تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٩

بالعدل لأنّ الأمر بالعدل يستلزم الاتّصاف به ومعرفته في جميع موارده ، وللاشارة الى هذا قال (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) اى على التّوسّط بين طرفي الإفراط والتّفريط في جميع ما ذكر (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب عنهما أو جهتهما الّتى هي غائبة عن العباد ومن غيبهما الخفايا من أحوال العباد ويلزم منه خفاء صاحب الخير والشّرّ فلا تعلمون من العباد من كان بحسب السّريرة كالمملوك العاجز ومن كان آمرا بالعدل والله يعلم ذلك وهو بمنزلة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) في الآية السّابقة والمقصود انّكم لمّا لم تكونوا عالمين بأحوال الأشياء والعباد لم يجز لكم ان تختاروا من عند أنفسكم شريكا لله أو لعلىّ (ع) ولا أحدا لهدايتكم وجلب نفعكم ودفع ضرّكم ولزم ان تكلوا الأمر اليه تعالى فانّه العالم بمن ينبغي ان يختار وبمن ينبغي ان لا يختار فلا تجاوزوا في ذلك النّصّ من الله على لسان من علمتم خلافته لله (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) في سرعة إتيانها وحساب الخلائق فيها وجزاء الخلائق على أعمالهم (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) وهو تهديد لمن استبدّ برأيه وخالف امر الله ونصّه في احكامه (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من حساب الخلائق في أسرع زمان وعقوبة العاصي وثواب المطيع (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) يعنى جعل لكم كلّ ما تحتاجون اليه في تعيّشكم الدّنيوىّ ومنافعكم الاخرويّة وفي حصول العلم الّذى هو مبدأ ذلك كلّه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تلك النّعمة فتصرفون كلّ فيما خلق لأجله (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) بخلق ما يقدرن به على الاستمساك في الجوّ فانّ الله خلق كلّ شيء وخلق له ما به تعيّشه وحركته وسكونه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) على علمه وقدرته وحكمته وعدم إهماله لشيء من الأشياء من دون تهيّة ما يحتاج اليه (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالآخرة فانّهم يعلمون انّ الّذى لم يهمل شيئا من الأشياء واعطى كلّ شيء ما يحتاج اليه لم يهمل الإنسان الّذى هو أشرف الأشياء ولم يترك ما يحتاج اليه في أشرف جهاته وهي الآخرة بل جعل لهم رئيسا يدلّهم عليها ويمنعهم عمّا يضرّهم فيها ويأمرهم بما ينفع فيها ولم يكل اختيار ذلك إليهم حتّى يجعلوا برأيهم له شريكا أو يختاروا لأنفسهم في امر الآخرة الّذى هو غيب عنهم إماما ورئيسا (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) يعنى الاخبية المتّخذة من الأديم والشّعر والصّوف (تَسْتَخِفُّونَها) تعدّونها خفيفة لا كبيوت الطّين والأحجار (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً) لبيوتكم من الفرش والالبسة ومحالّ الامتعة وغير ذلك (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ما تتمتّعون به الى مدّة اندراسه (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من الشّجر والجبال والجدران (ظِلالاً) ما تستظلّون به (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) ما تستترون فيه من الغيران أو ما تنحتون فيها (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ) ثيابا فانّ السّر بال يستعمل في كلّ ملبوس ، والمراد بالاثاث والمتاع غير الثّياب ، أو المراد بالسّرابيل غير ما يكون من الصّوف والوبر والشّعر والجلود ، أو يكون تعميما بعد تخصيص من وجه كما يكون تخصيصا بعد تعميم من وجه آخر (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) اى والبرد اسقطه واكتفى بذكر الحرّ لعدم الاحتياج الى ذكره لوضوحه بقرينة المضادّة وانّ الحاجة الى اللبّاس في البرد اشدّ منه في الحرّ وللاهتمام بالحفظ من الحرّ

٤٢١

في بلاد العرب (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) كالدّروع ولمّا كان تعداد النّعم الصّوريّة الجسمانيّة مقدّمة لتفهيم النّعم الاخرويّة الرّوحيّة وهي إرسال الرّسل لتبليغ الولاية واعداد الخلق لقبولها والسّير على طريقها وانّ المنعم لم يدع عالم الأجسام غير مهيّاة له أسباب قوامه وبقائه فكيف يدع عالم الأرواح والجهة الرّوحانيّة في الإنسان غير مهيّاة له أسباب كما له وبقائه ، وانّ عمدة أسباب كما له وبقائه إرسال الرّسل للانذار من الرّكون الى الأجسام والدّلالة على طريق الولاية وفتح باب القلب وإيلاء الولاة لتعليم طريق الولاية وتلقين ما يفتح به باب القلب بعد انقضاء ايّام الرّسالة ، عقّب المذكورات من النّعم المعدودة بقوله (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) يعنى مثل إتمام النّعم الجسمانيّة الصّوريّة المختلطة بالآلام والأسقام والمتاعب والمشاقّ يتمّ نعمته الحقيقيّة الّتى هي حاصلة إرسال الرّسل وغايته وهي الولاية ولا يهملكم في تلك الجهة من غير تهيّة أسباب كما لكم وبقائكم فيها (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) تقادون (فَإِنْ تَوَلَّوْا) صرف الخطاب الى محمّد (ص) يعنى ان تولّوا عن تلك النّعمة العظمى الّتى هي ولاية علىّ (ع) فلا بأس عليك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلّغت وامّا الإقبال والتّولّى فليس عليك وفي الآية وجوه أخره بحسب مراتب النّعم الاخرويّة والدّنيويّة الجسمانيّة لكنّ المذكور هو خلاصة الكلّ وبتذكّر ما أسلفنا لك مرارا يمكن التّفطّن بها (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) قد فسّر في اخبار عديدة نعمة الله هاهنا بعلىّ (ع) وهو ما ذكرنا من خلاصة الوجوه والّا ففيها وجوه أخر بحسب المراتب ، وقد ذكر في بعض الاخبار انّ الآية نزلت بعد ما قالوا عرفنا صدق محمّد (ص) ولكن لا نطيعه في علىّ (ع) ولا نتولّى عليّا (ع) (ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) في عين إسلامهم بك لانّهم كفروا بعلىّ (ع) أو بقولك أو كانوا كافرين بك من اوّل إسلامهم فانّ الإسلام يقتضي الانقياد وعدم الاعتراض على فعل الرّسول (ص) وقوله وأطاعته في جميع أوامره ونواهيه ، ولمّا أنكروا عليه قوله علم انّهم لم يكونوا مسلمين (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) عطف على (نِعْمَتَ اللهِ) ، أو على مفعول ينكرونها ، أو متعلّق بمحذوف معطوف على محذوف اى فحذّرهم وذكّرهم ، أو التّقدير فاعذّبهم اليوم ويوم نبعث (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) ولمّا كان عناية الله بتكميل الخلق في جهتهم الاخرويّة جعل في كلّ أمّة واقعة في طول الزّمان وكذا في كلّ فرقة واقعة في بقاع المكان خليفة منه يكون شاهدا عليهم ومراقبا لاعمالهم وأحوالهم ومعطيا لمن استعدّ منهم حقّه من آداب السّلوك الى الآخرة والاستعداد لنعيم الجنّة ، ويكون ذلك الخليفة بأقواله وأفعاله ميزانا للكلّ ويوم القيامة يبعث الله كلّ أمّة ويبعث خليفتهم بشهادته قالا وحالا عليهم ، فمن وافقه بعض الموافقة بعثهم الى الجنان بحسب مراتبهم في مراتبها ، ومن خالفه كلّ المخالفة بعثهم الى النّيران بحسب مراتبهم في مراتبها ، والمقصود تهديد من خالف من أمّته (ص) خليفته عليّا (ع) كما انّ الآيات السّابقة كانت لترغيبهم اليه (ع) (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في التّكلّم والاعتذار بل المتكلّم هو الخليفة لا غير (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) يسترضون من العتبى بمعنى الرّضا (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون أو لا يلتفت إليهم بالنّظر (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) من الأصنام والكواكب والشّياطين وخلفاء الجور (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا) اى الشّركاء (إِلَيْهِمُ) الى المشركين (الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) في ادّعاء اشراكنا بل كنتم تعبدون أهواءكم وجعلتم صورة

٤٢٢

عبادتنا جالبة لمقتضى اهويتكم (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الاستسلام والانقياد (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الآلهة والشّركاء واستحقاقهم العبادة والشّفاعة والنّصرة (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) كفروا بالله أو بالرّسول أو بالولاية ومنعوا الغير عن الولاية أو اعرضوا عنها (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) لكفرهم وصدّهم (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) في ارض وجودهم وفي ارض عالم الطّبع بمنع القوى عن الرّجوع الى القلب ومنع النّاس عن الرّجوع الى صاحب القلب (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) لمّا كان هذه الآية تأكيدا لسابقتها فصّلها وأجمل الاولى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) كتاب النّبوّة والقرآن صورته واحكام القالب والقلب أيضا صورته ، ولمّا كان النّبوّة مقام الجمع بعد الفرق وتفصيلا للوحدة الاجماليّة واجمالا للكثرة كان فيه بيان كلّ شيء وظهوره ولذلك قال (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً) الى الولاية والايمان القلبىّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَرَحْمَةً) لانّ النّبوّة لكونها صورة الولاية رحمة بكون الولاية رحمة (وَبُشْرى) بشارة الى مراتب الولاية (لِلْمُسْلِمِينَ) البائعين بالبيعة العامّة أو المنقادين المشار إليهم بقوله أو القى السّمع وهو شهيد.

بيان العدل

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) العدل التّوسّط بين طرفي الإفراط والتّفريط في جملة الأمور ، أو وضع كلّ شيء موضعه ، وهو يحصل بمعرفة تفاصيل الأشياء بمراتبها ومقاماتها ودقائق استحقاقاتها بحسب تعيّناتها وإعطاء كلّ ما تستحقّه بحسب اقتضاء طبائعها في التّكوينيّات واقتضاء افعالها في التّكليفيّات وهو يقتضي السّياسات واجراء الحدود والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وتهديد المعرض وترغيب الرّاغب وهذا شأن الصّدر والقلب من جهتهما الخلقيّة حالكونهما مستنيرين بنور الرّسالة والنّبوّة بالاتّصاف بهما أو بالاتّصال بهما ولذلك فسّر العدل في أخبارنا بمحمّد (ص) لاختصاص النّبوّة والرّسالة به (ص) في زمان التّخاطب وصحّ تفسيره بالنّبوّة والرّسالة وبوضع كلّ شيء موضعه وبالتّوسّط بين الإفراط والتّفريط في جملة الأمور (وَالْإِحْسانِ) الإحسان امّا بمعنى صيرورة الإنسان ذا حسن أو بمعنى إيصال المعروف مع إغماض النّظر عن الاستحقاق ، والمناسب هاهنا المعنى الثّانى لاعتبار الاضافة الى الغير في العدل وفي إيتاء ذي القربى ولكونه بعد العدل الّذى هو اعتبار الاستحقاق في الإعطاء ، والإحسان بهذا المعنى شأن الرّوح والقلب من جهته الرّوحيّة وهو شأن الولاية ، ولذلك فسّر في الاخبار بعلىّ (ع) وصحّ تفسيره بالولاية من حيث الاتّصاف بها أو من حيث الاتّصال بها (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) تخصيص بعد تعميم للعدل والإحسان باعتبار المتعلّق لاختصاص ذي القربى بمزيد رجحان ، وذو القربى اعمّ من القرابات الرّوحانيّة والجسمانيّة في العالم الكبير والعالم الصّغير كما انّ متعلّق العدل والإحسان اعمّ ممّا في العالم الكبير والصّغير ، ولمّا كان المستحقّ لأداء امانة الخلافة أصل ذوي القربى ، ورد انّ المراد أداء امام الى امام (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) الفعل الّذى يعدّه العقلاء اى أصحاب الشّرع فاحشا من غير اعتبار التّعدّى الى الغير مقابل العدل (وَالْمُنْكَرِ) اى الفعل المتعدّى الى الغير الّذى يعدّه الشّارعون قبيحا ضدّ المعروف مقابل الإحسان (وَالْبَغْيِ) التّطاول على النّاس أو الخروج من طاعة العقل وعدم الانقياد لذي القربى مقابل إيتاء ذي القربى خصوصا على تفسير ذي القربى بأئمّة الهدى (ع) (يَعِظُكُمْ) ينصحكم ويبيّن ما ينفعكم ويضرّكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قيل

٤٢٣

لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه انّه تبيان كلّ شيء (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) عطف على انّ الله يأمر بالعدل فانّه في معنى اعدلوا ، وعهد الله هو العهد المأخوذ في البيعة العامّة النّبويّة الاسلاميّة أو البيعة الخاصّة الولويّة الايمانيّة (إِذا عاهَدْتُمْ) التّقييد به نصّ على انّ هذا العهد امر واقع في دار التّكليف وليس المراد ما وقع سابقا في الّذرّ كما يفسّر به العهود المطلقة في القرآن وتنبيه على انّ الوفاء بالعهد لا يتصوّر ما لم يقع صورته في دار التّكليف ، والمراد بالوفاء بالعهد الوفاء بشروطه الّتى تؤخذ على المعاهد حين البيعة ، والمراد بقوله (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) هو هذا العهد وشروطه ، وتسمية ذلك عهد الله لانّه عهد مع من اذن الله له في أخذ العهد عن عباده واليه أشار بقوله (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بطريق الحصر اشعارا بانّ الواسطة لا حكم له وانّما الحكم لذي الواسطة فقط (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ) المراد بالايمان هي العهود المأخوذة بالبيعة ، وتسميتها ايمانا لحصولها بالايمان كسائر المبايعات (بَعْدَ تَوْكِيدِها) يعنى لا تنقضوا البيعة النّبويّة بعد توكيدها بالبيعة الولويّة فانّ البيعة الاسلاميّة إذا لم تؤكّد بالبيعة الايمانيّة كان في نقضها توبة وتقبل توبة ناقضها لأنّه كاشف في الأغلب عن الارتداد الملّىّ ، وامّا البيعة الايمانيّة فلا تقبل توبة ناقضها لانّه كاشف في الأغلب عن الارتداد الفطرىّ وهو مبالغة في نهى من يبايع عليّا (ع) في الغدير عن نقض بيعته بعد ما بايع محمّدا (ص) بيعة اسلاميّة ولقد اكّد تلك البيعة نفسها أيضا بان امر النّبىّ (ص) الخلائق بالبيعة مع علىّ (ع) في ذلك اليوم ثلاث مرّات ، وفي خبر ولقد عقد محمّد (ص) عليهم البيعة لعلىّ (ع) في عشرة مواطن ، وقد فسّرت الآية في الاخبار ببيعة غدير خمّ (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) تعديته بعلى لتضمين معنى المراقبة اى جعلتم الله رقيبا عليكم بواسطة كفالته لأموركم في تلك البيعة المؤكّدة بالبيعة الولويّة ، وفيه اشارة الى انّ بائع البيعة الولويّة كان الله كفيلا لاموره فليكل الأمور اليه ورقيبا عليه فليحذر الفسوق بعده كما قال : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ)(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) جواب سؤال عن العلّة أو عن حال الله معهم (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) واستحكام للفتل (أَنْكاثاً) جمع نكث بالكسر وهو امّا حال من الغزل لانّه مصدر بمعنى المفعول في معنى الجمع أو أنكاثا جمع في معنى المفرد بحسب الاستعمال لانّه يقال حبل أنكاث ، وامّا مفعول ثان لنقضت بتضمين معنى صيّرت وهو تشبيه تمثيلىّ لحال من بايع البيعة الاسلاميّة فانّ البيعة الاسلاميّة كالخيط المغزول الموصول من البائع الى من بايع معه بل الى الله ، ثمّ اكّد تلك بالبيعة الايمانيّة فانّها مثل استحكام الخيط المفتول بفتل آخر ثمّ نقض البيعة فانّ نقضها مثل نقض فتل الخيط بحال امرأة غزلت وأتعبت نفسها في غزلها واستحكامه ثمّ نقضت غزلها في تحمّل المتاعب وعدم الانتفاع بالغزل ، وفي الخبر انّ الّتى نقضت غزلها كانت امرأة من بنى تميم يقال لها ريطة كانت حمقاء تغزل الشّعر فاذا غزلته نقضت ثمّ عادت فغزلته فقال الله كالّتى نقضت غزلها (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ) عهودكم الّتى أخذت منكم في البيعتين (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) حال من اسم لا تكونوا أو استيناف جواب لسؤال مقدّر لقصد ذمّهم على حالهم هذه ، والدّخل محرّكة الفساد في العقل والجسم والمكر وما داخل الشّيء وليس منه ، والرّيبة ؛ والكلّ مناسب هاهنا (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) كراهة ان تكون أمّة هم علىّ (ع) واتباعه اربى من أمّة هم مخالفوهم ، أو لأن تكون أمّة هم قريش اربى من أمّة هم محمّد (ص) واتباعه ، الأربى الأرفع سواء كان في العدد ، أو في المال ، أو في القوّة ، أو في الجاه (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ)

٤٢٤

به يختبركم باتّخاذ الايمان أو بكون بعض اربى من بعض ليظهر ثبات من يثبت على الايمان ونكث من ينكث (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عطف على محذوف اى ليظهر سعادة السّعيد وشقاوة الشّقىّ ولبيّن (ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وأعظم ما فيه تختلفون ولاية علىّ (ع) لانّها النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تهديد لهم على أعمالهم وتحذير عمّا يضمرونه من عداوة علىّ (ع) ولمّا كان قوله (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (الى آخر الآية) مشعرا بالجبر وإسقاط العقوبة قال (وَلَتُسْئَلُنَ) (الآية) اشعارا بالاختيار وثبوت العقوبة (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) تصريح بالنّهى بعد الاشارة اليه تأكيدا واشعارا بعظمة قبح ذلك (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) عن الايمان (بَعْدَ ثُبُوتِها) بالبيعة وافراد القدم مع اقتضاء العبارة جمعها للاشعار بانّ البائع له اقدام ثابتة في مراتب الإسلام والايمان ولو زلّت قدم منها فكأنّما زلّت جميع الاقدام (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) في الدّنيا (بِما صَدَدْتُمْ) أهل الأرض وأهل مملكتكم فانّ الفاسد يفسد غيره لا محالة والنّاكث يمنع جميع مداركه وقواه (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) التّكوينىّ الّذى هو طريق القلب والتّكليفىّ الّذى هو طريق الولاية والآخرة (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة قد كثرت الاخبار من طريق الخاصّة في تفسير الآيات من قوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) الى قوله (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بولاية علىّ (ع) ونزولها حين قال النّبىّ (ص) : سلّموا على علىّ (ع) بامرة المؤمنين وأمرهم بالبيعة معه (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ) بيعة محمّد (ص) أو بيعة علىّ (ع) (ثَمَناً قَلِيلاً) من اعراض الدّنيا وأغراضها بان تنكثوا بيعة علىّ (ع) خوفا من فوت الجاه وطمعا في الرّياسة كما كان حال المترئّسين أو طمعا في جيف الدّنيا كما كان حال المرئوسين (إِنَّما عِنْدَ اللهِ) ممّا ادّخره لعباده الوافين من نعم الجنان (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) علمتم انّه خير لكم (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) تعليل (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) على عهدهم ولم ينكثوا (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعنى نجزيهم بجميع أعمالهم جزاء أحسن أعمالهم وأحسن الأعمال هو الّذى كان على تذكّر من الله ومن الولاية بمراتب التّذكّر من اللّسانىّ والقلبىّ والصّورىّ الملكوتىّ والحقيقىّ التّحقّقىّ بل الأحسن هو نفس الولاية ، وهذه الآية أرجى آية للبائعين فطوبى لمن صبر على بيعته ، وقد مضى في مطاوى ما أسلفنا تحقيق الجزاء بأحسن الأعمال واسوئها (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) اى عملا واحدا صالحا اىّ عمل كان وقد مرّ مرارا انّ العمل الصّالح الحقيقىّ هو الّذى يكون مرتبطا بالولاية ، أو المراد بالتّنكير التّفخيم اى من عمل صالحا عظيما هو أصل جميع الصّالحات وهو عمل نفس الولاية (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) التّقييد به للاشارة الى انّ صورة العمل من غير ارتباطها بالولاية الّتى هي الايمان غير معتبرة في الحكم مثل الأعمال الّتى كانت لمنافقى الامّة ، أو المراد بالايمان هاهنا الإسلام (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) الحيوة الطّيّبة هي ما تكون خالية عن شوب الآلام في الدّنيا والآخرة وقد فسّرت في الاخبار بالقنوع بما رزقه الله والرّضا به (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لمّا كان هذه بشارة كاملة للمبتاعين كرّره تأكيدا (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) جواب شرط محذوف اى إذا كان اتّخاذ الايمان دخلا سببا لان تزلّ القدم وان يذاق السّوء والعذاب والصّدق في الايمان والصّبر عليها سببا لان يجزى الله جميع الأعمال بجزاء أحسن الأعمال فاذا قرأت القرآن الّذى هو صورة شروط

٤٢٥

العهود والايمان وتذكرتها (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) فعلى هذا يكون الخطاب عامّا لكلّ من يتأتّى منه الخطاب أو خاصّا على طريقة ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فانّ الاستعاذة لها اثر عظيم في منع الشّيطان سيّما إذا كانت بالفعل والحال أو بالقول قرينا للفعل والحال ، وبهذه الآية تمسّك من قال بوجوب الاستعاذة القوليّة أو استحبابها في اوّل القرائة ولذلك ضمّن قرأت معنى أردت القرائة وقد مضى في اوّل فاتحة الكتاب تفصيل تامّ للاستعاذة وكيفيّتها (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو الخاصّة (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) بالاستعاذة به والتّوكّل عليه (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) ولا يؤمنون بالله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) يعنى بعد الايمان أو العطف من قبيل عطف الأوصاف العديدة لذات واحدة وانّ الله اسم لذاته تعالى بحسب مقام معروفيّته ، ومقام المعروفيّة باعتبار وجهته الى الغيب يسمّى الله وباعتبار وجهته الى الخلق يسمّى عليّا (ع) وفي الاخبار انّ الشّيطان يسلّط من المؤمن على بدنه ولا يسلّط على دينه وفي خبر ليس له ان يزيلهم عن الولاية فامّا الّذنوب وأشباه ذلك فانّه ينال منهم كما ينال من غيرهم (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) آية من القرآن مكان آية منه بنسخ الاولى أو حكما من الأحكام مكان حكم آخر فانّ الأحكام كلّها آيات لطفه وعلمه في نظام الكلّ أو آية مكان آية أخبرت بها بالبداء فيها ومحوها وإثبات غيرها أو آية من الآيات العظمى مكان اخرى بجعل علىّ (ع) بدلا منك واخبارك ايّاهم بذلك (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من حيث حكمه ومصالحه (قالُوا) اى الكفّار أو منافقوا أمّتك (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وليس ذلك باخبار ووحي من الله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جواز النّسخ والتّبديل وكيفيّته والمصلحة فيه (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) اى جبرئيل فانّه من الأرواح وإضافته الى القدس لتنزّهه عن شوائب النّقص ، أو المراد بروح القدس الملك الّذى هو أعظم من بجبرئيل لم يكن مع أحد من الأنبياء (ع) وكان مع محمّد (ص) وقد أسلفنا انّه ربّ النّوع الانسانىّ (مِنْ رَبِّكَ) حقّ العبارة ان يقال من ربّى لكنّه عدل الى الخطاب امّا لانّه مستأنف من الله تعالى غير محكىّ بالقول بتقدير نزّله اى نزّله من ربّك أو لفرض المحكىّ بالقول غير محكي بالقول ومثله كثيرا ما يقع في المحكىّ بالقول ، أو لانّ خطاب من ربّك ليس لمحمّد (ص) بل لكلّ من يتأتّى منه الخطاب ، أو للشّيطان يعنى قل للشّيطان المنكر للولاية نزّله روح القدس من ربّك (بِالْحَقِ) والضّمير في نزّله للتّبديل وارجاعه الى خصوص امر ولاية علىّ (ع) يؤيّد التّفسير الأخير للآية المبدلة (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) هذا أيضا يؤيّد التّفسير الأخير للآية فانّ الولاية هي الّتى يثبّت بها ايمان المؤمنين وهي الهدى والبشرى للمسلمين (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) يضيفون ويميلون قولك الى تعليمه (أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) قيل كانوا يقولون انّما يعلّمه ابو فكيهة مولى ابن الخضرمىّ وكان أعجميّ اللّسان وآمن بالنّبىّ (ص) وكان من أهل الكتاب ، وقيل : كانوا يقولون انّما يعلّم النّبىّ (ص) بشر يقال له بلعام وكان قينا روميّا نصرانيّا ، وقيل : أرادوا به سلمان الفارسىّ رحمه‌الله ، وقيل : أرادوا به غلامين نصرانيّين (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لهم لا يتفطّنون ويلحدون القرآن الّذى هو لسان عربيّ مبين

٤٢٦

الى الاعجمىّ فقال : لانّهم لا يؤمنون بآيات الله ومن لا يؤمن بآيات الله لا يهديه الله الى التّفطّن بدقائق القول ومفاسده (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) لا أنت فهو ردّ لقولهم انّما أنت مفتر (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) لا أنت (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) إسلامه أو ايمانه الخاصّ (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على الكفر القولىّ اى الّا من كفر قولا بالإكراه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أذعن بالكفر واعتقد واطمأنّ عليه (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) روى انّ الآية نزلت في عمّار رحمه‌الله لانّه أكرهه مشركو مكّة وأكرهوا أبويه على الكفر والبرائة من محمّد (ص) فأبى أبواه فقتلوهما وتبرّأ عمّار بلسانه ، وورد في الاخبار تحسين أبويه في اختيار القتل وتحسينه في اختيار البرائة اللّسانيّة على القتل (ذلِكَ) الارتداد بعد الإسلام أو الايمان (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) فاختاروا ما زعموا انّه أنفع بالحيوة الدّنيا وكفروا بالوجهة الاخرويّة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) الى الثّبات في الايمان (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فلا يدركون من المعقولات والمسموعات والمبصرات ما لأجله إدراكها وقد سبق في اوّل البقرة تحقيق تامّ لطبع القلب والسّمع والبصر (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون في الغفلة لغفلتهم عمّا لأجله يكون جملة التّذكّرات وهو الله والآخرة بخلاف غفلات المؤمنين والمسلمين (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لانّهم بذلوا لطيفتهم الانسانية الّتى كانت بضاعة لهم لتحصيل النّعيم الأبديّ وحصّلوا متاعا فانيا مستعقبا لعذاب ابدىّ وقد مضى بيان لا جرم (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) مقابل من كفر بالله (الى آخرها) وثمّ للاشارة الى تفاوت القصّتين والتّباعد بينهما والمعنى انّ ربّك للّذين هاجروا بعد الايمان أو قبله من بعد ما فتنوا والهجرة اعمّ من الهجرة الصّوريّة ، كما ورد انّ الآية في عمّار رضى الله تعالى عنه ، والهجرة الحقيقيّة اى هاجروا من دار الشّرك الى دار الإسلام ، ومن دار النّفس الى أعلى مراتبها وهو الصّدر ، ومن دار الإسلام الى دار القلب وهي دار الايمان (ثُمَّ جاهَدُوا) في سبيل الله بالجهاد الصّورىّ أو في سبيل الولاية وسبيل القلب بالجهاد الباطنىّ (وَصَبَرُوا) على الجهاد ولم يفرّوا من الأعداء في الظّاهر والباطن (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) بعد المهاجرة وفائدة التّأكيد التّصريح بانّ المغفرة والرّحمة انّما تكونان بعد الهجرة ولو بعد الشّروع فيها وامّا قبلها فليس للإنسان الّا الاستبصار بمعايبه والانزجار من منتناته وهو باعث على الهجرة والهجرة على المغفرة والرّحمة (لَغَفُورٌ) يستر عن نظر النّاظرين الجيف المنتنة الّتى كانت مع المهاجر حين مقامه في دار نفسه المشركة (رَحِيمٌ) بعد المغفرة بالتّفضّل عليه واستبدال الجيف بالصّور الطّيّبة من نعيم الجنان وحورها وغلمانها (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) ظرف لغفور أو رحيم أو كليهما على سبيل التّنازع ، أو ظرف لرحيم لانّ المغفرة تكون قبل الوصول الى القيامة ، أو مستأنف مقدّر باذكر (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) عن ذاتها بالاعتذار في الخلاص عن البوار وطلب مقام الأبرار (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) عين (ما عَمِلَتْ) على تجسّم الأعمال أو جزاء ما عملت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الثّواب أو زيادة العذاب (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لتنبيه المنعمين الكافرين بأنعم الله (قَرْيَةً) حال قرية (كانَتْ آمِنَةً) من كلّ ما يخاف من بطش الأعداء وضيق المعيشة وآلام الأبدان وغموم النّفوس (مُطْمَئِنَّةً) لا يزعج أهلها مزعج (يَأْتِيها رِزْقُها

٤٢٧

رَغَداً) واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ما يوجد فيه وتحتاج القرية اليه (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) بالغفلة عن المنعم والبطر بالنّعم بدل الخضوع للمنعم (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) جزاء لكفرانهم وبطرهم والجوع استعارة بالكناية أو قرينة للاستعارة التّحقيقيّة في اللّباس أو تشبيه من قبيل لجين الماء وكذا الاذاقة امّا استعارة تحقيقيّة أو ترشيح لاستعارة الجوع (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) من الكفران والبطر وقد ذكر في الاخبار انّ هذه القرية كانت كثيرة النّعم حتّى كانوا يستنجون بالعجين ويقولون : انّه ألين فأجدبت حتّى احتاجوا الى أكل ما كانوا يستنجون به (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) ولا تكفروا ولا تبطروا كما كفرت أهل تلك القرية (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قد سبق في سورة البقرة وفي غيرها تفسير الآية وانّ الحصر بالاضافة الى ما قالوا من حرمة البحيرة والسّائبة وغيرها وليس مطلقا حتّى يرد الاشكال بلزوم تحليل المحرّمات (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) قرئ بالرّفع صفة لألسنتكم وقرئ بالنّصب مفعولا لقوله لا تقولوا أو لقوله تصف ولفظ ما موصول اسمىّ أو حرفيّ أو موصوف وقوله (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) مفعول لا تقولوا على بعض الوجوه ، أو بدل من الكذب على بعض الوجوه ، أو مفعول تصف على بعض الوجوه (لِتَفْتَرُوا) لينتهي الى الافتراء (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ) يعنى ما يقصدونه من هذا القول متاع قليل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الاخرة ولا ينبغي للعاقل ان يطلب المتاع القليل المستعقب للعذاب الأليم ، نسب الى الصّادق (ع) انّه قال : إذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي أو صغيرة من صغائر المعاصي الّتى نهى الله عنها كان خارجا من الايمان وساقطا عنه اسم الايمان وثابتا عليه اسم الإسلام فان تاب واستغفر عاد الى الايمان ولم يخرجه الى الكفر والجحود والاستحلال فاذا قال للحلال : هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ودان بذلك ، فعندنا يكون خارجا من الايمان والإسلام الى الكفر وكان بمنزلة رجل دخل الحرم ثمّ دخل الكعبة فأحدث في الكعبة حدثا فأخرج عن الكعبة والحرم فضربت عنقه وصار الى النّار (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) في قوله (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) (الآية) (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ما حرّمنا عليهم بل صاروا مستحقّين للمنع والتّحريم كما في قوله (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) (الآية) (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) الإتيان بثمّ لتفاوت الجملتين من حيث انّ الاولى للتّشديد والتّغليظ والثّانية للتّلطّف وإظهار الرّحمة (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) بانصرافهم عن دار العلم ودخولهم تحت حكم الجهل (ثُمَّ تابُوا) ورجعوا عن مقام الجهل وندموا على ما وقع منهم (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) بتدارك ما لزمهم من حقوق النّاس وما فات منهم أو لزمهم من حقوق الله (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد التّوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تكرار انّ ربّك مثل ما سبق (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) قد مضى انّ الامّة تقع على الواحد والجماعة والمأموم والامام (قانِتاً لِلَّهِ) خاضعا له (حَنِيفاً) مسلما أو خالصا وقد ذكر في الاخبار انّه كان على دين لم يكن عليه غيره فمكث ما شاء الله حتّى آنسه الله

٤٢٨

بإسماعيل (ع) وإسحاق (ع) فصاروا ثلاثة ولذلك قال : انّ إبراهيم (ع) كان أمّة ولو كان معه غيره لأضافه اليه (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو تعريض بقريش لانّهم زعموا انّهم على دين إبراهيم (ع) (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) الحسنة في الدّنيا هو الاطمينان بذكر الله والانس بالله بحيث لا يكون شيء من قضاء الله مكروها عنده ويستتبع ذلك سهولة المخرج والالتذاذ في الطّريق الى الله ومحبّة النّاس وحسن الصّيت وطيب العيش والتّمتّع بالأولاد والبركة بالكثرة والسّلامة من آفات الآخرة في الأعقاب وقد كان كلّ ذلك لإبراهيم (ع) (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الّذين لا فساد في وجودهم وهم الّذين حصّلوا جميع ما يمكن للإنسان من الكمالات (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمّد (ص) (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الملّة هي صورة احكام القالب مرتبطة بأحكام القلب مأخوذة من صاحب احكام القلب والقالب كما انّ النّحلة هي تلك الصّورة غير مأخوذة من صاحبها بشرائطها المقرّرة عندهم ، وتخلّل ثمّ لتراخى زمان الوحي عن زمان إبراهيم ، وللاشارة الى انّ اتّباع محمّد (ص) شرف لإبراهيم (ع) لا وصف له أشرف منه ، وللاشارة الى انّ حكاية حاله (ص) أعلى درجة من حكاية حال إبراهيم (ع) ، وعن الصّادق (ع): لا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء لانّه المنهج الأوضح قال الله عزوجل ثمّ أوحينا إليك ان اتّبع ملّة إبراهيم حنيفا فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء لندب أوليائه وأنبيائه (ع) اليه (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) محترما (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) كأنّه كان في قلبه (ص) أو في قلب من آمن به شيء من الأمر باتّباع ملّة إبراهيم (ع) وترك تعظيم السّبت لانّه كان عيدا لليهود بأمر موسى (ع) كما انّ الأحد كان عيدا للنّصارى فرفع ذلك بقوله (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) (الآية) تسكينا له (ص) أو للمؤمنين (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فانّ اليهود اختلفوا في السّبت بان حرّموه ثمّ استحلّوه فلعنهم الله ومسخهم ، وقيل : انّ المراد بالّذين اختلفوا فيه اليهود والنّصارى اختلفوا بان قال اليهود : السّبت أعظم الايّام لانّ الله فرغ من خلق العالم فيه واستراح ، وقال النّصارى : الأحد أعظم الايّام لابتداء خلق العالم فيه (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) كلام منقطع عن سابقه ولذلك لم يأت بأداة الوصل والمراد بسبيل الرّبّ دين الإسلام أو أعظم أركانه وهو الولاية (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الحكمة مفسّرة بالتّشبّه بالإله علما وعملا بمعنى الاطّلاع على دقائق العلوم الّتى يعجز عن مثلها البشر والقدرة على دقائق الأعمال الّتى يعجز عن مثلها أمثاله وبالفارسيّة «خورده بيني وخورده كارى» وهو شأن الولاية والمراد بها هاهنا الدّعوة من طريق الباطن بالتّصرّف في المدعوّ بحسب استعداده ومن طريق الظّاهر بحسب اقتضاء حاله بإظهار المعجزات وأعلامه بالخواطر والخيالات ليصرفه بذلك الى الحقّ ، والموعظة الحسنة هي إظهار ما كان نافعا للمدعوّ ليطلبه وما كان ضارّا ليجتنبه بحيث يرى المدعوّ انّ الدّاعى ناصح له وطالب لخيره وهو شأن النّبوّة ، والمجادلة الحسنة هي الزام الخصم بالحجّة والبرهان أو بما هو مسلّم عنده مذعن له سواء وافقه البرهان أم لا ؛ هكذا أشير الى تفسير المجادلة في الاخبار فهي اعمّ ممّا اصطلح عليه المنطقيّون وهي شأن الرّسالة فانّ الرّسول (ص) مأمور باقحام الخلق في الدّين ولو بالسّيف ، ولمّا كان الرّسول (ص) صاحب الشّؤن الثّلاثة والخلق على طبقات ثلاث مستعدّ لتصرّف الولىّ (ع) وقابل لنصح النّبىّ (ص) ومعاند محتاج الى الإلزام ولكلّ شخص يتصوّر أحوال صاحب تلك الطّبقات امر الله تعالى النّبىّ (ص) بالدّعوات

٤٢٩

الثّلاث والمجادلة الغير الحسنة كما في الاخبار ان تجحد حقّا يدّعيه الخصم أو تلقّى باطلا عليه لالزامه وتضعف عن مقاومته بالحجّة فتجادله وبضعفك تجرّئه على أهل دينك وتضعف قلوب المسلمين وعقائدهم (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يعنى انّك مأمور بالدّعوة العامّة فلا تتوان في الدّعوة تفكّرا في انّها تنفع أم لا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) يعنى ان عاقبتم قصاصا وأتى بلفظ الشّكّ للاشعار بانّ المؤمن لا ينبغي له القصاص بل شأنه العفو واقدامه على القصاص كالمشكوك ؛ وهذا لمن لم يترقّ عن مرتبة النّفس ، وقوله (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) لمن عرج منها الى مقام القلب ، وقوله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لمن اتّصف بصفات الرّوح وبعبارة اخرى الاوّل لمن قبل الرّسالة ، والثّانى لمن قبل النّبوّة ، والثّالث لمن قبل الولاية (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) يعنى ان صبرتم عن القصاص والمراد من الصّبر العفو وكظم الغيظ الّذى ذكر في الآيات الاخر كما انّ الرّضا بمنزلة الصّفح وفوق كلّ المراتب الإحسان الى من أساء ونزول الآية كما في الاخبار في غزوة أحد لانّ المشركين مثّلوا من قتلى المسلمين فقال المسلمون : لئن أدالنا الله عليهم لنمثلنّ بأخيارهم ، أو قال النّبىّ (ص) حين حضر حمزة ورأى ما فعل به وبكى : لئن أمكنني الله من قريش لأمثلنّ سبعين رجلا منهم ، فنزل عليه (ص) جبرئيل (ع) فقال : وان عاقبتم (الآية) لكنّ مضمونها عامّ (وَاصْبِرْ) لمّا كان المؤمنون الغير الخارجين من دار النّفس غير متحمّلين للاذى متبادرين الى القصاص قال فيهم على طريق المداراة (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) بخلاف محمّد (ص) ولذلك امره (ص) صريحا بالصّبر ثم للاشعار بانّ التّمكّن من الصّبر انّما هو نعمة من الله لانّ البشريّة مقتضيته للانتقام قال (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) اى على أصحابك وما فعل بهم من القتل والمثلة بناء على نزول الآية ، أو ولا تحزن على الضّالين الماكرين لك أو لعلىّ (ع) أو للمؤمنين (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) في حقّ أصحابك أو فيك أو في علىّ (ع) وهذا اشارة الى الصّفح وتطهير القلب عن الحقد على المسيء (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) وهم أصحابك ، أو أنت واتباعك ، أو علىّ (ع) واتباعه فلاتك في ضيق ممّا فعل بأصحابك فانّ لهم الزّلفى عند الله أو لا تك في ضيق ممّا يحتالون فانّهم لن يصلوا بضرر إليك أو الى علىّ (ع) أو الى اتباعه ، أو هو تعليل للسّابق والمعنى انّ الله مع الّذين اتّقوا عن الضّيق والحزن أو الحقد على المسيء أو هو اشارة الى آخرة مراتب العبوديّة والتّقوى الحقيقيّة الّتى هي الفناء التّامّ في الله والسّفر بالحقّ في الحقّ ، وقد تكرّر فيما سبق انّ لله مع عباده ومخلوقاته معيّتين ؛ معيّة هي من صفات الرّحمة الرّحمانيّة وهي عامّة ، ومعيّة هي من صفات الرّحمة الرّحيميّة وهي خاصّة ؛ وهذا النّوع من المعيّة هو المراد في أمثال المقام (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ذوو حسن وهو الولاية أو محسنون الى المسيء إليهم فالآية كما أشير اليه في ذيل تفسير التّنزيل اشارة الى مراتب الإنسان من اوّل مقام الإسلام الى آخر كمال الإنسان فانّ قوله فان عاقبتم الى قوله لئن صبرتم اشارة الى اولى مراتبه في الإسلام وقوله (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) (الى قوله) (إِلَّا بِاللهِ) اشارة الى ثانيتها من مقام العفو وكظم الغيظ وقوله (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (الى قوله) (مِمَّا يَمْكُرُونَ) اشارة الى ثالثتها من مقام الصّفح وتطهير القلب عن الحقد على المسيء ، وقوله (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) اشارة الى آخر مقام التّقوى وهو مقام الفناء التّامّ وهو الفناء عن الفناء ، وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) اشارة الى آخر مقامات الإنسان وهو مقام البقاء بعد الفناء ، ولو كنت متذكّرا لما أسلفنا فيما أسلفنا من بيان الاسفار الاربعة للسّلّاك واصطلاح الصّوفيّة الصّافية فيها أمكنك التّفطّن بكون الآيات اشارة الى الاسفار الاربعة والله ولىّ التّوفيق.

٤٣٠

سورة الإسراء

مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى خمس آيات ؛ آية (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) ، وآية (وَلا تَقْرَبُوا) ،

وآية (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) ، وآية (أَقِمِ الصَّلاةَ) ، وآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ).

وقيل : مكّيّة الّا ثمان آيات ، (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (الى قوله) (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي)

الجزء الخامس عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) بعض ليل (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الّذى في بيت المقدّس أو الى المسجد الأقصى الّذى هو في السّماء الرّابعة المسمّى بالبيت المعمور الّذى المسجد الأقصى مظهره وهو ملكوته كما انّ المسجد الحرام مظهره وهو ملكوته ، والسّرى والإسراء بمعنى وهو السّير باللّيل فذكر اللّيل بعده مبنىّ على التّجريد ، أو التّأكيد ، وتعديته بالباء فقط وليس من قبيل الجمع بين التّعدية بالباء والهمزة (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) فانّ حول بيت المقدّس الشّام ومصر وكلاهما ممتازان عن سائر البلاد بكثرة النّعم من كلّ جنس ، والبيت المعمور الّذى هو في السّماء الرّابعة معلوم كثرة بركات ما حوله.

تحقيق المعراج الجسمانىّ

اعلم ، انّ الآية اشارة الى معراج الرّسول (ص) وقد اختلف الاخبار في كيفيّته وسيره (ص) وما رآه مع اتّفاقها على وقوعه وانّه من معجزاته (ص) وقد اختلف في انّه ببدنه الطّبيعىّ أم ببدنه المثالي أم بروحه ، وأنكرت الفلاسفة كونه بالبدن الجسمانىّ الطّبيعىّ لامتناع دخول الجسم الملكىّ في الأجسام الملكوتيّة وللزوم الخرق والالتيام في السّماوات وهو محال ، وقالت المتشرّعة اقتفاء لظاهر الاخبار انّه كان ببدنه الطّبيعىّ من غير تبيين لوجه صحّته مع قوّة برهان الفلاسفة على امتناعه وسنحقّقه ان شاء الله تعالى ، وأورد انّه كما روى كان في اقصر زمان حيث كان حرارة مضجعه باقية ولم يسكن حركة حلقة الباب ولم يتمّ انصباب ماء الإبريق الّذى سقط حين عروجه بعد رجوعه وكان ما قصّ علينا ممّا رآه في معراجه ووقع منه من الصّلوات والمخاطبات لا يمكن وقوعه الّا في زمان طويل فلا يمكن التّوفيق وأشكل أيضا بانّه (ص) حين بلغ الى مقام القرب خاطبه علىّ (ع) ومدّ علىّ (ع) يده من وراء الحجاب وشاركه في الغذاء وسدّ الطّريق علىّ (ع) حين سيره (ص) وكلّ ذلك يدلّ على كون علىّ (ع) أكمل منه (ص) مع انّه كان تابعا له (ص) والتّابع لا يكون أكمل من المتبوع.

٤٣١

وتحقيق ذلك بحيث لا يبقى ريب في وقوعه ببدنه الطّبيعىّ ولا إشكال ممّا ذكر يستدعى تمهيد مقدّمة فنقول : العالم ليس منحصرا في هذا العالم المحسوس المعبّر عنه بعالم الطّبع بسماواته وأرضيه بل فوقه البرزخ وهو عالم بين عالم الطّبع وعالم المثال وله الحكومة على عالم الطّبع والتّصرّف فيه اىّ تصرّف شاء من الأحياء والاماتة وإيجاد المعدوم واعدام الموجود وستر المحسوس وإظهار غير المحسوس بصورة المحسوس ومنه طىّ الأرض والسّير على الماء والهواء والدّخول في النّار سالما وقلب الماهيّات ، ومنه طىّ الزّمان كما ورد في الاخبار انّه قال المعصوم (ع) لمنافق : اخسأ ؛ فصار كلبا ، وقال لآخر : أنت امرأة بين الرّجال فصار امرأة ، وأنكر آخر قلب المهيّات عند المعصوم (ع) فصار الى نهر ليغتسل فدخل الماء وارتمس فخرج فرأى نفسه امرأة على ساحل بحر قرب قرية منكورة فدخلت القرية وتزوّجت وعاشت مدّة وولدت لها أولاد ثمّ خرجت لتغتسل في البحر فدخلت الماء وارتمست فخرجت على ساحل النّهر المعهود وهو رجل وإذا بثيابه موضوعة كما وضعها فلبسها ودخل بيته واهله غير شاعرين بغيبته لقصر الزّمان ، وأمثال ذلك رويت عن التّابعين لهم على الصّدق وهذا من قبيل بسط الزّمان ان كان وقوعه في عالم الملك ، كما نقل انّ امرأة وقع لها ذلك فأخبرت وأنكرها جماعة فأوتيت بأولادها بعد ذلك عن بلدة بعيدة مع انّه لم تمض في بلدها قدر ساعة ، أو من قبيل البسط في الدّهر من غير تصرّف في الزّمان ان كان وقوعه في الملكوت ، وفوق البرزخ عالم المثال وله التّصرّف في البرزخ والطّبع ، وفوقه عالم النّفوس الكلّيّات المعبّر عنها بالمدبّرات امرا ، وفوقه الأرواح المعبّر عنها بالصّافّات صفّا ويعبّر عنها في لسان الاشراقيّين بأرباب الأنواع وأرباب الطّلسمات ، وفوقها العقول المعبّر عنها بالمقرّبين وفوقها الكرسىّ وفوقها العرش وهو سرير الملك المتعال وهما بين الوجوب والإمكان لا واجبان ولا ممكنان بل فوق الإمكان وتحت الوجوب ، وكلّ من تلك العوالم له الاحاطة والتّصرّف والحكومة على جميع ما دونه فاذا غلب واحد من تلك العوالم على ما دونه صارما دونه بحكمه وذهب عنه حكم نفسه. ثمّ اعلم ، انّ الإنسان مختصر من تلك العوالم وله مراتب بإزاء تلك العوالم وكلّ مرتبة عالية لها الحكومة على ما دونها من غير فرق كما نشاهد من حكومة النّفس على البدن والقوى لكن تلك المراتب في أكثر النّاس بالقوّة وما بالفعل من النّفس المجرّدة الّتى هي بإزاء عالم النّفوس ضعيفة غاية الضّعف بحيث لا يمكنها التّصرّف في بدنها زائدا على ما جعله الله في جبّلتها فكيف بغير بدنها ، فاذا صار بعض تلك المراتب بالفعل كما في أكثر الأنبياء والأولياء (ع) أو جميعها كما في خاتم الأنبياء (ع) وصاحبي الولاية الكلّيّة (ع) كان لهم التّصرّف في أبدانهم باىّ نحو شاءوا ، وفي سائر أجزاء العالم كما روى عن الأنبياء والأولياء (ع) من طىّ المكان والزّمان والسّير على الماء والهواء ودخول النّار واحياء الموتى وإماتة الأحياء وقلب المهيّات وغير ذلك ممّا لا ينكر تمامها لكثرتها وتواتر الاخبار بمجموعها وان كان آحادها غير متواترة ، وامّا التّصرّف في البدن الطّبيعىّ بحيث يخرجه عن حكم الإمكان ويدخله في عالم العرش الّذى هو فوق الإمكان وفوق عالم العقول والملائكة المقرّبين كما روى انّ جبرئيل تخلّف عن الرّسول (ص) في المعراج وقال : لو دنوت أنملة لاحترقت ؛ مع انّه من عالم العقول المقرّبين فهو من خواصّ خاتم الكلّ في الرّسالة والنّبوّة والولاية وهو من خواصّ نبيّنا (ص) لا يشاركه فيه غيره لا نبىّ مرسل ولا خاتم الأولياء ولذلك جعلوا المعراج الجسمانىّ بالكيفيّة المخصوصة من خواصّه (ص) ، ولمّا كان المعراج بتلك الكيفيّة امرا لا يتصوّر امر فوقه من الممكن وكان لا يتيسّر الّا إذا غلب العالم الّذى فوق الإمكان على البدن الطّبيعىّ ولا يتيسّر تلك الغلبة بسهولة ولكلّ أحد وفي كلّ زمان قالوا : انّ المعراج للنّبىّ (ص) كان مرّتين مع انّه نسب الى بعض العرفاء انّه قال : انّى أعرج كلّ ليلة سبعين مرّة ، والمعراج بالرّوح امر يقع لكثير من المرتاضين بل ورد انّ الصّلوة معراج المؤمن ؛ إذا تقرّر ذلك نقول : انّه (ص) عرج ببدنه الطّبيعىّ وعليه عباؤه ونعلاه الى بيت المقدس ومنه الى

٤٣٢

السّماوات ، ومنها الى الملكوت ، ومنها الى الجبروت ، ومنها الى العرش الّذى هو فوق الإمكان ، وفي هذا السّير تخلّف جبرئيل (ع) عنه (ص) لانّه كان من عالم الإمكان ولم يكن له طريق الى ما فوق الإمكان لانّ الملائكة كلّ له مقام معلوم لا يتجاوزه بخلاف الإنسان ولم يكن منه ذلك المعراج الّا مرّتين كما في الاخبار ولا يلزم منه خرق السّماوات لارتفاع حكم الملك عن بدنه بغلبة الملكوت ، ولا استغراب في عروج البدن الطّبيعىّ الى الملكوت والجبروت لسقوط حكم الملك بل حكم الإمكان عنه مع بقاء عينه ، ولا غرو في كثرة وقائعه في المعراج فانّه من بسط الدّهر مع قصر الزّمان كما قال : وانّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون ، وقال أيضا : في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ، فقدر ساعة من الدّهر بإزاء قدر ساعة من الزّمان تكون كألف ساعة من الزّمان أو كخمسين الف ساعة ، وتكلّم علىّ (ع) ومدّ يده من وراء الحجاب كان بمقامه العلوىّ لا ببدنه الطّبيعىّ والفضل في المعراج بان يكون بالبدن الطّبيعىّ ولذلك كان من خواصّه (ص) لم يشاركه فيه علىّ (ع) واخبار المعراج وكيفيّة وقائعه مذكورة في المفصّلات ، ومن هذه الآية يظهر فضل نبيّنا (ص) على موسى (ع) حيث كان سيره الى الله باسراء الله وسير موسى (ع) من قبل نفسه ونفى الرّؤية عنه تأييدا بعد مسئلته وحصر الرّؤية في نبيّنا (ص) بدون مسئلته ، يعنى انّ محمّدا (ص) تحقّق بحقيقة السّمع والبصر بحيث لم يكن سمع الّا وهو سمعه ولا بصر الّا وهو بصره وما ذلك الّا بالتّحقّق بحقيقة السّمع والبصر وما ذاك التّحقّق الّا التّحقّق بحقيقة الأسماء والصّفات الّتى نفى شهودها عن موسى (ع) (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يعنى فأريناه ايّاها فرآها فتحقّق بها فصار بحيث لم يكن سمع وبصر الّا وهو سمعه وبصره فصار في حال يقال في حقّه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فعلى هذا قوله انّه هو السّميع البصير جواب لسؤال عن حاله (ص) بعد الاراءة كأنّه قيل : فما كان حاله بعد الاراءة؟ ـ فقال : تحقّق بالآيات والأسماء والصّفات ، أو حال مفيدة لهذا المعنى وجعل المفسّرون ضمير انّه لله اى انّ الله هو السّميع لكنّه خلاف ظاهر الآية لفظا (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا) قرئ لا يتّخذوا بالغيبة على الأصل وبالخطاب على الالتفات ، وان تفسيريّة أو مصدريّة ولا نافية أو ناهية والخطاب لبني إسرائيل مثل : كتبت اليه ان قم ، على قراءة الخطاب أو لامّة محمّد (ص) تعظيما لشأنهم حيث جعل غاية إتيان الكتاب لموسى (ع) عدم اتّخاذ أمّة محمّد (ص) من دو الله وكيلا يعنى انّ المقصود من إرسال الرّسل سابقا كان اتّعاظكم وان لا تتّخذوا يا أمّة محمّد (ص) (مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) مفعول اوّل للا تتخذوا ووكيلا مفعول ثان له مقدّم عليه وحمله على الجمع لجواز حمل فعيل بمعنى الفاعل على الجمع مفردا نحو حسن أولئك رفيقا ، أو نداء أو منصوب على الاختصاص ، أو مفعول لفعل محذوف (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أتى بمدحه عقيب ذكره تعليلا لجعل الكتاب هدى لذرّيّته (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) اى أخبرنا بنى إسرائيل بقضائنا (فِي الْكِتابِ) التّوراة أو اخبار النّبوّة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) وعد عقاب أوليهما (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) تنزيل الآية في بنى إسرائيل ومرّتى الإفساد بقتل زكريّا (ع) وبقتل يحيى (ع) ، والعلوّ الكبير استكبارهم وطغيانهم وخروجهم عن طاعة الأنبياء (ع) ، والعقوبة الاولى كانت على يد بختنصّر وجنوده وردّ الكرّة عليهم بردّ بهمن بن إسفنديار أساريهم وتمليكه دانيال عليهم وتبسّطهم في البلاد وتسلّطهم على العباد ثانيا ، والعقوبة الثّانية كانت بتسليط الفرس عليهم مرّة اخرى ، كذا قيل ، وعلى هذا فقوله عبادا لنا اولى بأس شديد بختنصّر وجنوده

٤٣٣

(فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) تجسّسوا وتفحّصوا المواضع الخفيّة من دياركم للقتل والأسر والنّهب (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) حتما (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) على الّذين بعثوا عليكم (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) ممّا كنتم أو منهم (إِنْ أَحْسَنْتُمْ) يعنى قلنا لهم ان أحسنتم أو ان أحسنتم يا قوم محمّد (ص) أو ان أحسنتم يا بنى إسرائيل الحاضرين في هذا الزّمان (أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) استعمال لها هاهنا من باب المشاكلة أو التّهكّم (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) العقوبة الآخرة (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) متعلّق بجاء أو متعلّق بالجزاء المحذوف والتّقدير فاذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا اى العباد اولى البأس وجوهكم بعثناهم عليكم ، أو فاذا جاء وعد الآخرة بعثناهم عليكم ليسوؤا وجوهكم (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ) مسجد كم الأقصى (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) ليهلكوا مدّة علوّهم أو الّذى استولوا عليه (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) بعد ذلك بتقدير القول أو خطاب لامّة محمّد (ص) لانّ الآية تعريض بهم أو خطاب للحاضرين من بنى إسرائيل (وَإِنْ عُدْتُمْ) الى طغيانكم (عُدْنا) الى عقوبتكم وهذه عقوبة دنيويّة لها أمد وانقطاع (وَجَعَلْنا) في الآخرة (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) محصورا فيها أو حاصرة لهم مانعة عن الخروج ، وتذكير الحصير امّا لكونه بمعنى المفعول أو لتشبيهه بالفعيل بمعنى المفعول ، وعن ائمّتنا (ع) انّهم فسّروا الافسادتين بقتل علىّ (ع) وطعن الحسن (ع) ، والعلوّ الكبير بقتل الحسين (ع) والعباد اولى البأس بقوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون وترا لآل محمّد (ص) ووعد الله بخروج القائم (ع) وردّ الكّرة عليهم بخروج الحسين (ع) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب حين كان الحجّة القائمة (ع) بين أظهر هم وتملّك الحسين (ع) حتّى يقع حاجباه الى عينيه وفسّر بعلىّ (ع) ويوم الجمل وبنى أميّة وبالقائم (ع) وأصحابه على نحو يظنّ انّه تنزيل لا تأويل (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) هذا اشارة الى الصّورة التّدوينيّة من جملة القرآن أو من قرآن الولاية أو الى الرّسالة أو الى النّبوّة أو الى الرّسول (ص) أو الى شخص الامام فانّ كلّا من هذه هو المحسوس المعلوم للخلق وان كان المقصود حقيقة هي الولاية والهداية الدّلالة والمراد بالّتى هي أقوم الملّة الّتى هي أقوم ملل الأنبياء لكون المنزّل عليه أقوم من سائر الأنبياء والمنزّل لهم أقوم من سائر الأمم ، أو الطّريق الّتى هي أقوم من سائر الطّرق من طرق النّفس وهي طريق القلب ، أو الطّريقة الّتى هي أقوم من طريق النّبوّة وهي الولاية وهي المقصود فانّها غاية إرسال الرّسل وإنزال الكتب وقد فسّرت في اخبار عديدة بالولاية باختلاف اللّفظ ، هذا بالنّسبة الى من لم يدخل في الإسلام بعد وهو مستعدّ للدّخول أو دخل ولم يدخل في الايمان بالبيعة الخاصّة الولويّة وامّا بالنّسبة الى من قبل الدّعوة الظّاهرة العامّة بالبيعة العامّة النّبويّة ودخل في الايمان بالبيعة الخاصّة الولويّة وبالنّسبة الى من لم يدخل في البيعتين ولم يستعدّ للدّخول بإنكار الآخرة حالا أو قالا فيكون بشارة أو إنذارا ولذلك عطف على يهدى قوله (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) اى يعملون طبق ما أخذ عليهم في تلك البيعة (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَ) يخبر (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أو يبشّر انّ الّذين لا يؤمنون ، على ان يكون من عطف الجملة أو عطف المفرد ويكون ذلك بشارة اخرى للمؤمنين (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) يدعو بما هو شرّ في نفسه وهو لا يعلم انّه شرّ نحو دعائه بما هو خير وهو يعلم انّه خير ، والدّعاء بما لا يعلم انّه خير له

٤٣٤

ومرضىّ للحقّ مذموم ، ورسم خطّ القرآن على إسقاط الواو من يدع في الكتابة اشارة الى نقصان دعاء الإنسان هذا الدّعاء (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) يدعو بما لا يعلم من غير صبر وتروّ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) اى نيّرى اللّيل والنّهار وهما الشّمس والقمر أو ذوي آيتين ويؤيّد هذين التّقديرين قوله ليعلموا عدد السّنين فانّه يعلم عدد السّنين والحساب باختلاف القمر في الأحوال ، أو جعلنا نفس اللّيل والنّهار آيتين ويكون المحو عبارة عن نقصان النّور ، وتأديته بهذه العبارة ليذهب السّامع بحسب الاحتمال كلّ مذهب ممكن ، وهذا من سعة وجوه القرآن وليمكن تطبيق الآية على جميع مراتب اللّيل والنّهار فانّ اللّيل والنّهار كما مرّ مرارا ليسا مختصّين بالشّهودين المحسوسين بل يجريان في جميع مراتب الوجود فانّ الملكوت السّفلى بالنّسبة الى الملك انقص نورا وان كانت مجرّدة تجرّدا برزخيّا فهي ليل بالنّسبة اليه ، والملك بالنّسبة الى الملكوت العليا ليل والملكوت العليا لاحتجابها بحجاب التّقدّر بالنّسبة الى النّفوس ليل ، والنّفوس لاحتجابها بالتّعلّق التّدبيرىّ بالنّسبة الى الجبروت ليل ، وكلّ ذلك بجهته الامكانيّة ليل بالنّسبة الى جهته الالهيّة وهكذا الأمر في العالم الصّغير بإضافة أحواله من القبض والبسط والسّقم والصّحّة والفقر والسّعة والخوف والأمن ، والمعنى جعلنا اللّيل والنّهار في كلّ من مراتبهما آيتين (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) اى نقصنا نور آية هي اللّيل أو آية مضافة الى اللّيل وهي القمر (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) اى آية هي النّهار أو آية مضافة الى النّهار ومبصرة من المجاز العقلىّ أو من أبصره إذا جعله ذا ابصار ، أو من ابصر إذا أضاء أو من أبصر إذا صار اهله بصراء (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) غاية لابصار آية النّهار وتقديم آية اللّيل لتقدّمها طبعا في سلسلة الصّعود وفي انظار ذوي الآية وهم البشر ، وتقديم غاية النّهار لشرافتها ولانّ غاية اللّيل غاية لهما (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) بسبب اختلاف القمر بالنّسبة الى أوضاعه مع الشّمس هلالا وبدرا ومحاقا (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) يعنى ليس انتظام اللّيل والنّهار والشّمس والقمر فقط لانتفاعكم بل كلّ شيء في العالم من المادّيّات الارضيّات والسّماويّات والمجرّدات المتقدّرات والمتعلّقات وغير المتعلّقات نظمناه نظما أنيقا يعجز عن ادراك دقائق حكمه ومصالحة عقول البشر ، والتّفصيل كما يستعمل في التّمييز والتّبيين يستعمل في التّنظيم الأنيق فانّه نحو تبيين لدقائق الحكم وتمييز لكلّ من الدّقائق عن الآخر (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الطّائر الّذى يطير ، ولمّا كان العرب يتيّمنون بطيران الطّائر الى اليمين ويتشأّمون بطيرانه الى اليسار خصوصا بعض الطّيور جعل أسماء لمطلق ما يتيّمن ويتشأمّ به ، ثمّ استعمل في مطلق سبب الخير والشّرّ والمعنى ألزمناه سبب خيره وشرّه في عنقه كأنّه قلادة فيه (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) مكتوبا بأيدي ملائكتنا ممّا هو عبارة عن اللواح نفسه أو ما هو خارج عنها (يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ) قائلين اقرء (كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) محاسبا لا حاجة لك الى محاسب آخر لكشف الغطاء وحدّة البصر وحضور الأعمال مجسّما ومكتوبا وشهود الميزان وتطاير الكتاب السّجّينىّ الى اليسار والعلّيينىّ الى اليمين (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) في الصّغير رسول العقل وفي الكبير واحدا من الأنبياء والأولياء (ع) (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) اى منعميها قرئ أمرنا مفتوح العين من الثّلاثىّ المجرّد وآمرنا ممدود الهمزة من باب الأفعال وقرئ أمرنا بكسر العين من الثّلاثى ، وامرّنا مشدّد العين ، والكلّ بمعنى كثّرنا ، ويجوز ان يكون أمرنا بفتح العين وآمرنا من باب الأفعال من الأمر

٤٣٥

ضدّ النّهى ؛ ويكون المعنى امرناهم تكوينا بالفسق (فَفَسَقُوا فِيها) أو يكون المعنى امرناهم تكليفا بالعبادات ففسقوا ، ويجوز ان يكون امرّنا بتشديد وآمرنا من باب الأفعال من امر بتثليث العين بمعنى صار أميرا ويكون المعنى جعلنا مترفيها ولاة عليها ففسقوا ، وتخصيص المترفين على المعاني الاول لانّ غيرهم ينظرون إليهم فيتّبعونهم ولانّهم اقدر وأسرع من غيرهم الى الفجور ، ولانّهم افرغ قلبا واجرأ فيكون حيلتهم في ارتكاب الفجور أكثر وأنفذ (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) بنزول العذاب والإهلاك بعد فسوقهم (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) قيّده ببعد نوح لانّ القرون الّتى كانت قبله لم يكن فيهم ما كان فيمن كان بعده ، أو لانّ ما كان فيهم لم يصل إلينا كما وصل ما كان فيمن كان بعده يعنى أهلكنا كثيرا من بعد نوح فلا نبالى باهلاك الفاسقين منكم (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فلا تجترئوا على الّذنوب لعلم الله بها ومؤاخذته عليها (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) الحاضرة وهي الدّنيا ونعيمها بان كان إرادته في اعماله متعلّقة بها (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من له بدل البعض ، وتقييد التّعجيل للاشارة الى انّ ذلك منوط بمشيّة الله لا بإرادة المريد وهمّه على ما يريد وليس كلّ مريد يصل الى مراده ولا من يصل يصل الى تمام مراداته (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) مطرودا ، عن النّبىّ (ص) معنى الآية : من كان يريد ثواب الدّنيا بعمل افترضه الله عليه لا يريد به وجه الله والدّار الآخرة عجّل له ما يشاء الله من عرض الدّنيا وليس له ثواب الآخرة (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها) اللّائق بها لا السّعى الّذى زعموه بآرائهم انّه سعيها ، وجعل القرينتين مختلفتين في الشّرط والجزاء للاشعار بانّ استحقاق العذاب انّما هو بصيرورة ارادة العاجلة سجيّة لا بإرادة ما واحدة جزئيّة واستحقاق الثّواب انّما هو بإرادة واحدة جزئيّة وسعى واحد بشرط الايمان والى هذا المعنى أشار تعالى بقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ، وللاشعار بانّ استتباع صور الأعمال الحسنة لتعجيل خيرات الدّنيا عرضىّ محتاج الى الجعل بخلاف استتباعها لغاياتها (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قيّده بالايمان وهو الولاية الّتى تحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة لانّ العمل بدون الولاية لا اثر له ولا فائدة فيه كما ورد : لو انّ عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولىّ امره لأكبّه الله على منخريه في النّار (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) مجزيّا عليه (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل تفصيلىّ من كلّا (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) المضاف وهو الولاية المطلقة أو هو التفات من التّكلّم الى الغيبة أو هو استيناف خبر مبتدء محذوف كأنّه قيل : من اىّ شيء كان الأمداد ، من استحقاقهم أو من فضل الله؟ ـ فقال : ذلك من عطاء ربّك (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) من القوى والمدارك وما يحتاج المحسن والمسيء اليه من الأرزاق والملبوس والمسكون والأسباب الّتى يتوسّل بها الى التّعيّش والأعمال الحسنة والسّيّئة (مَحْظُوراً) منهما (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) لتتنبّه للتّفاضل في الآخرة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ) يعنى أكثر درجات أو أعظم درجات بحسب أنفسها من درجات الدّنيا (وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) بالاضافة الى تفضيل درجات الدّنيا (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ) الخطاب عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب أو خاصّ به (ص) في اللّفظ على ، ايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو على طريق سريان خطاب المتبوع الى الاتباع ، أو سريان خطاب الكلّ الى الاجزاء يعنى لا تجعل مع الله في الآلهة أو العبادة أو الطّاعة أو الوجود ، أو لا تجعل مع الله بحسب مظاهره الّذين هم مظاهر الولاية (إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ)

٤٣٦

فتبقى فانّ القاعد يبقى متأخّرا عن الرّفقة (مَذْمُوماً) يذمّك الله وخواصّه (مَخْذُولاً) عن نصرة الله ونصرة خواصّه (وَقَضى رَبُّكَ) تكوينا كما امر تكليفا أو امر تكوينا وتكليفا على استعمال القضاء بمعنى إيصال الأمر الى المأمور سواء كان بنحو التّكوين أو التّكليف لكن في امره التّكوينىّ لا يقع التّخلّف وفي امره التّكليفىّ قد يقع التّخلّف أو ثبت في عالم قضائه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ان مصدريّة ولا نافية أو ناهية أو مفسّرة ولا ناهية والمعنى قضى ربّك ان لا يقع منكم عبادة تكوينا الّا له أو ان لا يقع ولا يصحّ تكوينا واختيارا أو لا يصحّ اختيارا وتكليفا منكم عبادة الّا له.

بيان انحصار العبادة في الله

اعلم ، انّ الله تعالى منزّه عن المثل والثّانى ولكن له المثل الأعلى والإنسان مثل أعلى له تعالى ، فمثل الحقّ تعالى في العالم الكبير باملاكه وأفلاكه وأرضه ومواليده مثل النّفس الانسانيّة في العالم الصّغير بقواها العالية والدّانية وأرواحها الحيوانيّة السّماويّة واعضائها الارضيّة وصورها الذّهنيّة ، فشأن الصّور الّذهنيّة بالنّسبة الى النّفس شأن الملائكة المقرّبين الّذين لا شأن لهم الّا التّعلّق الصّرف ولا انانيّة لهم ولا استقلال بوجه من الوجوه وشأن القوى المدركة والمحرّكة شأن النّفوس وعالم المثال ، وشأن الأعضاء شأن عالم الطّبع ، وكما انّه ليس للصّور الذّهنيّة شأن الّا الانقياد الصّرف والعبوديّة المحضة كذلك ليس للملائكة الّا الانقياد والعبوديّة ، وكما انّ الأعضاء إذا كانت سليمة غير مؤفة شأنها الانقياد للنّفس والعبوديّة لها كذلك عالم الطّبع بشراشره إذا كان سليما شأنه الانقياد والعبوديّة ، وكما انّ الأعضاء إذ طرأ عليها الآفة قد تخرج عن انقياد النّفس كذلك أجزاء العالم إذا كانت مؤفة بآفة إضلال الشّيطان أو بآفة العجب والغرور كما في افراد الإنسان والشّياطين والجنّ قد تخرج عن انقياد الله وطاعته ، وكما انّ الأعضاء المؤفة الخارجة عن طاعة النّفس والمنقادة للطّبع بحكم الآفة غير خارجة عن انقياد النّفس مطلقا كذلك أجزاء العالم المؤفة إذا خرجت عن طاعة الله ودخلت في طاعة الشّيطان وعبدت بحكومته سائر أجزاء العالم من الملائكة والسّماويّات والارضيّات والشّياطين والجنّ اختيارا كما انّها عبدت الشّيطان اوّلا من حيث لا تشعر لم تكن خارجة عن طاعة الله تكوينا ، ولمّا كان أجزاء العالم مظاهر لله الواحد الأحد القهّار بحسب أسمائه اللّطفيّة والقهريّة كان عبادة الإنسان لاىّ معبود كانت عبادة لله اختيارا أيضا بخلاف طبائع الاناسىّ فانّها ليست مظاهر للنّفس الّا بوجه بعيد لا يعلمه الّا الرّاسخون ، ولذلك لم تكن الأعضاء المؤفة في حكم الآفة منقادة للنّفس عبادة لها مطلقا فالإنسان في عبادتها اختيارا للشّيطان كالابليسيّة وللجنّ كالكهنة وتابعي الجنّ وللعناصر كالزّردشتيّة وعابدى الماء والهواء والأرض وللمواليد كالوثنيّة وعابدى الأحجار والأشجار والنّباتات كالسّامريّة وبعض الهنود الّذين يعبدون سائر الحيوانات ، وكالجمشيديّة والفرعونيّة الّذين يعبدون الإنسان ويقرّون بالهته وللكواكب كالصّابئة وللملائكة كأكثر الهنود وللّذكر والفرج كبعض الهنود القائلين بعبادة ذكر الإنسان وفرجه ، وكالبعض الآخر القائلين بعبادة ذكر مهاديو ملكا عظيما من الملائكة وفرج امرأته كلّهم عابدون لله من حيث لا يشعرون ، لانّ كلّ المعبودات مظاهر له باختلاف أسمائه ولذلك قيل :

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست

يقين كردى كه دين در بت پرستى است

اگر كافر ز بت آگاه بودى

چرا در دين خود گمراه بودى

وقال المولوى المعنوىّ قدس‌سره :

ساخت موسى قدس در باب صغير

تا فرود آرند سر قوم زحير

زانكه جبّاران بدند وسر فراز

دوزخ آن باب صغير است ونياز

آنچنانكه حق ز لحم واستخوان

از شهان باب صغيرى ساخت هان

ساخت سرگين دانكى محرابشان

نام آن محراب مير وپهلوان

چون عبادت بود مقصود از بشر

شد عبادتگاه گردنكش سقر

٤٣٧

لكن تلك العبادة لمّا لم تكن بأمر تكليفىّ من الله لم يستحقّوا الأجر والثّواب عليها بل استحقّوا العقوبة والعذاب ، فعلى هذا معنى الآية قضى ربّك قضاء حتما لا تخلّف عنه ان لا يعبد عبد عبادة لشيء من الأشياء الّا كانت العبادة له وبقضائه وامره التّكوينىّ ، وقضى قضاء حتما ان لا يصحّ العبادة من عابد لمعبود الّا إذا كانت بإذن من الله وقضى قضاء تكليفيّا بان امر على السنّة أنبيائه (ع) ان لا تعبدوا الّا ايّاه فمن كان في عبادته ناظرا الى غيره فقد خرج عن قضائه وامره التّكليفىّ ولم تكن العبادة باذنه فلم تصحّ منه واستحقّ العقوبة من الله تعالى (وَبِالْوالِدَيْنِ) وان تحسنوا أو ان أحسنوا حذفه اكتفاء بقوله (إِحْساناً) وهذا غاية التّعظيم للوالدين حيث قرن إحسانهما من عبادة نفسه والوالدان اعمّ من الجسمانيّين والرّوحانيّين العلويّين والسّفليّين فانّ السّفليّين إحسانهما ان تصاحبهما في الدّنيا معروفا وقد مضى في سورة البقرة تفصيل وتحقيق تامّ للوالدين وإحسانهما (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) الهرم والشّيخوخة (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) لا تنزجر منهما ولا تظهر انزجارك لهما وورد : لو علم الله شيئا ادنى من افّ لنهى عنه وهو من ادنى العقوق (وَلا تَنْهَرْهُما) ولا تقهرهما بان تزجرهما (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) جميلا (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) مستعار من تذلّل الطّيور فانّها تخفض جناحها عند التّذلّل (مِنَ الرَّحْمَةِ) من رحمتك لهما فانّهما استحقّا بافتقارهما إليك وأنت كنت في نهاية الفقر إليهما رحمة منك ولا تكتف بإحسانك والرّحمة لهما بل ادع الله لهما في حيوتهما ومماتهما (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) عن النّبىّ (ص) انّه قال من غير سابقة رغم انفه ؛ ثلاث مرّات ، قالوا من يا رسول الله (ص)؟! قال : من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ولم يدخل الجنّة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) وعد على الإحسان والرّحمة بالنّسبة الى الوالدين (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) خصّه بالتّخاطب بعد تعميم الخطاب اشعارا بانّه (ص) أصل في هذا الحكم وانّ أصل الحقوق بيده وانّ أصل ذوي القربى هو القريب الرّوحانى له (ص).

اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب عديدة بحسب بدنه ونفسه وقلبه وروحه وعقله وسرّه وله في كلّ من المراتب قرابات وقراباته بحسب مراتب القرب متفاوتة بعضها أقرب وبعضها قريب ولكلّ بحسب مرتبته حقّ ، هذا في العالم الكبير وله أيضا في عالمه الصّغير قرابات من نفسه وقواها المدركة والمحرّكة وبدنه وأعضائه ولكلّ أيضا حقّ كالقرابات الجسمانيّة كالعمودين وفروع الأصول حقوقهم ما فرض لهم ، وبيّن من الأموال في المواريث ومن تعهّد الأحوال وبشر الوجه وقضاء الحاجات ممّا قرّر في صلة الأرحام الصّوريّة والقرابات الصّدريّة النّفسيّة ، كالدّاخلين في الإسلام حقوقهم النّصح وتعليم الأحكام وبشر الوجه وتعهّد الحال وقضاء الحاجات وستر العيوب وحفظ الغيب وغير ذلك ممّا قرّر في حسن المعاشرة مع المسلمين ، والقرابات القلبيّة الايمانيّة كالمبتاعين بالبيعة الخاصّة الولويّة حقوقهم مع ذلك بذل الوسع في خدمتهم والمواساة بالمال والإيثار فيما يقتضي الإيثار والتّرحّم والدّعاء لهم بظهر الغيب وغير ذلك ممّا قرّر في حقّ المؤمنين ؛ هذا للمسلمين والمؤمنين الّذين هم بمنزلة الاخوة في القرابات الجسمانيّة. وامّا المسلمون بالنّسبة الى النّبىّ (ص) والمؤمنون بالنّسبة الى الامام (ع) الّذى هو كالأب وهم كالأولاد حقوقهم عليه وحقوقه عليهم مع تلك الحقوق امر آخر ، وكذلك النّبىّ (ص) بالنّسبة الى خليفته والامام بالنّسبة الى امام بعده حقوقهم غير ذلك ، فاذا عرفت ذلك عرفت انّ تفسير ذي القربى بالقرابات الصّوريّة وبالقرابات الاسلاميّة وبالقرابات الايمانيّة وبالإمام وبأقرباء محمّد وبآل محمّد (ص) كلّها صحيح ، وكذا تفسير الحقّ المالى

٤٣٨

بالحقّ الميراثىّ وبفدك لفاطمة (ع) وبالتّصدّق من أصل المال على الأقرباء وبالمواساة وقضاء الحاجات والخدمة للإخوان الاسلاميّة والايمانيّة وبتعظيم النّبىّ والامام وبحقّ الامامة للإمام كلّها صحيح فاختلاف الاخبار في تفسير الآية لكثرة مراتبها وسعة وجوهها والكلّ صحيح من غير خلل (وَالْمِسْكِينَ) الّذى أسكنه العجز عن الكسب للقوت وحقّه من الزّكاة والتّصدّقات أو أعجزه الشّيطان والنّفس عن الوصول الى الامام (ع) بعد الوصول الى النّبىّ (ص) أو عن السّلوك الى الله بعد الوصول الى الامام (وَابْنَ السَّبِيلِ) المنقطع عن بلاده السّائر إليها ولم يكن له زاد بالفعل أو بالقوّة ولو بالاستدانة ، أو المنقطع عن الامام (ع) السّائر اليه ظاهرا أو باطنا (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) بإعطاء غير المستحقّ أو إعطاء المستحقّ زائدا عن حقّه ، ولمّا امر بإيتاء الحقوق للمستحقّين نهى عن التّبذير الّذى هو إيتاء غير المستحقّ وإيتاء المستحقّ زائدا عن الحقّ الّذى هو السّرف فانّ الإيتاء من غير تبذير هو الاقتصاد فالتّبذير هاهنا اعمّ من الإسراف وان كان قد يقابله ، ولمّا كان الأمر بإيتاء الحقوق مستلزما للنّهى عن التّقتير بمفهوم المخالفة اكتفى عنه به ونهى صريحا عن السّرف ، ولمّا لم يختصّ إيتاء الحقّ بالمال الصّورىّ ولا بالقرابات الصّوريّة بل يعمّ سائر الحقوق وجميع القرابات في العالم الكبير والصّغير ، ورد عن النّبىّ (ص) انّه مرّ بسعد وهو يتوضّأ فقال : ما هذا السّرف يا سعد؟ ـ قال : أفى الوضوء سرف؟ ـ قال : نعم وان كنت على عين جارية ، وورد عن الصّادق (ع): انّه سئل أفيكون تبذير في حلال؟ ـ قال : نعم ، والسّرّ فيه انّ من كان على عين جارية وزاد في تحريك القوى على ما يؤدّى به الفرض والنّدب كان ذلك منه استعمالا للقوى وتوجّها الى القوى المحرّكة من غير استحقاق وان لم يكن سرف وتبذير هناك للماء ، وخلاصة ما يستفاد من الاخبار باختلافها انّ إنفاق المال أو الكلام أو العلم أو الحكمة أو العرض والجاه أو قوّة القوى أو الإنفاق على النّفس وقواها بمشتهياتها من غير التفات الى امر الله وامتثال له تبذير كائنا ما كان ، وكلّ ذلك إذا كان بأمر من الله والتفات اليه وامتثال له اقتصاد كائنا ما كان ولذلك ذكروا انّه لو جعلت الدّنيا كلّها لقمة وأطعمتها مؤمنا ما كان سرفا (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ) المنفقين في غير طاعة الله وبالغفلة عن أمر الله (كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لانّ الإنفاق إذا لم يكن بأمر الله كان بأمر الشّيطان فانّه يترصّد العبد وغفلته عن امر الله فيتصرّف فيه ويحكم عليه كما يحكم على شياطينه (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) عطف لبيان العلّة يعنى انّ الشّيطان كفور لربّه والمبذّر المنفق من غير التفات الى امر الله كفور لربّه فهو أخ للشّيطان في الكفوريّة (وَإِمَّا تُعْرِضَنَ) ان تعرض (عَنْهُمُ) عمّن أمرت بإيتاء حقوقهم بترك إعطاء مسئولهم لعدم استعدادهم للمسؤل أو عدم وجدان مسئولهم حين سؤالهم (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) بها يستعدّون للمسؤل أو بها تجد المسؤل ويتيسّر لك الإعطاء واكتفى بابتغاء الرّحمة عن عدم الاستعداد وعدم الوجدان لاستلزام عدمها لابتغاء الرّحمة من حيث انّهما رحمة والفاقد لهما إذا كان له شأنيّة الوجدان يطلبهما واكتفى بذكر الرّحمة عن الاستعداد والسّعة لكونهما مصداقا لها (تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) سماعه لا معسورا سماعه وهو القول الّذى به يطيب قلوبهم ، روى انّ النّبىّ (ص) لمّا نزلت هذه الآية كان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطى قال : يرزقنا الله وايّاكم من فضله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) عبّر عن التّقتير والإسراف على سبيل الكناية فانّ التّقتير والإعطاء في الأغلب بقبض اليد وبسطها وهو تأكيد للاوّل وبيان لغاية الإسراف كما انّ قوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) بيان لمبدء التّبذير كما أشير اليه عند تفسيره (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) من المال كما ورد في

٤٣٩

نزوله انّه (ص) كان عنده أوقية من الّذهب فكره ان تبيت عنده فتصدّق بها فأصبح وليس عنده شيء وجاء من يسأله ولم يكن عنده ما يعطيه فلامه السّائل فأدّبه الله تعالى أو محسورا من اللّباس كما ورد انّه لم يكن عنده شيء فأعطى السّائل قميصه (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فلا تقدر أنت على بسط الرّزق على نفسك بالإمساك ولا على غيرك بإعطاء جميع ما عندك فهو تعليل للنّهى عن القبض والبسط (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) فيعلم أحوالهم الباطنة ويبصر أحوالهم الظّاهرة فيعلم مصالحهم ويعطى ما يصلحهم ويمنع ما يفسدهم (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) صرف الخطاب عنه (ص) الى القوم لأنّهم المقصودون بالخطاب اصالة (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) إفلاس من املق إذا افتقر كانوا يقتلون أولادهم بوأد البنات خوف الفقر (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) بالغة في القبح (وَساءَ سَبِيلاً) لانّه سبيل الى النّار وقد عدّ الزّنا من أكبر الكبائر وعن النّبىّ (ص) في وصيّته لعلىّ (ع): يا علىّ في الزّنا ستّ خصال ثلات منها في الدّنيا وثلاث في الآخرة : فامّا الّتى في الدّنيا فيذهب بالبهاء ويعجّل الفناء ويقطع الرّزق ، وامّا الّتى في الآخرة فسوء الحساب وسخط الرّحمن والخلود في النّار (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) بأسبابه المقرّرة في الشّرع من الارتداد بعد الايمان وتكرار بعض المعاصي الّتى لها حدّ بعد مراتب الحدّ وقتل النّفس والزّنا بعد الإحصان واللّواط ، ولمّا كان الحقّ هو الولاية كما مرّ مرارا ، والولاية ظهور الحقّ الاوّل تعالى شأنه فالمعنى على هذا ولا تقتلوا النّفس الّا بفاعليّة الحقّ لا بفاعليّة أنفسكم كما قال المولوىّ قدس‌سره :

آنكه از حق يابد أو وحي وخطاب

هر چه فرمايد بود عين صواب

آنكه جان بخشد اگر بكشد رواست

نايب است ودست أو دست خداست

فما لم يخرج الإنسان من حكم نفسه ولم يدخل في حكم الله أو حكم من دخل في حكم الله لا يجوز له قتل النّفس أو الحكم بالقتل كائنا من كان القاتل وكائنا من كان المقتول كما قال المولوىّ قدس‌سره من لسان علىّ(ع):

من چو تيغم وان زننده آفتاب

ما رميت إذ رميت در حراب

رخت خود را من زره برداشتم

غير حق را من عدم انگاشتم

ز اجتهاد واز تحرّى رسته ام

آستين بر دامن حق بسته ام

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) غير مستحقّ للقتل (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) لمن يلي امره ممّن هو اولى بميراثه وهم جميع الورثة (سُلْطاناً) تسلّطا على القاتل بالقصاص أو الرّجوع الى الدّية وإذا جعلنا لولىّ المقتول سلطانا على القاتل (فَلا يُسْرِفْ) مريد قتل النّفس (فِي الْقَتْلِ) بان يقتل من غير استحقاق فانّه إسراف لانّه حرّك أعضائه وقتل من غير امر من الله ، وقرئ فلا تسرفوا خطابا لمريدى القتل ، أو المعنى فلا يسرف الولىّ في القتل بان يقتل أكثر من واحد بواحد أو يمثل المقتصّ منه ، أو الآية كما ورد نزلت في قتل الحسين (ع) والمعنى فلا يكن إسراف في القتل ولو قتل جميع أهل الأرض بالحسين (ع) كما فسّرت في الاخبار به (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) انّ المقتول أو الولىّ كان منصورا بتسليط الله وليّه ونصرة الحكّام وليّه والمعنى على التّفسيرين الاوّل والثّالث ظاهر ، وعلى الثّانى يكون تعليلا للنّهى اى نهينا عن الإسراف لانّ ولىّ المقتول كان منصورا وقادرا على الإسراف (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)

٤٤٠