تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

بِهِ شَيْئاً) اعراب أجزاء الآية انّ ما فيما حرّم مصدريّة أو موصوفة أو موصولة أو استفهاميّة وعليكم ظرف متعلّق بحرّم أو باتل أو بهما أو ابتداء كلام ، وان في ان لا تشركوا مصدريّة ولا نافية أو ناهية والنّهى أوفق بما يأتى من عطف الأمر عليه ، وهو امّا بتقدير اللّام أو خبر مبتدء محذوف اى المتلوّ أو المحرّم ان لا تشركوا وإذا قدّر المحرّم مبتدء كان لا زائدة أو هو مفعول فعل محذوف ، اى اعنى ان لا تشركوا أو عليكم خبر مقدّم وان لا تشركوا مبتدأ ، أو عليكم اسم فعل والّا تشركوا منصوب به ، أو ان لا تشركوا مفعول اتل على ان يكون ما في ما حرّم مصدريّة أو هو بدل ممّا وإبداله ممّا باعتبار حرمة الإشراك ، أو يكون لا زائدة أو لفظة ان تفسيريّة والجملة تفسير لاتل أو لحرّم وتفسيره لحرّم باعتبار الإشراك ، أو ان لا تشركوا مفعول لوصاكم الله وهذا أوفق بقوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وعلى الوجوه السّابقة فالتّقدير أحسنوا بالوالدين وللاهتمام بالوالدين أسقط الفعل إيهاما لعطفه على الجارّ والمجرور ليتوهّم انّ المعنى ان لا تشركوا بالوالدين إحسانا ، وأتى بالمصدر للاشعار بانّ المقدّر أحسنوا وأتى به موضع لا تسيئوا فانّه الموافق لسابقه ولاحقه للدّلالة على الاهتمام بالإحسان إليهما وعدم الاكتفاء بترك الاساءة ، والوالدان اعمّ من الصّورىّ والرّوحانىّ (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) بالوءد وغيره (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فلا تخشوا الفقر (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) ما استقبحه العقل واستكرهه الشّرع (ما ظَهَرَ مِنْها) كالّتى شاعت وصارت سيرة بينكم ، كنكاح زوجة الأب وعبادة الأصنام وغيرها من السّنن الرّذيلة الّتى لا يرتضيها العقل ولم ـ تثبت في شريعة الهيّة ، والنّهى عن القرب مبالغة في النّهى عن الفعل (وَما بَطَنَ) كالزّنا وكلّ ما لم يصر شائعا وسيرة بينكم من المستقبحات العقليّة والشّرعيّة أو المراد بما ظهر قبحه كالزّنا واللّواط لا ما ظهر ذاته كنكاح زوجة الأب وبما بطن ما بطن قبحه كنكاح زوجة الأب ، أو المراد بما ظهر ما ظهر منها على الأعضاء وبما بطن ما بطن في النّفوس كالرّذائل النّفسانيّة والخطرات السّيّئة والخيالات الفاسدة والعقائد الكاذبة ، أو المراد بالفواحش الزّنا فقط أو اعمّ منه وممّا كان مثله في القبح في الانظار كاللّواط وهذا أوفق بترتيب المعاصي كما لا يخفى على من تأمّل في الفقرات الثّلاث ، ولذا ورد تفسيرها في الاخبار بالزّنا ومثله ، اعلم ، انّ ظلم الإنسان وعصيانه امّا ظلم لنفسه أو ظلم لغيره ، وظلم الغير امّا مسر الى ذات الغير أو الى ماله ، وأعظم مراتب ظلم النّفس الزّنا ، وأعظم مراتب ظلم ذات الغير إزهاق روحه ، وأعظم مراتب ظلم مال الغير أخذ مال اليتيم عدوانا ، وبالفقرات الثّلاث المصدّرة بأداة النّهى أشار تعالى شأنه الى هذه الثّلاثة (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) ذكر خاصّ بعد العامّ للاهتمام به كما انّ ما سبق على ذكر الفواحش كان ذكر خاصّ قبل العامّ لذلك بناء على تعميم الفواحش ، وامّا إذا كان الفواحش خاصّة بالزّنا واللّواط كان ذكر قتل الأولاد مقدّما على الكلّ ، وعدم الاكتفاء بذكر قتل النّفس للاهتمام بوأد الأولاد وقتلهم وللتّشديد في حرمته (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قبحه وسوء عاقبته فتتركونه (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) اى بالنّيّة الّتى هي أحسن وهي نيّة حفظ ماله ونفسه وانما ماله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) جمع الشّدّ بالفتح كفلس وأفلس أو الشّدّة كالنّعمة والانعم أو مفرد ، وعلى جمعيّته فالمقصود الاشارة الى قوّة جميع قواه البدنيّة والنّفسانيّة وهو البلوغ الشّرعىّ الّذى فيه قوّة قواه البدنيّة والنّفسانيّة بكمال تميزه ودركه الخير والشّرّ البدنيّين والنّفسانيّين

١٦١

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) المراد بهما المعروفان وقد مضى في بيان الميزان ما يمكنك التّعميم به وكذا في سائر فقرات الآية ، والتّقييد بالقسط امّا للتّأكيد أو للمنع من إعطاء الزّيادة على قدر الاستحباب فانّه كالتّبذير الممنوع أو مورث لجهالة المكيل والموزون المفسدة للمعاملة ولذا جاء بقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) معترضا فانّ القسط الحقيقىّ في الإيفاء هو أداء تمام ما حقّه ان يؤدّى بحيث لا يزيد ولا ينقص حبّة وهو أمر ليس في وسع البشر (وَإِذا قُلْتُمْ) في حكومة إذا حكّمكم النّاس أو في شهادة أو إصلاح أو نصح أو ترحّم أو سخط أو معاش أو معاد أو واجب أو مباح بألسنتكم أو بسائر اعضائكم أو بقواكم العلّامة أو العمّالة (فَاعْدِلُوا) توسّطوا بين الإفراط والتّفريط في الأقوال والأحوال والأفعال ، والتّأدية بصورة الشّرط وبلفظ إذا والمضىّ للاشارة الى انّ القول غير مأمور به لكنّ الإنسان لا يخلو عن قول ما خصوصا على التّعميم المذكور ويكون مأمورا بالتّوسّط في القول (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) جسمانيّا أو روحانيّا في العالم الكبير أو الصّغير (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) تقديم المعمول للاهتمام به ولشرافته ولإبراز العلّة للأمر قبل الإتيان به لا لقصد الحصر أو للحصر أيضا بناء على انّ الوفاء بسائر العهود من شرائط عهد الله ، اعلم ، انّ العهد والعقد والميثاق والبيعة مع الله في عرف أهل الله إذا أطلقت يراد بها البيعة العامّة النّبويّة أو البيعة الخاصّة الولويّة ، وبالأولى يحصل الإسلام وبالثّانية يحصل الايمان وتسمّى تلك البيعة بيعة ومبايعة ، لانّ البائع بتلك البيعة يبيع نفسه وماله بثمن هو الجنّة كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وتسمّى عهدا ومعاهدة لتعهّد البائع والمشترى القيام بما عليهما وعقدا لانعقاد يد البائع على يد المشترى وميثاقا لاستحكام ذلك العهد بتقبّل الشّروط من الطّرفين ووثوق كلّ بالآخر بذلك العقد ، ولمّا كان المشترى منصوبا من الله ووكيلا منه في تلك المبايعة صحّ نسبتها الى الله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ، إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) ، (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ، أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ،) وغير ذلك من الآيات والاخبار الدّالّة على نسبة هذه الى الله (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) التّذكّر هو الالتفات الى المعلوم والاستشعار به بعد الغفلة عنه أو مطلقا وهو من صفات العقل كما انّ الغفلة من صفات النّفس ولذا اخّره عن قوله تعقلون وكرّر ذلك للاشارة الى مراتب المعاصي وانّ بعضها لا يصدر عن العاقل ، وبعضها لا يصدر عن المتذكّر وان كان قد يصدر عن العاقل الغافل ، وبعضها لا يصدر عن المتّقى وان كان قد يصدر عن العاقل المتذكّر والمراد بالتّقوى في قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، هو التّقوى الحقيقيّة الّتى هي الرّجوع عن طرق النّفس المعوّجة واتّباع ائمّة الجور الى طريق القلب واتّباع الامام الحقّ ، والعاقل المتذكّر ما لم يصل الى الامام الحقّ لا يمكنه الرّجوع الى طريق القلب ولذا اقتصر هناك على اتّباع الصّراط المستقيم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) قرئ بفتح همزة انّ وتشديد النّون أو تخفيفه مخفّفة من المثقّلة وحينئذ تكون مع بعدها عطفا على ان لا تشركوا واعتبار الحرمة فيه باعتبار ترك المتابعة ، أو تكون بتقدير اللّام متعلّقا بقوله اتّبعوه وقرئ بكسر همزة انّ فتكون عطفا على تعالوا ، وقرئ صراط ربّك وصراط ربّكم وهذا اشارة الى المستفاد ممّا ذكر من قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا

١٦٢

الى أخر الآيات وهو التّوسّط بين الإفراط والتّفريط في الفعل والقول وهو صراط الولاية ، أو هو اشارة اوّلا الى طريق الولاية الّذى كان معهودا عنده (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أصله تتفرّق حذف تاء المضارعة والفعل منصوب بان بعد الفاء والباء للتّعدية والمعنى لا تتّبعوا السّبل فان تتفرّق بكم اى تفرّقكم وتزيل اجتماعكم واتّحادكم في الصّراط ، ولمّا كان التّوسّط بين الإفراط والتّفريط لا يحصل الّا بالولاية بل كان هو الولاية والولاية من شؤن الولىّ بل هي الولىّ صحّ تفسيره بالولاية وبمحمّد (ص) وبعلىّ (ع) كما ورد في الاخبار ، ولمّا كان الانحراف عن التّوسّط والميل الى الإفراط والتّفريط لا يحصل الّا باتّباع الهوى بل هو اتّباع الهوى والهوى ليس الّا من شؤن أعداء أهل البيت صحّ تفسير اتّباع السّبل بمحبّة أعدائهم (ذلِكُمْ) التّوسّط (وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) السّبل المتفرقّة فانّ التّقوى الحقيقيّة هي الاحتراز عن الطّرق المنحرفة والثّبات على الصّراط المستقيم (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كتاب النّبوّة أو التّوراة الّتى هي صورة النّبوّة والعطف باعتبار المعنى كأنّه قال هذا ما آتينا محمّدا (ص) ثمّ آتينا موسى الكتاب والعطف بثمّ باعتبار الاخبارين والاعلامين أو باعتبار تفاوت الخبرين في الشّرف باعتبار موضوعيهما ويحتمل العطف على جملة ذلكم وصيّكم به لكنّه بعيد عن الفصاحة لعدم المناسبة بينهما ، وامّا العطف على وصيّكم كما قيل فبعيد غاية البعد لعدم ظهور الرّابط لمبتدء المعطوف عليه (تَماماً) من غير نقص فيه أو تماما للنّعمة وهو حال أو مفعول مطلق أو تعليل (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) صار ذا حسن أو جعل عمله حسنا وبأحد هذين المعنيين ورد تفسيره بان تعبد الله كأنّك تراه أو أحسن الى الغير ومنع إساءته عنهم ، اعلم ، انّ الحسن المطلق منحصر في الولاية المطلقة الّتى صاحبها علىّ (ع) بعد محمّد (ص) وحسن غيرها من الّذوات والصّفات والأفعال باعتبار اتّصاله بها ، وتفاوت الحسن في الأشياء باعتبار تفاوتها في القرب والبعد عنها ، فالطّالب للولاية يكون في نفسه حسنا وأفعاله الّتى تصدر عن طلبه تكون حسنة ، والقابل لها يكون أحسن وأفعاله الّتى تصدر عن جهة ذلك القبول أحسن من افعال الطّالب ، والقابل المشاهد لصورة الولىّ والنّاظر الى ملكوته أحسن من القابل الغائب عن المشاهدة ، وتلك المشاهدة هي الّتى تسمّى عند الصّوفيّة بالفكر وتمثّل صورة الشّيخ والنّظر الى صورته أحسن من جميع أفعاله والمتحقّق بحقيقة الولاية وأفعاله أحسن من القابل المشاهد وأفعاله (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) اعلم ، انّه تعالى وصف كتاب موسى (ع) بكونه تماما وتفصيلا لكلّ شيء هاهنا وقال في سورة الأعراف : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) وهذا يدلّ على انّه تعالى جعل في كتاب رسالته كلّ شيء مشتملا على كلّ شيء وكلّ شيء مظهرا تامّا ومرآة كاملة لكلّ شيء ، وقد قال بعض الصّوفيّة : كلّ شيء في كلّ شيء لكن ليس لكلّ أحد ان ينظر كلّ شيء في كلّ شيء ، ولهذا قال : وكتبنا لموسى وما كان لغيره ذلك ، ولمّا كان موسى (ع) بعد نبيّنا (ص) وبعد إبراهيم (ع) أوسع نظرا من حيث النّظر الى الكثرات ومراتب كلّ ومباديه وغاياته ، وصف كتابه المنزل عليه بأنّه كتب له فيه من كلّ شيء تفصيلا لكلّ شيء ، بمعنى انّه تعالى جعل لوح صدر موسى (ع) بحيث إذا انتقش فيه شيء من الأشياء انتقش فيه جميع مباديه الى مبدء المبادى وجميع غاياته الى غاية الغايات ، وانتقش جميع لوازم المبادى والغايات ، وإذا انتقش جميع المبادى والغايات ولوازمها في شيء لم يبق شيء الّا انتقش ، فيه لانّ الموجودات كلّها متلازمات إذ الكلّ معاليل علّة واحدة (وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ) اى

١٦٣

بنى إسرائيل (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) ان كان المراد بربّهم الرّبّ المطلق فالمراد باللّقاء لقاء جزائه وحسابه وحسّابه ، وان كان المراد به الرّبّ المضاف وهو ربّهم في الولاية فالمراد باللّقاء لقاء ملكوت ذلك الرّبّ وهو ادنى مراتب اللّقاء والمعرفة بالنّورانيّة وفوقه لقاء جبروته بمراتبها ، يعنى آتينا موسى الكتاب للدّعوة الظّاهره حتّى يستعدّوا بقبول تلك الدّعوة لقبول الدّعوة الباطنة ، ويستعدّوا بقبول تلك الدّعوة لفتح باب القلب ويشاهدوا بفتح باب القلب صورة ولىّ الأمر بملكوته ، وهو لقاء ربّهم الّذى هو ولىّ أمرهم وبهذا اللّقاء يحصل الفوز بالرّوح والرّاحة والأمن والامان والسّلامة من حوادث الزّمان والنّجاة من مضيق المكان ؛ والى هذا اللّقاء أشار من قال :

كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور

قد ز ميان برفراشت رأيت الله نور

وقد فسّر السّكينة في الاخبار بما يدلّ على ظهور ملكوت ولىّ الأمر في القلب حيث ورد ، انّها ريح تفوح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، فانّ الملكوت من الجنّة ، وكونها ذات وجه كوجه الإنسان يدلّ على انّها من الّذوات الجوهريّة الملكوتيّة لكونها من الجنّة لا ما يفهم من لفظ الرّيح ، ويسمّى في عرف الصّوفيّة ظهور ملكوت ولىّ الأمر على قلب الإنسان بالسّكينة كما يسمّى بالفكر والحضور ، وهذا اللّقاء هو المراد بما يقولون : لا بدّ للسّالك ان يجعل صورة المرشد نصب عينيه ، يعنى ينبغي ان يصفو نفسه بالعبادات حتّى يظهر في قلبه ولىّ امره فيكون مع الصّادق معيّة حقيقيّة لا ما يتوهّم من ظاهر اللّفظ من انّه لا بدّ ان يتعمّل ويتصوّر صورة مخلوقة له مردودة اليه ، وقد ورد منهم ، وقت تكبيرة الإحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحدا من الائمّة نصب عينيك ؛ وعلى هذا كان المراد بالايمان هاهنا الايمان الشّهودىّ لا الايمان بالغيب (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) كثير الخير والنّفع لانّ البركة الزّيادة والنّماء في الخير وهو كلمة جامعة لكلّ ما ذكر في وصف كتاب موسى (ع) مع شيء زائد وهو تعميم البركة لكلّ ما يتصوّر فيه البركة ، وفي لفظ أنزلنا دون آتينا دلالة على شرافة هذا الكتاب كأنّ كتاب موسى (ع) كان من سنخ هذا العالم فآتاه الله ، والقرآن كان في مقام أعلى من هذا العالم فأنزل الله الى هذا العالم السّفلىّ وآتاه محمّدا (ص) (فَاتَّبِعُوهُ) حتّى تفوزوا من اتّباعه بولىّ أمركم واتّباعه فانّ فيه حجّته وباتّباعه تفوزون بفتح باب القلب وبفتحه نزول الرّحمة من الله وادنى مراتب حقيقة الرّحمة هو ملكوت ولىّ الأمر (وَاتَّقُوا) مخالفة ما فيه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بلقاء ملكوت ولىّ أمركم فانّ دار الشّياطين هي حقيقة سخط الله والدّنيا هي مظهر رحمته وسخطه معا والملكوت العليا هي حقيقة رحمته المتجوهرة وكذا الجبروت والمشيّة ، وفي الاقتصار على لفظ ترحمون هنا والإتيان بقوله (بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) هناك دلالة على شرافة هذا الكتاب كما لا يخفى (أَنْ تَقُولُوا) يعنى أنزلنا الكتاب كراهة ان تقولوا بعد ذلك أو في القيامة أو لئلّا تقولوا كذلك أو كراهة هذا القول الواقع منكم على سبيل الاستمرار. اعلم ، انّ مثل هذه العبارة كثيرة في الكتاب والسنّة وجارية على السنة العرف والمقصود من مثلها انّ هذا القول كان واقعا منكم وصار وقوع هذا القول سببا لانزال الكتاب لكراهتنا وقوع هذا القول منكم ولئلّا يصدر مثله بعد منكم ، ولمّا كان صدور هذا القول سببا لكراهته ، وكراهته لهذا القول الصّادر سببا لانزال الكتاب ، وإنزال الكتاب سببا لمنع هذا القول صحّ تفسيره بكراهة ان تقولوا ، وبقولهم لئلّا تقولوا ، ولكن لا حاجة الى تقدير الكراهة أو تقدير لا وعلى هذا كان المعنى أنزلنا الكتاب لكثرة ما كنتم تقولون إظهارا للعذر في تقصير كم في العبادات وتحسّرا على كونكم أمّيّين (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ

١٦٤

مِنْ قَبْلِنا) والإتيان بأداة القصر لشهرة الكتابين وأهلهما عندهم كأنّهم كانوا لا يعرفون أهل ملّة وكتاب غيرهما (وَإِنْ كُنَّا) ان مخفّفة من المثقّلة (عَنْ دِراسَتِهِمْ) قراءتهم وبيانهم للكتابين (لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا) أو للتّوزيع يعنى كان بعضهم يقولون ذلك وبعضهم هذا (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لانّا احدّ ذهنا وادقّ فهما ، وهذا هو ديدن النّسوان لانّهنّ لا يرضين بنسبة النّقص الى انفسهنّ ويعتذرون بالاعذار الكاذبة ويفتخرن باستعداد الكمالات وقواها حين فقدانها على المتّصف بها ويتحسّرن على الفانية بالتّمنّيات والتّعليق على الفائتات (فَقَدْ جاءَكُمْ) جواب لشرط مقدّر ، اى ان كنتم صادقين فقد جاءكم (بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كتاب هو حجّة واضحة على كلّ شيء من صدق النّبىّ (ص) ونبوّته والأحكام الّتى هي معالم الهداية (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة والتّكوينيّة وأعظمها علىّ (ع) فانّ الآيات التّدوينيّة تدلّ على التّكوينيّة وتكذيبها مؤدّ الى تكذيبها ، وهو تعريض بانّهم كذّبوا بآيات الله بعد وضوحها ولا أظلم منهم (وَصَدَفَ عَنْها) اعرض أو منع لكنّ الثّانى اولى للتّأسيس يعنى ضلّ واضلّ (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ) ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم أو لعذابهم حين الموت (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) في الولاية وهو علويّة محمّد (ص) ووجهة ولايته كما قال (ع): يا حار همدان من يمت يرنى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) كأشياع علىّ (ع) الّذين هم آياته تعالى ، وتفسير الآيات في الاخبار بالعذاب في دار الدّنيا لا ينافي كونها عند الموت قبل الارتحال من الدّنيا ولا ينافي التّفسير بأشياع علىّ (ع) لانّ العذاب آية علىّ (ع) النّازلة وأشياعه آياته العالية (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يعنى حين معاينة الموت (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) هو اشدّ آية على أهل الايمان خصوصا على من لا يراقب جهة ايمانه الّذى هو ذكره وفكره ، وقد فسّرت الآيات في هذه الآية بالأئمّة (ع) وبطلوع الشّمس من مغربها وبخروج الدّجّال وبظهور القائم (ع) وبخروج دابّة الأرض ، ولا ينافي ما ذكرنا (قُلِ انْتَظِرُوا) احدى الثّلاث (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) لها فانّ لنا بذلك الفوز ولكم الويل (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) الدّين يقال لكلّ سيره وسنّة ، النّاس على دين ملوكهم ، وعلى السّيرة الشّرعيّة الالهيّة ، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، وللجزاء (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، ويطلق على الإسلام والعادة والعبادة والطّاعة والّذلّ والحساب والقهر والاستعلاء والملك والحكم والتّدبير والتّوحيد وجميع ما يتعبّد الله به ، والملّة والخدمة والإحسان وعلى غير ذلك من المعاني ، والتّحقيق انّ حقيقة الدّين هي الطّريق من القلب الى الله والسّير الى ذلك الطّريق أو عليه ويسمّى بالطّريقة وهما الولاية التّكوينيّة المعبّر عنها بالحبل من الله ، والولاية التّكليفيّة المعبّر عنها بالحبل من النّاس وبالولاية التّكليفيّة ينفتح باب ذلك الطّريق وصاحب الولاية المطلقة هو علىّ (ع) وهو متّحد مع الولاية المطلقة ، والولايات المقيّدة اظلال من هذه الولاية ولذلك صار علىّ (ع) خاتم الولاية وكلّ الأنبياء (ع) والأولياء (ع) يكونون تحت لوائه ، وكلّما يسمّى دينا من الشّرائع الالهيّة فانّما يسمّى دينا لاتّصاله بالولاية وارتباطه بحقيقة الدّين ، وتسمية السّيرة الغير الالهيّة بالدّين من باب المشاكلة مع السّيرة الالهيّة

١٦٥

فعلى قراءة فرّقوا ، فالمعنى انّ الّذين فرّقوا دينهم الّذى هو ما وصل إليهم من طريق القلب بالولاية التّكوينيّة من فيض العقل على الاهوية الفاسدة أو ما وصل إليهم من هذا الطّريق بالولاية التّكليفيّة من الايمان الّذى دخل في قلوبهم على الأغراض الكاسدة والمهامّ المتبدّدة ، فانّ الإنسان إذا صار مقبلا على النّفس والدّنيا كان يفرّق كلّما يصل اليه من جهة الآخرة على جهات النّفس ونعم ما قيل :

أنصتوا يعنى كه آبت را بلاغ

هين تلف كم كن كه لب خشك است باغ

أو المعنى فرّقوا دينهم وبعّضوه بان آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، أو المعنى افترقوا في دينهم بان اختار كلّ منهم دينا غير دين الآخر ، كما ورد من افتراق الامّة على ثلاث وسبعين فرقة ، وقرئ فارقوا دينهم اى فارقوا ولايتهم التّكوينيّة من الغفلة التامّة عن طريق القلب أو فارقوا ولايتهم التّكليفيّة بالهجرة والغفلة عن ذكرهم الّذى دخل في قلوبهم أو فارقوا عليّا (ع) كما علمت ، وكما ورد في الخبر انّ الآية فارقوا دينهم وانّ المراد المفارقة عن علىّ (ع) (وَكانُوا شِيَعاً) متفرّقة يشيع كلّ منهم هوى أو غرضا أو إماما باطلا أو يصير كلّ منهم مشايعا لا هوية عديدة أو أغراض عديدة أو ائمّة عديدة بجعل كلّ واحد كأنّه فرق مختلفة كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) وكما قيل بالفارسية : «ترا يكدل دادم كه در ان يك دلبر گيرى نه آنكه آن يكدل را صد پاره كنى وهر پاره را دنبال مهمّى آواره» (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) اى لست متمكّنا منهم في شيء من التّمكّن فانّ تمكّنك امّا بتمكّن صورتك الملكوتيّة في قلوبهم ، أو بتمكّن الذّكر الّذى أخذوا منك بالولاية التّكليفيّة في قلوبهم ، أو بتمكّن الانقياد الّذى أخذوه منك بالبيعة العامّة في صدورهم فانّ الكلّ من شؤنك ونازلتك ، أو لست من شفاعتهم في شيء ، أو لست من مسائلتهم ومحاسبتهم أو عذابهم في شيء ، أو لست من مجانستهم في شيء ومرجع الكلّ الى تمكّنه (ص) في قلوبهم بأحد الوجوه المذكورة ، ولفظة منهم خبر لست أو حال مقّدم من شيء ، وكلمة من بيانيّة أو ابتدائية أو تبعيضيّة (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) لانّك لست ولىّ أمرهم بانحرافهم عنك فأمرهم وحكمهم مفوّض أو راجع الى الله (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) في تفرّقهم فيجازيهم على حسبه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) الحسنة وصف من الحسن والتّاء فيه للنّقل من الوصفيّة الى الاسميّة ، فانّها صارت اسما لأشياء مخصوصة ورد عن الشّريعة حسنها أو للتّأنيث في الأصل بتقدير الخصلة الحسنة ، وحقيقة الحسن هي الولاية المطلقة وهي علىّ (ع) بعلويّته والنّبوّات وأحكامها القالبيّة والولايات الجزئيّة وأحكامها القلبيّة اظلال الولاية المطلقة وقبول النّبوّات والولايات أيضا ظلّها ، وكلّ فعل وقول وخلق كان من جهة الولاية كان حسنا بحسنها لكونه ظلّها أيضا ، ويعلم السّيّئة بالمقايسة الى الحسنة فاصل السّيّئة اتّباع النّفس المعبّر عنه بولاية أعداء آل محمّد ومخالفيهم. واعلم ، انّ الإنسان مفطور على السّير الى الآخرة ودار النّعيم وحيازة درجاتها ، فاذا فرض عمل يعينه على سيره وعمل آخر مثل هذا العمل يقسره على الحركة الى الجحيم والى خلاف فطرته ، فاذا كان تحريك العمل الى جهة خلاف الفطرة درجة مثلا كان تحريك العمل الموافق للفطرة أزيد من تحريك العمل المخالف للفطرة بمراتب عديدة ، واقلّها عشر درجات وأكثرها لا حدّ لها بتفاوت استعداد الأشخاص وهذا نظير تحريك الحجر هابطا وصاعدا بقوّة واحدة ، فانّ الهابط يكون أسرع حركة من الصّاعد (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ) اى المحسنون والمسيئون (لا يُظْلَمُونَ) بنقص

١٦٦

الجزاء وتضعيف العقاب (قُلْ) لهم موادعة وتعريضا بنصحهم با بلغ وجه (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) فلا حاجة لي إليكم ولا تعرّض لي بكم فأنتم وشأنكم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو صراط القلب وهو الولاية التّكوينيّة وبالولاية التّكليفيّة الحاصلة بالبيعة الخاصّة الولويّة ينفتح صراط القلب ، وهما ظهور الولاية المطلقة ونازلتها والولاية المطلقّة متّحدة مع علىّ (ع) وعلويّته ، فصحّ تفسير الصّراط بالولاية تارة وبعلىّ (ع) اخرى (دِيناً قِيَماً) الدّين قد مضى قبيل هذا تحقيقه ، والقيّم الدّين الّذى لا اعوجاج له (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) إظهار لنصحهم بانّ دينه دين إبراهيم الّذى لا اختلاف لهم في حقيّته (حَنِيفاً) الحنيف المستقيم والصّحيح الميل الى الإسلام الثّابت عليه وكلّ من حجّ أو كان على دين إبراهيم (ع) وهو حال من مفعول هداني أو صفة دينا أو حال منه أو من المستتر في قيما أو من ملّة إبراهيم (ع) ، والتّذكير باعتبار معنى الملّة وهو الدّين أو من إبراهيم على ضعف جعل الحال من المضاف اليه من دون كون المضاف عاملا ، أو في حكم السّقوط (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على حنيفا أو حال من المستتر فيه أو حال بعد حال بناء على انّ حنيفا حال من إبراهيم (ع) وهو تعريض بانّهم مخالفون لإبراهيم (ع) في شركهم فهم مبطلون لانّ إبراهيم (ع) كان محقّا بالاتّفاق (قُلْ) بعد نفى الشّرك الصّورىّ عن نفسك نفيا للشّرك المعنوىّ تأكيدا لنفى الشّرك الصّورىّ (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) تعميم بعد تخصيص اهتماما بالخاصّ فانّه عمود الدّين وأصل كلّ نسك (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) يعنى انّ أفعالي التّكليفيّة الاختياريّة وأوصافي التّكوينيّة الالهيّة خالصة من شوب مداخلة النّفس والشّيطان (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) تعميم بعد تخصيص وتأكيد لما يفهم التزاما فانّه إذا لم يكن في أفعاله وأوصافه شريك لله لم يكن في وجوده شريك لله ، وإذا لم يكن في وجوده شريك لله لم ير في العالم شريكا لله ، لانّ رؤية الشّريك في العالم يقتضي السّنخيّة بين الرّائى والمرئىّ الّذى هو العالم الّذى فيه شريك ، والسّنخيّة تقتضي الشّريك لله في وجوده وكون الشّريك في وجوده يقتضي الشّريك في صفاته (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) تعريض بهم بانّ شركهم غير مبتن على امر (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لانّ كلّ من أخلص ذاته وصفاته وأفعاله وجميع ماله لله تعالى ، فهو مقدّم على الكلّ وخاتم سلسلة الصّعود وأقرب الصّاعدين الي ، وهو اوّل من اقرّ في الّذرّ بالوحدانيّة كما ورد في الخبر ولانّه اوّل من اتّصف بدين الإسلام (قُلْ) لهم إنكارا لابتغاء غير الله ربّا مع اقامة الدّليل على ذلك الإنكار بانّ غيره مربوب تعريضا بمن أخذ غيره ربّا (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) وغيره مربوب فما حالكم إذا انحرفتم عن الرّبّ وجعلتم المربوب ربّا (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) هذا ممّا استعمل فيه سلب الإيجاب الكلّىّ في السّلب الكلّىّ ومثله كثير في الآيات والاخبار واستعمال العرب ، والمقصود انّ ابتغاء غير الله ربّا مع كونه مربوبا وبال لا محالة ولا يمكنني طرح هذا الوبال على غيري ، لأنّه لا تكسب كلّ نفس ما تكسب ممّا هو وبال الّا عليها يعنى كسبكم الوبال باتّخاذ غير الرّبّ ربّا وبال عليكم (وَ) لا يمكن غيري ان يحمل وبالي عنّى لانّه (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) هذه مجادلة بالّتى هي أحسن بحيث لا يورث شغبا (١) ولجاجا للخصم حيث نسب ابتغاء غير الله

__________________

(١) ـ الشّغب بالسّكون وقد يحرّك وقيل لا يحرّك ـ أصل تهييج الشرّ.

١٦٧

ربّا الى نفسه وذكر مفاسده وعرّض بهم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) يوم القيامة نسب الرّجوع إليهم دون نفسه تنبيها على التّعريض بحيث لا يمكنهم ردّه (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهو الدّين الّذى فرّقتموه على اهويتكم أو اختلفتم في بطلانه وحقّيّته ، وفيه تعريض بالامّة كأنّه قال فتنبّهوا يا أمّة محمّد (ص) فلا تختلفوا بعده في الدّين الّذى أتمّه بولاية علىّ (ع) (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) عطف على قوله هو ربّ كلّ شيء أو حال معمول لواحدة من الجمل السّابقة وتعليل آخر لانكار ابتغاء غيره ربّا وبيان لكيفيّة ربوبيّته بما فيه غاية الانعام على طريق الحصر ، يعنى هو الّذى جعلكم خلائف الأرض لا غيره الّذى هو مربوب والمقصود انّه جعلكم خلائفه في ارض العالم الكبير بان أعطاكم قوّة التّميز والتّصرّف فيها باىّ نحو شئتم وأباح لكم التّصرّف فيها ، وفي ارض العالم الصّغير بان مكّنكم فيها وجعل لكم فيها كلّ ما جعل لنفسه من الجنود والحشم وسخّرها لكم مثل تسخّرها لنفسه ، وهذه هي غاية الانعام حيث خلقكم على مثاله (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ) ايّها المرفوعون (فِي ما آتاكُمْ) من جاهكم ومالكم وقواكم وبسطكم واحتياج غير المرفوعين إليكم كيف تعاملون مع أنفسكم ومع الله بأداء الشّكر وصرف النّعمة في وجهها ومع المحتاجين بإيصال حقوقهم إليهم ، فعلى هذا كان الخطاب للمرفوعين ، أو يكون الخطاب للمرفوعين وغيرهم جميعا ، فانّ المحتاج مبتلى بحاجته كما انّ المرفوع مبتلى بالمحتاج (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) استيناف من الله وخطاب لمحمّد (ص) أو خطاب عامّ وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يريد بالابتلاء؟ ـ فقال : يريد عقوبة المسيء ورحمة المحسن منهم لانّ ربّك سريع العقاب ، وتقديم العقاب لقصد ختم السّورة بالرّحمة رحمة بهم (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) عن الصّادق (ع) انّ سورة الانعام نزلت جملة واحدة شيّعها سبعون الف ملك حتّى نزلت على محمّد (ص) فعظّموها وبجّلوها فانّ اسم الله فيها في سبعين موضعا ، ولو يعلم النّاس ما في قراءتها ما تركوها وكفى به فضلا.

١٦٨

سورة الأعراف

مكّيّة وروى انّها مكّيّة غير قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) (الى قوله) (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المص) قد مضى في اوّل البقرة ، انّه في حال المحو والغشي وانقلاب الدّنيا الى الآخرة يرى الإنسان ويشاهد من الحقائق فيعبّر له عمّا يشاهده بالحروف المقطّعة ويفهم من تلك ما يشاهد من الحقائق ، ثمّ بعد الافاقة لا يمكنه إلقاء تلك الحقائق على الغير وأفهامها ايّاه فضلا عن التعبير عنها بتلك الحروف وأفهامها بها ، وإذا القى تلك الحروف على غيره مشيرا الى تلك الحقائق لا يمكن له تفسيرها الّا بما يناسبها كالمنامات وتعبيراتها ، فانّ المناسبات الّتى تذكر للغير كالمناسبات الّتى يراها النّائم من الحقائق في المنام ، فانّ حال الخلق بالنّسبة الى الحقائق كحال النّائم بالنّسبة إليها من غير فرق ، لانّ الخلق نائمون عن الحقائق ولذلك اختلف الاخبار في تفاسيرها وتحيّر الخلق في فهمها والتّعبير عنها وقد ذكر في تفسيرها وجوه عديدة متخالفة متناسبة في الاخبار والتّفاسير ؛ والكلّ راجع الى ما ذكرنا من التّعبير عن تلك الحقائق بما يناسبها وتفسيرها بحسب صورة تلك الحروف من حيث الخواصّ والاعداد والفوائد المترتّبة عليها والإشارات المستنبطة منها ، كقيام قائم من ولد هاشم عند انقضاء مدّة مقطّعات اوّل كلّ سورة منها ، وانقضاء ملك بنى أميّة عند انقضاء المص كما ورد في الاخبار لا ينافي ما ذكرنا ، فانّها ممّا يستنبط من اعتبار حروفها ولا ينافي ذلك اعتبار حقائقها (كِتابٌ) قد عرفت الفرق بين الكتاب والكلام وانّ العالم بوجه كتابه وبوجه كلامه تعالى ، وانّ الإنسان مختصر من هذا الكتاب ، والقرآن ظهوره بصورة الحروف والأصوات ونزوله في لباس النّقوش والكتاب ترحّما على العباد ، فانّ الإنسان لمّا تنزّل الى مقام التّجسّم واحتاج في إدراكه الى مدارك الحيوان أنعم الله عليه بتنزيل تلك الحقائق في صورة الحروف والعبارة ، أو النّقوش والكتابة لتناسب مداركه النّازلة ونعم ما قيل :

چون نهاد آن آب وگل بر سر كلاه

گشت آن أسماء جانى روسياه

كه نقاب حرف دم در خود كشيد

تا شود بر آب وگل معنى پديد

وانّ الرّسالة والنّبوّة ليست الّا التّحقّق بحقائق العالم فهما أيضا مراتب العالم وقد عرفت أيضا انّ الكلّ ظهور الولاية الّتى هي فعل الحقّ وتجلّيه الفعلىّ وانّها مبدء الكلّ وصورته وغايته ، فان كانت فواتح

١٦٩

السّور عبارة عن مراتب العالم الصّغير أو الكبير أو مراتب النّبوّة أو الرّسالة أو الولاية أو مراتب وجوده (ص) كما ورد ، انّها أسماء للنّبىّ (ص) أو كان المراد بها القرآن أو السّور المفتتحة بها ، كما فصّل ذلك في اوّل البقرة فلفظ كتاب خبر عن المص أو خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مبتدء موصوف متضمّن لمعنى الشّرط وخبره قوله فلا يكن أو لتنذر ويجرى فيه وجوه أخر كما سبق (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة لكتاب ، أو خبر بعد خبر ، أو استيناف لبيان الغرض منه ولمّا كان المقصود ترتّب النّهى عن وجود الحرج على نزول الكتاب المعلوم الّذى هو أصل كلّ النّعم وحقيقتها قال تعالى (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) قبل تمام الكلام بذكر الغاية ولو اخّره لا وهم ترتّبه على غايته وهي الإنذار (لِتُنْذِرَ بِهِ) المنحرفين والكفّار بالله أو بالولاية أو بما في الكتاب (وَذِكْرى) لتذكّر تذكيرا فانّه اسم للتّذكير وقائم مقام الفعل وعطف على لتنذر أو على تنذر أو هو بنفسه عطف على تنذر لانّه بتأويل الإنذار أو على كتاب أو على انزل بتأويل معنى الوصف ، أو خبر مبتدء محذوف (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله بالايمان العامّ الّذى هو البيعة على يدك وهو الايمان بك ، أو بالايمان الخاصّ الّذى هو البيعة الولويّة وهو الايمان بالولاية ، ثمّ صرف الخطاب عنه (ص) إلى قومه (ص) فقال (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من الكتاب الّذى هو صورة الولاية الّتى كانت متّحدة مع علىّ (ع) بقرينة قوله (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) اى من دون ما انزل فانّه ظاهر اللّفظ (أَوْلِياءَ) من شياطين الانس الّذين ما نزل إليكم من ربّكم فيهم شيء (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) تحسّر عليهم لقلّة تذكّرهم (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال أو بتقدير أردنا اهلاكها (بَياتاً) وقت غفلة وراحة (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) في النّهار وهو أيضا وقت دعة وراحة (فَما كانَ دَعْواهُمْ) اى استغاثتهم أو ادّعاؤهم حين نزول العذاب على سبيل التّهكّم يعنى انّ دعواهم قبل ذلك انّ آلهتهم شفعاءهم وانّ الآلهة تدفع عنهم الضّرّ وتجلب إليهم النّفع فيتبدّل تلك الدّعوى وما كان دعواهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) الّا الاعتراف بالظّلم (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) من أمم الأنبياء عن كيفيّة تبليغ الرّسل واجابتهم لهم واطاعتهم ايّاهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) عن تبليغهم وكيفيّة اجابة أممهم (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) على الرّسل والمرسل إليهم (بِعِلْمٍ) يعنى انّ المقصود من سؤالهم تذكيرهم بما وقع منهم وتبكيت المخالف منهم ، والّا فنحن نعلم جميع ذلك ونقصّ عليهم تمام ما وقع منهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم حين فعلوا ما فعلوا ، أتى بما يوافق مقام التّهديد متدرّجا من الأدنى الى الأعلى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) الوزن تعيين قدر الشّيء ووزن كلّ شيء بحسبه وكذا ميزانه ، وتبادر تحديد الأجسام الثّقيلة من لفظ الوزن وما به يوزن الأجسام الثّقيلة من الميزان بسبب شيوعه بين العامّة والّا فلا اختصاص له بها فميزان الأجسام الثّقيلة هو ذو الكفّتين والقبّان والكيل وميزان المتكمّمات القارّة الشّبر والّذرع والفرسخ ، وميزان الغير القارّة السّاعات والايّام والشّهور والأعوام ، وميزان المغشوش من الفلزّات وغيره المحكّ والنّار ، وميزان الأعمال صحيحها وسقيمها العقل ، ولا سيّما العقل الكامل اعنى النبىّ (ص) والولىّ (ع) ، وما أسّسنا لتحديد الأفعال والأقوال والأحوال والعقائد وسائر العلوم فميزان الأعمال القالبيّة المعاشيّة هو العقل الجزئى المدبّر لدفع الضّرّ وجلب النّفع ، وميزان المعاديّة منها هو الاتّصال بالنّبىّ (ص) بالكيفيّة المخصوصة

١٧٠

المقرّرة عندهم بالبيعة العامّة النّبويّة وصدورها من جهة ذلك الاتّصال لا من تصرّفات الخيال والشّيطان ، وثقل هذا الميزان باتّصال الأعمال بالنّبىّ (ص) أو خليفته وجذبها ايّاه الى جهة عاملها أو جذبها عاملها الى النّبىّ (ص) أو خليفته وخفّتها بانقطاعها عن هذا الميزان وعدم جذبها ايّاه الى عاملها ، ولمّا كان لكلّ من صفحتي النّفس العمّالة والعلّامة جهتان سفليّة وعلويّة ، شيطانيّة وملكيّة فلا فرو في ظهورهما يوم العرض بصورة ذي الكفّتين ويظهر مثل تلك في الآخرة ، لانّه كما سبق كلّ ما وجد في النّفس والعالم الصّغير يظهر مثله في العالم الكبير في الآخرة فلا وجه لانكار بعض ظهور ذي الكفّتين ووزن الأعمال به ، وكذلك ميزان الأعمال القلبيّة هو الاتّصال بالإمام بالكيفيّة المقرّرة والبيعة الخاصّة الولويّة وصدورها من جهة ذلك الاتّصال وثقلها باتّصالها وخفّتها بانقطاعها مطلقا أو حين العمل بالغفلة عن الاتّصال ، وبتفاوت الاتّصال بالشّدّة والضّعف يتفاوت الأعمال في الثّقل فالمتّصل بالصّورة البشريّة اقلّ ثقلا ، والمتّصل بملكوت الامام تعمّلا أكثر ثقلا ، والمتّصل بملكوته من غير تعمّل أكثر ثقلا ، والمتّصل بجبروته بمراتبها أكثر ثقلا ، والمتحقّق به هو الثّقيل المطلق ، فلكلّ عمل موازين عديدة من بشريّة النّبىّ (ص) أو الامام (ع) ، وقوله وفعله وملكوته وجبروته ، ولكلّ مراتب عديدة ، وكلّ مرتبة ميزان الأعمال المتّصل بتلك المرتبة ، هذا إذا أريد بالحقّ معناه الوصفىّ اللّغوىّ اى الثّابت المحقّق ، وامّا إذا أريد معناه العرفىّ اى الحقّ المضاف والولاية المطلقة ولذا جيء به معرّفا باللّام مشيرا الى الحقّ المعهود ، فالمعنى انّ الوزن يعنى الميزان يومئذ الولاية ولمّا كان للولاية مراتب كما انّ لعلىّ (ع) مراتب بحسب بشريّته وملكوته وجبروته وحقّيّته ، وكما انّ للعالم مراتب بحسب ملكوته السّفلىّ وملكه وملكوته العليا وجبروته بمراتب كلّ منها ، وكلّ مرتبة منها ميزان لما يناسبها ويوافقها قال تعالى (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بصيغة الجمع ووجه الثّقل والخفّة قد عرفت (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فانّ الفلاح بالانجذاب الى العلو والمتّصل منجذب الى العلو بخلاف المنقطع فانّه قد ينجذب الى السّفل وهو الجحيم (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بإهمال قوّة الاتّصال والاستعداد له الّتى أعطاها الله تعالى بضاعة لهم (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) بعدم الاتّصال بالآيات القرآنيّة والنّبويّة والولويّة بمراتبها والانفسيّة وظلمها عبارة عن جحودها كما في الخبر يعنى عدم الاتّصال بها بالكيفيّة المخصوصة وعدم التّوجّه إليها وعدم السّير إليها ، فانّ الظلم منع الحقّ عن المستحقّ وقوّة قبول الولاية والتّوجّه إليها والسّير إليها والحضور عند صاحبها والفناء فيه حقّ الامام ، وبما ذكرنا في كيفيّة الوزن والميزان يرتفع الاختلاف عن الاخبار مع غاية اختلافها (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) الطّبيعيّة أو ارض البدن أو ارض القرآن والسّير والاخبار لان تؤدّوا الحقوق الى مستحقّيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) لأبدانكم وأرواحكم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) بأداء الحقّ الّذى هو استعداد الاتّصال والقبول من عقل أو نبىّ أو وصىّ اليه (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ) تعداد للنّعم وقبح الكفران بها (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) يعنى خلقنا أباكم آدم (ع) بجمع ترابه الّذى هو بمنزلة النّطفة ، ثمّ صوّرناه بعد أربعين صباحا كذا قيل ، أو خلقناكم بإلقاء نطفكم في الأرحام ، ثمّ بعد مضىّ زمان صوّرناكم بالصّورة الجسمانيّة من امتياز العين والأنف واليد والرّجل والحسن والقبيح والقصير والطّويل وغير ذلك ، وبالصّورة الرّوحانيّة من الأخلاق الحسنة والسّيّئة والسّعادة والشّقاوة ، والى هذا أشير في الخبر ولا ينافي ذلك قوله تعالى (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فانّ ذراري

١٧١

آدم (ع) بعد نزول اللّطيفة الآدميّة الى ارض البدن وهبوطها على صفا نفسها وهبوط حوّاء على مروتها اللّتين هما جهتا النّفس العليا والسّفلى ، يصيرون مثل آدم ابى البشر ويؤمر الملائكة الّذين هم موكّلون عليهم بالسّجود لتلك اللّطيفة ، فيسجدون وينقادون لها غير إبليس الواهمة فانّه ما لم يكسر سورة كبريائه واستعلائه بالرّياضات الشّرعيّة والعبادات القالبيّة والقلبيّة لا يسلّم لآدم (ع) ولا ينقاد له ، وشيطاني أسلم على يدي ، اشارة الى ما ذكرنا (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) لم يقل لم يسجد اشارة الى انّ فطرته كانت فطرة العتوّ والاستكبار وانّه لم يكن من سنخ السّاجدين ولا يمكنه السّجود الّا بتبديلها ، ولذا ورد ، انّه لم يكن من المأمورين بالسّجود وأدخل نفسه في المأمورين (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) اى ما منعك مضطّرا الى ان لا تسجد أو لا زائدة وتزاد لا للتّأكيد خصوصا بعد المنع (إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) يعنى حملني على ترك السّجدة كوني خيرا منه وخيّرتنى منه بخيريّة مادّتى لانّك (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) والنّار علويّة شفيفة سريعة الأثر منيرة مبدلة كلّ ما اتّصل إليها بسرعة ، والطّين خلافها ، وفي خبر : انّ اوّل من قاس إبليس ، وفي خبر : انّ اوّل معصية ظهرت الانانيّة من إبليس اللّعين ، وأقسم بعزّته لا يقيس أحد في دينه الّا قرنه مع عدوّه إبليس في أسفل درك من النّار ، وفي خبر آخر : كذب إبليس ما خلقه الله الّا من طين قال الله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) ، قد خلقه الله من تلك النّار ومن تلك الشّجرة والشّجرة أصلها من طين (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها) من السّماء (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) فانّ المحلّ الرّفيع لمن تواضع لله (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الاذلّاء (قالَ) بعد ما علم انّه لا يعود الى السّماء ومحلّه أسفل السّافلين (أَنْظِرْنِي) أمهلنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فلا تعجل في عقوبتي وإماتتي (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أنظره ابتلاء لعباده وتمييزا للطّيّب منهم عن الخبيث (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي) نسب الإغواء الى الله كما هو عادة المتأنّفين من نسبة القبيح الى أنفسهم والغالب في ذلك هي النّسوان (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) مترصّدا لاغوائهم كما يترصّد قطّاع الطّريق للفرصة من المارّة ، والصّراط المستقيم هو صراط القلب وهو الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من جهة تزيين المشتهيات الاخرويّة واتعابهم في العمل لأجلها (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من جهة المشتهيات الدّنيويّة (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) بتزيين الأعمال الدّينيّة بحيث يستلذّها ويعجب بها فيفسدها (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بتزيين الأعمال القبيحة بحيث يعدّون قبائحهم حسنات ويباهون بمعاصيهم وملاهيهم ومقصوده منه ، تصوير المخاصمة معهم بكلّ ما يتصوّر المخاصمة به من الخصمين من المباغتة من كلّ جهة ولذلك لم يذكر من فوقهم ومن تحتهم ، فانّه لا يتصوّر للعدوّ الصّورىّ الإتيان منهما ولانّ جهة الفوق جهة الرّحمة الالهيّة ولا يتصوّر نزول الشّيطان منها ، وجهة التحت هي جهة الموادّ من العنصريّة والجماديّة والنّباتيّة والحيوانيّة يعنى مقام الحيوان الخارج عن حدّ الإنسان ، لا المشتهيات الحيوانيّة الّتى هي تحت الانسانيّة ومتّحدة معها والإنسان بالطّبع نافر منها كلّ النّفرة متوحّش كلّ التوحّش لا يمكن اغواؤه من تلك الجهة ، والإتيان في الاوّلين بحرف الابتداء وفي الأخيرين بحرف المجاوزة لتصوير تلك المخاصمة بصورة المخاصمة الصّوريّة ، فانّ الخصم الآتي من القدّام متوجّه الى خصمه غير متجاوز عن جهة قدّامه ، وكذا الآتي من الخلف يباغت الخصم من خلفه لكنّ

١٧٢

الآتي من أحد الجانبين يتجاوز عنه ويباغته ، أو ينصرف المأتىّ اليه بوجهه الى الآتي من أحد جانبيه في الأغلب (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) لغفلتهم عن الانعام وابتهاجهم بنفس النّعمة أو بصرف النّعمة الّتى أنعمت عليهم في غير وجهها بتلبيسى عليهم وجهها (قالَ اخْرُجْ مِنْها) من السّماء (مَذْؤُماً) مذموما (مَدْحُوراً) مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أقسم مقابلة لقسمه وتأكيدا (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيا آدَمُ) قال يا آدم (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) قد سبق في سورة البقرة (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ) فعل الوسوسة وهي الصّوت الخفىّ في الأصل ثمّ غلب على ما يلقى الشّيطان في النّفوس من الخواطر الخفيّة السّيّئة أو المؤدّية الى السّوء ، وان كان المراد ظاهر ما ورد في الاخبار من انّه اختفى بين لحيتي الحيّة وأظهر النّصح لهما بلسان ظاهرىّ وسمعاه بالسّمع الظّاهر ، فالمقصود انّه أظهر النّصح لهما بصوت خفىّ إظهارا لهما انّه محض التّرحّم والشّفقة لهما مبالغة في الغرور ، فانّ الرّحمة والشّفقة تقتضيان إخفاء الصّوت لا الإجهار به ، والإتيان باللّام للاشارة الى انّه نصح نافع لهما (لِيُبْدِيَ لَهُما) اللّام للعاقبة أو للغاية على انّه كان عالما بانّ قرب الشّجر مورث لان يبدي لهما (ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) وقد ورد انّ المراد كان بالسوأة هو العورة وكانت قبل ذلك مختفية غير ظاهرة على أنفسهما ولا على غيرهما ولكن إذا أريد بالشّجرة شجرة النّفس فانّها مجمع تمام الرّذائل والخصائل ، وبه يجمع بين ما ورد في تفسيرها مع اختلافها وتضادّها كما سبق ، وبآدم الرّوح المنفوخة في جسده الّتى هي طليعة العقل ، وبحوّاء جهتها السّفلىّ الّتى خلقت من جانبها الأيسر ، كان المراد بوسوسة الشّيطان الخطرات الّتى تقرّب الإنسان الى المشتهيات النّفسانيّة وبسوآتهما الرّذائل المكمونة والأهواء الفاسدة والآراء الكاسدة الّتى تظهر بعد الاختلاط بالنّفس ومشتهياتها ، والمراد من ورق الجنّة ما اقتضاه العقل من الحياء والتّقوى فانّهما من أوراق الجنّة ، وبهما وبسائر صفات العقل يستر المساوى ولا يتجاهر الإنسان بها الّا ان يهلك العقل ويخرج من الجنّة وحكومة العقل ، ونداء الرّبّ عبارة عن نداء العقل في وجود الإنسان بالتّوبيخ على ما يصدر عنه ممّا فيه نقصه (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما) عطف على وسوس وتفصيل لها (عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) كأنّهما استشعرا ان ليس في جبلّتهما ما في الملك ولا ما يقتضي الخلود واستشعرا ما في الملكيّة والخلود من الكمال بالنّسبة الى المخلوق المركّب من طباع العناصر ، فاشتاقا الى الوصفين فقال لهما : انّ الاكل من الشّجرة مورث للوصفين وانّ الله كرّه لكما الوصفين ولذلك نهاكما عن الاكل (وَقاسَمَهُما) كأنّهما لم يعتمدا على قوله وطلبا منه البيّنة والقسم وعهدا قبول قوله ولذا أتى بلفظ قاسم (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما) اى أهبطهما مع تعلّق منهما بمقامها العلوىّ (بِغُرُورٍ) بمعنى المصدر أو بمعنى ما يغرّ به من القسم الكذب وغيره (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قد مضى البيان (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) تقريع وتوبيخ لهما على ارتكاب النّهى والاغترار بقول العدوّ حتّى يتنبّها على نقصهما ويستدركاه بالتّوبة ولذلك ابتدرا بالاعتراف والاستغفار (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ

١٧٣

الْخاسِرِينَ قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) قد سبق الآية في سورة البقرة (قالَ فِيها) في ارض العالم الكبير أو الصّغير (تَحْيَوْنَ) بالحيوة الحيوانيّة أو بالحيوة الانسانيّة (وَفِيها تَمُوتُونَ) بالموتين (وَمِنْها تُخْرَجُونَ) فانّ السّعادة والشّقاوة تحصلان في الدّنيا وفي غلاف الطّبع وليس خروج الإنسان وانتقاله الى الجنان أو النّيران ، الّا من جهة المادّة والقوّة الّتى هي ارضيّة الدّنيا والطّبع لا من جهة الصّورة وفعليّتها الّتى هي سماويّتهما بوجه (يا بَنِي آدَمَ) خطاب منه تعالى لبني آدم (ع) اعتناء بهم وتعدادا لنعمهم (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) يعنى خلقنا لكم ما يستر بشرتكم ويقيكم من الحرّ والبرد وما يستر عوراتكم البشريّة عن الانظار ، وما تتجمّلون به من الملبوس الفاخر فانّ الرّيش هو ما يتجمّل به ، وريش الطّائر جماله والوصفان قد يجتمعان في واحد ، ويطلق الرّيش على متاع البيت وعلى ما يعيش الإنسان به وعلى سعته ومكنته ونزولهما بحسب نزول أسباب مادّتهما من الأمطار والآثار من تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك ، ونزول أسباب تحصيل صورتهما من التّميز وقوّة التّدبير ، وإذا أريد باللّباس ما يستر العورات المعنويّة من الأفعال الحميدة والصّفات الجميلة ويؤيّده قوله (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) فنزوله واضح ، واضافة اللّباس الى التّقوى من قبيل اضافة العامّ الى الخاصّ ، أو اضافة المسبّب الى السّبب ، أو اضافة المشبّه به الى المشبّه ، فانّ التّقوى وان كان مفهومها راجعا الى العدم لكن لها حقيقة وجوديّة بها يحصل التّنزّه عن الرّذائل من الأفعال والأوصاف وبالتّنزّه تحصل الخصائص الّتى بها تستر العورات المعنويّة والنّقائص النّفسانيّة ويحصل التّجمّلات الانسانيّة ، وفي الخبر : وامّا لباس التّقوى فالعفاف انّ العفيف لا يبدو له عورة وان كان عاريا من الثّوب ، والفاجر بادي العورة وان كان كاسيا من الثّياب ، وتخلّل اسم الاشارة بين المبتدء والخبر للاهتمام بذلك اللبّاس وتصوير الأمر المعنوىّ متمثّلا حاضرا وقرئ لباس التّقوى بالنّصب عطفا على لباسا (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) اى إنزال اللّباس مع شدّة حاجتكم اليه ، أو كون لباس التّقوى خيرا بحيث لا يخفى عليكم أو لباس التّقوى ، فانّ ذلك كلّه من آيات علمه وحكمته وقدرته (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) صرف الخطاب عنهم بطريق الالتفات وهو غاية لانزال اللّباس أو لجعل ذلك من آياته (يا بَنِي آدَمَ) نداء آخر لهم بعد ذكر نعمة ستر عوراتهم لنهيهم عمّا يزيل تلك النّعمة (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) بتزيين شجرة النّفس وثمرة مشتهياتها وايلاعكم بها فيزيل عنكم تلك النّعمة من ، فتن الى النّساء ، على صيغة المفعول إذا اولع بهنّ وأراد الفجور (كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ) بالافتتان بشجرة النّفس (مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) لانّهم من أهل الملكوت السّفلى ولا يراهم البشر ببصره الملكىّ بل ببصيرته الملكوتيّة والجملة تعليل للتّحذير والتّذكير المستفاد من النّهى تأكيدا له ، ولمّا كان هناك مظنّة سؤال ان لا يمكن الخلاص لأحد من فتنته لعداوته وخفائه وخفاء مخايل عداوته فلم يكن فائدة للنّهى والتّحذير عنه ، قال تعالى جوابا انّ وجه الخلاص منه الايمان بالآخرة والخروج من الرّسوم والعادة ، لانّا لم نجعل للشّياطين تصرّفا وتسلّطا على من هذه صفته (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) لتخليتنا بينهم وبينهم بعدم محافظة الملائكة (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا) لسانا أو حالا (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) يعنى اعتمدوا

١٧٤

واطمأنّوا على ما اعتادوه ، ونسبوا عاداتهم الى الله كما هو شأن عامّة النّاس (وَ) قالوا (اللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ) ردّا لهم في نسبة العادات الى الله (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ليس المراد بالفحشاء ما يستقبحه العقل والشّرع بحسب الصّورة ، بل المراد ما صدر عن النّفس لغايات نفسانيّة سواء كان صورته صورة ما قرّره الشّرع أو نهى عنه ، فالصّلاة رياء أو لقصد الجاه أو المال أو حفظ مال أو عرض أو دم فاحشة (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) في الخبر انّه لا يزعم أحد انّ الله يأمر بالزّنا وشرب الخمر وشيء من هذه المحارم ، بل هذا في ائمّة الجور ادّعوا انّ الله أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم الله بالايتمام بهم ، وهو يؤيّد ما ذكرنا من تفسير الفحشاء وكذا يؤيّده قوله (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) فانّ القسط هو توسّط النّفس في الأفعال والأقوال والأحوال والأخلاق والعقائد بين تفريط النّفس عن الأغراض العقليّة وافراطها فيها بحيث يؤدّى الى ما نهى عنه كالاغراض الدّنيويّة (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وهذا يؤيّد ما ذكر في الخبر من تفسير الفحشاء ، واقامة الوجه صرفه عن الانحراف الى ما ينبغي ان يتوجّه اليه من قبلته ، وقبلة وجه البدن أشرف بقاع الأرض ، وقبلة وجه النّفس القلب ، وقبلة وجه القلب الرّوح ، وقبلة الرّوح هي الولاية المطلقة ، وقبلة الكلّ هي خليفة الله ، والمسجد أيضا يعمّ المساجد الطّينيّة والمساجد الرّوحانيّة من القلب والرّوح والولاية المطلقة والأيّام المتبرّكة والسّاعات الشّريفة من كلّ يوم ، والمساجد الحقيقيّة البشريّة الّذين هم خلفاء الله في أرضه وبيوته لخلقه وأصل الكلّ هو خليفة الله الأعظم اعنى عليّا (ع) ، وجمع الوجوه بجمع الكثرة مضافا مفيدا للاستغراق والإتيان بكلمة كلّ في جانب المسجد للاشارة الى تعميم الوجه والمسجد وقد فسّر المسجد هاهنا في الخبر بالأئمّة (ع) (وَادْعُوهُ) اى ادعوا ربّى أو ادعوا المسجد وهو عطف على أقيموا كما انّ أقيموا عطف على امر ربّى ليكون مقولا لقل ، أو عطف على امر بتقدير قال ليكون مقولا لقول الله تعالى والمعنى ، ادعوا ربّى أو المسجد بتصفية بيوت قلوبكم عمّا يمنعه من دخولها واستيلائه عليها ثمّ باستدعاء دخوله بالسنّة قالكم وحالكم واستعدادكم ، فانّ قلب المؤمن عرش الرّحمن وبيت الله الّذى اذن ان يرفع كما قيل :

هر كه خواهد همنشينى با خدا

گو نشيند در حضور اوليا

وكما قيل :

مسجدي كو اندرون اولياست

سجده گاه جمله است آنجا خداست

لكن لا يدخله الّا بعد تصفيته عمّا لا يليق به تعالى وقد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) (الى آخرها) تحقيق للمسجد (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اى طريق الدّعوة من الأغراض والأهواء خارجين من ارادتكم واختياراتكم كالميّت بين يدي الغسّال مؤتمرين بأمر ؛ موتوا قبل ان تموتوا : فانّه (كَما بَدَأَكُمْ) من غير ارادة منكم واختيار وغرض وهوى (تَعُودُونَ) فمن أراد العود اليه فليخرج من جميع ما ينسب الى نفسه والّا فسيعيده الملائكة الغلاظ كاعادة العبد الجاني الآبق الى مولاه للمؤاخذة ، أو المعنى ادعوه متضرّعين منتظرين للورود عليه مخلصين له الطّاعة والعبادة لانّه كما بدأكم تعودون اليه فيجازيكم على طاعاتكم وعلى اىّ تقدير يكون قوله كما بدأكم تعودون في مقام التّعليل (فَرِيقاً هَدى) جملة حاليّة أو مستأنفة لبيان

١٧٥

حال العباد حين العود كما في الخبر أو مطلقا ترغيبا وتحذيرا (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ) تعليل لحقّيّة الضّلالة والمراد بالشّياطين شياطين الجنّ في تزيين الأهواء والمشتهيات وشياطين الانس في تزيين باطلهم بصورة الحقّ من ائمّة الجور واظلالهم (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) في اتّباع العادات والأهواء واستنباط احكام الله بالآراء والاستبداد بالظّنون المستنبطة من الاقيسة والاستحسانات ، وأخذ احكام الله ممّن لم يؤمروا بالأخذ منهم والايتمام بهم ، والتّحاكم الى من أمر الله ان يكفروا به والعمل بما لم يأخذوا ممّن أمروا ان يأخذوا منه ممّن نصّ الله ورسوله (ع) عليه ، وبالجملة كلّ من لم يكن منصوصا من الله ولا من رسوله (ص) ولا أوصيائه (ع) خصوصا ولا عموما ولا آخذا من المنصوص عليه كذلك فقوله وفعله وحاله كلّها ضلالة ، سواء استبدّ برأيه أو أخذ من غير المنصوص عليه سواء كان ذلك الغير من ائمّة الجور والمستبدّين بالآراء أو من المتقلّدين للعلماء والآباء ، وسواء كان المأخوذ موافقا لصور احكام الله اولا ، وسواء كان من العادات والرسوم أو لا ، ثمّ بعد التّنبيه على وجوب اقامة الوجوه عند كلّ مسجد وإخلاص الدّين لله صرف الخطاب عنه (ص) الى الخلق فقال : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ) ما به جمالكم من طهارة الأبدان من الاخباث والاحداث والثّياب الجميلة الطيّبة وتحسين شعور رؤوسكم ولحاكم بالمشط ، وغيره ممّا يتزيّن به من الادهان والخضاب ، ومن الأفعال الحميدة والأقوال الفصيحة المفصحة عن أمور الآخرة ومن محبّة ذوي القربى والعقائد الصّحيحة ، ومن الأحوال والأخلاق الجميلة والمكاشفات الصّحيحة والمشاهدات القلبيّة والمعاينات الرّوحيّة (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقد سبق بيان المسجد ووجه دخول لفظ العموم عليه وانّ أصل الكلّ هو خليفة الله في الأرض ، وقد فسّر الزّينة والمسجد في هذه الآية وفي غيرها بما ذكرنا من أراد الاطّلاع على ما ورد عن المعصومين (ع) فليرجع الى الكافي والصّافى وغيرهما (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) فانّ التّزيّن والاكل والشّرب مباحة لكم ولا تنافي اقامة الوجوه عند المساجد بل تقويكم على ذلك ، ولا يخفى تعميم الاكل والشّرب كالزّينة (وَ) لكن (لا تُسْرِفُوا) بالإفراط في التّزيّن بحيث يمنعكم من اقامة الوجوه لاشتغال نفوسكم بتحصيلها وتحصيل ثمنها وحفظها عن التدنّس وبالإفراط في الاكل والشّرب وفي طيبوبة المأكول والمشروب لتضرّركم بالزّيادة على قدر اشتهائكم في أبدانكم ونفوسكم وكسالتكم واشتغالكم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) في اىّ شيء كان لانّ الإسراف يجرى في جملة الأفعال والأقوال والأحوال ، كما ورد في جواب من قال : أفي الوضوء إسراف؟ ـ من قوله (ع) : نعم في الوضوء إسراف ولو كنت على نهر ، فانّ استعمال القوى والأعضاء في كلّ فعل زائدا على تحصيل حقيقة ذلك الفعل واجبا كان أم مندوبا أم مباحا وزائدا على تحصيل كمالاته إسراف ، هذا بحسب التّنزيل ، وامّا بحسب التّأويل والباطن فالإسراف في الاكل والشّرب واللّبس بانّه يكون كلّ منها بغلبة النّفس على العقل والغفلة عن الأمر والنّهى ، فانّه إسراف استحصال النّفس في مشتهياتها حتّى تصير غالبة على العقل والأمر الالهىّ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) كأنّهم كانوا يعدّون ترك التّزيّن وترك الطّيّب من المأكول والمشروب من لوازم العبادة وطلب الآخرة ، فأمرهم اوّلا بالتّزيّن والاكل والشّرب ، وثانيا بإنكار تحريمه تأكيدا ، والتّوصيف بالإخراج لعباده اشارة الى انّ الزّينة اوّلا وبالّذات لمن صار عبدا له ، ولغيره بتبعيّته لا انّه حرام

١٧٦

عليه لعبادته (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) البدنىّ النّباتىّ والحيوانىّ والانسانىّ ومن الرّزق الرّوحانىّ من أرزاق النّفوس والقلوب والأرواح (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) اعلم ، انّ الدّنيا والآخرة خلقتا لخليفة الله بالّذات وهذا أحد وجوه قوله : لولاك لما خلقت الأفلاك ، فمن اتّصل به بالاتّصال التّقليدىّ الّذى هو قبول الدّعوة الظّاهرة وقبول ما أخذ عليه بالبيعة العامّة وعقيدة على يد الخليفة بالمعاهدة الاسلاميّة ، أو اتّصل به بالاتّصال الايتمامىّ الّذى هو قبول الدّعوة الباطنة وقبول ما أخذ عليه بالبيعة الخاصّة وعقد يده على يد الخليفة بالمعاهدة الايمانيّة ، فدخل الايمان الّذى هو صورة نازلة من الخليفة في نازل مراتب قلبه الّذى هو الصّدر ، ثمّ دخل صورة اخرى له ملكوتيّة في مرتبة اخرى من قلبه هي أعلى من تلك المرتبة ، وهكذا الى ان يتحقّق بحقيقة الخليفة فهما كانتا له بقدر اتّصاله ويرث من الخليفة بحسبه ، ومن لم يتّصل به بشيء من الاتّصال فهما عليه حرامان وإذا ملك شيئا من الدّنيا ممّا غلب عليه كان مغصوبا في يده ، ولذلك قال : هي للّذين آمنوا في الحيوة الدّنيا ، من غير تقييد بالخلوص من يد الغير يعنى سواء غلب عليها غيرهم أو لم يغلب عليها ، ولمّا لم يمكن غلبة الغير عليها في الآخرة قال (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) قرئ خالصة بالرّفع وبالنّصب واعراب الآية ان هي مبتدء وللّذين آمنوا خبره ، أو حال وفي الحيوة الدّنيا خبر ، أو خبر بعد خبر ، أو حال عن فاعل آمنوا ، أو عن المستتر في الظّرف ، أو ظرف لغو متعلّق بآمنوا ، أو بقوله للّذين آمنوا ، أو بعامل من افعال الخصوص حال ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء اى مغصوب عليها في الحيوة الدّنيا ، وخالصة على قراءة الرّفع خبر هي ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدء محذوف ، وعلى قراءة النّصب حال من واحد من العوامل السّابقة ، وعن الصّادق (ع) بعد ان ذكر أنهار الأرض فما سقت واستقت فهو لنا وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدوّنا منه شيء الّا ما غصب ، وانّ وليّنا لفي أوسع ممّا بين ذه وذه ، يعنى ممّا بين السّماء والأرض ثمّ تلا هذه الآية : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب ، وفي قوله تعالى (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) بعد قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) وبعد قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) اشارة الى ذلك (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) اى الآيات التّكوينيّة من استحقاق كلّ لما يحقّ له وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه بالآيات التّدوينيّة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يشتدّون في السّلوك الى الآخرة ويزدادون في علمهم ، فانّ العلم هو ما كان متعلّقا بالآخرة مع ازدياد واشتداد وكلّ ادراك لم يتعلّق بالآخرة أو كان متعلّقا بها لكن لم يكن له اشتداد بل كان واقفا أو منكوسا بواسطة الأغراض الدّنيويّة لا يسمّى علما عند أهل الله بل جهلا ، وإذا أطلق عليه اسم العلم من باب المشاكلة والموافقة لمخاطباتهم ، فقلّما ينفكّ عمّا يشعر بذمّه أو ينفى اسم العلم عنه (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ، (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) ، وقد سمّاه أشباه النّاس عالما (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ،) ولذلك سمّوا شيعتهم الّذين بايعوهم بالبيعة الخاصّة الولويّة الّذين دخل الايمان في قلوبهم علماء وعرفاء : شيعتنا العلماء ، شيعتنا العرفاء ، بطريق الحصر ، فمن لم يكن سالكا الى الآخرة وسائرا الى الله بقدم الايتمام بإمام حقّ منصوص من الله وان بلغ ما بلغ في علومه الحكميّة وظنونه الفرعيّة لا يسمّى عالما

١٧٧

وهو لا ينتفع بتفصيل الآيات ، لانّ نظره الى الآيات من حيث أنفسها ، أو من حيث جهاتها الدّنيويّة لا من حيث انّها آيات دالّات على الله وعلى أمور الآخرة ، كما نقل عن الصّادق (ع) انّه قال لأبي حنيفة في جملة كلامه : وما أراك تعرف من كتابه حرفا ، ومن توسّل بهم بالايتمام بالبيعة الولويّة وان لم يكن قرأ حروف التّهجّى فهو عالم عارف وهو المنتفع بالآيات وتفصيلها ، لانّ نظره الى الأشياء الآفاقيّة والانفسيّة من حيث صدورها عن الله ودلالتها عليه ، ولمّا أباح لهم الاكل والشّرب واكّد ذلك باختصاص الزّينة وطيّبات الرّزق بهم أراد ان يأمر نبيّه (ص) ببيان المحرّمات بالّذات والموجبات لحرمة المباحات بالعرض ، ليتبيّن الطّيّب من غير الطّيّب فقال تعالى (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فذكر تعالى بطريق الحصر خمسة أشياء راجعة الى ثلاثة هي أصول المحرّمات ، اعلم ، انّ الله خلق الإنسان من نطفة ضعيفة غير حافظة لصورتها وأودع فيها لطيفة سيّارة سالكة الى الله بقدم الصّدق على الطّريق المستوى والخطّ المستقيم عن الجماديّة الّتى هي انزل مراتب المواليد الى النّباتيّة ثمّ منها الى الحيوانيّة ، ثمّ الى البشريّة الّتى هي ملكوت بين الملكوتين السّفليّة الّتى هي دار الشّياطين والجنّة وسجن المتكبّرين والمعّذبين من الآدميّين ، والعلويّة الّتى هي دار الملائكة ذوي الاجنحة ودار السّعداء وأصحاب اليمين ، فاذا استحكم علمه بعلمه وشعوره بشعوره وتقوّى إرادته واختياره وتميّزه بين الخير والشّرّ الحقيقيّين ، استعدّ لقبول التّكليف والدّعوة النّبويّة ، فان ساعده التّوفيق وتداركه الدّعوة النّبويّة وقبل تلك الدّعوة وانقاد تحت حكم الدّاعى صار مسلما ومشرفا على التّوحيد الحقيقىّ والايمان وقبول الدّعوة الباطنة الولويّة ، ويسمّى حينئذ مؤمنا وموحّدا باعتبار اشرافه على الايمان والتّوحيد ، وان لم يتداركه الدّعوة العامّة أو لم يقبلها أو لم يعمل على مقتضاها حتّى أبطل استعداده القريب للدّعوة الخاصّة واختفى طريق القلب وأماراته وطريق التّوحيد وعلاماته ، أو لم يبطل استعداده القريب لقبول الدّعوة الخاصّة وبقي له استعداد قريب لذلك لكن لم يخرج تلك القوّة والاستعداد الى الفعل بعد وتوجّه تارة الى ما اقتضاه استعداده وطلب ما يدلّه على طريق القلب ويخرجه من القوّة الى الفعل ، وتارة الى ما اقتضته نفسه واهويتها من مشتهيات الحيوانيّة لم يكن حينئذ مؤمنا موحّدا لا حقيقة ولا مجازا ، بل كان كافرا إذا لم يبق له استعداد قريب ، سواء أقرّ بدين وكتاب ونبىّ وسمّى مسلما ومؤمنا أم لم يقرّ وسمّى كافرا ، أو كان مشركا إذا بقي له استعداد سواء أشرك بالله في الظّاهر صنما وكوكبا وغيرهما أم لا ، وسواء اقرّ بدين ونبىّ أم لا ، وسواء بايع نبيّا أو وليّا بالبيعة العامّة أو الخاصّة أم لا ، وسواء اتّصل أو اعتقد بأئمّة الجور ومظاهر الشّياطين أم لا ، وبهذا المعنى فسّر الكفر والشّرك في الآيات بالكفر بالولاية والشّرك بالولاية وهذان غير الكفر والشّرك الظّاهرين لجواز اتّصاف المسلم والمؤمن بهما ، والكافر بهذا المعنى مطيع للنّفس والشّيطان ، وأفعاله ليست الّا من طاعتهما وهكذا أخلاقه ، وهي امّا متناهية في القبح بحيث يعدّها الشّرع والعقل والعرف قبيحة ، كالزّنا واللّواط والسّبعيّة المفرطة والشّرّه المفرط ممّا يستقبحه كلّ أحد ويستخفى فاعله حين الفعل من النّاس حتّى من أمثاله وتسمّى بالفواحش ، وافعال الجوارح الّتى كانت كذلك هي الفواحش الظّاهرة ورذائل النّفس هي الفواحش الباطنة ، وقد يسمّى بعض افعال الجوارح بالباطنة إذا صارت عادة بحيث لا يستخفى فاعلها عن الخلق ، كنكاح زوجة الأب الّذى كان في الجاهليّة وكنكاح المحارم الّذى كان بين الهنود ، وكالتّجسّس والغيبة والتّهمة والتّنابز بالألقاب مع انّها اشدّ من نكاح المحارم الّتى شاعت بين المسلمين ، لانّ كونها فاحشة مختف عن انظار أمثال فاعلها ، وقد يفسّر الفاحشة الباطنة بالّتى

١٧٨

يستخفى فاعلها كالزّنا واللّواط والظّاهرة بالّتى لا يستخفى كنكاح زوجة الأب عكس ما ذكر وله وجه ، أو غير متناهية في القبح بحيث لا يعدّها العقول الجزئيّة من أمثاله قبيحة ولا يستخفى فاعلها من أمثاله وهو الإثم كشرب الخمر والنّبيذ ، أو بحيث يعدّها العقول الجزئيّة من أمثاله خيرا ومدحا لفاعله ويباهي فاعلها باعلانها كالحكومات والقضاوات الغير الشّرعيّة الّتى هي مثال القضاوات الشّرعيّة وسائر المناصب الشّيطانيّة الّتى يتمنّاها أمثاله من الجهلة ، وبعبارة اخرى امّا تظهر أفعاله وأخلاقه بصورة افعال النّساء أو بصورة افعال الخناثى أو بصورة افعال الرّجال ، وبعبارة اخرى فاعلها في الانظار الجزئيّة المخطئة امّا ذو انوثة أو ذو خنوثة أو ذو ذكورة ، والى هذه الثّلاثة أشير بالفواحش والإثم والبغي وحاصل الحصر ، انّ الإنسان امّا كافر أو مشرك بالكفر والشّرك الحقيقيّين أو مؤمن ، والكافر جميع ما يصدر عنه محرّم عليه قولا أو فعلا أو خلقا لانّها تابعة للكفر المحرّم وهي تنقسم الى ثلاثة أقسام واكتفى عن ذكر الكفر بما ذكر لاستلزامها ايّاه وشمولها المحرّمات المشرك والمؤمن من حيث الكفر ، والمشرك له جهة كفر وجهة ايمان ، وآثاره من حيث الكفر ملحقة بآثار الكفر ومن حيث الايمان بالايمان ، والمؤمن آثاره من حيث الايمان حلال له الّا نسبة القول الى الله من غير علم على التّفصيل الآتي ، ولمّا كان المراد بالبغي مطلق التّبسّط والحكومة والرّياسة ، قيّده تعالى بقوله بغير الحقّ من : بغى بغيا ، استطال ولا حاجة الى جعل القيد بيانيّا خلافا للظّاهر وقيد الإشراك بما لم ينزّل به سلطانا ، اشارة الى انّ المراد بالشّرك بالله الشّرك بالولاية والشّرك بالولاية التّكوينيّة امّا بمرّمة المعاش أو تلّذذ النّفس وهما ان كانا من جهة امر الهىّ لم يكونا اشراكا بالله ما لم ينزّل به سلطانا ، والشّرك بالولاية التّكليفيّة ان كان باشراك من امر الامام (ع) باتّباعه لم يكن اشراكا بالله ما لم ينزّل به سلطانا ، وليس الشّرك بالله حالا وشهودا الّا الإشراك بالولايتين ، فالتّقييد هناك أيضا في محلّه ولا حاجة الى التّكلّفات الّتى ارتكبوها ، والموحّد الحقيقىّ أو المشرف على التّوحيد امّا يكون قوله وفعله وخلقه واعتقاده من حيث توحيده أو لم تكن من حيث توحيده وايمانه فما كان من حيث الايمان فهو حلال :

كفر گيرد ملّتى ملّت شود

وما لم يكن من حيث الايمان فهو ملحق بأفعال الكافر وأخلاقه لكنّ المؤمن قد يجرى على لسانه بقوّة محبّته ، أو لوجدانه وشهوده ، أو لاعتياده السّابق من سهولة الخطب في القول ما لم يأخذه من عالم وقته ولم يتيقّنه من شهوده ووجدانه ، أو تيقّنه لكن لم يكن موافقا لحاله ، أو لم يكن موافقا لحال السّامع بحسب الوقت والمكان فنهى الله تعالى عن ذلك ، وان كان من حيث ايمانه فعلى هذا كان تقدير قوله تعالى : (ما لا تَعْلَمُونَ) ما لا تعلمون عينه أو وقته أو مستمعه أو موافقته لحاكم ، ولمّا كانت ائمّة الجور متحقّقة بتلك المحرّمات وصارت تلك المحرّمات ذاتيّة لهم صحّ تفسيرها بأئمّة الجور وفسّر في بعض الاخبار بالسّلاطين من بنى أميّة وسائر ولاة الجور ، ونقل عن الصّادق (ع) ، انّ القرآن له ظهر وبطن فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظّاهر والباطن من ذلك ائمّة الجور ، وجميع ما أحلّ الله في الكتاب هو الظّاهر والباطن من ذلك ائمّة الحقّ. والسّرّ في ذلك ما قلنا من انّ ائمّة الجور هم المتحقّقون المتجوهرون بجميع المحرّمات ، وائمّة الحقّ (ع) هم المتحقّقون المتجوهرون بجميع المحلّلات ، وعنه (ع) في بيان (أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) : ايّاك وخصلتين فيهما هلك من هلك ؛ ايّاك ان تفتي النّاس برأيك وتدين بما لا تعلم ، وفي رواية ان تدين الله بالباطل وتفتي النّاس بما لا تعلم. والغرض انّ الاعتقاد والفتيا إذا لم يكونا بوحي أو تحديث ولا بتقليد صاحب وحي وتحديث فهما قول على الله بما لا يعلم ، فالويل ثمّ الويل لمن استبدّ برأيه في دينه من غير أخذ من اهله ولمن افتى النّاس من غير

١٧٩

علم وأخذ من صاحب وحي وتحديث حيث قرنه الله بالكافر والمشرك (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) كأنّه قال فكلّ من المؤمنين ومرتكبي الفواحش والإثم والبغي والمشرك والقائل على الله ما لا يعلم أمّة قاصدة جهة من جهات الآخرة وليس لواحدة منهم البقاء فلا يتّكلوا على قلائل ايّامهم لانّ لكلّ أمّة أجلا (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) اى إذا قدّر وعيّن مجيئ أخر وقتهم للموت أو مدّة عمر هم لا يتأخّرون اقصر وقت ولا يتقدّمون لخروج ذلك عن اختيارهم ، أو لا يطلبون التّأخّر والتّقدّم لعدم علمهم بذلك الوقت ، أو لعلمهم بانّه خارج عن اختيارهم أو إذا قارن مجيئ أجلهم لا يطلبون ذلك لدهشتهم وهو وعيد وتمهيد لقوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) التّكوينيّة بالآيات التّدوينيّة (فَمَنِ اتَّقى) مخالفة الآيات التّدوينيّة بترك العمل بها ومخالفة الآيات التّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة بترك الاتّعاظ بها والاعراض عنها والآيات العظيمة الّذين هم الأنبياء (ع) والأولياء (ع) بترك اتّباعهم وتكذيبهم والاستهزاء بهم (وَأَصْلَحَ) بالاتّصال بالآيات العظمى بالبيعة العامّة والخاصّة بالاتّعاظ بالآيات الصّغرى (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى هذه الآية في اوّل البقرة وفي سورة الانعام مفصّلا (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) بترك امتثالها والاتّعاظ بها والاتّصال بها بإحدى البيعتين (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقد اختلف القرينتان في لفظ الموصول ودخول الفاء وعدمه والنّفى وعدمه وتكرار المبتدأ باسم الاشارة وعدمه ، والوجه في ذلك الاشارة الى اتّحاد نفوس المتّقين والاختلاف والفرقة في المكّذبين والاشارة الى لزوم الخبر للصّلة في الاولى دون الثّانية لعدم تخلّف وعده تعالى دون وعيده ، ولو جعل من شرطيّة كان أبلغ في ذلك المعنى ولذلك أتى في الاولى بمن المشتركة بين الشّرط والموصول وإحضار المبتدأ بوصفه المذكور له تفظيعا لحال المكّذبين وتحذيرا عن مثل حالهم مع قصد حصر صحابة النّار فيهم بخلاف الاولى ، فانّه لم يقصد فيها حصر لما سبق من جواز تخلّف الوعيد ودخول المكّذبين الجنان ورفع الخوف والحزن عنهم ، ووجه الاختلاف بنفي ضدّ المستحقّ في الاولى وإثبات المستحقّ في الثّانية كون المقام مقام الوعيد والإنذار ، فانّ ذكر المحرّمات توعيد لمرتكبيها لا وعد لتاركيها لانّ الفضل لمن امتثل الأمر لا لمن ترك المنهىّ ولذا لم يكتف بقوله فمن اتّقى وأضاف اليه أصلح في جانب الوعد ، وكذا الاخبار بانقضاء الأمد وفناء البسطة وإتيان الرّسل بعد تلك الإنذارات توعيد للمكّذبين ، ولكون المقام للانذار بسط في جانب الوعيد دون الوعد والمناسب لمقام الوعيد نفى الخوف والحزن عن غير المستحقّ وإثبات العقوبات للمستحقّ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أتى بفاء التّفريع والاستفهام الانكارىّ اشارة الى استنباطه ممّا سبق وتأكيدا لا ظلميّة المفترى ، فانّ مفهومه وان كان لنفى اظلميّة الغير من المفترى لكنّ المقصود إثبات اظلميّة المفضّل عليه والمراد بالمفترى ائمّة الجور ورؤساء الضّلالة الّذين لم يكونوا أهلا للرّياسة ويدّعون الخلافة وهم اشدّ ظلما ممّن كذّب بآياته فقط ، والقائل على الله ما لا يعلم أخفّ ظلما منهما فانّه لا ينافي تصديق الآيات كما سبق (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) لانّه قد سبق انّه المستحقّ لصحابة النّار والمراد بالمكذّب بالآيات تابع ائمّة الجور والمقصود من الآيات أعظمها وغايتها الّتى هي الولاية ومن المفترين والمكذّبين منافقوا الامّة الّذين قبلوا الدّعوة الظّاهرة

١٨٠