تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

القوّة الروحية القادرة على الثبات والاستمرار في حمل الرسالة والجهاد في سبيلها لتبقى للموقف قوته ، وللرسالة دورها في حركة الحياة ، في وعي الأعداء والأصدقاء معا ، وفي تعميق إحساس الدعاة بهذا الإمداد الروحي الذي يعيشه المؤمن مع شعوره بالاستسلام الكلّي لله ورعايته ، فلا يشعر بالضعف أمام الآخرين ، ولا بالخوف أمام المجهول ، كنتيجة للتوكل في العقيدة.

* * *

لا قوة لأحد إلا بإذن الله

وهذا ما أراد هود تأكيده أمام قومه من خلال موقفه : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) ، فهو مصدر القوة في الحياة لأنه مصدر حياة كل حيّ ، وهو المهيمن على كل شيء ، فلا تستطيعون إضراري إذا لم يأذن الله بذلك ، لأنكم لا تملكون القوّة الذاتية ، ولا يملكها أحد من خلقه. (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) في ما يحمله الأخذ بالناصية ـ وهي أعلى الجبهة ـ من معنى كنائي ، يفيد السيطرة على الأمر كله من جميع جوانبه. وهذا ما يوحي بحماية الإنسان المتوكل على الله بوعي داخلي ، من كل سوء (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في ما تمثله عقيدة الإيمان من قاعدة ، وفي ما تتحرك به شريعته من خطّ ونهج ، للفكر وللسلوك معا ، ولهذا فإنني سأظل سائرا في هذا الخط المستقيم ، ولن أنحرف عنه تحت تأثير أي ضغط أو تهديد ، أو طمع أو شهوة ، مما تحاولون إثارته أمامي بأساليبكم المتنوّعة المليئة بالترغيب والترهيب ، لأنّ ذلك هو معنى الإيمان بالله الذي يجعل الحياة ، بكل آفاقها وساحاتها ، تبدأ منه وتنتهي إليه.

* * *

تحفّظ على فكرة

وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل من التحدّي الذي أطلقه هود في

٨١

وجه قومه ، معجزة لهود ، وأيّد ذلك صاحب الميزان في تفسيره بقوله : «ذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرّد في صورة الحجة ، وفيها قولهم (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) ، ومن المستبعد جدا أن يهمل النبيّ هود عليه‌السلام في دعوته وحجته التعرض للجواب عنه ، مع كون هذا التحدّى والتعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة» (١).

ونحن نتحفّظ على هذه الاستفادة ، لأن سياق الآية هو ردّ التحدي بصلابة في الموقف ترفض التراجع ، والتنازل ، أمام التهديدات ، لا المجابهة بالبيّنة التّي أرادوها ، لأن ما أرادوه كما يبدو ، هو المظاهر الخارقة للعادة حسّيا ، أو لأنّ ما ذكروه لم يكن طالبا للبيّنة ، بقدر ما كان إنكارا عناديا لما قدّمه من البيّنة ، فهم ليسوا في موضع من يبحث عن الحقيقة من موقع الحوار ، بل هم في وضع من يريد إنكار ضوء الشمس. كما أن موقف هود ، هو موقف من يريد إنهاء الحوار ، لا البدء في حوار جديد حول المعجزة الجديدة.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٠ ، ص : ٢٩٠.

٨٢

الآيات

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)(٦٠)

* * *

معاني المفردات

(لَعْنَةً) : أي أنهم فعلوا ما يستوجب اللعن دنيا وآخرة. ومعني اللعن البعد عن كل خير.

* * *

استكمال الحجة

ويستكمل هود حجته عليهم في نهاية المطاف ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أى إن تتولّوا وتعرضوا عن الإيمان بالرسالة ، فهذا شأنكم ومسئوليتكم التي تتحملونها تجاه مصيركم الذي عرّفتكم سلبيّاته وإيجابياته على مستوى الكفر والإيمان ، وبذلك فقد أدّيت ما عليّ ، وألقيت عليكم الحجّة من الله ، (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) ولم أدّخر جهدا ، على مستوى المضمون والأسلوب ، (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) فلستم أوّل الكافرين ، ولستم آخر البشر ، فإذا لم تؤمنوا فلن ينتهي الإيمان من العالم ، فسيأتي قوم آخرون يستخلفهم الله ليعمروا الأرض ،

٨٣

وليعلموا بطاعته ، ويسيروا على هداه ، (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) لأنه الغني عن عباده في طاعتهم ومعصيتهم ، فلا تنفعه طاعة من أطاعه ، ولا تضرّه معصية من عصاه ، بل هم الرابحون في طاعته ، والخاسرون في معصيته ، لأن الله لم يأمرهم إلا بما فيه صلاحهم ، ولم ينههم إلا عما فيه فسادهم ، (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) بما يوحيه ذلك من إحاطة بكل الأشياء علما وملكا وسيطرة ، ولذلك فلن يفلت أحد منه ، لأنه محيط بهم إحاطة الحافظ بالمحفوظ.

* * *

ونزل العذاب على عاد ونجي هود

... وجاء أمر الله ، ونزل العذاب ، وتساقط كل الذين كانوا يستعلون على الناس بالقوّة الكبيرة التي كانوا يملكون ، ويتمرّدون من خلالها على الله ورسله ورسالاته ، فإذا بهم أعجاز نخل خاوية ، فلا ترى لهم من باقية ، وبقيت الحياة ، لمن كانوا دعاة إلى الإيمان بالله ، والعاملين في سبيله ، لأنهم خدموا الحياة من موقع ارتباطها بالله ، والتزامها برسالته.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) في ما يرحم الله به عباده المؤمنين ، مما يحيطهم به من ألطافه ، ويرعاهم به من حنانه وعطفه (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) مما أنزله الله على قومه من الكافرين.

* * *

لا عذر للضعفاء في الاستسلام لواقعهم

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) وتلك هي قصة العذاب الذي ينزله الله بعباده نتيجة لأسباب تستدعيه ، فإن الله يعذب الجاحدين بآياته ، العاصين رسله بعد إقامة الحجة عليهم بما لا يدع لهم مجالا لريب أو لشبهة ، المستسلمين للجبابرة الطغاة المعاندين للحق ، في ما يأمرونهم به من الكفر والضلال ، فإذا وقفوا بين أمر الله ، وأمر هؤلاء ، تركوا

٨٤

أمر الله ، واتبعوا أمرهم ، وهم يعلمون ، بوحي فطرتهم ، أن ما يدعوهم إليه الله هو الحق ، وأنّ ما يدعو إليه هؤلاء هو الباطل ، ولكنهم يضعفون أمامهم ، وتتساقط مواقفهم بسقوط إرادتهم ، والله ـ سبحانه ـ لا يرى للضعفاء عذرا في الاستسلام لحالة الضعف أمام الأقوياء ، إذا استطاعوا أن يأخذوا بأسباب القوة ، ولو بالانتقال إلى موقع آخر يمكنهم من ذلك.

وفي هذه الفقرة إيحاء بأن الغالب في ضلال الشعوب المستضعفة ، هو سيطرة القوى المستكبرة التي تقودها إلى ذلك ، كظاهرة من الظواهر الاجتماعية لتفاوت مواقع القوّة والضعف بين الناس على أكثر من مستوى في بعض المجتمعات.

* * *

درس من تجربة هود

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) في ما تمثله اللعنة من البعد عن ساحة رحمة الله ، بما أنزل الله بهم من العذاب ، ليبقى ذلك إعلانا عن الطابع العام الذي يغلب على تلك المرحلة من التاريخ ، ودرسا لكل من يسير في هذا الاتجاه. (أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) ليظل هود الوجه الرسالي المشرق الذي تلتقي في شخصيته الروح الرسالية المنفتحة على الواقع بكل سعة الصدر ومرونة الصبر ، والإرادة القويّة التي تواجه التحديات بصلابة دون أن تتنازل أو تتراجع أمام تهاويل المخاوف التي تثار حولها ، والحكمة العميقة الواعية التي تواجه بها الذهنيات البدائية لهؤلاء الناس الذين يملكون قوّة الجسد دون قوّة الفكر ، لعملهم على تنمية أجسادهم دون تنمية أفكارهم. لذلك استخدم هو أساليب بسيطة في الدعوة ، حيث تطرح الفكرة ببساطة لا تحوجهم إلى بذل الجهد في فهم الدعوة. وكانت الأساليب العملية في الحركة التي ترقّ عند الحاجة إلى اللين ، وتعنف عند الحاجة إلى العنف ، دون أي تأثير على موقف عاد الكافر المتمرد الذي لا يخضع لتفاهم الحوار ، ولا لتفهّم الفكر ، بل كل ما عنده هو المزيد من الجهل والغرور والكبرياء والتقليد ..

* * *

٨٥

الآيات

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)(٦٨)

* * *

٨٦

معاني المفردات

(أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : أوجدكم منها.

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) : من العمران ، أي : جعلكم تعمرونها.

(مَرْجُوًّا) : نرجو منك الخير.

(مُرِيبٍ) : المريب : الموجب للتهمة والريبة.

(تَخْسِيرٍ) : أي : خسرانا.

(آيَةً) : المراد بالآية هنا : المعجزة.

(فَذَرُوها) : دعوها.

(دارِكُمْ) : الديار : البلد.

(جاثِمِينَ) : ساقطين على وجوهم.

(يَغْنَوْا) : غني بالمكان : أقام فيه.

* * *

وإلى ثمود أخاهم صالحا

... وهذا نبيّ من أنبياء ما قبل التاريخ ـ في ما يقال ـ أرسله الله إلى قومه ثمود الذين كانوا من العرب العاربة ، ومن سكان القرى الواقعة بين المدينة والشام ، كما يذكر بعض المفسّرين ، وليس لدينا أي مصدر تاريخيّ موثوق يحدثنا عن تفاصيل حياتهم ، بل المصدر الصحيح هو القرآن الذي

٨٧

يفيدنا بأنهم كانوا أمّة من العرب على ما يدل عليه اسم نبيّهم ، وقد كان منهم ، نشأوا بعد قوم عاد ولهم حضارة ومدنيّة ، وكانوا يعمرون الأرض ، ويتخذون من سهولها قصورا ، وينحتون من الجبال بيوتا آمنين ، كما جاء في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف : ٧٤]. ومن شغلهم الفلاحة بإجراء العيون وإنشاء الجنّات والنخيل والحرث : (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) [الشعراء : ١٤٨].

* * *

ثمود تخاف على امتيازاتها

وقد كانوا يعيشون في ضلال الوثنيّة والشرك ، تحت تأثير ساداتهم وكبرائهم الذين كانوا يتحكمون بالتوجيه الفكري والعملي لأتباعهم ، ويوحون إليهم بأن طاعتهم هي السبيل الأقوم لنجاحهم وحصولهم على الخير والرشاد. ولذلك فإن المتتبّع لأصواتهم وأصوات أمثالهم لا يشعر بأنها تنطلق من حالة اقتناع ومعاناة ، بل يشعر أنها أصوات الآخرين المستكبرين الذين يوحون إليهم خرف القول غرورا. لذا كانت مشكلة هؤلاء مع الأنبياء أنهم يدعون إلى عبادة الله الواحد حيث تسقط كل الرموز البشرية وغير البشرية في الأرض ، فلا يبقى إلا وحيه ، ولا يحكم إلّا شرعه ، ولا يترك لأي بشري مجال الحصول على أي امتياز إلا من خلال عمله ، بينما كانت حياة هؤلاء متحركة من خلال الامتيازات التي فرضوها لأنفسهم ، وأقنعوا الآخرين باستحقاقهم لها بما يملكونه من مال أو قوّة أو جاه ، وفي ما كانوا يدّعونه لأنفسهم من حق الولاية على الناس لرعايتهم الأصنام ، ووكالتهم عنها ، إلى غير ذلك من الخرافات والأضاليل ، الأمر الذي يجعل صراعهم ضد الأنبياء صراعا من أجل حماية

٨٨

مصالحهم ، لا من أجل حماية خط تفكيرهم.

* * *

التصور الديني للحياة

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) وتلك هي الدعوة الواحدة التي تلخّص كل شرائع الله وكل تعاليمه ، فالله هو المنطلق في كل شيء ، والمرجع في كل أمر ، فله الخضوع كله ، وله الأمر كله. وهذا هو جوهر التصور الديني للحياة ، فإما أن يكون الإله الذي يلتقي الكون أمامه هو الله ، وإما أن يكون غيره ، ولكلّ منهما خطوط وآفاق وتعاليم وأهداف ... فلا مجال للشركة ، ولا مجال للتبعيض.

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فمنها خلقتم ، فأنتم جزء من ترابها ، ولكن بصورة أخرى ، تتحرك فيها الحياة ، وينطلق معها الفكر ، (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي وطلب منكم عمرانها وإحياءها ، بما تملكونه من طاقات الفكر وإمكانات العمل ، للاستمرار في العيش ، لأن للعيش شروطا ، لا بد للإنسان من توفيرها وتحصيلها إذا وجّه طاقاته نحوها ، وهذا ما سخّره الله للإنسان في ما أودعه في الأرض من ثروات ، وفي ما أعدّه من أدوات ، ومكّنه فيها من قدرات.

وفي هذا الجو ، لا بد للإنسان من عيش الإحساس العميق بالارتباط بالله ، عند استجابته لدعوة الأرض للارتباط بها ، ليعرف بأنّ ارتباطه التكويني بالأرض من خلال قدرة الله ، يفرض عليه الانفصال العملي عنها ، عند ما تقوده إلى التمرّد على الله ، أو عند ما تثير فيه ميل الاستسلام للشهوات ، بعيدا عن خط المبادئ ، وحركة الرسالات ، لأن الله ، الذي خلق الأرض ، وخلق الإنسان منها ، هو الذي يحكم في كل ما يدور فيها ، ويتحرك عليها ، لأنه صاحب السلطة في ذلك كله ، وهو العالم بالصلاح والفساد في جميع موارده

٨٩

ومصادره.

(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) لأن أوّل خطوة يخطوها الإنسان على طريق تصحيح الخطأ وتقويم الانحراف عن خط الإيمان ، هي الوقفة المعترفة النادمة المعبرة عن حالة التراجع ، وذلك بالاستغفار الذي يتوسل فيه الإنسان إلى الله ، أن يقبله ضمن من غفر له ذنوبه ، وبالتوبة التي تعبّر عن حالة الندم العميق على الماضي ، والعزم على التصحيح في المستقبل ، ليبدأ السير في الخط المستقيم الجديد من حاضر لا يثقله الماضي ، ومن روح لا ترهقها الذكريات السوداء ، لأن التوبة تمحو ذلك كله ، ولأن الغفران يحوّل ظلمة المعصية إلى إشراقة الطاعة ، (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) فهو ليس بعيدا عن دوافع المعصية في الإنسان ، من شهوات وأهواء قد تغلبه ، لأنه خالقه ، وهو ليس بعيدا عن تطلّعات الإنسان للمغفرة ، وأحلامه في الرحمة ، فهو قريب إلى روحه وفكره وشعوره وحياته ، بحيث لا يوجد أقرب إليه منه. فيلجأ إليه لحل كل مشكلة ، ولإقالة كل عثرة ، ولتخفيف كل همّ وألم. فهو المجيب لكل دعواته وطلباته للرحمة وللمغفرة في شؤون الدنيا والآخرة ، وذلك هو الطريق المستقيم.

* * *

دعوة صالح تصدم القوم

ولكن القوم يواجهونه ـ عوضا عن الإيمان بالرسالة ـ بخيبة أملهم فيه ، فقد كانوا يجدون فيه الشخص العاقل الوديع الذي يفكر بالأمور بطريقة معقولة موزونة ، فلا يبتعد في تفكيره عن واقع المجتمع ، ولا يتمرّد على تقاليده ، ولا يسيء إلى أوضاعه ، كما هو شأن كل الرموز الاجتماعية المحترمة ، التي تكسب احترامها من محافظتها على التوازن في العلاقات الاجتماعية بما لا يزعج الساحة ولا يتنكر للمألوف. ولهذا فقد كانت دعوة صالح لهم بمثابة الصدمة التي أخذتهم بعنصر المفاجأة.

* * *

٩٠

أوهام تحكم الفكر

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) فقد كانت الآمال معقودة عليك في قيادة المجتمع نحو الخير لا نحو الشرّ ، (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان التي قدّسها الآباء وعبدوها أجيالا؟ ألا تسيء بذلك إلى ذكرى الآباء ، وتتمرّد على قداستهم؟ فهل يمكن أن نحكم عليهم بالجهل وتقديس الخرافة في ما عبدوه كما تقول؟ وهل نستطيع الادّعاء بأننا نفهم أكثر مما يفهمون ، ونعرف أكثر مما يعرفون ، وهم أصحاب التجربة والفكر والسبق في التاريخ؟ وهل يتعلم الجيل الحاضر ، إلا من الأجيال الماضية؟ هكذا كانت كل هذه الأوهام تتسابق إلى أخيلتهم في ما يعتبرونه أساسا لتقييم الفكر ، أو تقديس التاريخ ، أو لتمايز المجتمعات.

(وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) فقد لا تكون المسألة بالنسبة إليك مجرد فكرة تريد إثارتها أمامنا أو دعوتنا إليها ، بل قد تكون هناك خلفيّات وأهداف مشبوهة تتّصل بطموحاتك ومصالحك ، مما قد يتعارض مع أوضاعنا وطموحاتنا ومصالحنا ... ولهذا فإننا ننظر إلى المسألة نظرة اتهام منشؤها سوء الظن بك ، وبما تضمره من سوء للمجتمع ، وهكذا يبدو أن هؤلاء القوم لم يرغبوا في مناقشة المسألة من ناحية المضمون على أساس احتمال الصواب والخطأ فيها ، لأن رفضهم للدعوة حاسم ، بل أرادوا مناقشتها من ناحية الدوافع الذاتية الكامنة خلفها ، والله العالم.

* * *

٩١

الحوار الفكري ثم المعجزة

فما ذا كان ردّ صالح؟

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) في ما أعيشه من إيمان بالله وبالرسالة وبالوحي الإلهيّ النازل عليّ ، كأيّ إنسان يعيش المعاناة الداخليّة والحسيّة لاتصال قناعاته بالوجدان ، (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) في ما كلّفني به من حمل الرسالة ، ومنحني إيّاه من صفة النبوّة ، فهل أترك ذلك كله ، لأسير على أهوائكم ، وأجتنب هداه ، لتمنحوني بعض امتيازات ثقتكم؟ وما الذي أنتفع به من ذلك؟ ثم ماذا تفعلون لي ، إذا تمرّدت على الله ورفضت رحمته وجحدت بيّنته ، وأراد الله أن يعاقبني على ذلك ، وهو القادر عليّ في كل وقت وفي كل مكان؟ (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) إنكم لا تستطيعون فعل شيء أمام الله ، ولا تملكون لي ولا لأنفسكم نفعا ولا ضرّا إلا بإذن الله ، (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) فما ذا وراء محاولتكم في إبعادي عن الدعوة إلى الله ، إلا المزيد من الخسارة على مستوى الدنيا والآخرة؟!

... وانتقل الحديث إلى مجال آخر ، فقد أراد الله لصالح أن يجرّهم إلى الإيمان عن طريق آخر غير طريق الحوار الفكري ، وذلك بتقديم «الناقة العجائبيّة» التي كانت آية من آيات الله ، ليفكّروا بمسألة الإيمان في هذا الاتجاه ، باعتبار أن ذلك قد يكون دليلا على صدق النبي صالح في دعوى النبوة.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) ، ولم يذكر القرآن لنا التفاصيل عن طبيعة المعجزة في هذه الناقة ، مما جعل الروايات تختلف في تفسير ذلك اختلافا يقترب بها من الأساطير ، فلتراجع في مظانّها من كتب التفسير ، لأننا لا

٩٢

نجد كبير فائدة في تناولها ما دام القرآن لا يريد أن يدخل في تفاصيلها ، لأن دور القصص القرآني هو إعطاء الدرس من مجمل القصة ولا يعطي للفكرة امتدادها الزمني ، مما يجعل القصة ترتبط بالجوانب العامة ، لا بالجوانب الخاصة ، (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) فلا يتعرّض لها في أي مكان أرادت أن ترعى من أرض الله ، لأن الله جعل لها الحرية في ذلك بما أوحاه إليّ ، (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) لأن لها عند الله حرمة كبيرة ، لكونها نموذج الآية المتحركة التي يرى الناس من خلال خصائصها الدليل على عظمة الله من جهة ، وصدق الرسول من جهة أخرى ، (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) لأن معنى قتلها ، هو إعلان الحرب على الله ، والتمرّد على إنذاره ، ومواجهة الموقف الإلهي بالتحدي الذي يسخر من وعيد الرسول لهم بعذاب الله ، لإبطال مصداقية الرسالة في حركة المجتمع ، وتفرقة المؤمنين من حوله ، فضلا عن غير المؤمنين.

* * *

الرضى بالعمل يساوي المشاركة به

(فَعَقَرُوها) فكمن لها شخص منهم ، فضربها وقتلها ، بعد الاتفاق مع القوم ، فحمّلهم الله مسئولية ذلك جميعا ، لأن عامل الرضى يتساوى في النتيجة عند الله ، مع عامل المشاركة ، (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) لقد تحركت المسألة في خطّ القرار الحاسم الذي حدّد للعذاب موعدا ، بعد ثلاثة أيام ، لأن العذاب سنّة الله في الأمم السالفة ، عند ما ينزل آية على قوم فيجحدونها.

وربما اعتبر هؤلاء ، أن هذا الإنذار ليس جدّيا ، أو أنهم لم يثقوا بالموقع

٩٣

الذي يمثله صالح عند الله ، فلم يكترثوا لذلك ، وأصرّوا على ما عزموا عليه ، فجاء العذاب : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) لأن الله كتب على نفسه الرحمة بمن آمن به وعمل في سبيله ، (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) بما يمثّله العذاب من عار وخزي عند ما ينزله الله على أحد من عباده ، كنتيجة لغضبه ، (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) الذي إذا أراد شيئا فعله ، ولا قوّة لأحد في الوقوف أمامه في ما يريد وفي ما يفعل ، فليس لأحد إلا الخضوع أمام العزّة القوية القادرة القاهرة المهيمنة على الأمر كله.

* * *

النهاية المحتومة

(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) التي رجفت لها قلوبهم ، وارتعدت لها فرائصهم ، لأنها كانت من الشدة بالمستوى الذي يصعق له الإنسان ، فلا يملك حراكا (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) أي ساقطين على وجوههم ، (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي لم يقيموا فيها ، وهو كناية عن زوال أي أثر من آثار الوجود والحركة منها تماما كما لو لم يكن فيها أحد ، وتلك هي العبرة الواعية لمن يريد أن يعتبر ، بما تبينه من نتائج سلبية مدمرة للتمرّد على الله ، (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ) اي جحدوه ، وهذا هو البيان الذي يقدمه الله للناس ، (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) وهذه هي النتيجة الطبيعيّة لكفرهم ، لأن الله يبعد الكافرين عن رحمته ، فيعذبهم في الدنيا والآخرة.

* * *

٩٤

الآيات

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ)(٧٦)

* * *

معاني المفردات

(فَما لَبِثَ) : أي : أسرع وما أبطأ.

(حَنِيذٍ) : المشوي بالحجارة المحماة ، دون أن تمسه النار مباشرة.

٩٥

(نَكِرَهُمْ) : نكره وأنكره واستنكره بمعنى واحد ، ضد عرفه ، أي : أن إبراهيم لم يعرف سببا لامتناعهم عن الأكل.

(وَأَوْجَسَ) : الإيجاس ، الإحساس ، أي أحس بالخوف منهم.

(يا وَيْلَتى) : الويل كلمة للتفجع.

(بَعْلِي) : البعل : الزوج ، وجمعه بعولة وبعول وبعال.

(لَحَلِيمٌ) : الذي يصبر على جهل الغير وأذاه ، ولا يعالجه بالعقوبة.

(أَوَّاهٌ) : مبالغة في التأوّه مما يكره.

(مُنِيبٌ) : الذي يرجع إلى الله في كل أمر.

* * *

الخوف ليس سلبيا بذاته

... وهذه قصة إبراهيم مع الملائكة عند ما زاروه لإبلاغه إرادة الله في إهلاك قوم لوط لأنهم طغوا وأفسدوا الحياة ، وتمردوا على أمر الله ، ولتبشيره بغلام حليم ، بعد أن بلغ وزوجته مبلغا من الكبر لا يأملان معه بالإنجاب ، ولكنها المعجزة التي أراد الله إكرام نبيّه إبراهيم بها ، كما هي المعجزة في إهلاك قوم لوط.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) ، فقابلهم بالإكرام والتحية كأيّ ضيوف عليه ، وبادر إلى تقديم الطعام إليهم بشكل سريع (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي شوي على حجارة محماة بالنّار ، أو مطلق المشويّ من دون خصوصية ، ولكنهم امتنعوا عن الطعام ، لأن الملائكة لا

٩٦

يأكلون كما يأكل البشر ، (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) فلم يدرك سببا لذلك لأنه مخالف للأمر المألوف في سلوك الضيف مع صاحب البيت ، (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) نظرا للغموض الذي لف الموقف ، فهو لا يعرفهم بأشخاصهم ، والامتناع عن الأكل يوحي ـ في عرف الناس آنذاك ـ بالعداوة وبإضمار الشرّ للمضيف ، مما جعله يحس بالخوف والقلق ، ولا مانع من حدوث مثل ذلك للأنبياء الذين يعيشون الضعف البشريّ الذي تخضع له المشاعر الذاتيّة ، ولكن بالمستوى الذي لا يؤدّي إلى السقوط في المعصية ، ولا يوحي بالانسحاق ، ولا يمنع من العصمة.

ولعلّ سر عظمتهم في تمثّلهم خط التوازن بين نقاط الضعف التي تؤكد بشريتهم ، ونقاط القوة التي تنطلق من حركة الإيمان والرسالة في روحيتهم ، فلا مشكلة في إحساس الإنسان بالخوف ، بل في الاستسلام له ، وليس الخوف حالة سلبيّة في ذاته ، بل قد يكون حالة إيجابيّة بما يشكله من حماية للإنسان من الأخطار المهلكة التي تحيط به. ولذا كان إبراهيم خاضعا لتأثير هذه الحالة الطبيعية من الإحساس بالخوف أمام ظاهرة غامضة فاجأته بما يشبه الصدمة ، ولكن الملائكة لم يأتوا ليخلقوا عقدة الخوف ، وليثيروا في داخله القلق ، (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) فلسنا من البشر ، ولا نريد بك شرّا ، بل نحن مرسلون إلى قوم لوط لأداء مهمّة إلهية ، تستهدف إهلاكهم بالطريقة التي أمرنا الله بها.

* * *

البشرى المستغربة

(وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) تستمع إلى هذا الحوار الدائر بين زوجها وبين هؤلاء ، (فَضَحِكَتْ) والظاهر أن المراد به الحيض ، الذي هو من معاني الكلمة في

٩٧

اللغة ، ويؤيّده تفريع البشرى على ذلك ، لأن الحمل يتوقف على وجود حالة الحيض لدى المرأة ، وكان قد انقطع عن زوجة إبراهيم في السابق ، (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) وقد كانت هذه البشرى المزدوجة للإيحاء باستمرار النسل ، وأما ردّ فعلها فاكتنفه المزيد من الدهشة والاستغراب ، والإنكار الحائر ، (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) فنحن في سنّ لا تسمح لنا بذلك لأنه خارج عن السنّة التي اعتادها الناس في حياتهم ، (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) لا نفهم سرّه وحقيقته.

* * *

رحمة الله تأتي بالعجائب

ولكن الملائكة يردّونها إلى التفكير من خلال الإيمان ، فالمؤمن لا يخضع في تصوّره لمسألة الإمكان وعدمه للمألوف مما اعتاده الناس في حياتهم ، بل عليه أن يطل على الأفق الإيماني الواسع الذي يلتقي بالله في قدرته المطلقة التي لا يحدّها شيء ، وأنّ عليه أن يفكّر بأن الأشياء المألوفة لا تحمل في ذاتها عنصر الوجود ، بما تتضمنه من علاقة المسبّب بالسبب ، إلا من خلال الله القادر على أن يخلق أشياء أخرى لم يألفها الناس ، لحكمة ما ترتئيها القدرة الإلهية المتحركة وفق موازين حكيمة.

إنهم يثيرون فيها حسّ الإيمان العميق ، لتفكّر في هذا الاتجاه ، لأن المؤمن إذا سار في تفكيره على هذا المستوى فإنه سينفتح على الحياة بكل ما فيها من انطلاقات الأمل ، حتى في الطرق المسدودة ، لأنه يشعر أن السدود ، مهما بلغت من الأحكام والقوّة ، لا تثبت أمام قدرة الله الذي إذا أراد أن يهدمها تحوّلت إلى هباء في أقلّ من لحظة. وهذا ما يجب على المؤمن الداعية المجاهد ، أن يعيشه في خط الدعوة والجهاد ، فلا يتعقّد من مشكلة ، بل يعمل

٩٨

على استنفاد كل التجارب ، لينتظر الفرج الكبير من خلالها ، أو من خلال الغيب ، فلا يستسلم لليأس عند ما تحاصره عناصره من كل جهة.

وبهذا يبقى للمؤمن في حياته ، عين على الواقع حيث يخوض التجربة ، وعين على الغيب متفائلا بالأمل الكبير القادم من غيب الله. وهكذا كان جواب الملائكة لزوجة إبراهيم ، للإيحاء بذلك كله : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) وهو الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد ، (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) في ما أفاض عليهم من نعمه وألطافه السالفة ، وفي ما يفيضه عليكم في الحاضر والمستقبل. وإذا انطلقت رحمة الله وبركاته في حياة الإنسان ، فإنها تفتح له كل الأبواب ، وتيسّر له كل عسر ، وتأتي إليه بالعجائب على أكثر من صعيد ، (إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) فله المحامد كلها في ذاته ، وفي ما يرحم به عباده ، وله المجد كله ، في ما يملكه من قدرة ، وفي ما يتّصف به من عظمة.

* * *

إبراهيم عليه‌السلام يتشفع لقوم لوط

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) فاطمأنّ إلى هؤلاء المحيطين به ، وشعر بالراحة لوجودهم معه ، فهم الملائكة المقرّبون إلى الله الذين جاءوا إليه ببشارة الوليد المرتقب ، والحفيد المؤمّل ، ولذلك أخذ حرّيته في الحديث ، وبدأ يدافع عن قوم لوط ، ليصرف العذاب عنهم ، أملا في هدايتهم في المستقبل ، لينالوا رحمة الله ، وذلك في ما حكاه الله عنه : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) إما باعتباره حالا ماضية ، «أو بتقدير فعل ماض قبله وتقديره ، أخذ يجادلنا إلخ ، لأن الأصل في جواب «لما» أن يكون فعلا ماضيا» (١) ، كما في تفسير الميزان ، (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) لا يحب المعاجلة في العقوبة والانتقام ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ١٠ ، ص : ٣١٤.

٩٩

(أَوَّاهٌ) كثير التأوّه لما يحيط به أو يشاهده من السوء ، وهو كناية عن تأثّره بذلك وانفعاله بآلام الآخرين ، (مُنِيبٌ) إلى الله في كل أموره ، فلا يعترض على الله في شيء ، ولكنه يتشفّع ويتوسّل ويرجو ، في ما لم يعلم فيه حتميّة القضاء والإرادة.

ولم يكن إبراهيم يعرف حدود المسألة ووصولها إلى الحسم الذي لا مردّ له ، لأن القوم لم يتركوا أيّ مجال للرحمة ، فقد استنفد لوط معهم كل الوسائل دون جدوى ، فازدادوا تمرّدا وطغيانا ، ولذلك أعلن الله له على لسان ملائكته المنزلين : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) ولا ترهق نفسك بالتفكير أو التدخل فيه ، (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) الذي لا مردّ له ، (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) فلا مدفع له ، ولا مجال معه ، لجدال مجادل ، أو شفاعة شافع. وسكت إبراهيم ، لأنه لا يريد إلا ما يريده الله ، فما دام الله قد أراد عذابهم ، فليكن ذلك عن رضى وقناعة وإيمان.

* * *

١٠٠