تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

فضلا عن التّصرّف فيه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الّا بالخصلة والصّفة الّتى هي أحسن خصال قرب المال وهي جمعه وحفظه له وانماؤه ان كان ممكنا (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) قد مضى بيان الاشدّ وانّه وقت استحكام جميع القوى والأعضاء (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) عموما وبعهد الإسلام المأخوذ عليكم في البيعة العامّة النّبويّة خصوصا ، حتّى يؤدّى بكم الوفاء بالعهود عموما الى الوفاء بعهد الإسلام ، ويؤدّى بكم الوفاء بعهد الإسلام الى عهد الايمان الّذى يؤخذ بالبيعة الخاصّة الولويّة والوفاء به (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) يعنى بعد تجسّم الأعمال يسأل عن العهد أوفوا بك أم لا؟ أو مسئولا عن حاله فيسألون عن حال عهودهم اوفيتم بها أم لا؟ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) الوفاء والإيفاء بمعنى لكن في الإيفاء مبالغة (إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا) الموزونات (بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) فسّر القسطاس في الخبر بالميزان الّذى له كفّتان ولسان (ذلِكَ خَيْرٌ) في الدّنيا بحسن الصّيت والخروج من رذيلة السّرقة والخديعة (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) غاية أو ارجاعا أو مرجوعيّة الى الغايات لانّ غايته في الدّنيا جلب البركة وفي الآخرة سهولة المحاسبة وحسن المثوبة (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لا تتّبع مدركا لم يتعلّق علم منك به سواء كان الاتّباع بالإتيان به بالجوارح كالاتيان بالافعال الّتى لم تعلم صحّتها منك أو بالاصغاء كالاصغاء الى ما تعلم صحّة الإصغاء اليه منك ، أو الأبصار كطموح النّظر الى ما لم تعلم صحّة النّظر منك اليه ، أو الأقوال كجريان ما لم تعلم صحّة جريانه على لسانك ومنه الإفتاء بما لم تعلمه أو لم تعلم صحّة الإفتاء منك به ، وبهذه الآية وأمثالها تمسّك من منع من الإفتاء بالظّنّ والرّأى والقياس والاستحسان ومن منع من تقليد من لم يأذن الله بلا واسطة أو بواسطة في إمامته وقال : لا بدّ للمفتي من العلم القطعىّ بصحّة افتائه كالائمّة (ع) ومن أجازوه للافتاء وللمقلّد من العلم القطعىّ بصحّة تقليد من يقلّده امّا بنصّ واجازة صحيحة صريحة في إمامته أو ببصيرة باطنة بحاله ، وامّا الّذين يستبدّون بآرائهم في الأحكام من غير وحي والهام ومن غير اجازة ولو بوسائط من صاحب الوحي والإلهام واتباعهم الّذين يقلّدونهم ويتّبعونهم من غير علم بكونهم صاحبي الوحي والإلهام أو صاحبي الاجازة الصّحيحة فهم مقتفون ما ليس لهم به علم ، وقيل : انّ المراد بالعلم هاهنا اعمّ من الظّنّ فيشمل الظّنّ بالاحكام من القياس والاستحسان العقلىّ والرّأى من اىّ وجه كان ولو كان كذلك لكان التّعبير بالظّنّ اولى ، لانّ النّهى عن اتّباع ما ليس به ظنّ يستلزم بمفهوم مخالفته الأمر باتّباع المظنون والمعلوم يقينا بخلاف النّهى عن اتّباع غير المعلوم ، ولمّا كان الأفعال والأقوال غير خالية من سببيّة واحد من السّمع والبصر والفؤاد لها أو أكثر قال في مقام تعليل النّهى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) المذكورين على استعمال أولئك في العقلاء أو كلّ أولئك الثّلاثة على استعماله في مطلق الجمع مذكّرا كان أو مؤنّثا عاقلا أو غير عاقل (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) اى يسأل عنه ما فعل صاحبك بك؟ أو ما فعلت لصاحبك؟ ما سمعت وما أبصرت؟ وما تعقّلت وما تخيّلت؟ ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : ابو بكر سمعي ، وعمر بصرى ، وعثمان فؤادي فقيل له في ذلك ، فقرأ الآية ، وورد عن الصّادق (ع) انّه قال : من نام بعد فراغه من أداء الفرائض والسّنن والواجبات من الحقوق فذلك نوم محمود وانّى لا اعلم لأهل زماننا هذا إذا أتوا بهذه الخصال أسلم من النّوم لانّ الخلق تركوا مراعاة دينهم ومراقبة أحوالهم وأخذوا شمال الطّريق والعبد ان اجتهد ان لا يتكلّم كيف يمكنه ان لا يسمع الّا ما له مانع من ذلك وهو النّوم ، وانّ النّوم أخذ تلك الآلات قال الله تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ) (الآية) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) المرح الاختيال الحاصل من شدّة الفرح ولذلك

٤٤١

فسّر بالاختيال وبشدّة الفرح كليهما (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) لن تقوى على خرق الأرض أو لن تقوى على سيرها كلّها (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) ولن تبلغ بعظمة جثّتك عظمة الجبال أو لن تقوى على الصّعود الى قللها بجعل طولا تميزا محوّلا عن الفاعل أو محوّلا عن المفعول ، فمن كان عاجزا في نفسه غير قادر لا ينبغي له التّطاول والاختيال فهو تعليل للنّهى (كُلُّ ذلِكَ) المذكور من الخصال الأربع عشرة المحلّل الى الأكثر من قوله : و (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (الى قوله) (طُولاً كانَ سَيِّئُهُ) في الفعل إذا كان منهيّا عنه ، وفي التّرك إذا كان مأمورا به ، وقرئ سيّئة بالتّاء (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذلِكَ) المذكور من الخصال (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) العلميّة والعمليّة (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) كرّره للاشارة الى انّ التّوحيد اهمّ الخصال وكما انّه مبدء لها علما غاية لها حالا وعيانا وتحقّقا فالاوّل لتوحيد الوجوب والآلهة وهذا التّوحيد الوجود لانّه غاية الغايات ومنتهى النّهايات ، أو الاوّل لتوحيد الآلهة في نفسها وهذا لتوحيدها في مظهرها الولوىّ كأنّه قال : ولا تجعل مع علىّ (ع) وليّا آخر فانّه أيضا غاية التّوحيد العلمىّ وغاية سائر الخصال العمليّة (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) عند نفسك وعند الله وعند الملائكة وعند النّاس (مَدْحُوراً) مبعدا من الرّحمة ، ولمّا كان هذه السّورة نزلت بمكّة ولم يكن الدّين قويّا ولا المؤمنون راسخين لم يغلظ الله تعالى في أوامرها ونواهيها بل أبداها على طريق النّصح والملاينة كما روى عن الباقر (ع) ، انّه لمّا نزل بمكّة على طريق أدب وعظة وتعظيم ونهى خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء ممّا نهى عنه وانذر نهيا عن أشياء حذّر عليها ولم يغلّظ ولم يتواعد عليها (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) ردّ على من قال : انّ الملائكة جميعا أو بعضهم بنات الله كبعض قريش وبعض الهنود (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) بإثبات الولد لله وتفضيل أنفسكم ونسبة الذكّورة والانوثة الى الملائكة المجرّدة العالية منهما ، وتوصيفهم بالانوثة الّتى هي اخسّهما وإثبات الولد الاخسّ لله العلىّ العظيم (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) إسقاط المفعول للتّعميم يعنى صرّفنا كثير تصريف في أمثال عديدة وألفاظ كثيرة كلّما ينبغي ان يذكر لهم من الحجج والحكايات والعبر والمواعظ والأحكام ، ويحتمل ان يكون الصّيغة لتكثير المفعول اى صرّفنا كثيرا من المعاني الّتى ينبغي ان تذكر (لِيَذَّكَّرُوا) اى ليتذكّروا ويتّعظوا (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) يعنى انّهم لغاية حمقهم صار ما هو سبب تذكّرهم وتقرّبهم سبب نفورهم وبعدهم (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار ببرهان ابطال كون الآلهة معه يعنى انّه مالك العرش والعرش جملة المخلوقات ومنها ما تفرضونها الهة فكيف يكونون الهة معه مع كونهم مملوكين له أو انّه صاحب السّرير وصاحب السّرير عبارة عن صاحب الملك وانّكم تسلمون انّه صاحب السّرير والسّلطنة من غير منازع فلو كان معه الهة لابتغوا اليه سبيلا بالمنازعة وما سلم له الملك ، ولمّا كان الملك مسلّما له فلا الهة معه وقد فسّروا الآية بانّهم طلبوا التّقرّب الى ذي العرش واستشهدوا على ذلك بقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ)(إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ) اى تسبّحه على ان يكون اللّام للتّقوية أو تنزّه وجودها من شوب النّقص والتّعيّن للتّقرّب الى الله (السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) اى ما فيهنّ لكن أتى بمن تغليبا ، ولانّ التّسبيح من أوصاف العقلاء فلمّا نسب إليها

٤٤٢

ناسب تأديتها بلفظ العقلاء ، أو المراد العقلاء فقط (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) تصريح بالتّعميم بعد التّأدية بلفظ موهم للتّخصيص أو تعميم بعد تخصيص وحصر بعد اطلاق وتقييد بالحمد بعد اطلاق التّسبيح (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

اعلم ، انّ الأشياء الامكانيّة برمّتها هاربة من نقائصها طالبة لكمالاتها ، والكلّ متحرّكة نحو تلك الكمالات وهي شؤن الحقّ الاوّل وتجلّيه وهذا الهرب والطّلب هو تسبيحهم الفطرىّ وتنزيههم لا سماء الله الّتى هي وجوداتها الفائضة من الحقّ عليها ، ولمّا كان تنزيه أسماء الله تنزيهه تعالى كان الكلّ منزّها لله ومنزّها لأنفسهم للتّقرّب الى الله ، ولمّا كان كلّ موجود إمكاني زوجا تركيبيّا من مهيّته الامكانيّة ووجوده التّعلّقىّ الفطرىّ وبعبارة اخرى لمّا كان لكلّ موجود طبيعي جهة ملكيّة وجهة ملكوتيّة كان الأشياء الطّبيعيّة ان كانت صامتة غير شاعرة بالشّعور التّركيبىّ بملكها ناطقة بملكوتها بلسان فصيح بل أفصح من اللّسان الملكىّ الانسانىّ واجلى بيانا منه شاعرة بالشّعور التّركيبىّ بل ادقّ إدراكا من الإنسان ، فكان الأشياء بملكوتها مسبّحة لله بلسان فصيح شاعرة بأوامره ونواهيه تعالى مبادرة الى امتثالها من غير عصيان وتوان ، لكن لا يسمع أصواتها ولا يدرك إدراكها تلك الاصماخ والأبصار الحيوانيّة بل يختصّ بسماعها وادراك إدراكها الأسماع والأبصار الملكوتيّة ولذلك قال تعالى : (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) على خطاب بنى نوع الإنسان لعدم سمع وبصر ملكوتىّ لهم ، وقرئ لا يفقهون بالغيبة بإرجاع الضّمير الى الاناسىّ أو ارجاعه الى الأشياء يعنى كلّ الأشياء يسبّحون بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم بجهتهم الملكيّة المشهودة لكم بابصاركم الملكيّة لانغمارهم تحت تعيّناتهم ؛ وعلى هذا فلا حاجة الى تأويل في تسبيحهم كما فعل المفسّرون وقد قال المولوىّ قدس‌سره :

جمله ذرّات عالم در نهان

با تو مى گويند روزان وشبان

ما سميعيم وبصيريم وخوشيم

با شما نامحرمان ما خامشيم

چون شما سوى جمادى مى رويد

محرم جان جمادان كى شويد

از جمادى در جهان جان رويد

غلغل اجزاى عالم بشنويد

فاش تسبيح جمادات آيدت

وسوسه تأويلها بر بايدت

چون ندارد جان تو قنديلها

بهر بينش كرده تأويلها

كه غرض تسبيح ظاهر كى بود

دعوى ديدن خيال وغىّ بود

پس چه از تسبيح يادت مى دهد

آن دلالت همچو گفتن مى شود

اين بود تأويل أهل اعتزال

واى آن كس كو ندارد نور حال

وبهذا اللّسان كان حنين الاستن الحنّانة وتسبيح الحصا وشهادته في يد محمّد (ص) وتجاوب الجبال والطّيور لداود (ع) وغير ذلك ممّا نقل من نطق الأحجار والأشجار والحيوان والطّيور ، وبهذا اللّسان كان نطق الأطفال لكن في قالب اللّسان اللّحمىّ وبهذا الشّعور كان تمييز الجمادات بين الأشياء كتمييز النّار بين إبراهيم (ع) ونمرود وأصحابه ، وتمييز الرّيح بين المؤمنين والكافرين وتمييز النّيل بين السّبطىّ والقبطىّ في صيرورته دما للقبطىّ ومنفرجا لعبور السّبطىّ دون القبطىّ (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) تعليل لعدم تفقّههم تسبيح الأشياء فانّ تفقه تسبيحها ما لم يبلغ الإنسان مبلغ الرّجال امّا ان يهلك أو يجعل المتفّقه مجنونا جنونا حيوانيّا فانّ تفقه التّسبيح قرين شهود الملائكة ونزولها وبنزول الملائكة قضاء أجلهم كما في القرآن والمعنى لا تفقهون تسبيحهم فتهلكوا أو تجنّوا لانّه كان حليما لا يعاجل بإمضاء سخطه لسوء صنيعكم غفورا يستر عليكم في حال نقصكم شهود تسبيح الأشياء إبقاء عليكم (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) عن انظارهم

٤٤٣

أو حجابا مستورا به اى ساترا لك عن انظارهم والمعنى الاوّل تأسيس والثّانى تأكيد والمقصود جعلنا جثّتك مستورة عنهم لا يرونها كما قيل : انّ جمعا من قريش حجبوا محمّدا (ص) عن انظارهم وقت قراءة القرآن كانوا يمرّون عليه ولا يرونه وجعلنا حقيقتك مستورة عنهم لا يرونها ولو رأوها لما كذّبوك ولمّا نفروا عن قراءتك (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) جمع الكنان بمعنى ما يستر به (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة ان يفقهوه أو اكنّة مانعة من ان يفقهوه (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ان يسمعوه اى يسمعوا مقصوده والّا فلفظه مسموع لهم ولذلك قال (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) لانّهم يسمعون لفظه ولا يدركون مقصوده ويرونه مخالفا لمعتقدهم ويمكن ان يراد بالقرآن القرآن المعهود الّذى هو في ولاية علىّ (ع) وان يراد بربّك الرّبّ المضاف وهو الرّبّ في الولاية وهو علىّ (ع) بعلويّته ، وفي الاخبار في الجملة اشعار بما ذكر ونفورا جمع نافر حال من الفاعل أو مصدر نفر حال منه أو مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) اى بسببه من الاستهزاء والتّغليظ (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) ذوو نجوى أو نجوى جمع نجىّ (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) سحره ساحر فجنّ ولم يبق له عقل (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) بجعلك تارة مسحورا وتارة مجنونا وتارة شاعرا وساحرا وكاهنا (فَضَلُّوا) عن طريق معرفتك الفاء للسّببيّة المحضة اى صار ضلالهم سببا لضرب الأمثال أو للسّببيّة والتّعقيب اى صار الاستهزاء بك وضرب الأمثال سببا لضلالهم عن طريق معرفتك ومعرفة كلامك (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) الى معرفتك والى معرفة الآخرة والمعاد (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) ترابا متناثرا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) على الإنكار والاستبعاد والتّعجّب ولذلك اكّد الاستفهام (قُلْ) تهكّما وتغييظا لهم (كُونُوا حِجارَةً) من الغيظ (أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) من حيث البعد عن الانسانيّة والدّناءة في الرّتبة فانّه يعيدكم أو قل تقريرا للاعادة : كونوا حجارة فيكون في معنى الشّرط يعنى ان تكونوا حجارة بعيدة عن الحيوة يمكنه الاعادة فكيف إذا صرتم عظاما قريبة من الحيوة اليفة بها (فَسَيَقُولُونَ) استفسارا عن المعيد على سبيل الإنكار بعد انكار أصل الاعادة (مَنْ يُعِيدُنا قُلِ) جوابا لهم بتعيين المعيد (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) تعليقا على الوصف المشعر ببرهان جواز الاعادة (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ) سيحرّكون ويمدّون إليك (رُؤُسَهُمْ) للسّؤال عن وقت الاعادة (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ) جوابا لهم عن هذا السّؤال الّذى لا جواب له لانّه لا وقت للسّاعة في عرض الزّمان يمكن تعيينه ، وتذكير الضّمير باعتبار البعث أو وقت الاعادة (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) يعنى في طول الزّمان لا في عرضه وأجمل في الجواب بحيث لا تكون مصرّحا بنفي الوقت الزّمانى عنه ولا ساكتا عن الجواب ليحملوا سكوتك على العجز ولا مصرّحا بتعيين الدّهر له لعدم ادراكهم للدّهر (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) امّا جواب لسؤال مقدّر ناش عن إجمال الجواب كأنّه قيل : اىّ يوم هو؟ ـ فقال : هو يوم يدعوكم على السنة الملائكة الموكّلة على النّشر وجمع الخلائق للحساب ، أو يكون يوم يدعوكم ، وامّا خبر بعد خبر ليكون (فَتَسْتَجِيبُونَ) من غير تأبّ وتعصّ كما كنتم غير مجيبين لدعوته على السنّة رسله (ع) في الدّنيا (بِحَمْدِهِ) لسانا كما تستجيبون بحمده حالا وفعلا ووجودا فانّ الأوصاف الحميدة والأخلاق الجميلة كلّها حمده تعالى كما انّ قوى النّفس وجنودها كلّها حمده وجودا والإنسان يبعث بجميع أوصافه وأخلاقه وقواه وجنوده قائلا : سبحانك اللهمّ وبحمدك

٤٤٤

كما ورد في الاخبار (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ) في القبور أو في الدّنيا أو كليهما (إِلَّا قَلِيلاً وَقُلْ لِعِبادِي) الاشراف المستفاد من الاضافة (يَقُولُوا) قد سبق انّ تعليق الجواب على محض الأمر بالقول من دون ذكر مفعول القول اشارة الى تشريف له (ص) كأنّه قال : انّ توجّهك مؤثّر فيهم بحيث انّك لو توجّهت إليهم بالخطاب يتبدّل حالهم الى أحسن الأحوال بحيث لا يصدر منهم الّا ان يقولوا (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولا ينظروا الى الخلق نظر السّخط والازدراء (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) يهيّج الشّرّ وتوجّهك يبعد الشّيطان عنهم ، وقولهم الحسن يقرّب الخلق الى الالفة والبعد من طاعة الشّيطان (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) بيان للّتى هي أحسن وبينهما معترضة أو استيناف وصرف للخطاب الى عباده وعدا ووعيدا (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) صرف للخطاب اليه (ص) تسكينا لحرصه على ايمانهم وتسليّة لحزنه على تولّيهم ان كان خطاب ربّكم اعلم بكم وما بعده من الله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيهدى من يستأهل للهداية ويضلّ من يستحقّ الضّلالة فما لك تحرص على هديهم أو تحزن على ضلالتهم بل عليك التّكلان عليه والرّضا بفعله ، ويعلم أيضا من يستأهل للنّبوّة ومن لا يستأهل ، ومن يستحقّ من الأنبياء كمال النّبوّة ومن لا يستحقّ ، ومن يستأهل للخلافة والولاية ومن لا يستأهل ؛ فما لهم يتكلّمون في النّبوّة وينكرون نبوّتك لكونك يتيما غير ذي مال أو يتكلّمون في الخلافة وينكرون خلافة علىّ (ع) (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) ممّن يعتقدون نبوّتهم فما لهم ينكرون تفضيلك على بعض الأنبياء (ع) (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) فما لهم ينكرون نزول القرآن عليك منّا. روى عن النّبىّ (ص) انّ الله فضّل أنبياءه المرسلين (ع) على ملائكته المقرّبين (ع) وفضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين (ع) ، والفضل بعدي لك يا علىّ (ع) وللائمّة من ولدك (ع) ، وانّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) شركاء الله في الوجوب ايّتها الثّنويّة أو في الآلهة ايّتها الثّنويّة والصّابئة ، أو في العبادة ايّتها الوثنيّة وغير الوثنيّة ، أو في الولاية ايّتها التّابعة لغير ولىّ الأمر ، أو في الطّاعة ايّتها التّابعة للامراء والسّلاطين ، أو للعلماء السّوء والمبطلين ، أو في الوجود والشّهود وهم أكثر النّاس الّا من شذّ وندر وهم المقرّبون من الأنبياء والأولياء (ع) الكاملين ، وأسقط المفعول ليذهب ذهن السّامع كلّ مذهب ممكن كما ذكر ، اى قل ادعو الّذين زعمتم واجبى الوجود أو آلهة أو معبودين أو أولياء الله أو مطاعين أو مستقلّين في الوجود (مِنْ دُونِهِ) التّقييد به للاشعار بصحّة دعوة الأولياء (ع) والمطاعين من الله فانّهم يملكون بإذن من الله كشف الضّرّ (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) له الى غيركم (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) يدعون بمعنى يعبدون أو على حقيقته ، وأولئك مبتدء والموصول خبره وأولئك اشارة الى الآلهة أو الى المشركين أو أولئك العاجزون الّذين يدعوهم المشركون ، أو أولئك المشركون الّذين يدعون هؤلاء العاجزون ، أو أولئك العاجزون الّذين يدعون الله مثلكم فما لكم تدعونهم وعلى اىّ من التّقادير فقوله (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) مستأنف والفاعل للالهة أو للمشركين أو حال عن الفاعل أو عن المفعول أو عن كليهما والفاعل على حسبه وقوله (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) امّا بدل من أولئك أو فاعل يدعون أو فاعل يبتغون أو عن الوسيلة واىّ موصولة وضمّه على الأخير لحذف صدر الصّلة أو جملة حاليّة أو مستأنفة واىّ استفهاميّة أو موصولة والخبر على تقدير كونها موصولة يكون محذوفا أو أولئك مبتدء والّذين صفته أو بدله ويبتغون خبر له أو حال أو معترضة والخبر على التّقديرين ايّهم أقرب بكون اىّ استفهاميّة وتقدير القول

٤٤٥

واحتمالات الفاعل واحتمالات ايّهم أقرب إذا لم يكن خبرا كالسّابق ، والمراد بالرّبّ امّا الرّبّ المطلق فانّ الملائكة والمسيح وعزير والكواكب كلّهم يبتغون الى الله الوسيلة أو الرّبّ المضاف وهو ربّهم في الولاية فانّ مخالفي علىّ (ع) أيضا كانوا يبتغون اليه (ع) الوسيلة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) فهم وسائر العباد سواء في الاحتياج الى الوسيلة وفي الرّجاء والخوف فكيف يكونون وسائل لغيرهم (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) في موضع التّعليل (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً).

اعلم ، انّ الإنسان ان لم يتّصل بنفسه وقواها بالله تعالى بتوسّط عروة الولاية الوثقى فانّه سيهلك قبل يوم القيامة عن الحيوة الانسانيّة ويحيى بالحيوة السّبعيّة أو البهيميّة أو الشّيطانيّة ويحشر في زمرتها ، وان اتّصل الى الله بنفسه وجميع قواها أو بعضها فانّ المتّصل لا يهلك بل يبقى حيّا بالحيوة الانسانيّة لكنّه يعذّب ليتخلّص عن خليطه السّجينىّ ويترقّى الى العلّيّين ؛ فالمراد ما من قرية من قرى العالم الكبير أو قرى العالم الصّغير الّا نحن مهلكوها بتمام أهلها أو ببعضهم قبل يوم القيامة أو معذّبوها (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) فان قيل : لا يتصوّر الإهلاك ولا العذاب بالنّسبة الى الأنبياء والأولياء (ع) الّذين كانوا أخلصهم الله لنفسه أجيب بأنّهم اهلكوا في الدّنيا ما كان عليهم من شوب السّجّين ان كان أو عذّبوا أنفسهم بالرّياضات والمجاهدات الاختياريّة والبلايا الالهيّة فيصدق عليهم ذلك أيضا (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) الّتى اقترحها قريش (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) فأهلكوا واستوصلوا بتكذيبهم وما كنّا لنهلك أمّة محمّد (ص) فيهم رحمة بهم ، أو المعنى انّ تكذيب الأمم السّابقة بالآيات صار سببا لمنع إنزال الآيات لانّ هؤلاء من اسناخ الأمم الماضية الا يرون الى ثمود (وَ) قد (آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) الّتى اقترحوها (مُبْصِرَةً) من أبصره ، إذا جعله ذا بصيرة ، أو من ابصر إذا وضح أو صار ذا بصر أو بصيرة ، فانّ النّاقة كانت مبصرة بالبصر الظّاهر وبالبصر الباطن حيث كانت لا تتعدّى نوبتها في شرب يومها (فَظَلَمُوا بِها) اى بسبب عقرها أنفسهم (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) فما لهم يتجرّءون على اقتراحها (وَإِذْ قُلْنا لَكَ) بالوحي اى تذكّر وقت قولنا لك (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) اى اهلكهم يعنى اذكر تبشيرنا لك باهلاكهم وقد انجزه له في بدر وغيره ، والتّأدية بالماضي للاشارة الى تحقّق وقوعه أو أحاط بهم قدرة فلا يستطيعون الخروج من قدرته وحكومته (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) اى وما جعلنا الشّجرة الملعونة في القرآن الّا فتنة للنّاس ، وقد وردت اخبار كثيرة من العامّة والخاصّة باختلاف ألفاظها انّه (ص) رأى في منامه انّ رجالا أو قردة من بنى تيم وعدىّ أو من بنى أميّة يرقون منبره يردّون النّاس القهقرى ، الّا انّ العامّة رووا من بنى أميّة وحده ولم يذكروا بنى تيم وعدىّ ولا زريقا وزفر ، والشّجرة الملعونة فسّرت في أخبارنا تارة ببني أميّة عموما ، وتارة ببني مروان ، وتارة بمروان وبنيه.

اعلم ، انّ القرآن تارة يطلق على المدوّن الّذى أتى به محمّد (ص) وعلى هذا فقوله في القرآن متعلّق بالملعونة ، وتارة على مقام الجمع المشتمل على جميع مراتب العالم ومنها السّجّين واهله ، وعلى هذا فهو متعلّق بجعلنا يعنى انّ المقصود من إرخاء عنان الأشقياء وامدادهم في غصب حقّ آل محمّد (ص) ومن جعل السّجّين واهله في العالم ان يفتتن النّاس بهم ويتخلّص المحقّ عن المبطل ويتميّز الحقّ عن الباطل (وَنُخَوِّفُهُمْ) بأنواع التّخويف (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ

٤٤٦

قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) هو بتقدير من ليوافق سائر الآيات ، أو حال عن المفعول وقد سبق بيان الآية (قالَ أَرَأَيْتَكَ) الكاف تأكيد للضّمير المرفوع ومثله كثير في كلامهم (هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَ) لاستأصلنّ من الحيوة الانسانيّة (ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) ممّن أخلصوا أنفسهم لك أو ممّن أخلصتهم لنفسك (قالَ اذْهَبْ) طرد وردع له أو تخلية بينه وبين ما أراد (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) مكملا كثيرا لا نقص فيه (وَاسْتَفْزِزْ) واستخفف بالجلب الى نفسك (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) ان تجلبهم إليك لغاية حمقهم وخفّة عقلهم (بِصَوْتِكَ) من غير حاجة الى جلب جندك (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ) ممّن لم تستطع جلبهم إليك بصوتك ، أو هو عطف لتفصيل بعض أسباب الجلب كأنّه قال : بصوتك وبجلب خيلك (وَرَجِلِكَ) بفرسانك وراجليك (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).

اعلم ، انّ الإنسان كما تكرّر ذكره واقع بين عالمي النّور والزّور والحقّ والباطل ولهما التّصرّف فيه والحكومة عليه فان تخلّص بتوفيق الله واعانته من حكومة العالم السّفلى والرّئيس فيه الشّيطان ودخل في حكومة العالم العلوىّ والرّئيس فيه الرّحمن فقد أخلص أمواله وأولاده من شرك الشّيطان ، وان لم يتخلّص من ذلك أو تخلّص من حكومة الرّحمن ودخل في صرف حكومة الشّيطان فقد يتّفق ان يخلّص ماله وولده لله إذا كان الانسانيّة باقية والشّيطانيّة عرضيّة ولا يتأثر كسبه ونطفته بما بالعرض كما قيل : الولد سرّ أبيه ، وقد يكون بشراكة الشّيطان وقد يكون بانفراد الشّيطان ، فانّ الكاسب والمضاجع المؤتمر بأمر الشّيطان المعرض عن امر الرّحمن ينفرد بماله وولده الشّيطان ان كان قد أبطل انسانيّته والمؤتمر بأمر الرّحمن والشّيطان مع كون الانسانيّة فيه باقية لا محالة يشارك في ماله وولده الشّيطان وقد ذكر في الاخبار ما ذكرنا بالتّصريح والاشعار (وَعِدْهُمْ) المواعيد الّتى بها تغرّهم كوعد المغفرة من الله وانّ الله كريم وانّهم يبقون ثمّ يتوبون ، أو المواعيد الّتى بها تطيل آمالهم (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) بتزيين الباطل في صورة الحقّ والخطاء في صورة الصّواب (إِنَّ عِبادِي) الّذين خرجوا من عبوديّتك (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ) ايّها الشّيطان أو يا محمّد (ص) (وَكِيلاً) في حفظهم عنك وعن اغوائك أو عن الشّيطان فلا تحزن عليهم يا محمّد (ص) وقد فسّر العباد في الآية في الاخبار بعلىّ بن ابى طالب (ع) لانّه أصل العباد وغيره عباد لله بعبوديّته (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي) يجرى (لَكُمُ الْفُلْكَ) فانّه الّذى جعل أخشابها ذوات مسامّ يدخل فيه الهواء فيمنعها من الرّسوب في الماء وجعل الهواء يتبادر الى الخلأ لامتناع الخلأ فيمنع أيضا من الرّسوب وجعل الهواء متموّجا فيحرّكها على الماء ، وجعل لكم ما تتفطّنون بكيفيّة صنع الفلك ووضع الشّراع بحيث تتحرّك الى مقاصدكم وجعل لكم ما تتفطّنون بسببه بتمويج الهواء باختياركم ما اخترعوا من تحريك الفلك بالبخار (فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) بنقلكم الامتعة الى البلاد البعيدة وتجاراتكم الرّابحة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) في موضع تعليل (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ) من الاجرام العلويّة والأجسام السّفليّة من الأوثان والطّواغيت البشريّة وغيرها (إِلَّا إِيَّاهُ) استثناء من من تدعون اى ضلّ كلّ من تدعونه الّا الله ، والإتيان بضمير النّصب لكون الاستثناء في كلام موجب ، وذلك الضّلال لانّ المدعوّ من دون الله انّما هو مدعوّ بإغواء الشّيطان وتصرّف الخيال ، ووقت الضّرّ وغاية الوحشة يفرّ الشّيطان وينقطع تصرّف الخيال فيبقى العقل

٤٤٧

الدّاعى لله بلا معارض فيدعو الله بمقتضى جبلّته (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق والبحر (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) لانّ الشّيطان يعود والخيال يتصرّف ويعارض الّا من دخل في كنف أمان الله من شرّ الشّيطان وجعل خياله وقواه مسلّمة للعقل منقادة له (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لانّ في جبلّته النّفس الّتى لا شأن لها الّا كفران النّعم وهو عطف في معنى التّعليل (أَفَأَمِنْتُمْ) اى ان نجّاكم الى البرّ فأمنتم أو أنجوتم من البحر فأمنتم (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) ان يغرقكم في جانب البرّ فانّه قادر على ذلك وان كان خارجا عن العادة ، وذكر الجانب للاشعار الى التّبادر الى الكفران بمحض الوصول الى السّاحل (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) راميا للحصاة عليكم فانّه قادر عليه أيضا وان كان وقوعه نادرا (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) كما كنتم لا تجدون في البحر وقت الضّرّ (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) بتسلّط الحرص عليكم حتّى ينسيكم ضرّ البحر (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً) يقصف اى يكسر كلّ ما هبّ عليه (مِنَ الرِّيحِ) فتكسر سفينتكم (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) بكفرانكم نعمة الإنجاء اوّلا (ثُمَّ لا تَجِدُوا) من مدعوّيكم (لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ) اى في الإرسال والإغراق (تَبِيعاً) يتبعنا للانتصار والإنجاء (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) بحسب ذواتهم لانّا خلقناهم على صورتنا ولا كرامة فوقه فجعلناهم ذوي سعة ومراتب في الوجود وأعطيناهم الاحاطة قوّة أو فعلا بكلّ الأشياء ، وجعلنا كلّا منهم حيّا عالما سميعا بصيرا مدركا متكلّما مريدا إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون بالنّسبة الى مخلوقاته الذّهنيّة وآلاته وقواه النّفسيّة أو بالنّسبة الى جميع الموجودات حين استكماله بقوّة المتابعة (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الحمير والبغال والخيل والجمال وغير ذلك من الدّوابّ وعلى القدرة والمراكب الملكوتيّة إذا صاروا أهلا له وهذا كرامة اخرى خارجة عن ذاته (وَالْبَحْرِ) على السّفن وعلى القدرة والمراكب الملكوتيّة إذا صاروا أهلا له (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) طيّبات أرزاق النّبات والحيوان والإنسان (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) من موجودات عالم الطّبع تماما ومن موجودات الملكوت السّفلىّ ومن بعض أصناف الملائكة ، وامّا المقرّبون والاوساط من الملائكة فهم أفضل من بنى آدم ما لم يخرجوا من القوّة الى الفعل ، فاذا خرجوا صاروا حينئذ أفضل المخلوقات تماما مثل نبيّنا (ص) ؛ فانّ له مع الله وقتا لا يسعه ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل ، وتفصيل التّفضيل ومراتبه ودقائقه قد مضى ، ويمكن ان يقال : انّ اضافة بنى آدم الى آدم تدلّ على انّ المراد من لم يخرج بعد من القوّة الى الفعل من جميع الجهات فيصحّ حينئذ تفضيلهم على الكثير لا على الكلّ (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الامام من يؤتمّ به ويقتدى بسيرته ويؤتمر بامره ويتّبع اثره سواء كان حقّا أم باطلا ، مشهودا بالحواسّ البشريّة أم غير مشهود ، آمرا بحسب الظّاهر أو بحسب الباطن ، بلسان القال أو بلسان الحال ، فيشمل ائمّة الحقّ والجور ممّن ترأّس في الدّنيا أو انتحل التّرأّس في الدّين أو جعلوه رئيسا من غير شعوره بذلك من السّلاطين والأمراء وخلفاء الجور والكواكب والأصنام والابالسة والأهواء ، وفي الاخبار اشعار بالتّعميم وان كان بعض الاخبار يفسّر الامام بإمام حقّ في كلّ زمان (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ).

اعلم ، انّ للنّفس الانسانيّة صفحتين سفليّة وعلويّة ؛ والسّفليّة بأيدى الشّياطين والعلويّة بأيدى الملائكة ، فان كان عمل العبد من جهة الايتمام بإمام حقّ كان مصدره جهتها العلويّة بامداد الملائكة وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال المشابه في العالم الصّغير لعالم المثال في العالم الكبير ثمّ منه الى المدارك الظّاهرة

٤٤٨

والقوى المحرّكة ثمّ يصعد صورة ذلك العمل من طريق المدارك الظّاهرة الى الخيال ثمّ تثبت في الجهة الّتى صدرت عنها ثمّ لمّا كان لتلك الجهة ظلّ نورانىّ وهو الكتاب الّذى بيد كاتب الحسنات فيثبت صورة العمل كاتب الحسنات في ذلك الكتاب وهي ثابتة فيه وفي صفحة النّفس ما لم يأت العبد بما يمحوها أو يخرقها مدّخرة له الى يوم القيامة وحينئذ يلقاه العبد كتابا منشورا مثبتا جميع ما عمله من خير ، وان لم يكن عمله من جهة الايتمام بإمام حقّ كان عمله من جهة الايتمام بإمام باطل من الاناسىّ والأبالسة والأهواء فكان مصدره الجهة السّفليّة للنّفس بامداد الشّياطين وكان نزول صورة ذلك العمل من تلك الجهة الى الخيال ثمّ الى المدارك ثمّ الى القوى المحرّكة ثمّ تصعد منها الى الخيال ثمّ الى ما نزلت منه فتثبت فيه ، ولمّا كان لتلك الجهة أيضا ظلّ ظلمانىّ وهو الكتاب الّذى بيد كاتب السّيّئات فيثبت صورة ذلك العمل كاتب السّيّئات في ذلك الكتاب وهي ثابتة فيه وفي صفحة نفسه ما لم يأت بما يبدّلها أو يمحوها أو يغفرها مدّخرة له الى يوم القيامة وحينئذ يلقاه كتابا منشورا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الّا أحصيها ، ولمّا كان هاتان الجهتان معبّرتين باليمين والشّمال وهو يلقى الكتاب العلوىّ من جهته العلويّة وكتابه السّفلىّ من جهته السّفليّة ، وأيضا يرد كتابه العلوىّ الّذى هو ظلّه النّورانىّ الى ما هو ظلّ له وكتابه السّفلىّ الى ما هو ظلّ له فهو يؤتى كتابه بيمينه وشماله فمن اوتى كتابه بيمينه فيقول تبجّحا (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) ، ومن اوتى كتابه بشماله فيقول تحسّرا : يا ليتني لم أوت كتابيه (فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) فانّهم يبصرون ولا يكونون عميانا ولا يرون في كتابهم ما يستحيون من قراءته (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) الفتيل المفتول الّذى في شقّ النّواة يعنى لا ينقصون من أجورهم شيئا (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) المراد بالعمى عمى البصيرة عن معرفة الآخرة وطرقها الأعمى البصر فربّ أعمى عن البصر يبصر أمور الآخرة بالبصيرة ، وربّ بصير في الدّنيا يعمى عن أمور الآخرة ويخرج البصيرة من القوّة الى الفعل بمعرفة الامام والعمى بإنكاره ويبقى قوّة البصيرة من دون حصول فعليّة البصيرة ، أو العمى إذا لم يكن منكرا ولا عارفا ، وهذا وان كان في حكم الأعمى لكنّه يرجى له البصيرة في الآخرة كما يخاف عليه العمى فيها (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) في الآخرة منه في الدّنيا أو ممّن ضلّ السّبيل في الدّنيا (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) وانّهم كادوا يصرفونك بفتنتك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) عن المعهود الّذى أوحينا إليك وهو ولاية علىّ (ع) كما روى (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) من الرّكون ، وقد ورد في الاخبار انّ هذه الآية من قبيل : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، وورد انّها من فرية الملحدين ولو كان الخطاب له (ص) من غير كونه على طريق ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، ولم تكن فرية لم يكن فيها ازدراء به (ص) بل يكون صدر الآية ازدراء بالملحدين لاشعاره بانّهم بالغوا في فتنته يعنى انّهم ما أهملوا شيئا ممّا يفتن به ولو كان المفتون غيركم ولم يكن تثبيت من الله لفتن ، وذيلها بيان امتنان عليه (ص) بأنّه تعالى اثبته في مثل هذا المقام (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) اى عذاب الحيوة الدّنيا وعذاب الآخرة على ما قيل : انّ الضّعف اسم للعذاب ، أو ضعف عذاب الحيوة اى ضعف ما ينبغي ان يعذّب في الحيوة لو كان هذا الرّكون من غيرك لانّ امر ذوي الخطر اخطر ، وقيل : المراد بضعف الحيوة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) يدفع عنك العذاب (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ليزعجوا لك استفزّه استخفّه وأخرجه من داره وأزعجه (مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً

٤٤٩

لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) إذا أخرجوك لا يمكثون بعدك الّا قليلا (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) نصب على المصدر اى سننّا ذلك المذكور من فتنة قومك ، وتبثيتنا ايّاك واستفزاز قومك لارادة اخراجك وعدم لبثهم بعدك سنّة من قد أرسلنا أو سنّ ذلك سنّة من قد أرسلنا ، أو هو مفعول به لمقدّر اى ركبوا في ذلك سنّة من قد أرسلنا (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) اللّام بمعنى في اى في وقت دلوك الشّمس وزوالها (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) الى شدّة ظلمته وفسّر في الاخبار بانتصاف اللّيل وقد بيّن الآية في الاخبار بالصّلوات الأربع الظّهر والعصر والمغرب والعشاء (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وقت اجتماع الفجر باعتراضه في الأفق اشارة الى صلوة الصّبح (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ) اى وقته (كانَ مَشْهُوداً) وقد فسّر في الاخبار بشهادة الملائكة اللّيليّة والنّهاريّة فانّها يصير الصّلوة حينئذ مثبتة في كتابيهما (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) وبعضا من اللّيل فحذف الموصوف وأقيم الصّفة مقامه لقوّة معنى البعضيّة في من التّبعيضيّة حتّى قيل بإجراء احكام الاسم الخالص على من ومجرورها بل قيل : بكون من اسما ولفظة الفاء زائدة أو بتوهّم امّا أو عاطفة من قبيل عطف التّفسير على المفسّر بالفاء ، والتّهجد كما يستعمل في النّوم يستعمل في الاستيقاظ فهو من الاضداد ، ويمكن ان يكون مأخوذا من الجهود بفتح الهاء وهو المصلّى باللّيل والمعنى بعض اللّيل فاستيقظ بذلك البعض اى في ذلك البعض وصلّ وبالغ واجتهد في صلوتك في ذلك البعض ، وامّا جعله من الهجود بضمّ الهاء وجعل الصّيغة للسّلب فبعيد غاية البعد (نافِلَةً لَكَ) عطيّة لك أو صلوة نافلة لك وعلى الاوّل فهو مفعول فعل محذوف اى أعطينا عطيّة لك وعلى الثّانى مفعول تهجّد بناء على تضمينه معنى افعل أو على تجريده عن معنى الصّلوة اى فافعل بالاستيقاظ نافلة لك ، أو فالفعل نافلة لك على معنى التّهجّد ولام لك للاختصاص ومعنى اختصاصه به اختصاص وجوبه به وان كان استحبابه مشتركا بينه (ص) وبين أمّته ، ويمكن استنباط الوجوب من الآية مع قطع النّظر عمّا ورد في الاخبار من وجوب التّهجّد عليه (ص) لانّه عطف التّهجّد على اقامة الصّلوة لدلوك الشّمس ، والأمر هناك للوجوب والتّوافق يقتضي ان يكون هاهنا أيضا للوجوب ، وتفصيل النّوافل وكيفيّتها ووقتها وفضيلتها موكول الى كتب الفقهاء رضوان الله عليهم (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) التّنوين للتّعظيم اى مقاما عظيما محمودا ، وهو منصوب على الظّرفيّة أو على الحاليّة باعتبار انّه (ص) قام في المقام المحمود وصار بنفسه مقاما محمودا ، والمقام المحمود هو آخر مقامات السّالك وهو مقامه مع الحقّ في الخلق فانّ اوّل مقاماته وهو مقامه في الخلق مع الخلق مقام مذموم والإنسان مأمور بالفرار والهجرة منه وعدم الوقوف فيه ، وثانى مقاماته وهو مقامه في الحقّ سالكا منه الى الحقّ مقام تنزيه وقدس وليس مقاما محمودا ، وثالث مقاماته وهو مقامه في الحقّ مع الحقّ فانيا فيه انتهاء مقام قدسه وتنزيهه ولا اسم له ولا رسم في ذلك المقام فضلا عن الحمد والفضل ، ورابع مقاماته وهو مقامه في الخلق مع الحقّ مقام محمود ومقام الفضل ومقام الجمع بين التّنزيه والتّشبيه والحقّ والخلق والتّوحيد والتّكثير ، ولكون هذا المقام بعد الفناء أتى بلفظ البعث الدّالّ على الأحياء بعد الممات فانّ الفاني ميّت بالموت الاختيارىّ والرّاجع الى الخلق يحيى بعد فنائه وذلك المقام وان كان لكلّ نبىّ لكن مطلقة وعظيمة وما ينبغي ان يكون الكامل عليه كان مطلوبا منه وباعتبار ذلك المقام العظيم امره تعالى بالسّؤال بعد الأمر بالنّافلة باللّيل الّتى هي عبارة عن المقام في ذلك المقام والّا كان أصله حاصلا له بوجه ، وذلك انّ صاحب هذا المقام امّا ان يكون نظره الى الخلق غالبا أو يكون نظره الى الحقّ غالبا وهذان المقامان

٤٥٠

ليسا محمودين على الإطلاق وهما نشأتا موسى (ع) وعيسى (ع) ، أو يكون نظره الى الحقّ ونظره الى الخلق متساويين بمعنى ان يكون النّظر الى كلّ كما يقتضيه من غي نقصان من حقّ شيء منهما وهذا هو المقام المحمود على الإطلاق وهو كان لمحمّد (ص) وكلّ ما ورد في تفسير المقام المحمود يرجع الى ما ذكرنا ، ولمّا كان ذلك المقام من أعظم المقامات ووعده الله دخوله فيه على تهجّده امره (ص) بمسئلة الدّخول في ذلك المقام والانتظار له فقال (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) في ذلك المقام وما ورد من تفسيره بدخول مكّة أو بدخول كلّ مدخل أو بدخول كلّ مدخل يخاف منه انّما هو لسعة وجوه القرآن وجواز تعميم الآية ، ولا ينافي كون المقصود في ذيل وعد البعث الى المقام المحمود مسئلة الدّخول في ذلك المقام ، ولمّا كان خطابه (ص) يشمل أمّته نحو شمول خطاب الكلّ للاجزاء أو خطاب المتبوع للتّابع كان الامّة مقصودة وكان المقصود بالنّسبة إليهم سؤال دخول مقامات السّالكين الى الله أو سؤال دخول المقام المحمود الجزئىّ الّذى هو آخر مقامات السّالكين بحسب مراتبهم (مُدْخَلَ صِدْقٍ) إدخال صدق أو محلّ إدخال صدق ، وقرئ بفتح الميم والاضافة الى الصّدق للمبالغة اى إدخالا ثابتا للصّدق لا يكون له الّا شأن الصّدق ، أو الصّدق بمعنى الصّادق اى إدخال صادق ويكون التّعبير بالصّدق للمبالغة فيكون الاضافة أيضا للمبالغة فانّ المعنى حينئذ إدخال شخص لا يبقى فيه الّا الصّدق وصدق الإدخال في مقام ان يدخل ويتمكّن فيه بحيث لا يتصوّر له الخروج وزوال ذلك المقام عنه ولذلك قيل : الخروج من غير دخول جهل يعنى الخروج من مقام من غير تمكّن الدّخول فيه جهل والّا فالخروج فرع الدّخول (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) والإخراج بالصّدق يكون بالتّمكّن في المدخل (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) والتّنوين للتّفخيم والسّلطان النّصير هو الولاية المطلقة الظّاهرة في مظاهرها الكلّيّة والجزئيّة ، وأصل كلّ المظاهر علىّ (ع) ببشريّته كما انّه حقيقة الولاية المطلقة بعلويّته وقد أجابه (ص) الله تعالى حيث كان علىّ (ع) معه بعلويّته سرّا وببشريّته جهرا وهو كان بعلويّته السّكينة النّازلة عليه (ص) بصورته المثاليّة (وَقُلْ) بعد مسئلتك السّلطان النّصير وإجابتنا لك ونزول الولاية الكلّيّة المعبّر عنها بعد النّزول بالسّكينة تبجّحا بما أعطيناك (جاءَ الْحَقُ) فانّ الولاية المطلقة هي الحقّ وبحقّيّتها حقّيّة كلّ ذي حقّ (وَزَهَقَ الْباطِلُ) فانّ الباطل يزهق ويضمحلّ بمجيء الحقّ في العالم الصّغير وفي العالم الكبير (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) لكن بدون مجيء الحقّ يترائى حقّيّة له وبعد مجيء الحقّ يظهر انّه كان باطلا ولم يكن له حقيقة وحقّيّة (وَنُنَزِّلُ) عطف على جاء الحقّ فيكون من جملة مقوله (ص) يعنى قل بعد مجيء الحقّ وزهوق الباطل ننزّل بصيغة الجماعة تعظيما لشأنك فانّك بعد مجيء الحقّ تصير متّحدا مع الولاية المطلقة الّتى هي المشيّة الّتى هي كلّ الموجودات بوجه أو تشريكا لنفسك مع الحقّ النّازل ان كنت ترى نفسك في البين ، أو قل بلسان صار لسان الله ننزّل ، أو هو كلام من الله وعطف باعتبار المعنى كأنّه قال : ننزّل الحقّ ونظهر زهوق الباطل وننزّل بعد ذلك (مِنَ الْقُرْآنِ) من للتّبعيض والظّرف حال ممّا بعده أو من ابتدائيّة والظّرف صلة لننزّل والمراد بالقرآن صورة الكتاب التّدوينىّ أو مقام الجمع الّذى هو المقام المحمود (ما هُوَ شِفاءٌ) للأبدان والأرواح من كلّ آفة وداء فانّ المنزل من مقام الجمع إذا كان المنزل عليه الّذى هو الواسطة بين مقام الجمع والخلق مطهّرا من النّقص والآفة كان شفاء من كلّ داء لمن استشفى به واتّصل بالمنزّل عليه (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ

٤٥١

إِلَّا خَساراً) لانّهم كالعذرة لا يزيدها كثرة اشراق الشّمس الّا العفونة. روى في طبّ الائمّة عن الصّادق (ع): ما اشتكى أحد من المؤمنين شكاية قطّ وقال بإخلاص نيّة ومسح موضع العلّة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الّا عوفي من تلك ايّة علّة كانت ؛ ومصداق ذلك في الآية حيث يقول : شفاء ورحمة للمؤمنين. وعنه (ع) لا بأس بالرّقية والعوذة والنّشرة إذا كانت من القرآن (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ) عنّا (وَنَأى بِجانِبِهِ) اى نأى عنّا ملصقا بجانبه والباء للتّعدية والمقصود استبداده وغفلته عن منعمه ، أو استكباره وطغيانه كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى)(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من روح الله يعنى انّ الإنسان سجّيّته الطّغيان والكفر بالمنعم بحسب مقام نفسه عند النّعمة واليأس من روح الله عند زوالها ومسيس الضّرّ له والحال انّه عبد مربوب ليس له اضافة شيء الى نفسه بل عليه ان يرى النّعمة والضّرّ من مولاه ويكون حين النّعمة شاكرا له مضيفا للنّعمة اليه خائفا من زوالها وحين الضّرّ راجيا لرفعه مضيفا له الى نقصان نفسه (قُلْ كُلٌ) من الله وافراد العباد (يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) مشتملا على نيّة هي شاكلته فانّ النّيّة شاكلة حال الإنسان ومقامه وسجّيّته ، أو المعنى كلّ يبنى عمله على نيّة وفعليّة من نفسه هي شاكلة حاله ومقامه.

اعلم ، انّ الإنسان بحسب فعليّة بشريّته نوع واحد وله حدّ واحد لكنّه بحسب الباطن أنواع متباينة بالقوّة ولكلّ نوع حدّ غير حدّ النّوع الآخر فاذا صار بحسب الباطن نوعا بالفعل مثلا إذا صار بالفعل واحدا من أنواع السّباع أو البهائم أو الشّياطين أو الإنسان المشتمل على أنواع الملك ، فاذا أراد فعلا من الأفعال سواء كان في صورة العبادات أو المعاصي أو المباحات تمثّل تلك الصّورة عند نفسه وقصد من ذلك الفعل بواسطة تمثّل تلك الصّورة كمال ما هو بالفعل هو وتلك الصّورة وذلك القصد نيّة الفعل وهو حين العمل مشتمل عليه ويبنى عليه العمل ؛ مثلا الإنسان المعجب بنفسه أو المرائى لغيره إذا أراد الصّلوة تمثّل صورتها عنده وقصد بفعله بواسطة تلك الصّورة تزيين نفسه بما يزعمه ممدوحا عند النّاس فيعمل الصّلوة مشتملا على تلك النّيّة المشاكلة لما هو بالفعل هو وهو النّوع المعجب بنفسه كالطّاووس مثلا ، وبعبارة اخرى يبنى عمله على اسّ هو قصد تزيين نفسه الّذى هو شاكلة حاله وفعليّته وهكذا ، والحقّ الاوّل تعالى شأنه شاكلته اوّلا وبالّذات صفاته الجماليّة من الرّحمة والجود والإحسان والعفو والصّفح والغفران فليس عمله بالقصد الاوّل الّا على تلك لكنّها قد تصير قهرا وغضبا وانتقاما بحسب القوابل بالقصد الثّانى وبالعرض والمعنى قل لهم انّ الله يعمل على شاكلته من الرّحمة والإحسان وأنتم تعملون على شاكلتكم ممّا يجعل رحمته رضا أو سخطا (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) يعنى ان كان كلّ يعمل على شاكلته والشّاكلة من الأمور الغيبيّة الباطنة وصورة العمل لا عبرة بها فمن تختارونه بصورة العمل يمكن ان يكون غير مختار بحسب الشّاكلة بل المختار من اختاره الله لانّ ربّكم اعلم بمن هو أهدى سبيلا ، فالفاء داخلة على ما قام مقام جزاء شرط مقدّر ولا ينافي ذلك تعميم الآية لجميع موارد صدقها كما هو شأن جميع الآيات من كون المقصود بالّذات من ذكر الخيرات عليّا (ع) ومن ذكر الشّرور أعداءه مع تعميمها لجميع موارد صدقها بالتّبع (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) اى الرّوح الّتى بها الحيوة الانسانيّة فانّ الرّوح تطلق على البخار المتكوّن في القلب المنتشر في البدن بواسطة الشّرائين وتسمّى روحا حيوانيّة ، وعلى البخار المتصاعد من القلب الى الدّماغ فتعتدل ببرودته وتسمّى روحا نفسانيّة ، وعلى الّتى بها حيوة الحيوان وتسمّى نفسا حيوانيّة ، وعلى الّتى بها حيوة الإنسان وتسمّى نفسا ناطقة وهذه هي مراد السّائلين لانّها المدركة لهم بالآثار دون سابقتها فانّها مختفية تحت شعاع نفس الإنسان ، وتطلق على طبقة من الملائكة وتسمّى في لسان الاشراق بأرباب

٤٥٢

الأنواع وفي لسان الشّرع بالصّافّات صفّا ، وعلى ملك أعظم من جميع الملائكة وله بعدد كلّ إنسان وجه وهو ربّ نوع الإنسان وله الرّياسة والاحاطة على جميع الأنواع وأربابها وهو مع كلّ افراد الإنسان وليسوا معه ، وما ورد في بيان الرّوح انّها ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل وكان مع محمّد (ص) ثمّ مع الائمّة (ع) اشارة الى هذا المعنى ومعنى كونه مع محمّد (ص) دون سائر الأنبياء انّ معيّته مع محمّد (ص) كان بمعيّة محمّد (ص) معه والّا فهو مع كلّ افراد الإنسان بل مع كلّ ذرّات العالم (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) اشارة الى تلك ، فانّ الرّوح المنفوخة في آدم (ع) ظلّ تلك الرّوح ، ولمّا كانت الرّوح المسؤل عنها امرا مجرّدا معقولا لا يدركه الّا ذوو العقول وكان السّائلون أهل الحسّ لا يتجاوز ادراكهم المحسوسات امره (ص) بالإجمال في الجواب فقال (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) اى ناشئة من امر ربّى من غير سبق استعداد مادّة حتّى تكون محسوسة فتدركونها بالحواسّ الظّاهرة أو الباطنة أو من عالم امره ولا يصل ادراككم اليه ولذلك قال (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) منكم أو قليلا من العلم وهو العلم بالمحسوس من آثارها وليس لكم علم عالم الأمر ولفظة ما نافية أو استفهاميّة إنكاريّة (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) اى بالقرآن أو بالاحكام النّبويّة أو بالرّوح الّتى أو حيناها إليك أو بالعلم الّذى آتيناك (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) بالّذى أوحينا أو بالاذهاب (عَلَيْنا وَكِيلاً) تلك اليه أمرك فيتسلّط علينا ويستردّ ما ذهبنا به (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء منقطع اى لكن رحمة من ربّك تبقيها أو تستردّها (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) قد سبق التّحدّى بأمثال هذه الآية وبيانه (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) كرّرنا في ألفاظ مختلفة وعبارات متوافقة ومتخالفة (لِلنَّاسِ) لانتفاعهم وتذكّرهم (فِي هذَا الْقُرْآنِ) جملة القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) كما أشير اليه في الخبر (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) اى من كلّ حكاية وقصّة من حكايات الأخيار والأشرار الّتى صارت أمثالا واسمارا يعنى كرّرنا شيئا من تلك الحكايات في عبارات مختلفة مثل ذكر حكاية موسى (ع) مع فرعون ومع قومه ومع خضر (ع) فمفعول صرّفنا محذوف ، ولفظة من في من كلّ مثل للتّبعيض فانّ المذكور في القرآن ليس الّا بعضا من كلّ حكاية اجمالا ، ولفظة كلّ للمبالغة فانّ المذكور ليس من كلّ الحكايات والأمثال (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) من الاعتبار بها والاستدلال بها على آلهتنا أو على صدق نبوّتك أو على صدقك في ولاية علىّ (ع) (إِلَّا كُفُوراً) بالله أو بنبوّتك أو بولاية علىّ (ع) وفي الخبر انّما نزل جبرئيل (ع) فأبى أكثر النّاس بولاية علىّ (ع) الّا كفورا (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) عينا (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ) في توعيدك ايّانا (عَلَيْنا كِسَفاً) قطعا متكاسفة محسوسة جمع الكسفة بالكسر بمعنى القطعة (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) القبيل بمعنى العيان والمقابل والكفيل والجماعة من الثّلاثة فما فوق ، والعرّيف الّذى يعرف ما يرى والكلّ مناسب هاهنا (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) من ذهب (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) وحده (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) فيه تصديق نبوّتك وتصديق توحيد الله وكلّ تلك الاسئلة انّما كانت لعناد

٤٥٣

نفوسهم ولجاجها وكانوا يريدون بذلك ما نسبوا إنكارهم اليه وكانوا مصرّين على الإنكار عازمين عليه ولم يكونوا مريدين بها رفع شبهة أو دفع شكّ ، ومثل ذلك لا جواب له ، فان أجيب كان محض التّفضّل على السّائل كما روى انّه (ص) أجابهم عن كلّ ما قالوا ولذلك امره (ص) ان يجيبهم بترك الاجابة في صورة العجز عن الجواب فقال (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) من ان يتحكّم عليه أو يأتى بما اقترحه الجهّال عن عناد ولجاج (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) فليس لي ان آتى بمسؤلكم بنفسي أو اقترح على ربّى مثل اقتراحكم علىّ ، وقد نقل كيفيّة اجتماع المشركين على الاستهزاء به والاقتراح عليه بما يعجز عن الإتيان به توهينا له وتصغيرا لشأنه ؛ من أراد فليرجع الى المفصّلات من التّفاسير وغيرها (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) اى الرّسالة أو الكتاب السّماوىّ أو الولاية فانّ الكلّ ما به الهداية الى الله كما انّ الاوّلين (١) هداية الى الولاية أيضا (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) يعنى الّا إنكارهم رسالة البشر لكنّه أتى بالقول اشعارا بانّ هذا الإنكار محض قول يقولون من غير اعتقاد وبرهان عليه ، ولمّا كان انكار رسالة البشر تعريضا برسالة الملك امره (ص) الله تعالى ان يقول في جوابهم انّ الملك من الملكوت ولا يظهر على الملك الّا بخرابه اختيارا أو اضطرارا فقال (قُلْ) في جواب إنكارهم رسالة البشر انّ رسول البشر لا بدّ ان يكون بشرا ليجانسهم ويأنسوا به ولا يجانسهم الملك ؛ نعم (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا) اى قل لهم يقول الله ذلك لكنّه حذف القول لإيهام انّ قول الرّسول وفعله قول الله وفعله (عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً قُلْ) بعد لجاجهم وعنادهم معرضا عنهم متّكلا على ربّك (كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) هذا من جملة المحكىّ بالقول أو مستأنف من الله وكذا قوله (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) يعنى ليس الاهتداء بكثرة السّؤال والاقتراح انّما هو امر الهىّ لمن يشاء من عباده لا اختيارىّ باختيار العبد وحيلته (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يعنى منكوسا أرجلهم من فوق ورؤسهم من تحت (عُمْياً) مطلقا أو عن رحمة الله وفضله (وَبُكْماً وَصُمًّا) مطلقا أو عمّا ينفعهم (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) توقّدا (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) وأصل الآيات وأعظمها علىّ (ع) وأنكروا الآخرة والمعاد (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وقد اعترفوا بإبدائه خلق السّماوات والأرض (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فانّهم وأمثالهم أسهل خلقا من السّماوات والأرض ، والاعادة أسهل من الإبداء ، ويؤيّد هذه الآية قول من يقول : انّ الاعادة وان كانت بأشخاصهم بعينها لكنّها بأبدانهم بأمثالها بوجه (وَجَعَلَ لَهُمْ) لأنفسهم أو لأمثالهم بحسب الاعادة أو بحسب الحيوة الدّنيا أو بحسب المكث في البرازخ قبل القيامة (أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ) بعد وضوح الأمر (إِلَّا كُفُوراً) بالتّوحيد أو بك أو بعلىّ (ع) (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) رحمة الرّبّ هي الولاية وسائر النّعم الظّاهرة والباطنة تسمّى رحمة باتّصالها بالولاية وإذا لم تتّصل بالولاية تكون سخطا ونقمة

__________________

(١) الرّسالة والكتاب السّماوى.

٤٥٤

واستدراجا ، وجمع الخزائن للاشعار بانّ له خزائن عديدة في مراتب العالم (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) عن الإنفاق والإيصال الى المستحقّ (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) خشية النّفاد بالإنفاق لانّكم ما خرجتم عن بشريّتكم والبشر في جبلّته حبّ المال وخشية نفاده (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) عطف للتّعليل اى في جبلّته البخل ولذلك أتى بكان فانّه يدلّ على كون الوصف سجيّته سواء جعل قتورا مبالغة أو صفة مشبهة ، والمقصود التّعريض بمدّعى الخلافة وبانّهم غير مستحقّين للولاية والخلافة لعدم خروجهم من البشريّة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) تسلية للنّبىّ (ص) وتعريض بمقترحى الآيات يعنى من كان في جبليّته العناد واللّجاج لا ينفع فيه الآيات كما انّ فرعون شاهد من موسى (ع) تسع آيات بيّنات وزاد لجاجه وعناده وقد ورد الاخبار بالاختلاف في تعيين التّسع ففي بعضها عدّ رفع الطّور والمنّ والسّلوى منها ، وفي بعضها لم يعدّ ، والظّاهر انّ المراد بالآيات التّسع كما في الخبر عن الصّادق (ع) الجراد والقمّل والضّفادع والدّم والطّوفان والبحر والحجر والعصا واليد البيضاء (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى ان كنت في شكّ على طريق ايّاك اعنى واسمعي يا جارة فاسئل بنى إسرائيل عن موسى (ع) وآياته (إِذْ جاءَهُمْ) إذ اسم خالص مفعول اسئل أو ظرف لآتينا وقوله فاسئل اعتراض (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) بعد ظهور آياته عنادا (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) مجنونا (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أسباب بصيرة أطلق البصائر عليها مبالغة (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ) لا علمك ادّى بالظّنّ مشاكلة لقوله ، أو كان ظانّا لم يعلمه الله بعده عن الخير أو هلاكته إكمالا لدعوته (يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) مصروفا عن الخير أو هالكا (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) يخرجهم أو يستأصلهم (مِنَ الْأَرْضِ) ارض مصر أو مطلق الأرض بالاستيصال (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) يعنى أخرجناه من الأرض عكس مراده (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) الّتى أراد فرعون ان يستفزّكم منها (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وعد دار الآخرة (جِئْنا بِكُمْ) يعنى بنى إسرائيل وقوم فرعون أو الخطاب لبني إسرائيل فقط (لَفِيفاً) مختلطين ، والمحقّين والمبطلين من بنى إسرائيل وقوم فرعون ، أو داني الدّرجة ومرتفعيها (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) بسبب الحقّ أو بالغاية الحقّة أو متلبّسا بالحقّ ، والضّمير لمطلق القرآن أو لقرآن الولاية (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً) اى امرا مجتمعا مجملا عظيما (فَرَقْناهُ) فصّلناه في صورة الحروف والألفاظ ونزّلناه نجوما (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) فانّه أقرب الى القبول والحفظ (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) عن مقام جمعه الّذى هو المشيّة والولاية الى الأقلام اجمالا ثمّ الى الألواح ثمّ الى الأكوان في صور الموجودات الكونيّة ، وفي صور الحروف والأصوات والنّفوس والكتابات ، ويجوز ان يراد بالقرآن الأمر بالولاية مخصوصا وان يراد بتفريقه تنزيله اشارة مثل (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، وتصريحا مثل (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في علىّ (ع) (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) يعنى سواء ايمانكم وعدم ايمانكم عندي وعند الله وانّما يعود نفعه إليكم (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل القرآن مثل أهل الكتاب الّذين علموا بعثتى وصدق كتابي من كتبهم قبل ظهوري أو من قبل القرآن الّذى في ولاية علىّ (ع) كالّذين تيقّنوا عظمة شأن علىّ (ع) من أمّة محمّد (ص) وهو في موضع تعليل للتّسوية يعنى انّ الحكمة في نزول القرآن ، الدّعوة والحكمة

٤٥٥

في الدّعوة ايمان الخلق فاذا آمن بعض الخلق فقد حصل الحكمة ولم يبطل الغاية وقد آمن به كثير فيستوى ايمانكم وعدم ايمانكم لانّ الّذين أوتوا العلم آمنوا به و (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) اللّام بمعنى على (سُجَّداً) تأثّرا به وانسلاخا من بشريّتهم وشكرا لله لانجاز وعده وللوصول الى مطلوبهم (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) إظهارا للشّكر باللّسان (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كرّره للتّأكيد المطلوب في مقام المدح (يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) لتأثّرهم به (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ).

اعلم ، انّ القرآن ذو وجوه بحسب التّنزيل وذو بطون بحسب التّأويل ، وانّ أسماءه اللّفظيّة عناوين لاسمائه الكونيّة وهي مظاهر لاسمائه الحقيقيّة الّتى هي مبادي أسمائه الكونيّة وأرباب أنواعها والظّاهرة فيها ، والأسماء الحقيقيّة عنوانات لحقيقة الوجود المطلق كما انّ أسماءه الكونيّة واللّفظيّة والكتبيّة عنوانات لتلك الحقيقة باعتبار تلك الأسماء الحقيقيّة. وانّ الحقّ الاوّل تعالى مسمّى بالله باعتبار انطواء الكثرات فيه ، ومسمّى بالرّحمن باعتبار إظهاره للكثرات والمراتب والحدود ، وانّ فعله المعبّر عنه بالمشيّة والولاية الكلّيّة مظهر لله باعتبار انطواء الكثرات فيه ومظهر للرّحمن باعتبار انبساطه على الكثرات ويسمّى المشيّة بالاعتبار الاوّل عرشا وبالاعتبار الثّانى كرسيّا ولذلك يعبّر عنها حين الاضافة الى الكثرات بالكرسىّ كما قال : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ،) وحين الاضافة الى الحقّ الاوّل تعالى بالعرش (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، وكون العرش مظهرا لله باعتبار انطواء الكثرات فيه لا ينافي كونه منسوبا اليه الرّحمن لانّه باعتبار مغايرته له تعالى من جانب الكثرات فاضافته تعالى اليه مثل اضافة الكرسىّ الى الكثرات ، والحقّ الاوّل باعتبار وصف الرّحمن مصدر له ومضاف اليه ، وكلّ من مراتب الجبروت والملكوت مظهر لله وللرّحمن بالاعتبارين المذكورين. والمراتب عاليها مظهر لله من حيث إجمال الكثرات فيه بالنسّبة الى دانيها ، ودانيها مظهر للرّحمن من حيث التّفصيل بالنّسبة الى العالي ، ولمّا كان الإنسان منطويا فيه جميع الأسماء والمراتب كان من حيث روحه مظهرا لله ومن حيث نفسه مظهرا للرّحمن ان لم يصير بالتّنزّل مظهرا للشّيطان ، وهكذا في جملة مراتبه. وخلفاء الله الّذين هم أكمل افراد الإنسان مظاهر لله وللرّحمن بالاعتبارين ؛ فالنّبىّ باعتبار ولايته مظهر لله تعالى ومن حيث نبوّته ورسالته مظهر للرّحمن ، بل النّبوّة من حيث وجهتها الى الولاية مظهر لله ، تعالى ومن حيث وجهتها الى الرّسالة مظهر للرّحمن ، وشخص النّبىّ من حيث أخذ الميثاق والبيعة من العباد مظهر لله ، وتابعه المعاضد له في تعليم العباد طريق الوصول اليه والبيعة معه مظهر للرّحمن ، وهكذا خلفاؤهما المأذونون منهما في أخذ الميثاق والبيعة من الخلق ، ويسمّى النّبىّ وخليفته من تلك الحيثيّة شيخ الإرشاد ، والتّابع وخليفته من تلك الحيثيّة شيخ الدّلالة ، والعباد المطيعون من حيث نشأتهم في الجذب مظاهر لله ومن حيث حالهم في السّلوك مظاهر للرّحمن. والدّعاء قد يطلق على التّسميّة ويكون متعدّيا الى مفعولين ، وقد يطلق على الذكّر ويكون متعدّيا الى مفعول واحد ، وقد يطلق على دعوة الغير لإحضاره ومجيئه بنفسه بحيث يكون المدعوّ بنفسه مطلوبا ، وقد يطلق على دعوة الغير في المهمّات ؛ وبالمعنى الاوّل يقال : دعوت إبني زيدا ، وبالثّانى يقال : يدعون الله باللّيل والنّهار ، كما يقال بالثّالث والرّابع : يدعون الله مطلقا أو في مهمّاتهم ، ومعنى الآية تنزيلا سمّوا الله ، الله أو الرّحمن بحذف المفعول الاوّل ، ووجه إسقاط المفعول إمكان التّعميم بين وجوه التّنزيل وبطون التّأويل ، وقد نقل في نزوله انّه (ص) كان في المسجد الحرام وقال : يا الله يا رحمن ، فقال المشركون انّه ينهانا عن الإشراك وهو يدعو الهين ؛ فنزلت. ونقل أيضا : انّ اليهود قالوا له (ص) : انّك لتكثر ذكر الله ولا تذكر الرّحمن وفي التّوراة تكرّر ذكر الرّحمن ؛ فنزلت. أو معنى الآية اذكروا لفظ الله ، أو اذكروا لفظ الرّحمن ، أو اذكروا الّذات باعتبار جمعه للكمالات ، أو باعتبار انبساطه

٤٥٦

على الكثرات ، أو ادعوا الّذات بعنوان أوصافه الجلاليّة أو بعنوان أوصافه الجماليّة فانّ الله وان كان امام الأسماء تماما لكنّه باعتبار انطواء الكثرات المعتبر فيه ادلّ على أوصاف الجلال ، والرّحمن امام أوصاف الجمال ، ومعنى الآية تأويلا ادعوا مظهر اسم الله أو مظهر اسم الرّحمن لا فرق بينهما في جميع مراتبهما ، وادعوا الولىّ (ع) أو النّبىّ (ص) وادعوا في مقام الجذب أو في مقام السّلوك (أَيًّا ما تَدْعُوا) يؤدّبكم اليه لانّ أسماء الوجود وعنوانات الحقّ ومظاهر النّور لا شركة لغيره فيها (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لا لغيره بخلاف الأسماء السّوءى الّتى هي أسماء العدم وعنوانات الحدود والتّعيّنات ومظاهر الشّرور والظّلمات فانّها لغيره لا له ، والله والرّحمن ومظاهرهما من الأسماء الحسنى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) لا تتجاوز في إعلان الصّوت عن المعتاد حين التّخاطب مع الأحباب بحيث تسمع من بعد عنك (وَلا تُخافِتْ بِها) بحيث لا تسمع نفسك ، كذا فسّرا في أخبارنا (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) متوسّطا يعنى اقرء قراءة تسمعها نفسك ومن قرب منك ولا تسمعها من بعد عنك فانّ السّمع له حقّ في الصّلوة وهو سماع أذكاره وسنّة الأحباب عدم الجهر بالخطاب ، ولمّا كان الصّلوة الحقيقيّة هي الولاية والنّبوّة قالبها والرّسالة قالب النّبوّة ، وقبول الولاية والرّسالة من القوالب ، وصورة الصّلوة القالبيّة والقلبيّة أيضا من القوالب صحّ تفسير الصّلوة بكلّ منها ، وصحّ جعل الخطاب عامّا وخاصّا بمحمّد (ص) ، وصحّ تفسير الإجهار والإخفات بما يناسب كلّا منها ، وقد أشير الى التّعميم في بعض الاخبار (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) بعد امره بالتّوسّط في الأقوال أو الأفعال امره بالتّوسّط في توصيفه تعالى بالجمع بين التّشبيه والتّنزيه قولا واعتقادا وشهودا فأمره تعالى بالحمد اى ملاحظة ظهوره تعالى في كلّ شيء وفيء مع تنزيهه عن أصول النّقائص ، وهي كون الثّانى له سواء كان تحت يده أو مقابلا له أو مستعليا عليه محتاجا اليه وكان هو عاجزا فانّ الّذلّ ينشأ من العجز عن دفع الضّرّ أو جلب النّفع ، ولمّا كان ذلك موهما لتوصيفه ومعرفته امره ثانيا بتكبيرة عن التّوصيف والمعرفة فقال (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) عن كلّ ما يوهم النّقص أو التّوصيف ، ولذلك ورد في جواب من قال : الله أكبر من كلّ شيء عن الصّادق (ع) : وكان ثمّة شيء فيكون أكبر منه؟! فقيل : وما هو؟ ـ قال : أكبر من ان يوصف.

٤٥٧

سورة الكهف

وهي مائة واحدى عشرة آية مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى آية

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (الآية)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) اضافة العبد للعهد يعنى محمّدا (ص) والمراد بالكتاب كتاب النّبوّة وصورته القرآن أو القرآن وبعد اشعاره بمحموديّته على جميع ما يحمد عليه بتعليق الحمد على الله المشعر بجميع الأوصاف الحميدة ذكر معظم ما يحمد عليه من الأوصاف وهو إنزال كتاب النّبوّة الّذى به قوام المعاش والمعاد (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) العوج كعنب الاعوجاج من كلّ شيء من الأجسام المحسوسة وغيرها ، أو العوج محرّكة اعوجاج الأجسام الّتى من شأنها الاستقامة كالحائط والعصا ، والعوج كعنب خاصّة بالمعاني ، والمعنى لم يجعل لكتاب النّبوّة انحرافا عن الاستقامة نزولا وصعودا لانّه نازل منه على الاستقامة ومنته اليه على الاستقامة وذاهب بمن توسّل به الى الله على الاستقامة (قَيِّماً) حال من الكتاب أو من الضّمير المجرور باللّام وهو مبالغة من قام الرّجل المرأة وعليها ، وقام الرّجل اهله إذا مأنهم وقام بشأنهم ، والمقصود انّ كتاب النّبوّة قيّم على جميع الكتب السّماويّة حتّى القرآن ببيانها وتعيين موارد أحكامها وقيّم على جميع من توسّل به بإفادة ما يحتاجون اليه في امر معاشهم ومعادهم ، أو هو حال عن العبد فانّه أيضا قيّم لكلّ معوّج وكاف لكلّ محتاج (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) عذابا شديدا في الدّنيا بالقتل والأسر والنّهب كما انذر ووقع ذلك البأس وكما يقع للكفّار حين الاحتضار وفي الآخرة بعذاب البرازخ والقيامة والجحيم ، وقد فسّر البأس الشّديد بعلىّ (ع) فانّه الرّحمة للمؤمنين والبأس للكافرين في الدّنيا والآخرة (مِنْ لَدُنْهُ) من لدن العبد المنزل عليه الكتاب ما فسّر ، أو من لدن الله وقد فسّر لدن رسول الله (ص) بعلىّ (ع) وكذا لدن الله تعالى (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) أطلق الإنذار اشعارا بانّه للمؤمنين والكفّار بخلاف التّبشير فانّه خاصّ بالاختيار ، وإنذار المؤمنين من حيث شوب الكفر والّا فحيثيّة الايمان تقتضي التّبشير لا الإنذار (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) هو الجنّة ونعيمها ورضوان من الله أكبر (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) تخصيص بعد تعميم تفضيحا لهذا الصّنف من الكفّار ومبالغة في قبح قولهم

٤٥٨

وهم الّذين قالوا : الملائكة بنات الله ، والّذين قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، ونحن أبناء الله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) نفى علمهم به اوّلا مع انّه باطل من أصله منفىّ بنفسه اشعارا بانّ المذمّة على القول من غير علم سواء كان المقول باطلا أو حقّا مقدّم على سائر جهات الّذمّ فويل لمن قال بظنّه من غير علم ومن غير اذن واجازة ثمّ يقول : هو من عند الله حيث قال من غير علم ثمّ نسب قوله الى الله (وَلا لِآبائِهِمْ) كلمة مبالغة تقال في مقام الّذمّ مبالغة أو هو ذمّ آخر يعنى انّهم قالوا من غير علم وقلّدوا في ذلك آباءهم الّذين لم يكن لهم علم فلهم المذمّة من حيث التّقليد ومن حيث الأخذ ممّن لا علم له (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) بعد ما ذمّهم على القول بغير علم وعلى التّقليد في قولهم وعلى تقليد من لا علم له ذمّهم على قبح المقول أيضا (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) لا شوب صدق فيه (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتل نفسك غمّا (عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) حديث أصحاب الكهف أو القرآن جملة أو حديث ولاية علىّ (ع) وهو المقصود (أَسَفاً) تأسّفا على تولّيهم عن الايمان شفقة بهم وحرصا على ايمانهم بعلىّ (ع) (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) تعليل لما يستفاد من مفهوم العتاب يعنى لا ينبغي لك التّحسّر على تولّيهم لانّهم اغترّوا بما على الأرض زينة لها وانّا جعلنا ما على الأرض زينة لها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) يعنى انّ الغاية جهة المؤمن في حسن العمل واغترار الكافر طار بالعرض (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أرضا لا نبات فيها ، والجرز من الجرز بمعنى القطع اى مقطوعا نباته وهو تسفيه للمغترّين بزينتها وتزهيد لطالبي الآخرة وتسلية لمن لا يكون له من زينتها شيء (أَمْ حَسِبْتَ) الخطاب للنّبىّ (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب وهو اضراب عن قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) باعتبار المعنى فانّه في معنى أأنت باخع نفسك؟ لانّه في مقام الإنكار وان كان بلفظ التّرجّى وأحسبت انّ ما على الأرض يمنعهم من الايمان أم حسبت انّ مقام الايمان وأصحاب الايمان كان من آياتنا عجبا لا يمكن الوصول اليه فحسبت (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ) ورد في أخبارنا انّ الرّقيم كان لوحا أو لوحين من نحاس وكان مرقوما فيه امر الفتية وقصّتهم وما أراد منهم دقيانوس الملك ، وقيل : انّ الرّقيم كان اسم الجبل الّذى فيه الكهف ، أو الوادي الّذى فيه الكهف ، أو اسم قريتهم ، أو اسم الكلب الّذى كان معهم ، وقيل : أصحاب الرّقيم كانوا قوما آخرين لم يذكر الله قصّتهم ، وكان قصّتهم انّهم كانوا ثلاثة وخرجوا يرتادون لأهلهم فأخذهم المطر فأووا الى كهف فانحطّت صخرة وسدّت باب كهفهم ، فقال أحدهم : ليذكر كلّ منكم ما عمل من حسنة خالصا لله لعلّ الله يرحمنا ، فقال أحدهم : انّى استعملت اجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النّهار وعمل في بقيّته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك اجره فوضعته في جانب البيت ثمّ مربّى بقرة فاشتريت به فصيلها فبلغت ما شاء الله فرجع الىّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : انّ لي عندك حقّا وذكره حتّى عرفته فدفعتها اليه جميعا ؛ اللهمّ ان كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا ، فانصدع الجبل حتّى رأوا الضّوء ، وقال آخر : كان فيّ فضل وأصاب النّاس شدّة فجاءتني امرأة فطلبت منّى معروفا ، فقلت : لا الّا ان تعطيني حظّى من نفسك ، فأبت ورجعت ثم عادت فقلت لها مثل ما قلت سابقا ، فأبت ورجعت ، ثمّ ذكرت لزوجها ، فقال لها : أجيبيه واغيثى عيالك ، فأتت وسلّمت الىّ نفسها فلمّا تكشّفتها وهممت منها ارتعدت فقلت : مالك؟ ـ قالت : أخاف الله ، فقلت : خفته في الشّدّة ولم اخفه في الرّخاء ، فتركتها وأعطيتها ملتمسها ؛ اللهمّ ان فعلته لوجهك فافرج عنّا ، فانصدع حتّى تعارفوا ، وقال الثّالث : كان لي

٤٥٩

أبوان همّان وكانت لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثمّ أرجع الى غنمي ، فحبست ذات يوم حتّى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبى وأتيتهما فوجدتهما نائمين فلم أوقظهما وتوقّفت عندهما حتّى أصبحا واستيقظا ، فسقيتهما ؛ اللهمّ ان فعلته لوجهك فافرج عنّا ، ففرّج الله عنهم. وقصّة الكهف اجمالا كما يستفاد من الاخبار انّهم كانوا أصحاب دقيانوس الملك وانّه كان يدعو الخلق الى عبادة الأصنام ، وهؤلاء ، آمنوا بربّهم وحده ورفضوا عبادة الأصنام واسرّوا التّوحيد وأظهروا الشّرك وكانوا يحضرون معهم الى عبادة الأصنام ولم يعلم أحد بدينهم ولا يعلم كلّ منهم دين صاحبه ومضوا على ذلك مدّة متمادية ، حتّى سئموا وملّوا من موافقة دقيانوس وقومه فخرجوا من القرية فرارا منهم وأظهروا قصد الصّيد ، فاتّفق ان كان خروجهم في يوم واحد فتلاحقوا في البادية فتساءلوا عن شأنهم وخروجهم كلّ عن الآخر ، فأخذوا المواثيق وأظهر كلّ دينه وقصده ، فعرفوا انّهم كانوا على دين واحد وقصد واحد فتوافقوا في المسير ومرّوا براع ، فدعوه الى التّوحيد فلم يجبهم وأجابهم كلبه وذهبوا على وجههم ودخلوا الكهف فأماتهم الله ثلاثمائة وتسع سنين أو أنامهم على اختلاف في الرّوايات ، فأحياهم الله أو أيقظهم بعد ذلك وتساءلوا بينهم كما حكى الله. وسبب نزول هذه السّورة كما في الخبر انّ قريشا بعثوا ثلاثة نفر الى نجران اليمن الى علماء اليهود ليتعلّموا مسائل منهم ويسألوا محمّدا (ص) بعد رجوعهم لعلّهم الزموه ، فذهبوا إليهم وسألوهم فقالوا : سلوه عن ثلاث مسائل فان أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثمّ سلوه عن مسئلة واحدة فان ادّعى علمها فهو كاذب ، فقالوا : سلوه عن فتية خرجوا وغابوا وناموا مدّة كم كان عددهم؟ وكم كان نومهم؟ وما كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصّتهم؟ ثمّ سلوه عن موسى (ع) ومن امره الله باتّباعه من هو؟ وكيف كان قصّته؟ ثمّ سلوه عن طائف طاف المشرق والمغرب حتّى بلغ سدّ يأجوج ومأجوج ، من هو؟ وكيف كان قصّته؟ وأملوا القصص الثّلاث عليهم ، فرجعوا وسألوه فقال : أخبركم غدا ولم يستثن ، فحبس الوحي عنه (ص) أربعين يوما حتّى اغتمّ النّبىّ (ص) وشكّ أصحابه وفرحت قريش واستهزؤا وآذوا وحزن ابو طالب فلمّا كان بعد أربعين يوما نزل جبرئيل (ع) بسورة الكهف وكان سبب تأخيره تركه (ص) الاستثناء (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) آية عجبا يعنى لا ينبغي لك ذلك الحسبان مع ما آتيناك من عجائب الآيات وأريناك من معظمها ، فانّ أصحاب الكهف وايمانهم امر سهل في غاية السّهولة في جنب ما آتيناك (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) إذ تعليل للحسبان أو لعجبا أو مفعول لا ذكر مقدّرا أو ذكّر ، والفتية جمع الفتى ، وهو كما يطلق على العبد والشّابّ والخادم والمطيع يطلق على المؤمن فانّه شابّ عقلا والّا فانّهم كانوا كهولا (فَقالُوا) التجاء واستغاثة (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا) من ديننا الّذى صار سببا لمهاجرة الكفّار والفرار من الأشرار وابتغاء سنّة الأخيار (رَشَداً) في معاشنا ما نصير بسببه راشدين يمكن لنا التّعيّش مع الخلق كما قال تعالى : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) يعنى ما يمكن لكم المداراة مع الخلق (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) حجابا يمنعهم من سماع الأصوات بالموت أو النّوم (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) ذوات عدد (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) من الموت أو النّوم بعد ثلاثمائة سنة (لِنَعْلَمَ) ليظهر علمنا (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) حزب الله ومنهم قومك السّامعون منك وحزب الشّيطان ومنهم المشركون والمحاجّون عليك أو اىّ الحز بين من أصحاب الكهف أنفسهم وممّن اطّلع عليهم (أَحْصى) فعل ماض وعلى هذا فقوله (لِما لَبِثُوا) حال من قوله (أَمَداً) وهو مفعول احصى أو لما لبثوا مفعول له واللّام زائدة للتّقوية وأمدا تميز ، ويحتمل ان يكون احصى افعل تفضيل من الإحصاء على خلاف القياس ، وعلى هذا فقوله أمدا تميز عن ما في لما لبثوا (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) مقابل الكذب ،

٤٦٠