تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

الّتى هي الصّلوة المسنونة من الأركان والاذكار المخصوصة أو من سائر أقسامها وناداهم تلطّفا بهم وجبرا لكلفة النّهى بلذّة النّداء فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أذعنوا بالله وبمحمّد (ص) ، أو أرادوا الايمان بالله على يد محمّد (ص) ، أو آمنوا على يد محمّد (ص) بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة ، أو آمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) الصّلوة تطلق لغة على الدّعاء والرّحمة والاستغفار وشرعا على الأفعال والاذكار الموضوعة في الشّريعة ، وتطلق حقيقة أو مجازا على المواضع المقرّرة للصّلوة الشّرعيّة ، وعلى الذّكر القلبىّ المأخوذ من صاحب اجازة الهيّة ، وعلى صاحب الاجازة الإلهيّة ، وعلى الصّورة المثاليّة الحاضرة في قلب السّالك من صاحب الاجازة ، وعلى كلّ من مراتبه البشريّة والمثاليّة والقلبيّة والروحيّة بمراتب الرّوحيّة وذلك لانّ الأسماء وضعت للمسميّات من غير اعتبار خصوصيّة من خصوصيّات المراتب فيها ؛ فالصّلاة وضعت لما به يتوجّه الى الله ويسلك اليه بتسنين واذن من الله كما انّ الزّكاة اسم لما به ينصرف عن غير الله بتسنين واذن من الله ، ويدلّ على ذلك انّ الصّلوة كانت في كلّ شريعة ولم تكن بتلك الهيئة المخصوصة وقوله: (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) يدلّ على العموم لعدم إمكان ادامة الصّلوة القالبيّة وكذا قوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ ،) وكذا قول علىّ (ع) في بعض ما قال : انا الصّلوة ، فقلب علىّ (ع) وولايته هي الصّلوة الّتى هي عمود الدّين ، وان قبلت قبل ما سواها ، وهي معراج المؤمن وهي بيت الله الّذى اذن الله ان يرفع ، وهي الكعبة ، وهي المسجد الّذى قال تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، وقال: (أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ،) وما يدخل من نفخة علىّ (ع) في القلب وهو الايمان الدّاخل في القلب ، وما يؤخذ من صاحب الاجازة الالهيّة من الذّكر الجلىّ والخفيّ ، وما يؤخذ من صاحب الاجازة من الصّلوة القالبيّة كلّها صلوة ، وما يبيّنه صاحب القلب الّذى صار قلبه متّصفا بالصّلوة من حيث ذلك الاتّصاف كالمساجد هو أيضا صلوة كما انّه بيت الله ، فمن أخذ الصّلوة القالبيّة من أمثاله واقرانه أو آبائه ومعلّميه من غير تقليد عالم مجاز لم يكن عمله مقبولا ولو كان موافقا ، وهكذا حال من تسرّع الى الاذكار والأوراد ومن تسرّع الى الذّكر القلبىّ من غير اذن واجازة من شيخ مجاز لم ينتفع به ولم يكن صلوته صلوة حقيقة ولا عبادته عبادة ، وقد ورد اخبار كثيرة في انّ العبادة بدون الولاية غير مقبولة ومردودة والولاية وقبولها عبارة عمّا يحصل بسببه الاجازة في العبادة وكأنّه تعالى أراد بالصّلوة جميع معانيها بمثل عموم المجاز والاشتراك ولذلك قال : (لا تَقْرَبُوا) ؛ ليناسب جميع معانيها دون لا تدخلوا لئلا يتوهّم ارادة بعض المعاني الدّانية منه والنّهى اعمّ من الحرمة والكراهة والنّزاهة ولا اختصاص له بشيء منها واستعماله في الموارد المخصوصة بحسب القرائن في الحرمة أو الكراهة لا ينافي عموم مفهومه.

تحقيق معنى السّكر

(وَأَنْتُمْ سُكارى) قرئ بضمّ السّين وفتحها جمعا وكهلكى جمعا أو مفردا على ان يكون صفة لجماعة مقدّرة وكحبلى مفردا ، والسّكر من السّكر بمعنى السدّ ويسمّى الحالة الحاصلة من استعمال شيء من المسكرات سكرا لسدّها طرق تصرّف العقل في القوى وطرق انقياد القوى للعقل ، ولا اختصاص لها بالخمر العنبيّة المعروفة بل كلّ ما يحصل منه تلك الحالة شربا أو اكلا أو تدخينا أو غير ذلك فهو خمر النّفس سواء حصل منه السّكر المعروف كالفقّاع والعصيرات المتّخذة من غير العنب وكالبنج والجرس والأفيون أو لا كالحرص والأمل والحبّ والشّهوة والغضب والحسد والبخل

٢١

والغمّ والفرح والنّعاس والكسل الغالبة بحيث يغلب مقتضاها على مقتضى العقل بل الحالة الحاصلة المانعة من نفاذ حكم العقل وتدبيره سكر النّفس من اىّ شيء كانت ومن أىّ سبب حصلت ، وقد أشير في الاخبار الى تعميم السّكر ففي خبر في بيان الآية : لا تقم الى الصّلوة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا فانّها من خلال النّفاق ، وفي خبر منه سكر النّوم ، ومنها سكر الشّهوة الغالبة الّتى لا يفيق صاحبها عنه الّا بقضائها ، ويسمّى الحالة الحاصلة بعد قضاء الشّهوة من تدنّس النّفس بدنس الشّهوة وتكدّرها بكدورات الحيوانيّة ، وتوغّلها في صفات البهائم جنابة ، ولا اختصاص لتلك الحالة بشهوة خاصّة بل كلّما يدنّس الإنسان ويوغّلها في الحيوانيّة البهيميّة أو السّبعيّة فهو جنابة النّفس (حَتَّى) تفيقوا من سكركم و (تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) لفظة ما استفهاميّة أو موصولة أو موصوفة يعنى حتّى تعلموا الّذى تقولون فلا تحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا تغيّروه عن الصّورة الّتى نزل عليها كما قيل : انّها نزلت حين قرأ بعض الصّحابة في الصّلوة حالة السّكر ، اعبد ما تعبدون ولمّا كان المتبادر من السّكر سكر الخمر والمستفاد من الآية جواز هذا السّكر وعدم جواز الدّخول في الصّلوة معه ورد انّها نسخت من حيث هذا الجواز المستفاد ، ولمّا كان محض الافاقة من سكر النّفس من دون رفع اثر التّدنّس منها غير مبيحة للقرب من الصّلوة أضاف اليه قوله تعالى (وَلا جُنُباً) يعنى لا تقربوا المساجد بالدّخول فيها حرمة أو كراهة ، ولا تدخلوا في الصّلوة القالبيّة بمعنى انّها لا تنعقد منكم ولا تقربوا الصّلوة الحقيقيّة الّتى هي اذكاركم القلبيّة وافكاركم المثاليّة الّتى هي مثل مشايخكم ولا تقربوا قلوبكم وعقولكم الّتى هي قربانكم وصلوتكم ان كان لكم قلب وعقل ولا تقربوا الصّلوات الحقيقيّة الّتى هي خلفاء الله في أرضه جنبا يعنى في حالة تدنّسكم بادناس شهوات النّفوس وغضباتها وفي حالة توغّلكم في عقباتها حتّى لا تدنّسوا الصّلوات بادناس نفوسكم (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) مطلقا في المسجد الصّورىّ أو بشرط التيمّم للدّخول في الصّلوة القالبيّة أو بشرط التيمّم المعنوىّ للدّخول في الصّلوات المعنويّة (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) بان تغمسوا أبدانكم في الماء حتّى تزيلوا ادناس ظواهر أبدانكم الّتى حصل عليها من الأبخرة الغليظة الرّديّة العفنة الّتى حصلت في بشرتكم وسدّت مسامّ أبدانكم الّتى بسببها ترويح أرواحكم الحيوانيّة وفي بقائها على أبدانكم احتمال امراض عديدة وحتّى تتنبّهوا من الاغتسال الظّاهر وتنتقلوا الى لزوم اغتسال نفوسكم من ادناس رذائلكم بماء التّوبة والانابة الى ربّكم فتغمسوا أنفسكم في الماء الطّهور الّذى يجرى عليكم من عين الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) بعد ما علم تعميم السّكر من الاخبار سهل تعميم الجنابة ، وبعد تعميم الجنابة سهل تعميم الفقرات المذكورة في هذه الآية ، وجملة الشّرط والجزاء معطوفة باعتبار المعنى فانّ المعنى يا ايّها الّذين آمنوا ان كنتم سكارى فلا تقربوا الصّلوة حتّى تعلموا ما تقولون ، وان كنتم جنبا فلا تقربوها حتّى تغتسلوا ، وان كنتم مرضى يعنى حين ارادة قرب الصّلوة أو حين الجنابة وارادة الاغتسال والأخير هو المتبادر من سوق العبارة وهذا المتبادر يدلّ على قصد العموم من الفقرات كما انّ عدم التّقييد بشيء منهما يدلّ أيضا على قصد العموم وانّ المراد ان كنتم مبتلين بالامراض البدنيّة المانعة من استعمال الماء الصّورى أو من طلبه وتحصيله ، أو بالامراض النّفسانيّة المانعة من الغسل بماء الولاية أو من طلبه وتحصيله فتيمّموا واقصدوا تراب الذّلّة والمسكنة عند الله الّذى هو أطيب من كلّ طيب بعد ماء الولاية ، واقصدوا ترابا من وجه الأرض طاهرا وأظهروا اثر تراب الذّلّ على وجوهكم المعنويّة بإظهار تضرّعكم وخشوعكم وتبصبصكم عند ربّكم ، واثر تراب الأرض الصّوريّة على مقاديم أبدانكم (أَوْ) ان كنتم (عَلى سَفَرٍ)

٢٢

يتعذّر عليكم فيه استعمال الماء أو تحصيله سواء كان سفركم في الأرض الصّوريّة أو في طرق النّفس للخروج من ديار الشّرك الّتى هي ديار النّفس فانّكم ما دمتم متحيّرين في طرق النّفس امّا لا تتذكّرون بماء الولاية ولا تتمكّنون من تحصيله أو لا يليق بكم الاغتسال بعد فيه لتضرّركم به (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) الغائط المنخفضة من الأرض كانوا يقصدونها للنجو فكنّى به عنه ولم يقل أو على الغائط ليكون أوفق بسابقه واخصر لانّ من كان على الغائط لم يصحّ منه صلوة أصلا ولا يرد الصّلوة ولم يقل ، أو على المجيء من الغائط لانّه داخل في قوله على السّفر بلحاظ التّأويل ، ولم يقل أو جئتم من الغائط ليوافق السّابق واللاحق في المرفوع لارادة العموم البدلىّ من أحد حتّى يصحّ الحكم بحسب التّنزيل وللاشارة الى انّ كلّ واحد منكم جماعة وإذا وقع واحد منكم أو من قواكم وجنودكم في سفل النّفس ووهدتها فما دام هو في تلك الوهدة كان حالكم حال السّكران الّذى لا يليق به قرب الصّلوة أصلا ، وإذا انصرف من جهنّام النّفس كان حالكم حال الجنب المفيق من شهوة الفرج لكن لا يليق بكم استعمال ماء الولاية أو لا تصلون اليه وإذا أريد تصحيح ظاهر التّنزيل يجعل أو هاهنا بمعنى الواو حتّى لا يلزم جعل ما هو جزء الشّرط قسيما له (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كناية عن المجامعة يعنى ان جامعتموهنّ وخالطتم نفوسكم باتّباع مقتضياتها فلا يليق بكم استعمال الماء أو لا تصلون اليه (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) للاستعمال بان لم تجدوه أو تجدوه ولا تتمكّنوا من استعماله ، أو المراد عدم وجدان الماء ويكون تعذّر استعمال الماء غير مذكور مثل سائر مجملات القرآن (فَتَيَمَّمُوا) يمّ وامّ بمعنى قصد اى فاقصدوا (صَعِيداً) اى ترابا أو وجه ارض على خلاف في معناه اللّغوىّ (طَيِّباً) اى طاهرا أو مباحا وعلى اختلاف تفسير الصّعيد اختلفوا في جواز التّيمّم على الحجر والوحل ، وان كان المراد بالصّعيد مطلق وجه الأرض فالآية الآتية في سورة المائدة تدلّ على عدم جواز التّيمّم بما ليس فيه غبار مثل الحجر الصّلد والوحل حيث قال تعالى هناك : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) والاخبار تدلّ على جواز التّيمّم بالتّراب ثمّ بما فيه غبار من اللّبد وعرف الفرس وغيرهما ، ثمّ بالوحل ثمّ بالحجر لكن تدلّ على انّ التيمّم بغير التّراب انّما هو من باب الاضطرار (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) اى بعض وجوهكم وهذا من المجملات الّتى بيّنوها لنا (وَأَيْدِيكُمْ) عطف على وجوهكم اى بعض أيديكم وقد بيّنوها لنا ولم يدعونا حيارى لا ندري اىّ شيء الممسوح ، ولا حاجة لنا الى ان يقول كلّ منا بقول وان نجعل هوانا إلهنا والحمد لله ربّ العالمين (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا) يعنى رخّص الله لكم القرب من الصّلوة مع تدنّسكم بادناس الطّبيعة والنّفوس من دون اغتسال أبدانكم بالماء الصّورىّ ومن دون اغتسال نفوسكم بالماء المعنوىّ بشرط ظهور تراب الذّلّ والمسكنة على مقاديم أبدانكم ومقاديم نفوسكم لانّه كان عفوّا كثير العفو عن عباده وتقصيراتهم وقصوراتهم ، فلا يؤاخذكم بتدنّسكم بادناس النّفس والطّبع والهوى (غَفُوراً) يستر عليكم ما يبقى عليكم من اثر دنس الهوى فلا يطردكم عن حضرته بسبب ذنوبكم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً) حظّا يسيرا (مِنَ الْكِتابِ) اى كتاب النّبوّة بان دخلوا في شريعة وقبلوا دعوة نبىّ دعوته الظّاهرة مثل اليهود والنّصارى والمسلمين الّذين بايعوا محمّدا (ص) بالبيعة العامّة النّبويّة بان لا يخالفوا قوله ويطيعوا امره ونهيه وان كان نزول الآية في أحبار اليهود فالمقصود منافقوا الامّة تعريضا الّذين انحرفوا عن طريق الولاية ومنعوا غيرهم والآية تعجيب من حالهم الّتى كانوا عليها لانّ النصيب من الكتاب يقتضي الاهتداء الى أصحاب الكتاب والبيعة

٢٣

معهم وقبول ولايتهم لانّ الإسلام طريق الى الايمان وبه يهتدى اليه ولذلك قال تعالى (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) والخروج من طريق الولاية وطريق القلب بالهدى الّذى يحصل لهم من ظاهر إسلامهم لانّه بضاعتهم المكتسبة من إسلامهم وبالهدى الّذى هو فطرتهم ولا يقنعون به (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا) ايّها المؤمنون عن (السَّبِيلَ) الّذى أنتم عليه من ولاية علىّ (ع) (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِأَعْدائِكُمْ) فلا تتّخذوا كلّ من أظهر بلسانه محبّتكم وولايتكم أولياء بل اكتفوا بولاية الله في مظاهر أوليائه الّذين أمركم الله بولايتهم (وَكَفى بِاللهِ) في مظاهره (وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) فلا تطلبوا الولاية والنّصرة من غير من أمركم الله ورسوله (ص) بقبول ولايته وهو علىّ (ع) واصرفوا وجوه قلوبكم عمّن أمركم بالصّرف عنه (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) من بيانيّة والظّرف حال عن الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب أو من تبعيضيّة والظّرف بنفسه مبتدأ لقوّة معنى البعضيّة في من التبعيضيّة سواء جعلت اسما أو حرفا ، أو الظّرف قائم مقام الموصوف المحذوف الّذى هو مبتدأ (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) بتبديل كلمة مكان كلمة ، أو بإسقاط بعض من الكلم ، أو بصرفه عن مصاديقه الى غيرها بتمويه انّ ذلك الغير مصاديقه أو بصرفه عن مقاصده المرادة بتمويه انّ غيرها مقصود من الكلم سواء كان ذلك عن علم بالمصداق والمقصود أو عن جهل وهو تعريض بمنافقى الامّة وبفعلهم بكلم الكتاب والسّنّة حيث كتموا بعضه وبدّلوا بعضه وصرفوا بعضه عن مصداقه وبعضه عن مقصوده وهو يجرى أيضا فيمن اقام نفسه مقام بيان الكلم وصرفه عن مصداقه ومقصوده جهلا بهما كأكثر العامّة (وَ) بيان التّحريف انّهم (يَقُولُونَ سَمِعْنا) بلسانهم (وَعَصَيْنا) في أنفسهم لانّهم لا يصرّحون بالعصيان (وَ) يقولون (اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) بتبديل غير مسمع عن مقصوده الّذى هو معنى غير مسمع مكروها الى معنى غير مسمع بالصّمم أو الموت (وَ) يقولون (راعِنا) بصرف راعنا عن معناه ومفهومه العربىّ الى معناه الّذى هو سبّ في لغتهم (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) التواء للحروف بألسنتهم من غير القصد الى معناه المعروف أو التواء للكلم عن معناه المعروف المدحىّ الى المعنى الغير المعروف السبّىّ (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) استهزاء بالدّين بسبب ما يضمرونه من خلاف المعروف وهو مفعول مطلق قائم مقام فعله أو مفعول له أو حال وكذلك ليّا (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) بتبديل راعنا به أو بقصد هذا المعنى من راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) واعدل (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) ابعدهم عن الخير والصّلاح (بِكُفْرِهِمْ) بك (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ايمانا قليلا وهو الايمان ببعض ما يؤمن به من آيات الكتاب والرّسل أو الّا قليلا منهم على ان يكون المستثنى في الكلام المنفىّ التّامّ منصوبا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنّصارى ويكون تعريضا بامّة محمّد (ص) وتهديدا لهم أو من أمّة محمّد (ص) على ان يكون الخطاب لهم ابتداء والاوّل أظهر (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا) من القرآن أو من ولاية علىّ (ع) (مُصَدِّقاً) ومثبتا «ل» صدق (لِما مَعَكُمْ) من التّوراة والإنجيل أو مخرجا عن الاعوجاج والانحناء لما معكم من احكام النّبوّة وقبول طاعة النّبىّ (ص) ، وان كان المراد من ظاهر اللّفظ اليهود والنّصارى فامّة محمّد (ص) مقصودة تعريضا (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) بمحو محاسنها وأشكالها الفطريّة والكسبيّة (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ) بتغيير صور تمام أعضائهم

٢٤

فنمسخهم (كَما لَعَنَّا) ومسخنا (أَصْحابَ السَّبْتِ).

اعلم انّ الإنسان خلق باطنه كظاهره مستوى القامة مشتملا على أحسن هيئة يمكن له الانتقال ، رجلاه منفصلتان من الأرض لا كالنّبات الغائر أصله في الأرض لا يمكنه الانتقال من مكانه ، مستقيما قامته ورأسه مجرّدا بشرته محسّنا صورته بأنواع المحاسن الفطريّة قابلة لانواع المحاسن الكسبيّة فكلّما بالغ في تصفيتها وتزيينها زاد حسنها وبهاؤها وحسن صورة بدنه بخطوطها وأشكالها ووضع كلّ من محالّ قواها في موضعه اللّائق به وصفائها وبهائها وطراوتها وتزيينها بتصفيتها من الدّرن (١) اللّاحق بها والحاق ما يزيّنها بها وحسن صورة باطنه ببياضها بنور الإسلام واستنارتها بنور الايمان وتوجّهها الى عالم النّور وانفصالها عن عالم الزّور وتزيينها بتصفيتها وازدياد عملها وتحسين أخلاقها بمتابعة من كان أخلاقه أخلاق الرّوحانيّين فاذا اعرض الإنسان عن الولاية عن غفلة أو عن جهل لم يحصل لها تزيّنها ، وإذا اعرض عن علم كان كمن توجّه الى قفاه ، وإذا تمكّن في هذا الاعراض صار وجهه المحاذي لمقاديم بدنه منصرفا الى قفاه كأنّه مخلوق عليه ، وإذا استحكم في التّمكّن صار ممسوخا بالمسخ الملكوتىّ ، وإذا استحكم هذا المسخ الملكوتىّ حتّى غلب على الملك صار صورته الملكيّة أيضا مسخا وعدّ بعض الفلاسفة المسخ الملكىّ من المحالات ، وتأويل ما ورد منه في الشّرعيّات ليس في محلّه (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) لا مانع من نفاذه فاحذروا ما اوعدتم ، ولمّا كان المقصود من الآية السّابقة تعريضا أو اصالة أمّة محمّد (ص) وقد أمرهم بالايمان بما نزّله وقد كان المراد ممّا نزّل ولاية علىّ (ع) كما سبق علّلها بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) باعتبار أتمّ مظاهره الّذى هو علىّ (ع) وقد فسّر بالشّرك والكفر بولاية علىّ (ع) لانّ الله لا يعرف ولا يدرك الّا في مظاهره فالشّرك بمظاهره شرك به فكأنّه قال : يا أمّة محمّد (ص) آمنوا بولاية علىّ (ع) الّتى نزّلناها مصدّقة لما معكم من احكام الإسلام واحذروا في مخالفته عن عقوبتي فانّى لا اغفر لمن يشرك بولاية علىّ (ع) فضلا عمّن كفر بولايته (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) الشّرك كائنا ما كان كبيرا أو صغيرا (لِمَنْ يَشاءُ) من شيعة علىّ (ع) وفي الاخبار تصريح بما ذكر من تفسير الآيات بمنافقى الامّة وولاية علىّ (ع) مع انّ عمومات الاخبار واشاراتها تكفى في تفسيرها بذلك ، فعن الصّادق (ع) في تفسير ما دون ذلك انّه قال : الكبائر فما سواها ، وفي حديث عن رسول الله (ص): لو انّ المؤمن خرج من الدّنيا وعليه مثل ذنوب أهل الأرض لكان الموت كفّارة لتلك الّذنوب ، والمراد بالمؤمن من قبل الولاية وفي آخر هذا الحديث : انّ الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء لشيعتك ومحبّيك يا علىّ (ع) وعن الباقر (ع) يعنى انّه لا يغفر لمن يكفر بولاية علىّ (ع) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يعنى لمن والى عليّا (ع) وعن علىّ (ع) ما في القرآن آية احبّ الىّ من هذه الآية (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) باعتبار الشّرك بأتمّ مظاهره (فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) عطف في معنى التّعليل ، والافتراء يكون بالقول وبالفعل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) تعجيب من تزكيتهم أنفسهم بعد ما سبق من حالهم وتهديد لهم والتّزكية امّا بمعنى نسبة الطّهارة الى الأنفس وعدّها زاكيات طاهرات أو بمعنى ازالة الدّرن عن الأنفس بأفعالهم وأذكارهم وكلّ واحد امّا بالقول مثل ان قال انّى لم أعص ، وأصوم كذا ، وأصلّي كذا ، وأنفق كذا ، وغير ذلك ، أو مثل ان داوم على ذكر اللّسان بنفسه من دون اذن واجازة قصدا الى تحصيل كمال النّفس وتطهيرها من نقائصها من غير مراياة ، وامّا بالفعل مثل ان فعل الأفعال الحسنة مراءاة وإظهارا للنّاس انّه زاهد راغب في الآخرة ، أو مثل ان اشتغل بالافعال الحسنة والرّياضات من قبل نفسه من غير مراءاة

__________________

(١) ـ الدّرن الوسخ أو تلطخه.

٢٥

بل لتحصيل كمال النّفس وطهارتها ظنّا منه انّ أفعاله تزكّى نفسه والكلّ خيال باطل فانّ المراءاة فعلا أو قولا من أعظم المعاصي والعمل من قبل النّفس لتزكيتها لا يزيد الّا في شقائها (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) يظهر طهارة من يشاء من دون حاجة الى اظهارهم ، أو يطهّر من الأدناس والرّذائل من يشاء لا من أراد أن يزكّى نفسه بعمله لانّها فضل من الله لا يمكن اكتسابه بالعمل بل العمل ان كان بأمر خلفائه يعدّ النّفس لقبول ذلك الفضل ، والآية ان كانت نازلة في اليهود والنّصارى لقولهم : نحن أبناء الله ، ولن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى فالتّعريض بمنافقى الامّة الّذين في أقوالهم وأفعالهم مراءاة في نسبة الطّهارة الى أنفسهم قولا وفي رياضاتهم وعباداتهم الشّاقّة من قبل أنفسهم قصدا للتّفوّق في الكمال على اقرانهم ، ولمّا توهّم من هذا انّ العمل لا ينجع في طهارة النّفس فمن شاء الله زكّاه ومن لم يشأ لم يزكّه رفع هذا الوهم فقال تعالى (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) بنقص أجر العامل أو بعقوبته إذا وقع العمل على وجهه ولا بزيادة عقوبة العاصي (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في نسبة الطّهارة الى أنفسهم أو في تحصيل الطّهارة بفعلهم ظنّا منهم انّ في فعلهم رضى الله واذنه ولمّا كان الافتراء على الله المندرج في تزكيتهم أنفسهم غير ظاهر على كلّ راء ومدرك أتى بلفظ انظر الدّالّ على التّأمّل والتّعمّل في الإدراك بخلاف تزكيتهم وايمانهم بالجبت والطّاغوت حيث يراهما كلّ راء (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كمنافقى أمّتك وان كان نزوله في أهل الكتاب فالتّعريض بهم يتركون وصيّك و (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ) اسم صنم ثمّ استعمل في كلّ ما عبد من دون الله (وَالطَّاغُوتِ) مقلوب طيغوت مبالغة في الطّاغى سمّى به الشّيطان ثمّ كلّ من بالغ في الطّغيان (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) اى في حقّهم (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) أصلهم علىّ (ع) ثمّ الائمّة من بعدهم ثمّ شيعتهم (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) بطردهم عن بابه وصرفهم عن الولاية والمتابعة لمن هو بمنزلته (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ) عن باب الولاية (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) لانّ النّصرة هي الاعانة للمنصور في جلب منفعة أو دفع مضرّة على سبيل التّرحّم عليه وهي موقوفة على معرفة المنافع والمضارّ ومعرفة الرّحمة ومحلّها فمن أعان رجلا على قتل محبوبه أو شرب سمّ وترحم عليه في ذلك لم يكن ذلك نصرة ولا ترحّمه ترحّما بل عداوة وسخطا وان سمّاه المحجوبون عن ادراك الأشياء كما هي نصرة ، والعارف بحقائق الأشياء هم الأنبياء والأولياء (ع) ومن طرد عنهم لم يكن له ناصر في الأرض ولا في السّماء والنّاصرون له من هذه الجهة أعداء له حقيقة ولذلك يظهر يوم القيامة انّ الاخلّاء بعضهم كان لبعض عدوّا الّا الّذين آمنوا فانّ خلّتهم ونصرتهم من جهة ايمانهم توجب قربهم الى باب الولاية ثمّ صرف القول عن التّابعين الى المتبوعين فقال تعالى (أَمْ لَهُمْ) اى للمتبوعين (نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) حتّى يستحقّوا بذلك الاتّباع وان فرض انّ لهم نصيبا من الملك (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ) الّذين هم المتحقّقون بالانسانيّة وهم الأولياء وأصلهم علىّ (ع) فكيف بأشباه النّاس والنّسناس (نَقِيراً) والنّقير النّقطة الّتى في وسط النّواة يمثّل به في الحقارة والمعنى انّهم ليس لهم نصيب من الملك حتّى يطمعوا فيه فيتّبعوهم وحالهم ان لو كان لهم نصيب من الملك لما أتوا النّاس شيئا حقيرا منه فكيف بهم وهم نسناس فلا ملكهم يقتضي الاتّباع ولا حالهم ثمّ صرف القول الى الاتباع والمتبوعين جميعا فقال تعالى

٢٦

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) يعنى هؤلاء الاتباع في اتّباعهم لغير النّاس الّذين هم رؤساء الضّلالة والمتبوعون في ترك اتّباعهم للأولياء والأصل فيهم علىّ (ع) وادّعاء المتبوعيّة لأنفسهم يريدون زوال فضل الله عن النّاس والمقصود تقرير حسدهم والأصل في النّاس بعد محمّد (ص) علىّ (ع) وخلفاؤه (عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الامامة والخلافة (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) على رغم أنوفهم وعمى عيونهم ، وآل إبراهيم (ع) محمّد (ص) وعلىّ (ع) وخلفاؤه صلوات الله وسلامه عليهم وأضافهم الى إبراهيم (ع) للاشارة الى منقبة اخرى لهم حتّى يزدادوا غيظا (الْكِتابَ) اى النّبوّة فانّ مرتبة النّبوّة من جهة انّها قابلة لنقوش الأحكام الإلهيّة من مرتبة الولاية يعبّر عنها بالكتاب كما انّ مرتبة الرّسالة أيضا كذلك ، لكن سيأتى انّها المرادة بالملك العظيم وقد سبق في اوّل الكتاب تعميم اطلاق الكتاب فيراد منه في كلّ مقام معنى بحسب اقتضاء ذلك المقام.

تحقيق معنى الحكمة

(وَالْحِكْمَةَ) الحكمة قوّة بها يقتدر الإنسان على ادراك دقائق لأمور وخفايا المصنوع وعلى الإتيان بالمصنوع المشتمل على دقائق الصّنع فهي باعتبار متعلّقه مركّبة من جزئين جزء علمىّ ويسمّى حكمة نظريّة وجزء علمىّ ويسمّى حكمة عمليّة ويعبّر عنهما بلسان الفرس «بخرده بيني وخرده كارى» وقد يعبّر عن الحكمة بالإتقان في العمل للاشارة الى أحد جزئيها وقد يعبّر عنها بالكمال في العلم والإتقان فيه للاشارة الى الجزء الآخر ، وقد تفسّر بالإتقان في العلم والعمل للاشارة الى كلا جزئيها والحكمة الّتى تذكر في مقابلة الجربزة هي القوام في تدبير المعيشة علما وعملا والجربزة افراطه ، وهذه الحكمة هي من نتائج مرتبة الولاية فانّ الولىّ بتجرّده يقتدر على معرفة دقائق الأشياء لعدم احتجاب شيء منه إذا أراد معرفته وعلى صنع دقائق المصنوعات لعدم تأبّى شيء منه ، والحكيم المطلق هو الله تعالى ثمّ الأنبياء (ع) والرّسل (ع) بجهة ولايتهم ثمّ خلفاؤهم ثمّ الأمثل فالأمثل. واوّل مراتب الحكمة ان تدرك دقائق صنع الله في نفسك وبدنك وانّك خلقت برزخا بين العالمين السّفلىّ والعلوىّ وانّ نفسك خلقت قابلة صرفة لتصرّف الملكوتين لا تأبّى لها من تصرّفهما ، وان تصرّف السّفلىّ يؤدّيها الى السّجن والسّجّين ، وتصرّف العلوىّ يجذبها الى قرب الملأ الأعلى ، كلّ ذلك على سبيل المعرفة لا على طريق العلم ، والمظنّة كما هو طريق حكماء الأخلاق فانّهم يقنعون بالعلم الكلّىّ غافلين عن نفوسهم الجزئيّة فلا ينتفعون بعلمهم ثمّ تقدر على دقائق العمل لسدّ طرق تصرّف الملكوت السّفلىّ وفتح طرق تصرّف الملكوت العلوىّ كقدرة علىّ عليه‌السلام في الغزاة على ترك الضّرب حين ظفر بالعدوّ ورفع السّيف للضّرب فتفل في وجه علىّ (ع) فترك الضّرب لهيجان النّفس للضّرب. فاذا عرف الإنسان بما ذكر وقدر وعمل ارتقى لا محالة الى مقام العبوديّة وهو مقام الفناء ومقام الولاية ثمّ إذا علم الله فيه استعداد إصلاح الغير ردّه الى بشريّته بخلعة النّبوّة والرّسالة أو الخلافة وبصّره دقائق الصّنع في الملك والملكوت وأقدره على دقائق التّصرّف في الأشياء وأخدمه جميع الموجودات وهو آخر مراتب الحكمة. والمراد بالحكمة هاهنا الولاية لانّها من نتائجها وهذا بيان الحكمة ، وتحقيقها والتّفسيرات المختلفة الّتى وقعت في كلماتهم راجعة اليه مثل ان قيل : هي معرفة حقائق الأشياء كما هي ، أو : هي العلم الحسن والعمل الصّالح ، أو : هي الإتيان بالفعل الّذى له عاقبة محمودة ، أو : هي الاقتداء بالخالق بقدر الطّاقة البشريّة ، أو : هي التّشبّه بالإله في العلم والعمل بقدر الطّاقة البشريّة (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) الملك اسم مصدر بمعنى ما يملك ، ويطلق على كلّ مملوك وعلى عالم الطّبع خاصّة لانّه لا جهة فيه الّا المملوكيّة بخلاف الملكوت الّتى هي مبالغة في المالكيّة فانّها وان كانت

٢٧

مملوكة من وجه لكن لها مالكيّة للملك كمالكيّة الجبروت لما دونها واللّاهوت لما سواها ، والمراد بالملك العظيم هاهنا مقابلا للكتاب والحكمة هو الرّسالة وخلافة الرّسالة فانّها لجمعها بين الوحدة والكثرة بنحو الكمال ملك لا أعظم منها وقد فسّر في الخبر بالطّاعة المفروضة اللّازمة لها ، وبطاعة جميع الموجودات تكوينا اللّازمة للولاية ، وبملك القلوب. وتكرار آتينا للاشارة الى استقلاله بالامتنان والانعام (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه تعالى قال بعد ارادة علىّ (ع) من النّاس المحسودين ، وذكر إعطائه من فضله تصريحا والكتاب والحكمة والملك العظيم تعريضا ينبغي ان يؤمنوا به ولا يخرجوا من طاعته لكنّهم تفرّقوا واختلفوا ، أو عطف على محذوف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما فعلوا به؟ ـ فقال : اختلفوا فيه فمنهم من آمن به كسلمان واقرانه (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) اعرض أو منع غيره (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) يعنى ان لم نعاقبهم في الدّنيا فكفاهم جهنّم في الآخرة والجملة عطف على (مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) من قبيل عطف الإنشاء على الخبر أو باعتبار لازم معناه كأنّه قال : ومنهم من صدّ عنه وهم المعاقبون في النّار (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً) تفصيل لحال المؤمنين به والصّادّين عنه وتقديم حال الصّادّين لقصد كون الافتتاح والاختتام بحال المؤمنين كأنّه قال : امّا الّذين صدّوا عنه وامّا الّذين آمنوا به ؛ لكن ادّاه هكذا اشارة الى تعليل قوله كفى بجهنّم سعيرا والى كونهم كافرين وانّ عليّا (ع) أعظم الآيات وانّ الكافر به كافر بجميع الآيات (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) اختلف كلمات الحكماء والصّوفيّة في كيفيّة خلود أهل النّار وعذابهم الدّائمىّ وأصحاب الشّرائع مطبقون على خلودهم وانّ المحكوم بكونه أهل السّجيّن لا نجاة له من داره وانّ لكلّ دار عمّارا هم أهلها لا يخرجون منها أبدا ، وتبديل جلودهم يكون بحسب ملكاتهم الرّديّة وعقائدهم الفاسدة وأخلاقهم الكاسدة فانّها من فروع الشّجرة الخبيثة ، والّتى اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار ، والمراد بالجلود امّا جلود الأبدان أو جلود الأرواح وهي أبدانهم الخبيثة ، والسّؤال بانّ المعاقب يصير غير المذنب ساقط من أصله لا جواب له (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) لا مانع له من حكمه وعقوبته (حَكِيماً) لا يعاقب من غير استحقاق (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بعلىّ (ع) (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) حتّى كسبوا في ايمانهم خيرا (سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) ثمّ صرف القول الى النّاس المحسودين بالخطاب لهم فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) ايّها النّاس المحسودون الّذين أتاكم الله من فضله وأتاكم الكتاب والحكمة والملك العظيم (أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) شكرا لما أنعم به عليكم اى : لا تعطوها غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، والخطاب خاصّ بهم لكن يعمّ الأمر غيرهم أيضا لكونهم مأمورين بالتّأسّى بهم ولذلك عمّموا الآية في الاخبار.

تحقيق معنى الأمانات

والامانة ما يودع عند الأمين قصدا الى حفظه ونمائه ان كان له نماء ، وأمانات الله عند الإنسان كثيرة منها الامانة الّتى عرضها الله على السّماوات والأرض وهي أصلها وأساسها وأشرفها وأنماها وهي اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة الّتى لا جوهر أشرف منها في خزائنه تعالى ، ولمّا أراد إخراجها من خزائنه وكان لها لنفاستها أعداء كثيرة طلب لها مأمنا من سماوات الأرواح فلم يكن فيها مأمن لا يداعها ، ثمّ عرضها على أراضي الأشباح من الملكوتين وجملة عالم الطّبع فلم يجد لها مأمنا ، ثمّ عرضها على

٢٨

المواليد الجماد والنّبات والحيوان فلم تكن لها باهل ، ثمّ عرضها على عالم الإنسان فوجده أهلا لها فأودعها فيه وقبلها الإنسان ؛ فلمّا أودعها الإنسان وكانت لشرافتها ونفاستها كثيرة الطّلاب والسّراق من أهل العالم السّفلىّ ولم يمكنه المدافعة من دون إمداد من صاحب الامانة جعل الله تعالى له جنودا من أهل العالم العلوىّ وامره بحفظها وانمائها حتّى إذا طالبها سلّمها سالما ناميا زاكيا ، فمن امتثل امره تعالى وجاهد مع طلّابها وسرّاقها وحفظها عن أيدي السّراق وأنماها وزكّاها صار مستحقّا للخلع الفاخرة البهيّة والمنصب العالي الولاية والنّبوّة والرّسالة والخلافة والجلوس في مقعد الصّدق عند المليك المقتدر ، ومن أهمل رعايتها حتّى اختطفها سرّاقها صار مستحقّا للسّجن والعقوبات ، ثمّ بعد تلك الامانة الأمانات الّتى أودعها الله الإنسان لحفظ تلك الامانة سوى الجنود العلويّة الّتى عدّها لامداد الإنسان في حفظها وهي المدارك والقوى والأعضاء الظّاهرة والباطنة وامره بحفظها لانّ لها أيضا طلّابا وسرّاقا من العالم السّفلىّ ، وامره بان يؤدّيها إلى أهلها الّذى هو العقل ثمّ قوّة قبول التّكاليف وامره ان يؤدّيها الى أهلها الّذى هو العقل في مظاهره البشريّة بان عرضها عليه وسلّمها لأمره ونهيه ثمّ التّكاليف القالبيّة النّبويّة الحاصلة له بالبيعة العامّة ، وامره ان يؤدّيها بعد حفظها واستنمائها الى أهلها الّذى هو صاحب التّكاليف القلبيّة بان عرضها عليه سالمة نامية ، ثمّ التّكاليف القلبيّة الباطنة الّتى أخذها من صاحب الدّعوة الباطنة بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الخاصّة ، وامره ان يؤدّيها الى أهلها الّذى هو صاحب الدّعوة التّامّة والولاية المطلقة اعنى عليّا (ع) فاذا استكمل له هذه الأمانات وحفظها وأنماها وسلّمها الى أهلها وارتضاها منه ورضى عنه أودعها أمانات شريفة نفيسة هي ودائع الخلافة الإلهيّة في العالم الكبير في لباس النّبوّة أو الرّسالة أو الخلافة أو الامامة وتلك أشرف الأمانات بعد الامانة الاولى ؛ وهي مختلفة فمنها ما هي من قبيل التّكاليف ولها أهل وهم المستعدّون لقبولها والعمل بها ، وبعضها من قبيل الخلافة ولها أهل وهم المستعدّون لاصلاح الخلق والتّبليغ لهم كالمشايخ والنوّاب الّذين كانوا خلفاء الأنبياء (ع) والأولياء (ع) ، وبعضها هو أصل الخلافة الإلهيّة ولها أهل وهم الّذين يقومون مقام الأنبياء (ع) والأولياء (ع) بعد رحلتهم ويصدق على أمانات النّاس الّتى هي من الاعراض الدّنيويّة أيضا انّها أمانات ولها أهل وهم صاحبو الأمانات (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) يعنى لم يكن الحكومة حتما عليكم وأنتم فيها بالخيار لكن إذا حكمتم يأمركم ان تحكموا بالعدل اى بسبب العدل الّذى في أيديكم ممّا نزل على محمّد (ص) من السّياسات ، أو بآلة العدل الّتى هو السّياسات الإلهيّة أو متلبّسين بالعدل والتّسوية بين الخصمين أو بالعدل والاستقامة خارجين عن الاعوجاج الّذى هو من مداخلة الشّيطان أو حالكون حكمكم متلبّسا بالعدل والتّسوية ، والعدل بين الخصمين هو التّسوية بينهما في المجلس والتّخاطب والشّروع في الخطاب والتّوجّه والبشر بل في ميل القلب ، فانّ التّسوية في ذلك خروج عن الاعوجاج إذا كانا مسلمين فانّهما ان كانا مسلمين وما سوّيت بينهما كنت جائرا ، وكذا إذا لم تسوّ بينهما في الميل القلبىّ من جهة الحكومة كنت معوّجا بتصرّف الشّيطان (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) فتقبّلوا عظته ، هذه جملة معترضة (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) تعليل لأداء الامانة الى أهلها والحكم بالعدل وتحذير عن المخالفة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) فيما انزل ولا سيّما عمدة ما انزل وهي ما به صلاحكم ورفع نزاعكم وردّ خلافكم وهو تعيين من ترجعون اليه في جملة أموركم الدّنيويّة والاخرويّة وفيما اشتبه عليكم وهي قوله انّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا (الى آخرها) فانّه لا خلاف بينهم انّه في علىّ (ع) (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما آتاكم وفيما نهاكم

٢٩

عنه ف (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ولا سيّما عمدة ما آتاكم وهي قوله بعد ما قال : الست اولى بكم من أنفسكم ، الا ومن كنت مولاه فهذا علىّ (ع) مولاه ؛ ولا خلاف بينهم انّه من الرّسول (ص).

تحقيق معنى اولى الأمر

(وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) لم يكرّر أطيعوا اشارة الى تعيين اولى الأمر وانّ اولى الأمر من كان شأنه شأن الرّسول وامره امره وطاعته طاعته حتّى لا يكون لكلّ طاعة غير طاعة الآخر ، وتفسير اولى الأمر بامراء السّرايا والسّلاطين الصّوريّة الاسلاميّة نقض لصدر الآية أو التزام نسخ له أو التزام اجتماع النّقيضين لانّه لا نزاع في وجوب طاعتهم في امر الدّنيا أو لمحض التّقيّة ؛ انّما النّزاع في طاعتهم في امر الدّين من غير تقيّة ويلزم منه ما ذكر ، لانّ واو العطف للجمع والسّلاطين بعضهم فسّاق وقد يكون أمرهم خلاف امر الله وامر رسوله (ص) فلا يمكن الجمع بين الطّاعات الثّلاث فوجوب طاعتهم امّا ناقض لوجوب طاعة الرّسول (ص) أو ناسخ له أو التزام لاجتماع النّقيضين ، فانّ السّلاطين الجائرة يكون أمرهم بقتل النّفس المحرّمة مناقضا لنهيه تعالى عنه وكذا حال أمرهم بشرب الخمر لندمائهم مع نهيه تعالى عنه ، وتقريره انّه إذا كان المراد بأولى الأمر السّلاطين على ما زعموا يلزم وجوب طاعتهم في جميع ما أمروا ونهوا بصريح الآية وعدم ما يخصّصه ، لا يقال : المخصّص هو صدر الآية فانّ الأمر بطاعة الله والرّسول (ص) مقدّما على طاعة السّلطان يفيد وجوب طاعة السّلطان فيما لا ينافي طاعتهما ، لانّا نقول : يكون الأمر بطاعة السّلطان حينئذ لغوا لانّ امره ان كان مطابقا لأمر هما فالأمر بطاعة الاوّلين كاف عن ذلك الأمر ، وان كان منافيا فوجوب طاعتهما يفيد عدم وجوب طاعته ، وان كان غير معلوم مطابقته وعدمها فامّا ان نكون مأمورين بتشخيص المطابقة وعدمها ثمّ بالطّاعة وعدمها فبعد التّشخيص يأتى الشّقّان ، أو لم نكن مأمورين بتشخيص المطابقة فامّا ان نلتزم انّ امره مبيّن لأمر الله ورسوله ومطابق له فهو خلاف الفرض والتزام لمذهب الخصم ، أو لا نلتزم ذلك فيلزم حينئذ من الأمر بطاعته الإغراء بالحرام من الله والتّوالى باطلة ، وكلّما وجب طاعة السّلاطين في جميع ما أمروا ونهوا يلزم وجوب طاعتهم فيما يخالف امر الله ونهيه ويناقضهما ؛ فامّا ان يكون وجوب طاعتهم مقدما على وجوب طاعة الله مع بقاء وجوبها فيكون نقضا أو رافعا لوجوب طاعته وبيانا لانتهاء أمد وجوبها فيكون نسخا أو نلتزم بقاء الوجوبين فجواز اجتماع النّقيضين ، فان تعلّق الأمر والنّهى بقضيّة واحدة في زمان واحد مستلزم لجواز إيجاب تلك القضيّة وسلبها وهو التّناقض. فالحاصل انّ ارادة السّلاطين من اولى الأمر مناقضة مع صدر الآية بخلاف ما لو أريد بأولى الأمر من كان شأنه شأن النّبىّ وامره امره وعلمه علمه وكان معصوما من الخطاء والزّلل ، فانّ امره حينئذ يكون موافقا ومبيّنا لأمر الرّسول (ص) ولو لم يكن سوى هذه الآية في إثبات مدّعى الشّيعة لكفت هذه ولا حاجة لهم الى غيرها مع انّ عليه ادلّة عديدة عقليّة ونقليّة دوّنها القوم في تداوينهم ، وتوسّلهم بالإجماع وحديث لا تجتمع أمّتي على خطأ ؛ يدفعه آية الخيرة ، وحديث الغدير في مشهد جمّ غفير بحيث ما أمكن لهم إنكاره على انّ الإجماع محض ادّعاء وافتراء لخروج بعض الصّحابة عن البيعة وعدم حضور كثير في السّقيفة وردّ جمع على ابى بكر الخلافة وتوسّلهم بصلوته بالامّة في حال حياة الرّسول (ص) حجّة عليهم ، لانّ النّبىّ (ص) بعد ما أفاق وعلم انّ أبا بكر امّ بالقوم خرج مع ضعفه وازاله عن مقامه قبل إتمام صلوته وامّ بنفسه ، وهو دليل على انّه لم يؤمّ القوم به بأمره وانّه لا ينبغي له الامامة والّا كان تقريره عليها في حال حياته واجبا ، وحديث : سيّدا كهول أهل الجنّة ؛ يدفعه العقل والنّقل لانّ أهل الجنّة على أشرف الأحوال وهي حال الشّباب كما ورد انّ أهل الجنّة جرد مرد ، وحديث : لو لم ابعث لبعث عمر ؛ يكذّبه قول النّبىّ (ص) في حقّ من تخلّف عن جيش اسامة وردّه عليه في أمره بإحضار

٣٠

القلم والدّواة لرفع النّزاع ، وقوله : انّ الرّجل ليهجر ؛ وخلافة ابى بكر بلا فصل بزعمهم ، ومواخاته (ص) مع علىّ (ع) دونه ، ووصايته بأداء ديونه وإنجاز عداته (ص) الى علىّ وأنت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع) وكون علىّ (ع) بمنزلة نفسه تحت الكساء ، والمستحقّ للبعثة اولى بكلّ ذلك ، وتأسّى جبرئيل بأبى بكر في لبس الصّوف واسترضاء الله منه ؛ يكذّبه انّ التأسّى بالنّبىّ (ص) اولى واسترضاء النّبىّ (ص) أجدر مع انّه سوّف استرضاء النّبىّ (ص) فقال : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، وفرار الشّيطان من هيبة عمر ؛ يكذّبه فراره من الغزاء في أحد ، وآية : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) في الفارّين في أحد. والحاصل انّ مقدّماتهم الّتى نظموها شاعرين أو غير شاعرين مختلّة ، فانّهم حالا وقالا يقولون : انّ أبا بكر لم يكن معصوما وكلّ من لم يكن معصوما يمكن ان يكون خليفة للرّسول (ص) ، فأبو بكر يمكن ان يكون خليفة للرّسول ، وكلّ من يمكن ان يكون خليفة واجمع الامّة على خلافته فهو خليفة ، فأبوبكر خليفة ؛ فنقول : الصّغرى في القياس الثّانى وهي انّ أبا بكر يمكن ان يكون خليفة واجمع عليه الامّة باطلة بحسب إمكان خلافته كما يجيء وبحسب إجماع الامّة كما عرفت ، والكبرى فيه أيضا باطلة بآية الخيرة ، والصّغرى في القياس الاوّل مسلّمة بل نقول : انّ أبا بكر مثل عمر تخلّف عن جيش اسامة فضلا عن ان لم يكن معصوما ، وامّا الكبرى فيه فهي فاسدة ، لانّ الرّسول (ص) كان له الرّسالة والخلافة الالهيّة وهي تقتضي ان يكون صاحبها كالآلة ناظرا الى كلّ في مقامه ومعطيا لكلّ حقّه بحسب استعداده ولسان استحقاقه حافظا لكلّ بأسباب حفظه ، والّا لم يكن خليفة الله وكان له السّلطنة على كلّ من دخل تحت يده وهذه تقتضي التّسلّط عليهم بحسب الدّنيا والتّصرّف فيهم بأىّ نحو شاء فان كان المراد بخليفته وإمكان عدم عصمته هو خليفته في السّلطنة والغلبة في الدّنيا ، فمسلّم انّه لا يجب عصمته بل يجوز فسقه ؛ لكنّ الكلام في خلافة الرّسالة والسّياسة الالهيّة وهذا الوصف يقتضي كون صاحبه كالرّسول (ص) بصيرا ناقدا عالما بمرتبة كلّ واستحقاقه ولسان استعداده برزخا واسطة بين الخلق والحقّ موصلا كلّا الى غايته والّا كان مفسدا في الأرض ومهلكا للحرث والنّسل ، على انّه ان لم يصدّق الخلق بأنّه بصير من الله عالم بخفيّات الموجودات وجليّاتها قادر على حفظ كلّ في مرتبته وعلى إعطاء كلّ حقّه لا يقع منهم أطاعته عن صميم القلب فلم ينقادوا له باطنا فلم ينتفعوا منه بحسب الآخرة ، فان علموا انّه غير معصوم ويجوز له الخطاء فيما القى إليهم فكيف يسلّمون له وهذا هو الّذى اقتضى النّصّ في حقّه فانّ العصمة والبصيرة والعلم ببواطن الأمور امر ليس في ظاهر البشرة فيدرك بالأبصار حتّى يمكن معرفته للخلق ، بل أمر خفىّ لا يدركه الّا من كان محيطا به عالما بسرائره وخفيّاته فمن لم يكن عليه نصّ لا يمكن خلافته وفي آيات توقّف الشّفاعة على اذن الله اشارة الى هذا التّوقّف ولذلك قالت الصّوفيّة : توقّف الرّياسة الإلهيّة على الاذن والاجازة من ضروريّات المذهب أو قريب منها وكان سلسلة اجازتهم منضبطة يدا بيد ونفسا بنفس الى المعصوم ، والفقهاء رضوان الله عليهم قائلون به وكان سلسلة اجازتهم مضبوطة بل كانوا في الصّدر الاوّل إذا لم يحصل لأحد منهم الاجازة في الكلام مع الخصوم والرّواية عن المعصوم لم يتكلّم مع أحد في امر الدّين ولم يرو حديثا من أحاديث المعصومين ، ومشايخ اجازة الرّواية معروفة فمن ادّعى الخلافة ونيابة الرّسالة من غير اذن واجازة لم يكن كالصّدر الاوّل من العذاب بمفازة. ولمّا كان الرّسول (ص) مؤسّسا للاحكام السّياسيّة والعبادات القالبيّة أخذا للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمّى اخذه للبيعة من هذه الجهة إسلاما ، وكان هاديا من جهة القلب ومصلحا لاحوال الباطن ومبيّنا للآداب القلبيّة أخذا للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمّى ايمانا كان خليفته امّا خليفة له من الجهتين كعلىّ (ع) وأولاده المعصومين (ع) وكلّ من كان جامعا

٣١

للطّرفين حافظا للجانبين. وامّا خليفة له من الجهة الاولى وهم الفقهاء وعلماء الشّريعة رضوان الله عليهم الّذين تصدّوا للاحكام الظّاهرة وآداب السّياسة ، وامّا خليفة له من الجهة الاخرى كالصّوفيّة الصّافية الطّويّة من الشّيعة الّذين كان تمام اهتمامهم بأحوال الباطن وأحكام القلب والنّزاع بين الفريقين بإنكار كلّ طريقة الاخرى ناش من الجهل بحقيقة الرّسالة والغفلة عن كيفيّة النّيابة ، فانّ كلّا إذا حصل له الاذن والاجازة كان نائبا في مرتبته مأجورا في شغله مفروضا طاعته إماما في مرحلته محكوما على الخلق بالرّجوع اليه والأخذ منه ، وكلّ منهما إذا لم يحصل له الاجازة كان نسناسا بل خنّاسا وشيطانا مردودا ، فالنّزاع ليس في محلّه بل الحقّ ان يبدل النّفاق بالوفاق ويرجع كلّ الى صاحبه فيما هو من شأنه ويأخذ منه فيتصالحا ، فانّ الظّاهر غير غنىّ عن الباطن والباطن لا يستكمل بدون الظّاهر ، وقصّة اتّباع موسى (ع) للخضر (ع) مع كونه أفضل وأعلى من الخضر بمراتب عديدة برهان على جواز رجوع الأفضل في جهة الى من كان أفضل منه في جهة اخرى ، فلا بدّ ان يرجع صاحب الباطن الى عالم الشّرع في الأحكام الظّاهرة وصاحب الشّرع الى عالم الطّريقة في الأحكام الباطنة فاذا تصالحا وتوافقا فالأحسن ان يتظاهرا ويدفعا كلّ منافق كذّاب من مدّعى الفتيا والسّلوك عن ادّعائه ويظهرا بطلانه ويحفظا الدّين عن غوائل الشّياطين من الكذّابين وتلبّس بعض الزّنادقة بلباس الصّوفيّة ، وكذا تلبّس المتصوّفة من العامّة بلباسهم وصدور ما ينافي الشّريعة عنهم قولا وفعلا لا يصير سببا لطعن صوفيّة الشّيعة ؛ فانّهم مراقبون كمال المراقبة في ان لا يصدر عنهم ما يخالف الشّريعة قولا وفعلا بل يقولون ترك القيد في ان يتقيّد الإنسان بالشّريعة ويراقبون ان لا يجرى على لسانهم غير ما جرى على لسان الشّريعة فكيف بفعلهم واعتقادهم (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) يسير فكيف بالخطير خصوصا النّبأ العظيم الّذى هو الخلافة (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) لم يقل والى اولى الأمر لانّ المقصود الاصلىّ انّه إذا وقع التّنازع بينكم في تعيين ولىّ الأمر فردّوه إليهما فاذا عينّاه لكم فردّوا جميع أموركم اليه ، وفي بعض الاخبار انّ الآية هكذا فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والى الرّسول والى اولى الأمر منكم يعنى ردّوا جميع ما خفتم التّنازع فيه الى قولهما فانّهما بيّنا جميع ما تحتاجون اليه ببيانه في الكتاب والسّنّة وبتعيين من عنده علم الكتاب فانّ قول الله (أَطِيعُوا اللهَ) (الى آخر الآية) وقوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) (الى آخر الآية) في علىّ (ع) وقول محمّد (ص) : من كنت مولاه (الحديث) بيّنا انّ الاولى بكم من أنفسكم وأحرى بالرّجوع اليه والأخذ منه والتّسليم له هو علىّ (ع) فان رددتم كلّما خفتم التّنازع فيه الى علىّ (ع) بعد ما رددتم النّزاع الكلّىّ الى الكتاب والرّسول (ص) وأخذتم بقولهما فيه لم يبق لكم ريب ونزاع في شيء من الأشياء وان حكّمتم الرّجال دون الكتاب وقول الرّسول (ص) خرجتم من الرّشاد وطريق السّداد الى الحيرة والارتياب ؛ هذا في الكبير ، وأمّا في العالم الصّغير فانّ تنازع النّفس وهواها والطّبيعة وقواها معكم في شيء من الأشياء فاعرضوه على الرّوح والعقل فكلّما ارتضاه العقل وصدّقه الرّوح فخذوه وكلّما لم يصدّقه العقل وان كان النّفس ارتضته فاتركوه (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعنى انّ الايمان بهما يقتضي ردّ كلّ ما اشتبه عليكم الى الكتاب والسّنّة ومن عنده علمهما ، وترك الرّجوع الى الكتاب والسّنّة ومبيّنهما دليل عدم الايمان بهما (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) من تحريفكم اولى الأمر من معناه الى السّلاطين ووليّكم الى المحبّ ومولاه الى المحبّ حتّى يستقيم لكم رأيكم الباطل (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) اى الخارج من حكومة العقل الّذى هو

٣٢

علىّ (ع) البالغ في الطّغيان عليه (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) اى بمن خرج عن حكومة العقل وحكم الله (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) بعد ما بيّن وجوب طاعة الله فيما انزل وطاعة الرّسول فيما حكم وطاعة ولىّ الأمر يعنى صاحب الامارة الباطنة وصاحب عالم الأمر مقابل الخلق وبيّن وجوب الرّدّ الى كتاب الله والى الرّسول (ص) وقد عيّن في الكتاب وبيّن الرّسول من هو ولىّ الأمر وترجمان الكتاب والسّنّة وقد لزم منه انّ من خرج عن طاعة الله وطاعة الرّسول (ص) ونبذ قولهما في تعيين ولىّ الأمر وراء ظهره لم يكن مؤمنا وظهر ذلك بحيث لا خفاء فيه خاطب رسوله على سبيل التّعجيب من بلادة من اتّبع الشّيطان بإضلال الطّاغوت فانّ القضيّة وان لم تكن بعد لكنّها مشهودة لمحمّد (ص) فالآية ان كانت نازلة في الزّبير بن العوّام ورجل من اليهود كما ورد انّ الزّبير نازع يهوديّا في حديقة فقال الزّبير : نرضى بابن شيبة اليهوديّ وقال اليهوديّ : نرضى بمحمّد (ص) فنزلت حرمة المحاكمة الى الطّاغوت وسلاطين الجور وقضاتهم ، وحرمة ما أخذ بحكمهم قد وردت عن ائمّتنا المعصومين ، فعن الصّادق (ع) للاشارة الى تعميم الآية : ايّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ فدعاه الى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى الّا ان يرافعه الى هؤلاء كان بمنزلة الّذين قال الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) (الآية) ، وعنه (ع) انّه سئل عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السّلطان أو الى القضاة ؛ أيحلّ ذلك؟ ـ فقال : من تحاكم الى الطّاغوت فحكم له فانّما يأخذ سحتا وان كان حقّه ثابتا لانّه أخذ بحكم الطّاغوت وقد امر الله ان يكفر به ، قيل : كيف يصنعان؟ ـ قال : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فانّى قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فانّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله.

تحقيق حديث انظروا الى من كان منكم

وقد روى هذا الخبر في الكافي بتغيير يسير وقوله : الى من كان منكم مقصوده من كان قد دخل في هذا الأمر وعرف ولايتنا وقبل الدّعوة الباطنة وبايع معنا البيعة الخاصّة الولويّة لا من انتحل الإسلام كأكثر العامّة أو بايع على يد من لا يجوز البيعة على يده كخلفاء الزّور ، وقوله : قد روى حديثنا ، مراده انّ العارف لهذا الأمر لا ينصب نفسه لرواية الحديث الّا ان يؤذن له بحسب استعداده واستحقاقه وقوله : نظر في حلالنا وحرامنا يعنى به انّ الدّاخل في هذا الأمر ما لم يستعدّ للنّظر في حلالنا وحرامنا بخروجه من حكومة النّفس والشّيطان وبإصلاح نفسه بقدر استعداده من تخليته عن الرّذائل وتحليته بالفضائل لا يؤذن له في النّظر الى ما هو خارج عن نفسه بل يلقى اليه ما هو تكليفه ويؤمر بالعمل به حتّى يخلص من غوائل نفسه فاذا خلص يؤذن له في النّظر الى ما هو خارج عن نفسه ، وقوله : عرف أحكامنا ، يعنى بسماع اشخاصها منّا أو بسماع كلّياتها بحيث تنطبق على الجزئيّات لانّ المعرفة تستعمل في العلوم الجزئيّة الحاصلة من المدارك الجزئيّة وقوله : فارضوا به حكما ، يعنى انّ الأوصاف المذكورة تدلّ على انّه منصوب منّا مأذون من قبلنا وكلّ من كان منصوبا منّا لا بدّ من الرّضا بحكومته لانّ حكومته بإذننا هي حكومتنا ، وقوله : فانّى قد جعلته عليكم حاكما ، مؤكّدا بانّ واسمّية الجملة وتكرار النّسبة بتقديم المسند اليه قرينا بقد وماضويّة المسند يدلّ مثل سابقه على انّ الجعل والنّصب قد وقع منه سابقا ؛ فالحديث دليل على الاذن الخاصّ الحاصل للموصوف بهذه الأوصاف وعلى انّ هذه الأوصاف أمارات هذا الاذن. هذا في الكبير ، وامّا في الصّغير فالمراد بالتّحاكم الى الطّاغوت التّحاكم الى الخيال وقبول حكومته بإضلال شيطان الوهم وحيلته وهما مظهر الطّاغوت

٣٣

والشّيطان في الصّغير ، فمن أكل ولبس ونكح وجمع المال بحكومة الخيال فهو آكل السّحت ، (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) ، اشارة اليه ، وقد أمروا ان يكفروا بحكومته الخيال ويرجعوا الى كتاب القلب ورسول العقل ؛ وعلىّ الرّوح ، فمن رجع الى حكومة علىّ الرّوح الجارية على لسان رسول العقل الثّابتة في كتاب القلب فكلّ ما فعل فهو حلال وان كان يرى صورته خلافا ، وكلّ ما فعل بحكومة الخيال فهو حرام وان كان يرى صورته وفاقا ، فالصّوم والصّلوة والحجّ والجهاد من اتباع الشّيطان سحت وعصيان ، والنّوم والنّكاح والاكل والمزاح من اتباع علىّ (ع) طاعة وإحسان. ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

مشورت با نفس خود گر ميكنى

هر چه گويد كن خلاف آن دنى

گر نماز وروزه مى فرمايدت

نفس مكّار است مكري زايدت

وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ، وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ) عليه ، اشارة الى هذا ، وقد قال المولوىّ روّح الله روحه :

هر چه گيرد علّتى علّت شود

كفر گيرد كاملى ملّت شود

از سموم نفس چون با علّتى

هر چه گيرى تو مرض را آلتى

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) يعنى انّا أريناك القضايا الآتية والمنازعات المستقبلة ممّا سيقع بين علىّ (ع) وأصحابه وبين المنافقين وأحزابهم من المحاجّات والمنازعات ومن دعائهم الى كتاب الله والى ما قلت في حقّه فكلّما قيل لهم تعالوا نجعل الكتاب وسنّة الرّسول حكما (رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) صدّ عنه صدودا بمعنى اعرض وصدّ عنه صدّا بمعنى منع ، والمقصود انّهم يعرضون عن علىّ (ع) وأتى به خطابا لمحمّد (ص) امّا تعريضا بعلىّ (ع) أو للاشارة الى انّ الصدّ عن علىّ (ع) صدّ عنه لانّه ظهوره بعده وبمنزلة نفسه كما دلّ عليه آية أنفسنا ، وفي الخبر اليه اشارة (فَكَيْفَ) حالك معهم (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) عقوبة من الله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ) للاعتذار كذبا (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً) بك وبامّتك (وَتَوْفِيقاً) بينهم (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النّفاق ويستر عليهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) اى عن تفضيحهم ولا تعاقبهم ودارهم فانّ في مداراتهم مصلحة كلّيّة لنظام الكلّ (وَعِظْهُمْ) إتماما للحجّة وتقليلا لاظهارهم نفاقهم (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) في شأن علىّ (ع) فانّه نفسيّة كلّ ذي نفس أو في الخلوة أو في شأن أنفسهم (قَوْلاً بَلِيغاً) يؤثّر فيهم ويمنعهم من إظهار نفاقهم حتّى لا يوافقهم كثير من أمّتك فانّ أكثرهم بسبب قتل علىّ (ع) منهم أقاربهم يعادونه وإذا رأوا من يعانده وينافقه يوافقونه ، والمداراة مع هؤلاء المنافقين وموعظتهم وتخويفهم بحيث لا يجترءون على إظهار نفاقهم مع غيرهم أصلح لحفظ أمّتك عن النّفاق (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) عطف على قوله : (إِذا قِيلَ لَهُمْ) ، وتنبيه على غاية شقاوتهم في الآباء عن الرّجوع اليه (ص) (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالمعاهدة على معاندة علىّ (ع) والاتّفاق على غصب حقّه تابوا وندموا و (جاؤُكَ) يعنى جاؤا عليّا (ع) تعريضا أو لانّه مظهره (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) مخلصين عند علىّ (ع) (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) اى نفس الرّسول (ص) وهو علىّ (ع)

٣٤

(لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) فانّه جعل عليّا (ع) بابه ومظهر رحمته فمن تاب عنده فاز بتوبة الله ورحمته (لا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) لا يصيرون متّصفين بالإسلام والايمان العامّ (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أو يحكّموا عليّا (ع) (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) اى فيما تنازعوا فيه من ، شجر الأمر بينهم ، بمعنى تنازعوا فيه (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) أنت أو علىّ (ع) (وَيُسَلِّمُوا) أنفسهم لك أو لعلىّ (ع) (تَسْلِيماً) في الكافي عن الباقر (ع) لقد خاطب الله أمير المؤمنين (ع) في كتابه في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا) وتلا الى قوله (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) قال فيما تعاقدوا عليه لئن أمات الله محمّدا (ص) لا يردّوا هذا الأمر في بنى هاشم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت عليهم من القتل أو العفو ويسلّموا تسليما ، وأمثال هذا من اسرار الكتاب الّتى لا يعلمها الا من خوطب به والرّاسخون في العلم يقولون كلّ من عند ربّنا ولقد بيّنا وجه صحّته مع كون الخطاب ظاهرا لمحمّد (ص) (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) فرضنا (عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) كفّارة لذنوبكم كما كتبنا على بنى إسرائيل بعد عبادتهم للعجل (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) بالجلاء (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) تفضيح بليغ لهم ببيان انّ حالهم في اتّخاذهم العجل بإغواء سامريّهم أقبح وأقوى في الشّقاء من قوم موسى (ع) فانّهم ندموا وتابوا وبعد ندمهم كتبنا عليهم القتل ففعلوا وهؤلاء لا يندمون ولو ندموا لا يفعلون ما كتب عليهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من الرّجوع الى الكتاب والى قولك في علىّ (ع) ومن الرّجوع اليه والرّضا بحكومته والتّسليم له بعد التّندّم وطلب الاستغفار منه (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لاقدامهم على الإسلام (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) لانّه باب رحمتنا فلا يردّ من أتاه خائبا (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) فانّ النّدم عن خلافهم معه وطلب المغفرة منه يوجب شمول رحمتنا لهم ، وبشمول رحمتنا يستحقّون الايمان والتّوبة الخاصّة على يده ، وحينئذ يقبلهم ويتوب عليهم ويأخذ منهم البيعة الخاصّة الولويّة ، ويفتح لهم بابا الى الصّراط المستقيم الّذى هو صراط القلب بل الطّريق الى الحضور عنده الّذى هو الحضور عند الله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) بقبول أمرهما في علىّ (ع) ، فاذا قبل ما قالا في علىّ (ع) رجع اليه والتجأ اليه ، ومن التجأ اليه عن صدق صار مقبولا عنده ، ومن صار مقبولا عنده رحمه وأخذ البيعة وميثاق الله منه وادخله في ولايته ، ومن ادخله علىّ (ع) في ولايته (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) فانّ النّعمة الحقيقيّة هو علىّ (ع) وولايته فما بلغ من بلغ النّبوّة وكمالاتها الّا بولاية علىّ (ع) ، وما ابتلى من ابتلى منهم الّا بالوقوف في ولاية علىّ (ع) (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) والنّبىّ هو إنسان اوحى اليه بشيء ، والصّدّيق هو الّذى خرج عن الاعوجاج قولا وفعلا وعقيدة وخلقا بحيث لا يبقى فيه اعوجاج ويخرج غيره أيضا عن الاعوجاج فانّ المبالغة تقتضي ذلك والمراد بهم الأوصياء الّذين صاروا كاملين في أنفسهم مكمّلين لغيرهم ، والشّهداء هم الّذين شهدوا الغيب بالسّلوك أو بالجذب ووصلوا الى مقام القلب وحضروا عند ربّهم في الولاية الّذى هو علىّ (ع) ، أو المراد بهم الّذين استشهدوا في الجهاد ، والصّالحين هاهنا هم الّذين توسّلوا بالولاية ولم يبلغوا مقاما فيها لكن سلكوا عن صدق (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) ترغيب للنّاس وتحريص لهم على الولاية ، وبشارة للمؤمنين بانّ الفضل الّذى ينبغي

٣٥

ان يتنافس فيه ولا فضل سواه هو ذلك التّرافق فمن طلب الفضل فليتولّ عليّا (ع) وليدخل في ولايته بالبيعة له (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) بمقدار استحقاقكم وسلوككم في طريق ولايته فيتفضّل عليكم بقدر طاعتكم وسلوككم فلا يكتف من بايع عليّا (ع) بالبيعة الولويّة بمحض البيعة وليطلب زيادة الفضل والدّرجة العليا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) بعد ما ذكر المنافقين وحالهم ومآلهم والموافقين وحالهم ومآلهم ، نادى المؤمنين شفقة بهم وحذّرهم عن صدّ المنافقين ايّاهم فأمرهم بأخذ الحذر وهو التّيقّظ والتّهيّؤ للعدوّ وقد يستعمل في السّلاح وهو ما به التّيقّظ والاستعداد ، فان كان المراد بالمؤمنين الّذين بايعوا البيعة العامّة الّتى هي الإسلام فالمراد بالحذر الظّاهر الاسلحة للجهاد الصّورىّ وبالحذر الباطن التّمسّك بقول محمّد (ص) في علىّ (ع) والتّذكّر له مداما كما قال (ص) في خطبته قبل إلقاء ولاية علىّ (ع) عليهم توصية لهم : رحم الله امرء سمع فوعى فوصّاهم بالحفظ وان كان المراد بهم الّذين بايعوا عليّا (ع) وتابوا على يده ودخل بنفخته الايمان في قلوبهم وهو الايمان حقيقة فالمراد بالحذر الصّورىّ الاسلحة أيضا والمراد بالحذر الباطنىّ الصّلوة الّتى علّمها ايّاهم فانّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وانّها السّلاح الّذى تردع الشّياطين الجنّيّة والانسيّة عن باب الله الّذى هو الولاية (فَانْفِرُوا) الى الجهاد الصّورىّ الجلىّ مع الكفرة أو الصّورىّ الخفىّ مع المنافقين المبطّئين ، أو الى الجهاد الباطنىّ مع أعدائكم الباطنيّة المبطئين لكم عن سلوككم ورجوعكم الى باب القلب والحضور عند علىّ (ع) في بيت القلب (ثُباتٍ) جمع الثّبة بضمّ الثّاء بمعنى الجماعة والمعنى انفروا متدرّجين كما هو شأن الحازمين في الغزو الظّاهرىّ وشأن السّالكين في الغزو الباطنىّ (أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً) مجتمعين كما هو شأن المتجلّدين المتجرّئين في الغزو الصّورىّ وشأن المجذوبين في النّفور الباطنىّ ولمّا كان المناسب بيان حالهم من السّلوك والتّرغيب فيه والتّبطئة منه قال تعالى في ذلك : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) عطفا على محذوف هو قسيمه اى انّ منكم لمن يسرع في النّفر أو يبطئ فيقتل أو يقتل واكتفى عنه بقوله : ومن يقاتل في سبيل الله وفصّل أحوال المبطّئين (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) ظاهره كالقتل والهزيمة والجراحة أو باطنه كالرّياضات والابتلاءات الّتى تكون في الطّريق (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) فيرى السّلامة في دار البلاء عن الابتلاء في طريق دار الرّاحة نعمة والحال انّها نقمة إذا لم تكن في طريق الآخرة ، أو مع الانصراف عن الولاية ، فعن الصّادق (ع) لو قال هذه الكلمة أهل الشّرق والغرب لكانوا بها خارجين من الايمان ولكنّ الله قد سمّاهم مؤمنين بإقرارهم ، وفي رواية : وليسوا بمؤمنين ولا كرامة ، والسّرّ فيه ، انّه ما لم يختر الدّنيا وهوى النّفس لا يرى السّلامة فيها نعمة ، ومن اختارها لم يكن له حظّ من الايمان ، وباسم الايمان لا يحصل له كرامة بل الكرامة بالايمان الّذى هو قبول الدّعوة الباطنة والبيعة مع صاحبها بشرائطها وبكسب الخير فيه الّذى يؤدّى الى إيثار الآخرة على الدّنيا (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ) ظاهرا أو باطنا ولمّا كان القضيّة الاولى كأنّها مع من هو خالي الّذهن عن الحكم وسؤاله وإنكاره حسن خلوّها عن التّأكيد وهذه لمّا كانت بعد الاولى وصار المخاطب بذكر قسيمها مستعدّا للسّؤال عن القسيم الآخر اكّدها باللّام الموطّئة والقسم ولام القسم ونون التّأكيد استحسانا (لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) يعنى انّ الوصلة الايمانية تقتضي السّرور بتنعّمكم والحزن بمصيبتكم فالسّرور حين أصابتكم بسلامته والتّحسّر حين التّفضّل عليكم بعدم وصول الفضل اليه دليل على

٣٦

مباينته لكم وان كان موافقا لكم بظاهر قوله ولذلك أتى بالجملة المعترضة بين القول ومقوله ، وإذا كان حال المبطّئين على ما ذكر (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) المؤمنون (الَّذِينَ يَشْرُونَ) اى يبيعون (الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) اى الّذين باعوا على يد محمّد (ص) أو علىّ (ع) أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة فصار حالهم ان يعطوا تدريجا من المبيع ويأخذوا على حسبه من الثّمن (وَمَنْ يُقاتِلْ) عطف على محذوف جواب لسؤال مقدّر تقديره : من لم يقاتل فهو ملحق بالمبطّئين أو حال عن الّذين يشرون (فِي سَبِيلِ اللهِ) اى حالكونه في سبيل الله أو في حفظ سبيل الله (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) يعنى كلاهما له فلا ينبغي ان يطلب بجهاده الغلبة بل إعزاز نفسه بامتثال الأمر وإعزاز الدّين ببذل نفسه أو غلبته ، روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : للشّهيد سبع خصال من الله ، اوّل قطرة مغفور له كلّ ذنب ، والثّانية يقع رأسه في حجر زوجيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه ، الى ان قال : والثّالثة يكسى من كسوة الجنّة ، والرّابعة يبتدر خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة ايّهم يأخذه منه ، والخامسة ان يرى منزله ، والسّادسة يقال لروحه : أسرع في الجنّة حيث شئت ، والسّابعة ان ينظر في وجه الله وانّها الرّاحة لكلّ نبىّ وشهيد (وَما لَكُمْ) اىّ منفعة لكم أو اىّ مانع لكم والجملة عطف على قوله ليقاتل أو حال أو معطوف على مقدّر تقديره : إذا كان القتال لكم مطلقا فما لكم لا ترغبون؟ فيه وما لكم (لا تُقاتِلُونَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر أو حال عن المجرور (فِي) تقوية (سَبِيلِ اللهِ) أو حفظها وهي الولاية فانّها سبيل الله حقيقة وكلّما انشعب منها أو اتّصل بها فهو سبيل الله بتبعها (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) عطف على الله أو على سبيل الله سواء كان المراد بهم الائمّة واتباعهم وأولادهم الّذين عدّهم أشباه النّاس ضعفاء أو جعلوهم ضعفاء بمنع فيئهم وقتل أنصارهم أم كان المراد بهم ضعفاء العقول من الشّيعة أو غيرهم ، والمعنى ما لكم لا تقاتلون الأعداء الظّاهرة للولاية في تقوية الولاية واعلائها واعلانها بأيديكم وألسنتكم وأموالكم ببذلها للأعداء في اسكاتهم أو ببذلها لمن يدافعهم ويسكتهم والأعداء الباطنة لها بألسنتكم بأذكارها وبجوارحكم بأعمالها وبقواكم الّتى هي أموالكم الباطنة ببذلها حتّى تدفعوا أعداءها عنها وفي تقوية الّذين عدّهم الأعداء أو جعلوهم ضعفاء من الائمّة واتباعهم وفي نصرتهم ، أو تقوية المعدودين من الضّعفاء بدفع الشّبه الواردة عليهم من الأعداء وهم شيعة ائمّة الهدى (ع) ، أو في تقوية الضّعفاء من جنود وجودك الّتى عدّهم الشّيطان وجنوده أو جعلوهم ضعفاء ، أو في حفظ المعدودين من ضعفاء العقول عن الهلاك والضّياع (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ) لا قوّة لهم على مدافعة الأعداء و (يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) ان كان النّزول في ضعفاء مكّة فلا اختصاص لها بهم كما في الخبر فالقرية مكّة وكلّ قرية لا يجد الشّيعة فيها وليّا من الامام ومشايخهم وكلّ قرية وقع بها الائمّة بين منافقي الامّة وقرية النّفس الحيوانيّة الّتى لا يجد الجنود الانسانيّة فيها وليّا ويطلبون الخروج منها الى قرية الصّدر ومدينة القلب ويسألون الحضور عند امامهم أو مشايخهم في بيت القلب خاليا عن مزاحمة الأغيار بقولهم (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) تكرار اجعل لانّ مقام التّضرّع والابتهال يناسبه التّطويل والإلحاح في السّؤال ولانّ المسؤل ليس شخصا واحدا ولو كان واحدا لم يكن مسئولا من جهة واحدة بل المسؤل محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، أو المسؤل محمّد (ص) من جهة هدايته ومن جهة نصرته ، أو علىّ (ع) كذلك وقد بقي بين الصّوفيّة ان يكون التّعليم والتّلقين بتعاضد نفسين متوافقتين يسمّى أحد ـ

٣٧

الشّخصين هاديا والآخر دليلا ، والشّيخ الهادي له الهداية وتولّى أمور السّالك فيما ينفعه ويجذبه والشّيخ الدّليل ينصره لمدافعة الأعداء ويخرجه من الجهل والرّدى بدلالته طريق التّوسّل الى شيخ الهدى ، وفي الآية اشارة الى انّ السّالك ينبغي له ان يطلب دائما حضوره عند شيخة بحسب مقام نورانيّته ومقام صدره وهو معنى انتظار ظهور الشّيخ في عالمه الصّغير وامّا ظهور الشّيخ بحسب بشريّته على بشريّة السّالك فلا يصدق عليه انّه من لدن الله وإذا ظهر الشّيخ بحسب النّورانيّة كان وليّا من لدن الله ونصيرا من لدنه (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال أو مستأنف في مقام التّعليل والمعنى لا ينبغي لكم ترك المقاتلة لانّ الإنسان لا يخلو عن المقاتلة واكتفى عن نسبة المقاتلة بطريق العموم والاستمرار الى الإنسان بنسبة المقاتلة الى الفريقين والإتيان بالمضارع الدالّ على الاستمرار التّجدّدىّ ولانّ المؤمنين يقاتلون في سبيل الله وقد مضى انّه من يقاتل في سبيل الله فالعاقبة له سواء غلب أو غلب (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) ومن يقاتل في سبيل الطّاغوت لا تجد له نصيرا كما مضى انّ المؤمنين بالجبت والطّاغوت لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ولا تجد له ظهيرا ، لانّ الشّيطان يعدهم وما يعدهم الّا غرورا وبعد ما يوقعهم فيما يريد يفرّ عنهم.

اعلم انّ نفس المقاتلة والمعارضة مع الأعداء لا تكون الّا عن قوّة القلب الّتى هي مبدء كثير من الخيرات كالشّجاعة والسّخاوة والعفّة والجرأة والشّهامة وغيرها وتورث قوّة للقلب ، وإذا كان بإذن وامر من الله يورث توكّلا تامّا وعاقبة محمودة ويوجد للمجاهد ناصر ومظاهر من الله ولذلك ورد التّأكيد في امر الجهاد ومدح المجاهدين وذمّ القاعدين من غير عذر (فَقاتِلُوا) الجملة جزاء شرط محذوف مستفاد من السّابق تقديره : إذا كان المؤمنون يقاتلون في سبيل الله والكافرون يقاتلون في سبيل الشّيطان فقاتلوا ايّها المؤمنون (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) أبدل من الكافرين أولياء الشّيطان اشعارا بذمّ آخر لهم (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) ترغيب وتجرئة للمؤمنين (أَلَمْ تَرَ) الخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب والمقصود التّنبيه على حال القاعدين وانّهم كالنّساء في الجبن وضعف القلب حتّى يكون ترغيبا في الجهاد وتحذيرا عن القعود كأنّه قال : انظر (إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) عن القتال وألسنتكم عن الجدال كما أشير اليه في الخبر (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) حتّى تعلم فضيلة الجهاد وانّ الّذين يقعدون عن القتال مع الأعداء الظّاهرة أو الباطنة لا تمكّن لهم في شيء من صفات الرّجال بل يكون حالهم كحال النّساء في ابتغائهنّ الرّاحة والبقاء وخوفهنّ عن مجاهرة الأعداء ، وان كان الخطاب للنّبىّ (ص) فالتّعريض بالامّة ، ونزولها ان كان في مؤمني مكّة قبل هجرة الرّسول أو قبل هجرتهم بعد هجرة الرّسول فهي جارية في كلّ زمان وزمان كلّ امام ، فعن الباقر (ع) أنتم والله أهل هذه الآية ، وعن الصّادق (ع: كفّوا أيديكم يعنى كفّوا ألسنتكم ، وعن الباقر (ع): كفّوا أيديكم مع الحسن (ع) كتب عليهم القتال مع الحسين (ع) الى أجل قريب الى خروج القائم عجّل الله فرجه فانّ معه الظّفر (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لعدم تدرّبهم الجهاد وعدم تمكّنهم في صفات الرّجال (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا) لضيق صدورهم عن مجاهرة الأعداء (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) زمان دولة المؤمنين وتلك الأحوال قد تعرض للسّالك فيؤمر بالعزلة عن الخلق والصّمت عن المجادلة والمكالمة من غير ضرورة ثمّ يؤمر بالمعاشرة والمدافعة عن إخوانه وقضاء

٣٨

حوائجهم فيضيق صدره عن ذلك ولا يتمالك نفسه حتّى يصدر عنه مثل هذه المقالات ، وصدور مثل هذه المقالات عن الكافّين دليل فضيلة المقاتلة وشرف المعاشرة (قُلْ) لهم (مَتاعُ الدُّنْيا) تمتّعها أو أعراضها الّتى هي مرغوبة للنّساء (قَلِيلٌ) بحسب المقدار والكيفيّة والبقاء (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) عن التّعلّق بمتاع ـ الدّنيا وتسارع الى قتال الأعداء (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) حتّى تخافوا ان لا توجروا على متاعبكم فان كنتم تخافون الموت وفراق الدّنيا كالنّساء فاعلموا انّ الآخرة الّتى تفرّون منها خير لكم وان تسألوا انّ الفرار من القتال هل يورث البقاء؟ ـ فيقال في الجواب (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) قصور مرتفعة ، فالجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر من الله أو مقول قول الرّسول (ص) ثمّ صرف الخطاب عنهم الى محمّد (ص) فقال لكن ان تعظهم بكلّ عظة لا يفقهوا (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) مثل قولهم (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) (الى آخر الآية) (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فانّ الفاعل في كلّ موجود هو الله وليس منكم الّا استعداد القبول والسّيّئة والحسنة منسوبة إليكم نسبة الشّيء الى القابل ومنسوبة الى الله نسبة الشّيء الى الفاعل ، لكنّ السيّئات اى الاعدام أو الموجبات للاعدام لمّا كان الوجود فيها ضعيفا بحيث عدّها بعضهم اعداما صرفة تكون نسبتها الى الفاعل ضعيفة لضعف الوجود فيها والنّسبة الى الفاعل لا تكون الّا من حيث الوجود ، وتكون نسبتها الى القابل أقوى لتبعيّتها لاعدام القابل فيكون القابل اولى بها ، والحسنات لمّا كان الوجود فيها قويّا تكون نسبتها الى الفاعل أقوى فيكون الفاعل اولى بها (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فيتخالطون في الكلام كتخاليط النّساء (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) جواب لسؤال نشأ من قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) كأنّ قائلا يقول : فلا نسبة لها إليهم ولا تفاوت في نسبة الجميع الى الله فقال : ما أصابك من حسنة (فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) والخطاب امّا لغير معيّن أو لمحمّد (ص) من قبيل : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، والسرّ في اختلاف النّسبتين ما عرفت (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) لا فاعلا للخير والشّرّ فلا وجه للتطيّر بك (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) فما يضرّك عدم إقرارهم برسالتك (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) وضع المظهر موضع المضمر اشارة الى التّعليل (فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) في قوله أطيعوا الرّسول ، أو لانّه مبلّغ والآمر والنّاهى هو الله ، أو لانّ الرّسول (ص) لمّا فنى من نفسه وبقي بالله ونسبته الى الله أقوى من نسبته الى بشريّته ، وظهور الله فيه أتمّ من بشريّته كما قال : من راني فقد رأى الحقّ ، فمن أطاعه من حيث ظهور بشريّته يعلم انّه أطاع الله قبل حيثيّة بشريّته ولذلك أتى بالماضي مصدّرا بقد للدلالة على مضيّه لتقدّم نسبته الى الله وظهوره فيه على نسبته الى بشريّته (وَمَنْ تَوَلَّى) الإتيان بالماضي مع كون الفعل في المعطوف عليه مستقبلا لكون الاطاعة امرا يحدث بعد ما لم يكن على سبيل التّجدّد والتّولّى امر مفطور عليه لا تجدّد فيه سوى البقاء عليه فقد تولّى عن الله فلا تتحسّر عليهم لتولّيهم عنك (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) حتّى تتحسّر على عدم حفظك ايّاهم (وَيَقُولُونَ) بألسنتهم شأننا (طاعَةٌ) لك في علىّ (ع) كأنّه قال لكنّهم يطيعون بألسنتهم ويتولّون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم شأننا طاعة (فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) ودبّروا ليلا (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) أنت في علىّ (ع) أو تلك الطّائفة من الطّاعة لك في علىّ (ع) فيقولون

٣٩

ويتعاقدون على ان يمنعوا عليّا (ع) من الخلافة (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) تسلية للرّسول (ص) وتهديد لهم (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ولا تؤاخذهم فانّه أصلح لك لعدم افتتان سائر أمّتك (وَتَوَكَّلْ) في جملة أمورك خصوصا فيما تهتمّ به من خلافة علىّ (ع) (عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فانّه لا حاجة له الى معاون في إمضاء امر ولا الى مشاور في استعلام امر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وانّه من عند الله حتّى يعلموا صدقك ورسالتك فلا يبيّتوا خلاف طاعتك ، والتّدبّر كالتّفكّر (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) عطف على القرآن باعتبار انّ التّدبّر يتعلّق بنسبة الجملة لكنّ الفعل معلّق بالواو الجملة حاليّة (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) لانّ فيه بصورته تخالفا وتناقضا لكنّه لمّا كان من عند الله وله بحسب العوالم العديدة بطون وجهات كان كلّ من المتخالفات منزّلا على عالم أو على جهة أو المعنى انّه لو كان من عند غير الله كما قالوا انّما يعلّمه بشر ، وانّه افتراء لوقع فيه التّخالف لانّ الكذب لعدم ابتنائه على أصل أو شهود لا يقع بين اجزائه توافق ولكن ليس فيه تخالف حقيقة (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) عطف على مجموع إذا برزوا من عندك ، أو على جزائه اعنى بيّت طائفة ، أو عطف على لا يتدّبرون القرآن ، أو على مجموع أفلا يتدّبرون القرآن باعتبار المقصود ، أو حال يعنى إذا جاءهم خبر من سراياك أو من جانب العدوّ أو من قولك بوعد الفتح أو الوعيد من العدوّ أذاعوه لعدم توكّلهم وعدم ثباتهم في الايمان ، وكذا إذا جاءهم امر في باطنهم من المنامات أو الحالات أو الخيالات والخطرات المبشّرة أو المخوّفة أذاعوه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) اى وكلوه إليهم ولا يتكلّموا فيه بشيء أو اظهروه عليهم لا على غيرهم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) امّا من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بانّهم أهل الاستنباط ، أو المراد بأولى الأمر اعمّ من أمراء السّرايا ، والمستنبطون هم الرّسول (ص) وأوصياؤه (ع) (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) خاطبهم تفضّلا وتطفّلا لمحمّد (ص) وعلىّ (ع) بعد ما ذمّهم على ضعف عقيدتهم وسوء صنيعتهم ، وفضل الله هو الرّسالة ، ولمّا كان الرّسالة من شؤن الرّسول وسعة صدره ومتّحدة معه صحّ تفسيره بالرّسول وهو هاهنا محمّد (ص) ورحمته هي الولاية والولاية أيضا متّحدة مع الولىّ فصحّ تفسيرها به وهو هاهنا علىّ (ع) ولذلك فسّرا بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) في أخبارنا ، ولمّا كان محمّد (ص) أصلا في الولاية وان كانت الرّسالة فيه أظهر وعلىّ (ع) خليفة في الرّسالة وان كانت الولاية فيه أظهر صحّ تفسير الفضل بعلىّ (ع) والرّحمة بمحمّد (ص) كما في الخبر ، يعنى انّا لا نخذلكم مع سوء صنيعكم بواسطة محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، ولو لا محمّد (ص) وعلىّ (ع) قائما عليكم حافظا لكم (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) يعنى إذا علمت حال قومك من الجبن والفشل والتّبيت بخلاف طاعتك وعدم حفظهم لما سمعوا من الاخبار وتوكّلت على الله وعلمت كفايته لك فقاتل في حفظ سبيل الله واعلائه ، أو حالكونك في سبيل الله ، أو في ولاية علىّ (ع) فانّها سبيل الله وعلىّ (ع) بنفسه أيضا سبيل الله ولا تبال بإعانة قومك وعدمها (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) اى الّا فعل نفسك أو إصلاحها أو إصلاح علىّ (ع) لانّه نفسك والجملة حال أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل أو في مقام بيان الحال (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) لانّك ان لم تحتج إليهم فانّهم محتاجون إليك في إصلاحك لهم والمقاتلة إصلاح لهم لانّها تورث التّشجّع والتّمكّن والثّبات والتّوكّل

٤٠