تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

وإبداء لّذمّ آخر لهم ، اعلم ، انّ عالم الطّبع واقع بين العالمين الملكوت العليا والملكوت السّفلى ، والإنسان الّذى هو خلاصة عالم الطّبع أيضا واقع بين هاتين الملكوتين ولهما التّصرّف في هذا العالم وفي بنى آدم ، لكن تصرّف الملكوت العليا في الخيرات والوجودات والجذب الى عالم الخيرات ومعدن النّور ، وتصرّف الملكوت السّفلى في الشّرور والاعدام والجذب الى عالم الظّلمة ومعدن الشّرور ، والملكوت العليا عالم نورانىّ لا ظلمة فيها والملكوت السّفلى عالم ظلمانىّ لا نور فيها ؛ والحاكم في الاولى هو الله وفي الثّانيّة هو الشّيطان ومن هنا وهم الثّنويّة حيث انسلخ مرتاضوهم عن الطّبع واغشيته واتّصلوا بالمجرّدات فشاهدوا العالمين ، فقال من لم يشاهد حكومة الملكوت العليا على السّفلى : انّهما قديمان حاكمان على العالم ، وقال من شاهد إيجاد العليا للسّفلى : انّ السّفلى حادثة لكن لها التّصرّف والحكومة بالاستقلال على العالم ، وقال من شاهد انّ في كلّ من العالمين حاكما وله الحكومة على عالمه وعلى عالم الطّبع ، انّ للعالم الهين : يزدان واهريمن ، وقال بعض : انّ كلا قديم ، وقال بعض : انّ اهريمن مخلوق حادث والملكوت السّفلى دار الشّياطين وسجن أهل الشّقاء وفيها النّار والجحيم وكلّ ما ورد في الشّريعة من عذاب الأشقياء والكافرين ومن الحيّات والعقارب والزّقّوم والحميم ، والإنسان الواقع بين العالمين إذا توجّه الى تلك الملكوت باتّباع الشّياطين واختيار النّفس وشهواتها ، ما لم يتمكّن في هذا الاتّباع كان على شفير جهنّم وشفاجرف هذا الوادي ، وإذا تمكّن في هذا الاتّباع بحيث لم يبق له حالة رادعة صار داخلا في هذا العالم وواقعا في مقام يحيط به لهب جهنّم وكان جهنّم محيطة به باعتبار جمراتها ولهباتها كما قال تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) غنيمة وغلبة في تلك الغزوة (تَسُؤْهُمْ) استيناف في موضع التّعليل يعنى انّهم أحاط بهم الحسد الّذى هو من آثار السّجّين واشتعال نار الجحيم واحاطته دليل احاطة جهنّم بهم (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) قتل أو جرح أو انهزام (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) اى الأمر الّذى هو لائق بنا وبجودة رأينا من التّخلّف عمّا فيه الهلاك والاغترار بما لا حقيقة له من نصرة الله وملائكته (وَيَتَوَلَّوْا) عنك وعن المؤمنين (وَهُمْ فَرِحُونَ) بما أصابك لاقتضاء الحسد ذلك (قُلْ) لقومك تسلية لهم حين المصيبة عن المصيبة وعن شماتة القاعدين أو قل للمتخلّفين ردّا لهم في فرحهم بإصابة المصيبة وفي قولهم قد أخذنا أمرنا (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) وما كتب الّا ما فيه صلاحنا (هُوَ مَوْلانا) استيناف في موضع التّعليل (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) عطف على قل فهو من كلام الحقّ أو على ما بعده فهو مقول القول ، والفاء امّا على تقدير امّا أو توهّمه ، أو زائدة ، أو عاطفة على محذوف حذف وأقيم معمول ما بعده مقامه إصلاحا للّفظ ومثله في تقديم معمول ما بعد الفاء عليها لا صلاح اللّفظ قولك وامّا على الله فليتوكّلوا أو الأصل ليتذكّر المؤمنون فليتوكّلوا على الله وبعد حذف المعطوف عليه واقامة معمول ما بعد الفاء مقامه أظهر فاعل المعطوف لعدم تقدّم ذكر المرجع (قُلْ) تسلية لقومك وردعا للمتخلّفين الفرحين (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) الظّفر والغنيمة أو القتل والجنّة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) احدى السّوئتين (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بالقتل والبلايا الشّديدة من دون واسطة بشر (أَوْ بِأَيْدِينا) بالقتل والأسر والتّعذيب بأيدينا (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) في الخبر في تفسير الّا احدى الحسينين امّا موت في طاعة الله أو ادراك ظهور امام (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) تزييف لاعمالهم القالبيّة كما انّ سابقه تزييف

٢٦١

لخواطرهم القلبيّة النّاشئة عن رذائلهم النّفسيّة والمقصود التّهكّم بهم والتّسوية من الإنفاق بالطّوع والإنفاق بالإكراه وليس الأمر على حقيقته (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) استيناف في موضع التّعليل (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لعدم القبول (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) عطف باعتبار المقصود ، فانّ المقصود من امره (ص) إظهار عدم قبول نفقاتهم فكأنّه تعالى قال لا يقبل منهم نفقاتهم الّتى أنفقوها طوعا أو كرها وما منعهم ان تقبل نفقاتهم (الى الآخر) يعنى انّ كفرهم بالله منعهم من قبول نفقاتهم فانّ الأعمال كلّها قبولها بالايمان بالله (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ) القالبيّة إظهارا لأحكام الإسلام (إِلَّا وَهُمْ كُسالى) لعدم نشاطهم بالأعمال الاخرويّة لكفرهم (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الخطاب للنّبىّ (ص) والمعنى على ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع تعليل للنّهى (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) الزّهوق الخروج بصعوبة ، اعلم ، انّ النّفوس البشريّة لمّا كانت سفليّة ترى الخير في الجهات الدّنيويّة وان لا خير سواها وهي محصورة فيما اقتضته قوّتاها الشّهويّة والغضبيّة ، وما اقتضته الشّهويّة امّا محبوب لها من غير شعور منها بغاية له أو محبوب لها لغيره ، والاوّل كالأولاد فانّ النّفوس مفطورة على محبّتهم غير شاعرة بغاية لتلك المحبّة ، والثّانى كالاموال فانّها محبوبة لغايات عديدة هي محبوبة لها بذاتها ، كالمأكول والمشروب والملبوس والمسكون والنكوحة والمركوب والحشمة والخدم والجاه والعرض وجذب القلوب والصّيت والثّناء وغير ذلك ، وقد يصير كثرة المال محبوبة لذاتها إذا غلب الحرص وأعمى صاحبه حتّى انّه يقترّ في ما اقتضته الشّهويّة حفظا للمال وحبّا له ، كما انّه قد يصير الأولاد محبوبة لغيرها ، وما اقتضته الغضبيّة هو التّبسّط في البلاد والتّسلّط على العباد وارادة الانتقام وسهولته وانقياد الخلق وطاعتهم وسياسة من خرج منهم من الطّاعة ويتولّد من هذه المذكورات جملة الرّذائل ويختفى بسببها جملة الخصائل ويتوسّل إليها كلّها بكثرة المال والأعوان وأقوى الأعوان الأولاد ، وامّا الشّيطنة فانّها في مقتضياتها خادمة للشّهويّة والغضبيّة بوجه فمن رأته صاحب كثرة الأموال والأولاد حسبته صاحب خيرات كثيرة واعجبتها كثرة أمواله وأولاده وتمنّت ان تكون لها هذه ، ولم تدر أنّها شاغلة له عن العلوّ والتّوجّه الى الله متعبة له في جمعها وحفظها مولمة له بخوف تلفها وحين تلفها ؛ ولذلك اقتصر على ذكر الأولاد والأموال ونهى نبيّه (ص) تعريضا بامّته عن الاعجاب بها كصاحب النّفوس السّفليّة معللا بعذاب الدّنيا والخروج الى الآخرة مع الكفر الموجب لعذاب الآخرة (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) عطف بلحاظ المعنى فانّ المقصود من السّابق انّهم خارجون عن المسلمين غير متّصفين بصفاتهم وكأنّه قال حين قال : وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتهم لم يكونوا على صفة المسلمين مقبولى النّفقات ويحلفون بالله (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ) تكذيب لهم في حلفهم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافونكم على أموالهم وأنفسهم (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) حصنا يتحصّنون فيه أو سلطانا يتقوّون به وهو جواب سؤال اقتضاه تكذيبهم (أَوْ مَغاراتٍ) في الجبال (أَوْ مُدَّخَلاً) أسرابا في الأرض (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) وأعرضوا عنكم وما انتحلوا صورة الإسلام (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون اليه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) يعيبك

٢٦٢

(فِي الصَّدَقاتِ) في قسمتها وجمعها وحفظها للايصال الى مستحقّها (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) لاتّباعهم لك في الأغراض الفاسدة والاعراض الكاسدة لا لأمر الدّين والآخرة ، وقد ذكر شأن نزولها في الاخبار وانّها نزلت حين لمز الأغنياء رسول الله (ص) في تقسيم الصّدقات على الفقراء ، وورد انّ أهل هذه الآية أكثر من ثلثي النّاس ، والتّحقيق انّ كلّ من غلب حبّه للدّنيا على حبّه للآخرة فهو من أهل هذه الآية وأغلب النّاس ليس لهم حبّ للآخرة وأغلب من كان له حبّ الآخرة حبّه للدّنيا غالب على حبّه للآخرة (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ) من الغنى والفقر والأولاد والعقم والعزّة والّذلّة والصّحّة والسّقم والأمن والخوف وغير ذلك ممّا ليس بيد العبد ، أو المراد ما آتاهم الله من الصّدقات والغنائم على يد رسوله (ص) فانّ الكلام فيها فيكون ذكر الله اشارة الى انّ إعطاء محمّد (ص) إعطاء الله وانّه لا يفعل من عند نفسه وهو تعظيم لشأنه (ص) (وَرَسُولُهُ) من الغنائم والصّدقات فانّ الرّضا بقضاء الله إذا قضى ما لا يلائم يهوّن امره وإذا قضى ما يلائم يورث الشّكر ويجلب المزيد ، والرّضا بما أعطاه الرّسول (ص) قليلا كان أو كثيرا يورث المحبّة له والتّوجّه اليه والاتّباع له وفي الكلّ خير الدّنيا والآخرة وعدم الرّضا يورث أضدادها (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) منقطعين من الكلّ اليه متوكّلين عليه راجين من فضله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في موضع التّعليل (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) المسكين كما مضى أسوء حالا من الفقير وهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ، والفقر من لا يقدر بالفعل أو بالقوّة على قوت سنته (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) اجرة لعملهم (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) فانّهم معدّون لحفظ ثغور المسلمين أو مستمالون لاستماع آيات القرآن واحكام المسلمين حتّى يعرفوا انّ محمّدا (ص) رسول الله (وَفِي الرِّقابِ) العبيد تحت الشّدّة أو المكاتب العاجز عن أداء مال الكتابة أو ما يلزم المسلمين من الكفّارات ولم يقدروا على أدائها (وَالْغارِمِينَ) الّذين لم يستدينوا في ما لم يأذن به الله (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) الجهاد أو هو والحجّ أو كلّ سبيل خير (وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر في سفر مباح لا يقدر بالفعل ولا بالقوّة ولو بالاستدانة على مؤنة سفره الى وطنه (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) فرض الله فريضة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بموارد الصّدقات (حَكِيمٌ) في تسنينها وتخصيص مواردها (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) يقبل كلّ ما يسمع من اىّ قائل اتّفق (قُلْ) هو (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) يسمع كلّ ما فيه صلاحكم وان لم تعلموا انّ فيه صلاحكم (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) امّا مقول قوله (ص) أو مستأنف من الله والمقصود بيان حاله أو تعليل كونه اذن خير ، اعلم ، انّ للسّالك الى الله ايمانا بالله في مقام الوحدة والتّوجّه اليه عن الكثرة وفي هذا الايمان لا توجّه له الى الكثرة لا بخير ولا بشرّ ، وايمانا في مقام الكثرة والتّوجّه إليها بالله وفي هذا المقام له نحو تصرّف في الكثرة امّا بخير إذا كان المتوجّه اليه ممّن يقبل التّصرّف بالخير كجملة أجزاء العالم سوى الأشقياء من بنى آدم ، وامّا بشّر إذا كان المتوجّه اليه ممّن يصير الخير في وجوده شرّا ، لانّ الشّرّ ليس من المتصرّف في الكثرة بالّذات بل تصرّفه يصير بواسطة القابل شرّا ، فقوله يؤمن بالله اشارة الى الايمان الاوّل وقوله يؤمن للمؤمنين اشارة الى الايمان الثّانى ، والمعنى يؤمن بالله في مقام الكثرة يعنى يصدق الكلّ فانّ كلّا في مقامه مسخّر لله ومظهر له وما يظهر منه في الحقيقة ظهور فعل الله لكنّه بحسب المظاهر يصير

٢٦٣

في بعض شرّا وفي بعض خيرا ولا ينتفع بهذا الايمان من محمّد (ص) الّا المؤمنون ، لانّه كان بحسب هذا الايمان نافعا للكلّ لكن يصير ذلك النّفع في بعض القوابل ضرّا وشرّا ، وبما ذكر يظهر صحّة الاخبار ووجه الجمع بينها والى ما ذكر أشار بقوله (وَرَحْمَةٌ) عطفا على اذن خير وما بينهما اعتراض (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) بالايمان العامّ أو الخاصّ وكان ارادة الايمان الخاصّ انسب بالمقام ، لانّه أشير الى مطلق الانتفاع الّذى هو عامّ لجملة المسلمين الّذين بايعوه بالبيعة العامّة بقوله (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) وبقوله (يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، ولانّ الخطاب كان لعامّة المسلمين والمؤمن منهم لا يكون الّا مؤمنا خاصّا ، ولانّ خصوص الرّحمة الرّحيميّة بقرينة ذكرها بعد الانتفاع المطلق الّذى هو مطلق الرّحمة الرّحيميّة مختصّ بالمبتاعين بالبيعة الخاصّة الولويّة الّتى هي الايمان حقيقة وكان الأنسب بالمقابلة ان يقول تعالى وسخط للّذين لم يؤمنوا وأوذوا رسول الله (ص) لكنّه عدل الى قوله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جملة معطوفة على الجملة السّابقة تبرئة له (ص) من نسبة السّوء والعذاب اليه لما عرفت ان ليس منه الّا الرّحمة والنّفع لكنّها بحسب القابل تصير ضرّا وشرّا (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) اى المؤذون يعنى إذا قال المؤمنون للمنافقين المؤذين لم تؤذون رسول الله (ص) وتلمزونه وتنمّون عليه يحلفون بالله لهم وهو استيناف لبيان حالهم ، وانّهم بعد إيذائهم يعتذرون بالمعاذير الكاذبة ويحلفون على كذبهم ومقصودهم ارضاؤكم لا إرضاء الله ورسوله ، فهم ينافقون بعد الإيذاء حيث يظهرون ما في قلوبهم مطويّة على خلافه ويكذبون ويحلفون على الكذب وينصرفون عن الله ورسوله (ص) فهم في هذا الاعتذار واقعون في رذائل اربع كلّ منها بوحدتها مهلكة (لِيُرْضُوكُمْ) لعدم ايمانهم بالله ورسوله (ص) بل لمحض المماشاة معكم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) توحيد الضّمير باعتبار بانّ رضى الله لا يظهر ولا يتيسّر الوصول اليه الّا برضى الرّسول (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) يعنى انّ الايمان يقتضي إرضاء الله ورسوله (ص) وان كان بسخط جميع الخلق (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) من يخاصم الله ورسوله (ص) (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) نزلت في المنافقين المتخلّفين عن غزوة تبوك حين تحدّثوا انّ محمّدا (ص) يزعم انّ حرب الرّوم كحرب غيرهم لا يرجع منهم أحد وقال بعضهم استهزاء : نحذر ان يخبر الله بذلك ، وورد انّها نزلت في أصحاب العقبة كمنواله في العقبة ليقتلوه وقالوا : ان فإن بنا قلنا انّما كنّا نخوض ونلعب وان لم يتفطّن قتلناه وقصّته مذكورة في المفصّلات (لا تَعْتَذِرُوا) بالاعذار الكاذبة استيناف من الله ردعا لهم (قَدْ كَفَرْتُمْ) صرتم كافرين (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) بالتّوبة على يد محمّد (ص) والبيعة معه بالبيعة العامّة (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ) بعد توبتها (نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) لعدم توبتهم أو لانجرار كفرهم الملّىّ الى الكفر الفطرىّ الّذى لا يقبل التّوبة معه وعلى قراءة يعف ويعذب بالغيبة يحتمل ان يكون من جملة قول الرّسول (ص) (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ليسوا منكم كما ادّعوا والجملة خبر عن المنافقون أو حال عن المنافقون

٢٦٤

والمنافقات أو معترضة (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) قالا وحالا ووجودا في عالمهم الصّغير والعالم الكبير لانّهم متصوّرون بصور المنكرات وكلّ يعمل على شاكلته فكلّ امرء متصوّر بصورة المنكر يأمر على وفق صورته بالمنكر ولم يكن له شأن سوى الأمر بالمنكر لكون شاكلته المنكر وان كان صورة امره امرا بالمعروف ولذلك أتى بالمضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) لانّهم ينأون عنه والنّائى عن الشّيء الغير المتصوّر به ينهى عنه لا محالة (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) الظّاهرة عن الإنفاق ابتغاء رضى الله حرصا بالمال غير معتقد بالأجر والعوض من الله وعن البيعة مع النّبىّ (ص) والولىّ (ع) وأيديهم الباطنة عن التّوسّل بذيل النّبوّة والولاية ، وعن التّبتّل الى الله والتّضرّع عنده ، وعن الامتداد الى الخيرات الكثيرة الرّوحانيّة ، وعن إنفاق أموالهم الباطنة الّتى هي القوى البدنيّة والأخلاق النّفسيّة الرّذيلة الّتى في إنفاقها الوعد بالمائة الى سبعمائة والله يضاعف لمن يشاء (نَسُوا اللهَ) جواب لسؤال ناش عن ذكر اوصافهم الّذميمة الّتى تقتضي السّؤال عن علّتها أو عن وصف آخر ذميم لهم فهو في موضع التّعليل أو بيان حال آخر ذميم لهم والنّسيان هو الغفلة عن المعلوم بحيث يزول عن خزانته ويحتاج الى مشاهدة جديدة ان كان من المشاهدات ، أو كسب جديد ان كان من الكسبيّات بخلاف السّهو ، فانّه الغفلة عنه بحيث لا يزول عن الخزانة ولا يحتاج الى سبب جديد بل يستحضر بأدنى تأمّل فالفرق بينهما بالشّدّة والضّعف ، ولمّا كان معرفة الله فطريّة لكلّ أحد بل لكلّ موجود والإنسان بمجاهداته ورياضاته أو بأفكاره وانظاره يستكشف ذلك المعلوم الفطرىّ وبتدنّساته ومعاصيه يستر ذلك المعلوم الفطرىّ استعمل النّسيان ومن باب المشاكلة قال تعالى (فَنَسِيَهُمْ) مجازا اى تركهم وأسقطهم عن نظره وافاضة رحمته (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تعليل أو بيان ذمّ آخر ووضع المظهر موضع المضمر للتّكرار المطلوب في مقام السّخط ولذا غلظ عليهم بالتّأكيدات الاربعة ؛ انّ واسميّة الجملة وضمير الفصل وتعريف المسند ، وللتّفظيع وللاشارة الى علّة الحكم وأسقط المنافقات تغليبا ولعدم المبالاة بهنّ (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) وضع الظّاهر موضع المضمر لما مرّ والتّصريح بالمنافقات لدفع توهّم عدم كونهنّ محكوما عليهنّ بما ذكر ولمطلوبيّة التّطويل في مقام التّغليظ ولذلك بسط في الاخبار عن حالهم (وَالْكُفَّارَ) عطف للعامّ على الخاصّ ان جعل الكفر اعمّ من النّفاق والّا عطف للمغاير على المغاير (نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) عذابا وايلاما (وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) تالله لقد شدّد عليهم بذكر أوصاف سبعة ؛ وعد النّار واضافتها الى جهنّم والخلود فيها وكفايتها لهم يعنى لا يتصوّر فوقها عقوبة ولعنهم واختصاصهم بالعذاب واتّصاف العذاب بالدّوام (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) حال من واحدة من الجمل السّابقة أو متعلّق بواحد من الأفعال السّابقة أو مستأنف خبر مبتدء محذوف اى أنتم مثل الّذين من قبلكم في نفاقهم واستمتاعهم وحبط أعمالهم وخسرانهم فهو التفات من الغيبة الى الخطاب وتفظيع آخر لهم بتشبيههم بمن هو مثل عندهم في الفظاعة ، والتّعنّت تنشيطا للسّامعين الى الاستماع (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) استيناف أو حال من الموصول أو من المستتر في الظّرف والمقصود بيان قوّة أسباب الخوض في الشّهوات فيهم ليكون غاية تفظيع لهم فانّ الخوض في الشّهوات من الفقير أقبح فاذا كانوا مع ضعفهم في أسباب الخوض في الشّهوات مثل السّابقين الّذين كانوا أقوى منهم

٢٦٥

في أسباب الخوض في الشّهوات كانوا أقبح منهم (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من الشّهوات (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) مثلهم مع انّكم كنتم أضعف منهم وأقلّ مالا وأولادا ، ولمّا لم يعلم من السّابق انّ اللّاحقين استمتعوا مثل السّابقين صريحا وكان التّطويل مناسبا قال (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ) في الشّهوات والملاهي (كَالَّذِي خاضُوا) كالخوض الّذى خاضوا أو كالّذين خاضوا بجعل الّذى بمعنى الّذين لارادة الجنس منه (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) اشارة الى السّابقين وتعريض باللّاحقين بانّهم اولى منهم بحبط الأعمال لضعفهم في أسباب الشّهوات وخوضهم مع ذلك فيها مثلهم ، أو اشارة الى السّابقين واللّاحقين بصرف الخطاب الى محمّد (ص) ، أو اشارة الى اللّاحقين لانّ الكلام فيهم والإتيان باسم الاشارة البعيدة لتأكيد الحكم وتصويرهم باوصافهم الفظيعة وتبعيدهم عن مرتبة التّخاطب كما انّ تكراره في قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) والإتيان بضمير الفصل وتعريف المسند كان لذلك وللحصر (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) استفهام إنكارىّ لتقريعهم على اشتغالهم بالملاهي مع وصول خبر السّابقين إليهم (قَوْمِ نُوحٍ) أغرقوا بالطّوفان (وَعادٍ) قوم هود (ع) اقتصر على اسمهم اختصارا اهلكوا بالرّيح (وَثَمُودَ) قوم صالح (ع) (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) ولمّا لم يكن لهم اسم خاصّ قال قوم إبراهيم (ع) اهلكوا بالبعوضة (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) قوم شعيب (ع) اهلكوا بالنار (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) أهل المؤتفكات وهم قوم لوط سمّيت قراهم بالمؤتفكات اى المنقلبات لانقلابها بهم بجعل عاليها سافلها كذا في الخبر عن الصّادق (ع) (أَتَتْهُمْ) اى المذكورين كلّهم (رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالأحكام الواضحات من احكام الرّسالة أو بالمعجزات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بالإهلاك بما ذكر لإتمامه الحجّة عليهم بالرّسل والبيّنات وتخلّل كان مع لام الجحود للمبالغة في نفى الظّلم عنه تعالى وقد مضى انّه لنفى المبالغة في الظّلم وهو اعمّ من المبالغة في نفى الظّلم لكنه في العرف يستعمل في المبالغة في نفى الظّلم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) لانّهم بانصرافهم بعد وضوح الحجّة وتكذيبهم عرضوها للعقاب الدّائم وتقديم المفعول للحصر لتوهّم انّهم بتكذيبهم ظلموا الأنبياء (ع) وتخلّل كان للاشارة الى استمرار الظّلم بحيث كأنّه صار طبيعة لهم (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) هذا في مقابله قوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) (الآية) وغيّر الأسلوب تنشيطا للسّامع واشارة الى ان لا ولاية حقيقة بين الكفّار والمنافقين وما يتراءى بحسب الصّورة انّه ولاية فهو عداوة حقيقة الاخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ ، والى انّ المنافقين من حيث نفاقهم ينشأ بعضهم من بعض ، بخلاف المؤمنين فانّهم من حيث ايمانهم ينشأون كلّهم من صاحب الايمان وهو النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) وان كان ازدياد ايمانهم ناشئا لبعضهم من بعض (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) في مقابل يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) في مقابل يقبضون أيديهم ، ولمّا كان اليد اعمّ من اليد الصّوريّة والمعنويّة وقبضها اعمّ من القبض عن الإعطاء والقبض عن الابتهال وجذب الخيرات الاخرويّة والتّفضّلات الالهيّة ويعبّر عن ضدّ الاوّل بالإعطاء ، وإيتاء الزّكاة اعمّ من الإعطاء من الأموال والأبدان والقوى الشّهويّة

٢٦٦

والغضبيّة والمحرّكة وعن ضدّ الأخير بالصّلوة بمراتبها ، أتى في مقابلة قبض اليد بالصّلوة والزّكاة جميعا افادة لبسط اليد مع تفصيله لإظهار مدائح المؤمنين (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في مقابل نسوا الله وضدّ نسيان الله تذكّر الله ولازمة المقصود منه أطاعته في أوامره ونواهيه وأطاعته في أوامره ونواهيه لا تتصوّر الّا بإطاعة رسوله (ص) فظهر وجه العدول عن يذكرون الله والاختلاف بالمضىّ والمضارعة للاشارة الى انّ النّسيان منهم قد وقع من غير تجدّد ، فانّ تجدّده يستلزم التّذكّر بخلاف الطّاعة من المؤمنين فانّها مستمرّة التّجدّد منهم (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) في مقابل : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ ،) وظاهر المقابلة يقتضي ان يقول : انّ المؤمنين هم العادلون ، أو هم المرحومون ، أو يقول هناك : أولئك سيعذّبهم لكن لمّا كان السّورة والآية لتوعيد أهل الوعيد ووعد المؤمنين وكلّ ما ذكر فيها كان لتقريع أهل الوعيد ولزيادة حسرتهم والمناسب لمقام الغضب والوعيد التّسجيل بالوعيد والتّغليظ بالتّأكيد والتّطويل ، وكان النّفاق أصل جملة الشّرور والفسوق ومورث جملة العقوبات وكان نسبة الغضب الى الله بالعرض ونسبة الرّحمة اليه بالّذات ، وكان الناسب لمقام الوعد التّسامح فيه والإتيان بعسى ولعلّ واداة التّسويف ، والايمان وان كان أساس جملة الخيرات لكن قد ينفكّ الخيرات عنه كما قال (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) أتى في الاوّل بجملة اسميّة مؤكّدة بالمؤكّدات الاربعة مفيدة للتّسجيل غير مصرّحة بنسبة الغضب اليه ، وفي الثّانى بجملة مصدّرة باسم الاشارة البعيدة تفخيما وإحضارا للاوصاف المذكورة للمؤمنين مختتمة بالجملة الفعليّة المصدّرة بأداة التّسويف المصرّحة بنسبة الرّحمة اليه تعالى (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجز عن إنجاز وعده ووعيده ولا يمنعه منه مانع (حَكِيمٌ) لا يعد الّا على وفق حكمته الّتى تقتضي الإعطاء والمنع بحسب القابليّات (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) في مقابل وعد الله المنافقين (الى آخرها) (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) اى جنّات الاقامة وهي منتهى مراتب الجنان الّتى لا يتجاوز عنها بخلاف سائر مراتبها ، فانّها يتجاوز عنها وهي مقام آل محمّد (ص) واتباعهم (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) لمّا كان وعد الخير منبئا عن الرّضا فكأنّه قال : فلهم رضوان من الله ورضوان من الله أكبر من كلّ ذلك ، أو المقصود انّ هذا النّوع من الموعود أكبر من غير التفات الى التّفضيل (ذلِكَ) الرّضوان (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) اعلم ، انّ أعلى مقامات السّالكين الى الله هو مقام الرّضا كما سبق ولذا لم يذكره تعالى في الأغلب الّا وعقّبه بما يدلّ على تفخيمه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالجهاد الصّورىّ والقتال بنفسك (وَالْمُنافِقِينَ) بمظاهرك وأوصيائك فانّه لم يقاتل المنافقين ومن هنا علم وجه تأخير المنافقين هنا مع انّ المقام للتّغليظ على المنافقين وذكر الكفّار لمحض بيان مساواة المنافقين لهم لذمّ آخر للمنافقين ، ولذا أخّر الكفّار في الآية السّابقة أو جاهد الكفّار والمنافقين في العالم الكبير وو الصّغير بنفسك أو باوصيائك أو باتباعك المؤمنين ، فانّ المؤمنين أيضا مأمورون بالجهاد مع كفّار وجودهم ومنافقيه بالقتال الصّورىّ والمعنوىّ وبالمحاجّة والمجادلة الحسنة وبالمداراة وحسن العشرة وبإدخالهم تحت سلطنتك وأخذ الجزية والزام الفرائض والحدود على منافقي أمّتك ، فما ورد في الاخبار في تفسير الآية مع اختلافها غير مختلف معنى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) امّا جملة دعائيّة أو ذمّيّة فلا إشكال في عطفها على الإنشاء ولا في عطف ما بعدها عليها أيضا ، أو جملة

٢٦٧

خبريّة وحينئذ فالعطف امّا بتوهّم جملة معطوف عليها أو بتقديرها باعتبار المعنى ، فانّ الأمر بالقتال والغلظة مشعر بانّهم لا خير فيهم فكأنّه قال انّهم لا خير فيهم ومأواهم جهنّم والتّعاطف بين غير المتناسبين بحسب اللّفظ والمفهوم المطابقىّ بلحاظ المقصود ، والمعنى الالتزامىّ كثير شائع في كلامهم ، ومن جوّز عطف الإنشاء على الخبر وبالعكس نظر الى ظاهر ما ورد في الكتاب وظاهر ما رأى في كلامهم مع الغفلة عن اللّطائف المندرجة في العطف والقطع الملحوظة للفصحاء في كلامهم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ان كان الاولى ذميّة أو دعائيّة فلا إشكال في العطف وان كانت خبريّة فالعطف بلحاظ ذمّ مستفاد منها (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) قابل حلفهم بالحلف المستفاد من اللّام (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) نزلت في الّذين تحالفوا وتعاهدوا في مكّة بعد ان علموا انّ محمّدا (ص) يريد ان يجعل الخلافة لعلىّ (ع) على ان لا يردّوا هذا الأمر في بنى هاشم أو في الّذين قالوا بغدير خمّ : الا ترون عينيه كأنّهما عينا مجنون ، أو في الّذين تحالفوا على قتله في العقبة بعد رجوعهم من تبوك والكلّ مروىّ (وَما نَقَمُوا) اى ما كافئوا بالعقوبة أو ما كرهوا أو ما أنكروا (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) مستثنى مفرّغ عن مفعول به عامّ أو علّة عامّة اى ما نقموا منهم لشيء الّا لا غناء الله لانّ الإنسان ليطغى ان رآه استغنى أو ما نقموا منهم شيئا الّا اغناءهم الله (وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) من قبيل قول الشّاعر :

ولا عيب فيهم غير انّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

(فَإِنْ يَتُوبُوا) عن النّفاق ولوازمه (يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) عن التّوبة أو عن الرّسول (ص) (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قد مضى مرارا انّ الولىّ هو النّبىّ (ص) أو خليفته أو المجاز منه بلا واسطة أو بواسطة من جهة تربية القلب وتعليم احكامه والنّصير كلّ واحد منهم من جهة الرّسالة وتربية القالب (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) نزولها في ثعلبة بن حاطب من أصحاب رسول الله (ص) كان محتاجا وسأل رسول الله (ص) ان يغنيه الله فقال له : يا ثعلبة قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه فقال : والّذى بعثك بالحقّ لئن رزقني لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه ، فدعا له فاتّخذ غنما وكثر غنمه حتّى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجمعة والجماعة وخدمة الرّسول (ص) ، فبعث رسول الله (ص) المصدّق فأبى عن الصدقة وبخل ، لكنّها جارية في كلّ من كان مثله وهم أكثر أهل الأرض (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا) عن عهدهم (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الله ورسوله (ص) (فَأَعْقَبَهُمْ) البخل والتّولّى (نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) لا في ألسنتهم وصدورهم فقط ، أو المراد بالقلوب نفوسهم (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) اعلم ، انّ الصّدق والكذب كالحقّ والباطل كما يجريان في الأقوال اللّسانيّة والعلوم النّفسانيّة يجريان في الأفعال والأخلاق والأحوال ، فكما انّ القول اخبار عن الواقع وصدقه باعتبار مطابقة نسبته للواقع وكذبه بعدم مطابقتها له كذلك فعل الإنسان الجاري على جوارحه باعتبار نسبته الى صورته ينبئ عن انّه صادر عن انسانيّته وغايته استكمال انسانيّته ، فكلّما كان هذا الاخبار مطابقا للواقع بمعنى كون الفعل صادرا عن الانسانيّة وراجعا الى استكمال الانسانيّة فالفعل صدق والفاعل صادق ، وكلّما لم يكن هذا الاخبار مطابقا للواقع بمعنى انّ الفعل الجاري

٢٦٨

على صورة الإنسان لم يكن صادرا عن الانسانيّة ، بل عن البهيميّة أو السبعيّة أو الشّيطانيّة كان الفعل كذبا وفاعله كاذبا وهكذا الحال في الأخلاق والأحوال ، ويجرى أيضا هذا الاعتبار في الأقوال والعلوم فانّها ان كانت صادرة عن الانسانيّة وراجعة الى استكمالها فهي صادقة بهذا الاعتبار ، وان لم يكن كذلك فهي كاذبة وان كانت صادقة باعتبارها في أنفسها ، والمعتبر عند أهل الله في الصّدق والكذب في الأقوال والعلوم هو اعتبار المبدء والمرجع دون الواقع فقط ، ولذا ورد عنهم (ع): من فسّر القرآن برأيه يعنى بحيثيّة شيطانيّته لا بحيثيّة انسانيّته وأصاب الحقّ فقد أخطأ ، وورد نفى العلم عمّن لم يكن عمله متوجّها الى حيثيّة انسانيّته وآخرته من غير اعتبار مطابقته وعدم مطابقته كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فقد نفى العلم عنهم مع إثباته لهم مطابقا لما في نفس الأمر حيث كان الواقع كما علموا ، لكن لمّا لم يكن علمهم متوجّها الى جهة استكمال الانسانيّة نفاه عنهم واثبت الجهل لهم بنفي العلم عنهم ، إذا تقرّر هذا فاعلم ، انّ الإنسان له مراتب ولكلّ مرتبة منها درجات فهو ما دام في مرتبة نفسه فاذا كان في درجة النّفس الامّارة فكلّ ما يصدر عنه فهو كذب ، وإذا ترقّى من هذه الدّرجة ووقع في درجة النّفس اللّوامة فقد يكون ما يصدر عنه صادقا وقد يكون كاذبا ، وإذا ترقّى الى درجة النّفس المطمئنّة ولا يكون هذا التّرقّى الّا إذا تمكّن في مرتبة القلب فكلّ ما يصدر عنه يكون صادقا ، فالمنافق الواقع في درجة النّفس الامّارة لا يكون منه الّا الكذب ويصير الكذب سجيّة له ولذلك أتى بالماضي في قوله بما أخلفوا الله وبالمضارع الدّالّ على الاستمرار التّجدّدىّ في الكذب مع تخلّل كان الدّالّ على انّ مدخوله صار سجيّة (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) خفايا أمورهم من خطراتهم وخيالاتهم وأخلاقهم وأحوالهم (وَنَجْواهُمْ) ما يظهر على ألسنتهم بحيث يخفى على غيرهم ، أو المراد بالسّرّ الأخلاق والأحوال الموجودة ومكمونات النّفس الّتى لم توجد بالفعل بعد وبالنّجوى ما ظهر على اللّسان بطريق الخفيّة وما ظهر على النّفوس من الخطرات والخيالات شيطانيّة كانت أو رحمانيّة ، والاستفهام للتّوبيخ والتّقريع (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) من ذكر العامّ بعد الخاصّ تحقيقا للخاصّ وتأكيدا له (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) يعيبون (الْمُطَّوِّعِينَ) المعطين للصّدقات المستحبّة أو المعطين للصّدقات مطلقا المبالغين المعتنين بها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) متعلّق بيلمزون أو بالمطّوّعين أو بهما على سبيل التّنازع وهو امّا خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مبتدء خبره فيسخرون أو سخر الله منهم أو قوله استغفر لهم أو قوله ان تستغفر لهم (الآية) أو بدل من قوله من عاهد الله وقوله تعالى الم يعلموا (الى آخر الآية) معترضة (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الّا قدر تعبهم في التّحصيل والطّلب فيتصدّقون بما يتعبون أنفسهم في تحصيله ، وقد ذكر في نزوله انّ سالم بن عمير الأنصاري جاء بصاع من تمر فقال : يا رسول الله (ص) كنت أجرت نفسي ليلتي بصاعين من تمر فجئت بصاع إليك وتركت صاعا لعيالي ، وذكر في نزوله أيضا انّ عليّا آجر نفسه فأتى بأجرته الى النّبىّ (ص) فلمزه المنافقون (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) استعمال السّخريّة في الحقّ تعالى من باب المشاكلة اللّفظيّة والمشابهة المعنويّة وهي امّا دعائيّة فيكون عطف قوله (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لكونه أيضا دعائيّا أو باعتبار الاخبار اللّازم لذلك الدّعاء كأنّه قال لهم سخط الله ولهم عذاب اليم ، أو خبريّة فلا إشكال في العطف

٢٦٩

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الأمر والنّهى هاهنا للتّسوية غير منظور منهما حقيقة الأمر والنّهى ، ولفظة أو للتّخيير على ما روى انّه (ص) قال في جواب من قال : اما نهاك ربّك عن الاستغفار للمنافقين؟ ـ حين صلّى على ميّت عبد الله بن أبىّ : انّ الله خيّرنى (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وهذا عتاب له بايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، وعتاب المقرّبين تعريضا بمن استحقّ العتاب في الحقيقة تقريب لهم واهانة بالمستحقّين حيث اسقطهم عن درجة الخطاب والعتاب ولذا لم يقل : لم يجب الله لك بل قال لن يغفر الله لهم حيث لم يتوجّه العتاب اليه (ص) والاشكال بانّ استغفاره (ص) مجاب لا محالة لانّ غيره إذا توسّل به الى الله أجابه فكيف إذا استغفر هو لم يجبه ولن يغفر للمستغفر له ؛ مدفوع بانّ المراد المبالغة في عدم استحقاقهم للمغفرة بحيث لو فرض استغفار الرّسول (ص) الّذى لا ينفكّ الاجابة عنه لهم لما غفر لهم ، ومثل هذا كثير في كلامهم حيث يعلّقون نفى الجزاء على امر مستلزم لتحقّق الجزاء مبالغة في عدم تحقّقه ، واستعمال السّبعين لاستعماله كثيرا في معنى الكثرة لكونه من مراتب الاعداد التّامّة كالسّبعة والسّبعمائة ولذا يأتون بالواو بعد السّبعة ويسمّونه وأو الثّمانية ، أو للاشارة الى مراتبة السّبعين مبالغة في عدم استحقاقهم للمغفرة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) تدارك لما يتوهّم من عدم قبول مسئلته واستغفاره بانّ عدم المغفرة لهم ليس لعدم استحقاقك للاجابة بل لعدم استحقاقهم للمغفرة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشارة الى ذمّ آخر وعلّة الحكم (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) جواب سؤال عن حالهم أو عن علّة التّغليظ عليهم وعدم مغفرتهم ، وتدارك آخر لتوهّم عدم قبول استغفار الرّسول (ص) وخلاف رسول الله (ص) امّا ظرف لمقعدهم ان كان بمعنى العقب ، أو مفعول له لفرح أو المخلّفون ، أو مقعدهم ، على التّنازع أو على الانفراد (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) يعنى انّهم لغاية شقاوتهم جمعوا بين التّخلّف والفرح به وكراهة الجهاد ومنع غيرهم منه (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) فان كان الحرّ يتّقى فنار جهنّم احقّ ان تتّقى (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) لما اختاروا حرّ الآخرة على حرّ الدّنيا ، والفقه كما مرّ هو ادراك الأغراض والغايات خصوصا الغايات الالهيّة من الأشياء والأقوال لا ادراك المفاهيم من الألفاظ فقط كما ظنّ ، ولذا فسّر بأنّه طلب علم دينىّ يتوسّل به الى علم آخر ، وبعبارة اخرى الفقه هو الإدراك الّذى يحرّك الإنسان من حضيض نفسه الى أوج عقله ومن دنياه الى آخرته ، وتفسيره بالعلم بالمسائل الدّينيّة الفرعيّة عن ادلّتها التّفصيليّة محض مواضعة اصطلاحيّة ، وامّا في الشّريعة فهو باق على معناه وعدم تسمية علم الله والملائكة بالفقه لعدم تصوّر استعداد له تعالى ولا للملائكة حتّى يتصوّر التّرقّى ، بل كلّ ما كان هناك بالإمكان العامّ فهو بالفعل ، وعدم تسمية علوم الأنبياء بالفقه لتبدّل استعدادهم بالفعليّة لا لما قالوا من انّ علومهم ليست من ادلّتها التّفصيليّة والحاصل انّ الاشتداد والتدرّج في طريق الانسانيّة مأخوذ في مفهوم الفقه فكلّما كان الإدراك كذلك كان فقها وما لم يكن كذلك لم يكن فقها ، فلو فرض نبىّ يكون له حالة اشتداد في علمه كان علمه من هذه الجهة فقها (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) جواب شرط متوهّم أو مقدّر والأمر امّا على حقيقته والمراد منه الأمر بالتّوبة سواء كان الضّحك والبكاء على حقيقتهما أو مجازين عن السّرور والغمّ ، وحينئذ فذكر الضّحك للاشارة الى انّ الإنسان لا ينفكّ عن ضحك ما فليقلّ التّائب منه ، أو مجاز عن تحتّم ما يئول اليه أمرهم فهو أمر في معنى

٢٧٠

والاخبار ، وذكر الضّحك للاشارة الى ما هم عليه في بقيّة عمرهم ولذا قدّمه وقيّده بالقلّة (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تداركا لاعمالهم السّيّئة على المعنى الاوّل وعقوبة عليها على المعنى الثّانى ، وقوله بما كانوا امّا متعلّق بجزاء أو بالأمر استقلالا أو على سبيل التّنازع (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) من غزو الرّوم (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) من المتخلّفين بلا عذر بان أبقاهم الله الى زمان رجوعك (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الى غزو آخر (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) اخبار في معنى النّهى للاشعار بانّ سجيّتهم مقتضية لعدم الخروج (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعنى قبل ذلك والمراد القعود عن غزوة تبوك (فَاقْعُدُوا) امر للتّهكّم (مَعَ الْخالِفِينَ) يعنى النّساء والصّبيان فانّكم صرتم مثلهم بتخلّفكم اوّلا فليس لكم شأنيّة الجهاد وقابليّة المعيّة مع المجاهدين (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) فانّ صلوتك سكن لهم وليس لهم استعداد صلوتك والمراد صلوة الأموات أو الاعمّ (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) للدّعاء عليه (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) نقل انّه (ص) عاد عبد الله بن ابىّ واستغفر له وشيّع جنازته وصلّى عليه وقام على قبره ؛ كلّ ذلك باستدعاء ابنه الّذى كان مؤمنا خالصا فأنكر عمر عليه (ص) وقال : أو لم ينهك ربّك عن ذلك؟ ـ وكره ذلك رسول الله (ص) وأجابه بما ظهر منه الكراهة (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ) لا (أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) قد مرّ تفسيره ، وتكريره للتّأكيد ، لانّ كثرة الأموال والأولاد في انظار أهل الحسّ معجب لا محالة فالنّهى عنه مطلوب فيه التّأكيد ولانّ التّكرار مطلوب في مقام التّشديد (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) لعذر وهو ذمّ آخر لهم حيث انّهم لدناءتهم وتعلّق قلوبهم بدنياهم وزخارفها كالنّساء يستأذنوك للقعود ولذا قال (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) جمع الخالفة يعنى انّهم لدناءتهم رضوا بان يعدّوا في النّساء ، واستعمال الخوالف في النّساء والمخلّفون في الرّجال لاستعدادهم للخروج وعدم استعدادهنّ له (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) حيث لا يدركون إدراكا يؤدّى بهم الى الأغراض والغايات وان كانوا في غاية الفطانة والمداقّة في أمور الدّنيا والإدراكات الخياليّة بحيث يعدّون في انظار أهل الحسّ علماء حكماء ، والّا فليعلموا الغرض من الجهاد وانّ فيه خير الدّنيا والآخرة ، باستكمال النّفس في الدّنيا بالصّفات الحسنة من الشّجاعة والسّخاوة وعدم الاعتناء بالدّنيا وحيوتها ، وباستجماع الغنائم مع ما وعدوا من أجور الآخرة ، وليس في التّخلّف الّا الاتّصاف بصفات النّساء والرّكون الى الدّنيا وقطع الطّمع عن العقبى ولمّا ذمّ الأموال والأولاد توهّم انّها مذمومة على كلّ حال ، والحال انّ كثرة الأموال والأولاد تكون في المؤمنين ولمّا ذمّ القاعدين عن الجهاد توهّم انّه في المؤمنين يكون من يكره الخروج ويحبّ القعود فاستدرك ذلك بقوله (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الّذين هم أولوا الطّول الحقيقىّ (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ) العظماء (بِأَمْوالِهِمْ) خاصّة (الْخَيْراتُ) النّفسانيّة والبدنيّة من استكمال النّفوس بالخصائل وإخراجها من الرّذائل واستجماع الغنيمة مع النّصرة والطّول مع الأولاد والصّيت والثّناء (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

٢٧١

تكرار اسم الاشارة للتمكين وتصويرهم باوصافهم المذكورة ليكون كالعلّة ولاختصاص كلّ من المسندين على حياله (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) جواب لسؤال عن حالهم و (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وكأنّه كان في الأصل بمعنى بالغ في إبداء العذر لأمر قصّر فيه ، أو من اعتذر إذا بالغ في إبداء العذر ولم يكن المبالغة في إبداء العذر الّا لأمر يتراءى التّقصير فيه وقرء المعذّرون من باب الأفعال بمعنى المعذّرون من باب التّفعيل (مِنَ الْأَعْرابِ) الاعراب الّذين لا يسكنون العمران ويعيشون في البادية جمع لا واحد له كما قيل ، أو جمع للعرب خصّص ببعض افراده والعرب بالضّمّ وبالتّحريك الّذين يسكنون العمران أو هو اعمّ (لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) في القعود حيث لا يتفقّهون معنى الايمان وانّه يقتضي التّسليم (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في البيعة الاسلاميّة حيث شرط عليهم ان لا يتخلّفوا قول الرّسول وان يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ، فقبلوه ولم يطيعوا الرّسول (ص) بعد في امره ولم يوافقوا المسلمين فيما عليهم (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) لا الّذين بقوا على إسلامهم وتصديق الرّسول (ص) كبعض الاعراب حيث لم يكن استيذانهم وتخلّفهم لانكار الرّسالة بل لعدم تفقّه الغرض من الإسلام وكبعض القاعدين لطلب الرّاحة وعدم تحمّل التّعب لا لانكار الرّسالة (عَذابٌ أَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) جواب لسؤال اقتضاه السّابق كأنّه قيل : هل على المعذورين حرج في التّخلّف؟ ـ فانّ التّشديد والتّغليظ على المتخلّفين وكثرة ذمّهم يقتضي التّرديد في حال المعذورين والسّؤال عنها (وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) في تخلّفهم عن الغزو (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) خلصوا أو أظهروا خير غيرهم ورغّبوه فيه خالصا مترحّما (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) في موضع التّعليل يعنى انّ المتخلّف لعذر بشرط النّصح مجاهد ومحسن ، وما على المحسنين من سبيل للّوم والّذمّ والعتاب في الدّنيا (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن أساء فكيف بمن أحسن (رَحِيمٌ) فلا سبيل عليهم بالعقوبة في الآخرة (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) حيث يجدون ما ينفقون ويقوون في أبدانهم لكن لا طاقة لهم بالذّهاب معك راجلين ولا قدرة لهم على الحمولة ويسئلونك الحمولة (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) الدّمع واقع موقع التّميز والتّميز قد يجرّ بمن وقد ينصب ، أو في الكلام قلب والأصل والدّمع يفيض من أعينهم قلب للمبالغة في كثرة الدّمع ، أو من للتّعليل والمعنى على المبالغة كأنّ أعينهم من كثرة الدّمع تذاب وتفيض (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) بدنا ومالا (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) التّكرار لمطلوبيّة التّطويل والتّأكيد والتّكرير في مقام التّغليظ (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) قد أخذ في مصداق العلم الاشتداد والتّأدية الى علم آخر اخروىّ كما أخذ ذلك في مفهوم الفقه ولذا يثبت وينفى عن موضوع واحد باعتبار مفهومه العرفىّ ومصداقه الحقيقىّ ، فالعلم والفقه مختلفان مفهوما متّحدان مصداقا فهذا أيضا تكرار لما ذكر.

٢٧٢

الجزء الحادي عشر

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) يبالغون في إيتاء العذر إليكم وابدائه لكم من غير حصول عذر لهم بقرينة الرّدّ عليهم وان كان الاعتذار اعمّ من إبداء العذر من غير عذر أو مع عذر وهو اخبار بما سيقع (إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من غزوتكم هذه وهي غزوة تبوك (قُلْ) في جوابهم بعد رجوعك واعتذارهم (لا تَعْتَذِرُوا) لا تبدوا العذر من غير حقيقة (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) اى لن نصدّقكم (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) ومنه اعتذاركم هذا بالكواذب ولمّا كان اعتذار هم للتّدليس على النّبىّ (ص) وأصحابه جميعا ضمّ أصحابه الى نفسه وأتى بلفظ المتكلّم مع الغير (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وضع الظّاهر موضع المضمر للتّهديد وانّه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم تأكيدا لما قبله (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) اخبار عنهم قبل وقوعه أيضا (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) ولا تخاطبوهم بما وقع منهم ولا تعاتبوهم بل تكونوا توافقونهم وترافقوهم كسائر المؤمنين (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) لا عن خطابهم وعتابهم فقط بل عن معاشرتهم وموافقتهم (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) بحسب أصل ذواتهم فلا يقبلون الطّهارة حتّى يؤذن لكم في عتابهم أو في مرافقتهم باحتمال إصلاحهم (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) بدل من الاوّل نحو بدل الاشتمال ، أو تأكيد نحو التّأكيد المعنوىّ حيث انّ الغرض من الاعراض الاعراض عن المعاتبة والملامة المقارن للرّضا غالبا ، ولذا عقّب الأمر بالاعراض بقوله انّهم رجس للاشارة الى انّ الأمر ليس لما قصدوه من الرّضا وترك السّخط ، بل لعدم شأنيّتهم للمعاتبة والملامة (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) نهى عن الرّضا بألطف وجه وأبلغه كأنّه قال : فان ترضوا كان رضاكم مخالفا لرضا الله والايمان يقتضي ان يكون رضاكم تبعا لرضا الله فلا ترضوا عنهم لانّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشارة الى ذمّ آخر واشعارا بعلّة الحكم (الْأَعْرابُ) الاعراب في أهل البد وكالعرب بالضّمّ والتّحريك في أهل البلاد كما سبق لكنّهما قد يعتبران في العالم الصّغير فيطلق الاعراب على الواقف في تيه النّفس الامّارة والعرب على السّاكن في عمران النّفس المطمئنّة ومدينة القلب ، ولذا سمّوا في الاخبار أعداء أهل البيت اعرابيّين وان كانوا قرشيّين أو مكّيّين أو مدنيّين ؛ وسمّوا شيعتهم عربيّين وان كانوا من أهل البد وو أقصى بلاد الهند (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) لقسوة قلوبهم وغلظة نفوسهم وعدم سماعهم لما يقرّبهم الى الحقّ ويرغّبهم في الآخرة وعدم تفطّنهم بما خلقوا له (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) لعدم سماعهم لها وعدم تفطّنهم لمقصود المسموع وعدم اقتضاء حالهم لحفظ ما يتفطّنون به ، والمراد بالحدود امّا الأحكام من العبادات والمعاملات أو الغايات المقصودة من احكامه وآدابه وقصصه ومواعظه (وَاللهُ عَلِيمٌ

٢٧٣

حَكِيمٌ) عطف على جملة (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) والجامع بين المتعاطفين هو تقابل مسنديهما فانّ المراد بالحكمة هنا هو الحكمة العمليّة الّتى هي الإتقان في العمل والمداقّة فيه المستلزمة للمداقّة في العلم ويعبّر عنها بالفارسيّة : به «خورده كارى ، وخورده بيني» والكفر والنّفاق ناش عن عدم المداقّة في العلم والعمل فبين ملزوم الكفر والحكمة تقابل السّلب والإيجاب وهو الجامع ، وبين العلم وعدمه أيضا كذلك ، والمعنى انّ الاعراب في طرف والله ومظاهره في طرف آخر ، فبينهما مباينة تامّة فلا يتفضّل الله عليهم ولا يتوجّهون اليه والمراد بالاعراب ظاهرا ما عرفت وتأويلا منافقوا الامّة فقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ذمّ آخر لهم حيث يشير الى بعدهم عن الله وكان الموافق تأخير الكفر والنّفاق أو تقديم الحكمة ليكون المتعاطفان على ترتيب واحد ، لكن لمّا كان الكفر والنّفاق سببا للجهل الخاصّ المأخوذ في المعطوف عليه وان كانا مسبّبين عن الجهل المطلق ، والحكمة بهذا المعنى مسبّبة عن العلم المطلق المأخوذ في المعطوف ، عكس التّرتيب مراعاة للترتيب بين مسندي كلّ (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) في الجهاد وعلى فقراء المسلمين من الحقوق المفروضة أو الغير المفروضة (مَغْرَماً) خسرانا بلا عوض لعدم اعتقاده بالله وبالآخرة وبالأجر والعوض من الله (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) الحوادث المقلّبة عليكم الأمور ، سمّيت دوائر لدورانها على البشر لكن استعمالها فيما فيه شرّ (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) اخبار عن حالهم الّتى هم عليها في الآخرة لكن ادّاه بصورة الواقع لتحقّق وقوعه ، أو عن حالهم الّتى هم عليها في الدّنيا اشارة الى غرور الشّيطان ودواعي النّفس الّتى كلّها مهلكات ، أو دعاء عليهم ولمّا لم ينفكّ دعاء الله عن تحقّق المدعوّ به فهو مستلزم للأخبار والاضافة الى السّوء هنا دون الاوّل لحرمة المؤمنين واهانة المنافقين (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) والجامع هاهنا هو لازم المعطوف عليه ومتعلّق المعطوف المقدّر كأنّه قال : ومن الاعراب من يتّخذ ما ينفق مغرما فيقول قد وقعت في محذور مع محمّد (ص) ويتربّص بكم الدّوائر فيضمر هلاككم وخلاصه والله سميع لقوله عليم بنيّته وهو تهديد للأعراب وتسلية للمؤمنين (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) لمّا كان قوله الاعراب اشدّ كفرا مقدّمة للتّفصيل الّذى بعده حكم فيه على الجنس للاشعار بانّه سجيّتهم ولازمهم ، ليكون مذمومهم اشدّ ذمّا وممدوحهم أبلغ مدحا ، وكرّر لفظ الاعراب ليكون تصويرا لهم بما وصفوا به من السّجيّة الخبيثة ليكون في الّذمّ والمدح أبلغ (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) سبب دعواته لانّه (ص) كان يدعو للمصدّق بحسب الأمر الالهىّ بقوله: اللهمّ صلّ عليه (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) لمّا صار المقام مظنّة السّؤال عن انّها قربة أم لا؟ وهل يكون سببا لصلوات الرّسول (ص)؟ وهل يجاب الرّسول (ص) في حقّهم أم لا؟ أتى بالجملة المذكورة مقطوعة عن سابقها مؤكّدة مصدّرة بأداة الاستفتاح (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) تصديق بسببيّة إنفاقهم لدعاء الرّسول (ص) واجابة الله له (ص) في حقّهم ، والسّين امّا للتّأكيد أو للتّسويف (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل لتأكيد الوعد وتحقيقه (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) عطف على من يؤمن بالله اى ومن الاعراب السّابقون فضلا عن كون من يؤمن بالله منهم وعلى هذا فينبغي ان يراد بالاعراب الواقف في بيداء النّفس لا أهل البد وفقط ، حتّى يصحّ كون السّابقين بلام الاستغراق منهم ويكون الآية حينئذ

٢٧٤

اشارة الى انّ من كان في تيه النّفس لا ينبغي ان ينظر اليه نظر الحقارة ، كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم:

هيچ كافر را بخوارى منگريد

كه مسلمان مردنش باشد اميد

والتّوصيف للتّأكيد ورفع توهّم ارادة السّبق في صورة الإسلام أو الهجرة أو الاحتشام أو الجنود أو الغزو أو القتال فقط ، وللاشارة الى ارادة السّبق في السّلوك الى الله وفي مراتب عبوديّته فانّه السّبق حقيقة أو السّابقون الاوّلون مبتدء وخبر فيكون من عطف الجملة ، والمعنى انّ السّابقين هم الاوّلون في درجات القرب أو مبتدء خبره من المهاجرين أو رضى الله عنهم فيكون أيضا من عطف الجملة والتّوصيف بالاوّلون لما ذكر (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) الّذين هاجروا من مكّة الى المدينة لمحض خدمة الرّسول (ص) أو من مطلق أو أوطانهم إليها (وَالْأَنْصارِ) الّذين نصروه بعد الهجرة ، وقد ورد في الخبر ، انّ المهاجر من هجر السّيّئات ، وفي خبر : لا يقع اسم الهجرة الّا بمعرفة الحجّة ، وعلى هذا فالمراد بالمهاجر من هجر دار نفسه المشركة الى مدينة الرّسول الّتى هي القلب ، ولمّا كان الزّمان منطويا في مكان النّفس والقلب فلا اعتناء بالهجر المكانىّ ولا بسبقه الزّمانىّ فلا يلزم ان يكون كلّ مهاجر صحابىّ بمحض الهجرة المكانيّة وسبقه فيها مهاجرا فضلا عن ان يكون سابقا في الهجرة ، والمراد بالأنصار السّاكنون في مدينة القلب المتوجّهون الى عمران النّفس المطمئنّة واللّوامة المبلّغون النّاشرون احكام نبىّ القلب الى أهل بدو النّفس الامّارة وعمران النّفس المطمئنّة واللّوامة (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) عطف على السّابقون أو على الاوّلون أو على المهاجرين أو مبتدء وخبر والجملة عطف على السّابق والإحسان ضدّ الاساءة قد يعتبر بالنّسبة الى خارج وجود الفاعل فيقال أحسن الى الخلق أو الى زيد وقد يعتبر بالنّسبة الى ماله من الحال والفعل فيحذف المفعول فيقال : أحسن زيدا وهو محسن بمعنى صار في حاله أو فعله ذا حسن والحسن الحقيقىّ قد مرّ مرارا انّه الولاية ، وكلّ حال أو فعل ينسب إليها يكون حسنا وان لم ير ظاهره حسنا ، وكلّ ما لم يكن منسوبا إليها فهو قبيح وان كان ظاهره حسنا ، والمراد بالإحسان هنا هو جعل الحال والفعل متّصلا بالنّبوّة والولاية والمعنى والّذين اتّبعوهم بإسلام وايمان (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) قد مضى كيفيّة رضوان الله ورضا العباد في سورة البقرة في بيان توّابيّته تعالى (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) خبر مقدّم (مُنافِقُونَ) مبتدء مؤخّر والجملة عطف على جملة من الاعراب من يتّخذ والمعنى من الاعراب من دخل في الإسلام مكرها ويتّخذ ما ينفق (الى الآخر) ومنهم من دخل طوعا لكنّه أخذ الإسلام بهوى النّفس وأشار اليه بقوله ممّن حولكم فانّه يدلّ على انّه يتملّق لكم ويرضى عنكم أو ممّن حولكم مبتدء ومن الاعراب خبره ومنافقون خبر بعد خبر أو مستأنف أو حال بتقدير مبتدء ، أو منافقون خبر ومن الاعراب حال (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على ممّن حولكم أو على من الاعراب أو مبتدء وما بعده خبره والجملة عطف على سابقها (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) تمرّنوا عليه واعتادوه مستأنف أو خبر من أهل المدينة على جواز قيام من التّبعيضيّة مقام الاسم أو حال بتقدير قد (لا تَعْلَمُهُمْ) استيناف أو حال أو خبر وهو اخبار للمؤمنين بحال المنافقين بايّاك

٢٧٥

أعنى واسمعي يا جارة ، حتّى يكونوا على حذر ممّن يحتملون نفاقه وأعلام لهم بمهارتهم في نفاقهم (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) خبر أو مستأنف أو حال متداخلة أو مترادفة (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرّة على كفرهم ومرّة على اظهارهم الإسلام نفاقا أو مرّة بنزعهم عن آمالهم ومتمنيّاتهم ومرّة بمشاهدة ما اعدّ لهم في الآخرة (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) في القيامة (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) عطف على مردوا أو على منافقون أو على من الاعراب أو على من يؤمن بالله أو آخرون مبتدء واعترفوا خبره والجملة عطف على سابقتها (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) نزولها في ابى لبابة بن عبد المنذر حين شاوره بنو قريظة في النّزول على حكم سعد بن معاذ وقد مضى عند قوله (لا تَخُونُوا اللهَ) من سورة الأنفال لكن معناها عامّ في كلّ مؤمن أحدث ذنبا في ايمانه واعترف به (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) عسى من الله واجب وانّما يأتى تعالى شأنه بأدوات التّرجّى والتّسويف جريا على عادة الملوك والأكابر في مواعيدهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقد ورد انّ وحشيّا منهم وورد أيضا انّهم قوم اجترحوا ذنوبا مثل قتل حمزة وجعفر الطّيّار ثمّ تابوا وذكر أيضا انّ من قتل مؤمنا لم يوفّق للتّوبة (خُذْ) بنفسك أو بعمّالك وهو جواب لما ينبغي ان يسأل عنه محمّد (ص) كأنّه قال : فما افعل بالمنافقين والّذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا؟ فقال تعالى : خذ (مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) والأمر هنا للوجوب كما ورد انّها وردت في فرض الزّكاة وقد نزلت في شهر رمضان وامر (ص) مناديه ان ينادى في النّاس بفرض الزّكاة ، ومنه يعلم انّ وجوب الأخذ عليه يستلزم وجوب الإعطاء عليهم ، وهل يجب عليهم الإيصال الى يده أو يد نائبه كما يستفاد ذلك أيضا من وجوب الأخذ عليه ، وورد بذلك الاخبار وافتى به بعضهم أو لا يجب بل لهم الاختيار في الإيصال اليه (ص) والإعطاء الى من شاؤا من المستحقّين؟ والحقّ ان ليس لهم الإعطاء الّا الى الرّسول (ص) أو نوّابه وخلفائه ، أو من أذنوا لهم من المستحقّين والتّفصيل موكول الى الكتب الفقهيّة (تُطَهِّرُهُمْ) صفة لصدقة أو مستأنف وهو امّا خطاب له (ص) أو مسند الى ضمير الصّدقة ، وعلى الاوّل يكون المجرور في قوله (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) متنازعا فيه ، والمراد بالتّزكية هنا الإنماء في المال والبركة لا التّطهير ليكون تأسيسا واشارة الى انّ الصّدقة توجب البركة في المال ليكون ترغيبا لهم فيها (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) وادع لهم بطلب الرّحمة عليهم حين الأخذ أو بلفظ الصّلوة كما ورد انّه إذا أتى النّبىّ (ص) قوم بصدقتهم قال : اللهمّ صلّ عليهم ، أو مطلقا حيث استحقّوا بتزكية المال دعاءك حين التّصدّق وبعده بأنواع الدّعاء للدّنيا والآخرة (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) سبب سكونهم واطمينانهم ونكرّ السّكن للاشارة الى انّه نوع سوى ما يعرفه النّاس ، فانّ الزّوج سكن والمال والمسكن والأولاد كلّها سكن وكذا ذكر الله سكن لكن كلّها لا يخلو عن نوع اضطراب ومداخلة للشّيطان بخلاف توجّهه (ص) وعنايته ودعائه ، فانّه يفرّ منه الشّيطان ولا يبقى له مداخلة فلا يبقى للسّاكن شيء من الاضطراب ، مثل السّكينة القلبيّة النّازلة من الله في قلب المؤمن (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف على مدخول انّ أو على انّ مع اسمها وخبرها وعلى كلا التّقديرين يستفاد منه التّعليل (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) ترغيب لهم في التّصدّق وذكر التّوبة لمشاركتها للصّدقة في قبوله تعالى على أيدي خلفائه ولانّها مقدّمة للصّدقة ولذا قدّمها فانّ من لم يتب الى الله لا يمكنه التّصدّق حقيقة. اعلم ، انّ التّوبة هي رجوع الشّخص عمّا لا ينبغي

٢٧٦

الى الله سواء كان الرّجوع من جهة الباطن الى مظهر الله الباطنىّ الّذى هو القلب ، أو من جهة الظّاهر الى مظهره الّذى هو النّبىّ (ص) أو الامام (ع) أو خلفاؤهما ، ولهذا الرّجوع وقبول التّوبة بهذا المعنى اعمال ومواثيق مقرّرة كانت جارية بينهم من لدن آدم (ع) ، وان كانوا لشرافتها والضّنّة بها كتموها من غير أهلها ومحوا أثرها من صدور من اطّلع عليها ورجوع عنها لئلّا تبتذل كسائر رسوم الملّة ، والمستعمل في الكتاب والسّنّة في الأغلب هو التّوبة بهذا المعنى والقابل لهذه التّوبة هو النّبىّ (ص) أو خليفته كما انّ الآخذ للصّدقة أيضا هو النّبىّ (ص) أو خليفته (ع) ، لكنّه لمّا كان مظهرا لله وفانيا ببشريّته فيه خصوصا وقت قبول التّوبة وأخذ الصّدقة نسب قبول التّوبة وأخذ الصّدقة الى نفسه بطريق الحصر بمعنى عدم انفراد الغير ولا مشاركته له تعالى فيه ، هذا إذا كان الآخذ للصّدقة والقابل للتّوبة خلفاءه تعالى ، وامّا إذا كان الآخذ للصّدقة غيرهم كالفقراء السّائلين الآخذين للصّدقات المندوبة أو المفروضة فالأخذ وان لم يكن الهيّا لكنّ المتصدّق بنيّته الالهيّة الّتى هي شرط في اطلاق اسم الصّدقة على ما يعطى يصير الهيّا ومظهرا لله وبصيرورته مظهرا لله يجذب اللّطيفة الالهيّة في الآخذ وان لم يصر الآخذ شاعرا به ، ولذا ورد تقبيل يد الامام أو الآخذ أو السّائل وتقبيل المعطى يد نفسه وتقبيل الخير بعد الرّدّ من يد السّائل ووجه الكلّ قد علم ممّا ذكر (وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير المراجعة على العباد بالعفو والتّوفيق وقبول توبتهم (الرَّحِيمُ) للعباد وقد مضى تحقيق التّوبة ومعنى توّابيّته في اوّل البقرة في مثل هذه الآية (وَقُلِ اعْمَلُوا) تهديد بعد ترغيب (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) الخالصون للايمان المتحقّقون به وهم خلفاء الله بعد رسوله (ص) والّا فأكثر المؤمنين النّاقصين لا اطّلاع لهم على اعمال الغير ، ولذلك ورد بطريق الحصر انّ المراد بالمؤمنون علىّ بن ابى طالب (ع) أو الائمّة (ع) ، فانّ اعمال العباد تعرض صباحا ومساء في الدّنيا على من جعله الله شهيدا على الخلق فاحذروا من ان يعرض منكم ما إذا شوهد يسؤكم وما إذا عرض على إمامكم يسؤه كما في الاخبار ، والسّين للتّأكيد لا للتّسويف أو للتّسويف بتضمين يرى معنى يظهر رؤية الله لا عمالهم (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجازيكم عليه ان خيرا فخير وان شرّا فشرّ (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) عطف على آخرون اعترفوا أو على ما عطف عليه آخرون اعترفوا ، ولمّا كان نزول قوله آخرون اعترفوا في ابى لبابة بن عبد المنذر ، وكان بعد قبول توبته تصدّق بتمام ماله وابى رسول الله (ص) عن أخذ تمام ماله ، وقال يكفيك الثّلث ان تتصّدق به ، وكان نزول قوله خذ من أموالهم صدقة في أخذ صدقته جاء به معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه والارجاء التّأخير ، يعنى انّهم مؤخّرون من غير تنجيز بالمغفرة أو العذاب لكونهم واقعين بعد بين الملكوت العليا الّتى هي دار الرّحمة والملكوت السّفلى الّتى هي دار العذاب من غير حكم عليهم بكونهم من أهل احدى الملكوتين. اعلم ، انّ الإنسان بعد البلوغ امّا قادر بحسب قوّته العمّالة والعلّامة على طلب الدّين والاستشعار بخيره وشرّه الانسانيّين اولا ، والثّانى هو المستضعف والاوّل امّا متّصل بنبىّ (ص) أو امام (ع) بالبيعة العامّة أو الخاصّة اولا ، والثّانى امّا منكر لله أو لنبىّ وقته وهو الكافر المحكوم عليه بالعذاب ، أو متحيّر وافق وهو المرجى لأمر الله ، والاوّل امّا موافق اتّصاله ولسانه لجنانه بحسب قوّته العلّامة أو لا ، والثّانى هو المنافق المحكوم عليه بالعذاب سواء كان دخوله وبيعته اكراها أو طوعا ، والاوّل امّا موافق عمله لعلمه ولا يخالف بحسب قوّته العمّالة تبعيّته وعهده اولا ، والاوّل هو المؤمن المحكوم عليه بالرّحمة والثّانى هو الخالط للعمل السّيّئ بالعمل الصّالح الّذى على الله ان يعفو عنه ، فآخرون مرجون

٢٧٧

(لِأَمْرِ اللهِ) اى لحكمه الّذى هو من عالم امره (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) حين خروجهم من الدّنيا بلحوقهم بدار العذاب بواسطة غلبة الحكم السّفلىّ عليهم (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) بلحوقهم بدار الرّحمة بواسطة غلبة الحكم العلوىّ عليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) باستعدادهم واستحقاقهم لكلّ من التّوبة والعذاب (حَكِيمٌ) لطيف في علمه لا يعزب عنه قدر شعر وشعيرة من استعدادهم واستحقاقهم متقن لطيف في عمله يجازى كلا بحسب عمله ولو كان بقدر شعيرة وشعرة (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً) عطف على منافقون أو كلّ من معطوفيه أو على مرجون من قبيل عطف أوصاف موصوف واحد ، أو عطف المتغايرين أو مبتدء خبر محذوف أو خبر مبتدء محذوف أو مفعول فعل محذوف ، روى انّ بنى عمرو بن عوف بنوا مسجد قبا وصلّى فيه رسول الله (ص) فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجد الضّرار وأرادوا ان يحتالوا بذلك فيفرّقوا المؤمنين ويوقعوا الشّكّ في قلوبهم ، بان يدعوا أبا عامر الرّاهب من الشّام ليعظهم ويذكر وهن دين الإسلام ليشكّ المسلمون ويضطربوا في دينهم ، فأخبر الله تعالى نبيّه (ص) بذلك ، فدعوا رسول الله (ص) ليصلّى في مسجدهم فأبى واعتذر بأنّى على جناح سفر حين ارادة غزوة تبوك ، وبعد ما رجع من تبوك امر بهدمه وإحراقه وجعله كناسة يلقى فيه الجيف وقصّته مذكورة بتفصيلها في المفصّلات وما في الصّافى يكفى للتّبصّر (ضِراراً وَكُفْراً) لحصول الكفر أو لتحصيل ازدياد الكفر (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً) ترقّبا (لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنى أبا عامر الرّاهب ، نقل انّه كان قد ترهّب في الجاهليّة ولبس المسوح فلمّا قدم النّبىّ (ص) المدينة حسده وحزّب عليه ثمّ هرب بعد فتح مكّة وخرج الى الرّوم وتنصّر ، وانّه كان يقاتل رسول الله (ص) في غزواته الى ان هرب الى الشّام ليأتى من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله (ص) ومات بقنّسرين (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) الّا الارادة الحسنى أو العاقبة الحسنى أو الخصلة الحسنى (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) اى للصّلوة فانّ القيام لكثرة استعماله في القيام للصّلوة يتبادر منه الصّلوة (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) اعلم ، انّه كما انّ للبناء سقفا وأساسا ومقرّا يقوم الأساس عليه كذلك لكلّ عمل صورة وأساس ومقرّ يقوم الأساس عليه ، فسقف العمل هو صورته الّتى هو عليها ، وأساسه هو نيّة العامل ، ومقرّه هو شأنه الّذى يقتضي تلك النّيّة ، فبالنّيّة يوجد العمل ومن شأن العامل ينشأ النّيّة وعليه تستقرّ والعمل مبتن على النّية والنّيّة قائمة على شاكلة العامل (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) والعمل ظهور النّيّة والنّيّة ظهور الشّاكلة لكن يخفى ذلك الظّهور على العميان مع ظهوره لأصحاب البصائر ، والعلم بمبنى العمل أحد وجوه العلم بتأويل القرآن ، فمن كان شاكلته التّقوى من مقتضيات النّفس صارت نيّته الهيّة ومن كان كذلك كان عمله مبتنيا على نيّة الهيّة قائمة على شاكلة التّقوى ، وإذا كان العمل مبتنيا على نيّة الهيّة كان العمل الهيّا لظهور تلك النّيّة في العمل ولذلك أو لكون قلب عاملها الواقف لها بيت الله يسمّى المساجد بيوت الله مع شركتها لسائر الابنية في موادّها وصورها وبقاعها وعامل بنائها ، وقد مضى تحقيق معنى المسجد في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ)(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) من ايّام تأسيسها يعنى مسجد قبا (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) للصّلوة من مسجد اسّس على النّفاق لانّه بمظهريّته لنيّة المتّقى مجانس لك (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) من الارجاس الباطنة والأنجاس الظّاهرة (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) روى

٢٧٨

عن النّبىّ (ص) انّه قال لأهل قبا : ماذا تفعلون في طهركم فانّ الله قد أحسن عليكم الثّناء؟ ـ قالوا نغسل اثر الغائط ، قال : فأنزل الله فيكم : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) بنيان وجوده (عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) من الله عطف على محذوف مستفاد من سابقه والهمزة والفاء على التّقديم والتّأخير أو على تقدير المعطوف عليه بينهما تقديره أمسجد اسّس على التّقوى خير أم مسجد اسّس على النّفاق فامّن اسّس بنيانه أو فمن اسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان (خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ) الجرف جانب الوادي الّذى تجرفه السّيول وتذهب بتراب أصله فتنشقّ والشّفا شفيره (هارٍ) أصله هائر وهور وهو المنشقّ المشرف على السّقوط (فَانْهارَ بِهِ) اسقطه اى البنيان أو من اسّس البنيان (فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال فمن أسّس بنيانه على شفير جهنّم ظالم والله لا يهدى القوم الظّالمين. اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة في اوّل الخلقة ليس لها الّا فعليّة الجماد ثمّ تتدرّج الى فعليّة النّبات ثمّ الى فعليّة مراتب الحيوان من مراتب الخراطين الى مراتب البهيميّة والسّبعيّة ، ثمّ الى فعليّة الشّيطانيّة ، ثمّ الى فعليّة الانسانيّة في الجملة ، وهي مقام تميزها للخير والشّرّ العقليّين في الجملة في اوّل مراتب البلوغ والتّكليف وحينئذ تقع برزخا بين عالم الجنّة والشّياطين وفيه جهنّم ونيرانها ، وبين عالم الملائكة بمراتبها وفيه الجنان ونعيمها وروحها وريحانها ، والإنسان في هذا المقام ليس الّا قابلا صرفا يتصرّف فيه الشّياطين ويجذبونه الى السّفل والى عالمهم ويتصرّف فيه الملائكة ويجذبونه الى العلو والى عالمهم وله القوّة والاستعداد للسير على تمام مراتب السّفل والاتّصاف بها وعلى تمام مراتب العلو والاتّصاف بها ، فان ساعده التّوفيق وأدرك ببصيرته شروره وانّ جذب الشّياطين له ليس الّا الى دار الشّرور واتّقى ذلك ولم ينصرف الى ما اقتضيه القوّة الشّيطانيّة والسّبعيّة والبهيميّة ، بل كان على حذر من ذلك وقام في مقام الانسانيّة متدرّجا في مراتبها فقد اسّس دار وجوده وتعيّشه على تقوى من لوازم سخط الله وهي مقتضيات القوى المذكورة ، وان أدركه خذلان الله العياذ بالله ، وانصرف عن مقام الانسانيّة وانجذب بوسوسة الشّيطان الى مقام القوى المذكورة وهو أقرب مقاماته الى العالم السّفلىّ الّذى فيه جهنّم وقام في هذا المقام الّذى هو أضعف مراتبه وأو هنها فقد اسّس دار وجوده وتعيّشه على أو هن مقاماته الّذى إذا انهدم سقط في جهنّم (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) يعنى أهل مسجد الضّرار (رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) سبب شكّ (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) فلا يبقى منها اثر حتّى تتّصف بالرّيبة (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعنى انّ بنيانهم سبب جهلهم وبلاهتهم والله عليم حكيم فيكون بنيانهم سبب بعدهم من الله فليهدم كما روى انّه (ص) امر بهدمه وإحراقه (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بعد ما ذكر أصناف المنافقين وأحوالهم ذكر أوصاف المؤمنين وما هم عليه وما لهم في الآخرة لازدياد حسرة المنافقين. اعلم ، انّ النّفوس البشريّة خلقت متعلّقة بمعنى انّ التّعلّق جزؤ جوهر ذواتها وفصل مميّز لها عن الجواهر المجرّدة الصّرفة لا انّ التّعلّق وصف خارج عن ذواتها عارض لها ، وهذا التّعلّق الفطرىّ هو الّذى يكون منشأ شوقها الّذى يعبّر عنه بالفارسيّة ب «درد» وهو يقتضي التّعلّق الاختيارىّ حين البلوغ فان ساعدها التّوفيق وتعلّقت اختيارا حسبما كلّفها الله بالعقول المجرّدة ومظاهرها البشريّة فازت بالحيوة الابديّة ، وان خذلها الله وتعلّقت بالشّيطان ومظاهره البشريّة أعاذنا الله منها ، هوت الى المظاهر القهريّة وهلكت ، ولمّا كان في بدو الأمر مداركها العقليّة ضعيفة ومداركها الحيوانيّة والشّيطانيّة قويّة بحيث لا تدرك الّا ما أدركته المدارك الظّاهرة والباطنة الحيوانيّة

٢٧٩

أو ما اقتضته القوى الحيوانيّة والشّيطانيّة ، ولا يتيسّر لها ادراك العقول والتّعلّق بها بلا واسطة بشريّة مدركة بمداركها الحيوانيّة ، أمرهم الله تعالى شأنه بالتّعلّق بمظاهر العقول من الأنبياء وخلفاءهم والانقياد لهم واتباعهم ، ولتطابق العوالم وتوافق المراتب ولزوم سريان حكم كلّ عالم ومرتبته الى سائر العوالم والمراتب ، أمرهم الله تعالى بالبيعة الّتى هي مشتملة على التّعلّق الجسمانىّ بعقد يدي المتعلّق والمتعلّق به وتعلّق سمع كلّ بلسان الآخر وصوته ليكون التّعلّق النّفسانىّ موافقا للجسمانىّ وساريا الى المرتبة البشريّة ، وتلك البيعة كانت سنّة قائمة من لدن آدم (ع) الى زمان ظهور دولة الخاتم (ص) ، بحيث كان أهل كلّ دين لا يعدّون من أهل ذلك الدّين أحدا الّا بالبيعة مع صاحب ذلك الدّين أو مع من نصبه لاخذ البيعة من النّاس ولتلك كانت شرائط وآداب مقرّرة مكتومة عندهم ، ولشرافة تلك البيعة والضنّة بابتذالها عند من ليس لها باهل كانت تختفى في كلّ دين بعد قوّته ورحلة صاحبه واختيار العامّة له بأغراضهم الفاسدة على سبيل الرّسم والملّة ، وقوله (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) اشارة الى التّحقّق بالدّين بالدّخول فيه بما به تحقّقه من البيعة ، وقصر مشيد اشارة الى صورة الدّين المأخوذة على طريق الرّسم والملّة من دون التّحقّق به إذا تقرّر ذلك ، فاعلم ، انّ تلك البيعة لمّا لم تكن الّا مع المظاهر البشريّة لعدم إمكان الوصول الى الله والى العقول من غير توسّط تلك المظاهر وقد تحقّق انّ المظاهر يعنى الأنبياء وخلفاءهم (ع) لفنائهم في الله خصوصا وقت أخذ البيعة واشتراء الأنفس والأموال ، وجودهم وجود الله لا وجود أنفسهم لعدم نفسيّة لهم حينئذ وفعلهم فعل الله لا فعل أنفسهم ، وكان القاصرون لا يرون البيعة الّا مع الوسائط من غير نظر الى الظّاهر فيها ، قال الله تعالى بطريق حصر القلب أو التّعيين أو الإفراد انّ الله اشترى لا الوسائط البشريّة كما اعتقدوا لقصورهم وقد صرّح بالحصر في قوله (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) يعنى انّ المشترى هو الله لا أنت ، وهكذا قوله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) للحصر اعتبارا لمفهوم اضافة اليد الى الله يعنى يد الله لا يدك ، كما مضى عند قوله تعالى ألم يعلموا انّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده انّه اشارة الى تلك البيعة وانّه للحصر فانّ قبول التّوبة من أجزاء تلك البيعة ومقدّماته ، وقول المفسّرين انّ الآية وذكر الاشتراء تمثيل لاثابة الله ايّاهم على بذل الأنفس والأموال انّما هو بالنّظر الى المبايعة الماليّة لا المبايعة الاسلاميّة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) حال لبيان حالهم وما يشترط عليهم حين الاشتراء أو مستأنف جواب لسؤال عن حالهم وما اشترط عليهم. اعلم ، انّ الدّاخل في الإسلام بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة والدّاخل في الايمان بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة لا ينفكّ عن المقاتلة مع الأعداء الباطنة وجنود الشّيطان ، وان كان قد ينفكّ عن المقاتلة مع الأعداء الظّاهرة وأيضا لا ينفكّ عن قتل لشيء من جنود الجهل واتباع الشّيطان وعن مقتوليه بحسب مراتب جنود الحيوان ما لم يمت اختيارا أو اضطرارا ، ولذا أتى بالافعال الثّلاثة مضارعات دالّات على الاستمرار (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) قرئ الاوّل مبنيّا للفاعل والثّانى مبنيّا للمفعول وبالعكس (وَعْداً عَلَيْهِ) وعد المقاتلة بحسب الشّرط في البيعة أو وعد الجنّة بإزاء الأنفس والأموال وعدا ثابتا عليه (حَقًّا) صفة لوعدا أو حال منه أو مصدر لمحذوف اى ثبت ذلك الوعد ثبتا (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى) افعل التّفضيل أو فعل ماض (بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ) الله بتوسّط مظاهره (بِهِ) ان كان أو في افعل تفضيل ومن استفهاميّة فالفاء جواب شرط محذوف اى إذا لم يكن أحد أو في بعهده من الله فاستبشروا ، وان كان فعلا ماضيا ومن شرطيّة أو موصولة فالفاء جواب

٢٨٠