تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

وتقديم المسند اليه امّا لمحض التّقوىّ أو للحصر (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) يعنى انّ الايمان كان هداية من الله الى الله ، ولمّا حصّلوه بتوفيقه زادهم ايمانا (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) الحبّ فجذبهم إلينا أو اوقعنا الرّبط على قلوبهم بمعنى جعلناهم متحابّين مربوطا قلب بعضهم على بعض وذلك بعد معرفة كلّ حال الآخرين واتّحادهم في الدّين (إِذْ قامُوا) عن القعود مع المشركين وإظهار الإشراك للفرار عنهم (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) لا باطنا ولا ظاهرا (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) قولا ذا شطط ذا بعد أو ميل عن الحقّ قالوا ذلك فيما بينهم بعد التّلاقى في خارج البلد ، أو في أنفسهم قبل الخروج والتّلاقى (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) على الآلهة (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) حجّة واضحة يعنى انّ اعتقاد شيء من غير برهان باطل وان كان المدّعى حقّا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) يعنى ممّن نسب الى الله ما لم يأذن به الله حقّا كان أو باطلا ، ولذلك ورد من فسّر القرآن برأيه وأصاب الحقّ فقد أخطأ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) استيناف من الله يعنى وقلنا إذ اعتزلتموهم أو مقول لهم يعنى قال بعضهم لبعض وإذ اعتزلتموهم فأووا الى الكهف فرارا منهم واخلوا مع الله (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) اجابة لمسؤلكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) ما تدارون به الخلق من قوّة الصّبر على أذاهم والعفو عن مسيئهم والنّصح لمحسنهم والإحسان الى كلّهم (وَتَرَى) يا محمّد (ص) إذا رأيت كهفهم أو يا من يتأتّى منه الرّؤية (الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ) تميل (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) اى الى الجهة من الكهف ذات يمين الواقف خارج الكهف مقبلا على الباب أو داخل الكهف مدبرا عن الباب ، هذا إذا كان الكهف واقعا في جهة الجنوب وبابه الى جهة الشّمال ، وبالعكس ان كان واقعا في جهة الشّمال وبابه الى جهة الجنوب ، أو عن الجهة ذات يمين الواقف خارج الكهف مدبرا عن الباب ، أو داخل الكهف مقبلا على الباب إذا كان الكهف واقعا في جهة الجنوب وبابه الى جهة الشّمال ، وبعكس ذلك ان كان الكهف بعكس ذلك ، أو المعنى ترى الشّمس إذا طلعت حالكونها في الجهة ذات يمين الواقف ، أو حالكونها صاحبة يمين الواقف ، أو تزاور حالكونها في يمين الواقف أو ذات يمين الواقف ، وتصوير وضع الكهف غير خفىّ بعد ما مضى ، أو المعنى تزاور في الجهة ذات اليمين على ان يكون ظرفا لغوا وتصوير وضعه كما إذا كان المعنى تزاور الى ذات اليمين (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) الى ذات الشّمال أو عن ذات الشّمال أو في ذات الشّمال أو حالكونها ذات الشّمال ، وتصويرها بعد تصوير سوابقها غير صعب (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) متّسع من الكهف بحيث لا يتأذّون من حرّ الشّمس ولا كرب الغار (ذلِكَ) اى كونهم في الكهف بالوصف المذكور أو ذلك المذكور من قصّة أصحاب الكهف وهو جملة معترضة لتذكير السّامعين (مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) معترضة اخرى للاشارة الى وجه من وجوه التّأويل وتمثيل حالهم لحال جملة المؤمنين (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) عطف على ترى الشّمس يعنى من رآهم يحسب انّهم إيقاظ لكون أعينهم مفتوحة ناظرة ، أو يحسب انّهم احياء لطراوة أجسادهم ونضارة أبدانهم (وَهُمْ رُقُودٌ) نائمون أو أموات (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) اى على الجهة ذات اليمين أو في الجهة ذات اليمين يعنى لا نديم منهم جنبا واحدا على الأرض حتّى يتغيّر ويتصرّف فيه الأرض ، وفيه اشارة الى اجابة دعائهم

٤٦١

حيث سألوا الرّحمة والتّقليب الى ذات اليمين والرّشد يعنى التّقليب الى ذات الشّمال والمقصود التّوسّط بين الجذب والسّلوك ، ولا يخفى على البصير الاستبصار بالتّأويل (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) بفناء الكهف كالبوّاب المطيع (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) يا محمّد (ص) على طريقة : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو يا من يتأتّى منه الاطّلاع (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) وذلك لما أعطاهم الله من الهيبة والخشية ، أو لانّ أجسادهم كانت كأجساد الموتى وكانت عيونهم مفتوحة بحيث يتوحّش النّاظر منهم (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) يعنى كما أنمناهم آية غريبة بعثناهم آية اخرى (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) عن حالهم فيعرفوا انّ حالم اغرب من ان يعرف ، وانّ صنع الله بهم لا يعرف كنهه ويزداد يقينهم في امر البعث (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا) اى الآخرون (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على ما هو المعتاد من النّوم وذلك قبل ان نظروا الى تغيّر حالهم وطول شعورهم واظفارهم وبعد ما نظروا الى ذلك (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أو الاوّل كان لبعضهم وهذا لبعض آخر ، ولمّا رأوا انّه لا طريق لهم الى معرفة ذلك اعرضوا عنه وأخذوا فيما يهمّهم من الحاجة الى الغذاء وقالوا (فَابْعَثُوا) يعنى إذا لم تقدروا على معرفة ذلك فابعثوا (أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) الورق الفضّة المسكوكة (إِلَى الْمَدِينَةِ) واسمها كما نقل كان طرسوس أو أفسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) اىّ أهلها أو اىّ الاطعمة (أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) في المعاملة حتّى لا يغبن أو في التّخفّى حتّى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) ان يطّلعوا أو يظفروا بكم (يَرْجُمُوكُمْ) يقتلوكم اشدّ قتلة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) وقد أنعم الله عليكم بالنّجاة منها (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً وَكَذلِكَ) يعنى مثل اطّلاعنا ايّاهم على حالهم وطول مدّة منامهم ليزدادوا بصيرة بقدرتنا وعودهم إلينا (أَعْثَرْنا) غيرهم (عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) يعنى المطّلعين (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والأحياء بعد الاماتة (حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) في إتيانها ، روى انّه قد رجع الى الدّنيا ممّن مات خلق كثير منهم أصحاب الكهف أماتهم الله ثلاثمائة عام وتسعة ثمّ بعثهم في زمان قوم أنكروا البعث ليريهم قدرته ؛ وهذا الخبر يدلّ على انّهم ماتوا في تلك المدّة كما انّ بعض الاخبار يدلّ على انّهم ناموا ، ونقل انّ المبعوث لمّا دخل المدينة أنكرها وتحيّر واخرج الدّرهم وكان عليه اسم دقيانوس فاتّهموه بانّه رأى كنزا وأخذوه وذهبوا به الى الملك وكان نصرانيّا موحّدا فقصّ القصّة عليه فقال بعض الحاضرين : انّ آباءنا أخبرونا انّ جماعة فرّوا في زمن دقيانوس بدينهم لعلّهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة جميعا الى الكهف ورأوهم وكلّموهم ثمّ قال الفتية نستودعك الله ايّها الملك ، ورجعوا الى مضاجعهم فماتوا ودفنهم الملك ، وقيل : تقدّمهم المبعوث ، وقال أخبرهم لئلّا يفزعوا فعمي عليهم باب الكهف فبنوا هناك مسجدا (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ظرف لأعثرنا والمعنى أعثرنا عليهم إذ يتنازع الفتية امر نومهم قلّة وكثرة أو يتنازع أهل البلد امر الفتية من حيث دفنهم وتركهم كما كانوا وأخذ المسجد عليهم ، أو إذ يتنازع المطّلعون امر دينهم وامر البعث بينهم بالإنكار والإقرار ببعث الأرواح دون الأجساد أو بعث الأرواح والأجساد جميعا أو ظرف ليعلموا ، والمعنى ليعلم الفتية علما شهوديّا بعد ما كانوا علموا يقينيّا إذ يتنازعون بينهم أمرهم في نومهم ومدّته ، أو ليعلم المطّلعون انّ وعد الله حقّ إذ يتنازعون بينهم امر بعثهم (فَقالُوا ابْنُوا) عطف على يتنازعون عطف التّفصيل على الإجمال على بعض الوجوه ، أو عطف على

٤٦٢

أعثرنا (عَلَيْهِمْ بُنْياناً) يحفظ أجسادهم من السّباع والانظار (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) من تتمّة قولهم يعنى اتركوهم على حالهم ولا تجسّسوا وابنوا عليهم بنيانا ، أو معترضة من الله يعنى ربّ الفتية اعلم بحال الفتية أو بحال المتنازعين فيهم ، أو ربّ المتنازعين اعلم بحالهم من ارادة الخير والشّرّ في نزاعهم وما قالوه (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) امر الفتية أو امر أهل البلد من الرّؤساء ، أو قال الّذين غلبوا على امر أنفسهم بالإسلام وغلبتهم على الشّيطان (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) معبدا يعبد فيه ويزار ويتبرّك (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) اى سيقول الحاضرون في زمانك من أهل الكتاب ومن قريش ومن أمّتك (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) كأنّهم سلّموا انّ عددهم كان فردا ولذلك ردّدوا بين الثّلاثة والخمسة والسّبعة (رَجْماً بِالْغَيْبِ) رميا من أفواههم بالخبر الغائب عنهم ، وتعقيب القولين بذلك دليل تزييفهما (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) إدخال الواو هاهنا دون سابقيه لاعتيادهم ذلك عند تعداد مراتب العدد فانّهم يقولون خمسة ستّة سبعة وثمانية وذلك لانّ السّبعة عدد كامل عندهم كما هو كذلك عند أهل الشّرع فقبل البلوغ الى السّبعة كان المراتب الآتية من متمّمات السّابقة وتخلّل الواو كأنّه تخلّل بين أجزاء شيء واحد ولذلك يسمّى هذه الواو عندهم وأو الثّمانية ، فما قيل : انّ دخول الواو هاهنا لتأكيد اللّصوق ، ليس في محلّه ، لانّه للاشعار بالتّفارق لا بالتّقارب (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) وفي الاخبار ما يشعر بكونهم سبعة وثامنهم كلبهم (فَلا تُمارِ فِيهِمْ) فلا تجادل في خبرهم وعددهم قريشا وأهل الكتاب (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) لا واقعا فانّهم لا علم لهم ولا يقولون الّا عن جهل والقائل عن جهل لا خطاب معه ، وهذا يدلّ على انّ الجدال كما يحرم عمّن لا علم له يحرم مع من لا علم له (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) واقتصر على ما أوحينا إليك لانّهم لا يقولون ما يقولون عن علم وبصيرة ، وهذا يدلّ على انّ الاستفتاء عمّن لا علم له حرام سواء قال عن تقليد أو عن ظنّ وتخمين (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء مفرّغ من لا تقولنّ اى لا تقولنّ لشيء بضمّ شيء الّا بضمّ ان يشاء الله أو في حال الّا في حال ضمّ ان يشاء الله ، والمقصود الّا بتذكّر مشيّة الله ، وهذا تأديب له (ص) وتعليم لغيره ان لا يقولوا شيئا منوطا بمشيّة الله الّا ان يستثنوا ، وقد سبق انّه (ص) قال في جواب سؤالهم المسائل الثّلاث : أخبركم غدا ، ولم يستثن ، فحبس الوحي عنه أربعين يوما (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) الاستثناء في الخبر انّ للعبد إن يستثني ما بينه وبين أربعين صباحا (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا) الاستثناء القولىّ (رَشَداً) وهو الاستثناء الحالىّ والعيانىّ والتّحقّقىّ يعنى انتظر صيرورة حالك حال الاستثناء دائما أو معاينة مشيّة في كلّ شيء أو تحقّقك بمشيّته ، وقيل فيه غير ذلك (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) عطف من الله على يقولون ، أو كلام منهم عطف على سبعة وثامنهم كلبهم (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) هذا يؤيّد كونه كلاما منهم (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) علمه مختصّ به (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أتى بصيغة التّعجّب اشعارا بانّ بصره وسمعه فوق ما يتصوّر بحسب ادراك الدّقائق والاحاطة بكلّ ما يتصوّر أدركه (ما لَهُمْ) لأهل السّموات والأرض أو للسّائلين عن نبإ أصحاب الكهف (مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) في الاخبار عن القصص الماضيات ، أو في الاخبار عن المغيبات مطلقا ، أو في احكام العباد ، أو في ولاية علىّ (ع) وهذا هو المناسب

٤٦٣

لما بعده (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) فلا تخف من التّغيير والتّبديل وظهور الخلف في اخبارك (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) ملتجأ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ذكر النّفس بعد الصّبر مبنىّ على تجريد الصّبر عن النّفس فانّ الصّبر هو حبس النّفس عن الجزع أو عن هواها والمعنى احبس نفسك عن اتّباع هواها (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) يعنى في جملة أوقاتهم وهم الّذين يذكرون الله مخرجا لهم عن ظلمات الطّبع والنّفس الى نور القلب والرّوح لمشاهدة وجه ربّهم المضاف وهو ربّهم في الولاية وهم الّذين أخذوا الذكّر من صاحب الاذن وأهل الذكّر (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الملكوتي وهو السّكينة الّتى ينزلها الله على المؤمنين وهو الذكّر الّذى به يطمئنّ قلوب المؤمنين (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهذا على : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) والذكّر هو الرّسول (ص) أو أمير المؤمنين (ع) ، أو المراد من الذكّر تذكّر الله وتذكّر أو امره ونواهيه وثوابه وعقابه ، أو المراد الذّكر المأخوذ من صاحب الذّكر (وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) افراطا وتجاوزا للحدّ في الخروج عن تحت حكم العقل ، روى انّ جمعا من فقراء المسلمين منهم سلمان رضى الله عنهم كانوا عند النّبىّ (ص) فدخل عليه جمع من أغنياء المؤلّفة قلوبهم فقالوا : يا رسول الله (ص) ان جلست في صدر المجلس ونحيّت عنّا هؤلاء وروائح جبابهم جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك ، فقاموا من عنده (ص) ، فلمّا نزلت الآية قام النّبىّ (ص) يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون الله عزوجل فقال : الحمد لله الّذى لم يمتني حتّى أمرني ان اصبر نفسي مع رجال من أمّتي معهم المحيا ومعهم الممات (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) يعنى قل للغافلين اللّائمين لك في مجالسة الفقراء الحقّ ما جاء من قبل ربّكم وهو الصّبر مع الفقراء (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ) اى من شاء فليسلم بى (وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أو قل الولاية هو الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن بالبيعة الخاصّة الولويّة ومن شاء فليكفر فانّه لا إكراه في الدّين وطريق الولاية فالاختيار في ذلك إليكم (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيّأنا (لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم في الكفر بك أو في ترك الولاية وغصب الخلافة (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) وان كانوا لا يشعرون بها وسيظهر لهم انّها كانت محيطة بهم (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) كدردىّ الزّيت المغلى أو كالنّحاس المذاب (يَشْوِي الْوُجُوهَ) لفرط حرارته ونتنه حينما يقرب الى الفم (بِئْسَ الشَّرابُ) المهل (وَساءَتْ) النّار (مُرْتَفَقاً) متّكأ ليّنا يستراح به وهو امّا من باب المشاكلة مع قوله وحسنت مرتفقا ، أو من باب استعمال الضّدّ في الضّد تهكّما (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة أو انّ الّذين أسلموا بك بالبيعة العامّة النّبويّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالاتّصال بالولاية (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وانّهم محسنون (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) ممّا رقّ من ثياب الحرير وما غلظ (تَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) على السّرر ، وفسّرت في الاخبار بالسّرر عليها الحجال (نِعْمَ الثَّوابُ) دخول الجنّة والتّحلّى بحليّها (وَحَسُنَتْ) الأرائك (مُرْتَفَقاً وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) اى لحال المؤمن والكافر أو لحال المخلص والمنافق (رَجُلَيْنِ) اى حكاية حال رجلين (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ)

٤٦٤

قيل مثّل حال المؤمن في زهده في زهرة الحيوة الدّنيا وقنوعه بقليل منها وحال الكافر في جمعه لها وافتخاره بها بحال رجلين كانا جارين وكان لأحدهما بستانان كبيران كما حكى الله وكان الآخر فقيرا فافتخرا لغنىّ على الفقير (مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) اى جعلناهما محاطتين بالنّخل بجعل النّخل حولهما أو حولهما واواسطهما أيضا (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما) بين كرومهما ونخلهما (زَرْعاً) فكانتا بحيث يحصل منهما ثماره وإدامه وخبزه (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ) افراد الضّمير بلحاظ لفظ كلتا (أُكُلَها) مأكولها من الثّمار والتّمر والحبوب (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) لم تنقص من الاكل شيئا بالآفة أو بتغيير بحسب الأعوام كسائر البساتين فانّها كثيرا تثمر كما ينبغي في عام وينقص ثمرها في عام آخر (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) ليدوم شربهما ولا يتعب في سقيهما ويزيد بهاء هما (وَكانَ لَهُ) لصاحب الجنّتين (ثَمَرٌ) مال كثير من غيرهما من : ثمر ماله ، إذا كثر (فَقالَ لِصاحِبِهِ) الفقير (وَهُوَ) اى الصّاحب الفقير أو صاحب الجنّتين (يُحاوِرُهُ) يجاوبه في الكلام (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) افتخارا عليه (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) مع صاحبه بقرينة ما يأتى (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالفخر والعجب والغرور والغفلة من الله (قالَ) اغترارا بصورة نضرتها وغفلة من الله وقدرته (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ادّى به الاغترار الى انكار المعاد (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) فرضا كما تزعم (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) بحسب مادّتك البعيدة (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) بحسب المادّة القريبة (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لكِنَّا) أصله لكن انا خفّفت الهمزة وأدغم النّون واجرى بالألف وصلا بنيّة الوقف (هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) هذا ما شاء الله أو ما شاء الله كائن إقرارا بقدرته وانّ الكلّ بمشيّته (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) مقول القول أو مستأنف من الصّاحب (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) في الدّنيا أو في الآخرة (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً) جمع حسبانة بمعنى الصّاعقة (مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) يزلق عليها لعدم نبات وشجر فيها ، وكثيرا ما يقال : ارض زلق لما لا نبات فيها (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) غائرا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) بتنقية مجراه وتجديد منبعه وإخراج الماء منه (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أهلك أمواله تماما أو ثمر جنّته كما قال له صاحبه وأنذره ، نقل عن الخبر انّ الله أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) يعنى على فخذيه لغاية تحسّره فانّ المتحسّر يضع كفّيه على فخذيه ويضربهما على فخذيه ظهرا وبطنا أو يقلّب كفّيه لغاية تحيّره فانّ المتحيّر يقلّب كفيّه (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) تحسّرا على ما أنفق فيها (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) ساقطة كرومها على عروشها الّتى كانت الكروم عليها (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) تذكّرا لما خوّفه به صاحبه (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) بدفع الإهلاك أو ردّ المهلك (مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) بنفسه عن إهلاك الله وممتنعا عنه (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) في موضع تعليل والولاية بالفتح التّصرّف والنّصرة والتّربية وبالكسر السّلطنة والامارة وقرئ بهما ، وهنا لك اسم اشارة يشاربه الى المكان والمراد به مرتبة من النّفس لتشبيهها بالمكان يعنى في تلك الحال الّتى تنقطع آمال النّفس من كلّ ما سوى الله يظهر لها انّ الولاية لله الّذى يظهر

٤٦٥

انّه كان حقّا لا غير ، ولذلك كانت ولايته باقية وولاية غيره باطلة ففائدة التّوصيف الاشعار بظهور كونه تعالى حقّا حينئذ وكون غيره باطلا ، ولا يخفى على المستبصر تأويل الآية وتنزيلها على موسى الفقير العقل وفرعون الغنىّ النّفس ، وصفحتي النّفس العلّامة والعمّالة اللّتين هما جنّتان كثيرتا الثّمار والأجل الّذى هو مهلك الجنّتين ويبيّن هذا التّأويل قوله واضرب لهم مثل الحيوة الدّنيا (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) حال من الله أو استيناف جواب لسؤال مقدّر يعنى هو بذاته ثواب للمتّقين الكاملين في التّقوى وهو خير من كلّ ثواب (وَخَيْرٌ عُقْباً) وهو بذاته عاقبة لا هل التّقوى ولا عاقبة أحسن منه (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أصله اضرب الأسماع بمثل الحيوة الدّنيا لكنّه لكثرة الاستعمال حذف الأسماع وأقيم المثل مقامه وأريد منه معنى اذكر أو أجر أو صيّر وعلى الاوّلين فقوله (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) حال من المثل أو مستأنف بتقدير مبتدء ، وعلى الثّانى فهو مفعول ثان لا ضرب (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) بعد نبته ونموّه واشتداده فصار مصفّرا ومبيّضا (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) منكسرا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) تفرّقه وللاشارة الى سرعة زوالها أتى بالفاء دون ثمّ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من إنزال الماء وإنبات الأرض وجعل النّبات مشتدّا مختلطا ثمّ جعله يابسا هشيما متفرّقا ومن نفخ الرّوح واحياء البدن الجماد بالحيوة العرضيّة الدّانية وجعل قواه مشتدّة قويّة ثمّ جعل البدن ذابلا وجعل قواه ضعيفة بعد قوّتها ثمّ نزع الرّوح منه وجعله وجعل قواه غير مقتدره على التّماسك والتّمانع (مُقْتَدِراً) وبعد ما ذكر عدم بقاء الحيوة الدّنيا وانّ نضرتها ايّام قلائل لا ينبغي ان يغترّ بها العاقل ذكر أصول ما يتعلّق به النّفوس في الحيوة الدّنيا وتهتمّ في جمعه وحفظه وأضافها الى تلك الحيوة اشعارا بسرعة زوالها وانّ العاقل لا ينبغي ان يهتمّ بشأنها بل ينبغي ان يهتمّ بشأن ما هو باق نافع له فقال (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) فتزول بزوالها (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) لا الزّائلات الفاسدات وهي ما تهتمّ به النّفوس من المال والبنين وما يتبعهما وما يلزمهما (خَيْرٌ) من المال والبنين وان كانا خيرا في انظاركم أو خيرا في الواقع (عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) فينبغي ان يطلبها الإنسان ويجعلها مأمولة دون المال والبنين ، والمراد بالباقيات الصّالحات كلّما يفعله الإنسان بحكم العقل لا بحكم النّفس ، وبعبارة اخرى كلّ فعل يبقى اثره في الكلمة الباقية من الإنسان وهي صفحة النّفس الباقية وبعبارة اخرى كلّما يفعله من وجهته الولويّة التّكوينيّة وهي وجه الله الباقي الظّاهر بالولاية التّكليفيّة الحاصلة بالمبايعة الباطنة الايمانيّة ، ولمّا لم يكن لها اختصاص بفعل خاصّ وعمل مخصوص اختلف الاخبار في تفسيرها ، فقد فسّرت في الاخبار بصلوة اللّيل ، وبمطلق الصّلوة ، وبالصّلوات الخمس المفروضة ، وبالتّسبيحة الكبرى ، وبالأولاد الصّالحين ، وبالأشجار المثمرة الّتى يغرسها الإنسان ، وبأصل كلّ الصّالحات وهي الولاية ، وبالمحبّة اللّازمة للولاية أو المستتبعة لها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) بجعلها هباء منبّثا في الجوّ وهو عطف على عند ربّك أو هو بتقدير ذكّر والجملة عطف باعتبار المعنى (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) من تحت الجبال وخلف التّلال بحيث لا يكون فيها تلال ووهاد (وَحَشَرْناهُمْ) للحساب في تلك الأرض البارزة والجملة امّا حال ، وماضويّتها بالنّسبة الى عاملها ، أو عطف وما ماضويّتها لتحقّق وقوعها (فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) لا محسنا ولا مسيئا (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) مصطفّين صفوفا عديدة كما ورد انّهم في ذلك اليوم مائة وعشرون الف صفّ وذلك بحسب مراتبهم في القرب والبعد ، فانّ بنى آدم بحسب الظّاهر نوع واحد ولكنّهم بحسب الباطن أنواع عديدة ولهم مراتب عديدة وكلّ نوع منهم في مرتبة منها مصطفّ بحسب افراده ، ولكلّ

٤٦٦

مرتبة وصفّ نبىّ وامام غير من كان للصّفّ الآخر ولذلك كانت الأنبياء (ع) بعدد الصّفوف مائة وعشرين الفاء بحسب عدد مراتب بنى آدم (لَقَدْ جِئْتُمُونا) استيناف جواب لسؤال مقدّر كانّه قيل : وما تفعل بهم؟ ـ وما تقول لهم؟ ـ فقال : نقول لهم لقد جئتمونا ، أو حال عن فاعل نسيّرا أو فاعل حشرنا أو مفعوله أو فاعل لم نغادر أو ضمير منهم أو فاعل عرضوا منفردا أو على سبيل التّنازع والكلّ بتقدير القول يعنى نقول لهم لقد جئتمونا منفردين عن الأزواج والأولاد والعشائر والمؤانسين وعمّا كسبتم في الدّنيا من المعايش وعمّا كسبتم من العلوم والصّنائع الخياليّة الدّنيويّة ، وعمّا أعطيناكم من القوى والمشاعر الدّنيويّة وعن الأعضاء والآلات البدنيّة الطّبيعيّة ، وعمّن اتّخذتم أولياء من دون الله وذلك كقوله تعالى لقد جئتمونا فرادى (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) عراة عن ذلك كلّه والتّقييد باوّل مرّة للاشارة الى انّ الاعادة خلقة اخرى ثانية أو للاشارة الى انّ الإنسان من بدو خلقته كلّ آن في خلقة اخرى ثانية بناء على الحركة الجوهريّة ، أو على تجدّد الأمثال ، أو على تحلّل بدنه واتّحاده مع بدنه ، أو على تبدّل كيفيّاته (بَلْ زَعَمْتُمْ) لمّا كان قوله لقد جئتمونا ردّا عليهم في زعمهم عدم البعث كأنّه قال لقد جئتمونا وما زعمتم المجيء بل زعمتم عدمه حسن الإتيان بكلمة بل (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وَوُضِعَ الْكِتابُ) اى كتب اعمال الخلائق على ان يكون اللّام للاستغراق ، أو الكتاب الّذى فيه اعمال الخلائق من الألواح العلويّة على ان يكون اللّام للعهد ، أو وضع الكتاب كناية عن نشر الحساب إذا المحاسب يضع كتاب الحساب بين يديه والمراد بوضع الكتاب على الاوّلين وضعه بين أيديهم ، أو على ايمانهم ، وشمائلهم أو في الميزان بناء على انّ صحائف الأعمال توزن (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ممّا ثبت فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) على طريق يا حسرتنا من تنزيل الاعراض منزلة ذوي العقول ثمّ ندائها (ما لِهذَا الْكِتابِ) تعجّبوا منه ومن إحصائه جميع أعمالهم وقد رسم في المصاحف فصل لام لهذا الكتاب من مدخوله اشعارا بانّهم من غاية دهشتهم يقفون على الجارّ الّذى هو كالجزء من الكلمة (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً) فعلة صغيرة أو سوأة صغيرة (وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) الّا عدّها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا بناء على تجسّم الأعمال أو رسم ما عملوا في الكتاب (حاضِراً) والاوّلان اولى للتّأسيس (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) بنقص ثواب منه أو بالعقوبة له من غير استحقاق ، أو بإظهار مساويه وإخفاء محاسنه ، أو بنسبة ما لا يفعله من المساوى اليه ، في الخبر : إذا كان يوم القيامة رفع الى الإنسان كتابه ثمّ قيل : اقرأ فيقرأ ما فيه فيذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم الّا ذكره كأنّه فعله تلك السّاعة فلذلك قالوا : (يا وَيْلَتَنا) (الآية) (وَإِذْ قُلْنا) عطف على عند ربّك والمعنى انّ الباقيات الصّالحات خير ثوابا في الأبد والأزل ، أو عطف على يوم نسيّر الجبال بتقدير ذكّر اى ذكّرهم وقت قولنا قبل خلقتهم (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) قد سبق تفصيله في البقرة (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) يعنى انّه لم يطع ربّه الّذى خلقه وربّاه وأنعم عليه فلا ينبغي ان يجعل وليّا فانّ الخارج عن امر المنعم لا يأتى منه الإحسان (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) والحال انّهم مع الخروج عن طاعة الرّبّ لكم عدوّ فلا ينبغي ان تتّخذوهم أولياء يعنى انّهم في أنفسهم لا يستحقّون الولاية وبالاضافة إليكم أيضا لا يستحقّونها (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ) بجعل الولاية لغير المستحقّ أو هو وجه آخر للمنع عن اتّخاذه وليّا كأنّه قال : وهو للظّالمين ولىّ ومن كان للظّالمين وليّا لا ينبغي

٤٦٧

ان يتّخذ وليّا (بَدَلاً) من الله (ما أَشْهَدْتُهُمْ) ما أشهدت إبليس وذرّيّته ، أو ما أشهدت المشركين كما روى انّ رسول الله (ص) قال : اللهمّ اعزّ الإسلام بعمر بن الخطّاب أو بأبى جهل بن هشام فأنزل الله هذه الآية ، وعلى الاوّل فهو وجه آخر للمنع من جعل إبليس وذرّيّته أولياء يعنى ما أحضرتهم (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكيف يكونون خالقيهما أو متصرّفين فيهما ، ومن لا تسلّط ولا تصرّف له فيهما لا ينبغي أخذه وليّا (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) فهم غير شاعرين بكيفيّة خلقتهم فكيف بخلقة غيرهم والتّصرّف فيه (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وذمّ آخر لهم وهو أيضا وجه آخر للمنع من ولايته (وَيَوْمَ يَقُولُ) عطف على عند ربّك أو على يوم نسيّر الجبال بتقدير ذكّرهم (نادُوا شُرَكائِيَ) على زعمكم والمراد بالشّركاء أعمّ من الشّركاء في الوجوب والآلهة والعبوديّة والطّاعة والولاية والوجود (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) انّهم شركاء (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) اى بين المشركين والشّركاء موبقا لا يصل بعضهم الى بعض ، أو جعلنا وصلهم في الدّنيا سبب هلاكهم في الآخرة كما قيل : انّ بين بمعنى الوصل (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وتهديد الغير المشركين من المجرمين واشارة الى ذمّ آخر وتطويلا في مقام الذّمّ (فَظَنُّوا) أيقنوا كما سبق انّ يقين أرباب النّفس ظنّ لا يقين (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يتذكّر ويعتبر ويدرك به الحقّ والإنسان لغلبة النّسيان والغفلة عليه لا يتذكّر ويخفى عليه الحقّ (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ) يتأتّى منه الجدل (جَدَلاً) وخصومة فانّ الانسانيّة المقتضية لا دراك الكلّيّات وتدبير الأمور تقتضي الفحص عن الأمور ووردّ المردود وقبول المقبول ، وبما ذكرنا ظهر وجه الإتيان بالنّاس اوّلا وبالإنسان ثانيا (وَما مَنَعَ النَّاسَ) كلمة ما نافية أو استفهاميّة ، والإتيان بالنّاس للاشعار بانّ مادّة الإنكار وعدم الاستغفار هي النّسيان (أَنْ يُؤْمِنُوا) بالايمان الخاصّ والبيعة مع علىّ (ع) بقرينة (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) فانّ الهداية خاصّة بشأن الولاية كما انّ الإنذار خاصّ بشأن النّبوّة كما قال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) بالاستغفار الحاصل في ضمن البيعة والايمان فيكون تفصيلا لان يؤمنوا باعتبار بعض اجزائه أو بالاستغفار العامّ الحاصل بالنّدم على المساوى وطلب المغفرة لسانا (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الّا انتظار ان تأتيهم سنّة الله في الاوّلين من إحلال العذاب بهم في الدّنيا أو استعداد ان تأتيهم سنّة الاوّلين من العناد واللّجاج مع أهل الحقّ ، وعلى هذا فلا حاجة في قوله (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) الى التّخصيص بعذاب الآخرة (قُبُلاً) مقابلا مشهودا (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فانّ الرّسول لا محالة يكون جامعا بين جهتي التّبشير والإنذار ليصرف الخلق بالإنذار عن دواعي النّفس ويقرّبهم بالتّبشير الى موائد الآخرة المسبّبة عن اقتضاء العقل ، ولمّا كان التّبشير من جهة ولايته والإنذار من جهة رسالته وكان الرّسول في الأغلب مخاطبا من جهة رسالته لظهورها فيه قال : انّما أنت منذر بطريق الحصر يعنى من جهة رسالتك (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) بالقول الباطل كقولهم ما أنتم الّا بشر ، مثلنا باعتقاد انّ البشريّة تنافي الرّسالة أو بالسّبب الباطل وهو النّفس والشّيطان (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ليزيلوا بالجدل أو بالمبدء الباطل الحقّ عن الثّبات والاستقرار

٤٦٨

(وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) وأعظم الآيات الأنبياء والأولياء (ع) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) من الأنبياء والأولياء (ع) وكتبهم السّماويّة ومواعظهم الوافية وسائر الآيات الآفاقيّة والانفسيّة ، والمقصود هاهنا الأنبياء والأولياء (ع) فانّهم الآيات العظمى وأسباب ظهور سائر الآيات من حيث انّها آيات (فَأَعْرَضَ عَنْها) لعدم الإقبال على الأنبياء (ع) وعدم قبول مواعظهم والعناد معهم وعدم التّدبّر لسائر الآيات وعدم التّنبّه بها (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من المساوى فانّ التّوجّه الى الأنبياء والأولياء (ع) سبب ظهور المساوى وهو سبب كلّ خير كما ورد : إذا أراد الله بعبد خيرا بصّره عيوب نفسه وأعماه عن عيوب غيره ، وإذا أراد الله بعبد شرّا بصّره عيوب غيره وأعماه عن عيوب نفسه ، والاعراض عنهم سبب للغفلة عن سائر الآيات ونسيان المساوى عن نفسه وظهور مساوي غيره (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أستارا ، تعليل للاعراض عن الآيات وتسلية له (ص) لانّه كان يتحسّر على اعراضهم وعدم قبولهم ، أو جواب للسّؤال عن حالهم وعمّا ادّى اليه اعراضهم (أَنْ يَفْقَهُوهُ) كراهة ان يفقهوه أو لان لا يفقهوه بحذف اللّام ولا النّافية ، وتذكير الضّمير وافراده باعتبار القرآن الّذى هو مصداق الآيات ومظهرها ومظهرها ، ويحتمل ان يكون قوله : (إِنَّا جَعَلْنا) ، جوابا عن السّؤال عن علّة عدم التّدبّر في القرآن الّذى به يهتدى الى سائر الآيات ويتنبّه لها كأنّه قيل : لم لا يتدبّرون القرآن حتّى يتذكّروا بسائر الآيات ويقبلوا عليها؟ ـ فقال : انّا جعلنا على قلوبهم اكنّة ان يفقهوا القرآن ، ويحتمل ان يكون كلاما منقطعا عن سابقه من قبيل المخاطبات الّتى تكون بين الأحباب بحيث لا يطّلع عليها رقيب ويكون جوابا عن تحيّره في عدم قبولهم قوله (ص) في علىّ (ع) وولايته كأنّه قال : مالك تتحيّر في عدم قبولهم قولك في ولاية علىّ (ع) انّا جعلنا ، أو مالك تتحسّر على اعراضهم عن علىّ (ع) انّا جعلنا ، ولمّا كان طريق النّجاح منحصرا في التّحقيق والتّفقّه الّذى هو شأن القلب والتّقليد من صادق والتّسليم الّذى يحصل بالسّماع والانقياد للمسموع كما أشار إليهما بقوله : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال تعالى كراهة ان يفقهوه تحقيقا (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) يمنعهم عن السّماع والتّقليد كراهة ان يسمعوه ويقبلوه تقليدا (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى) كالنّتيجة للّسابق يعنى إذا كان على قلوبهم اكنّة وفي آذانهم وقر ، فان تدعهم الى الهدى (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) لانحصار طريق الهداية في التّحقيق والتّقليد وهم ممنوعون من كليهما (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) يعنى انّ طبع القلوب ووقر الأذان بسبب عملهم ومن رحمته لا يعجّل لهم العذاب (بَلْ لَهُمْ) اى لعذابهم (مَوْعِدٌ) يعنى القيامة أو حين الموت أو يوم بدر كما قيل ان كان الاضراب عمّا يتوهّم من عدم العذاب رأسا ، أو المعنى بل لمغفرتهم ونزول الرّحمة بهم بحيث يظهر لكلّ أحد موعد هو يوم القيامة ان كان الاضراب عمّا يتوهّم من العذاب بعد عدم التّعجيل (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ) من دون الله أو من دون الموعد (مَوْئِلاً) ملجأ ، وهو استيناف أو حال أو صفة لموعد (وَتِلْكَ الْقُرى) اى قرى الأمم الماضية (أَهْلَكْناهُمْ) من قبيل الاستخدام أو بتقدير المضاف في المرجع ، أو بإرادة الأهل من القرى مجازا (لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم بالمعاصي والاعراض عن الآيات أو ظلموا الآيات بالعناد أو الخلق بالصّدّ والمنع من الآيات وهو تعريض بامّة محمّد (ص) وتحذير عن الاعراض عن الآيات وترغيب في الإقبال عليها وقبول قوله (ص) في علىّ (ع) (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) اى لهلاكهم أو إهلاكهم على قراءة فتح الميم وضمّه (مَوْعِداً) لا يتجاوزون عنه فلا تغتّروا يا أمّة محمّد (ص) بالامهال وعدم التّعجيل في المؤاخذة ، وفسّر المهلك بنار الآخرة ، والموعد بالقيامة

٤٦٩

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) واذكر تعلّما أو ذكّر تعليما.

اعلم ، انّ في قصّة موسى (ع) وخضر (ع) أنواعا من العبر وتعليما لكيفيّة الطّلب وانّ الطّالب لطريق الآخرة ينبغي ان يكون همّته الوصول الى الإنسان الكامل الّذى هو مجمع بحري الوجوب والإمكان ومرآة تمام الأسماء والصّفات الحقّيّة وجميع الحدود والتّعيّنات الخلقيّة وان يكون له عزم في الطّلب الى انقضاء عمره ، وتعليما لكيفيّة المسئلة بعد الوصول ليحصل له القبول ، ولكيفيّة الصّحبة بعد القبول ، وبيانا لاوصاف الشّيخ وانّ الشّيخ كيف ينبغي ان يربّى ويروّض ، وبيانا لتمام مقامات السّالكين الى الله كما يأتى كلّ في مقامه. والفتى والفتاة يقالان للعبد والامة ، وللخادم والخادمة ، وللمطيع والمطيعة ، وللمؤمن والمؤمنة ، ولصاحب الفتوّة الّذى يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة ، وللشّابّ ، والشّابّة ، والمراد به هاهنا يوشع بن نون (ع) وصىّ موسى (ع) ودليل إرشاده وواسطة بيعته وخليفة نبوّته وكان فتاه بتمام معانيه حيث انّه باع نفسه من الله بواسطته ، وكان خادمه ومطيعه ، ومؤثّرا له على نفسه وشابّا بروحه ، وكان سبب طلب موسى (ع) بعد مقام الرّسالة وفضل العزم كما يستفاد من الاخبار انّه لمّا كلّمه الله وآتاه الألواح وفيها كما قال الله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) رجع الى بنى إسرائيل فصعد المنبر وأخبرهم بما أعطاه الله ، فدخل في نفسه انّه ما خلق الله خلقا أعلم منه فأوحى الله الى جبرئيل : أدرك موسى (ع) فقد هلك وأعلمه انّ عند ملتقى البحرين عند الصّخرة رجلا اعلم منك فصر اليه وتعلّم من علمه ، فنزل جبرئيل (ع) وأخبره وذلّ موسى (ع) في نفسه وعلم أنّه اخطأ ودخله الرّعب وامر فتاه يوشع (ع) ان يتزوّد لطلب ذلك الرّجل.

اعلم ، انّ العجب ورؤية الكمال من النّفس من أعظم المهلكات فانّه أصل معظم المعاصي واوّل معصية وقعت في الأرض لانّه الّذى منع إبليس من السّجود وأوقعه في الاستكبار ، ثمّ الحقد والعداوة ، ثمّ المكر والخديعة أعاذنا الله منه وجميع المؤمنين ، بل نقول : إرسال الرّسل وإنزال الكتب ومعاناة الأنبياء (ع) ومقاساة الأولياء (ع) وطاعات الخلق ومجاهداتهم وامتحان الله لهم وابتلاؤهم بأنواع البلاء لخروجهم من الانانيّة ورؤية النّفس ولذلك قيل : تمام اهتمام المشايخ في تربية السّلّاك لان يخرجوا من الانانيّة ونسبة شيء من الأفعال والأوصاف الى أنفسهم فاذا رأى الشّيخ من السّالك رؤية النّفس والاعجاب بها انزجر منه كما الانزجار (لا أَبْرَحُ) عن السّير والطّلب (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) بحري الرّوم والفارس الّذى وعد الله تعالى موسى (ع) لقاء مجمع بحري الإمكان والوجوب عنده (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) الحقب الدّهر والزّمان لكنّ المراد كما فسّر في الخبر ثمانون سنة دلّ موسى (ع) بلفظ لا أبرح الّذى يدلّ على دوام السّير ولفظ الحقب الّذى هو منتهى ما يمكن من عمره على ثبات عزمه على الطّلب بحيث لا يشغل بغيره حتّى يصل الى مطلوبه أو يفنى عمره في طلبه ، والمقصود من نقله تعليم طريق الطّلب وثبات العزم عليه وانّ الطّالب لطريق الآخرة ينبغي ان يكون كذلك والّا رجع يخفى حنين (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما) تركاه غفلة منه أو نسيا امره حين حيي ودخل البحر ونسي يوشع (ع) ان يخبر موسى (ع) بأمره وقد كان علامة لقائه العالم حيوة الحوت المملوح كما سيجيء الاشارة اليه ، ونسبة النّسيان إليهما مع انّه كان من يوشع (ع) من باب التّغليب وهو تغليب شائع كثير غالب على لسان العرف (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) سلوكا أو سالكا ، مصدر من غير لفظ الفعل أو حال ، وقد اختلف الاخبار اختلافا كثيرا في ذكر الحوت وكونه علامة للوصول الى العالم وكيفيّة حيوته وانفلاته الى البحر وكيفيّة نسيانه ، والسّرّ في اختلافها الاشعار بالتّأويل وانّ صورة التّنزيل عنوان لحقيقة التّأويل فانّ تنزيله كما يستفاد من مجموع الاخبار ما حاصله انّ موسى (ع) قال لجبرئيل (ع) باىّ علامة اعرف الوصول الى مجمع البحرين؟ ـ قال : آيتك ان تحمل معك حوتا فاذا انتعش وحيي دلّك على

٤٧٠

وصولك فحملا حوتا وسارا ومرّا برجل ولم يعرفاه فقام موسى (ع) يصلّى واخرج يوشع (ع) الحوت ووضعه على حجر فحيي أو غسّله في ماء عين الحيوان فحيي وأفلت من يده ودخل البحر ، أو قطر قطرة في المكتل فأصابه وحيي ونسي يوشع (ع) ان يخبر موسى (ع) أو تركاه على الصّخرة وسارا من ذلك الموضع (فَلَمَّا جاوَزا) الموضع عييا وكان موسى (ع) لم يعي في سفر قطّ أو في هذا السّفر الّا في هذا السّير حين جاوزا مجمع البحرين و (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) الغداء ما يتغذّى به في الصّباح (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا) في ابدال اسم الاشارة اشعار بانّه لم يعي قبل ذلك في سفر (نَصَباً) عياء (قالَ أَرَأَيْتَ) كلمة تعجّب في العرب والعجم بلفظها وترجمتها والأصل : أرأيت ما دهاني؟ (إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) فحذف الموصول وصلته وأقيم الظّرف مقامه ، أو الأصل أرأيت بليّة إذ اوينا ، فحذف المضاف وأبقى المضاف اليه ، أو الظّرف بنفسه مفعول على طريق المجاز العقلىّ ، أو المفعول محذوف ، وإذ أوينا مستأنف مفسّر للمفعول المحذوف ، ولفظة إذ متعلّق بمحذوف مفسّر بقوله (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) اى تركته على الصّخرة أو نسيت امره الغريب ان اذكره لك حين حيي وأفلت الى البحر ، وذكر انّه للكثرة ما كان يرى من أمثاله من موسى (ع) لم يكن يبالي به وبذكره (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) لك أو أتذكّره (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً قالَ ذلِكَ) اى امر الحوت لانّه كان دليلا على المطلوب ، أو الرّجل المستلقى عند الصّخرة (ما كُنَّا نَبْغِ) حذف اللّام للوصل بنيّة الوقف اشعارا بعدم تمام الطّلب والسّلوك مع الخضر (ع) (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) في الطّريق الّذى جاء فيه طلبا للموضع والرّجل الّذى كان في ذلك الموضع (قَصَصاً) يقتصّان آثارهما قصصا ، أو مقتصّين ، أو هو مصدر من غير لفظ الفعل (فَوَجَدا) بعد الانتهاء الى الموضع (عَبْداً مِنْ عِبادِنا) شرّفه تعالى بالعبديّة والاضافة الى نفسه (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) ثمّ وصفه بإيتاء الرّحمة وخصّها بكونها من عنده اشارة الى الرّحمة الخاصّة الّتى هي مقام الولاية ، فانّ الرّحمة العامّة الّتى هي من اظلال اسم الرّحمن يؤتيه لكلّ أحد بل لكلّ موجود لانّ ظهور الأشياء ووجودها وقوامها وبقاءها تكون بها ، والرّحمة الخاصّة الّتى هي من اظلال اسم الرّحيم تكون لكلّ من قبل الدّعوة العامّة وباع البيعة النّبويّة ، ولكلّ من قبل الدّعوة الخاصّة وباع البيعة الولويّة ؛ لكنّها لا تكون من عند الله بل من عند خلفائه فلا توصف بكونها من عند الله ، والرّحمة الموصوفة بكونها من عند الله هي الّتى تحصل للسّالك بعد انتهاء سلوكه بحسب استعداده وفنائه عن ذلاته وبقائه بالله بعد فنائه واستخلاف الله ايّاه لدعوة عباده الدّعوة الباطنة أو الدّعوة الظّاهرة وهي المسمّاة بالولاية والموصوفة بكونها من عند الله ، وفيه اشارة الى كون الخضر (ع) وليّا داعيا الى الله بخلافته ، وامّا كونه نبيّا فلا يستفاد منه ، وفي بعض الاخبار انّه كان نبيّا أيضا ، ويمكن حمل ما في الاخبار من كونه نبيّا على خلافة النّبوّة فانّ الولىّ من حيث تعليمه للعباد احكام القالب له خلافة النّبوّة كما قيل : الشّيخ في قومه كالنّبىّ في أمّته (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وصفه بتشريف تعليمه وكون التّعليم من لدنه وكون ما علّمه من لدنه علما لا صنعة فانّ تعليم الأنبياء والأولياء (ع) تعليم الله لكنّه ليس من لدنه بل من لدن خلفائه وكون التّعليم من لدنه قد يتعلّق بالصّنعة كما في قوله تعالى : وعلّمناه صنعة لبوس لكم ؛ فقد أشار تعالى الى أوصاف سبعة للخليفة والشّيخ :

أوصاف الولىّ وهي سبعة

وانّ الدّاعى الى الله ينبغي ان يكون متّصفا بتلك الأوصاف ، الاوّل العبديّة والخروج من حكم نفسه والدّخول في حكم غيره ، والثّانى العبديّة لله تعالى فانّ الخروج من حكم النّفس والدّخول في حكم الغير اعمّ من الدّخول في حكم الله فانّ المريد داخل في حكم المراد والمطيع

٤٧١

في حكم المطاع وليس بداخل في حكم الله بلا واسطة ، والثّالث إيتاء الرّحمة ، والرّابع إيتاء الرّحمة الخاصّة الموصوفة بكونها من عنده ، والخامس تعليم الله ، والسادس كون التّعليم من لدنه ، والسّابع تعلّق التّعليم بالعلم لا بالصّنعة وقد ذكر الأوصاف على ترتيبها الحاصل للسّالك فانّ العبديّة لخلفاء الله مقدّمة على العبديّة له بلا واسطة ، والعبديّة له مقدّمة على إيتاء الرّحمة ، وإيتاء الرّحمة مطلقة مقدّم على صيرورتها من عنده ، وصيرورة الرّحمة من عند الله مقدّمة على التّعليم ، فانّ المراد بالتّعليم هاهنا تعليم احكام الكثرة من حيث الدّعوة والتّأدية الى الله ، وصيرورة التّعليم لدنيّا متأخّرة عن التّعليم المطلق ومقدّمة على تعليم العلم من لدن الله ، وقد ذكر قصّة ملاقاتهما ومخاطباتهما في المفصّلات (قالَ لَهُ مُوسى) بعد الملاقاة وإتمام التّحيّة وما جرى بينهما من المخاطبات (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) مفعول تعلّمنى أو حال من فاعل اتّبعك أو مفعوله أو كليهما أو من فاعل تعلّمنى أو مفعوله أو كليهما أو من مرفوع علّمت أو تميز مبيّن لكلمة ما أو مبيّن لنسبة اتّبع الى الكاف أو مصدر لقوله اتّبعك بتقدير مضاف اى اتّباع رشد أو مصدر لقوله تعلّمنى أو علّمت بتقدير مضاف الى تعليم رشد أو مصدر لفعل محذوف حالا ممّا سبقه أو منقطعا عمّا قبله دعاء أو تعليلا أو مفعول له حصوليّ أو تحصيلىّ محتمل التّعليل لكلّ من الأفعال الثّلاثة ، ويحتمل جريان بعض وجوه رشدا بالنّسبة الى قوله قال له على بعد. والمراد بالرّشد الاهتداء الى تنظيم المعاش وحسن المعاشرة مع النّاس بحيث يؤدّى الى حسن المعاد واستحقاق الأجر من الله ويعبّر عنه بسياسة المدن والاهتداء الى سياسة النّفس وكلّ من كان تحت اليد من القوى والجوارح والأهل والعيال وادخالهم تحت حدود الله ويعبّر عنه بتدبير المنزل والاهتداء الى إصلاح النّفس بتخليتها عن الرّذائل وتحليتها بالخصائل ، ويعبّر عنه بتهذيب الأخلاق. وامّا العقائد الحقّة الثّابتة الجازمة فهي وان كانت أصل الرّشد وبدونها لا يحصل الرّشد لكن لا يطلق الرّشد عليها في الغالب وهي كانت حاصلة لموسى (ع) ويعبّر عن الاوّلين بالسّنّة القائمة ، وعن الثّالث بالفريضة العادلة ، وعن الرّابع بالآية المحكمة ، وإليها أشير في الحديث النّبوىّ حيث قال : انّما العلم ثلاثة آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة. ولقد أجاد (ع) في الطّلب حيث تنزّل عن مقامه العالي الى مقام الفقير المحتاج وابرز الطّلب والسّؤال بصورة الاستفهام لا الأمر المشترك بين الأمر والسّؤال ، وفي حكايته تعلم للعباد وانّ من أراد العلم والارادة كيف ينبغي ان يطلبوا العلم والارادة للعالم والشّيخ وتنبيه على انّ المرء وان كان ذا فضائل كثيرة ومراتب عليّة لا ينبغي ان يتأنّف عن التّعلّم بل ينبغي ان يطلب ما افتقده عمّن يعلم انّ المفقود عنده وان كان الّذى عنده المفقود أدون منه ولا ينظر الى دنوّ رتبته بل يرى نفسه من حيث جهله المفقود أدون منه ومحتاجة اليه فيتضرّع عنده ويتكدّى عليه.

بيان النّيابة للرّسالة والولاية

اعلم ، انّ الأنبياء (ع) لهم مقامات ثلاثة بحسب نسبتهم الى الخلق : الاوّل مقام البشريّة وبه يتعيّشون مثلهم ويأكلون ويشربون ويسعون في حاجاتهم ويحتاجون في المعايش الى معاونتهم وهذا الّذى سدّ طريق الخلق عن قبول نبوّتهم وطاعتهم من حيث انّهم يرونهم محتاجين في المعايش ساعين في تحصيلها ولا يرون منهم مقاما آخر لاختفائه عن النّظر ، ولم يشعروا أيضا بطريق العلم والبرهان ولا بطريق الّذوق والوجدان انّ لهم وراء المرئىّ مقاما لكون علومهم مقصورة على ما في هذه الدّار كما قال تعالى ؛ (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ،

اندرين سوراخ بنّائى گرفت

در خور سوراخ دانائى گرفت

ولذلك قصروا اوصافهم ومقاماتهم على المرئىّ فقالوا : ان أنتم الّا بشر مثلنا ،

أنبياء را مثل خود پنداشتند

همسرى با أنبياء برداشتند

٤٧٢

سورة الكهف

والثّانى مقام الرّسالة وبه يؤسّسون نظام معاش الخلق بحيث يؤدّى الى صلاح الدّارين ويسنّون حدود الله والعبادات القالبيّة وبحسب هذا المقام كانوا يدعون الخلق عموما باللّطف والقهر والاختيار والإجبار ويأخذون البيعة منهم على شرائطها المقرّرة عندهم ، ويسمّى تلك الدّعوة دعوة ظاهرة عامّة وهذه البيعة بيعة عامّة نبويّة وبعد هذه البيعة يقع اسم الإسلام عليهم ، والثّالث مقام الولاية وبحسب ذلك المقام كانوا يدعون المستعدّين دون غيرهم الى طريق القلب والسّير الى الله والسّلوك الى الآخرة باللّطف فقط من غير قهر إجبار كما قال تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) فانّه في هذه الدّعوة يرتفع الإكراه ولا يتأتّى الإجبار لانّ السّير بها سلوك من طريق القلب الّذى هو مستور عن الانظار ولا يتصوّر فيه الإجبار ، وكانوا من هذه الجهة يعلّمونهم احكام القلب ولوازم السّلوك وحدوده بحسب مراتبه وكانوا يأخذون البيعة منهم على شرائطها المقرّرة عندهم ويسمّى تلك الدّعوة والبيعة دعوة خاصّة باطنة وبيعة خاصّة ولويّة ، وبعد تلك البيعة يقع اسم الايمان عليهم وفائدة البيعة العامّة والإسلام الدّخول تحت الحدود والأحكام وحفظ الدّماء والاعراض وتصحيح المناكحة والمواريث وغايته قبول الولاية وقبول الدّعوة الباطنة والبيعة الخاصّة ، ولمّا كان ذلك يحصل بالانتحال والانقياد لأحكام الشّرع اكتفوا بعد زمن النّبىّ (ص) في اطلاق اسم الإسلام وجريان احكامه يمحض هذا الانقياد من دون حصوله بالبيعة أو بحصوله بالبيعة الفاسدة مع خلفاء الجور بخلاف الايمان ، فانّ ثمرته الارتباط والاتّصال باطنا وبذر ذلك الاتّصال لا يحصل الّا بالبيعة والاتّصال الصّورىّ والعقد بالايمان والعهد باللّسان وأخذ الميثاق وشراء الأنفس والأموال ولذلك التزموا فيه البيعة ولم يرضوا عنها باعتقاد الجنان فقط ، ومن هذا يظهر سرّ من اسرار قعود علىّ (ع) في بيته وإرخاء العنان نحوا من خمس وعشرين سنة ، وهكذا كان حال أولياء الله (ع) وائمّة الهدى الّا انّ مقام الرّسالة كان لهم بحسب الخلافة لا الاصالة ، ومقام الولاية كان بالاصالة فقد كانوا يستنيبون في كلّ من المقامين أو في كليهما وكانت سلسلة النّيابة جارية بعد الغيبة الكبرى الى زماننا هذا وقد سمّى النّوّاب في مقام الرّسالة بمشايخ اجازة الرّواية ، والنّوّاب في مقام الولاية بمشايخ اجازة الإرشاد ، والجامعون بين النّيابتين بكلا الاسمين ، ويسمّى الاوّلان بالنّوّاب الخاصّة كما يسمّى غيرهم ممّن نصبوه لامامة الجماعة أو لجمع الأموال أو غير ذلك بهذا الاسم ، ويسمّى الثّالث بالنّوّاب العامّة لعموم نيابتهم في كلّ ما يرجع الى الامام وقد كانت سلسلة اجازة الرّواية في مشايخها منضبطة متّصلة من زمن المعصومين (ع) الى زماننا هذا ، وكذا سلسلة اجازة الإرشاد كانت منضبطة متّصلة من الخاتم (ص) بل من زمن آدم (ع) الى زماننا هذا ؛ فمن ادّعى الفتيا أو الإرشاد من غير اجازة من المأذون في الاجازة من المعصوم (ع) فقد أخطأ وغوى وأغوى ، ومن أفتى أو أرشد بالإجازة فانّ مدادهم أفضل من دماء الشّهداء. وشأن مشايخ الرّواية رضوان الله عليهم تعليم العباد عبادات القالب وسياسة البلاد كالحدود والمواريث وآداب المعاملات والمناكحات ونظرهم الى الكثرات ومراتبها وإعطاء كلّ ذيحقّ حقّه من اللّطف والقهر والإعطاء والمنع ولذلك يسمّون بالعلماء لانّ العلم بوجه هو ادراك مراتب الكثرات وحقوقها ، وشأن مشايخ الإرشاد تعليم احكام القلب والسّلوك الى الله والتّجريد عن الكثرات وعدم الالتفات إليها وتهذيب الأخلاق والاتّصاف بصفات الرّوحانيّين وإماتة الغضب والشّهوة ولذلك يسمّون بالحلماء ؛ لانّهم أماتوا الغضب ورضوا بقضاء الله ، وشأن مشايخ الاجازتين الجمع بين الحقّين وحفظ مراتب الكثرة مع التّمكّن في مقام الوحدة ، والدّعوة الى الوحدة مع الإبقاء في الكثرة والتّصرّف في النّفوس بجذبها الى الوحدة مع توسعتها في الكثرة وخلاصتها حفظ جميع المراتب كما ينبغي ولذلك يسمّون بالحكماء. وقد أشير الى الثّلاثة فيما روى عن السّيّد السّجّاد (ع) انّه قال : لو يعلم النّاس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج ؛ انّ الله تبارك وتعالى اوحى الى دانيال (ع) انّ أمقت عبيدي الىّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم التّارك للاقتداء بهم ، وانّ احبّ عبيدي الىّ التّقىّ الطّالب للثّواب

٤٧٣

الجزيل اللّازم للعلماء التّابع للحلماء القابل عن الحكماء ، والمقصود ملازمة العالم من حيث علمه ومتابعة الحليم من حيث حمله والقبول عن الحكيم من حيث حكمته ، سواء كانت الأوصاف حاصلة لشخص واحد أو كان كلّ في شخص. إذا تمهّد هذا فنقول : انّ الحكيم قد أغناه الله بعلمه عن علم غيره ولا حاجة له الى الرّجوع الى غيره ، وامّا العالم الّذى هو شيخ الرّواية فهو غنىّ عن غيره من جهة علم الكثرات ، وامّا من جهة احكام القلب وتهذيب الأخلاق وعلوم الأسرار فهو محتاج الى غيره فاقد لما هو عند غيره فينبغي له ان يرجع الى الحليم الّذى هو شيخ الإرشاد ويأخذ ما افتقده عنه ولا ينبغي له التّأنّف عنه وان يرى نفسه أفضل من الحليم ، كما انّ موسى (ع) في كمال مرتبة الرّسالة وكونه من اولى العزم وكمال مرتبة علمه بالكثرات رجع الى الخضر (ع) مع انّ مرتبة الخضر (ع) من هذه الجهة كانت أدون من مرتبته وسأل عنه ما كان عنده في كمال التّواضع والتّضرّع وحفظ الأدب وسؤال الاتّباع والقبول مع تأنّف الخضر (ع) عن القبول واستكباره عليه ، وقد أشير في الاخبار الى انّ الحافظ لمراتب الكثرات وحقوقها أفضل واجمع من المستغرق في التّوحيد واسراره ، وقد ورد أيضا انّ موسى (ع) كان أفضل من الخضر (ع) لذلك وكذلك ينبغي لشيخ الإرشاد إذا لم يحصل له مرتبة اجازة الرّواية ان يرجع الى شيخ الرّواية ويتعلّم منه احكام الكثرات ولا يتأنّف عن الرّجوع اليه بل يتواضع عنده ويتذلّل لديه ويسأل احكام الشّريعة عنه ، وينبغي لكلّ ان يأمر اتباعه بالرّجوع الى الآخر فيما عنده حتّى يقع الوداد بين العباد ويرتفع النّزاع والعناد ويستحقّوا الرّحمة والفضل من ربّ العباد وهكذا كان حالهم في زمن الائمّة (ع) وبعده الى مدّة من الغيبة الكبرى. ثمّ لمّا طال الغيبة واختلط الامّة واختفى المشايخ واشتبه الحال على المتسمّين بالشّيعة وتوسّلوا بعلوم العامّة وصوفيّتهم وحصّلوا علم الشّريعة وآداب الطّريقة لأغراض نفسانيّة واعراض دنيويّة وتشبّهوا بالمحقّين من مشايخ الشّيعة وقع التّحاسد والتّباغض والنّزاع والخلاف بينهم وطعن كلّ في طريق الآخر وكفّر بعض بعضا وتفعل بعض في وجوه بعض وما هذا الّا لاهواء كاسدة وأغراض فاسدة ، أعاذنا الله وجميع المؤمنين من شرّه في الدّنيا وتبعته في الآخرة (قالَ) الخضر (ع) تتميما لعزمه وتثبيتا لقدمه وتكميلا لتضرّعه واستعداده وتمهيدا لاخذ الميثاق الأكيد عنه (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لانّى وكلت بأمر لا تطيقه ووكلت أنت بعلم لا أطيقه كما في الخبر وذلك لانّ موسى (ع) وكلّ بعلم الكثرة وحفظ المراتب والنّظر ال الظّواهر وحفظ الحقوق وإيصالها الى أهلها واجراء احكام القالب وحدوده ، وذلك امر عظيم قلمّا يتحمّله الأولياء (ع) الّا من اجتباه الله للرّسالة واستكمله في مقام الكثرة مع كماله في التّوحيد كموسى (ع) وان كان غير مطّلع على بعض اسرار التّوحيد وغرائبه ، والخضر (ع) وكلّ بأمر الولاية واسرارها وغرائب التّوحيد ومن كان حافظا لاوضاع الشّريعة واحكام الكثرة غير محيط بغرائب الولاية والتّوحيد لا يمكنه تحمّل ما يظهر من الغرائب من صاحب الأسرار مخالفا لاوضاع الكثرة واحكام الشّريعة ، وفي الخبر كان موسى (ع) اعلم من الخضر (ع) وفي خبر آخر ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرّتبة على موسى (ع) وهو أفضل من الخضر (ع) وكأنّه كان عالما بانّ موسى (ع) لا يصير مستكملا في الجهتين ولذا أتى بكلمة لن المشعرة بالتّأبيد وقال (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قالَ) موسى (ع) متضرّعا اليه خارجا من انانيّته متوسّلا بمشيّة الله تعالى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) فلمّا تضرّع عليه وتوسّل بالمشيّة واعطى الميثاق من نفسه بعدم العصيان قبله وشرط عليه ان لا يسأل عن شيء صدر منه وينتظر الاخبار منه من غير استخبار ، وفي حكايته تعليم وتنبيه على طريق المتابعة والارادة بترك الانانيّة والاعتراض والسّؤال وان كان ما يراه مخالفا لظاهر الشّريعة.

٤٧٤

سورة الكهف

] الجزء السادس عشر [

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) وذلك لانّه أراد تربيته وتكميله بأسرار الولاية وتعليمه آداب السّلوك وكيفيّة التّربية فقبل ذلك الشّرط موسى (ع) لكنّه ما وفي به لثقل ما رآه من الغرائب الّتى كانت مخالفة للشّريعة (فَانْطَلَقا) طالبين للسّفينة (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) تثنية الضّمير مع كونهم ثلاثة لكون يوشع (ع) تابعا وكونهما مقصودين بالحكاية (قالَ) موسى (ع) (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) استنكر فعله وأنكر عليه نسيانا للشّرط الّذى كان بينهما لعظم ما رأى منه فانّه كان ينكر الظّلم ولا يتحمّل مشاهدته (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) اى منكرا عجيبا (قالَ) الخضر (ع) تنبيها على خلفه وقلّة صبره وتحمّله وتذكيرا لوعده (أَلَمْ أَقُلْ) أسقط كلمة لك هاهنا تخفيفا للعتاب اوّل مرّة (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فتذكّر موسى (ع) عهده بعدم السّؤال وخلفه لوعده واعتذر عن خلفه وسأل القبول وعدم المفارقة و (قالَ) سائلا متضرّعا (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) لفظة ما موصولة أو موصوفة أو مصدريّة وعلى الاوّلين فالمعنى لا تؤاخذني على العهد المنسىّ (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) ولا تغشّنى من متابعتي أو نسياني أو مخالفتي عسرا لا يمكنني معه المتابعة ، نقل عن النّبىّ (ص) انّ الاولى من موسى (ع) كانت نسيانا ، وفيه تنبيه على طريق التّربية وتعليم لكيفيّة السّلوك لانّ السّالك في اوّل الأمر لا بدّ له من تخريب سفينة البدن والنّفس حتّى يتخلّص من سلطان إبليس ويأمن من غصبه (فَانْطَلَقا) بعد الخروج من البحر في البرّ (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً) يلعب بين الصّبيان حسن الوجه كأنّه قطعة قمر وفي أذينة درّتان فنظر اليه الخضر (ع) فأخذه من غير تروّ واستكشاف حال (فَقَتَلَهُ) فوثب موسى (ع) لما أخذته الغيرة لأنّه رأى منه ما استنكره غاية الاستنكار ورأى منه ما يعدّه في ظاهر الشّريعة غاية الظّلم وانّ صاحبه مستحقّ للقتل وكأنّه أخذ البغض في الله الاختيار منه فوثب مضطرّا وأخذ الخضر (ع) وجلد به الأرض ولذلك قال النّبىّ (ص) كانت الاولى منه نسيانا

(قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) بغير قتل نفس ولا يستحقّ الصّبىّ القتل في شرع (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) النّكر أبلغ في الاستنكار من الأمر قال الخضر (ع) انّ العقول لا تحكم على امر الله بل امر الله يحكم عليها فسلّم لما ترى منّى واصبر عليه فقد كنت علمت انّك لن تستطيع معى صبرا. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ) موسى (ع) بعد التّنبّه بانّ غيرته لم تكن في محلّها وانّ فعله هذا الاعذر له وانّه لا طاقة له على تحمّل ما يرى من الخضر (ع) (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) اعترف بالتّقصير واستحيى عن سؤال المصاحبة بعد ما وقع منه ، نقل عن النّبىّ (ص): رحم الله أخي موسى (ع) استحيى فقال ذلك ، لو لبث مع صاحبه لا بصر أعجب العجائب ، وروى عنه (ص) أيضا : وددنا انّ موسى (ع) كان صبر حتّى يقصّ علينا من خبرهما ، وفيه تعليم وتنبيه على انّ السّالك بعد تخريب سفينة البدن ينبغي ان يقتل الغلام المتولّد من آدم الرّوح وحوّاء النّفس الّذى يتولّد في اوّل تعلّق الرّوح الانسانيّة بالنّفس الحيوانيّة وهو الّذى شأنه التّدبير واستعمال الحيل في الوصول الى المآرب الحيوانيّة والاهوية الكاسدة النّفسانيّة ويعبّر عنه تارة بالشّيطنة ، وتارة بالخيال ، وتارة بالوهم لاستعمال الشّيطان له واستعماله الخيال والوهم في استنباط الحيل واستعمالها ، ولو لم يقتل هذا الغلام لأفسد في الأرض وأهلك الحرث والنّسل وأفسد أبويه ، ولو قتل أبدلهما الله

٤٧٥

ربّهما غلام القلب الّذى إذا بلغ اشدّه آتاه الله العلم والحكم وأصلح في الأرض وكان أقرب رحما لأبويه (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي النّاصرة وإليها تنسب النّصارى وكانوا الا يضيّفون أحدا قطّ ولا يطعمون غريبا (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) وكانا جائعين (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ) يشرف (أَنْ يَنْقَضَ) ينشّق (فَأَقامَهُ) بوضع يده عليه وقوله : قم بإذن الله ، وفيه تعليم وتنبيه على انّه ينبغي في آخر السّلوك اقامة جدار البدن وإصلاحه حتّى يستتمّ كمال النّفس بإصلاحه والتّعبير في الاوّل بالسّفينة وفي الآخر بالجدار للاشعار بانّ البدن في اوّل السّلوك كالسّفينة المملّوة من كلّ متاع وفي آخره كالجدار المجرّدة عن متاع النّفس (قالَ) موسى (ع) (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) يعنى لم ينبغ ان تقيم الجدار حتّى يطعمونا ويأوونا ، وهذا السّؤال وان لم يكن مثل سابقيه لكنّه لمّا عهد مع الخضر (ع) ان لا يصاحبه ان سأله (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) اى الفراق الّذى كان معهودا بيني وبينك أو فراق في بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) اى بإرجاعه الى امر حقّ أو بحقيقته (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ويتعيّشون بها (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) اى صالحة وقد قرئ كلّ سفينة صالحة (غَصْباً) وقد فسّر وراءهم في الخبر بإمامهم ، وان كان المراد خلفهم فالمعنى انّ خلفهم ملكا يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا ، وهذه السّفينة إذا رجعت اليه صالحة يأخذها غصبا ، ونظم المعنى يقتضي تقديم قوله وكان وراءهم الى الآخر على قوله فأردت ان أعيبها الى الآخر لانّ ارادة العيب مسبّبة عن أخذ الملك كلّ سفينة غصبا وعن كون أرباب تلك السّفينة مساكين لكنّه وسّطه بين جزئي السّبب اشعارا بانّ الاهتمام في ارادة العيب بحفظ معيشة المساكين والتّرحّم عليهم لا برفع الظّلم ومنع الظّالم ، وبعبارة اخرى كان الجزء المهتمّ به في تلك الارادة من جزئي السّبب هو الحبّ في الله لا البغض في الله ، وبعبارة اخرى كان داعيه الى تلك الارادة هو الرّحمة لا الغضب (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) طهارة من الكفر والشّرك والذّنوب ، أو نموّا فانّ غلام القلب اطهر وأنمى من غلام الشّيطنة (وَأَقْرَبَ رُحْماً) رحمة وعطفا على والديه ، أو هو مأخوذ من الرّحم بالكسر والسّكون والرّحم بفتح الرّاء وكسر الحاء بمعنى القرابة وهذا أوفق بالمعنى إذا القرب بالقرابة أقرب منه بالرّحمة ، روى انّهما ابدلا بالغلام المقتول ابنة فولد منها سبعون نبيّا (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) وهما تأويلا قوّتا القلب العلّامة والعمّالة فانّ القلب بعد تولّده يحصل له قوّتان بإحداهما يتصرّف في كثرات عالمه الصّغير على وفق حكم العقل ، وبالأخرى يتوجّه الى العقل ويأخذ ما هو صلاحه من العلوم والمكاشفات بحسب نفسه أو بحسب عالمه ، وبعبارة اخرى يصير ذا جهتين ، جهة الوحدة وجهة الكثرة ويتمهما عبارة عن عدم اتّصالهما بأبيهما العقل ، أو عدم اتّصالهما الى أبيهما المرشد المعلّم ، وببقاء جدار البدن يستخرجان ما هو المكمون تحته من كنز الجامعيّة بين التّنزيه والتّشبيه والتّسبيح والتّحميد وهو مقام الجمع الّذى هو قرّة عيون السّلّاك وللاشارة الى جهة التّأويل ورد اخبار مختلفة كثيرة في تفسير الكنز بأنّه لم يكن من ذهب ولا فضّة ، وفي بعضها كان : لا اله الّا الله ، محمّد (ص) رسول الله ، وبعده بعض كلمات النّصح والوعظ ، وفي بعضها بسم الله الرّحمن الرّحيم وبعده بعض الكلمات النّاصحة ، وفي بعضها الجمع بين التّسمية والتّهليل ورسالة محمّد (ص) وبعده كلمات النّصح ، وفي بعضها الاقتصار على التّهليل فقط وبعده الكلمات النّاصحة ، وبعد اعتبار جهة التّأويل يرتفع الاختلاف عن الكلّ ويتّحد المقصود

٤٧٦

من مختلفها (فِي الْمَدِينَةِ) اى النّاصرة (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) وصلاح أبيهما صار سببا لمراعاتهما واقامة جدارهما وحفظ كنزهما ، فانّ الله ليحفظ ولد المؤمن الف سنة كما في الخبر وانّ الغلامين كان بينهما وبين أبويهما سبعمائة سنة ، وفي الخبر انّ الله ليصلح بصلاح الرّجل المؤمن من ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) قوّتهما قيل : هو ما بين ثماني عشرة سنة الى ثلاثين وهو مفرد على بناء الجمع نادر النّظير ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدّ بالكسر أو شدّ بالفتح لكنّهما غير مسموعين بهذا المعنى ، ومعنى الجمع أوفق بالمقصود لانّه أريد به قوّة جميع القوى البدنيّة والنّفسانيّة (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ) اى ما رأيت من العجائب أو ما رأيت من اقامة الجدار (عَنْ أَمْرِي) ورأيى.

مراتب السّلوك

اعلم ، انّ مقصود الخضر (ع) كان من إظهار تلك الغرائب ظاهرا وإجرائها باطنا تعليم موسى (ع) طريق التّكميل ، وتكميله من جهة حاجته الى التّعليم وان كان موسى (ع) من جهة الرّسالة ومراقبة احكام الكثرة وحفظ مراتبها أفضل وأكمل من الخضر (ع) كما مرّ لكنّه كان محتاجا الى تعليم الخضر (ع) طريق التّكميل في جهة الوحدة والسّلوك الى الله ، ولمّا كان السّالك في اوّل مراتب سلوكه وهو السّير من الخلق الى الحقّ محتاجا الى خراب البدن واضمحلال القوى النّفسانيّة حتّى يتخلّص من سلطان الشّيطان وغصبه ويسلّم للقوى العقليّة الّتى هي في اوّل الأمر مساكين عاجزون عن اكتساب ما يحتاجون اليه أظهر عليه‌السلام تخريب السّفينة تنبيها وتعليما وتكميلا ، وأسباب تخريب البدن وكسر قوى النّفس غير محصورة ولا ضبط لها ولا ميزان بل تكون اختياريّة كانواع الرّياضات والسّياحات والعبادات ، وتكون اضطراريّة كانواع البلايا والامتحانات الّتى يوردها الله على السّالك بحسب ما يقتضيه حكمته بل نقول : دخول السّالك في السّلوك وقبول الشّيخ ايّاه والتّوبة على يده وتلقينه الذّكر بشروطه اوّل كسر قوى النّفس واوّل مراتب جهاده ومقاتلته مع قوى النّفس واوّل قدرة الإنسان على الجهاد والغلبة ويحصل له بامداد الشّيخ الغلبة مرّة بعد اخرى حتّى يحصل له السّلطنة والحكم ، والسّالك في تلك المرتبة من السّلوك كافر محض بالكفر الشّهودى حيث لا يرى الله مجرّدا ولا في مظاهره حالّا أو متّحدا معها ، والشّيخ ينبغي ان يتنزّل عن مقامه العالي الى هذا المقام ويخاطب السّالك مطابقا لحاله مشعرا بكفره واستتار الحقّ عنه ولذلك قال الخضر (ع) في اوّل الأمر (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، بنسبة الفعل الى نفسه استقلالا وإظهارا لانانيّته من غير اشارة الى شراكة أو تسبيب من الله ، ولمّا كان كلّ ما ينسبه السّالك الى نفسه وكلّ ما يراه من انانيّته نقصا وشرّا وعيبا ابرز الفعل المنسوب الى انانيّته بلفظ العيب تنبيها على انّ السّالك ينبغي ان لا يرى الّا عيب فعله في ذلك المقام وان كان خيرا فقال ان أعيبها ولم يقل ان استخلصها من الغصب أو اسلّمها لأربابها ، ولا يرى السّالك حينئذ الّا طريق (١) الاعتزال ويرى نفسه مختارة والحقّ معزولا. فاذا انتهى سفره هذا وابتدأ السّفر الثّانى وهو السّير من الحقّ والخلق الى الحقّ وبعده من الحقّ الى الحقّ ينبغي ان يقتل ويمحو الشّيطنة الّتى هي رئيس تمام القوى النّفسانيّة والجنود الشّيطانيّة حتّى يتولّد طفل القلب ويطهر بيت الصّدر وينزل الاملاك فيه ويعمروا بيت القلب ويطهّروه لدخول ربّ البيت فيه ، وفي هذا السّفر منازل كثيرة جدّا بحسب تجليّه تعالى بأسمائه على السّالك مفردة أو منضّمة ، وفي هذا السّفر يظهر عليه جميع العقائد الباطلة وينحرف الى جميع المذاهب المختلفة من الثّنويّة والابليسيّة والوثنيّة والصّابئيّة والجنّيّة والملكيّة والغلوّ والنّصب

__________________

(١) ـ من انتساب الأفعال الى العبد بنحو التّفويض لعدم رؤيته حينئذ غير نفسه حتّى يداخله في فعله.

٤٧٧

والاعتزال والجبر والتّوسّط بينهما والحلول والاتّحاد والوحدة والاباحة والإلحاد ونفى الحشر وإثبات المعاد وانكار النّبوّة وإثباتها بحسب تجليّاته المختلفة بأسمائه المختلفة المتضادّة بحيث يرى كلّ هذه لو لم يكن عناية شيخ عليه حقّه وجميع المذاهب نشأت من هذا السّير من حيث انّه لم يكن سلّاكه تحت امر شيخ يربّيه ، ويظهر بطلان الباطل عليه ، فانّه قد يظهر عليه عالم النّور والظّلمة ويراهما متصرّفين في عالم الطّبع فيحسب انّ للعالم مبدئين النّور والظّلمة ، وقد يرى في العالمين حاكمين يتصرّف فيهما وفي عالم الطّبع فيحسب انّ المبدء يزدان واهريمن ، وقد يرى العالمين وحاكمهما مستقلّين غير معلول أحدهما للآخر فيظنّ انّهما قديمان ، وقد يرى عالم الظّلمة وحاكمه معلولين للنّور وحاكمه فيحسب انّ أحدهما قديم والآخر حادث ، وقد يتجلّى تعالى شأنه على بعض المظاهر كالاملاك والأفلاك والفلكيّات والعناصر والعنصريّات والأبالسة والجنّة باسم الآلهة فيظنّ انّه مستحقّ للعبادة وقد يتجلّى ببعض أسمائه على السّالك أو على غيره بحيث يراه حالّا فيه فيعتقد الحلول ، وقد يعتقد في هذا التّجلّى الجبر حين يرى الفعل منه تعالى جاريا عليه ، وقد يتجلّى كذلك بحيث يرتفع الاثنينيّة فيعتقد الاتّحاد وقد يعتقد في هذا التّجلّى التّوسّط بين الجبر والتّفويض ، وقد يتجلّى عليه أو على غيره بحيث لا يبقى شعور من السّالك بغيره تعالى وان كان باقيا عليه بعد شيء من البشريّة فيظهر منه حينئذ الشّطحيّات مثل : سبحاني ما أعظم شأني ، وليس في جبّتى سوى الله ، وانّا الحقّ ، وأمثال ذلك ، وقد يعتقد السّالك الغلوّ في كلّ من تلك التّجليّات الثّلاثة ، ولعلّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) كان اشارة الى الثّالث من تلك المقامات ، لانّه تعالى لم يشر الى بقاء نفسيّة لهم في العبارة ، وقد يتجلّى باسم الواحد عليه وعلى ما سواه فيمحو المراتب والتّعيّنات عن نظر السّالك فيعتقد الوحدة ويتولّد منه الاباحة والإلحاد والزّندقة وانكار الرّسالة وانكار المبدء والمعاد وسقوط العبادات ولا يخلو السّالك في هذا السّفر عن الشّرك الوجودىّ ورؤية الانانيّة من نفسه مع شهود الحقّ مجرّدا أو في المظاهر ، وأيضا قلّما ينفكّ عن الخشية وان كان قد زال عنه الخوف لانّه جاوز السّفر الاوّل ، والخوف من لوازمه ، وللاشارة الى هذا السّفر والإشراك والخشية اللّازمين فيه قال فخشينا تشركيا في الانانيّة حيث تنزّل الى هذا المقام مداراة مع موسى (ع) وموافقة له ، والخشية وان لم يصحّ نسبتها الى الله تعالى منفردا لكن تشريكه تعالى في الانانيّة مع كون نسبتها الى أحدهما صحيح ، وأيضا الخشية حالة حاصلة عن التّرحّم والخوف (١) ، وبعبارة اخرى حالة ممتزجة من لّذة الوصال والم الفراق والفوات ، ونسبتها إليهما باعتبار جزئيها صحيحة ولرؤية الارادة من نفسه ومن الله قال فأردنا بالتّشريك ، ونهاية هذا السّفر نهاية الفقر وبداية الغنى كما أشير اليه بقوله : الفقر إذا تمّ هو الله ، وفي تلك الحالة ان بقي عليه شيء من بقايا نفسه وبقايا البشرية يظهر منه الشّطحيّات كما سبق ، وبعد هذا السّفر السّفر بالحقّ في الحقّ ، وفي هذا السّفر لا يبقى عين من السّالك ولا اثر فلا يكون منه ومن سفره خبر ، ولذا لم يظهر الخضر (ع) منه شيئا ولم يخبر عنه بشيء ، وبعد هذا السّفر السّفر بالحقّ في الخلق ، وهو آخر مقامات السّالكين ونهاية سير السّائرين وبحسب السّعة والضّيق والتّمكّن والتّلوّن في تلك المقامات يتفاضل السّلاك والأولياء والرّسل (ص) ، وهذا السّفر هو البقاء في فناء والبقاء بالله ، وفيه شهود جمال الوحدة في مظاهر الكثرات ، وفيه حفظ الوحدة في عين لحاظ الكثرة ، وحفظ المراتب وحدودها في عين شهود الوحدة ، وجمال الحقّ الاوّل ، وفي هذا السّفر لا يبقى الانانية الّا لله الواحد القهّار ، ولا يرى السّالك فعلا وصفة وحولا وقوّة الّا من الله وبالله فيقول عن شهود وتحقيق : لا اله الّا الله ، ولا حول ولا قوّة الّا بالله ، وهو الاوّل والآخر والظّاهر والباطن ، وهو بكلّ شيء عليم ، وهو بكلّ شيء محيط ، ولا مؤثّر

__________________

(١) فينسب ترحم والوصال الى الله والخوف والفراق الى العبد فانّ جهة العبديّة ليست الّا الخوف والفراق والجهة الإلهيّة ليست الّا التّرحّم والوصال فلا يظهر الوصال الّا برفع جهة العبديّة.

٤٧٨

في الوجود الّا الله ، وفي هذا المقام صدر عن بعض الكاملين ما ظاهره وحدة الوجود الممنوعة مثل ، سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ، فانّه بتجلّيه الفعلىّ عين كلّ ذي حقيقة وحقيقته فالمعنى وهو بفعله الّذى هو المشيّة حقيقة كلّ ذي حقيقة ، ومثل قول الشّاعر بالفارسيّة :

غيرتش غير در جهان نگذاشت

زان سبب عين جمله اشيا شد

فانّ الغيرة من صفاته الفعليّة وهي من أسماء المشيّة يعنى انّ غيرته الّتى هي فعله صارت حقيقة كلّ ذي حقيقة ومثل : ليس في الدّار غيره ديّار ، ومثل قوله :

كه يكى هست وهيچ نيست جز أو

وحده لا اله الّا هو

وغير ذلك ممّا قالوه بالعربيّة والفارسيّة نثرا ونظما ممّا يوهم الوحدة الباطلة فانّها كلّها صحيحة كما أشير الى صحّتها ان كان صدورها عن صاحب هذا المقام ، وان كان صدورها عن صاحب السّفر الثّانى كانت من جملة الشّطحيّات كما سبق ، ولعلّ قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) بإثبات نفسيّة للرّسول (ص) ونفى الفعل عنه وإثباته له كان اشارة الى هذا المقام. ولمّا حصل مقصوده (ع) من تعليم الخضر (ع) وانتهى سفره الى هذا السّفر واستكمل سيره في المراتب الممكنة للإنسان ولم يبق ممّا يستحقّه بحسب الاستعداد شيء ، قال الخضر (ع) : هذا فراق بيني وبينك ، ولمّا لم يبق في نظر شهوده الّا الله وتجلّى له باسمه الجامع على كلّ شيء وفيء ولم ير فعلا وحولا وقوّة الّا من الله تعالى تبرّء الخضر (ع) حينئذ موافقا لحال موسى (ع) من انانيّته ونسب الفعل مطابقا لشهود موسى (ع) الى الله وحده فقال (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ، وفيما روى عن الصّادق (ع) اشارة اجماليّة الى جميع ما ذكر لانّه قال في قوله فأردت ان أعيبها فنسب الارادة في هذا الفعل الى نفسه لعلّه ذكر التّعييب لانّه أراد أن يعيبها عند الملك إذا شاهدها فلا يغصب المساكين عليها وأراد الله عزوجل صلاحهم بما امره به من ذلك فذكر في علّة التّفرّد بالانانيّة التّعييب هناك وأشار (ع) في الفقرة الثّانيه الى الوجه الآخر الّذى هو احتجاب الله عن نظره في هذا المقام حيث قال في قوله : فخشينا ان يرهقهما انّما اشترك في الانانيّة لانّه خشي والله لا يخشى لانّه لا يفوته شيء ولا يمتنع عليه أمر اراده وانّما خشي الخضر (ع) من ان يحال بينه وما أمره به فلا يدرك ثواب الإمضاء فيه ووقع في نفسه انّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام فعمل فيه وسط الأمر من البشريّة مثل ما كان عمل في موسى (ع) لانّه صار في الوقت مخبرا وكليم الله موسى (ع) مخبرا ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرّتبة على موسى (ع) وهو أفضل من الخضر (ع) بل كان لاستحقاق موسى (ع) للتّبيين لانّ قوله (ع) : لانّه خشي والله لا يخشى : وان كان بظاهره لا يناسب الاشتراك في الانانيّة لكنّه بضميمة قوله ووقع في نفسه انّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام مع قوله (ع) فعمل فيه وسط الأمر من البشريّة يصير مناسبا للاشتراك في الانانيّة ، فانّ معناه انّ الخشية بتمام اجزائها لا يصحّ نسبتها الى الله لكنّها باعتبار جزءها الّذى هو الرّحمة يصحّ نسبتها اليه تعالى ، وقوله فعمل فيه وسط الأمر اشارة الى وسط حال الإنسان من مشاهدة نفسه ومشاهدة الله ، وكذا قوله : وقع في نفسه انّ الله جعله سببا لرحمة أبوي الغلام ، يدلّ على مشاهدة الله وتسبيبه ، وقوله : مثل ما كان عمل في موسى (ع) يشير الى انّ الخضر (ع) تصرّف في موسى (ع) ورفع درجته عن مقام الاحتجاب الى مقام شهود الله وشهود الواسطة ، وقوله : لانّه صار في الوقت مخبرا ، تعليل لتصرّف الخضر (ع) في موسى (ع) مع انّه كان انقص منه ، والمعنى انّ الخضر (ع) صار في وقت اتّباع موسى (ع) مخبرا ومعلّما لما لا علم لموسى (ع) به وموسى (ع) صار تابعا ومتعلّما وتصرّف الخضر (ع) كان من هذه الجهة ، ولا ينافي ذلك اكمليّة موسى (ع) من جهة اخرى ولذا قال : ولم يكن ذلك باستحقاق للخضر (ع) الرّتبة على موسى (ع) والّا فمحض المخبريّة والمخبريّة تقتضي الرّتبة للمخبر على المخبر بوجه ، وقال (ع) في

٤٧٩

قوله : فأراد ربّك فتبرّء من الانانيّة في آخر القصص ونسب الارادة كلّها الى الله تعالى ذكره في ذلك لانّه لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به بعد ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له فتجرّد من الانانيّة والارادة تجرّد العبد المخلص ثمّ صار متنضّلا ممّا أتاه من نسبة الانانيّة في اوّل القصّة ومن ادّعاء الاشتراك في ثانى القصّة فقال رحمة من ربّك وما فعلته عن أمرى فقوله (ع) لانّه لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به يعنى لم يكن بقي شيء ممّا فعله فيخبر به حتّى يحتاج الى وساطته ويراه واسطة بل تجرّد نظره الى الله واستغنى عن الواسطة وفي قوله ويصير موسى (ع) به مخبرا ومصغيا الى كلامه تابعا له ، اشارة الى انّه استغنى عن الشّيخ والواسطة واستكمل في جهة نقصه وتعلّم ما يحتاج الى تعلّمه (ذلِكَ) المذكور من بيان حكمة كلّ ممّا رأيته (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) اى حقيقته وحكمته فانّ التّأويل كثيرا ما يستعمل فيما يئول اليه أو إرجاع ما لم تسطع الى حقيقة صحيحة وحكمة مقتضية من مصدره وغايته ، وأسقط التّاء من لم تسطع هاهنا اشعارا بظهور نقصان طاقته عن الصّبر عليه ولم يسقط التّاء عمّا سبق من قوله لن تستطيع في الموارد وقوله (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ) لعدم ظهور نقصان الاستطاعة بعد على موسى (ع) بل كان مدّعيا للاستطاعة كما روى عنه (ع) انّه قال بل أستطيع (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) ورد في سبب نزوله ما سبق في سبب نزول قصّة أصحاب الكهف ، وورد انّه سأله (ص) نفر من اليهود عن طائف طاف المشرق والمغرب.

اعلم ، انّ المسمّى بذي القرنين كان اثنين أكبر وأصغر وكلاهما ملكا في الأرض وانّ ذا القرنين الأكبر هو الّذى كان عبدا صالحا نبيّا أو غير نبىّ وهو الّذى طاف المشرق والمغرب وبنى سدّ يأجوج ومأجوج ، وهو كان غلاما من أهل الرّوم وكان ابن عجوز فقيرة وهبه الله تعالى الملك والسّلطنة ، وورد انّه سمّى بذي القرنين لانّه بعث في قومه فدعاهم الى الله فضربوه على قرنه الأيمن فأماته الله أو غاب عنهم على اختلاف الرّوايات خمسمائة عام أو مائة عام أو مدّة على اختلاف الرّوايات أيضا ، ثمّ بعثه الله فدعا الى الله فضربوه على قرنه الأيسر فأماته أو غاب عنهم في المدّة المذكورة ، ثمّ بعثه الله تعالى فملك المشرق والمغرب ، وورد أيضا انّه عوّضه الله في مكان الضّربتين على رأسه قرنين أجوفين وجعل عزّ ملكه وآية نبوّته في قرينه ، ثمّ رفعه الله الى السّماء الدّنيا فكشط له عن الأرض كلّها جبالها وسهولها وفجاجها حتّى ابصر ما بين المشرق والمغرب وآتاه الله من كلّ شيء سببا فعرف به الحقّ والباطل وايّده في قرنيه بكسف من السّماء فيه ظلمات ورعد وبرق ، ثمّ أهبطه الى الأرض واوحى اليه سر في ناحية غربىّ الأرض وشرقيّها فقد طويت لك البلاد وذلّلت لك العباد فأرهبتهم منك وذلك قول الله تعالى انّا مكنّا له في الأرض ، وورد أيضا انّه رأى في المنام كأنّه دنا من الشّمس حتّى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فلمّا قصّ رؤياه على قومه وعرفهم سمّوه ذا القرنين فدعاهم الى الله فأسلموا ، وذكر في التّواريخ انّه لمّا طاف المشرق والمغرب سمّى ذا القرنين. وقيل : انّه لمّا كان كريم الطّرفين أبا وامّا سمّى ذا القرنين ، وقيل : كان له ضفيرتان من طرفي رأسه ولذلك سمّى ذا القرنين ، وقيل : كانت صفحتا رأسه من صفر أو من نحاس أو من حديد أو من ذهب ولذلك سمّى ذا القرنين. وقد اختلف الاخبار في نبوّته وعدمها واسمه كان عبد الله بن الضحّاك ولقبه كان عيّاشا ، واختلاف الاخبار في باب قرنيه ونبوّته يشعر بالتّأويل خصوصا ما ذكر في الاخبار من قولهم (ع) : وفيكم مثله مشيرين الى أنفسهم ، فانّه كلّما ذكر لشخص في العالم الكبير فهو جار فيه في نوعه ، وكلّما كان في العالم الكبير شخصا أو نوعا فهو جار في العالم الصّغير ، وقد اختلف الاخبار والتّواريخ في زمان ظهوره فانّه ذكر انّه كان بعد زمان نوح (ع) ، وذكر انّه كان معاصرا لإبراهيم (ع) ، وذكر انّه كان بعد عيسى (ع) (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) اى ما يتذكّر به وهو قوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ)

٤٨٠