تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) هل عرفتم النتائج السلبية لما فعلتموه ، والآلام والأزمات النفسية التي أحدثتموها في حياتهما؟! إنكم لا تحاولون استعادة ذلك ، لأنكم لا تشعرون بتأنيب الضمير ، فعقدتكم المرضيّة تجاههما تبرّر لكم كل ما فعلتموه ، (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) لا تعرفون نتائج أعمالكم ، كما لا يعرف الجاهلون نتائج أعمالهم.

* * *

أجر المحسنين

وكان حديثه بمثابة صدمة أعادتهم إلى الماضي فتذكروا ملامح يوسف ، في ملامح وجه العزيز ونبرات صوته ، وشعروا بروح الإيمان التي حدثهم عنها أبوهم يعقوب وما تمثله من انتظار الفرج من الله تواجههم الآن ، فعرفوا في هذا العزيز أخاهم يوسف ، في ما يشبه الوحي ، أو اللمعة الفكرية والروحية التي تشرق في الذات ، فتضيء جوانب الحاضر من خلال الماضي. (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) هل هذا وهم وخيال ، أم هي الحقيقة التي تواجهنا؟! (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بلطفه وكرمه ، وأكرمنا من حيث أردتم إهانتنا ، وأعزنا من حيث أردتم إذلالنا ، وفتح لنا باب الحياة بأوسع مجالاتها. فأين نحن الآن وأين أنتم ، أليس في ذلك عبرة لكم ودرس كبير؟ إن القوّة لا تصنع ـ وحدها ـ المستقبل ، وإن العدوان لا يحقّق نجاحا ، بل الله ، الذي يتقيه المؤمن ، ويصبر امتثالا لأوامره ، هو الذي يصنع للإنسان مستقبله كما صنع له ماضيه وحاضره ، وهو الذي يحقق له النجاح في حياته ، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) بما توحيه التقوى من إحسان العمل لله ، ويؤكده الصبر من إحسان للذات وللحياة ، (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا النية ، والعمل في كل خطوات الفكر والحياة.

* * *

٢٦١

طلب الغفران

وخضعوا للمنطق الإيماني في حديث يوسف الذي كان يتحدث ـ ليس فقط من موقع الإيمان ـ بل من موقع القوة التي يلمسها إخوته في سيطرته الواسعة على موارد الثروة في هذا البلد ، ولهذا كان تأثيره عليهم كبيرا ، وكانت فرحتهم به ، كندمهم على ما بدر منهم تجاهه. (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) واختارك وفضّلك ، في العلم والحلم ، والكمال في العقل ، والجمال في الجسد ، وها أنت في الموقع الرفيع ، ونحن في الموقع الوضيع ، فاغفر لنا ما بدر منا تجاهك وتجاه أخيك ، فإنك الكريم ابن الكريم. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) أي لا عقوبة ولا تعنيف بل المسامحة والعفو ، والاستغفار لكم والابتهال إلى الله أن يعفو عنكم ، وسيستجيب الله مني ذلك ، (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ذنوبكم في ما ارتكبتموه من إساءة وعدوان ، (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فلا يمكن أن يعاقبكم لحسابي ، بعد أن عفوت عنكم وطلبت منه العفو والغفران لكم جميعا. وهكذا عادت المياه إلى مجاريها ، وانتهت كل المشاكل التي حكمت تاريخ العلاقات بينهم. وبقيت مشكلة يعقوب ـ الأب ـ الذي عانى الكثير من غياب ولديه عنه ، وهنا فاجأ يوسف إخوته بطلبه إليهم في هذا المجال.

* * *

المعجزة الخارقة

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) بعد أن يشمّه بقدرة الله التي بها تحيا العظام وهي رميم ، فلا يعجزها أن تعيد البصر إلى النبي الذي

٢٦٢

أطاع الله في نفسه ، وفي الناس. إنها المعجزة الخارقة التي قد تكون كبيرة بالنسبة للناس ، ولكنها لا تمثل شيئا أمام قدرة الله المطلقة التي لا يقف عندها حد.

(وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) ليجتمع الشمل ، وتنتهي كل الآلام ، ويعود الفرح الروحي للقلوب التي عاشت في أجواء الحزن والأسى زمنا طويلا.

* * *

٢٦٣

الآيات

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)

* * *

معاني المفردات

(فَصَلَتِ) : تجاوزت المكان الذي كانت فيه.

* * *

المفاجأة الصارخة

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) وتحركت القافلة من المكان الذي كانت فيه ، وسارت في اتجاه أرض كنعان ، حيث يسكن يعقوب ، (قالَ أَبُوهُمْ) لمن

٢٦٤

حوله من أولاده الباقين معه ، أو للناس الذين يحيطون به (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وأحسّ بها ، كما لو كان إلى جانبي ، (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي تسفهون رأيي وتنسبونني إلى الخرف وضعف الرأي. وربما كان المراد من إحساسه بريح يوسف ظاهرها ، وهي الرائحة التي يحملها الثوب ، فتكون القضية على وجه الإعجاز ، لأن المسافة بين المكانين ، هي مسيرة ثمانية أيام أو عشرة ؛ وربما يكون الأمر على سبيل الكناية في ما كان يفكر به من قرب لقائه به ، في حالة من حالات الصفاء الفكري والروحي تؤهله لأن يحسّ بالشيء كما لو كان معه ، ينظر إليه ، ويشمّ رائحته ... وقد يكون هذا الاحتمال أقرب إلى جوّ الآية الثانية ، لأن الأمر لو كان على حسب الظاهر ، لكان مثار استغراب بطبيعته ، أكثر مما يكون مستغربا بمدلوله ، والله العالم.

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) الذي لا زلت مصرّا عليه في اعتقادك بحياة يوسف ، وقرب لقائك به دون أن تلتفت إلى خطأ هذا التصور ، لأنه لو كان حيا لجاء منه خلال هذه المدة الطويلة خبر ، فمن غير الطبيعي أن تنقطع أخباره ، وهو على قيد الحياة. وسكت على مضض ، وسكتوا على انفعال ، وجاءت القافلة بالمفاجأة الصارخة ، ووصل البشير يحمل قميص يوسف ... (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) وعادت إليه نعمة البصر ، وفرح الحياة في ما أراد الله أن ينعم به على يعقوب من فرحة الشعور بحياة يوسف من جهة ، ورؤيته إياه ، بردّ بصره ، على وجه الإعجاز من جهة أخرى .. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) في ما أؤمله من رحمة الله ، وفي ما استشعره من لطفه ورضوانه ، مما يجعلني لا أفقد الأمل بأيّ شيء من أمور الحياة في ما يختزنه غيبه ، ولا أجد مجالا لليأس ، حتى لو أحاطت بي المشاكل من كل جهة ، وفي أكثر من صعيد.

* * *

٢٦٥

اعترفوا بالخطإ ووعدهم بالاستغفار

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) فقد عشنا حياة الحقد والضغينة ضد أخوينا ، حتى آذيناهما غاية الإيذاء ، وعرّضنا حياة أخينا يوسف للخطر ، وبعناه بثمن بخس دراهم معدودة ، وحمّلناك من الهموم ما أثقل حياتك ، وأفقدك بصرك ، فلم تستمتع بحنانك وعطفك عليه ، ونحن لم نفسح لك المجال للراحة ... ولكن الله أراد غير ما أردنا ، ودبّر غير ما دبرنا ، فرفع أخانا ووضعنا ، فكنا في موضع الخطيئة التي ترهق أرواحنا وضمائرنا ، وتشوّه شعورنا بصفاء الحياة وطهارتها من حولنا ، فاستغفر لنا ذنوبنا ، لأننا لا نملك الكلمة الطاهرة التي نتوجّه بها إلى الله ، ولا نملك الروح الصافية التي ينفتح فيها دعاؤنا عليه من خلالها ، أما أنت فإنك تملك الروح الصافية التي ينفتح فيها الإيمان ، من موقع النبوّة ، وروح الطهر من موقع الأبوّة الطاهرة. وكان أبوهم عند حسن ظنهم فاستجاب لهم ووعدهم بالاستغفار في الوقت الذي يستجيب الله فيه دعاء الداعين ، واستغفار المستغفرين (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الذي يغفر خطايا المسيئين المنيبين ، ويرحم المستغفرين من ذنوبهم.

* * *

٢٦٦

الآيات

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ(٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(١٠٢)

* * *

الحلم يتحول إلى حقيقة

... وبدأت النهاية السعيدة ، لرحلة الحزن الطويلة التي عاشها يعقوب ، لفراق ولده يوسف ؛ ورغم طول الغياب ، كان يمتلك إحساسا يتحرك من مواقع

٢٦٧

الإيمان بالله ، والثقة برحمته ، وإلهاما روحيا يتحسّس فيه الأمل الكبير بعودة يوسف إليه. أما الآن ، فإن انطلاقة الضوء قد عادت إلى عينيه ، والتماعة البشرى قد أشرقت في روحه ، فها هو البشير يحدّثه عن يوسف العزيز الذي رفع الله مكانته فجعله حاكما يدير شؤون الدولة الاقتصادية ، وها هو يدعوه إليه ، ليحدثه عن رحلة العذاب الطويلة ، وعما أنعم الله عليه ، من الإرادة القوية المنفتحة على الرسالة ، ومن الموقف الصلب أمام حالات الإغراء ، ومن حركة الدعوة في أجواء السجن وظلماته ، ومن سعة المعرفة في تأويل الأحلام ، وتحليل الأمور التي دفعت به إلى هذا الموقع الكبير ...

وهكذا سار يعقوب مع عياله وأولاده ، ليلتقي بالحلم الذي تحوّل إلى حقيقة ؛ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) وضمّهما إليه ، ليمسح دموعهما ، ويخفف حزنهما ، (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي أقيموا فيها وامكثوا طويلا دون أن يعكر صفوكم أحد ، فلكم مطلق الحرية في أن تتحركوا كما تشاءون دون خوف ولا وجل ... وقد جاء في مجمع البيان : «وإنما قال لهم : آمنين لأنهم كانوا في ما خلا يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلا بجوازهم». (١)

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) وهو السرير الذي يمثل موقع المسؤولية التي كان يشغلها في البلاد ، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) وكان المتعارف لديهم تماما كما يمثل الانحناء لونا من ألوان التحية لدى بعض الشعوب ، ولا يمكن اعتبار ذلك منافيا لتوحيد الله في العبادة ، لأن السجود العبادي هو ما يعيش الإنسان فيه معنى العبودية بأن يقصد من خلاله التعبير عن الخضوع المطلق.

(وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي رؤياه التي كان قد

قصها على أبيه في أوّل السورة في قوله : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٥ ، ص : ٤٠٥.

٢٦٨

وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ..

* * *

برأ إخوته بنسبة الإساءة إلى الشيطان

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) إلى هذه الأرض الخصبة ، وجعلكم في الموقع الأعلى الذي يهيئ لكم أفضل العيش ، وأكرم المواقع ، وفتح قلوبنا على الصفاء والمحبة والإخلاص ، بعد المحنة السوداء التي مرّت بنا في جوّ العداء الذي يتعارض مع روح الأخوّة الصافية ، (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) وهذه غاية اللياقة في تبرئة إخوته من الإساءة إليه ، وذلك بنسبة المسألة إلى الشيطان ، ليفسح لهم بذلك مجال الاعتذار ، (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) فمن لطفه هذا اللقاء الطيب ، وهذا الصفاء الروحي الفيّاض ، (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الذي يعلم ما يحتاجه عباده ، فيدبّر أمورهم على مقتضى الحكمة.

* * *

مناجاة يوسف عليه‌السلام

وهكذا انفصل يوسف عن الجوّ الذي يحيط به ، واستغرقت روحه في مناجاة لله ، تنسى كل الناس وتغيب عن كامل أجوائهم ، لتعيش الحضور مع الله في كل شيء ، فبينما هو يخاطب أباه ، إذا به ينسى ذلك ليخاطب الله سبحانه : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) في ما مكنتني من الوسائل الكثيرة التي قفزت بي إلى مواقع الحكم والسيطرة على مقاليد حياة الناس ، (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وما استطعت به أن أفتح الحياة على مواقع الخير في الإنسان ،

٢٦٩

وأدفع الإنسان إلى البحث عن الحقيقة في كل جوانب ذاته وحركة كيانه ، (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وخالقهما على أساس القدرة والحكمة ، فكل شيء فيهما مخلوق لك ، وكل مخلوق بينهما عبد لك ، وكل حركة في داخلهما وخارجهما ، خاضعة لقدرتك ، فمن يملك ، معك ، أي شيء ، فأنت المالك لكل شيء ، ومنك تستمد الأشياء قوتها ، وعلاقتها ... لا من غيرك ، (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بما تملكه من ولاية الخلق والقدرة والنعمة واللطف والرحمة ، فمنك أستمد سعادتي وهنائي في ما تتفضّل به عليّ من غفران ذنوبي وإدخالي الجنة التي وعدت بها عبادك المتقين ، ولم تبخل بها على عبادك الخاطئين التائبين ، الذين يتضرّعون إليك بقلوب نادمة على ما فرط منهم في جنب الله ، وهذا ما أريد أن أطلبه منك ، وأعيشه بين يديك ، في ما أستقبل به حياتي ومماتي ، (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) واجعل ختام حياتي إسلاما بالروح والقلب واللسان ، كما كانت بداية حياتي كذلك ، (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الذين آمنوا بك من موقع الصدق في الإيمان ، وأصلحوا أعمالهم من موقع الإخلاص في العمل ، وساروا على منهجك في الحياة ، في ما يعملون به ، ويطرحونه من قضايا ، وأوضاع ومشاريع ...

* * *

أنباء الغيب دليل صدق النبوة

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) فلم يكن ـ يا محمد ـ علم به من خلال قراءة أو سماع أو مشاهدة قبل ذلك ، بل هو مما أوحيناه إليك من الغيب الذي تكفّل الله بعلمه ووحيه ، وذلك دليل صدقك في نبوتك ، (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) على إلقاء يوسف في الجبّ ، وتلبيسهم الأمر على أبيهم ،

٢٧٠

وزعمهم أن الذئب قد أكله ، ثم بيع القافلة ـ التي اكتشفت وجوده في البئر ـ له ، وغير ذلك من الأمور التي لم يكن النبي حاضرا فيها ، ولا سمعها من أحد ، في ما خططوا له ، (وَهُمْ يَمْكُرُونَ).

وهذا ما أراد الله أن يثيره أمام القوم هناك كسبيل من سبل التحدي لما يعرفونه ، ولما لا يعرفونه مما يؤكد لهم أن ذلك كله وحي من الله ...

* * *

الإرادة الصلبة والقلب الكبير

وهكذا تنتهي قصة يوسف ، في هذه السورة ، لنرى فيه ملامح الإنسان المؤمن الواعي المنفتح ، الذي يملك الإرادة الصلبة الصامدة ، أمام كل عوامل التهديد والإغراء ، بفضل إيمانه القويّ الذي ينمو معه في كل لحظة ، لشعوره العميق بمراقبة ربه ، وبحضوره في كل ما حوله ومن حوله ، ثم تستوقفنا فيه دقّة الملاحظة ، وسرعة الحركة ، وعمق الحيلة ، إذا ما أراد الوصول إلى مراده دون أن يسيء إلى مبادئه. كما يدهشنا ذلك القلب الكبير الذي لا يتعقّد ولا يحقد ، بل يحاول أن يذكر الذين أساءوا إليه ، ليعفو عنهم ، وليستغفر لهم ، كما فعل مع إخوته. وبعد ذلك نجد فيه الإنسان الذي شعر دائما ، بموقع نعم الله عليه في حياته ، في ما يتذكره من ماضيه ، وفي ما يعيشه في حاضره ، وفي ما يتمناه لمستقبله ، وأخيرا نتوقف عند ذلك الموقف المبتهل إلى الله ليذكر آلاءه ، وليمجّده في ذلك كله ، وليشكره عليه ، في خشوع العبد ، وخضوع العابد.

* * *

٢٧١

القرآن يثير الحقائق دون تعقيد

وقد نلاحظ ، في سياق سرد هذه القصة ، أن القرآن يتحدث عن الجوانب العاطفية للإنسان ، بشكل طبيعيّ ، ومن دون تعقيد ، وعن مواقع الضعف الذي يعتري الإنسان في هذا الجانب مما يوحي بضرورة استثارة نقاط القوّة فيه ، من أجل تحقيق التوازن الذي يحمي الإنسان من الانحراف ، ويمنعه من السقوط.

وقد نجد في هذا التوجه ، أن الإسلام لا يمانع من الحديث عن الجوانب العاطفية من حياة الإنسان ، بما فيه من تفاصيل لجهة التعبير عن الحبّ ، والتفنن في استخدام الحيلة للوصول إلى الإثارة ، بأسلوب لا يصل إلى مستوى الفحش. فإن تناول هذه التفاصيل قد يحقّق شيئا من المعرفة بنقاط ضعف وقوة الشخصية الإنسانية ، ويوحي بضرورة السعي لتأكيد التربية الروحية ، والبناء الأخلاقي ، على أساس المعرفة التفصيلية بحقائق الأشياء ، لأن إغفال مثل هذه التفاصيل قد يحجب كثيرا من الحقائق الإنسانية ، وقد يؤدي بالتالي إلى خلل على مستوى العمق والشمول في تقويم الأشياء.

ومن هنا نستوحي شرعيّة الاطلاع على الثقافة الجنسية ، والعاطفية ، بالأسلوب العلمي الذي يعطي الفكرة ، بعيدا عن كل عوامل الإثارة ، لأن المعرفة قد تبعد الإنسان عن الكثير من المزالق ، بينما يؤدي الجهل إلى الاندفاع في كثير من الخطوات المنحرفة ، في ما يريد أن يخطّط له المنحرفون ، أو يثيره الكافرون.

* * *

٢٧٢

الحزن الإنساني لا يسيء إلى الإيمان

وقد نستفيد من شخصية يعقوب ـ النبيّ ـ كيف يمكن للإنسان أن يتوازن في مشاعره الذاتية ، فيعطي للحزن بعده الإنساني ، دون أن يسيء إلى إيمانه وصبره ، لأن الصبر لا يتنافى مع انسياب العاطفة ، دموعا تنهار وحزنا يعتمل في القلب ، بل هو فعل تماسك في وعي الموقف ، وضبط الحركة ، واتزان الكلمة ، بحيث لا يسيء الإنسان معه إلى المبادئ التي يحملها.

* * *

الروح المطمئنة لا تيأس أمام الكوارث

ونلاحظ في الجانب الآخر من الشخصية النبوية هذا الامتداد الروحي في آفاق الذات وفي أجواء الغيب ، فلا ييأس أمام الكوارث ، ولا يسقط أمام التحديات ، بل يستمد من إيمانه بالله القوّة على استثارة الأمل الكبير من قلب الغيب ، انطلاقا من الثقة بالرحمة الإلهية التي توحي للإنسان في كل وقت بانتظار الفرج ، في حركة المستقبل ... وبذلك تبقى له قوّته ، ويتجدّد فيه عزمه على الاقتحام ، وترتكز حياته على أساس ثابت.

وفي هذا وذاك ، نجد في شخصية يعقوب الأبوية ، والنبويّة ، المزيد من اللمعات الروحية واللمسات العاطفية ، والابتهالات في خشوع القلب ، وخضوع الروح أمام الله بحيث يواجه هذا الشيخ الجليل ، كل مشاكل الحياة ، بروح مطمئنة هادئة ، وبإحساس يعمّقه الامتداد الروحي في رحاب الله.

* * *

٢٧٣

النهايات السيئة للخطوات الشريرة

فإذا انتقلنا إلى إخوة يوسف ، فإننا نجد النموذج الحي لكثير من الناس الذين يحملون العقد النفسية ، نتيجة بعض الأوضاع الاجتماعية المحيطة بهم ، التي تتحول إلى سلوك عدواني ضد من حولهم ، ثم يثوبون إلى رشدهم ، ويلتفتون إلى أخطائهم ، عند ما يصطدمون بالنتائج السلبية التي تضغط على مصالحهم ، وتسيء إلى أوضاعهم ، وتكشف خفاياهم للناظرين. فنخرج من ذلك بنتيجة واضحة حول طبيعة النهايات السيئة ، للخطوات الشريرة ، والمستقبل المعقد المرتبك ، للشخصيات المعقدّة التي لا تنفتح على الحياة من مواقع الخير والسلام.

* * *

بين الانسياق للغريزة والشخصية العدوانية

وربما نلتقي في نهاية المطاف بشخصية المرأة التي تنساق مع غرائزها الملتهبة ، فتستخدم كل الوسائل الممكنة لإشباعها ، وتندفع بعيدا في هذا الاتجاه ، حتى تفقد توازنها ، فلا تبالي بالفضيحة التي تطوّق مركزها الاجتماعي ، وتسيء إلى مصداقيتها فيه ، بل تواجه المسألة بروح التحدّي للمجتمع الذي ينكر عليها ذلك ، عاملة على دفعه لخوض تجربتها المنحرفة ، لتسقط بذلك زيف مظاهر الحفاظ على شرف الطبقة الرفيعة. وهكذا تثور الغريزة في داخلها وتحوّلها إلى شخصية عدوانية تعمل من موقع القوة الذي

٢٧٤

تحتله طبقيا على تدمير من لا يستجيبون لرغباتها ، فتهدد بالسجن ، وبالإذلال ، وبكل ما تملكه من وسائل الضغط.

* * *

صموده عليه‌السلام أمام إغرائها دفعها لتبرئته

إنها شخصية امرأة العزيز التي تبلورت في صراع الغريزة الذي خاضته مع يوسف ، وفي صراع ردّ الفعل الذي مارسته مع صويحباتها من نساء المدينة ، اللواتي تناولنها بأحاديث السوء ، ولكن زهو شخصيتها يتضاءل في نهاية المطاف أمام شخصية يوسف القوية الصامدة في مواجهة كل أساليب الإغراء التي مارستها لجذبه ، وكل وسائل التهديد التي استعملتها ضدّه ، فيتكلل صموده بالنجاح حين تقف أخيرا أمام الملأ لتعلن براءته ، ولتعترف بالممارسات السيئة التي قامت بها ضد يوسف ، انطلاقا من خلفيات سيئة تثيرها الأهواء ، وتحرّكها الشهوات.

* * *

مخاطرة الخلوة

وقد نجد في أجواء هذه الإنسانة اللعوب ، بعض ما يبرّر تصرفاتها السيئة ، فقد يكون في وجود الشاب الساحر ، الفائق الجمال ، الدائم في كل أوقات الليل والنهار داخل البيت ، وفي غياب زوجها الذي قد يكون بارد العاطفة تجاهها ، بعض الإثارة المتحركة المتجدّدة ، التي ما إن تبرد حتى تلتهب ، وما إن يضبطها العقل حتى تطغى عليها العاطفة. وهكذا حتى سيطر

٢٧٥

عليها شيطان الغريزة بتهاويله المتنوعة ، بعد أن شجعها موقع يوسف الضعيف منها بصفته عبدا وخادما مضطرا للاستجابة لرغبات سادته ، وموقعها منه كسيدة آمرة قادرة لا ترد طلباتها ممن حولها ، فكيف يمكن لعبدها أن يرد شيئا لها؟

إننا لا نعتبر في ذلك مبرّرا بمستوى الحجة ، لأن الله جعل للعقل المؤيد بالرسالات قوّة التحكم بحركة الجسد وباندفاعه نحو الغريزة ، ولكننا نعتبره نوعا من أنواع الضغط الذي قد يضعف مقاومة الإنسان ، ويشلّ الإرادة. ولهذا كره الإسلام خلوة الرجل بالمرأة ، لأن الشيطان سيكون ثالثهما في ما تمثله الغريزة من وسوسة الشيطان.

وربما نجد ما يماثل ذلك الجو في ما استحدثه الناس من جهة استخدام الرجال داخل البيوت ، واستخدام النساء في الإدارات ، وهذا ما أدى إلى زيادة الاختلاط ، وكثرة فرص الخلوة ، بين الذكر والأنثى ، واستثارة الغرائز ، كما أدّى إلى الكثير من انحرافات الشباب والفتيات من الأولاد والبنات والزوجات والأزواج ، وحدوث المشاكل الكثيرة على أكثر من مستوى.

* * *

الحذر من الانسياق وراء الانحراف

وهذه مشكلة تواجه المجتمع المسلم عند ما يأخذ بقيم المجتمع الكافر ، فيعيش الازدواجية بين ما تفرضه القيم الجديدة في حياته من أوضاع ، وما تثيره القيم الإسلامية في فكره وشعوره ، من أحاسيس وأفكار ، وبذلك يبدأ الصراع في الداخل ، ليفسد على الإنسان سلامه النفسي ، وفي البيت ، ليحطّم سلامه العائلي ، وفي المجتمع ، ليهدّم علاقاته الاجتماعية الخاضعة لضغط التقاليد

٢٧٦

والأوضاع العامة.

وهذا ما ينبغي للمسلمين أن يفهموه ويحذروه عند ما يريدون العيش في المجتمعات المنحرفة ، كيلا ينساقوا وراء الصراعات الجديدة بشكل لا شعوريّ ، عند ما يواجهونها بطريقة تجزيئية ، دون ربطها بالهيكل العام وبموقعها من التخطيط الاجتماعي ، حيث الجذور العميقة لحالات الانحراف ، لأن لكل عادة أو تقليد ، امتدادا في بنية المجتمع الذي يتبناها ، فلا يمكن لنا أن ننقل عادة معينة مزروعة في مجتمع خاضع لعقيدة معينة ، إلى مجتمع آخر خاضع لعقيدة أخرى ، لأن ذلك سوف يسيء إلى الجو العام للمجتمع ، ويفسده بطريقة لا شعورية.

* * *

الاستفادة من التجربة

إنها قصة مليئة بالمواقف السلبية والإيجابية التي تحفل بها حركة الإنسان في الحياة ، فلا بد للقارىء من التفكير فيها ، والتدبّر العميق لأحداثها ومدلولاتها ، من أجل الاستفادة من التجربة التاريخية ، في إغناء التجربة المعاصرة والمستقبلية ، لتحقيق التوازن الإنساني في الحياة ، على هدى الإسلام في فكره وتشريعه وأخلاقيته.

* * *

٢٧٧

الآيات

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٠٧)

* * *

معاني المفردات

(غاشِيَةٌ) : الغاشية : العقوبة الشاملة.

(تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) : القيامة.

(بَغْتَةً) : فجأة.

* * *

٢٧٨

نجاح الدعوة يحتاج للإعداد والصبر

... وهذه نقلة جديدة إلى الجوّ العام الذي يعيشه الإنسان في مواجهة الدعوة إلى الإيمان ، وذلك في الحالات التي يجري التحرك خلالها بسلبيّة قلقة لا ترتكز على أساس موضوعيّ ، أو ركن وثيق ، وهذا ما يجب أن يعيه الداعية إلى الله ، في تعامله مع الواقع المهتزّ من حوله ، ليواجهه من موقع الثبات ، لا من موقع الاهتزاز.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) لأن قضية الإيمان لا تتعلق فقط بما يعيشه الداعية الرسالي من حرص على النجاح في دعوته ، في ما يقدمه من أفكار ، وفي ما يثيره من أجواء ، وفي ما يبدعه من وسائل وأساليب ، بل القضية تخضع لعوامل أخرى ، تعود إلى طبيعة الوضع النفسي والفكري الذي يعيشه الناس الذين يدعوهم ، فقد يكون ضغط الواقع على قرارهم ، أكثر من ضغط الفكرة الرسالية ، وقد تقف العوائق الذاتية ، سدا منيعا يحول بينهم وبين الاستجابة للدعوة ، وقد يتم الاصطدام ببعض الظروف الموضوعية التي يتحرك من خلالها الإنسان ، في لعبة القوى الموجودة في الساحة ، وما تحدده من ميزان القوة والضعف ، تبعا لذلك.

وهكذا نجد أن على الداعية الرسالي ، ألّا يصاب بالإحباط ، أو يسقط أمام محدودية النتائج التي نحققها على مستوى عدد المستجيبين لدعوته ونوعيتهم ، في بداية الأمر ، لأن مشروع التغيير الفكري والعملي للحياة وللناس ، ليس بالأمر السهل الذي يمكن أن يتم ، بين عشيّة وضحاها ، تحت تأثير خطبة طويلة ، أو موعظة بليغة ، أو تحليل إسلامي دقيق ، أو غير ذلك من وسائل التوعية ، بل هو أمر يتعلق بالواقع الموضوعي ، للإنسان في فكره وعاطفته وحياته وظروفه المتحركة في أكثر من اتجاه ، مما يتطلّب إعدادا

٢٧٩

للإنسان ، وللساحة ، وسيطرة على الظروف ، وتحريكا للعوامل الإيجابية في الساحة ، ومواجهة للعوامل السلبية ، وصبرا طويلا ، يجتاز كل الصعوبات ويواجه كل العقبات بالنّفس الطويل. فقد تمر السنون على الداعية دون أن يقطع شوطا كبيرا نحو الهدف ، وقد لا يجد من حوله إلا أعدادا قليلة ممن استجابوا لدعوته ، واهتدوا بهداه ، والتزموا بمسيرته.

* * *

فشل التجربة لا يعني فشل الفكرة

إن التغيير حركة في مواجهة تيّار عنيف ، لا بد للذين يحرّكونه ، أو يتحركون فيه من أن يعرفوا أن اندفاعة التيار قد لا تسمح إلا بخطوات قليلة متقدمة إلى الأمام ، وقد تفرض ، في بعض الحالات الانكفاء إلى الخلف تحت ضربات التيار. ولكن العضلات القوية التي تتقبّل الضربات بصلابة ، والإرادة الحاسمة التي تواجه الضغط باندفاع وتحدّ سوف تستطيع أن تقهر التيّار ، ولو بعد حين.

فمن الواجب أن تستمر المواجهة ولا تسقط تحت تأثير الهزائم أو حالات الفشل المحدودة ، لأن الهزيمة في موقع لا تعني هزيمة الساحة ، ولأن الفشل في التجربة ، لا يعني فشل الفكرة.

* * *

أجر الداعية على الله

(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) إن عليك أن تتابع مسيرتك مهما لاقيت من

٢٨٠