ، وثبت هذا المعنى في الإنجيل (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) لا اعتقاد لهم به بأىّ معنى كان فانّ الاعتقاد بهذا المعنى يقتضي العمل بمقتضاه وهو عدم التّخلّف عن قول من نسبوه بالنّبوّة الى الله وليس كذلك مثل قوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) اى يضاهئ قولهم قول الّذين كفروا ، بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه ، والمضاهاة في عدم كون قول كلّ عن أصل وعدم موافقته للاعتقاد وكون كلّ ناشئا من محض التخيّل من غير حجّة عليه كقول المجنون ، والمراد بالّذين كفروا (مِنْ قَبْلُ) امّا اليهود على ان يكون المراد بهم النّصارى ، أو مطلق الكفّار (قاتَلَهُمُ اللهُ) باعدهم الله ولعنهم وكثيرا ما يستعمل في هذا المعنى في العرف ، ونقل عن علىّ (ع) انّه بمعنى لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) عن الحقّ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) قد مضى انّ الأحبار علماء الملّة والرّهبان علماء الدّين والطّريقة (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يطلق الرّبّ على المطاع وهو الرّبّ في الطّاعة ، وعلى المعبود وهو الرّبّ في العبادة ، وعلى المدبّر في الوجود وهو الرّبّ في الوجود وبقائه ، وعلى الخالق وهو الرّبّ في الإيجاد والمقصود من الرّبّ هاهنا هو الرّبّ في الطّاعة حيث قالوا لهم : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا من التّوراة والإنجيل ، فسمعوا منهم من غير حجّة ، والنّاس غير العلماء الالهيّين منهم لا بدّ لهم من ربّ بشرىّ يطيعونه لعدم بصيرتهم بأمر دينهم وبأمر دنياهم على وجه لا يضرّهم في عقباهم وذلك الرّبّ المطاع امّا منصوب من الله فقوله قول من الله وقول الله ، وطاعته طاعة الله ، وربوبيّته ربوبيّة الله ، وامّا غير منصوب من الله فهو غير الله وهو ناش من غير الله وطاعته غير طاعة الله فقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) تقييد للارباب يعنى أربابا ناشين من دون الله من حيث ربوبيّتهم ، أو أربابا هم بعض من غير الله على ان يكون من للابتداء أو للتّبعيض (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) عطف على أحبارهم يعنى اتّخذوا المسيح بن مريم ربّا في العبادة ولذا جاء به بعد تمام حكم المعطوف عليه واخّره عن الأحبار ليكون ترقّيا الى الأبلغ في الّذمّ ، ان قلت : انّ المسيح منصوب من الله فهو ربّ من الله ولا ذمّ في اتّخاذه ربّا؟! فالجواب انّ ربوبيّته في الطّاعة من حيث انّه من الله ممدوحة وامّا ربوبيّته في العبادة كما تفهم من قولهم انّه اله أو انّه ابن الله ، أو انّه ثالث ثلاثة وكذا ربوبيّته في الطّاعة من حيث انّه مستقلّ في الرّبوبيّة فهي مذمومة واشراك بالله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) غير مركّب في ذاته وغير متعدّد في الوجود فطاعة الرّسل ان كانت من حيث انّهم رسل الله طاعة الله وطاعتهم لا من تلك الحيثيّة ليست طاعة الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة بعد صفة أو حال أو مستأنف والمقصود منه حصر الآلهة فيه كأنّه قال: ما أمروا الّا ليعبدوا إلها واحدا محصورا فيه الآلهة (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) في الطّاعة والولاية كاشراك الأحبار والرّهبان أو في الطّاعة والعبادة والآلهة جميعا كاشراك المسيح وهو تعريض بالامّة حيث أشركوا في الولاية والطّاعة من لم ينصبه الله وللاشارة الى التّعريض قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) بالمضارع والّا فالمناسب لحال اليهود والنّصارى

٢٥٢

ان يقول : أرادوا مثل اتّخذوا بالماضي والمراد بنور الله ولاية علىّ (ع) فانّها نور يظهر به الحقّ ويتميّز به السّعيد عن الشقىّ ، والمراد بالاطفاء بالأفواه إلقاء الشّبهات والأحاديث الموضوعات والتّحريف في الكتاب للتّدليس على الجهّال شبّه ذلك بالنّفخ في السّراج وفي الاخبار ما يدلّ على التّعريض المذكور (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بالله أو بالرّسالة بحسب التّنزيل أو بالولاية بحسب المراد (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) امّا استيناف منقطع عمّا سبق لابداء حكم آخر قطعا لاطماع المشركين في ابطال رسالة محمّد (ص) وعلى هذا فاضافة الرّسول للعهد ، وامّا استيناف في موضع التّعليل لقوله (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) اى رسالة رسوله وعلى هذا فاضافة الرّسول (ص) ، امّا لتعريف الجنس وتعميمه أو لتعريف العهد وفيه أيضا قطع لاطماع المشركين ، والمراد بالرّسول امّا معنى عامّ للرّسل (ع) وأوصيائهم (ع) فانّهم رسل من الله بواسطة الرّسل ، أو معنى خاصّ بالرّسل الاصطلاحيّة الّذين اوحى إليهم بشرع وتبليغه ، أو المراد محمّد (ص) وعلى التّقديرين الأخيرين فالمقصود سراية الحكم الى اتباعهم أو اتباعه ، امّا من باب الفرعيّة والتّبعيّة وامّا لانّهم أجزاء الرّسل بحسب سعتهم الولويّة وامّا لانّهم مظاهر الرّسل بحسب صدورهم وقلوبهم وعقولهم ، فيصحّ تفسير الآية بخروج القائم عجّل الله فرجه وانّها ممّا لم يأت تأويلها وانّه (ع) إذا ظهر ظهر على الأديان كلّها (بِالْهُدى) بما به الهدى وهو الأحكام القالبيّة الشّرعيّة كما أشير الى تسمية الإسلام وأحكامها بالهدى في قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ)(وَدِينِ الْحَقِ) دين الحقّ هو طريق الحقّ وهو الولاية والايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الباطنة الولويّة وبعبارة اخرى الهدى هو الإسلام ودين الحقّ هو الايمان وقد فسّر دين الحقّ بولاية علىّ (ع) في أخبارنا ، فعن الكاظم (ع) في هذه الآية والآية السّابقة : هو الّذى امر رسوله بالولاية لوصيّه والولاية هي دين الحقّ ليظهره على جميع الأديان عند قيام القائم (ع) والله متمّ ولاية القائم ولو كره الكافرون بولاية علىّ (ع) قيل : هذا تنزيل؟ ـ قال : نعم هذا الحرف تنزيل وامّا غيره فتأويل (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أتى بالمفرد المستغرق بقرينة التّأكيد بالكلّ دون الجمع روما للاختصار واشعارا بانّ الأديان الباطلة مع كثرتها ونهاية فرقتها متّحدة في الغاية وهي الانتهاء الى السّجّين والملكوت السّفلى (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) بالله أو بالرّسالة أو بالولاية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أتى بالنّداء ومؤكّدات الجملة من انّ واللّام واسميّة الجملة امّا للاشعار بأنّ شأنهم التّحفّظ عن اموال النّاس بحيث ينبغي ان ينكر هذا منهم أو يردّد في وقوعه منهم حتّى يكون أبلغ في الّذمّ والتّفضيح ، أو لتأكيد لازم الحكم الّذى هو المقصود منه من ذمّهم وتفضيحهم وتنفير النّاس منهم ومن أقوالهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن النّبىّ (ص) أو عن الولىّ (ع) والمقصود التّعريض بأمّة محمّد (ص) ومن يأتى بعده بصورة الأحبار والرّهبان من المتسمّين بالعلماء والفقهاء وبالصّوفيّة والعرفاء الّذين لا فقه لهم سوى ما يحصل به الاعراض والأغراض ولا معرفة لهم ولا تصوّف سوى الدّلق والحلق (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) امّا عطف على (لَيَأْكُلُونَ) ووجه حسنه مع الاختلاف بالاسميّة والفعليّة الاشعار بانّ الّذين يكنزون الّذهب مشهور ذمّهم بحيث لا ينكر وانّ الأحبار والرّهبان هم الّذين يكنزون وقد اشتهر ذمّهم فلا تبالوا بقولهم ، وامّا عطف على اسم انّ عطف المفرد أو عطف على جملة انّ مع اسمها وخبرها بتقدير مبتدء أو بتقدير خبر أو مستأنف بجعل الّذين مبتدء وقوله

٢٥٣

فبشّرهم خبرا له وقد مرّ انّ ما يسمّونه واو الاستيناف هو واو العطف بلحاظ المعنى (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) دخول الفاء في الخبر على كونه خبرا لكون المبتدء في معنى الشّرط (يَوْمَ يُحْمى) يوقد النّار (عَلَيْها) على الذّهب والفضّة وضمير المؤنّث باعتبار معنى الجمعيّة والكثرة فيهما (فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) ذكر تعالى أشرف الاجزاء وأقواها اشارة الى شمول الكىّ أو لانّهم أرادوا بالكنز الوجاهة ونعامة فراش الجنبين والظّهر مقولا لهم (هذا) الّذى تكوون به (ما كَنَزْتُمْ) أو هذا الكىّ غاية ما كنزتم وهو ضدّ ما أردتم (لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) اى وباله قد اختلف الاخبار في حقيقة الكنز وفي قدر يصدق عليه الكنز وفي مال يصدق عليه وقد ذكرت الاخبار في المفصّلات ، وتحقيق الحقّ فيه موافقا لاشارات الاخبار انّ الإنسان له مراتب كثيرة وحكمه وحاله في كلّ مرتبة مخالف لحاله في غيرها ، مثلا الواقع في جهنّام النّفس الّذى لا يرى الخير الّا ما اقتضته نفسه ولا يرى الّا الأسباب وكان محجوبا عن الله وتسبيبه ، فكلّما جمع مالا لا يكون ذلك منه الّا محض حبّ المال أو محض الاتّكال في المعاش عليه مع عدم الوثوق بالله والتّوكّل عليه ، وهذا المال منه كنز قليلا كان أو كثيرا تحت الأرض كان أو فوقها مؤدّى زكوته أو غير مؤدّى ، بل هو شرك بالله وكفر وصاحبه وثنّى وذلك المال صنمه ، وان توجّه من جهنّام النّفس الى الملكوت العليا ولا محالة يكون منزجرا عن النّفس وجهنّامها لكنّه ما لم يخرج منها يكون مقيّدا مبتلى بمقتضياتها وسلاسل شهواتها ، فان جمع في حال التّوجّه والانزجار متوكّلا به على الله مصداقا لما قيل في مضمون الصّحيحة النّبويّة : (مثنوى)

«با توكّل زانوى اشتر ببند»

معينا به على خروجه وعلى معيشته لم يكن كنزا ، لانّه حينئذ يؤدّى حقوقه الواجبة والمندوبة حيث يريد الخروج من تحت امر نفسه والدّخول تحت امر ربّه ، وان جمع في حال التّقييد بالنّفس ومشتهياتها ولا محالة يكون محجوبا من الله والتّوكّل عليه كان كنزا ادّى حقوقه أو لم يؤدّ ، وان خرج من تلك الجهنّام الى الجانب الأيمن من طور الصّدر كان له الحالتان أيضا لكن تقيّده بسلاسل شهواتها يكون أضعف ، وان خرج من بيت نفسه الخراب الى بيت قلبه المعمور فهو أيضا ذو وجهين وله الحالان ، وان دخل بيت قلبه فقد دخل دار الامان وفي حقّه قيل:

كفر گيرد ملّتى ملّت شود

فميزان الكنز وعدمه حال الإنسان لا حال المال وقدره ، فالفقير المحبّ للدّنيا مكتنز ، والغنىّ المنزجر غير مكتنز ، والكنز عبارة عن محبّة الدّنيا المدّخرة في بيت القلب اعتمادا عليها ووثوقا بها لا المال المكتنز تحت التّراب (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) استيناف لا بداء ذمّ أخر للمشركين وعلّة اخرى لمقاتلتهم اعلم ، انّ الايّام والشّهور الزّمانيّة الّتى هاهنا صور للدّهر والدّهر صورة للسرمد ، والكلّ ظهور سير شمس الحقيقة في بروجها السّتّة النّزوليّة والسّتّة الصّعوديّة وغروبها في أفق كرة ارض الطّبع وطلوعها منه وظهور الكلّ علينا بهذا الزّمان الّذى يعبّر عنه باليوم واللّيل والشّهر والعام ، فهذه الايّام والأشهر لها حقائق متمايزة في مراتب الملكوت والجبروت وتلك الحقائق لها آثار وخواصّ ورقائق في هذه ، وما قاله الأنبياء (ع) وأصحاب الوحي والتّحديث من خواصّها وما جرّ به المجرّبون منها عشر من أعشار خواصّها ، وما يترتّب عليها مثل ما قالوا من خواصّ ايّام الأسبوع أو ايّام الشّهور ، ومثل ما قالوا من خواصّ الشّهور ولمّا جعل المشركون كالطّبيعيّين وأكثر العوامّ ما سمعوه منها كالاسمار ولم يستمعوه بسمع الحقيقة والاعتبار بل قالوا : انّ الايّام متشابهة والأشهر

٢٥٤

متوافقة لا تمايز بينها في الحقيقة وانّ ما قيل فيها من التّمايز والخواصّ محض اعتبار لا حقيقة له قال تعالى ردّا عليهم ، انّ عدّة الشّهور عند الله كما انّها عندكم اثنى عشر شهرا يعنى ما عندكم من اثنى عشرا قمريّة في كلّ عام تقريبا وشمسيّة في كلّ عام حقيقة انّما هي رقائق للحقائق الّتى عندنا ، وكلّ منها مظهر لحقيقة من تلك الحقائق ولكلّ خواصّ وآثار ليست لغيره ولذا أتى بالتّميز التّأكيدىّ لاسم العدد تمكينا في القلوب ولم يكتف بقوله عند الله وقال (فِي كِتابِ اللهِ) اى مكتوب الله أو الكتاب المبين الّذى هو العقل أو اللّوح المحفوظ (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يعنى قبل استقرارها عندكم وبعد ما بيّن انّ حقائقها عند الله مؤكّدا هذا المعنى بالقيود الثّلاثة بيّن بعض خواصّها بقوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب ثمّ أكّد حرمتها بقوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الّذى لا عوج فيه يعنى اعتقاد حرمتها والتّصديق بها هو الطّريق القويم الّذى كانت الأنبياء عليه فمن عدل عنه كان خارجا عن طريق الأنبياء (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بان يقتل بعضكم بعضا وينهب ويأسر ، أو فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم بالاعتداء فيهنّ بهتك حرمتها بالمقاتلة فيها وارتكاب سائر ما لا ينبغي (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) في غير تلك الأشهر لانّهم هتكوا حرمتها بالنسيء بقرينة انّما النّسيء زيادة في الكفر وفي تلك الأشهر حيث بدؤكم بالقتال فيها بقرينة (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) واتّقوا هتك حرمة تلك الأشهر (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) استيناف في موضع التّعليل للأمر بالمقاتلة والمراد بالنّسيء تأخير حرمة الشّهر الحرام الى شهر آخر وتحليل المقاتلة في ذلك الشّهر الحرام كانوا إذا جاء الشّهر الحرام ولم يريدوا ترك المقاتلة فيه يقولون : هذا الشّهر كسائر الأشهر فنقاتل فيه ونترك القتال في شهر آخر ، وكونه زيادة في الكفر لانّه بعد الكفر بالله بواسطة الكفر بالرّسول تبديل لأحكام الله المقرّرة عنده المكتوبة في كتبه العالية قبل خلق هذا العالم (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث يخرجون من الطّريق القويم المستقيم بالخروج منه (يُحِلُّونَهُ) اى النّسيء أو الشّهر الحرام المنسيّ (عاماً) بيان لضلالتهم (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا) يوافقوا (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) عدد الأشهر الّتى حرّمها الله (فَيُحِلُّوا) بالنّسيء (ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) جواب لسؤال مقدّر (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الى الطّريق القويم ولذا احلّوا ما حرّم وحرّموا ما أحلّ وزيّن لهم القبائح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ أو بالايمان الخاصّ (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) اى الجهاد الصّورىّ أو في طلب الولاية أو في طريق القلب بالجهاد الباطنىّ والذّكر والفكر ورفض الهوى وترك مأمول النّفس (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) ارض التّراب أو ارض الطّبع أو ارض النّفس ، ونزول الآية في غزوة تبوك ، وسبب غزوة تبوك على ما نقل انّ رسول الله (ص) كتب كتابا الى بعض حكّام ممالك الشّام وأرسل حارث بن عمر والازدىّ ، ولمّا وصل الحارث الى موتة من قرى بلقاء من اعمال الشّام ومنها الى بيت المقدس مرحلتان ، قتله شرحيل بن عمرو الغسّانىّ أحد أمراء القيصر فوصل الخبر الى رسول الله (ص) فهيّأ سريّة موتة وجعل زيد بن حارثة أميرا عليهم وقال حين الوداع : ان قتل زيد فالأمير جعفر بن أبى طالب ، وان قتل جعفر فالأمير عبد الله بن رواحة ، وان قتل عبد الله فالأمير من ارتضاه المسلمون ، وكان يهودىّ حاضرا فسمع مقالته فقال : يا أبا القاسم ان كنت صادقا في نبوّتك فكلّ من عيّنته للامارة فلا بدّ

٢٥٥

من ان يقتل ، لانّ أنبياء بنى إسرائيل إذا وجّهوا عسكرا الى قتال الأعداء وعيّنوا جمعا للامارة هكذا قتلوا جميعا ، فتوجّه زيد مع العسكر الى المقصد وبعد المقابلة مع الأعداء والمقاتلة قتل الّذين سمّاهم الرّسول (ص) للامارة ، وروى انّه ما أفلت من أهل الإسلام الّا قليل ، وروى انّ كثيرا منهم بقوا وغيّروا بعد يوم المقاتلة أوضاعهم فتوهّم شرحيل وظنّ وصول المدد الى أهل الإسلام وارتحل وصار متحصّنا ، ورجع أهل الإسلام سالمين الى المدينة ، وكان ذلك في العام الثّامن من الهجرة وفي هذا العام كان فتح مكّة وغزوة حنين مع بنى هوازن ، ثمّ لمّا دخل العام التّاسع من الهجرة ورد عير الشّام المدينة وأشاعوا فيها انّ سلطان الرّوم جمع الجنود يريد غزو المدينة ، وانّ هرقل قد سار بجنود عظيمة وجلب معهم غسّان وجذام وبهراء وقد قدّم عساكره البلقاء ونزل هو حمص ، فأمر رسول الله (ص) أصحابه بالتهيّؤ الى تبوك وهي من بلاد البلقاء ، وبعث الى القبائل حوله والى مكّة والى كلّ من أسلم وحثّهم على الجهاد وامر أهل الجدة ان يعينوا من لا قوّة له على الخروج ، روى انّ أبا بكر عرض جميع أمواله ، وانّ عمر بذل نصف أمواله ، وانّ عثمان جهّز مائتي إبل ، وقيل : ثلاثمائة إبل ، وبذل ألف دينار وعبد الرّحمن بن عوف بذل أربعين وقّية من الذّهب وأربعة آلاف درهم ، وهكذا بذل كلّ بقدر همّته وسعته وبلغ عسكره (ص) الى ثلاثين ألفا ، وقيل : الى أربعين ألفا ، ولمّا كانت تلك الغزوة صعبة لبعد السّفر وشدّة القيظ وكثرة جنود الأعداء تقاعد بعض عن الحركة والغزو فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) (الآيات) ، وسار الرّسول (ص) بالعسكر في غاية المحنة والمشقّة في شدّة حرارة الهواء وقلّة الماء حتّى نزل بعين تبوك وكانت عينه قليلة الماء فغسل (ص) يده ووجهه بمائها فنبع الماء منها بحيث أخذ جميع العسكر منه باعجازه (ص) ومكث (ص) في ذلك الموضع عدّة ايّام ، فصحّ عنده (ص) انّ خبر خروج عسكر الرّوم كان كذبا فشاور الاصحاب في الرّجوع ورجع من هناك ، وبعث (ص) خالد بن الوليد مع اربعمائة وعشرين فارسا ليغير على دومة الجندل ، وبعد وصولهم الى نواحي دومة الجندل في اللّيل وجدوا اكيد رحاكمها مع أخيه حسّان ومعدود من خدمه في طلب الصّيد فقاتلوهم وقتلوا حسّانا وأسروا أكيدر وانهزم قليل منهم ، ودخلوا الحصار وتحصّنوا مع أخيه الاخر مصاد فقال الخالد لأكيدر : لا أقتلك وأذهب بك الى رسول الله (ص) ان أمرت أخاك وأهل القلعة ان يفتحوا باب الحصار ويسلّموا إلينا الف إبل وسبعمائة برد واربعمائة سنان واشترط لك ان آخذ حكومة دومة الجندل لك من رسول الله (ص) ، فقبل أكيدر وصالح وأرسل الى أخيه مصاد ان : افتح باب الحصار وهيّئ مال الصّلح ، وبعد أخذ مال الصّلح رجع خالد ومعه أكيدر وأخوه مصاد ودخلوا المدينة سالمين غانمين (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) استفهام توبيخ (مِنَ الْآخِرَةِ) بدل الآخرة (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) الفاء للسّببيّة باعتبار انكار الرّضا بالحيوة الدّنيا (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) بعد إهلاككم تهديد ووعيد بعد توبيخ وتقريع (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) بهلاككم أو بتقاعدكم أو بمكركم وهو إظهار للغنى عنهم وعدم الحاجة إليهم ، والضّمير المفعول امّا لله أو للرّسول (ص) بقرينة المقام ولتوافق ضمير ان لا تنصروه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على نصرة رسوله بدون امدادكم وعلى إهلاككم واستبدالكم قوما غيركم (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) تذكير لهم بنصرته له (ص) حين لم يكن له معاون حتّى يتحقّق عندهم نصرته بدونهم استمالة لقلوبهم (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين شاوروا في امره بالاجلاء والحبس

٢٥٦

والقتل في دار النّدوة كما سبق (ثانِيَ اثْنَيْنِ) يعنى لم يكن معه الّا رجل واحد وهو ابو بكر (إِذْ هُما فِي الْغارِ) غار ثور وهو جبل في يمنى مكّة على مسيرة ساعة (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ) والإتيان بالمضارع للاشارة الى انّه كرّر هذا القول لعدم سكونه عن اضطرابه (إِنَّ اللهَ مَعَنا) ومن كان الله معه لا يغلب فلا تحزن من اطّلاع الأعداء وغلبتهم ، روى عن الباقر (ع) انّ رسول الله (ص) اقبل يقول لأبي بكر في الغار : اسكن فانّ الله معنا وقد أخذته الرّعدة وهو لا يسكن فلمّا رأى رسول الله (ص) حاله قال له : أتريد ان أريك أصحابي من الأنصار في مجالسهم يتحدّثون؟ وأريك جعفرا وأصحابه في البحر يغوصون؟ ـ قال : نعم فمسح رسول الله (ص) بيده على وجهه فنظر الى الأنصار يتحدّثون ، والى جعفر وأصحابه في البحر يغوصون ، فأضمر تلك السّاعة انّه ساحر (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) السّكينة كما في الخبر ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، وهي كما مضى قبيل هذا وفي سورة البقرة على ما حقّقها الصّوفيّة صورة ملكوتيّة ملكيّة الهيّة تظهر بصورة احبّ الأشياء على صدر السّالك الى الله وأحبّ الأشياء الى السّالك هو شيخة المرشد ووليّه القائد ، وتسمّى عندهم بالسّكينة والفكر والحضور وهي السّلطان النّصير والطمأنينة وإليها أشير بقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ، وهي النّور في قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وبها يحصل معرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة ، وهي ظهور القائم عجّل الله فرجه في العالم الصّغير وبها استنارة سماوات روحه وأراضي نفسه وطبعه كما قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، وهي الاسم الأعظم والكلمة الّتى هي أتمّ ، وهي حقيقة الرّحمة والهدى والفتح والنّصرة والصّراط المستقيم والطّريق القويم والسّبيل الى الله والفوز والنّجاح ، وغير ذلك من الأسماء الحسنى الّتى لا حدّ لها وأشير إليها في الآيات والاخبار ، ولذلك كان تمام اهتمام المشايخ في تلقين الذكّر الخفىّ القلبىّ أو الجلىّ اللّسانىّ بتحصيل هذا المقام للسّلّاك وكانوا يأمرونهم بالفكر الّذى هو هذا تعمّلا حتّى تظهر وتنزل تلك السّكينة من غير تعمّل ورويّة ، ولا مقام لبشريّة الإنسان نبيّا كان أو وليّا أو تابعا لهما أشرف من هذا المقام كما قال في مقام الامتنان في هذه السّورة : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في غزوة حنين الّتى كانت في الثّامن من الهجرة وحين كمال النّبوّة وتبليغ الرّسالة ، إذا عرفت هذا فاعلم ، انّ العامّة جعلوا هذه الآية دالّه على فضيلة أبى بكر حيث كان اوّل من هاجر وذكر بمصاحبته للرّسول (ص) ولا دلالة في الآية على فضيلة له ان لم يكن دلالة على ذمّه ، فانّ الصّحابة البشريّة قد كانت للمشركين والكفّار والمنافقين المرتدّين بل الفضيلة في الصّحابة الملكوتيّة الّتى هي ظهور ملكوت الصّاحب على ملكوت الصّاحب ، وفي الآية دلالة على عدمها حيث خاطبه (ص) ، بلا تحزن ، فانّ الصّحابة الملكوتيّة مانعة من الحزن باعثة على السّكون والوقار ، وأيضا هي دالّة على عدم حصولها له بعد هذا الخطاب حيث أفرد الضّمير المجرور فهو امّا راجع الى النّبىّ (ص) أو الى ابى بكر ، ورجوعه الى ابى بكر وان كان يتراءى انّه مناسب لاضطرابه ورعدته لكنّه يستلزم تفكيك الضّمير في قوله وايّده بجنود ويستلزم امّا عدم نزول السّكينة على النّبىّ (ص) وهو مستلزم لافضليّة ابى بكر أو عدم الاعتناء بذكر النّبىّ (ص) وهو أيضا كذلك أو عدم الحاجة الى ذكره وليس به ، لانّ الحاجة في مقام إظهار النّعمة على الأحباب ماسّة الى ذكر مثل هذه النّعمة العظيمة الّتى لا نعمة أعظم منها في مقام البشريّة كما سبق من ذكره (ص) بهذه النّعمة بعد الثّامن من الهجرة وكمال النّبوّة ، ولو سلّم صحّة رجوعه الى ابى بكر

٢٥٧

كانت الآية من المتشابهات الّتى لا يستدلّ بها على منقبة تثبت بها الامامة ؛ هذا إذا كان عطفا على أخرجه ، وامّا إذا كان عطفا على قد نصره الله من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال فلا يحتمل عود الضّمير الى ابى بكر (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) اى لم تقووا على رؤيتها ان كان المراد بالجنود السّكينة ومحافظة الملائكة في الغار وإغماء الكفّار عنه بنسج العنكبوت وبيض الحمامة وإنبات الشّجر على فم الغار أو لم تقع رؤية منكم لها ان كان المراد مطلق جنود الملائكة في غزواته (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) الكلمة كما مرّ مرارا تشمل الكلمات اللّفظيّة والكلمات التّكوينيّة من العقول والأرواح وعالم المثال والقوى البشريّة والحيوانيّة والنّباتيّة والأخلاق والأحوال والأفعال في العالم الصّغير ، وهي ان كانت منتسبة الى الولاية الّتى هي كلمة الله الحقيقيّة بلا واسطة أو الى من انتسب الى الولاية فهي كلمات الله ، لانّ كلمة الله الحقيقيّة هي المشيّة الّتى يعبّر عنها بالحقّ المخلوق به ، والاضافة الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة وعلويّة علىّ (ع) وهي الولاية المطلقة ، وكلّما كان منتسبا إليها كان كلمة الله ، وكلّما كان كلمة الله كانت عليا بعلوّ الله وكان العلوّ ذاتيّا لها لا عرضيّا محتاجا الى الجعل والتّسبيب ، ولذا أتى بالجملة الثّانية مرفوعة المبتدأ مستأنفة أو معطوفة على الجملة الفعليّة أو حالا عن فاعل جعل أو مفعوله ، أو المستتر في السّفلى مؤكّدة باسميّة الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند الدّالّ على الحصر الّذى هو تأكيد على تأكيد لا منصوبة عطفا على مدخول جعل ، وان لم تكن منتسبة الى الولاية فان كانت منتسبة الى الشّيطان بان كان صاحبها متمكّنا في تبعيّة الشّيطان بحيث لا يكون مدخل ومخرج في وجوده الّا للشّيطان ، فهي كلمات الشّيطان والسّفليّة ذاتيّة لها ، وان لم تكن كذلك بان لم يكن صاحبها متمكّنا في تبعيّة الشّيطان ولا منتسبا الى الله والولاية ، فهي ليست كلمات الله ولا كلمات الشّيطان بل هي منتسبة الى ما هو الغالب الظّاهر من أحوال صاحبه كالاسلام والايمان والمحبّة والرّضا والسّخط والشّرك والكفر ، وهي بذاتها لا سفلى ولا عليا بل محتاجة الى جعل في ذلك ، ولذلك أتى بالجعل في الجملة الاولى من غير التّأكيد بضمير الفصل (وَاللهُ عَزِيزٌ) لن يغلب حتّى يتصوّر السّفليّة لكلمته (حَكِيمٌ) لا يتطرّق الخلل الى ما كان منتسبا اليه حتّى يتصوّر طرّ والسّفليّة لكلمته فالعطف من قبيل عطف السّبب (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) شبّانا وشيوخا أو مجرّدين عن الخدم والحشم والسّلاح ومثقّلين بها أو ناشطين وغير ناشطين في العالم الكبير أو في العالم الصّغير أمرهم بالجهاد بعد التّوبيخ بقوله : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا) ، وبقوله (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ، والتّهديد بقوله (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ) الله ، والتّرغيب بتذكير نصرته لنبيّه (ص) وتأييده له (ص) حتّى يكون أوقع في القلوب وابعد من الإنكار (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأمور وعواقبها (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) غنيمة قريبة الوصول (وَسَفَراً قاصِداً) متوسّطا غير بعيد (لَاتَّبَعُوكَ) بيان لسبب تخلّفهم وتثبّطهم وانّ المانع لهم والباعث على العذر الكاذب هو بعد السّفر وكثرة المشقّة (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) الشّقّة بالضّمّ وبالكسر النّاحية يقصدها المسافر والسّفر البعيدة والمشقّة وتعدية بعدت بعلى لتضمينه معنى ثقلت (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) بعد رجوعكم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) يعنى ما كان لنا استطاعة للخروج فلم نخرج ، أخبر نبيّه (ص) انّهم سيعتذرون بعدم الاستطاعة

٢٥٨

كذبا وهو اخبار عن المستقبل (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) استيناف جوابا لسؤال مقدّر اى ما لهم في هذا العذر والمقصود ؛ انّهم بعد التخلّف ان اعترفوا بتقصيرهم وتابوا أحيوا أنفسهم لبقاء استعداد الحيوة لكنّهم بالعذر الكاذب أبطلوا استعدادهم للحيوة وأهلكوا أنفسهم من صورة الحيوة بالتّخلّف ، ومن استعدادها بعدم التّوبة والعذر الكاذب (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بالغ في تأكيد تكذيبهم بانّ واسميّة الجملة واللّام مبدوّا بعلم الله الّذى هو بمنزلة القسم (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) اى لمطلق المستأذنين في القعود (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) في الاعتذار وهذا في الحقيقة عتاب وتوبيخ للمستأذنين بغير عذر على طريقة: ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، وهذا من ألطف طرق مخاطبة ذوي الحظر يعاتبون مقرّبيهم ويريدون غيرهم تعريضا وإسقاطا لذلك الغير عن شأنيّة المخاطبة والمشافهة وبدء قبل التّوبيخ والمعاتبة بالعفو تلطّفا به (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا) عن ان يجاهدوا ، أو كراهة ان يجاهدوا ، أو في ان يجاهدوا فضلا عن ان يستأذنوك في التّخلّف عن ان يجاهدوا (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّ المؤمنين هم المتّقون وهو وعد لهم بانّ عملهم لا يعزب عنه (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) في تصديقهم بنبوّتك (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) يتحيّرون ويقفون عن السّير الى الله ، ولذا قال مولانا ومن به رجاؤنا في عاجلنا وآجلنا أمير المؤمنين (ع): من تردّد في الرّيب سبقه الاوّلون وأدركه الآخرون ووطئته سنابك الشّياطين (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) لأمكن لهم تهيّة عدّته وما يحتاج اليه ، أو هيّؤا له أسبابه تهيّة ، فعدّة امّا مفعول به أو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل وعلى التّقديرين يكون تكذيبا لنفيهم الاستطاعة عن أنفسهم (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) لمّا توهّم من اسناد الأفعال السّابقة إليهم انّهم مستقلّون في أفعالهم استدرك ذلك الوهم بسببيّة كراهته تعالى للخروج وانّ عدم خروجهم وعدم إرادتهم له مسبّب عن كراهته تعالى له لا انّهم مستقلّون (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) لمّا كان هذا القول من الله حقيقة وكان قائله ومن ظهر على لسانه ظاهرا وباطنا متعدّدا مختلفا ولم يكن لخصوصيّة الفاعل مدخليّة في المقصود من ذمّهم أسقط الفاعل فانّ هذا القول قد قاله باطنا ملائكة الله والشّياطين ، وظاهرا رسول الله (ص) حين اذن لهم في القعود ، وإخوانهم من الانس حين خوّفوهم عن قتال الرّوم وبعد السّفر وشدّة القيظ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) مستأنف جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ولم كره الله انبعاثهم؟ ـ فقال : لانّهم لو خرجوا ما زادوا على ما أنتم عليه الّا فسادا بالتّجبين والنّميمة والهرب من الزّحف حتّى يتقوّى قلوب أعداءكم بهربهم (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) وضع البعير وأوضع أسرع في السّير ، وأوضعه حمله على السّرعة فعلى الاوّل فالمعنى انّهم لو خرجوا فيكم أسرعوا خلالكم بالإفساد والنّميمة والتّخويف أو أسرعوا بالهرب ، وعلى الثّانى لو خرجوا فيكم حملوا ركائبهم على السّرعة بالإفساد والنّميمة والتّخويف خلالكم أو حملوا أمثالهم على السّرعة في الفرار (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) حال من فاعل اوضعوا أو مستأنف لتكرار الذّمّ الّذى هو مطلوب في المقام (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)

٢٥٩

عطف على يبغونكم أو حال من فاعله أو مفعوله والمعنى انّ فيكم سمّاعين لأقوالهم الفاسدة المفسدة أو سمّاعين لأقوالكم لان ينقلوها إليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وضع الظّاهر موضع ضمير السمّاعين اشارة الى صفة ذمّ لهم ووعيدا لهم ، أو موضع ضمير المتقاعدين اشعارا بذمّ آخر لهم ووعيدا لهم ، واشارة الى انّ كراهته تعالى لانبعاثهم ليس جزافا وبلا سبب انّما هو بسبب ظلمهم ، فيكون استدراكا لوهم متوهّم يتوهّم انّ كراهته تعالى انبعاثهم يكون نحو إجبار لهم على القعود ، كما انّ قوله لكن كره الله انبعاثهم كان استدراكا لما يتوهّم من استقلالهم في أفعالهم فليسوا مستقلّين في الفعال ولا مجبورين فيها (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) قبل تلك الغزوة في غزوة أحد وغيرها من الغزوات من تجبين أصحابك وتدبير الفرار وتسليمك الى أعدائك (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أمور الغزو بان دبّروا خلاف ما أمرت ودبّرت (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) في كلّ ما دبّروا وهو تأييدك ونصرتك على وفق ما أمرت ودبّرت (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) اعلم ، انّ الحقّ المضاف هو المشيّة الّتى هي الحقّ المخلوق به وكلّ حقّ حقّ بالاتّصال به وكلّ باطل باطل بالانصراف عنه ، وانّ امر الله هو عالم المجرّدات الّذى ليس فيه الا امر الله لضعف الاثنينيّة بحيث لا يتصوّر هناك امر وآمر ومأمور وايتمار ، وكلّ من كان من افراد البشر متّصلا بهذا العالم متّحدا به فهو أيضا امر الله وكلّ ما صدر منه من هذه الحيثيّة فهو أيضا امر الله ، ولمّا كان خليفة الله نبيّا كان أم وليّا ذا وجهين ، وجه الى الله وبه يأخذ من الله ، ووجه الى الخلق وبه يوصل ما يأخذ من الله الى الخلق ؛ ويعبّر عن وجهه الى الله بالحقّ والوحدة والولاية ، وعن وجهه الى الخلق بالأمر والكثرة والخلق والنّبوّة والرّسالة ، والولاية بمعنى تدبير الخلق من جهة الباطن والخلافة بمعنى تدبيرهم من جهة الظّاهر فالولاية بالمعنى الاوّل روح الولاية بالمعنى الثّانى ، وكذا روح النّبوّة والرّسالة والخلافة فالفرق بين الحقّ والأمر كالفرق بين المطلق والمقيّد والرّوح والجسد والولاية والنّبوّة ، فالحقّ هو الولاية في العالم الكبير ومظهرها الاتمّ علىّ (ع) والأمر النّبوّة ومظهرها الاتمّ محمّد (ص) والنّبوّة عالم يغلب عليها الولاية والاتّصال بالوحدة لم يظهر غلبتها في العالم الكبير ، فمجيء الحقّ يعنى غلبة الولاية على النّبوّة سبب لغلبة النّبوّة على الكثرات ولذا قدّم مجيء الحقّ ، كما انّ اعانة علىّ (ع) ومجيئه في الغزوات كان سببا لغلة محمّد (ص) ، فالمعنى حتّى جاء الولاية وغلب الوحدة وظهر النّبوّة وغلبت (وَهُمْ) اى المقلّبون (كارِهُونَ) توهين لهم وتسلية للرّسول (ص) والمؤمنين على تخلّفهم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) حكاية لقول بعضهم توهينا وذمّا له (وَلا تَفْتِنِّي) لا توقعني في الفساد والافتتان بنساء الرّوم كما روى انّه (ص) رغّب بعضا في الجهاد في غزوة تبوك فقال : يا رسول الله والله انّ قومي يعلمون انّه ليس فيهم اشدّ عجبا بالنّساء منّى وأخاف ان خرجت معك ان لا اصبر إذا رأيت بنات الرّوم فلا تفتنّى ، أو فلا تفتنّى بضياع المال والعيال ، أو فلا تفتنّى بالأمر بالخروج وتخلّفى عنك ومخالفتي لأمرك ، أو فلا تفتنّى بضياع البدن بالحركة في الحرّ (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) يعنى انّ رغبتهم عن الخروج وعن امتثال أمرك ومصاحبتك هي فتنة عظيمة لنفوسهم تهلكهم عن الحيوة الانسانيّة الابديّة وقد وقعوا فيها ولا يمكنهم الخروج عنها ، ولذلك أتى بأداة الاستفتاح وقدّم المجرور واستعمل السّقوط (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) حال عن فاعل سقطوا أو عطف على جملة في الفتنة سقطوا ، ولمّا كان هذا الحكم من شأنه ان ينكر في بادي النّظر أتى بالمؤكّدات الثّلاثة ووضع المظهر موضع المضمر اشارة الى علّة الحكمين

٢٦٠