تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

الّذى لا ثانى له القهّار الّذى لا انانيّة لشيء معه فما هذه الكثرات المشهودة؟ ـ فقال : انزل من السّماء ماء فظهر الكثرات فلا انانيّة ولا ظهور لشيء منها الّا بذلك الماء الّذى هو فعله بل هو هو لا غير والمقصود تمثيل ظهور الكثرات من امر واحد هو فعل الله وقوامها بذلك الأمر بنزول الماء الّذى هو حقيقة واحدة من الجهة الواحدة الّتى هي السّماء وتكثّره بتكثّر الاودية وظهور الزّبد الغير النّافع عليه (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) نسبة سالت الى الاودية مجاز (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) مرتفعا على السّيل (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) ومن الفلزّات الّتى يوقد النّاس عليها النّار حالكونها في النّار (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) كما يصاغ من الذّهب والفضّة وغيرهما (أَوْ مَتاعٍ) ما يتمتّع به كالاوانى وآلات الصّنائع وغيرها (زَبَدٌ مِثْلُهُ) مثل زبد الماء يعنى انّ الزّبد الغير النّافع لا اختصاص له بالماء والسّيل بل يكون في الجوامد والفلزّات الّتى تذاب بالنّار ، والمقصود انّ الباطل لا اختصاص له بالتّعيّنات الامكانيّة الّتى هي كزبد الماء بل النّفوس البشريّة الّتى هي كالفلزّات في شدّة تراكمها وصلابتها تتحمّل زبد باطل الاهوية (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) يعنى انّ مثل ظهور الحقّ واختلاطه بالباطل مثل نزول الماء واختلاطه بالزّبد فالممثّل له بحسب مراتب الوجود يحتمل وجوها وكذا بحسب مراتب العلم اى الوجود الذّهنيّ. فنقول بحسب التّطبيق على الممثّل له ، انزل من سماء الأسماء ماء المشيّة فسالت اودية المهيّات بقدرها فاحتمل الماء السّائل في اودية المهيّات زبد التّعيّنات والتّكثّرات ، فامّا الماء الّذى هو حقيقة متحقّقة فيبقى ، وامّا الزّبد وان كان ساترا لوجه الماء ظاهرا في الانظار دون الماء بحيث لا يدرك القاصرون في الإدراك الّا ذلك الزّبد والتّعيّنات حتّى قالوا : انّ الوجود اعتبارىّ صرف وانّ المهيّات اصيلة في التّحقّق فهو باطل مضمحلّ متلاش كلّ شيء هالك الّا وجهه ، وانزل من سماء المشيّة ماء وجودات الأشياء فسالت اودية المهيّات الى الآخر ، وانزل من سماء العقول ماء وجود النّفوس وما دونها فسالت اودية النّفوس وعالم المثال وعالم الطّبع بقدرها الى الآخر ، وانزل من سماء عالم المثال ماء وجود عالم الطّبع الى الآخر ، هذا في الكبير ، وامّا في الإنسان الصّغير فنقول : انزل من سماء الأرواح ماء الحيوة فسالت اودية المدارك الحيوانيّة والمراتب النّباتيّة الى مقام الطّبع فاحتمل السّيل زبد الأخلاق الرّذيلة والاهوية الرّديّة والأفعال الّذميمة كما انّ الأخلاق الحسنة والاشواق الالهيّة والأفعال المرضيّة متحقّقة بذلك الماء ، وامّا بحسب العلم والّذهن وهو عين وخارج بوجه فنقول : انزل من سماء الولاية ماء النّبوّة والرّسالة فسالت اودية القلوب والصّدور بحسبها فبعض بحسب استعداد الاتّصاف بالنّبوّة والرّسالة وبعض بحسب استعداد قبول أحكامهما فاحتمل السّيل زبد مقتضى الأهواء من الآراء الباطلة والبدع العاطلة المختلطة بمرور الأزمان بأحكام الرّسالة والنّبوّة ومنه الزّيادة والنّقيصة والتّحريف في الكتاب الالهىّ ، أو انزل من سماء النّبوّة ماء الرّسالة أو من سماء الرّسالة ماء الأحكام الالهيّة ، أو انزل من سماء الرّوح ماء العلم فسالت اودية القلوب والصّدور فاحتمل السّيل زبد مداخلة الأهواء في العلم ، أو انزل من سماء القلب ماء العلم فسالت اودية الصّدر (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) مرميّا يرمى به السّيل (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) لانتفاع أهلها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) كرّر ذكر كون الآية مثلا تأكيدا وتنبيها على انّها بظاهرها ليست مقصودة ومنظورا إليها بل المراد بيان حال الحقّ والباطل بالتّمثيل بأمر حسّىّ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) متعلّق بيضرب الأمثال اى يضرب الأمثال لحال هؤلاء وهؤلاء

٣٨١

يعنى حالهما كحال الماء والزّبد أو يضرب الأمثال لبشارة هؤلاء وإنذار أولئك ، أو يضرب الأمثال لانتفاع الّذين استجابوا (لِرَبِّهِمُ) الاستجابة (الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) عطف على الّذين استجابوا على الاوّلين وهو مع ما بعده جملة مستأنفة على الثّالث ويجوز ان يكون قوله للّذين استجابوا خبرا مقدّما للحسنى مع كون الجملة مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر ويكون المعنى للّذين استجابوا لربّهم العاقبة الحسنى والّذين لم يستجيبوا له (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) بان لا تقبل لهم حسنة ولا تغفر لهم سيّئة كما نسب الى الصّادق (ع) أو بان نوقش في حسابهم واستقصى بهم كما في خبر آخر (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) المستقرّ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) لفظة ما كافّة أو موصولة أو مصدريّة ، وما انزل اليه امّا القرآن تماما أو احكام الرّسالة جملة أو الولاية مخصوصة (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) عن علم ذلك (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) بعدم تشابههما (أُولُوا الْأَلْبابِ) لا أصحاب الخيال وأرباب الالف والعادات ، عن الصّادق (ع) انّه خاطب شيعته بقوله أنتم أولوا الألباب في كتاب الله ، والسّرّ في ذلك انّ اللبّ هو العقل الخالص من شوب الوهم والخيال ولا يخلص العقل ما لم يتّصل بصاحب العقل ، والاتّصال ان كان بالبيعة العامّة النّبوّة لم يفد تخليص العقل من حيث انّ الرّسول (ص) ببيعته يؤسّس احكام العقل بإعانة الوهم والخيال فليس شأن الرّسول تخليص العقل بل تخليطه بقشر الخيال ، بخلاف الاتّصال بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ صاحب البيعة الخاصّة من حيث أصل الايمان شأنه تخليص العقل عن شوب الخيال وبهذا الاعتبار يصدق على المتّصل به انّه ذو لبّ وان لم يحصل بعد له لبّ ، وأيضا صاحب الولاية باعتبار ولايته لبّ وصاحب الرّسالة باعتبار رسالته كالقشر والمتّصل بالولاية مظهر لصاحب الولاية فهو ذو لبّ بهذا الاعتبار أيضا على انّ التّحقيق انّ الإنسان بدون تلقيح الولاية كالجوز الخالي من اللّبّ ولا ينعقد لبّه الّا بالولاية ، فانّ البيعة الولويّة يدخل بها كيفيّة من ولىّ الأمر في قلب البائع وبها يتحقّق الابوّة والبنوّة بينهما وهي الايمان الدّاخل في القلب كما سبق تحقيقه في مطاوى ما سبق (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) صفة لاولى الألباب لبيان حالهم أو استيناف كلام والخبر أولئك لهم عقبى الدّار والمراد بالعهد هو العهد العامّ النّبوىّ والوفاء به الانتهاء الى آخر أركانه الاسلاميّة وهو البيعة الولويّة الّتى عبّروا عنها في الاخبار بالولاية (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الميثاق الولاية الّذى حصل لهم بالوفاء بعهد النّبوّة ، وتسميته ميثاقا لكونه عقدا على عقد فانّه بعد عقد البيعة النّبويّة ، وفي الخبر اشارة الى ما ذكرنا (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) اوّل ما امر الله به من صلة الأرحام الوصلة مع نبىّ الوقت بالبيعة العامّة ، ثمّ الوصلة مع ولىّ الوقت بالبيعة الخاصّة ، ثمّ مع المسلمين بقرابة الرّحم المعنويّة ، ثمّ مع المؤمنين بقرابة الرّحم الولويّة ، ثمّ مع أقربائه بقرابة الرّحم الجسمانيّة وصلة الرّحم مع النّبىّ والولىّ بعد ما هو أصل من البيعتين وكذا مع كلّ ذي قرابة عبارة عمّا به يحصل إظهار المحبّة والتّرحّم وأقلّه البشاشة في وجهه عند لقائه والسّرور به وإهداء التّحف اليه وقضاء حاجته (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) الخشية حالة حاصلة من ادراك لّذة وصال المحبوب والم فراقه أو سطوة عذابه ، وبعبارة اخرى حالة حاصلة من ادراك ذي جمال وسطوة ، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من الخوف والرّجاء لا خوف صرف ولا رجاء محض ولذا خصّصها بالرّبّ والخوف بسوء الحساب (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) وجه الرّبّ

٣٨٢

هو ملكوت ولىّ الأمر ، وابتغاؤه عبارة عن طلب انفتاح باب القلب حتّى يظهر ويتمثّل له ولىّ الأمر بملكوته والصّبر لذلك الابتغاء ان لا ينصرف عن ذكره القلبىّ الخفىّ أو اللّسانىّ الجلىّ ، والصبر عليه يستلزم عدم الجزع وعدم الخروج الى المهويّات (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بإقامة الصّلوة القالبيّة وحفظ حدودها ومواقيتها وادامة الذّكر الّذى هو صلوة الصّدر واتّصاله بالفكر الّذى هو صلوة القلب وهو تمثّل ملكوت الشّيخ (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأموال والاعراض الدّنيويّة والقوى والاعراض والجاه والحشمة ومن نسبة الأفعال والصّفات والانانيّات الى أنفسهم (سِرًّا وَعَلانِيَةً) السّرّ والعلانية في كلّ مقام بحسبه ، فانّ الإنسان من اوّل استقرار نطفته في الإنفاق والخلع واللّبس والاستعواض من الله تكوينا وبعد البلوغ بل وقت التّمرين يكلّف بالإنفاق من الأموال بل من الفعليّات السّفليّة وان كان لا يشاهد الأعواض ولا المنفق من القوى والفعليّات سوى الأموال الدّنيويّة ، وأصل الإنفاق سرّا ان ينفق من فعليّاته وانانيّته من غير شعور منه بالإنفاق والمنفق فضلا عن اطّلاع الغير عليه (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) الحسنة هي الولاية وكلّ فعل أو حال أو خلق كان متّصلا بالولاية كان حسنة ، والسّيّئة في الحقيقة هي عدوّ علىّ (ع) وكلّ فعل وخلق وحال متّصل بجهته وطريقه سيّئة ، ويجرى الحسنة والسّيّئة في كلّ فعل يكون مشاكلا لهما كافعال من كان غافلا عن ولاية ولىّ الأمر (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عقبى الدّار غلّبت على العاقبة الحسنى كأنّ من كان له العاقبة السّوءى لا عاقبة له (جَنَّاتُ عَدْنٍ) اقامة (يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) بتبعيّتهم فالمراد بالصّلاح هاهنا عدم الفساد والاستعداد للصّلاح الحقيقىّ والّا فلم يكن لهم حاجة الى ان يدخلوها بتبعيّة غيرهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب قصورهم في الجنان قائلين (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) غرف المؤمنين وقصورهم وكيفيّة زيارة الملائكة لهم مذكورة في الاخبار بتفاصيلها (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) اى عهد النّبوّة من بعد ميثاقه وتأكّده بعهد الولاية فانّه مرتدّ فطريّ لا يقبل له توبة لا ظاهرا ولا باطنا ، وامّا النّاقض لعهد النّبوّة والبيعة العامّة فانّه يقبل توبته ظاهرا وباطنا وهو مرتدّ ملّىّ لا فطريّ وقد مضى تحقيق واف للارتدادين في سورة آل عمران عند قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً)(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) ويحصل أصل القطع بنقض العهد كما سبق (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير والعالم الصّغير وقد مضى في سورة البقرة تحقيق تامّ لقطع ما امر الله به ان يوصل وللافساد في الأرض عند قوله (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) النّباتىّ والحيوانىّ والانسانىّ (لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ) في جنب الآخرة أو بين الحيوة الآخرة (إِلَّا مَتاعٌ) الّا شيء قليل يتمتّع به يسيرا (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كأنّهم لم يروا منه شيئا من الآيات لعماهم وحملهم ما رأوا على السّحر والعادات (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) بجعله أعمى عن النّظر في العواقب وفي دعوة الدّاعى وفي آياته ، وليست الهداية والضّلالة بالآية وعدمها (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ورجع عن جهنّام الطّبع وفرّ من سجن النّفس (الَّذِينَ آمَنُوا) بدل

٣٨٣

ممّن أناب أو استيناف كلام مبتدء ، وطوبى لهم خبره ، أو خبر مبتدء محذوف و (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بدل منه ، أو (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدء ثان أو مبتدء اوّل والمراد بالايمان الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ).

اعلم ، انّ الإنسان بعد ما آمن ودخل ما به حصول للايمان من الذّكر الّذى يلقّنه الولي في قلبه يحصل له اطمئنان في الجملة بالنّسبة الى حال طلبه واشتداد لوعته فيصدق عليه انّه اطمئنّ بذكر الله الّذى اخذه من ولىّ امره ، لكن لا يحصل له اطمئنان تامّ الّا بالوصول الى ملكوت الامام والقرار معه فاذا وصل الى ملكوت الامام واستقرّ معه اطمأنّ من غير شوب اضطراب وهيجان ، وملكوت الامام ذكر الله الحقيقىّ فالمعنى الذين آمنوا وأخذوا ذكرا ممّن آمنوا بواسطته وتطمئنّ قلوبهم بصورة ذلك الذكّر أو بحقيقته الّتى هي ملكوت الشّيخ ، ولذا فسّر الّذين آمنوا بالشّيعة الّذين بايعوا بيعة خاصّة ولويّة وذكر الله بأمير المؤمنين (ع) والائمّة (ع) وفسّر ذكر الله بمحمّد (ص) (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) معترضة لتأكيد هذا (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) حتّى انتهوا الى الذكّر الحقيقىّ فاطمئنّوا بها (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الطّوبى وصف بمعنى الطّيّبة والطّيّب ، أو مصدر طاب كزلفى وبشرى ، أو جمع طيّبة كما في القاموس أو مؤنّث أطيب ، وفسّرت في الاخبار بشجر في الجنّة موصوف بأوصاف عديدة أصله في بيت محمّد (ص) أو علىّ (ع) (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) اى أرسلناك إرسالا مثل ذلك الإرسال من قبيل تشبيه الكلّىّ بالجزئىّ وتمثيله به أو كذلك خبر مبتدء محذوف اى الأمر كذلك وأرسلناك مستأنف (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) حتّى تكون الأمم الماضية عبرة لهم وتكون أنت فيهم أقرب الى التّصديق من الرّسل الماضية (ع) في أممهم (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من القرآن والأحكام وقصص الماضين بل أصل ما أوحينا إليك وهو ولاية علىّ (ع) (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) اى لتتلو عليهم حال كفرهم بالرّحمن لتصرفهم عن كفرهم أو لكنّهم يكفرون بالرّحمن (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تعميم بعد تخصيص يعنى هو ربّى وربّ كلّ شيء إذ لا اله الّا هو (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جملة أموري (وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعنى لا انظر في مبدئى ومعادي ومعاشي الى غيره بل انظر الى ربوبيّته وآلهته لنفسي ولكلّ شيء والى حفظه ونصرته في كلّ حال ولذلك توكّلت عليه ولا ارى لنفسي مرجعا آخر (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) لكان هذا القرآن ، لمّا كان المعروف بين النّاس انّ من النّاس من يقرأ وردا وينفخ فيما يريد من تحريك الأحجار وإنزال الأمطار ومن اراءة الأمصار وإحضار الغيّاب كما هو المعروف في زماننا هذا من المرتاضين المتشرّعين وغيرهم قال : لو انّ في العالم مقروّا يقرأ ويسيّر به الجبال الى الآخر لكان ذلك المقروّ هو هذا القرآن لا غيره وهذا أوفق بقوله (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) من حيث انّه اضراب عن تأثير المقروّ وحصر للتّأثير به تعالى فكأنّه قال : كلّ مقروّ له اثر في العالم منحصر في هذا القرآن بمعنى انّه غير خارج منه إذ لا رطب ولا يابس الّا فيه ، ثمّ اضرب وقال : بل لا اثر لشيء من الأشياء الّا لله بمعنى انّ كلّ مؤثّر فانّما هو مؤثّر بمؤثّريّة الله لا بنفسه (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) فسّر ييأس بيعلم على لغة وقرئ يتبيّن

٣٨٤

في قراءة أهل البيت (ع) وان كان على معناه المشهور فالمقصود أفلم ييأس الّذين آمنوا عن ايمان المشركين ويكون ما بعده تعليلا له (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ) مفعول أفلم ييأس أو المعنى لانّه لو يشاء الله (لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) والحال انّ أسباب الايمان حاصلة لهم من الإنذارات البالغة لانّه لا يزال الّذين كفروا (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) في كفرهم (قارِعَةٌ) داهية تقرعهم من البلايا (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) بأمثالهم فتدهشهم ويصل إليهم أثرها (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) بالعذاب في الدّنيا من القتل والأسر والنّهب أو وعد الله بقبض أرواحهم (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له (ص) (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) تهديد للمستهزئين (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) استفهام للتّهويل وتطويل في مقام التّهديد (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) مراقبا لها حافظا عليها أعمالها (بِما كَسَبَتْ) كمن ليس كذلك (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) هل كان لهم اسم في المسمّيات أو اخترعتموهم من عند أنفسكم واختلقتم لهم أسماء ، أو المعنى صفوهم حتّى يعلم هل كان لهم ما يستحقّون به العبادة (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) يعنى بل أتخبرونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض؟! وهو العالم بكلّ شيء ، أو أتخبرونه باستحقاق شراكة الشّركاء الّذى لا يعلمه في الأرض؟ وهو غاية تسفيه لهم (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) يعنى أتخبرونه بأمر خفىّ لا يعلمه أو بأمر جلىّ يعلمه كلّ أحد؟ والتّقييد بالقول لانّ الاخبار والأنباء يتعلّق بالقضايا والنّسب وهي أقوال نفسانيّة ، وقيل : المعنى أم تسمّونهم شركاء بظاهر من القول من دون اعتبار حقيقة له كما تسمّون الزّنجىّ كافورا لكن ليس لما جعلتموه شركاء شيء من المذكورات (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) مكر رؤسائهم الّذين وضعوا لهم عبادة الشّركاء وأظهروا لهم بتمويهاتهم انّ الشّركاء يقدرون على ضرّ أو نفع كما كانوا يخوّفون الأنبياء (ع) بالشّركاء والأصنام (وَصُدُّوا) بتمويه الرّؤساء (عَنِ السَّبِيلِ) سبيل الحقّ وهو سبيل القلب الّتى بها ظهور الولاية التّكوينيّة وحصول الولاية التّكليفيّة (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) لانّ كلّ هاد لا يكون هدايته الّا هداية الله فلا تعارض إضلال الله (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بأنواع البلايا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) في الدّنيا ولا في الآخرة (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لمّا كان المثل عبارة عن امر تركيبىّ جعل خبره جملة من غير عائد لكونها عين المبتدأ (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) لا كجنان الدّنيا من حيث انّها منقطعة الاكل والظّلّ في الخريف والشّتاء (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وأحكامها بالتّوبة على يدك وقبول الأحكام منك (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من صورة الكتاب وهو القرآن خصوصا ما انزل فيه من ولاية علىّ (ع) (وَمِنَ الْأَحْزابِ) اى الفرق المتفرّقة الّذين آمنوا بك أو لم يؤمنوا (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) بعض ما انزل إليك وهو ما لا يوافق أهوائهم وأغراضهم خصوصا ولاية علىّ (ع) (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ)

٣٨٥

أطيعه (وَلا أُشْرِكَ بِهِ) في الطّاعة شيئا فكيف يصحّ لي ان أطيع أهواءكم فيما انزل الىّ فأترك بعضه الّذى لا يوافق أهواءكم (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا الى غيره فلا انظر الى اهوائكم موافقة كانت أو مخالفة (وَإِلَيْهِ مَآبِ) فلا انظر الّا اليه لا الى اهوائكم (وَكَذلِكَ) المذكور من عبادة الله وعدم الإشراك والدّعوة والرّجوع اليه (أَنْزَلْناهُ) يعنى أنزلناه حالكونه مثل ذلك المذكور يعنى انّه وان لم يكن كلّه صريحا في ذلك لكن كلّه راجع اليه (حُكْماً عَرَبِيًّا) صادرا عن حكمة بالغة له حقيقة في عالم العقول لا اعرابيّا لا حقيقة له ولا حكمة فيه وهو حال عن ذلك أو عن مفعول أنزلناه (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) في إخفاء ما يكرهونه وخصوصا ولاية علىّ (ع) (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بحقّيّته ومأموريّتك ان تظهره (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) يتولّى تربيتك (وَلا واقٍ) ينصرك في شدائدك وقد مضى مرارا تفسير الولىّ والنّصير وانّهما كنايتان عن مظهر الولاية ومظهر الرّسالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) فما كنت بدعا من الرّسل (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فلا ينبغي ان يعيّروك على التّزويج والّذرّيّة (وَما كانَ لِرَسُولٍ) ممّن مضى (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) حتّى يعيّروك على عدم اجابة اقتراحهم أو تحزن على عدم إتيان الآية المقترحة (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكلّ وقت حكم مكتوب فلا يمكنك الإتيان بالآية المقترحة في غير وقته ، ولمّا كان ظاهره منافيا لما امر الله من الدّعاء والتّصدّقات وصلة الأرحام لدفع الآلام والأسقام وطول العمر بحسب تعميم الأجل والكتاب قال (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) فلا تتركوا الدّعاء والصّدقات وصلة الأرحام (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الّذى فيه كلّ شيء من غير تغيير حتّى محو المثبت وإثبات ما لم يكن ، وكتاب المحو والإثبات في مقام العلم هو النّفوس الجزئيّة المتقدّرة بالأشباح النّوريّة المعبّر عنها بعالم المثال ، وكتاب المحو والإثبات العينىّ هو عالم الطّبع (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) اى ان نرك (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فلا بأس عليك ولا تحزن عليه (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وقد بلّغت (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ونحاسب لا محالة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) والمراد بالإتيان إتيان الملائكة المأمورين لذلك أو إتيان امره تعالى ، ونقصها من أطرافها ذهاب أهلها تدريجا ، وقد فسّر نقصها من أطرافها بفقد العلماء امّا لانّ العلماء لمّا كانوا من عالم الأرواح ونزلوا الى الأرض فبذهابهم تنقص الأرض وامّا غيرهم فلكونهم مخلّدين الى الأرض لا ينقص ذهابهم شيئا من الأرض ، أو لانّ الأطراف جمع الطّرف بالتّحريك أو الطّرف بالسّكون بمعنى الشّريف ويجرى الآية في العالم الصّغير ، ونقصان العالم الصّغير أظهر من العالم الكبير (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ ولا دافع (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) بانبيائهم (ع) ومن آمن معهم كما يمكر قومك فلا يفتروا بمكرهم (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) من حيث انّه يقدر على جميع أسبابه وعلى إنفاذه بحسب مشيّته بخلاف غيره لانّ الغير ان هيّأ بعض أسباب المكر فات عنه بعضها وان نفذ مكره بعض النّفوذ لم ينفذ بتمامه على وفق مراده ، والمكر منه تعالى إبراز الاساءة في صورة الإحسان استدراجا (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) في مقام التّعليل أو تأكيد للتّهديد المستفاد من قوله : فلّله المكر جميعا (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) للماكر أو المخلص وهو تهديد بسوء العاقبة كما انّ سابقه تهديد

٣٨٦

بالمؤاخذة في الحال (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أنكروا رسالتك (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).

اعلم ، انّ خليفة الله لمّا كان ذا جهتين له وجهة الهيّة بها يأخذ من الله ووجهة خلقيّة بها يوصل المأخوذ ، فاذا تحقّق لوجهته الخلقيّة رجل واحد يأخذ منه كفاه وكفى في صدق خلافته فقال تعالى : قل انّى رسول الله وفي رسالتي يكفى الله المعطى والّذى عنده علم الكتاب آخذا منّى ويكفيني شهادتهما لا حاجة لي في صدق رسالتي وتبليغى إليكم أنكرتم أو أقررتم ، ومن عنده علم الكتاب لا يجوز ان يكون غير علىّ (ع) وان كانوا فسّروه بغيره لانّ العلم المضاف من غير عهد يفيد الاستغراق ولم يدّع أحد جميع علم الكتاب من الامّة الّا علىّ (ع) وأولاده المعصومون (ع) ، فعنه (ع) : الا انّ العلم الّذى هبط به آدم (ع) من السّماء الى الأرض وجميع ما فضّل به النّبيّون (ع) الى خاتم النّبيّين (ع) في عترة خاتم النّبيّين (ع) ، والاخبار في هذا المعنى وفي تخصيص علم الكتاب بعلىّ (ع) أو به وبالأئمّة (ع) كثيرة ، وقرئ من عنده علم الكتاب بكسر الميم والدّال.

٣٨٧

سورة إبراهيم

مكّيّة الّا آيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ

بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (الى قوله) (وَبِئْسَ الْقَرارُ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر ، ولمّا كان الكفر ذا ظلمات كثيرة متباينة بحسب ما تنتزع الظّلمات منه جمع الظّلمات معرّفة باللّام ، بخلاف النّور فانّه حقيقة واحدة به وحدة المتكثّرات ولذا أفرده فقال (إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) في اخراجك حتّى يصير طاعتهم لك طاعة لله ولا يكون شركا بالله أو في خروجهم حتّى يكون اخراجك موافقا لاذن الله ومسبّبا عنه (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله الى النّور.

اعلم ، انّ الإنسان في اوّل خلقته طبع محض وله قوّة واستعداد بصيرورته نباتا ، ثمّ يصير نباتا بالفعل وحيوانا بالقوّة ، ثمّ يصير حيوانا بالفعل وإنسانا بالقوّة ، وما زال يشتدّ تلك القوّة الى أو ان التّميز الانسانىّ واستعداد ادراك الكلّيّات البديهيّة الّتى لا يدركها سائر الحيوان ، وحينئذ يحصل له انسانيّة ما بالفعل بحيث يصحّ اطلاق اسم الإنسان عليه ، وما زال يشتدّ ويتقوّى الى أو ان البلوغ والرّشد وتعلّق التّكليف به وحينئذ يصير إنسانا ممتازا عن الحيوان نحو امتياز أقوى من امتيازه السّابق ، لانّه حينئذ يدرك الخير والشّرّ الانسانيّين وطريق تحصيل الخير ودفع الشّرّ ، لكنّه لمّا لم يخرج بعد من تحت حكومة النّفس والنّفس لا ترى خيرا الّا ما يلائم قواها الشّهويّة والغضبيّة والشّيطانيّة ولا شرّا الّا ما يضادّ تلك القوى ، فهو وقع في ظلمة الطّبع والشّهوة والغضب والشّيطنة ومن كلّ ينشأ ظلمات بعضها فوق بعض ؛ فان ساعده التّوفيق ودخل تحت حكومة نبىّ بالبيعة العامّة أو ولىّ بالبيعة الخاصّة ينجيه ذلك النّبىّ أو الولىّ من حكومة النّفس ويخرجه تدريجا من ظلماته ، وان لم يدخل تحت حكومة خلفاء الله يبقى في تلك الظّلمات أبد الآباد ، أعاذنا الله منها. فارسال الرّسل وإنزال الوحي والأحكام عليهم ليس الّا لإخراج العباد بالتّدريج من ظلماتهم الّتى كانوا فيها الى نور القلب ومن جهنّام أنفسهم الّتى هي سنخ جهنّم الآخرة الى ذروة القلب الّذى هو سنخ جنان الآخرة ، والاذن في الإخراج عبارة عن امره تعالى

٣٨٨

للرّسل (ع) بتبليغ الأحكام ، والاذن في الخروج عبارة عن استعداد الخلق للسّلوك والخروج من هذه الجهنّام الى تلك الجنان وعن امره التّكوينىّ والتّكليفىّ على السنة الخلفاء بالخروج ، ولمّا كان القلب صراطا الى العقل والعقل صراطا الى الحقّ العزيز أبدل من قوله الى النّور قوله الى صراط العزيز الحميد (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أبدل الله من العزيز اشعارا بوصفه الى علّة عزّته ومحموديّته (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) بالله أو بمحمّد (ص) أو بالكتاب أو بالنّور أو بالصّراط (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) الويل الهلاك أو هو واد في جهنّم أو بئر (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) صفة للكافرين وبيان له.

اعلم ، انّ الإنسان واقع بين الدّنيا والآخرة وبعبارة اخرى بين مراتب النّفس ومدارج القلب وهو فطريّ التّعلّق ذاتىّ الرّبط فان كفر بالآخرة تعلّق بالدّنيا ، وان كفر بالدّنيا تعلّق بالآخرة ، وكلّ ما تعلّق به اختاره على ما لم يتعلّق به فالكافر بالآخرة لا محالة متعلّق بالدّنيا ومختار لها على الآخرة والمتمكّن في الكفر يستمرّ استحبابه للدّنيا كما انّ المتمكّن في الايمان يستمرّ استحبابه للآخرة ، والمتلوّن فيهما قد يستحبّ الدّنيا وقد يستحبّ الآخرة ولمّا كان صيغة الكافرين بحسب الاستعمال يتبادر منها المتمكّنون في الكفر أتى بالاستحباب بصيغة المضارع الدّالّ على الاستمرار وعقّبه بقوله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) مضارعا دالّا على الاستمرار والّا فالمتلوّنون في الكفر كثيرا ما لا يصدّون عن سبيل الله ولا يبغونها عوجا بل يبغونها قيّما (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) نسبة البعد الى الضّلال مجاز (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) كأنّهم توهّموا انّ الرّسول من الله لا بدّ وان يكون لسانه لسانا عربيّا لا يعرفه أحد من أصحاب اللّغات ولعلّهم اجروا على ألسنتهم ذلك فقال : وما أرسلنا رسولا الّا بلسان قومه (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فانّ المقصود من الإرسال التّبليغ ولا يمكن الّا بالبيان الّذى يتفطّن به المرسل إليهم ، وما يقال : انّ الآية تدلّ على انّه (ص) رسول الى العرب خاصّة لا يتجاوز رسالته غيرهم في غاية البعد للفرق بين ان يقال : ما أرسلنا رسولا الّا بلسان قومه وبين ان يقال : ما أرسلنا رسولا الا الى أهل لغته (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالخذلان والتّوفيق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) لا يمنع ممّا يشاء (الْحَكِيمُ) لا يخذل ولا يوفق الّا عن حكمة مقتضية له (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قد غلّب اليوم في العرف للواقعة الغريبة الواقعة فيه فايّام الله على هذا عبارة عن الوقائع الواقعة على الأمم الماضية وقد فسّرت في الاخبار بنعم الله وآلائه ، وهذا التّفسير من تشريف الاضافة الى الله فانّ اليوم المنسوب الى الله لا بدّ وان يكون أشرف الايّام ، وشرافته بانعامه تعالى فيه فاستعمل الايّام في النّعم الّتى وقعت فيها هذا بحسب الظّاهر ، وامّا على التّحقيق فايّام الله عبارة عن مراتب الآخرة ومقامات الإنسان من عالم المثال والنّفوس والصّافّات صفّا والمقرّبين ومن القلب والرّوح والعقل الى آخر المراتب وكذا المراتب النّازلة من جهنّام النّفس ودركاتها والجحيم وطبقاتها ، ولعلّ التّفسير بالوقائع والنّقم وبالآلاء والنّعم للاشارة الى ما في تلك المراتب (إِنَّ فِي ذلِكَ) التّذكير (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على البلاء (شَكُورٍ) على النّعماء (وَإِذْ قالَ مُوسى) وذكّرهم إذ قال موسى (لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) باستعبادكم (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ

٣٨٩

نِساءَكُمْ) بدل تفصيلىّ (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) في سوء العذاب ابتلاء أو في الإنجاء نعمة (وَإِذْ تَأَذَّنَ) علم (رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمة الإنجاء (لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) بالطّغيان وترك العمل بطاعته (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) وقد فسّر الشّكر بمعرفة القلب انّ النّعمة من الله ويقول الحمد لله (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) فلا يحصل له حاجة بكفركم (حَمِيدٌ) لا ينقص من محموديّته بترككم حمده (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) خطاب من الله لامّة محمّد (ص) أو مقول قول موسى (ع) وعلى اىّ تقدير فهو تذكير بالايّام الماضية ليعتبروا ولا يفعلوا مثل ما فعلوا (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) من الرّسل وأممهم (لا يَعْلَمُهُمْ) عدّة وعدّة ومدّة وحيّزا وقصّة (إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بأحكام النّبوّة الشّاهدة على صدق الآتي بها بمضمون اعرفوا الرّسول بالرّسالة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) كناية عن شدّة الغيظ حيث انّ المغتاظ يعض لغاية الغيظ على يده طبعا كقوله (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ، أو كناية عن غاية التّعجّب والاستهزاء لانّ المتعجّب يضع يده على فمه طبعا ، أو كناية عن الاشارة الى الأنبياء (ع) بالاسكات فانّ من أراد ان يشير الى غيره بالاسكات يضع يده على فم نفسه اشارة الى إسكات المتكلّم ، وقيل : ردّوها في أفواه الأنبياء لمنعهم من الكلام وحينئذ يحتمل ان يكون على حقيقته وان يكون تمثيلا للمنع عن الكلام (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ذكروا صفة الفاطريّة والخالقيّة الّتى لا يبقى معها شكّ فيه ثمّ ذكروا انّ دعوته لمغفرتكم في الآخرة ولطول أعماركم في الدّنيا حتّى يرغبوا في قبول دعوته (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فلا امتياز لكم عنّا بأنفسكم حتّى تستحقّوا بذلك اتّباعنا لكم وما نرى ممّا تدعوننا اليه شيئا الّا الانصراف عن آلهتنا فأنتم (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجّة موضحة لصدقكم أو واضحة الحجيّة حتّى نتّبعكم بذلك (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لا ندّعى الامتياز عنكم بحسب البشريّة (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالوحي والإرسال الى العباد وبذلك نمتاز عنكم (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يعنى نتوكّل ونبلّغ ولا نبالى بكم وبردّكم وقبولكم واذاكم لكنّهم علّقوا التّوكّل على وصف الايمان اشعارا بانّ الايمان يقتضي ذلك (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) جمع السّبل باعتبار جمع الرّسل أو باعتبار انّ لكلّ سبلا عديدة الى الخيرات والشّرور (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) يعنى من أراد التّوكّل فلا يتوكّل الّا على الله فانّه الحقيق بان يتوكّل عليه لانّه عالم بجميع جهات ما توكّل عليه فيه وقادر على حفظه وواف لا يخون فيما عليه وكالته (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ذكر العود لاعتقادهم انّ رسلهم (ع) قبل إظهار الرّسالة كانوا على دينهم (فَأَوْحى

٣٩٠

إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) تقوية لتوكّلهم وصبرهم (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا الخطاب لجميع الرّسل في العوالم الانسانيّة وإسكانهم في الأرض الصّغيرة الانسانيّة وكان لبعض الرّسل في العالم الكبير (ذلِكَ) الإهلاك أو الإهلاك وإسكان الرّسل (ع) ل انتفاع من (خافَ) أو ذلك الإهلاك والإسكان كما يكون للرّسل فهو ثابت لم خاف (مَقامِي) وموقفي للحساب (وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا) اى الرّسل (ع) أو الأمم المنكرة أو الجميع لانّ كلّا استفتحوا من الله والمعنى طلبوا الفتح على أعدائهم أو الفاتحة والحكومة بينهم وبين أعدائهم (وَخابَ) في ذلك الاستفتاح (كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متكبّر معاند للحقّ منكر له (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) الصّديد القيح والدّم الّذى يخرج من الجلود بالنّار وفي أخبارنا هو ما يسيل من الدّم والقيح من فروج الزّوانى في النّار ووصف الماء الصّديد بتشويه الوجوه وقطع الأمعاء وإخراجها من دبر صاحبها كثير في الاخبار (يَتَجَرَّعُهُ) يتكلّفه جرعة جرعة لغاية كراهته له (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) بحسب أسبابه لانّه يحيط به أسبابه من جميع جهاته (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أعاذنا الله بمنّه وفضله وقدم إحسانه ، وقد فسّر العذاب الغليظ الّذى له بعد ذلك العذاب بحميم تغلى به جهنّم منذ خلقت كالمهل يشوى الوجوه بئس الشّراب وسائت مرتفقا (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) اى حكايتهم وشأنهم في أحوالهم وأعمالهم وقبولها وردّها (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) حملته وأسرعت الذّهاب به (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) اى عاصف ريحه فانّ العصف شدّة الرّيح تعريض بمنافقى الامّة لانّهم اغترّوا بما عملوه في الإسلام من العبادات والانفاقات والاعتاقات وتركوا الولاية وكفروا به فكفروا بمحمّد (ص) فكفروا بالله وان فسّر ربّهم بالرّبّ المضاف فالمعنى واضح (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا) في الإسلام (عَلى شَيْءٍ) يعنى لا يصلون الى جزاء شيء ممّا كسبوا فانّ سلب القدرة كثيرا ما يستعمل في عدم وصول اليد (ذلِكَ) التّعب في العمل وعدم القدرة على شيء من جزائه مع حسبان انّهم يحسنون صنعا (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) نسبة البعد الى الضّلال مجاز (أَلَمْ تَرَ) يا محمّد (ص) أو يا من يتأتّى منه الرّؤية (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) اى متلبّسا بالحقّ لانّه لا باطل فيه أو بواسطة الحقّ الّذى هو الولاية المطلقة فلا بأس بانكارهم ولا نقص لها بذلك الإنكار (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ابرز الأمر المتحقّق في معرض المشكوك تهديدا لهم لانّه يوهم الاذهاب في الآن الحاضر والّا فليس له شأن سوى الاذهاب والإتيان بخلق جديد (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذّر ولا متعسّر لانّه واقع (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) يعنى يوم القيامة ، أتى بالماضي للدّلالة على تحقّق وقوعه أو لانّ الخطاب لمحمّد (ص) وامر القيامة مشهود له (فَقالَ الضُّعَفاءُ) اى الاتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) اى المتبوعين وقد فسّر على الاستكبار بترك الطّاعة لمن أمروا بطاعته والتّرفّع على من ندبوا الى متابعته (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) استغاثوا بهم كما ظنّوا في الدّنيا انّهم يغيثونهم في الآخرة لانّ المراد بالرّؤساء هم المترئّسون في الدّين صورة لا رؤساء الدّنيا واستعطفوهم بذكر تبعيّتهم لهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا) دافعون عنّا (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا) في جوابهم (لَوْ هَدانَا اللهُ) في الدّنيا

٣٩١

وهاهنا الى طريق النّجاة علّقوا تقصيرهم على عدم هداية الله كما هو ديدن النّساء بعد ما اعترفن بسوء فعلهنّ ، أو المراد بهذا الشّرط الشّرط في الاستقبال يعنى ان هدينا الله هاهنا الى طريق الخلاص (لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا) يعنى عليكم وعلينا (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) منجى ومهرب (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) اى امر الدّنيا ، (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) انّ الله بلسان مظهره محمّد (ص) وعلىّ (ع) وعدكم وعد الحقّ (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) تسلّط وإجبار (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) استثناء منقطع اى دعوتكم وزيّنت لكم الكفر والعصيان (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي) فانّى كنت عدوّا لكم وما كان عداوتي مخفيّة عليكم ومن قبل قول العدو يلام ، على انّ المدعوّ الى الشّرّ أو الى ما لا يعلم ضرّه ونفعه ملوم في اجابته (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) اى تبرّأت من اشراككم ايّاى بالله في الطّاعات واشراككم ايّاى بعلىّ (ع) في الولاية (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) من تتمّة كلامه أو استيناف من الله وحكاية أمثال هذه انّما هي للتّنبيه على انّ أهل الدّنيا في الحقيقة هم أهل النّار لانّهم كلّما اتّفقوا على امر ولا يقضون منه مرامهم يلعن بعضهم بعضا ويتبرّأ بعضهم من بعض ويرمى بذلك الأمر بعضهم بعضا (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) علىّ (ع) ودعوته هو الكلمة الطّيّبة (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) من حيث الاثمار لا يتضرّر أحد بثمرها ، ومن حيث الرّيح والظّلّ والمنظر (أَصْلُها ثابِتٌ) لا يتحرّك ولا ينقل من مكانه (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) في الصّيف والشّتاء والخريف والرّبيع (بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) لانّهم لا يدركون المعقولات الّا بالصّور المحسوسة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) عن الصّادق (ع) انّه سئل عن الشّجرة في هذه الآية فقال : رسول الله (ص) أصلها ، وأمير المؤمنين (ع) فرعها ، والائمّة من ذرّيّتهما أغصانها ، وعلم الائمّة (ع) ثمرتها ، وشيعتهم المؤمنون ورقها ، والاخبار بهذا المضمون كثيرة (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) غيّر الأسلوب بانّ المقصود بالذّات من ضرب الأمثال هو الأخيار وأمثالهم وامّا الأشرار فليست مقصودة الّا بالتّبع (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) لانّها لاثبات لها كالمرأة الّتى لاثبات لها على شيء من آرائها وأقوالها وعهودها (ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) كالنّتيجة لما قبله يعنى بعد ما علم انّ محمّدا (ص) وعليّا (ع) هما الشّجرة الطّيّبة الثّابتة فمن آمن بهما يثبّته الله بهما وهما القول الثّابت أو بإيمانه وهو أيضا قول ثابت (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلا يشكّون في دينهم وفي آخر الحيوة الدّنيا فلا يمكن للشّيطان ان يفتنهم عند الموت (وَفِي الْآخِرَةِ) فلا يزلفون الى النّار (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الّذين انصرفوا عن الشّجرة الطّيّبة الى الشّجرة الخبيثة لانّهم ظلموا أنفسهم بمنعها عن حقّها الّذى هو اتّباعها للشّجرة الطّيّبة وظلموا آل محمّد (ص) بمنعهم عن حقّهم الّذى هو انقيادهم لهم واضلالهم يكون عن طريق الجنان الى الجحيم كما انّهم ضلّوا في الدّنيا عن صاحب الجنان الى صاحب الجحيم (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) امّا من قبيل لا يسأل عمّا يفعل ، أو المقصود رفع الاغترار عن المؤمنين ورفع اليأس عن

٣٩٢

الكافرين بإمكان التّبديل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) في العالم الصّغير وفي العالم الكبير (دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) وقد فسّر في الاخبار الّذين بدّلوا نعمة الله بالافجرين من قريش بنى أميّة وبنى المغيرة ، ونعمة الله بمحمّد (ص) وفسّروا بقريش قاطبة ونعمة الله بمحمّد (ص) وفسّر نعمة الله بعلىّ (ع) والمبدّلون بالمنحرفين عنه (ع) (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) كالأصنام والكواكب وغيرها ، أو جعلوا لله في العالم الصّغير أندادا من انانيّاتهم فانّ مبدء الأنداد في الخارج هي الأصنام الدّاخلة أو جعلوا لله بحسب مظاهره أندادا يعنى جعلوا لمحمّد (ص) وعلىّ (ع) أندادا (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) وهو علىّ (ع) وطريق الولاية (قُلْ تَمَتَّعُوا) تهديد بصيغة الأمر (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) ترك مقول القول للاشارة الى انّ قوله (ص) وتوجّهه إليهم يؤثّر فيم بحيث يجعلهم على أشرف أوصاف الإنسان وهو أصل جملة العبادات يعنى اقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة فلا حاجة الى تقدير المحكىّ ، وتخصيص القول بان يقال قل : أقيموا الصّلوة يقيموا الصّلوة (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الاعراض والقوى العمّالة والعلّامة والوجاهة والحشمة (سِرًّا) من النّاس ومن المنفق عليه ومن الملائكة ومن أنفسهم (وَعَلانِيَةً) ويحتمل ان يكونا متعلّقين برزقناهم اشارة الى النّعم الظّاهرة والباطنة (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره أو يبيع ماله ويفدى بثمنه نفسه (وَلا خِلالٌ) لا محالة بين أحد فيشفع الخليل لخليله (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) لا غيره فما بالكم يأمركم بالإنفاق مع انّ الكلّ بيده فتبخلون (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) على نظام واحد من غير تغيّر عن طريقهما في الحركة (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) وبتسخيرهما يتولّد ويحصل أصول معيشتكم (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بلسان الاستعداد وان كان قد لا يعطى ما سألتموه بلسان القال ، وقرأ الصّادقان (ع) : من كلّ بالتّنوين ولعلّه كان أوفق بالمقصود إذ السّؤال بلسان الحال لا يتخلّف المسؤل عنه والله تعالى يعطى كلّا من كلّ شيء بقدر ذلك السّؤال ، ولسان القال ان لم يكن موافقا للسان الحال يتخلّف المسؤل عن السّؤال كما يشاهد من أكثر السّائلين المتضرّعين الّذين يتخلّف عنهم مسئولهم.

اعلم ، انّ الله تعالى ناظر الى سؤال الاستعداد ومعط بقدره فالمادّة الانسانيّة تسأل نضجا بالقوى النّباتيّة من الغاذية بجنودها والنّامية بجنودها والمولّدة باعوانها ، ومستقرّا من الكليتين والبيضتين وبعد تمام نضجها تستدعى وعاء تستقرّ فيه وتنمو وتتبدّل من صورة الى صورة ومن حال الى حال وتستدعى مربّيا يربّيها من النّفوس البالغة ومتصرّفا في ذاتها من القوى النّباتيّة بمراتبها الى ان يبلغ أو ان تولّدها وبعد التّولّد تستدعى الف الف ملك والف الف قوّة بها يتمّ فعلها ونموّها وبلوغها وخروجها من الدّنيا الى الآخرة فأعطاها الله كلّها ، هذا بحسب ما ندركه بمدركاتنا القاصرة وامّا ما لا ندركه فغير متناهية الى حدّ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ) الّتى أعطاكموها بمسئلتكم (لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) جواب سؤال عن حال الإنسان بإزاء تلك النّعم يعنى انّه ظلوم لانّه لا يستعمل النّعم فيما أعطيت له ويمنع المستحقّ عن الحقّ ويعطى لغير المستحقّ ،

٣٩٣

وكفّار لأنّه يستر انعام الحقّ في النّعمة ولا ينظر الى الانعام ولا الى المنعم بل الى ذات النّعمة من غير اعتبار كونها نعمة من غيره بل يضيفها الى نفسه ويقول : انّما أوتيته على علم واستحقاق من نفسي (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) واذكر أو ذكّر قومك دعوة إبراهيم (ع) ومقالته فانّ فيها ترغيبا الى الخيرات وترهيبا عن الإشراك ومعرفة لبعض أو صاف الله وتعليما لطريق التّضرّع والمسألة منه وبيانا لشرف ذرّيّته وفي بيان شرفهم ترغيب للخلق إليهم ، وفي رغبتهم إليهم نجاة لهم في الآخرة وشرافة في الدّنيا (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ذا امن.

اعلم ، انّ بلدة مكّة وعمارتها كانت بسعى إبراهيم (ع) وتعميره كما انّ البيت كان بسعيه وتعميره فكان البلد مظهرا لصدره المنشرح بالإسلام المطهّر من الوساوس والارجاس ، والبيت مظهرا لقلبه الّذى هو بيت الله الحقيقىّ وقد أجاب تعالى شأنه دعاءه حيث جعل صدره مأمنا عن كلّ شرّ وفساد وبلده مأمنا بالمواضعة لأمره التّكليفىّ ان لا يتعرّض لأحد ولا لحيوان ولا نبات كان في الحرم (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) المصنوعة أو أصنام الاهوية أو كلّ ما يطاع ويعبد من دون اذن الله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) صرن سببا لاضلالهم أو اضللن بما ظهر من الشّيطان على صورهنّ من خوارق العادات وأيضا رؤساء الضّلالة الّذين هم الأصنام البشريّة اضللن كثيرا من النّاس (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الفاء جواب شرط محذوف كأنّه قال : فان أجبتنى الى مسئولى فمن تبعني فانّه منّى فأجبنى في حقّه أيضا والمقصود بالتّبعيّة التّبعيّة الحقيقيّة الّتى تحصل بالبيعة العامّة أو الخاصّة ولمّا كان التّابع يصير بتلك البيعة مرتبطا بالمتبوع بل متولّدا منه من حيث لطيفته التّابعة الرّوحية فالتّابع بتلك التّبعيّة يصير جزء من المتبوع فيصير بعضا منه ويصير متولّدا منه فيصير ناشئا منه (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فعاملهم بشأنك لا بشأنهم وقد ورد في أخبارنا الاماميّة انّ من أحبّنا فهو منّا ، ومن أطاعنا فهو منّا ، ومن اتّقى وأصلح فهو منّا أهل البيت (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) بعض ذرّيّتى وهو إسماعيل وقد ورد في أخبارنا : نحن بقيّة تلك الذّريّة ونحن هم ، ونحن بقيّة تلك العترة وكانت دعوة إبراهيم (ع) لنا خاصّة (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وادي مكّة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الّذى حرّم التّهاون به والتّعرّض بمن كان في نواحيه وما كان فيها (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) لمّا كان المقيم في بلد الصّدر المنشرح بالإسلام والطّائف حول بيت القلب مقيما للصّلوة متوجّها الى الله وكان بلد مكّة وبيت الكعبة مظهرين لهما كان من كان مقيما فيهما وكان فيه لطيفة الهيّة يتوجّه الى الله توجّها أقوى وأتمّ ، ولذلك جعل الغاية اقامة الصّلوة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) اى من بعضهم ، وفي أخبارنا انّه لم يعن النّاس كلّهم أولئك أنتم ونظراؤكم ؛ بالخطاب لشيعتهم ، وورد انّه : ينبغي للنّاس ان يحجّوا هذا البيت ويعظّموه لتعظيم الله ايّاه وان يلقونا حيث كنّا ، نحن الادلّاء على الله (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قرئ بكسر الواو وفتحها من هوى إذا سقط ، وهوى إذا احبّ ، وعلى اىّ تقدير فهو يدلّ على كمال المحبّة والاشتياق ، وورد في أخبارنا : انّ دعوة إبراهيم (ع) كانت في حقّنا حيث لم يقل تهوى اليه حتّى يرجع الى البيت بل قال إليهم حالكون الضّمير راجعا الى الّذرّية ، وفي هذه الدّعوة طلب للتّوسعة على الّذرّيّة وطلب للنّجاة والفلاح للخلق (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ثمرات الأشجار الطّبيعيّة وثمرات الأشجار الرّوحيّة وهي الوداد والانقياد والذّوق والمعرفة والوصال والاتّحاد وغير ذلك ممّا يظهر في المعاد (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وبعد إتمام ما أراد من الدّعاء انتقل من مقام التّضرّع الى مقام الثّناء مثنيا بما يعين

٣٩٤

على اجابة دعوته فقال (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) فأنت العالم بحاجاتنا ومصالحنا سألنا أو لم نسأل (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) تعميم بعد تخصيص والتّفات من الخطاب الى الغيبة اشارة الى تنزّله عن مقام الحضور ثمّ انتقل عن مقام الثّناء الى مقام الالتفات الى النّعمة والقيام بشكرها فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) مشتملا على كبر السّنّ واليأس عن الولد قيّد الثّناء به إظهارا لعظمة النّعمة دلالة على كمال القدرة (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) قيل ولد إسماعيل (ع) حالكونه ابن تسع وتسعين ، وولد إسحاق (ع) حالكونه ابن مائة واثنتى عشرة سنة (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) ذكر ذلك إظهارا لنعمة اخرى هي اجابته له في دعاء الولد ، ورجاء لا لإجابة دعائه الماضي وتمهيدا لاجابة دعائه الآتي (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) اقامة الصّلوة بان يكون صلوة القالب متّصلة بصلوة القلب وهي متّصلة بصلوة الرّوح (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) لمّا علم انّ اقامة الصّلوة بحيث صارت سجيّة للمصلّى المستفاد من لفظ مقيم الصّلوة خاصّة بمن له درجة النّبوّة أو الولاية وانّ جميع ذراريه لا يكونون أنبياء أتى بمن التّبعيضيّة (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) بالإجابة (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) آدم (ع) وحوّاء (ع) كما نسب الى الخبر أو والديه القريبين ، ونسب الى أهل البيت (ع) انّهم قرءوا لولدىّ يعنى إسماعيل (ع) وإسحاق (ع) (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) استيناف كلام من الله أو عطف على إذ قال وعامله والخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الحسبان (غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وعيد للظّالم ووعد للمظلوم (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) بالامهال (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) تبقى مفتوحة لا يقدرون ان يطرفوا (مُهْطِعِينَ) مسرعين الى اجابة الدّاعى (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) رافعيها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يقدرون ان ينظروا الى أنفسهم لكمال دهشتهم وحيرتهم (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) خلاء عن الرّأى لفرط الوحشة ، أو عن الخير لغلبة الشّقوة ، وقيل : متصدّعة من فرط الدّهشة (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) من يوم يأتيهم العذاب أو هو مبنىّ وبدل من يوم تشخص فيه الأبصار أو هو ظرف للافعال السّابقة أو متعلّق بذكّر بدلا من انذر النّاس والمراد منه يوم حضور الموت (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) اى يقال لهم ذلك (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يعنى استننتم بسننهم ووقفتم في مقامهم أو سكنتم في منازلهم الصّوريّة بحيث شاهدتم آثار عذابهم وهلاكهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) موافقة لأحوالكم وانتقالكم الى الآخرة ، أو ضربنا لكم أمثال الّذين ظلموا حتّى تتنبّهوا أو تجتنبوا مثل أفعالهم (وَقَدْ مَكَرُوا) صرف الخطاب عنهم أو الضّمير راجع الى الّذين ظلموا (مَكْرَهُمْ) ما كان في وسعهم وجهدهم (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) يعنى مكرهم ثابت عند الله فيجازيهم عليه ، أو عند الله مكرهم فلا ينفذ ولا يؤثّر الّا باذنه ، أو عند الله مكرهم يعنى ان يمكر بهم مكرا لائقا بحالهم (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) انّه كان مكرهم أو ان شرطيّة وصليّة أو نافية اى وان كان مكرهم لعظمه مستعدّا (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) وما كان مكرهم لتزول منه الجبال بل كان أعظم ، وقرئ بفتح اللّام ورفع الفعل على

٣٩٥

ان يكون ان هي المخفّفة واللّام للفصل (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بوعد النّصرة وإسكان الأرض من غير معاند (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) في موضع التّعليل (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) بدل من يوم يأتيهم العذاب أو ظرف لمخلف وعده أو لعزيز أو لذو انتقام أو متعلّق بذكّر أو اذكر مقدّرا (غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أو تبدّل ارض عالم الطّبع ارض عالم البرزخ وارض عالم المثال وذلك حين ظهور القائم عجّل الله فرجه في العالم الصّغير بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ ، وهو حين إتيان السّاعة والقيامة الصّغرى كما فسّر السّاعة بظهور القائم وبالقيامة وتلك الأرض المبدّلة لمّا لم يكن معها مادّة حاجبة وظلمة وامتداد مكانىّ وبعد جسمانىّ لا ترى فيها عوجا ولا امتا بحيث ترى البيضة الّتى في المغرب من المشرق ، وكذا لا يحجب أهل تلك الأرض ولا قصورها بعضها بعضا بل يرى الكلّ في الكلّ ومن وراء الكلّ ، لانّ الكلّ مرائى متعاكسات وغير حاجبات لما وراءها ولذلك قال (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) بحيث كلّما كان باطنا منهم في الدّنيا صار بارزا هناك وتحدّث الأرض اخبارها بإبراز ما كان مكمونا فيها ، والتّوصيف بالوحدة والقهّاريّة لظهور سلطان الوحدة هناك (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) جمع الصّفد بمعنى القيد وذلك لانّ اصفادهم المكمونة في الدّنيا تبرز هناك (سَرابِيلُهُمْ) قمصانهم (مِنْ قَطِرانٍ) القطران بفتح القاف وكسر الطّاء وهو قراءته بالفتح والسّكون وبالكسر والسّكون شيء اسود منتن يحلب من الأبهل وهو شجر كبير ورقه كالطّرفاء يطلى به الإبل الجربي يحرق الجرب بحدّته ويشتعل النّار فيه سريعا ، والمقصود انّهم يطلون بالقطران فيجعل لهم كالقمصان حتّى يتأذّوا بريحه ولونه وحدّته ويسرع إليهم اشتعال النّار ، وقرئ من قطر آن كلمتين منوّنتين والقطر هو الصّفر المذاب والإني البالغ في الحرّ وكأنّه بهذه القراءة فسّر في الاخبار بالصّفر المذاب (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كناية عن غاية عجزهم وشدّة ابتلائهم فانّ الإنسان مهما كان له قدرة وحراك يدفع الموذي عن وجهه وان كان بجعل بعض أعضائه جنّة له (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) متعلّق بتبدّل الأرض أو ببرزوا (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ هذا) المذكور هاهنا من قوله (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) (الى آخر الآية) وامّا كونه اشارة الى القرآن أو الى السّورة فبعيد لانّ هذا الكلام يقال فيما لا قدر له بالاضافة الى غيره فيقال هذا القدر يكفى (بَلاغٌ) كفاية وكاف (لِلنَّاسِ) اى لجملة المؤمنين والكافرين (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) اى لينصحوا به ولينذروا ، أو المعطوف محذوف اى وانزل لينذروا به (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) انّما الله اله ومستحقّ للمعبوديّة واحد لا ثانى له في المعبوديّة (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) رتّب على كونه بلاغا ثلاث فوائد : الإنذار بالنّسبة الى الكفّار ، والعلم بوحدانيّته بالنّسبة الى المستعدّين للايمان ، والتّذكّر بالنّسبة الى المؤمنين العالمين ، ويحتمل ان يكون المعنى هكذا : هذا المذكور نزل لبلوغه الى النّاس ، ولينذروا به ، فيكون لينذروا به عطفا على بلاغ باعتبار المعنى.

٣٩٦

سورة الحجر

تسع وتسعون آية وهي مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي

وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ، والّا قوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ)

الجزء الرّابع عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) ظاهر الصّدق والمعنى أو يبيّن الغىّ عن الرّشد والحقّ عن الباطل ، وعطف القرآن على الكتاب للاشارة الى انّ المشار اليه كما انّه آيات كتاب النّبوّة وكتاب الفرق كذلك آيات كتاب الولاية وكتاب الجمع ، وتنكير القرآن للاشارة الى انّه آيات شأن من شؤن الولاية لا انّه آيات حقيقة الولاية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قرئ بتخفيف ربّ وتشديدها وما كافّة أو نكرة موصوفة ، ولو للتّمنّى أو مصدريّة ؛ والمعنى يودّ الّذين كفروا كثيرا إسلامهم حين الافاقة من سكر اهويتهم أو حين الملال من تعب كفرهم ، واستعمال ربّ للتّكثير كاستعماله للتّقليل شائع كثير ، وفي ربّ ستّ عشرة لغة ضمّ الرّاء وفتحها مع تشديد الياء وتخفيفها مفتوحة والكلّ مع تجرّدها عن التّاء واتّصالها بها حالكون التّاء ساكنة ومفتوحة وضمّ الحرفين مع التّشديد والتّخفيف وضمّ الرّاء وفتحها مع إسكان الباء مخفّفة (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا) كما يأكل الانعام فانّ المقصود منه هذا المعنى في مثل المقام (وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم وهو اقناط للرّسول عن إسلامهم وتوهين وتهديد لهم (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أجل مكتوب مثبت والمستثنى مفرّغ واقع موقع الحال ويكفى في صحّة كون القرية ذا الحال وقوعه نكرة عامة في سياق النّفى (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) يعنون محمّدا (ص) (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) يعنون انّك تدّعى بطلان عبادة الأصنام الّتى كانت قديمة وتدّعى التّوحيد الّذى ما سمعنا به من أسلافنا وليس هذا الّا بجنونك وعدم تأمّلك في انّ مثل هذا لا يقبل وانّه لا ينفع لك ولا يحصل لك الغرض منه (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) فانّ لله ملائكة كثيرة لو كان أرسلك إلينا رسولا لا نزل معك ملائكة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فقال تعالى ردّا عليهم

٣٩٧

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قرئ بالنّون وبالياء والبناء للفاعل وبالتّاء والبناء للمفعول وبالتّاء والبناء للفاعل مفتوح التّاء أصله تتنزّل الملائكة (إِلَّا بِالْحَقِ) اى الّا مع الحقّ وإذا جاء الحقّ لم يبق منكم اثر لأنّكم باطلون ولا يبقى الباطل مع الحقّ ، وقد مرّ مرارا انّ الحقّ هو الولاية المطلقة وهي اضافة الحقّ الاوّل تعالى شأنه اضافة اشراقيّة وانّ كلّ حقّ فهو حقّ بحقّيّته ولذلك قال (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ردّ عليهم في استهزائهم بذكر تنزيل الذّكر (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ولا ينافي حفظه تعالى للّذكر بحسب حقيقته التّحريف في صورة تدوينه فانّ التّحريف ان وقع وقع في الصّورة المماثلة له كما قال (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في فرقهم والشّيعة هي الفرقة المتّفقة على طريقة واحدة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذلِكَ) الإدخال على سبيل الاستهزاء أو كذلك الاستهزاء (نَسْلُكُهُ) ندخل الذّكر أو الاستهزاء (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) حال عن المجرمين أو عن مفعول نسلكه ، أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر ، أو مفسّره للجملة السّابقة (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) اى سنّة الله في الاوّلين أو طريقتهم المستعقبة للعذاب في الدّنيا والآخرة (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا) لغاية عنادهم وتشكيكهم (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) منعت من الأبصار بالسّحر أو جعلت حيارى كالسّكارى (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا محمّد (ص) ولذا نرى صعودنا في السّماء (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) امّا المراد بها البروج المشهورة الاثنى عشر أو منازل القمر أو درجات مسير الشّمس الثّلاث مائة والسّتّون ، وقد فسّر البروج بكلّ منها والبرج والقصر بمعنى ومن غرائب الحكمة وعجائب الصّنع انّ الفلك مع بساطته ممتاز بعض اجزائه عن بعض بخواصّ وآثار ، فانّ البروج الاثنى عشر وكذا المنازل الثّمانية والعشرون لكلّ اثر غير صاحبه كما علم بالتّجربة وأثبته المنجّمون في كتب الأحكام (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) بالكواكب المنيرة (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) حفظ بروج سماء الأرواح من الشّيطان واضح فانّ الشّياطين لكون عالمهم عالم الظّلمة والملكوت السّفلى لو صعدوا الى عالم الأرواح لفنوا عن ذواتهم ، وامّا بروج سماء الطّبع فقد يتوهّم انّهم يمكن لهم الصّعود إليها لتسلّطهم على عالم الطّبع على الإطلاق ، لكنّ التّحقيق انّهم كما كانوا مطرودين من عالم الأرواح كذلك مطرودون من الأجسام العالية ، لانّها لعدم تركّبها عن المتضادّات وبساطتها وصفائها محالّ للملائكة المدّبرين ومتعلّقات للنّفوس العلويّة وللأرواح العاليّة ، فأجسام الأفلاك بذواتها وان كانت لا تأبّى لها عن اتّصال الشّياطين بها لكنّ الأرواح المتعلّقة بها تأبّى اتّصال الشّياطين بها (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) استثناء متّصل أو منقطع.

بيان ردع الشّياطين بتولّد عيسى (ع) ومحمّد (ص) عن السّماوات

(فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) محقه وأدركه ، والشّهاب شعلة نار ساطعة ويطلق عليه اسم الكواكب فيقال كوكب انقضّ السّاعة وتتولّد الشّهب في كرة الدّخان كما حقّق في محلّه ، وليست هي كواكب كما هو المشهور في العرف وليست الشّياطين تتأذّى بها لكون الشّهب من المادّيّات والشّياطين من الرّوحانيّات ، بل المراد بالشّهب القوى الرّوحانيّة المتضادّة للشّياطين الرّادعة لهم عن ساحة حضور الأرواح الطّيّبه المتصوّرة للبصائر

٣٩٨

المنفتحة بصور الشّهب سواء كان استراق السّمع من سماوات الطّبع أو من سماوات الأرواح ، وبما ذكرنا من وجه ردع الشّياطين من سماوات الطّبع وسماوات الأرواح يمكن التّفطّن بما ورد في الاخبار ، من انّ الشّياطين كانوا يصعدون الى السّماوات ، فلمّا ولد عيسى (ع) حجبوا عن ثلاثة منها وكانوا يخرقون اربع سماوات ، فلمّا ولد رسول الله (ص) حجبوا عن السّبع ، أو كان الشّياطين يصعدون السّماء فلمّا ولد محمّد (ص) ردعوا بالشّهب وكان ليلة تولّده كثيرة الشّهب ، وأمثال ذلك كثيرة ، مع انّ الشّياطين كانوا مطرودين من سماوات الأرواح وكذا من سماوات الطّبع كما سبق والوجه في ذلك انّ السّماوات في العالم الصّغير قبل تولّد الكلمة العيسويّة كانت مجتمعة بالقوّة في السّماء الدّنيا وهي سماء النّفس الانسانيّة وهي محلّ تصرّف الشّياطين ، فاذا تولّد الكلمة العيسويّة صار بعض ما بالقوّة بالفعل كسماء الصّدر المنشرح بالإسلام وسماء القلب وسماء النّفس الانسانيّة ويبقى الباقي بالقوّة ويطرد الشّياطين بواسطة تلك الكلمة عن هذه السّماوات ، وبعد تولّد الكلمة المحمّديّة (ص) الجامعة لجميع المراتب بالفعل يصير جميع ما بالقوّة بالفعل فيتميّز السّماوات السّبع ويطرو الشّياطين من الكلّ ، الّا انّه مترصّد من جهة النّفس الحيوانيّة لان يسترق حين الفرصة من سماء النّفس الانسانيّة الدّنيا استماع بعض الأشياء فيتّبعه شهاب تذكّر الإنسان بنور الايمان واليه أشير بقوله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت وقد ذكر وجه الانتفاع ببسط الأرض وإلقاء الجبال وانّ فيهما حكما ومصالح كثيرة (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) ان رجع ضمير فيها الى الجبال فالمراد بالموزون ما يوزن ويباع بالوزن كالفلزّات فانّها تنبت في الجبال ، وان رجع الى الأرض فالمراد الموزون المقدّر لمنافعكم والمعدود لمصالحكم ، وان كان راجعا إليهما جميعا فالمراد منه معنى اعمّ من المعنيين (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) ما تعيشون به من الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على معايش اى وجعلنا لكم خدما وإماء وعبيدا وانعاما لستم لها برازقين وكان تغليبا لجانب ذوي العقول ، أو عطف على المجرور في لكم على بعد لعدم عادة حرف الجرّ والمعنى وجعلنا لكم معايش وجعلنا لمن لستم له برازقين معايش كالمجانين والسّفهاء وغيرهم من أهل الجزائر الّذين يعيشون كالبهائم والسّباع ويلحقون بها.

بيان انّ لكلّ شيء خزائن عند الله

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) اعلم ، انّه قد يطلق الشّيء ويراد به ما يساوق الموجود فيشمل الحقّ الاوّل تعالى شأنه ، وقد يطلق ويراد به الشّيء وجوده فلا يشمل الحقّ الاوّل ولا حضرة الأسماء ولا حضرة الفعل الّذى هو مبدء إضافاته ، ويشمل الممكنات كلّها من حضرة العقول المعبّر عنها بالأقلام العالية والملائكة المقرّبين ، وحضرة الأرواح المعبّر عنها بأرباب الأنواع والصّافّات صفّا ، وحضرة النّفوس الكلّيّة المعبّر عنها بالالواح الكلّيّة المحفوظة والمدبّرات امرا ، وحضرة النّفوس الجزئيّة المعبّر عنها بألواح المحو والإثبات وبعالم المثال باعتبارين ويشمل موجودات عالم الطّبع تماما ، وكلّ ما في تلك الحضرات له حقيقة في حضرة الأسماء وحقيقة في حضرة الفعل والاضافة الالهيّة الاشراقيّة ، وكلّ ما في حضرة الفعل له حقيقة أيضا في حضرة الأسماء ، وكلّ ما في حضرة الأرواح له حقيقة في حضرة الأقلام وحقيقة في حضرة الفعل وحقيقة في حضرة الأسماء ، وهكذا حضرة النّفوس الكلّيّة وما فيها وحضرة النّفوس الجزئيّة وما فيها وعالم الطّبع وما فيها ، وبعبارة اخرى كلّ دان له صورة بالاستقلال في العالي وصورة بالاستقلال في عالى العالي وصورة بتبع العالي في عالى العالي فلكلّ شيء من الممكنات حقائق في حضرة

٣٩٩

الأسماء استقلالا وتبعا وهكذا في حضرة الفعل وهكذا في حضرة الأقلام الى عالم المثال ، وكلّ تلك الحضرات من حيث انّها عوالم مجرّدة عن المادّة وأغشيتها تسمّى عند الله ولدن الله لحضورها في محضره ، ولمّا كان تلك الحقائق محفوظة عن التّغيّر والتّبدّل كالأشياء النّفسية المخزونة المحفوظة سمّاها تعالى بالخزائن ، فكلّ ما في عالم الملك فله حقيقة في عالم المثال ينزّله تعالى شأنه من عالم المثال الى عالم الملك بقدر استعداد المادّة لقبوله وحين استعدادها ، وهكذا من النّفوس الكلّيّة الى عالم المثال ، وهكذا الأمر في العالي والا على الى حضرة الأسماء. ولمّا كان موجودات عالم الملك متجدّدة بالتّجدّد الذّاتيّ بمعنى انّها كلّ آن فانية عن ذواتها وموجودة بموجدها كما حقّق في محلّه فما من شيء ممّا في عالم الملك الّا ويفنى آنا فآنا وينزّله تعالى من خزائنه آنا فآنا فلذلك قال (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) بصيغة المضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ملقحات فانّ اللّاقح هو الحامل والملقح هو الجاعل للشّيء حاملا يعنى وممّا ننزّل بقدر الرّياح اللّواقح الّتى لا اعتناء لكم بها وفيها منافع لكم منها تسيير السّحاب في السّماء لامطار المطر ولهذا كانت بشرى بين يدي رحمته وقال (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) بالفاء الدّالّة على التّعقيب (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) حتّى تقدروا على انزاله ومنعه بل هو أيضا ممّا ننزّله بقدر فالمقصود إثبات خازنيّة الماء لنفسه استدلالا على ما ادّعاه من انّ كلّ شيء خزائنه عنده (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) كأنّ سابقه كان لاثبات المبدئيّة وحصرها في نفسه وهذا لاثبات المالكيّة والمرجعيّة وحصرهما في نفسه (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) اى المستقدمين ولادة والمستأخرين الموجودين في زمان واحد ، أو المستقدمين الّذين مضى زمان وجودهم والمستأخرين الّذين لم يأتوا بعد ، أو المستقدمين في مراتب الايمان والإسلام والآية بحسب التّعميم شاملة للجميع ولعلّ المقصود كان هذا التّعميم لانّ المراد بيان احاطة علمه تعالى بعد بيان مبدئيّته ومرجعيّته والتّعميم ادلّ على ذلك (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ) وحكمته تقتضي الحشر والمجازاة وإيصال كلّ الى مقتضاه (عَلِيمٌ) يعلم قدر كلّ ومحشره واقتضاءه ، ثمّ لمّا اثبت ألهته في مبدئيّته ومرجعيّته ومالكيّته واثبت حكمته وعلمه اثبت مبدئيّته لخصوص الإنسان لانّه أشرف الموجودات وانّ مبدئيّته له ادلّ على حكمته وقدرته وعلمه وذكر مبدئيّته للجانّ تبعا فقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ذكروا لتلك الكلمات معاني أوجهها ان يكون المراد بالصّلصال الشّيء المنتن ، والحمأ الطّين الأسود لطول مجاورته للماء ، شبّه النّطفة بالحمإ لانّه يبقى في العروق واوعية المنىّ مدّة طويلة كالطّين الأسود في الأنهار ، والمسنون المصبوب لانّها تصبّ في الرّحم (وَالْجَانَ) قيل : المقصود منه ابو الجنّ ، وقيل : إبليس ، وقيل : أريد به الجنس كما هو الظّاهر من لفظ الإنسان (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) قبل خلق الإنسان (مِنْ نارِ السَّمُومِ) السّموم الرّيح الحارّة الشّديدة الحرّ المعروفة وكثيرا ما تكون في البلاد الحارّة وهي ريح شديدة الحرّ منتنة حادثة من الأراضي السّبخة الكبريتيّة المتسخنة بالشّمس ولها سمّيّة ولذلك تسمّى سموما ، شبّه الكيفيّة الحادثة من اختلاط القوى الطّبيعيّة العنصريّة السّبخة مع القوى الرّوحانيّة وتسخّنها بحرارة الشّمس الحقيقيّة بالنّار الّتى تظهر في الهواء من اختلاط سطوح الأراضي السّبخة مع ضوء الشّمس ، وتولّد الجنّ منها بالدّخان الحاصل من النّار فانّه بعد انتهاء الوجود الى عالم الملك يحدث منه ظلّ ظلمانىّ ودخان الى أسفل

٤٠٠