تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

السّابقة من قوله للّذين أحسنوا الى أغشيت وجوههم اى في الدّنيا أو يوم الموت أو يوم الرّجعة ويوم نحشرهم أو المعطوف والمعطوف عليه كلاهما محذوفان والتّقدير ذكّرهم بما ذكر وذكّرهم يوم نحشرهم أو متعلّق بزيّلنا على تقدير امّا أو توهّمه أو زيادة الفاء ، أو متعلّق بزيّلنا المذكور تفسيره (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله أو بالولاية (مَكانَكُمْ) الزموا ولا تبرحوا أو هو اسم فعل و (أَنْتُمْ) تأكيد للمستتر فيه تصحيحا للعطف عليه (وَشُرَكاؤُكُمْ) في الآلهة أو في العبادة أو في الولاية أو في الطّاعة أو في المحبّة أو في الوجود (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) اوقعنا التّفرقة بين المؤمنين والكفّار أو بين الكفّار وشركاءهم (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) بأحد الوجوه (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) المراد بالعبادة هاهنا اعمّ من العبادة المعروفة ، أو المراد بشركاؤهم الشّركاء في العبادة لانّهم في الحقيقة عبدوا أهواءهم ومن عبادة أهواءهم تولّد عبادة الشّركاء الظّاهرة (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) عطف على ما كنتم ولمّا كان مرتبة الاستشهاد بعد إبراز الدّعوى عطفه بالفاء واستشهد شركاءهم بالله على نفى عبادة المشركين لهم ، لانّه كان العالم بحقيقة الحال وانّهم بعبادة الشّركاء واطاعتهم ما كانوا عابدين الّا اهويتهم وما أرادوا بذلك الّا حصول مشتهياتهم فهم كانوا عابدين لأنفسهم الخبيثة مصدرا ومرجعا ، أعاذنا الله من ان بقول يوم العرض لنا : ما كنتم ايّاى تعبدون ، لانّ الدّاعى لعبادتكم كان اهويتكم لا أمري والمقصود كان حصول اغراضكم لا رضاي (إِنْ كُنَّا) ان هي المخفّفة (عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) نفوا دعوى المعبوديّة لأنفسهم كما نفوا عبادة المشركين لهم (هُنالِكَ) المقام أو الزّمان (تَبْلُوا) تختبر (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) فتعرف حقّها عن باطلها أو صحيحها عن سقيمها وجيّدها عن مغشوشها لحدّة بصرهم وصفاء ادراكهم فيدركون ايّها صدر عن النّفس الامّارة والشّيطان وايّها صدر عن العقل بشركة النّفس وايّها صدر عن العقل ثمّ طرء عليه أغراض النّفس (وَرُدُّوا) بعد ما عرفوا أعمالهم (إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) التّوصيف بالحقّ تعريض ببطلان معبوداتهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الشّركاء لكونها باطلة (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالرّزق الانسانىّ (وَالْأَرْضِ) بالرّزق الحيوانىّ أو بكليهما باعداد كليهما (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) اقتصر على المدارك الجزئيّة المحسوسة ومنها على أشرفها وأنفعها للإنسان اعنى السّمع والبصر افادة لمملوكيّة غيرها بالطّريق الاولى والمراد بمالكيّته تعالى لها كونها تحت قدرته بحيث لا مدخليّة لأحد غيره فيها فيعطى ويمنع ويأخذ ويبقى ويجعل سليما ومأوفا وقويّا وضعيفا ما يشاء منها لمن يشاء (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) والمراد بإخراج الحىّ اعمّ من إخراج الحيوان من مادّته الميتة وإنشاء النّفس الحيّة بالّذات من البدن الميتة وإخراجها منه بالموت أو بالنّوم وإخراج المؤمن من الّذى هو حىّ بالحيوة الانسانيّة من الكافر الّذى هو ميّت عنها وإخراج المثال الصّاعد من عالم الطّبع وهكذا إخراج الميّت من الحىّ (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) قد مضى تفسير هذه الكلمة في اوّل السّورة (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) الفاء زائدة والجملة جواب لسؤال مقدّر أو الفاء جواب شرط محذوف أو خالصة للسببيّة (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) توبيخا لهم أو امرا لهم بالتّقوى بعد إقرارهم بكون الكلّ بقدرته (فَذلِكُمُ) الموصوف بما ذكر (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ)

٣٠١

تعريض ببطلان شركاءهم كما مرّ ، وفي اعرابه وجوه أحسنها ان يكون ذلكم مبتدء والله صفة أو بدلا منه وربّكم خبرا عنه والحقّ صفة له (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) بعد الانصراف عنه أو بعد الحقّيّة (إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وليس انصرافكم الّا الى الضّلال لعدم الواسطة (كَذلِكَ) متعلّق بتصرفون و (حَقَّتْ) ابتداء كلام أو متعلّق بحقّت وعلى اىّ تقدير فالجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فلا ينبغي لأحد ان ينصرف عنه فقال كحقيّة الرّبوبيّة أو ككون الضّلال بعد الحقّ أو كانصرافهم عن الحقّ حقّت (كَلِمَةُ رَبِّكَ) اى الضّلال أو حكمه بالضّلال أو عدم ايمانهم (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) خرجوا عن الحقّ أو عن طاعة العقل أو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بتقدير الباء أو اللّام أو بدل من كلمة ربّك (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ذكر الاعادة في الإلزام امّا لكون المخاطبين معتقدين بالاعادة أو لوضوح برهانها أو للاكتفاء بالابداء في الإلزام وذكر الاعادة للتّنبيه والاستطراد ، أو المراد بالاعادة هو تكميل المواليد بالبلوغ الى كمالاتها المترقّبة منها ولمّا لم يكن لهم جواب سوى الاعتراف بانّ الله هو المبدأ والمعيد وليس هذا من فعل الشّركاء امر تعالى نبيّه (ص) ان يجيب عنهم فقال (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الى اين تصرفون عن الله بعد قدرته وعجز الشّركاء (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ولمّا كان هاهنا عدم تبادرهم الى الجواب متوقّعا لخفاء هداية الله عليهم أو لاحتمالهم هداية أصنامهم امره (ص) بالتّبادر الى الجواب من قبلهم فقال (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) مقول قوله (ص) أو استيناف كلام من الله (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) قرئ يهدّى بتشديد الدّالّ من اهتدى بابدال التّاء دالا وادغامها وقرئ حينئذ بكسر الهاء على قانون تحريك السّاكن بالكسرة وبفتحها على نقل حركة التّاء ، وقرئ في صورة كسر الهاء بفتح الياء على الأصل وبكسرها على اتّباعها ، وقرئ بتخفيف الدّال من الهدى بمعنى الرّشاد أو بمعنى الدّلالة (إِلَّا أَنْ يُهْدى) تنزيل الآيات في الإشراك بالإله وتأويلها في الإشراك بالولاية ولذا فسّر من يهدى بمحمّد (ص) وآله (ع) من بعده (ص) ، وعلى التّأويل يجوز تفسير الآية هكذا قل هل من شركاءكم من يهدى غيره أو يهتدى بنفسه الى الحقّ قل الله في مظاهره النبويّة أو الوليّة يهدى غيره أو يهتدى بنفسه الى الحقّ أفمن يهدى غيره أو يهتدى الى الحقّ احقّ ان يتّبع أم من لا يهدى غيره أو لا يهتدى على قراءة تخفيف الدّال ، أو أم من لا يهتدى فقط على قراءة تشديد الدّال ، وكأنّه للاشارة الى التّأويل أتى في الكلّ بلفظ من الّتى هي لذوي العقول (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) باىّ حكم تحكمون فتختارون ما ليس له جهة ادراك على من يملك المدارك كلّها (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) استيناف على ما قيل بإتيان الواو للاستيناف لكنّه بعيد لانّه ما لم يلاحظ ربط بين الجملتين لا يؤتى بالواو فان شئت فسمّ ذلك الرّبط بالعطف بجعل الجملة السّابقة في أمثال هذا معطوفا عليها بلحاظ المعنى أو بتقدير المعطوف عليه من معنى الجملة السّابقة ، مثل ان يلاحظ انّ معنى ما لكم أو معنى كيف تحكمون ليس لهم عقل أو علم أو يحكمون بالباطل ، أو يقدّر أمثال ذلك بقرينة السّابق ثمّ يعطف عليه وان شئت فسمّه بشبه العطف والتّقييد بالأكثر امّا لانّ بعضهم يتّبعون رؤساءهم من غير حصول اعتقاد لهم لعدم شأنيّتهم لاعتقاد شيء كالحيوان الّذى يتّبع صاحبه من غير شعور له بنفع أو ضرّ في ذلك الاتّباع ، أو لانّ بعضهم كان يعلم

٣٠٢

بطلان ما يعبد لكنّه كان يعبد المعبودات الباطلة ويطيع رؤساء الضّلالة لمحض أغراض فاسدة دنيويّة ، وتنكير الظّنّ للاشارة الى انّ ظنّهم ظنّ سفلى مستند الى النّفس ردىّ مهلك والّا فالظّنّ العلوىّ المستند الى العقل قلّما ينفكّ الطّالب للآخرة عنه ما لم يدخل في الولاية ولم يصر عالما بواسطة اتّباعه للولاية وذلك الظّنّ يجذبه الى دار العلم ويكون ممدوحا (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي) من اغنى عنه بمعنى ناب عنه وكفى كفايته (مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) مفعول مطلق ومن الحقّ صلة يغني أو مفعول به ومن الحقّ حال منه ، وتعريف الظّنّ امّا للاشارة الى الظّنّ السّابق أو للجنس باعتبار انّ بعض افراد الظّنّ وان كان قد يدعوا لي دار العلم لكنّه لا يكفى كفاية الحقّ فلا ينبغي الوقوف عليه فالظّنون المستندة الى الكتاب والسّنّة ان كانت عقليّة علويّة فهي ممدوحة لكن لا ينبغي الوقوف عليها ما لم توصل الى العلم وان كانت نفسيّة دنيويّة سفليّة فهي مذمومة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) جواب سؤال ناش عن قوله وما يتّبع أكثرهم الّا ظنّا يعنى انّه عليم بصور أفعالهم ومصادرها وغاياتها (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) اى لان يفتري بتقدير اللّام اى لا يجوز كونه مفترى فكيف بفعليّته أو افتراء من قبيل زيد عدل (مِنْ دُونِ اللهِ) من غير الله (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب السّماويّة حيث يطابقها في العقائد والأحكام ونصب التّصديق بالعطف على خبر كان أو بتقدير كان على خلاف في عطف المفرد الآتي بعد لكن مع الواو أو بكونه مفعولا له لانزله مقدّرا (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) كتاب النّبوّة وأحكامها وقد مرّ مرارا انّ الكتاب اشارة الى احكام النّبوّة كلّما ذكر مطلقا (لا رَيْبَ فِيهِ) حال أو مستأنف (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ظرف مستقرّ حال أو خبر مبتدء محذوف والجملة مستأنفة (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ) ان افتريته (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فانّه ان كان كلام المخلوق وأنتم فصحاء الخلق ينبغي ان تقدروا على مثله (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) للاستعانة به على الإتيان (مِنْ دُونِ اللهِ) كما ادّعيتم انّه من غير الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعوى الافتراء (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أنكروا ما لم يعلموا شبّه العلم الكامل بالشّيء بشيء محاط من جميع جوانبه بحيث لم يشذّ عن المحيط شيء منه ، ففيه اشعار بانّ انكار ما لم يعلم بطلانه علما يقينيّا عيانيّا أو برهانيّا أو سماعيّا بتقليد من يعلم صدقه كذلك مذموم ، فإنكار بعض على من لم يروه موافقا لعاداتهم ورسومهم وتسميته حميّة للدّين وحفظا للإسلام وعقائد المسلمين ليس في محلّه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يعنى أنكروا ما لم يعلموا وما لم يعاينوا مصاديقه فيشاهدوا بطلانه فهو عطف على لم يحيطوا أو على كذّبوا أو حال ، ويجوز ان يكون المراد تهديدهم بإتيان مصاديق ما في القرآن أو ما في اخبار النّبىّ (ص) أو ما في الاخبار بولاية علىّ (ع) أو المراد بما لم يحيطوا بعلمه القرآن أو النّبوّة وبتأويله الولاية فانّها ما يئول اليه القرآن والنّبوّة لانّهما صورتاها (كَذلِكَ) التّكذيب من غير علم وعيان (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السّالفة المعاقبة في الدّنيا (فَانْظُرْ) بايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو هو (ص) مقصود بالخطاب اصالة وغيره تبعا والغرض تسليته عن تكذيب قومه وتهديد القوم عن تكذيبه (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) اى عاقبتهم والتّعبير بالظّاهر لذمّ آخر (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) عطف على كذّبوا كأنّه قال : بل منهم من يعلم صدقه وينكر عنادا أو منهم من له استعداد التّصديق فيصدّق وينقاد بعد ذلك

٣٠٣

وإنكاره هذا محض الجهل من غير خبث من ذاته (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) الجاحدين عن علم أو بالمفسدين الغير المتوقّعين لايمانهم ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بإفسادهم وذمّ أخر لهم (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ) اعراضا عن الجاهلين أو متاركة لهم (لِي عَمَلِي) نافعا كان أو ضارّا (وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) كذلك (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) تأكيد للاوّل ولذا ترك العاطف وعكس التّرتيب لانّه تأكيد للمفهوم لا للمنطوق كأنّه قال : لي عملي لا لكم بحسب مفهوم الحصر ولكم عملكم لا لي (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ردّا واستهزاء ، أو لسماع المقصود منك (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) حال بتقدير القول أو جواب عن سؤال مقدّر كأنّه (ص) قال : فما شأنهم لا يسمعون المقصود منّى؟ ـ فقال : شأنهم ان يقال أفأنت تسمع الصّمّ يعنى انّ آذانهم الانسانيّة صمّ عن سماع ما يسمعه الإنسان ولا عقل لهم حتّى يمكن الافهام بالاشارة ونحوه فهم كالبهائم ولذا قال (وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) ويشاهد منك بيّنات صدقك وصدق كتابك لكنّهم عمى عن مشاهدة آثار الصّدق ودلالة دوالّه (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) الى مشاهدة آثار الرّبوبيّة والآخرة (وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) ببصيرة عقليّة يعنى ان كان لهم بصيرة يمكن إفهام آثار الرّبوبيّة ولو لم يكن بصر لهم لكنّهم عمى وغير ذوي بصيرة والآية كالعلّة للاعراض والمتاركة (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) بمنع ما يستحقّونه منهم جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل فالله يمنعهم السّماع ويظلمهم (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بابطال فطرتهم وإفساد استحقاقهم وأنفسهم مفعول ليظلمون أو تأكيد للنّاس (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) عطف على محذوف والتّقدير لكنّ النّاس أنفسهم يظلمون في الدّنيا ويوم يحشرهم أو متعلّق با ذكر مقدّرا أو بيتعارفون أو بقد خسر (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) حال من مفعول يحشرهم أو صفة لمصدر محذوف بتقدير العائد اى حشرا كأن لم يلبثوا قبله أو متعلّق بيتعارفون والمقصود انّهم استقلّوا لبثهم في الدّنيا أو في القبر لتمثّل الحال الماضية بحيث انّها كأن لم تغب ولذا قيّد بالنّهار (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) يعرف بعضهم بعضا لاستحضارهم الحال الماضية وتمثّلها عندهم (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) قالا كالدّهريّة والطّبيعيّة وكلّ من اقرّ بالمبدء دون المعاد ، وحالا كأكثر من اقرّ بلسانه ولم يساعده حاله وهو جواب سؤال كأنّه قيل : فما كان حال النّاس يومئذ؟ أو حال من فاعل يتعارفون بتقدير العائد ، أو متعلّق ليوم يحشرهم ، أو ابتداء كلام منقطع عمّا قبله والتّعبير بالماضي والحال انّ حقّه الإتيان بالمستقبل على غير الوجه الأخير لتحقّق وقوعه (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) ان نرك (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب والانتقام (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل الاراءة (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) لا يفوتون عنّا فلا تحزن على تأخير الانتقام (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) وللتّفاوت بين الاخبارين في الغرض المسوق له الكلام وهو تسليته أيضا أتى بثمّ والتفت تجديدا لنشاط السّامع حتّى يتمكّن في قلبه واشارة الى علّة الحكم كأنّه قال : ان نرك أو نتوفّك فلا تحزن لانّ مرجعهم إلينا فنجازيهم على سوء أعمالهم على انّ الله شاهد بالفعل على أعمالهم ومحيط بهم (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم الماضية (رَسُولٌ) من الله اعمّ من الرّسول الموحى اليه أو وصيّه وعلى هذا فقوله (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) مبتن على تصوير الحال

٣٠٤

الماضية حاضرة أو على كون إذا للزّمان الماضي وهذا على كون الآية تسلية للرّسول (ص) بتذكّره (ص) حال الأنبياء الماضين ، أو لكلّ أمّة من الأمم الماضية والآتية رسول من الله نبىّ أو خليفته فاذا جاء رسولهم فكّذبوه (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الرّسول والامّة أو بين أمّة الرّسول (ص) باهلاك الامّة وإنجاء الرّسول (ص) ، أو إهلاك المكّذبين وإنجاء الرّسول والمصدّقين ، أو إذا جاء رسولهم يحاكم بينهم بالحقّ ولم يهملوا كما كانوا من قبل مجيء الرّسول (ص) (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) باهلاك المستحقّ للنّجاة وإنجاء المستحقّ للهلاك أو بالمحاكمة بينهم بهوى النّفس وأغراضها ، أو المعنى لكلّ أمّة رسول من الأنبياء أو خلفائهم هو شاهد عليهم فاذا جاء رسولهم يوم القيامة للشّهادة عليهم وشهد عليهم قضى بين الامّة بالقسط بإدخال من كان أهلا للجحيم فيها ومن كان أهلا للنّعيم في الجنّة ، وعن الباقر (ع) تفسيرها في الباطن انّ لكلّ قرن من هذه الامّة رسولا من آل محمّد (ص) (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) وعد مجيء الرّسول (ص) في القيامة أو وعد العذاب الّذى كان الرّسول يوعدهم به أو وعد القيامة الّتى كان الرّسول يذكرها لهم استبطأوا الموعود استهزاء (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فكيف أملك لغيري اقامة القيامة أو الإتيان بالعذاب (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء من ضرّا ونفعا أو استثناء منقطع بمعنى لكن ما شاء الله يقع (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) مقول لقوله (ص) أو ابتداء كلام من الله وعلى اىّ تقدير فهو جواب لسؤال مقدّر والمعنى لكلّ أمّة من أمم الرّسل (ع) مدّة لإمهالهم أو وقت معيّن لعذابهم (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) اى انقضى مدّتهم أو أتى وقت عذابهم بالإهلاك في الدّنيا أو بالعذاب في الآخرة وإذا جاء أجلهم على تضمين التّقدير حتّى لا ينافر مع قوله لا يستقدمون اى إذا قدّر مجيء أجلهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) لا يتأخّرون ولا يتقدّمون على وقت الأجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) من الرّأى بمعنى الاعتقاد (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) يترائى انّ التّقييد بهما تطويل حيث انّه يستفاد من الإتيان لكنّه أطناب مستحسن لانّه تكميل لسابقه ورفع لتوهّم اختصاص العذاب بالإتيان في وقت مخصوص فالمقصود من ذكر الظّرف اطلاق الحكم لا تقييده (ما ذا) اىّ شيء أو ما الّذى (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) من العذاب (الْمُجْرِمُونَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة التّهويل والإنكار وتفضيحا لهم بذمّ آخر والاستفهام الاوّل على حقيقته للاستخبار بحسب أصل المعنى والّا فهو مع الفعل بمعنى أخبروني والاستفهام الثّانى للإنكار والتّهويل متعلّق بأرايتم والفعل معلّق بسبب الاستفهام والمعنى أخبروني بجواب هذا السّؤال وجملة الشّرط محذوفة الجواب معترضة بينهما وهذا انكار لاستعجالهم العذاب المستفاد من قولهم : متى هذا الوعد؟ (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) الاستفهام مع العاطف على التّقديم والتّأخير والاستفهام للتّقرير والإتيان بثمّ للتّفاوت بين الاستفهامين فانّ الاوّل للإنكار والثّانى للحمل على الإقرار والمعنى اثمّ إذا ما وقع العذاب حين ظهور القائم (ع) في الكبير أو الصّغير أو حين الموت أو حين بأس علىّ (ع) بعد محمّد (ص) وقد أشير الى الكلّ في الاخبار (آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) تؤمنون بتقدير القول الى يقال : آلآن جملة مستأنفة أو مقولا لهم آلآن مفردا حالا (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) استهزاء لعدم اعتقادكم به (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) العذاب

٣٠٥

أو ولاء علىّ (ع) كما في الاخبار (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) جاعلين الله أو عليّا (ع) عاجزا عن نفاذ حكمه (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ) في حقّ الله أو حقّ محمّد (ص) وآل محمّد (ص) (ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) عن نفسه من هول العذاب وشدّته (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) كراهة شماتة الأعداء كما في الخبر أو خوف اطّلاع ملائكة العذاب أو اطّلاع الله على ندامتهم النّاشئة عن اعترافهم بالظّلم فانّهم يحلفون لله كما يحلفون لكم على انكار الظّلم والذّنب (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين المؤمنين والمنافقين أو بين الظّالمين والمظلومين (بِالْقِسْطِ) بإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وكلّ ذي عقوبة عقوبته (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بمنع الحقّ وعقوبة غير المستحقّ وبنقص الحقّ وزيادة العقوبة (أَلا إِنَّ لِلَّهِ) مبدء ومرجعا وملكا (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيفعل ما يشاء بمن يشاء من غير مانع من حكمه ولا رادّ من فعله (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالعذاب والثّواب (حَقٌ) لا خلف فيه من قبله كما لا مانع له من غيره ولمّا كان الجملتان لتسجيل عقوبة المنافقين وكان التّأكيد بعد ذمّهم مطلوبا أتى في الجملتين بأداة الاستفتاح ومؤكّدات الحكم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم صفة العلم ، فانّ العلم هو الإدراك الّذى يحرّك صاحبه من السّفل الى العلو ، وبعبارة اخرى هو الإدراك الّذى يحصل لصاحبه حالكونه في السّلوك الى الله ولا محالة يشتدّ كلّ يوم وكلّ آن ويستلزم ذلك الإدراك العمل بموجبه وحصول علم آخر له بآخرته ويحصل له ازدياد علم بالله وقدرته واحاطته ، وهذا العلم غير حاصل لمن أنكر الآخرة قالا كاهل بعض المذاهب أو حالا كأكثر المنتحلين للملل الحقّة فهم غير عالمين وان كانوا عالمين بجميع الفنون والصّناعات ، وللغفلة عن حقيقة العلم سمّى ادراكاتهم أشباه النّاس علوما ؛ وفي الخبر قد سمّاه أشباه النّاس عالما وقد حقّقنا ذلك في اوّل البقرة عند قوله : (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وفي الرّسالة المسمّاة ب «سعادت نامه» وعلى هذا فالتّقييد بالأكثر للاشعار بانّ اقلّهم ما أبطلوا علمهم الفطرىّ الّذى أعطاهم الله وبقي فيهم شيء منه محجوبا احتجابا عرضيّا (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تأكيد لقوله انّ لله ما في السّماوات والأرض ولذا لم يأت بالعاطف أو جواب لسؤال مقدّر أو حال والأحياء والامانة اشارة الى مالكيّته والرّجوع اليه اشارة الى مرجعيّته (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) دعوة من الشّرور الى الخيرات (مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) من وساوس الشّيطان ولمّات النّفس واهويتها لمن استشفى به (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) والمراد القرآن فانّه موعظة وشفاء وهداية ورحمة أطلق الاوّلين لانّ الموعظة عامّة لمن اتّعظ ومن لم يتّعظ وكذا الشّفاء لكن لا ينتفع بهما الّا من اتّعظ واستشفى ، وقيّد الثّانيّين لاختصاصهما بالمؤمنين وعدم تعلّقهما بغيرهم وحقيقة الموعظة هي الرّسالة وأحكامها لتعلّقها بالقوالب والظّواهر وعمومها لكلّ الخلق ، وحقيقة الشّفاء النّبوّة لتعلّقها بالصّدور وعمومها أيضا وحقيقة الهدى والرّحمة الولاية لانّ الرّسالة والنّبوّة سبب لا يقاظ الخلق من الغفلة وتنبيههم على الحيرة والضّلالة ليس فيهما من حيث أنفسهما هداية ولا رحمة ، والولاية سبب لاراءة الطّريق وإيصال الضّالّ المتحيّر بعد تنبّهه بضلاله وتحيّره الى الطّريق ، وبعد الوصول الى الطّريق موجبة لنزول الرّحمة آنا فآنا عليه ، ولمّا كان القرآن صورة للكلّ صحّ جعل الأوصاف كلّها أو صافا له فصحّ التّفسير بالقرآن ، كما صحّ جعل الأوصاف لموصوفات متعدّدة كما ذكرنا والتّفسير بها

٣٠٦

(قُلْ) تبجّحا وسرورا (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) قد مرّ مرارا انّ فضل الله هو الرّسالة والنّبوّة اللّتان هما صورة الولاية والرّحمة هي الولاية ، ولمّا كان النّبوّة والولاية من شؤن النّبىّ (ص) والولىّ (ع) ومتّحدتان معهما صحّ تفسيرهما بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) (فَبِذلِكَ) الفاء للعطف واسم الاشارة اشارة الى المذكور من الفضل والرّحمة ولمّا كان التّبجّح مقتضيا لتطويل ما يتبجّح به وتكريره والمبالغة فيه أتى بالفاء العاطفة لما بعدها على مغاير الدّالة على تعقيب ما بعدها لما قبلها بين المتّحدين اشارة الى انّ ما بعدها وان كان متّحدا مع ما قبلها لكنّه مغاير له باعتبار المبالغة والاشتداد في الدّاعى للكلام ، وهو التّبجّح أو الغرض المسوق له الكلام وهو أيضا فرح المبشّرين فكأنّه عطف مغايرا بالّذات ولذلك الاقتضاء كرّر الجارّ (فَلْيَفْرَحُوا) هذه الفاء امّا زائدة أو بتوهّم امّا أو بتقديره أو عاطفة على محذوف مفسّر بما بعدها وهو أبلغ كلام في الدّلالة على اشتداد تبجّح المتكلّم وعلى المبالغة في المقصود (هُوَ) اى المذكور من الفضل والرّحمة وأتى باسم الاشارة والضّمير مفردين للاشارة الى اتّحادهما حقيقة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) من صورة القرآن فانّها ممّا يجمعونه بأيديهم ثمّ يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله لجمعهم ايّاها وتصرّفهم فيها بآرائهم الفاسدة بخلاف الفضل والرّحمة فانّهما لا قدرة لهم على التّصرّف فيهما لانّهما ممّا لا يمسّه الّا المطهّرون أو ممّا يجمعون من حطام الدّنيا (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) ما استفهاميّة للتّعجيب اشارة الى شرافته وعظمته في نفسه ومن حيث انتسابه الى الله والى كثرته وتوطئة لذمّ التّصرّف فيه بالأهواء وحينئذ فأرأيتم استفهام واستخبار مستعمل بمعنى أخبروني كسابقه أو هو بمعنى أعلمتم والاستفهام للتّعجيب أو للإنكار أو للتّقرير وقوله الله اذن لكم يكون مستأنفا أو لفظة ما شرطيّة وقوله : فجعلتم جزاءه بتقدير قد على القول بلزوم قد في الجزاء إذا كان ماضيا لفظا ومعنى ولذا دخل الفاء وأرأيتم حينئذ بمعنى أخبروني أو للتّعجيب أو للإنكار التّوبيخىّ ، وعلى التّقادير فالفعل معلّق عن جملة ما انزل الله أو لفظة ما موصولة مفعولا اوّلا لرأيتم والمفعول الثّانى محذوف اى كذلك أوءالله اذن لكم والفعل معلّق عنه ولفظة قل تأكيد للفظ قل الاوّل ، والمراد بانزال الرّزق في الرّزق الصّورىّ النّباتىّ إنزال أسبابه وفي الرّزق المعنوىّ الانسانىّ إنزال حقيقته ، فانّ رزق الإنسان وهو العلوم والأخلاق الحسنة تنزل بحقائقها من سماوات الأرواح ولفظ لكم للاشعار بانّ الغرض انتفاعكم ومن الانتفاع يستنبط حلّيّته (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) بما اسّستم بجعلكم من حرمة بعض الانعام مطلقا وحرمة بعضها على بعض من افراد الإنسان وحرمة شيء من الحرث وغير ذلك وبما تقوّلتم من عند أنفسكم من حرمة علم أنتم جاهلوه لكونكم أعداء لما تجهلون ، كتحريم بعض المتشبّهين بالفقهاء ومنعه عن مثل علم الكلام والهيئة ، وكمنع المتفلسفة عن الحكمة الحقيقيّة والعلوم الشّرعيّة ما سوى اصطلاحاتهم واقيستهم المأخوذة من أسلافهم ، وكتحريم المتصوّفة ما سوى مأخوذاتهم من اقرانهم ، وامّا العالم الحقيقىّ فانّه لجامعيّته لا يقول بحرمة شيء من ذلك بل يقول بحلّيّة الجميع بشرط كون الأخذ على اتّباع وتقليد من الأنبياء (ع) وأوصيائهم ونوّابهم وكان الأخذ بإذن منهم فيقول : جملة العلوم إذا أخذت من أهلها وعلى وجهها فهي محلّلة وإذا لم تؤخذ من أهلها أو لا على وجهها فهي محرّمة ، ويقول الحلال ما احلّه الله والحرام ما حرّمه الله والمبيّن هو النّبىّ (ص) أو من كان مأذونا منه بلا واسطة أو بواسطة ، فانّ الاذن والاجازة كما يصحّح العمل

٣٠٧

يصحّح العلم ويجعل الظّنّ قائما مقام العلم بل أشرف منه كما مضى ؛ ولذلك قال تعالى (قُلْ آللهُ أَذِنَ) بلا واسطة أو بواسطة (لَكُمْ) في التّحليل والتّحريم باىّ نحو شئتم أو في خصوص تحليل أشياء خاصّة وتحريم أشياء خاصّة والاذن اعمّ من ان يكون بتكليم الله بلا واسطة أو بواسطة الملك وحيا أو تحديثا أو بواسطة خلفائه البشريّة (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في ادّعاء الاذن أو في نسبة التّحليل والتّحريم الى الله ، ولمّا كان الحلال ما احلّه الله والحرام ما حرّمه الله لا غير فمن قال بالتّحليل والتّحريم بإذن الله فحلاله حلال الله وحرامه حرام الله ، ومن لم يقل بإذن الله فتحليله وتحريمه افتراء على الله سواء ادّعى الاذن في ذلك وقال برأيه أو ادّعى نسبة ذلك الى الله وادّعى أنّه مبيّن لحكم الله أو لم يدّع شيئا من ذلك ، لانّه قال فيما هو مختصّ بالله والقول فيما هو مختصّ بالله لا يكون الّا من ادّعاء الاذن فيه أو ادّعاء نسبته اليه تعالى وانّه مبيّنه فالمنفصلة حقيقيّة ، فاذا كان عدم الاذن معلوما فالافتراء محقّق ولذا عقّبه بتهديد المفترين ، فمن ادّعى تبليغ الأحكام القالبيّة كما هو شأن علماء الشّريعة رضوان الله عليهم أو تبليغ الأحكام القلبيّة كما هو شأن علماء الطّريقة رضوان الله عليهم ولم يكن مأذونا من الله بواسطة خلفائه كان مفتريا ومصداقا لقوله تعالى : ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين ، ولذا كانت سلسلة الاجازة منضبطة متّصلة من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) وبعده الى زماننا هذا بين الفقهاء خلفائه كان مفتريا ومصداقا لقوله تعالى : ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين ، ولذا كانت سلسلة الاجازة منضبطة متّصلة من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) وبعده الى زماننا هذا بين الفقهاء رضوان الله عليهم ومشايخ الصّوفيّة (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ظرف مستقرّ حال من لفظة ما فانّه مفعول للظّنّ معنى وفي معنى الحدث ، وامّا تعلّقه بالظّنّ فانّه يفيد خلاف المقصود لانّ المقصود تهديدهم على اعتقادهم الحاصل المستتبع لاعمال منافية لاعتقاد الجزاء يوم القيامة ، وتعلّقه بيفترون أيضا مفسد للمعنى والمعنى ، اىّ جزاء مظنون الّذين يفترون على الله حالكونه ثابتا يوم القيامة؟ أو ظرف لغو بتقدير في أو اللّام ومتعلّق بالظّنّ أو بيفترون والمعنى ، اىّ شيء ظنّ الّذين يفترون في حقّ يوم القيامة أو ليوم القيامة؟ وقرئ ظنّ بلفظ الماضي وهذه الكلمة في المبالغة والتّشديد في التّهديد صارت كالمثل في العرب والعجم ، ولمّا بالغ في التّهديد في المتصرّفين بآرائهم في احكام الله وقل من ينفكّ عن التّصرّف في احكام الله قالا أو حالا في الصّغير أو في الكبير وصار المقام قريبا من مقام اليأس والمطلوب مزج الخوف مع الرّجاء حتّى لا يترك العاصي الاستغفار ولا يغترّ الرّاجى ، فرض سؤالا عن فضله تعالى ورحمته فأجاب بقوله (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) ما يتفضّل به عليهم وبعضهم يكفرون والاقلّ منهم يشكرون (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الشّأن عبارة عن مراتب الإنسان ومقاماته الحاصلة في الكامل والمكمونة في النّاقص والأحوال الطّارية له بحسب مقاماته (وَما تَتْلُوا مِنْهُ) من الكتاب أو من الشّأن أو من الله (مِنْ قُرْآنٍ) تخصيص الخطاب في هاتين الفقرتين به (ص) لاختصاص تلاوة القرآن من الله أو من الشّأن واختصاص ابتداء التّلاوة من الكتاب واختصاص الاستشعار بالشّؤن والمراتب به بخلاف العمل (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) تشريك للخطاب أو صرف للخطاب عنه (ص) إليهم لانّ شهود اعماله الجليّة مستفاد من شهود شؤنه الخفيّة (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداًإِذْتُفِيضُونَ) تخوضون (فِيهِ وَما يَعْزُبُ) وما يفقد (عَنْ رَبِّكَ) عن تصرّفه أو عن علمه أو عن ذاته (مِنْ) ذات (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) على الاوّلين أو من علم مثقال ذرّة على الأخير ، والّذرّة النّملة الصّغيرة ومائة منها زنة حبّة من الشّعير (فِي الْأَرْضِ) تقديم الأرض لكونها اهمّ في مقام بيان سعة علمه لانّ الأرض ابعد الأشياء منه وما فيها أخفى الأشياء لانّ كلّا منها في الغيبة

٣٠٨

بالنّسبة الى غيره بخلاف السّماء والسّماويّات سواء أريد بها سماء عالم الطّبع أو سماوات الأرواح (وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) لمّا كان المقام للمبالغة في سعة علمه كان التّأكيد والتّكرير مطلوبا ولذا اكّد مثقال ذرّة فانّه صار كالمثل إذا وقع بعد النّفى في المبالغة في الشّمول ولا أصغر مع ما بعده جملة معطوفة على جملة ما يعزب ولا لنفى الجنس مركّبة مع اسمها و (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) خبرها ومن قرأ بالرّفع فلا عاملة عمل ليس أو ملغاة عن العمل بالتّكرير ، ويحتمل العطف على لفظ مثقال على قراءة الفتح وعلى محلّه على قراءة الرّفع وحينئذ يكون الاستثناء منقطعا (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) جواب لما ينبغي ان يسأل عنه من انّه هل يبقى أحد بلا خطر (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى بيان الخوف والحزن ووجه انتفائهما عن الأولياء ووجه اختلاف المتعاطفين في طريق التّأدية (الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة والدّخول في امر الائمّة ودخول الايمان في قلوبهم لا من قبل الدّعوة الظّاهرة وبايع بالبيعة العامّة النّبويّة ودخل في الإسلام من دون الدّخول في الايمان (وَكانُوا يَتَّقُونَ) غيّر الأسلوب للاشارة الى انّ الايمان امر يحصل بمحض البيعة الولويّة وامّا التّقوى الخاصّة فهي لا بدّ منها الى تمام مراتب الفناء والحشر الى الرّحمن بحيث تصير للمؤمن كالسّجيّة والموصول امّا صفة بيانيّة لأولياء الله ولذا اخّره عن الخبر أو خبر لمبتدء محذوف أو منصوب بفعل محذوف أو مبتدء خبره (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) اعلم ، انّ الولىّ يطلق على معان منها المحبّ والصّديق والقريب بمعنى ذي القرابة والقريب ضدّ البعيد ومنها النّصير والولىّ في التّصرّف بمعنى الاولى بالتّصرّف والسّلطان والمالك ، وولىّ الله قد يطلق ويراد به من قبل الدّعوة الباطنة ودخل الايمان في قلبه بالبيعة الخاصّة الولويّة باعتبار الصّنف الاوّل من معانيه ، وقد يطلق ويراد به الولىّ من الله باعتبار الصّنف الثّانى من معانيه والأولياء بالإطلاق الثّانى هم الأنبياء وأوصياؤهم الكاملون المكمّلون ، وبالإطلاق الاوّل شيعتهم واتباعهم الّذين قبلوا ولايتهم ، ولهم مراتب من اوّل دخولهم في الايمان وتدرّجهم في مدارج التّقوى والإيقان الى ان انتهوا في التّقوى الى فنائهم من ذواتهم بحيث تحقّقوا في المحبّة وكانوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم وكلّما ازداد مراتب تقواهم ومحبّتهم كان اطلاق الأولياء عليهم اولى ، ولذلك اختلف الاخبار في تفسير أولياء الله وكذا في تفسير بشريهم في الدّنيا بانّها الرّؤيات الحسنة الّتى يراها المؤمن أو يراها غيره له وبأنّها تحديث الملائكة مطلقا أو تبشيرهم عند الموت أو تبشير محمّد (ص) وعلىّ (ع) لهم عند الموت (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) تأكيد لتحقّق البشرى لهم (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اى كونهم مبشّرين مع عدم تبدّله (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فيك وفي اتباعك وهو عطف على مقدّر تقديره إذا كان الأولياء (ع) يعنى أنت واتباعك حالهم هكذا فلا تبال بالمكّذبين ولا يحزنك قولهم (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) تعليل للنّهى (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) جواب سؤال كأنّه قيل : هل يسمع أقوالهم ويعلم أحوالهم؟ ـ فأجاب بالحصر (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) تأكيد لعزّته ولذا لم يأت بالعاطف واكّده وتمهيد بمنزلة التّعليل لقوله (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ) تأكيد للاوّل على ان يكون ما نافية وقوله (إِلَّا الظَّنَ) استثناء من ما يتّبع أو قوله ان يتّبعون مستأنف

٣٠٩

والاستثناء منه وما في ما يتّبع استفهاميّة أو موصولة معطوفة على من في السّماوات أو نافية أو المفعول محذوف اى ما يتّبعون حجّة وبرهانا (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يكذبون أو يقولون بالظّنّ وعليه فالاوّل لبيان انّ فعلهم عن الظّنّ والثّانى لبيان انّه قولهم عن الظّنّ وقد مضى انّ ادراك النّفس للأشياء يسمّى ظنّا سواء كان شهودا أو يقينا أو ظنّا لكون معلومها مغاير لإدراكها كالظّنّ ، فانّه مغاير للمظنون على انّها لكونها سفليّة إدراكها للأشياء يكون على غير وجهها وعلى غير ما هي عليه ، فإدراكها لها امّا مخالف لما هو واقعها عند النّفوس فهو خرص وكذب أو موافق لما هو واقعها عندها لكن لا على وجهها وعلى ما هي عليه فهو ظنّ لانّ شأنه ان لا يكون إدراكا محاطا للمدرك على ما هو عليه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) لانتفاعكم (اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا) عن متاعب النّهار وكدّ طلب المعاش (فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) لتطلبوا أسباب معيشتكم وحقّ العبارة ان يقول والنّهار لتطلبوا فيه معايشكم بذكر ما هو غاية له مطابقا لذكر غاية اللّيل ، لكنّه اكتفى عن ذكر الغاية بذكر سببها افادة لها مع سببها وغيّر الأسلوب اشعارا بسببيّة النّهار للابصار ، لانّه أسنده الى النّهار بطريق المجاز العقلىّ فأفاد الغاية وسببها وسبب سببها بأوجز لفظ وهو مبصرا ، وتقديم اللّيل مع كون النّهار أشرف من وجوه عديدة لكونه عدميّا مقدّما بالطّبع على الوجودىّ الحادث ولكونه بحسب التّأويل مقدّما بالزّمان وبالطّبع في سلسلة الصّعود الّتى هي من مراتب وجود الإنسان ، ولانّ المقام مقام تعداد النّعم والاهتمام باللّيل في عدّة من النّعم أكثر لانّهم يعدّونه زوال النّعمة وبعد ما أسلفنا لك لا يعضل عليك تعميم اللّيل والنّهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) عظيمة حيث انّ مواليده عالم الطّبع موقوفة عليهما وعلى اختلافهما بالزّيادة والنّقيصة والبرودة والحرارة والظّلمة والاستنارة ففي خلقهما للمتدبّر آيات كثيرة دالّة على كمال قدرة الصّانع وعلمه وحكمته وفضله ورحمته (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ينقادون فانّه يكفى في ادراك آياتهما الانقياد للنّبىّ (ص) أو الامام (ع) وان لم يحصل بعد للمنقاد قلب أو عقل ، واستعمال السّماع والاستماع في الانقياد كثير (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) بعد ما ذكر سعة ملكه وانّ الكلّ مملو كون له وانّ اللّيل والنّهار الّذين هما عمدة أسباب دوران العالم وتعيّش ما فيه مجعولان له غير قديمين ، كما يقوله الدّهريّة والطّبيعيّة وغير مجعولين لغيره ذكر قولهم النّاشى من غاية حمقهم ، من انّ الله لاتّخذ لنفسه ولدا تسفيها لرأيهم حيث انّ اتّخاذ الولد بنحو التّوالد كما زعموه لا يكون الّا من المحتاج المحاط بالزّمان والمكان وهو تعالى فوقهما وجاعلهما (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) تعليل لنفى الولد والإنكار قولهم المستفاد من التّسبيح (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تعليل للغنى (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) ما عندكم حجّة مع هذا القول أو ملصق بهذا القول بعد ما ردّ قولهم بعدم جواز الولد له سبحانه ردّه بعدم الحجّة لهم اشعارا بلزوم أمرين في صحّة القول بشيء أحدهما إمكان ذلك الشّيء في نفسه والثّانى وجود حجّة للقائل على قوله وبانتفاء كلّ من الأمرين يكون ذلك القول كذبا ، ولذا وبّخهم على محض قولهم من غير علم وحجّة من دون التّعرّض لعدم جواز هذا القول على الله بقوله (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قولا مخالفا للواقع أو قولا بلا حجّة سواء كان مخالفا أم موافقا (لا يُفْلِحُونَ) لانّ الافتراء لا يكون الّا عن حكومة النّفس والشّيطان ومحكومهما من حيث انّه محكومهما لا سبيل للنّجاة له غاية ما يترتّب على محكوميّته وافترائه انّه يتمتّع في الدّنيا بما زيّنه النّفس والشّيطان

٣١٠

له ولذلك قال ذلك الافتراء (مَتاعٌ) اى سبب تمتّع (فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) تمهيد للتّهديد (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) تذكيرا وتهديدا لهم وتسلية لنفسك في تكذيبهم (نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) بمعنى الاقامة أو القيام أو مكان القيام (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) والمقصود انّه ان كان كبر عليكم كوني فيكم بالدّعوة فتريدون اجلائى أو دفعى عن الدّعوة أو إهلاكي (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أجمعت الأمر وعليه وجمعت عليه عزمت كأنّ الأمر قبل العزم كان متفرّقا وبالعزم تجمّعه وقرئ فاجمعوا من الثّلاثىّ المجرّد (وَشُرَكاءَكُمْ) قرئ بالضّمّ عطفا على ضمير الفاعل وقرئ بالنّصب عطفا على أمركم بلحاظ أصل معنى الجمع أو مفعولا معه أو مفعولا لمحذوف تقديره وادعوا شركاءكم وتحدّى معهم استظهارا بالله واطمينانا بنصرته (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) يعنى تدبّروا غاية التّدبّر في إجماع الأمر حتّى لا يبقى ضرّه ونفعه مستورا عليكم أو لا يصير عاقبته وبالا وغمّا لكم (ثُمَّ اقْضُوا) اقضوا الأمر المعزوم عليه (إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) بتضرّركم بدنياكم (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يعنى ان تولّيتم لكذبى وافترائى فقد تحديّت في غاية الاطمينان والكاذب لا يتحدّى كذلك وان تولّيتم لتضرّركم بدنياكم فما سألتكم من أجر فلا وجه لتولّيكم لا من جهة الدّنيا ولا من جهة الآخرة (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه (فَكَذَّبُوهُ) بعد إتمام الحجّة كما كذّبوه في اوّل الدّعوة (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) من أذى قومه أو من الغرق (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) في الأرض لنفسي أو للهالكين (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ) حتّى تتسلّى وتطمئنّ بنصرتنا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ثُمَّ بَعَثْنا) عطف باعتبار المعنى ومفاد المحكىّ كأنّه قال : بعثنا نوحا الى قومه ثمّ بعثنا (مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الدّالّات على صدقهم أو احكام النّبوّة المتعلّقة بالقالب دون القلب فانّها تسمّى بالبيّنات كما انّ احكام القلب تسمّى بالزّبر (فَما كانُوا) ثابتين (لِيُؤْمِنُوا) يعنى ما كان في سجيّتهم قوّة الايمان فكيف بفعليّته (بِما كَذَّبُوا بِهِ) بالرّسالة الّتى كذّبوها (مِنْ قَبْلُ) اى من قبل ان يبلغوا أو ان الرّشد وجواز وصول دعوة الرّسالة إليهم ، أو من قبل هذا العالم في عالم الّذرّ ، أو من قبل زمانهم باعتبار تكذيب أسلافهم للرّسل (كَذلِكَ) الطّبع الّذى طبعناه على قلوبهم (نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) تهديد لمكّذبى قومه (ص) (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا) التّسع (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) تفصيل لإجمال استكبارهم ولذلك عطف بالفاء (مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) انّه سحر بحذف المفعول أو أتعيبون الحقّ والاستفهام للإنكار (أَسِحْرٌ هذا) انكار لكونه سخرا (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حال على جواز الواو في الحال المبدوّة بالمضارع المنفىّ بلا ، أو بتقدير مبتدء (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) لتصرفنا

٣١١

(عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) اى السّلطنة في ارض مصر (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) تصريح بما أشعروا به في ضمن انكار صرفهم وكبريائهما من عدم انقيادهم لهما (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) ماهر (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ) وأمرهم فرعون بإتيان السّحر ودبّروا ما دبّروا وتهيّؤا لمعارضة موسى (ع) (قالَ لَهُمْ مُوسى) بعد ما خيّروه واختار موسى تقديمهم (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) ما مبتدأ وجئتم به صلته والسّحر خبره ، وقرئ السّحر بهمزة الاستفهام وحينئذ يكون ما استفهاميّة وجئتم به خبره والسّحر بدله والمعنى على الاوّل ما جئت به الهى وما جئتم به بشرى مبنىّ على الأعمال الدّقيقة الخفيّة أو شيطانىّ مبنىّ على تمزيج القوى الارضيّة مع الأرواح السّفليّة (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) التّكوينيّة من الآيات والمعجزات ولا سيّما الكلمات التّامّات من الأنبياء والأوصياء (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) اى جمع قليل من شبّان قوم موسى لقلّة مبالاتهم بتهديد فرعون أو من قوم فرعون بمقتضى شبابهم حالكون هؤلاء الشّبّان مع جرأتهم وعدم مبالاتهم مشتملين (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يعذّبهم بالبلايا بدل من فرعون وملائهم أو مفعول الخوف أو بتقدير لام التّعليل وجمع الضّمير في ملائهم امّا لتعظيم فرعون أو لانّ المراد من فرعون هو وخواصّة فانّه كثيرا ما يطلق اسم الرّئيس ويراد به الرّئيس واتباعه ، أو باعتبار رجوعه الى الذرّيّة سواء فسّر بذرّيّة من قوم موسى (ع) أو من قوم فرعون وعلى هذا يجوز ان يكون مفعول يفتنهم هو الملأ وعلى غير هذا الوجه فافراد الضّمير في يفتنهم للاشعار بانّ الخوف من ملأه كان بسببه وانّ الملأ كانوا لا حكم لهم بالاستقلال (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) لقاهر غالب عطف باعتبار المعنى كأنّه قال انّه ليفتنهم وانّه لعال أو حال ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بعلّة العلوّ لانّ اسم فرعون كان من القاب ملك مصر (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) اكتفى بالضّمير لانّ الإسراف لا يتوقّف على السّلطنة والمراد الإسراف في تعذيب قوم موسى (ع) (وَقالَ مُوسى) بعد ما رأى تعذيب فرعون لمن آمن به واضطرابهم من خوفه تسلية لهم وتقوية لقلوبهم بالتّوكّل على القادر القوىّ (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) أتى بأداة الشّكّ اشعارا بانّ الخوف والاضطراب يورث الشّكّ في الايمان أو اداة الشّكّ للتّهييج (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) لانّ الايمان يقتضي معرفته بانّه عليم بصير قادر رحيم بالمؤمنين وذلك يقتضي التّوكّل (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) منقادين جزاؤه محذوف بقرينة السّابق والتّقدير ان كنتم منقادين فان كنتم مؤمنين بالبيعة العامّة أو الخاصّة فعليه توكّلوا يعنى انّ التّوكّل يقتضي أمرين الانقياد والايمان بالبيعة العامّة النّبويّة أو بالبيعة الخاصّة الولويّة (فَقالُوا) اجابة له (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) متضرّعين قائلين (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) سبب فتنة وشقاء (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بان يبلغوا باستعبادنا وتعذيبنا غاية الغرور والشّقاء يعنى لو أردت بلوغهم غاية الشّقاء فاجعل سببه غير عذابا ، أو المراد لا تجعلنا محلّا لفتنتهم وعذابهم لنا (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر

٣١٢

للاشعار بذمّهم بجمعهم بين الكفر والظّلم (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) ان اتّخذا لهم (بِمِصْرَ بُيُوتاً) مبوّء ومرجعا يرجعون وقت العبادة إليها (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) المبنيّة للعبادة (قِبْلَةً) تتوجّهون إليها وقت العبادة بإقامة عبادتكم فيها أو بتوجّهكم وقت عبادتكم نحوها (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيها أو إليها ، وفي الاخبار ما يشعر بانّ البيوت المأمور باتّخاذها كانت مساجدهم وكانوا يجتمعون وقت العبادة إليها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بإجابة دعوتهم ونجاتهم ووراثتهم لملك مصرفى الدّنيا والجنّة في الآخرة ، في الخبر : انّ رسول الله (ص) خطب النّاس فقال ايّها النّاس انّ الله عزوجل امر موسى (ع) وهارون (ع) ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما ان لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيها النّساء الّا هارون وذرّيّته ، وانّ عليّا (ع) منّى بمنزلة هارون من موسى فلا يحلّ لأحد ان يقرب النّساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنبا الّا علىّ (ع) وذرّيّته فمن ساءه ذلك ، فههنا ، وضرب بيده نحو الشّام (وَقالَ مُوسى) متبتّلا الى الله داعيا على فرعون وقومه (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) من الحلىّ والملابس والمساكن واثاثها والمراكب (وَأَمْوالاً) من الّذهب والفضّة والضّياع والخيل والبغال والغنم والجمال (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا) تكرار النّداء لاقتضاء التّضرّع وحالة الدّعاء والمحبّة ذلك (لِيُضِلُّوا) النّاس (عَنْ سَبِيلِكَ) بطموح نظرهم الى الاعراض الفانية واتّباع من وجودها في يده (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) حتّى لا يفتتن النّاس بها لهم والطّمس المحق والافناء أصلا (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أوثق حبال القساوة على قلوبهم (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) عند الاحتضار ولا يؤمنوا مجزوم بلا أو منصوب بان مقدّرة دعاء عليهم بشدّ القلوب وعدم الايمان بعد ما علم انّهم لا خير فيهم ويئس من ايمانهم (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) ورد انّه كان بين دعائه (ع) ووعد اجابته وبين أخذ فرعون وقومه أربعون سنة (فَاسْتَقِيما) فيما أنتما عليه من الدّعوة ولا تضطربا بتأخير الوعد كالجهلة ، والاستقامة في الأمر عبارة عن التّمكّن فيه بحيث لا يخرجه منه مخرج (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) سبيل الجهلة من عدم الثّبات على امر (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ) اتبع بمعنى تبع أو بمعنى جعل غيره تابعا اى تبعهم أو اخرج النّاس في عقبهم (فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) بغى عليه بغيا عدا وظلم وعدل عن الحقّ واستطال وكذب ، وفي مشيه اختال ، وعدا ضدّ احبّ وعدا عليه ظلمه والاولى ان يكون الاوّل بمعنى الاستطالة والثّانى بمعنى الظّلم وتقدير الكلام اتبعهم فرعون اتباع بغى أو بغوا بغيا أو باغين وعادين أو للبغي والعدو (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ) قرئ بفتح الهمزة بتقدير الباء أو اللّام وقرئ بكسر الهمزة على الاستيناف (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) اطنب في الكلام حرصا على القبول وإظهارا لشدّة الالتجاء حين الاضطرار (آلْآنَ) فقيل له : آلآن آمنت وقد اضطررت والقائل كان جبرئيل (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) حين الاختيار (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) من الماء لا بروحك من العذاب يعنى نخرجك ببدنك من غير روح على نجوة من الأرض ليشاهدوك ويروا ذلك (لِتَكُونَ لِمَنْ

٣١٣

خَلْفَكَ) من القبطىّ الباقي بعدك أو السّبطىّ الّذى عظم شأنك في نظره وشكّ في انّك عظيم من عظماء الخلق (آيَةً) على كذبك وذلّك وكمال قدرتنا وحكمتنا إذا رأوا انّا أخذناك من حيث لم يكونوا يحتسبون لانّ القبطىّ وبعض السّبطىّ يظنّون انّ له عظما وشرافة وانّه لا يفعل به ما ينقص شأنه بل لا يموت (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) اى فانّا مظهرون للآيات وانّ كثيرا فهو عطف على محذوف أو عطف بلحاظ المعنى أو استيناف شبيه بالعطف (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) محلّ صدق أو هو مصدر ميمىّ والمراد بمحلّ الصّدق منزل لا يتأتّى فيه الّا الصّدق كالقلب والصّدر المنشرح بالإسلام المتعلّق بالقلب ، ومحلّ لا ينبغي ان يتأتّى فيه الّا الصّدق كمحلّ يكون ما يحتاج اليه اهله موجودا سهل الوصول من غير مزاحمة أحد ، فلا يكون فيه عداوة وحقد وحسد وتدافع وبخل ، وإذا لم يكن فيه هذه لم يكن فيه كذب لا يراث هذه المذكورات الكذب وإذا لم يكن كذب لم يكن الّا الصّدق ، والمراد بمبوء الصّدق مصر لوفور النّعمة فيها وعدم المزاحمة بعد هلاك أعدائهم أو شام كما قيل (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) الطّيّب من أرزاق الأبدان ما لا تبعة فيه من الأسقام وما لا تبعة فيه من الآثام مع كونه ملذّا للأنام ، ومن أرزاق الإنسان العلوم والأخلاق الّتى تكون مأخوذة من أهلها ومعتدلة بين الإفراط والتّفريط (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بحقّيّة موسى (ع) ودينه بالآيات الظّاهرات كما هو شأن أمّة كلّ نبىّ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) جواب سؤال مقدّر (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) برفع اغشية الخيال وظهور الحقّ والباطل ، والآية تعريض بأمّة محمّد (ص) في اختلافهم بعده وحين حيوته بعد ما أظهر وأعلى خلافة علىّ (ع) ، وعلى هذا فربط الآية الآتية بهذه الآية واضح لانّها مفسّرة بولاية علىّ (ع) (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) والمراد بما انزل خلافة علىّ (ع) أو ما اوحى اليه (ص) ليلة الإسراء من عظمة مقام علىّ (ع) كما في الخبر ولم يكن له شكّ لكنّه من باب ايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو الخطاب عامّ (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) قد مرّ مرارا انّ الحقّ المضاف هو الولاية المطلقة ومظهرها علىّ (ع) وكلّ حقّ حقّ بحقّيّته (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وأصل الآيات هي الآية الكبرى الّتى هي ولاية علىّ (ع) (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) لانفاقك في ردّ الآيات بضاعتك الّتى آتاك الله لتنفقه في تصديق الآيات (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) تعليل للسّابق والمعنى لا تكن من الممترين الغير المؤمنين لانّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك (لا يُؤْمِنُونَ) لا من هو مثلك وأصل الكلمات هي الولاية وهي واحدة كسائر صفاته تعالى وأفعاله وكلّ الكلمات من العقول والنّفوس والأشباح النّوريّة والأشباح الظّلمانيّة والعبارات والنّقوش الكتبيّة اظلال تلك الكلمة وتلك الكلمة تختلف بحسب القوابل ففي قابل تصير رضى ورحمة رحيميّة وفي قابل سخطا وكلّ منهما امّا تحقّ وترسخ للقابل أو عليه وامّا لا تحقّ ، والّذى حقّت له كلمة الرّضا لا ينصرف عن الايمان والّذى حقّت عليه كلمة السّخط لا ينصرف عن الكفر ، والمعنى لا يؤمنون بالله أو بالولاية أو بعظمة شأن علىّ (ع) أو بالرّسالة أو بك (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) من الآيات المقتضية للايمان (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ

٣١٤

الْأَلِيمَ) عند الاحتضار ولا ينفع حينئذ نفسا ايمانها (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) جزاء شرط مستفاد من تعقيب عدم الايمان بالعذاب الأليم كأنّه قال إذا كان عدم الايمان مستلزما لاليم العذاب فلو لا كانت قرية آمنت (فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء باعتبار معنى النّفى لا التّقريع (لَمَّا آمَنُوا) جواب سؤال كأنّه قيل: ما كان حال قوم يونس؟ وما فعل بهم؟ أو حال من قوم يونس (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) الخزي الفضيحة فالاضافة بتقدير اللّام أو البليّة فالاضافة بيانيّة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) حين آجالهم المقدّرة وقصّة قوم يونس (ع) وإنكارهم عليه ودعائه عليهم ومسألته نزول العذاب وعدم اجابة الله له ومراجعته في ذلك مرارا ، حتّى أجابه الى ذلك ومشورته بعد ذلك مع تنّوخا العابد وتصديقه وتحريصه له (ع) على ذلك ، لعدم علمه ومشورته مع روبيل الحكيم وعدم تصديقه له وسؤاله عند المراجعة في دفع العذاب وردّ تنّوخا عليه ، وفراره من القوم مع تنّوخا واقامة روبيل فيهم وترحّمه عليهم ودعائه لهم الى التّوبّة وتعليم طريق التّوبة لهم وكشف العذاب وفرار يونس بعد كشف العذاب وابتلائه ببطن الحوت وعوده الى قومه مذكورة في المفصّلات (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) مصدّقين لك أو للرّسالة أو لعلىّ (ع) أو للولاية أو لله أو مؤمنين بالايمان العامّ الحاصل بالبيعة العامّة النّبويّة أو بالايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة ، يعنى انّ الايمان بأىّ معنى كان لا يمكن إكراه البشر أحدا عليه لانّ إكراه البشر لا يتجاوز عن حدّ القالب والايمان امر قلبيّ ، فالاكراه يتحقّق في انقياد السّلطنة وصورة البيعة العامّة والدّخول في احكام الرّسالة يعنى من كان مسخّرا ومحيطا يمكنه إكراه المحاط لكن لا يسمّى ذلك اكراها بل تسخيرا ، وتقديم المسند اليه لافادة الحصر ان أريد انّ مثلك البشرىّ لا يمكنه الإكراه بخلاف الملكوتيّين أو لمحض افادة تقوىّ الحكم (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) الجملة حاليّة أو مستأنفة والاوّل أوفق بترتّب الإنكار على تعليق الايمان على المشيّة (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) حقّ المقابلة ان يقال ولا ان تكفر الّا بإذن الله لكن لمّا كان الايمان هو الدّخول في حريم قدسه تعالى كان موقوفا على اذنه ، والكفر لمّا كان عدم الدّخول لم يكن موقوفا على اذنه بحسب الظّاهر ولمّا كان تبعة الكفر بفعل الله جعل الرّجس الّذى هو تبعة الكفر الى نفسه (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات الدّالّة على كمال قدرته تعالى وحكمته حتّى توقنوا به وتؤمنوا والاستفهام للتّعجيب والتّفخيم (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) امّا من كلام الله أو محكىّ بالقول وعلى اىّ تقدير فما نافية والجملة معطوفة على محذوف مؤلّف معه قياس من الشّكل الاوّل تقديره لكنّهم قوم لا يؤمنون وكلّ قوم لا يؤمنون لا تغني الآيات والنّذر عنهم ، ويجوز ان يكون الجملة حاليّة عن فاعل قل أو عن فاعل انظروا أو مفعوله وتكون مشيرة الى القياس المذكور ويجوز ان يكون ما استفهاميّة معطوفة مع ما بعدها على ما ذا في السّموات أو تكون الجملة حاليّة بتقدير القول (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا) مضوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) جواب شرط محذوف اى ان كانت الآيات لا تغني عنهم ، أو عطف على محذوف اى هل

٣١٥

يرجون الّا عقوبة الله ، أو عطف على ما تغني الآيات باعتبار انّ معناه ما ينتظرون ، أو بتقدير القول اى فيقال لهم هل ينتظرون ، أو باعتبار كون ما استفهاميّة (قُلْ فَانْتَظِرُوا) امر للتّهكّم (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على محذوف تعليل للأمر بالتّحدّى معهم تقديره فانّا ننزّل العذاب على المكذّبين ثمّ ننجّى رسلنا والّذين آمنوا (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا) كذلك متعلّق بالفعل الآتي وحقّا علينا مفعول مطلق لحقّ محذوفا معترض بينهما (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) لمّا كان المقام لتقريع المكذّبين والمقصود بالوعد زيادة حسرتهم وتجرئة نبيّه (ص) والمؤمنين في التّحدّى معهم صار التّأكيد والتّكرار مطلوبا ولذلك كرّر الإنجاء بالنّسبة الى المؤمنين مؤكّدا بحقّا (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعنى بعد ما بعثتك بالنّبوّة فأعلن دينك ولا تخف منهم ولا تخف دينك وان كنت قبل ذلك خائفا خافيا (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) التّعليق على التّوفّى المتعلّق بهم لتهديدهم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بكلّ من معاني الايمان (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) عطف على ان أكون وغيّر الأسلوب اشارة الى انّه مأمور بالثّبات في الايمان وادامته وامّا اقامة الوجه للدّين فانّ الثّبات والدّوام فيه للبشر غير مقدور لضرورة اشتغاله بالكثرات ، والاشتغال بالكثرات وان كان لمن لا يشغله شأن عن شأن غير مانع من اقامة الوجه للدّين لكنّه للاكثر مانع ولمن لا يشغله شأن عن شأن أيضا مانع من قوّة الاقامة وكمالها ، وان ، في ان أقم مصدريّة أو تفسيريّة وعلى المصدريّة فالإتيان بالأمر على حكاية حال الأمر والخطاب (حَنِيفاً) حال عن فاعل أقم أو عن الدّين (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بجملة أنواع الشّرك (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) من الأصنام والكواكب والأهواء والمهويّات ومن نصب دون الامام فانّ شيئا من هذه لا يقدر على نفع وضرّا الّا بإذن الله وإذا لم يتصوّر في المدعوّ نفع وضرّ كان دعاؤه لغوا وهذا على ايّاك أعنى واسمعي يا جارة ، أو صرف الخطاب عنه الى غير معيّن (فَإِنْ فَعَلْتَ) الفاء للسببيّة المحضة (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) حال أو عطف فيه معنى التّعليل (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) اختلاف القرينتين للدّلالة على تفاوتهما في الارادة كأنّ الضّرّ يمسّ الإنسان بفعله من غير ارادة الله وان كان الفاعل هو الله لانّه غير مراد بالّذات وانّ الخير بإرادة الله كما قال تعالى (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ووضع فضله موضع ضمير الخير للاشارة الى ما قلنا من انّ الشّرّ غير مراد بالّذات ويلحق العبد بعمله وانّ الخير مراد بالّذات كأنّه يلحق العبد بمحض الفضل من دون استحقاق بالعمل (يُصِيبُ بِهِ) بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) عطف على يصيب والمقصود انّه لا يمسّ الضّرّ أكثر المستحقّين لانّه هو الغفور الرّحيم فوضع موضع المعلول (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) قد مرّ مرارا انّ الحقّ هو الولاية وانّ كلّ حقّ حقّ بحقّيّته وانّ عليّا هو مظهرها التّامّ ، فالمراد جاءكم علىّ (ع) باعتبار

٣١٦

ولايته أو ولاية علىّ (ع) أو الولاية المطلقة ومظهرها علىّ (ع) ويدلّ على هذا قوله تعالى (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لانّ الاهتداء ليس الّا الى الولاية فانّ النّبوّة ما به الهداية كما قال الله تعالى (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ) بالإسلام للايمان (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) حتّى أجبركم على الولاية وأمنعكم عن الضّلالة (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) جملة ما يوحى إليك ومنها الولاية أو ما يوحى إليك في امر الولاية بخصوصه واتّباع ما يوحى في امر الولاية امتثال بتبليغها وعدم الخوف من القوم ولذا أمره بالصّبر فقال (وَاصْبِرْ) على أذاهم ونفاقهم (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بينك وبين من نافق في امر علىّ (ع) (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

٣١٧

سورة هود

مائة وثلاث وعشرون آية وهي مكّيّة كلّها وقيل : سوى آية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) ؛ فانّها مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر) قد سبق انّها اشارة الى مراتب العالم أو مراتب وجوده (ص) ولذلك ورد : انّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أسماؤه ، ومضى انّه في حال انسلاخه يشاهد من تلك الحروف ما لا يمكن التّعبير عنه الّا بالمناسبات وانّ مراتب العالم أو مراتب وجوده (ص) كتاب حقيقىّ تكوينىّ وانّ الكتاب التّدوينىّ صورة تلك الكتاب (كِتابٌ) خبر للحروف المقطّعة أو خبر مبتدء محذوف (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) في مقامه العالي من مراتب العقول المعبّر عنها بالأقلام وفي مراتب النّفوس الكلّيّة المعبّر عنها بالالواح العالية ، واللّوح المحفوظ واحكام الآيات في تلك المراتب عبارة عن عدم الخلل والبطلان والتّغيير والنّسخ فيها فانّه في تلك المراتب لا يمسّه الّا المطهّرون ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو في تلك المراتب محفوظ عن التّشابه بالباطل وبكلام غير الحقّ تعالى وهو فيها بنحو الإجمال من غير تفصيل (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بعد تلك المراتب في مراتب النّفوس الجزئيّة المعبّر عنها بالالواح الجزئيّة وكتاب المحو والإثبات ثمّ في مراتب الأعيان المعبّر عنها بكتاب المحو والإثبات العينىّ ثمّ في مرتبة الأصوات والحروف ثمّ في مرتبة الكتابة والنّقوش ، وليست آيات الكتاب في تلك المراتب محكمات لتطرّق المحو والإثبات والنّسخ والتّبديل إليها ويتشابه حقّها بباطلها لتشابه المظاهر الشّيطانيّة بالمظاهر الإلهيّة وتشابه الأعمال والأقوال والأحوال والأخلاق ، فانّ المظاهر الشّيطانيّة يعملون أعمالهم الشّيطانيّة بصور الأعمال الالهيّة ثمّ يقولون هي بأمر الله والحال انّها بأمر الشّيطان ويحسبون أنّهم يحسنون صنعا ، ويقرؤن الآيات القرآنيّة بألسنتهم وهي ألسنة الشّيطان ويكتبون الآيات التّدوينيّة بأيديهم وهي أيدى الشّيطان ثمّ يقولون : هو من عند الله وما هو من عند الله ، بل من عند الشّيطان غاية ما فيه انّها مشابهة لما هو من عند الله صورة (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) كامل في العمل والعلم وذكر الوصفين للاشارة الى انّ كتابه التّكوينىّ والتّدوينىّ على كمال ما ينبغي فليس لأحد ان يردّ شيئا منهما أو يلوم أحدا كما ورد : لو اطّلعتم على سرّ القدر لا يلومنّ أحدكم أحدا ، ولدن الله وعند الله عبارة عن عالم المجرّدات وتفصيل الكتاب نشأ منها ولذا ورد ، انّ القرآن نزل جملة على البيت المعمور أو على قلب محمّد (ص) ثمّ نزل منه نجوما على صدره (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) ان مصدريّة اى لان لا تعبدوا والفعل نفى أو نهى أو تفسيريّة والفعل نهى يعنى انّ خلاصة

٣١٨

الغرض من تفصيل الكتاب نهيكم عن عبادة غير الله وأمركم بالاستغفار والتّوبّة (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) امّا من كلام الله ولا إشكال أو من كلام الرّسول (ص) حكاه الله كأنّه قال : فبلّغه رسولنا (ص) فقالوا : ما أنت وذاك؟ ـ فقال : انّنى لكم من جانب الله نذير من موجبات سخطه وبشير برحمته (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) اعلم ، انّ اللّطيفة الانسانيّة السّيّارة الّتى يعبّر عنها بالرّوح خلق الله الأرواح قبل لا بدان بألفي عام وقد يعبّر عنها بالامانة عرضنا الامانة على السّماوات والأرض وقد يعبّر عنها بالإنسان وبفطرة الله وبقيّة الله وغير ذلك من الأسماء نزلت من عالم القدس ، ومقام الأسماء على الصّراط المستقيم الى عالم الطّبع فصارت جسما وعنصرا وجمادا ونباتا وحيوانا وإنسانا الى ان بلغ أو ان البلوغ وحدّ الانسانيّة ، وكان عوده الى ذلك المقام على الصّراط المستقيم بمحض تسبيبات الهيّة من غير مدخليّة لاختياره ، وفي هذا المقام يصير برزخا بين عالمي الجنّة والملائكة ويصير مختارا مريدا لخيراته نافرا عن شروره مميّزا لهما ، فان ساعده التّوفيق وصار اختياره موافقا لفطرته سلك باختياره على الصّراط المستقيم الى الله ، وان لم يساعده التّوفيق وصار اختياره مخالفا لفطرته وموافقا لمراد الشّيطان رجع عن الصّراط المستقيم الى دار الجنّة ومهوى الجحيم ، فان تنبّه وتذكّر ان سلوكه كان الى الجحيم وانّ كلّما فعله في هذا السّلوك كان موذيا للطيفته الانسانيّة صار حاله مثل من وقع في سجن ضيق مملوّ من العذرات والجيف المنتنة والحشرات الموذية مستدعيا من السّجّان ستر تلك ما لم يتخلّص من السّجن وهذا استغفاره من السّجّان ، فاذا وجد مهربا فرّ منه وهذا الفرار توبة عامّة اى التّوبة من المعصية ثمّ إذا وجد دليلا يدلّه على الطّريق أو على المقصد فرّ الى طريق المقصد أو الى المقصد وهذا الفرار توبة خاصّة الى التّوبة الى الله وهذه التّوبة لا تتصوّر الّا على يد نبىّ (ص) وتكون اسلاميّة ، أو على يد ولىّ وتكون ايمانيّة ، وللتّوبة الاسلاميّة الّتى يحصل بها الإسلام وكذا للتّوبة الايمانيّة الّتى يحصل بها الايمان شرائط وآداب وعهود ومواثيق كانت مقرّرة عندهم فقوله تعال : استغفروا ربّكم ؛ خطاب لمن وقع في سجن الطّبع يعنى اطلبوا ايّها الواقعون في سجن الطّبع من ربّكم ستر عذرات الهوى وجيف الشّبه وموذيات الغضبات والشّهوات ما لم تجدوا فرصة ومهربا من السّجن ، حتّى لا تفسد دماغكم بنتنها ولا تفسد فطرتكم الانسانيّة ثمّ فرّوا منه كلّما وجدتم فرصة ومهربا ثمّ فرّوا الى الله بالتّوبة على أيدي خلفائه والبيعة معهم بشرائطها إذا وصلتم إليهم فان تبتم اليه بشرائطها (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) ما دمتم في الطّريق (إِلى أَجَلٍ) وقت (مُسَمًّى) معيّن لخروجكم من الدّنيا ووصولكم الى موطنكم بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في الطّريق بكثرة المجاهدة وكثرة جنوده الالهيّة في مملكته (فَضْلَهُ) عين فضله لانّ الفضل يتصوّر بصور حسناء خصوصا على ما قلنا من انّ الفضل لذي الفضل هو كثرة الجنود الالهيّة أو على القول بتجسّم الأعمال أو جزاء فضله كما فسّره المفسّرون (وَإِنْ تَوَلَّوْا) تتولّوا عن عبادة الله والاستغفار والتّوبة (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) يوم القيامة الكبرى (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) تعليل أو حال (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ثنى الصّدر وثنى الظّهر كناية عن إخفاء الإنسان نفسه حتّى لا يراه أحد وهو إبداء ذمّ بأنّهم لحمقهم يثنون صدورهم (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) من الله مع انّه عالم بسرائرهم فكيف يستخفون منه بعلنهم بواسطة تثنية ظهورهم ، روى انّ المشركين كانوا إذا مرّوا برسول الله (ص) حول البيت طأطأ أحدهم ظهره ورأسه هكذا ، وغطّى رأسه

٣١٩

بثوبه حتّى لا يراه رسول الله (ص) فأنزل الله الآية ، ونقل انّه كناية عن انطواء قلوب المنافقين على بغض علىّ (ع) (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) حين دخولهم في خلواتهم واستغشائهم ثيابهم للمنام وهو أخفى حالاتهم أو حين يستغشون ثيابهم لئلّا يراهم الرّسول (ص) (يَعْلَمُ) الله (ما يُسِرُّونَ) من النّيّات فيعلم نبيّه (ص) والمؤمنين (وَما يُعْلِنُونَ) من الأفعال (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بمكمونات الصّدور الّتى لم تخرج من القوّة الى الفعل بعد ، ولا خبرة لهم بها فكيف بنيّاتها وخطراتها وحالاتها الّتى هي علانية بالنّسبة الى ذات الصّدور فانّ غير المكمونات لجواز زوالها عن الصّدور لا يصدق عليها انّها صاحبة للصّدور وهو تعليل لسابقه.

الجزء الثّانى عشر

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) عطف على انّه عليم بذات الصّدور أو حال من المستتر في عليم (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) فكيف لا يعلم حالها وما يوافقها وما يخالفها (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) محلّ قرارها من الدّنيا أو من الآخرة (وَمُسْتَوْدَعَها) محلّها الّذى ينتقل منها من أصلاب الآباء وأرحام الامّهات ومن منازل الدّنيا ومنازل الآخرة الى مستقرّها في الآخرة ، ويجوز ان يكونا اسمى زمان أو مصدرين ، ويجوز اعتبار الاستقرار بالاضافة وكذلك اعتبار الاستيداع وحينئذ يكون كلّ من منازل الدّنيا والآخرة مستقرّا ومستودعا باعتبارين سوى المنزل الأخير من الآخرة لانّه يكون مستقرّا على الإطلاق (كُلٌ) من الدّوابّ أو من المستقرّ والمستودع (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) هو القلم العالي أو اللّوح المحفوظ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) سماوات الأرواح وارض الأشباح الملكوتيّة النّورانيّة والملكيّة الظّلمانيّة والسّفليّة السّجّينيّة وسماوات عالم الطّبع وارض ذلك العالم (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قد مرّ تفسير الآية ووجه التّقييد بستّة ايّام في سورة الأعراف (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) عرض الرّحمن مشيّته الّتى وهي فعله وكلمته والحقّ المخلوق به والولاية المطلقة والحقيقية المحمّديّة (ص) وإضافته الاشراقيّة وهي اضافة الحقّ الى الخلق ، ولها وجه الى الحقّ المطلق وبهذا الوجه تسمّى عرشا ووجه الى الخلق وبهذا الوجه تسمّى كرسيّا ، وهي بوجهها الاوّل ظهوره تعالى بأسمائه وبوجهها الثّانى ظهوره تعالى بأفعاله وإذا اعتبرت اضافتها الى الخلق كان حاملها أقرب الممكنات إليها ، وهم اربعة في النّزول وإذا اعتبر الصّاعدون معها صاروا ثمانية ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية وإذا قطع النّظر عن اضافتها الى الخلق كان وجهها الخلقىّ وجودا صرفا ويعبّر عنه بالماء وكان الوجه الخلقىّ حاملا لها من حيث وجهها الحقّىّ فقبل اعتبار الخلق كان عرشه على الماء ، وما ورد في الاخبار من التّفاسير المختلفة راجع الى ما ذكرنا (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ليعلم بالاختيار ايّكم أحسن عملا ولهذا التّضمين علّق يبلوكم بأداة الاستفهام والمعنى انّا خلقنا السّماوات والأرض في المراتب السّتّ من مراتب العالم وخلقكم بين السّماوات والأرض وجعل لكم طريقا إليهما وسهّل لكم الصّعود الى السّماوات والنّزول الى الأرض ، وأودع فيكم أنموذجا من كلّ ليبلوكم بذلك ويظهر من كان منكم أحسن عملا ، وانّما اقتصر على ذكر حسن العمل وأتى بصيغة التّفضيل اشارة الى انّ الغاية هو الّذى يكون أحسن عملا والباقي منظور اليه بالتّبع وامّا قبح العمل فهو من الطّوارى فالآية اشارة الى شرافة الإنسان وترغيبه في محاسن الأعمال بألطف وجه (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ

٣٢٠