تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ١٢

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٠٢

الله بالمطر الذي يروي الأرض ، ويغذي الينابيع ، ويرفد الأنهار ، فتخصب الأرض وتخضر وتؤتي أكلها في كل موسم ، وينصرف الناس إلى استغلال خيرات الأرض بعصر الثمار وصناعة الدهن والشراب وغير ذلك ، وتنكشف الغمة وترجع الحياة إلى طبيعتها ، بعيدا عن كل العوامل الطارئة التي تمنع الأرض خصبها ، والسماء بركاتها.

* * *

خطة يوسف لاجتياز الأزمة

وربما احتمل بعض المفسرين ، ألّا يكون يوسف في موقف المفسّر للحلم الذي رآه الملك بشكل مباشر ، بل كان في موقف الموجّه إلى ما يجب أن يفعله في السنين السمان والعجاف ، ولهذا كان خطابه لهم أن يزرعوا دأبا ، ثم أمره أن يذروه في سنبله ، ولا يستثنوا منه إلا القليل مما يأكلونه ، وبأن يدخروا منه في السنوات العجاف القليل مما يحصنونه ، ثم ينتهي ذلك الكابوس فلا يحتاجون عند ذلك إلى ممارسة أي تحفظ غير عادي.

وهذا توجيه قريب إلى الجوّ التعبيري في الآيات ، وربما قصد من ذلك الإيحاء بأنه يملك الخطة التي تنظّم لهم اجتياز الأزمة الخانقة في زمن الشدّة ، عبر تحقيق التوازن في زمن الرخاء ، كوسيلة من وسائل دخوله في الموقع الاجتماعي من مركز قوة.

* * *

٢٢١

الآيات

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٣)

* * *

معاني المفردات

(ما بالُ النِّسْوَةِ) : أي ما شأنهن.

(ما خَطْبُكُنَ) : الخطب : الأمر الذي يعظم شأنه.

(حَصْحَصَ) : بانت حصة الحق.

* * *

٢٢٢

تفسير الحلم أثار اهتمام الملك

وجاء هذا الساقي بالتفسير الموجّه للحلم الملكي الذي أثار في وجدان الملك الإحساس بخطورة الوضع الاقتصادي لحياة الناس مستقبلا ، إذ سيتراوح وضعهم بين التخمة ، والمجاعة ، كما يبين الحلم الغريب ، وربما شعر بأن هذا الرجل الذي أعطى التفسير لهذا الحلم ، يملك فكرا عميقا ، وذهنا منفتحا أثار في نفسه الرغبة في التعرّف إليه ، والاستفادة منه ، والاستعانة به في مواجهة المشاكل التي يمكن أن تطرأ مستقبلا ، ولعله ربط بين تفسير الحلم في هذا الاتجاه ، وبين خبرته في هذا المجال ، وهكذا أبدى رغبته في استقدامه إليه ، وإخراجه من ظلام السجن.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) لأعرف تفاصيل هذا التفسير ، فإن الذي أطلق الفكرة من خلال الحلم لا بد أن يكون مطّلعا على تفاصيلها ، لا سيّما في ما نلاحظه من خطورة المستقبل الذي يطلّ عليه. وذهب الرسول يستدعي يوسف ، إلى الملك ، ويستحثه للخروج من السجن والقدوم إلى أجواء الحرية ، حيث ينتظره جاه عريض قد يحصل عليه بحظوته لدى الملك الذي استطاع أن يثير اهتمامه الكبير.

* * *

يوسف عليه‌السلام يطالب بإظهار براءته

على أن يوسف الذي شعر أن المستقبل ينتظره من موقع الحاجة إلى ما يحمله من معرفة لم يلهث وراء ذلك كله ، ولم ينبهر به ، لأنه يعرف أن الله الذي علّمه تأويل الأحلام ، هو الذي يدبّر أموره ، فيعزّز له مواقعه في هذه الساحة وفي الساحات الأخرى ، ولهذا تحدث مع الرسول من موقع الإنسان الواثق بنفسه وبدوره ، من خلال ثقته بربه ، فأراد أن يبرز من موقع الماضي

٢٢٣

النظيف الطاهر الذي حاولت امرأة العزيز وصويحباتها ، أن يشوّهنه بالأساليب الإعلامية المضادّة التي حاولت إظهاره كإنسان يتحرّك من مواقع الغريزة الجنسية ، ليعبث ويراود ويستجيب للمراودة ويعتدي ، ويدخل السجن بسبب ذلك ؛ لقد أراد أن يخرج من السجن خروج الأبرياء الذين دخلوه ظلما دون أيّ ذنب ، لأن الذنب الذي نسب إليه لا يمثل شيئا من الحقيقة.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وطلب منه المجيء إلى الملك والاستجابة لرغبته في الحضور عنده ، (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) وسيّدك ، وبلّغه أني لن أخرج من السجن إلا بعد أن يظهر براءتي من التهمة التي وجّهت إلي ، (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) وأردن منه الاستجابة لرغبتهن ، وعند ما رفض ذلك كدن له ، بتلفيق تهمة الاعتداء ضدّه ، (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فهو يعلم خفايا أمورهن ، وأسرارهن والإساءة له.

* * *

حصحص الحق وظهر

وأرسل الملك في استدعاء النسوة ، ومن بينهن امرأة العزيز (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) هل رأيتن فيه سوءا واستجابة لهذا النوع من الإغراء؟ وهل قام بمبادرة معيّنة في هذا الاتجاه؟ فليس من الطبيعيّ ألّا يكون له دخل في هذا الجو العابق بالشهوة والإغراء ، ما شأنكن في ذلك كله ، وما دوركنّ فيه؟ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) فلم تكن المراودة منّا له نتيجة لقبوله بذلك ، واستعداده للتجاوب ، لأننا لم نلمح في نظراته وفي حركاته ، وفي طريقته في الكلام ، وبالتصرف أيّ شيء يوحي بالسوء من ناحية الأخلاق ، فقد كان بناؤه الأخلاقي ثابتا متينا ، وبهذا برّأن يوسف من كل ما نسب إليه.

وتوجهت الأنظار إلى امرأة العزيز التي لم تعبّر بعد عن نظرتها

٢٢٤

للمسألة ، وهي المسؤولة الأولى عما حصل ، ولكنها عاشت يقظة ضمير ، ووقفت وجها لوجه أمام الحقيقة ، (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) وظهر ، ولا بدّ لي من الاعتراف به ، لما أعيشه من تأنيب الضمير ، نتيجة ما سببّته له من آلام ومشاكل خارج السجن وداخله ، جراء الاتهامات الباطلة التي نسبتها إليه في محاولة الاعتداء عليّ ، (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في نفيه التهمة عن نفسه ، وإثباتها عليّ ... وهكذا حصل يوسف على الاعتراف الواضح الصريح بشكل لا يقبل الشك ، (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ولم أتحدث عنه بسوء في غيبته ، فلم يحصل مني ضدّه أي كلام سيئ إلا ما قلته في حضوره في بداية الأمر ، فقد أخطأت معه ، ولكني لم أخن سمعته ، لأني أعلم أن الخيانة لا تجدي نفعا ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) بل يكشف كيدهم بأكثر من وسيلة ، فيقفون في موقف الخزي والعار أمام الجميع ، وهذا ما لا أريده لنفسي.

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) في ما عملته وأقدمت عليه ، لأنها ككل النفوس التي تتحرك فيها الغرائز ، وتثور فيها الشهوات لتدفع أصحابها إلى الخطيئة ، (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) بما يكمن في داخلها من نوازع السوء وتهاويله ، (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) في ما يعصم الإنسان ، ويثيره في نفسه من عوامل الهداية ، (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الذنب لمن تاب وأناب إليه ، ويرحم عبده الذي يسقط أمام نقاط الضعف ، ثم يحاول أن يستقيم ليتابع السير في خط الطاعة والإيمان.

* * *

يوسف عليه‌السلام يخضع المجتمع لإيمانه القوي

وهكذا وقفت هذه المرأة المتمرّدة المتعالية ، خاشعة أمام الله ، في موقف نقد ذاتيّ يدفعها إلى الجهر بالحقيقة التي كانت تحاول إخفاءها وإلصاق التهمة

٢٢٥

بيوسف ، مرتكزة في ذلك على القيم الفاسدة للمجتمع التي تعطي للقويّ الحقّ في إلصاق التهمة بالضعيف ، وإدخاله السجن على ذنب لم يرتكبه ، ويبقى القوي خارج دائرة الإدانة ، لأنه فوق مستوى الاتهام ، على أساس التقاليد الطبقيّة ، التي تجعل العدالة خاضعة للتمييز العنصري ، وقد كان لثبات يوسف بإيمانه القويّ ، وشعوره بالقوّة الكبيرة داخل ذاته ، وإصراره على تحمل أقسى الآلام مستقيما على خط الرسالة أكبر الأثر في إخضاع المجتمع ، الذي تمثل امرأة العزيز القمّة فيه ، كما أضاف حاجة الملك إليه ، عنصر قوة جديدة إلى رصيده قرّبه من مستوى الطبقة التي أدانته إن لم ترفعه فوقها ، مما أحدث هزّة عنيفة في داخل الشعور ، وحركة يقظة في أعماق الضمير ، وهذا ما ساهم بإيضاح الحقيقة وإعلانها أمام الملأ ، لا سيّما أن الملك يريد ذلك.

ولم تقف القضية عند حاجة الملك ، بل امتدّت إلى داخل الروح ، لتتحوّل إلى حالة مناجاة ذاتية ، تضع الظاهرة المنحرفة في موقعها الطبيعيّ من حركة الغرائز في داخل الجسد وحركة الانحراف في واقع النفس ، لأن الغرائز عند ما تستيقظ في الجسد وتلتهب ، توحي للنفس بمختلف الأفكار والأهواء ، وتدفعها إلى التمرد والعصيان والانحراف ، ولكنها لا تقف أمام ذلك ، في دائرة القضاء الحتميّ الذي لا فكاك منه ، بل يمكن لها أن تتحرر منه في آفاق رحمة الله التي توحي للنفس بالهداية ، وللخطوات بالاستقامة ، وللإرادة المنحرفة بالتراجع نحو الإرادة المستقيمة ، وهذا ما يعيشه الإنسان بين يدي الله في وقفته الخاشعة في حالة التوبة التي تتعلق بمغفرة الله ورحمته ليفسح لها المجال في رضوانه ، ويقبلها في خطّ هداه.

وقد نستوحي من موقف يوسف المتعالي على السجن ، الواثق بنفسه ، كيف يمكن للمؤمن العامل في سبيل الله ، الداعي إلى دينه ، أن يملك الإصرار على موقفه ، في مواقع التحدي ، ويتحمل الألم والحرمان ، ليعطي الصورة الواضحة عن قوّة الموقف الإيماني المرتكز على العقيدة الحقّة ، وليدفع

٢٢٦

الآخرين إلى التراجع عن مواقفهم المهزوزة ، والانتقال إلى الخط الصحيح الذي يؤديّ بهم إلى الخير والرحمة والفلاح.

* * *

٢٢٧

الآيات

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧)

* * *

معاني المفردات

(أَسْتَخْلِصْهُ) : أجعله خالصا لنفسي.

(مَكِينٌ) : المكين : صاحب المكانة والمنزلة.

* * *

الملك يستخلصه لعلمه وأمانته

... وهكذا برز يوسف كشخصية مميّزة أمام الملك ، فهو يملك العلم والخبرة اللذين يؤهلانه للتخطيط للحكم ، وللدولة بشكل سليم ، كما يملك

٢٢٨

الطهارة الأخلاقية ، والعمق الروحي اللذين يساعدانه على سلامة التنفيذ ، دون أيّ خلل أو انحراف ، مما يضيف قوّة جديدة للحكم متمكنة من إدارة الدولة بطريقة ناجحة ، ومعالجة للمشاكل الصعبة ، والأزمات الخانقة. وهكذا فكر الملك أن يستدعيه ليساعده على إدارة أمور الدولة.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) لأني بحاجة إلى العقل الذي يفكر ، والإرادة التي تحسم ، والأمانة التي تحفظ ، والوداعة التي تحب وترعى وتحنو ، وهذا ما لم أجده لدى كثيرين ممن يجتمعون حولي لأجل أطماعهم وشهواتهم ، إذ إن قربهم من الحاكم يتيح لهم بعض فرص الحكم للعبث والسرقة والظلم ما توفرت الفرص المناسبة لذلك. وجاء يوسف بعد أن حصل على البراءة من التهمة التي ألصقت به ، ليتحمل المسؤولية من موقع التاريخ المشرق الطاهر الذي لا يلوثه جموح الغرائز في اتجاه الجنس المنحرف ، ولا يسقطه الضعف المتهالك أمام حالات التحدي.

لقد جاء يحمل في شخصيته ، الوعي والقوة والثقة بالموقع وبالنفس ، وبالروح التي تشعر بأنها ليست بحاجة إلى الآخرين ، لتسقط أمام رغباتهم ، بل إن الآخرين هم الذين يشعرون بالحاجة إليها ، لتفرض عليهم شروطها. وهكذا قابل يوسف الملك ، الذي عبّر أمام الناس أنه يريد أن يستخلصه لنفسه ، ليستفيد من طاقاته أعظم استفادة ، (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) عرف طبيعة القوّة التي يتمتع بها ، والعقل الذي يحمله ، والشخصية الصلبة التي يملكها ، (قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) فلك المكانة التي تتيح لك تنفيذ كل رغباتك ، ولك منا الثقة التي تجعلنا نأتمنك على كل شيء ، فاطلب ما تريد من مواقع المسؤولية ، لأنك تعرف حجم قدراتك وطبيعة خبرتك في إدارة أمور المجالات التي ترتئيها.

لقد أراد أن يتحمل المسؤولية ، التي لم يطلبها يوسف لنفسه ، بل كانت

٢٢٩

تكليفا من الملك في ما نستوحيه من التأكيد على مكانته المفضلة لديه ، وإعلانه الثقة بأمانته. وهكذا اقترح يوسف عليه أن يعهد إليه بمسؤولية الجانب الاقتصادي ، لأنه يملك المؤهلات والخبرة التي تمكنه من إنجاح خطته المرسومة لتخفيف الأعباء الثقيلة التي تواجه البلد ، (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وهكذا طلب من الملك أن يعهد إليه أمر حفظ وتدبير الشأن المالي على مستوى الصرف والرعاية ، وإدارة الموارد والمصادر ، بما يملكه من علم ، وكأنّه يريد أن يقول له : إنه سيكون في مستوى الثقة التي وضعها فيه.

وهكذا كان ، فقد عهد إليه الملك إدارة الشؤون الاقتصادية للبلد ، وأصبح بذلك في موقع كبير يستطيع من خلاله ، تحقيق هدفه في إقامة العدل ، ورعاية المستضعفين ، فهو ليس من الذين يزحفون إلى المواقع المتقدمة في المجتمع ، أو في الدولة ، لأجل طموحات ذاتية ، ولو كان يسعى إلى شيء من هذا القبيل لاستطاع تخفيف الكثير من الآلام التي تحملها في السجن ، وفي خارجه كي يبقى في ساحة الإيمان ، بعيدا عن كل أجواء الانحراف ... إنه صاحب رسالة ، ولهذا فإنه يعمل على توفير الامتداد لها في حياة الناس من خلال بعض المواقع المتقدمة في الدولة.

* * *

بين الإصلاح الجزئي والحل الشامل

ونستطيع أن نستوحي من هذا الموقف ، أن بإمكان المؤمنين الاستفادة من بعض الفرص السياسية والاجتماعية التي تمنحهم حرية الحركة ، وتسهّل لهم أمر تطبيق مبادئ الإسلام في بعض مجالات الحياة ، فلا يجب عليهم ـ من وجهة النظر هذه ـ أن ينتظروا إقامة الدولة التي تخطط للساحة كلها ، بل يمكنهم أن يعملوا على سدّ بعض الفراغات ، وحلّ بعض المشاكل ، واحتلال

٢٣٠

بعض المواقع ، التي تمكّنهم من إصلاح بعض قضايا الواقع ، لأن الله يريد للإنسان أن يساهم في حل ما يمكن حلّه ، دون انتظار للحل الشامل.

ولكنّ سلوك مثل هذا التوجه ، يتوقف على ألّا تكون فرصة الحل الكامل جاهزة على الطريق ، ولا تحتاج سوى بعض الخطوات التنفيذيّة للوصول إليها ، فإن الموقف حينئذ يتبدل باتجاه العمل على رفع كل الحواجز التي تعيق الوصول إلى الهدف الكبير ، وبذلك يكون الإصلاح الجزئي عملا غير صحيح ، لأنه يعطّل الحركة السريعة نحو تحقيق النتائج الكبيرة ، ويجمّد حالة التوتر الضروري لدفع عملية الوصول. إننا نريد استيحاء هذا المبدأ من قصة يوسف ، في مواجهة الرأي القائل بضرورة الابتعاد عن مؤسسات المجتمع غير المؤمن ، ويؤكد على الثورة الشاملة ، ويرفض الإصلاح الجزئي بقطع النظر عن الظروف التي قد تفرض تأخير الوصول إلى الثورة الشاملة.

* * *

سر العبودية ومكانة يوسف عليه‌السلام

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) بما استطاع أن يحصل عليه ـ من خلال العناية الإلهية التي شملت تاريخه ـ من سلطة مطلقة في أمور الدولة ، بحيث أصبحت الأرض ، هناك ، تحت سلطته ، له أن يتحرك فيها حيث يشاء بوصفه حاكما مطاعا يخضع الجميع لإرادته. وتلك هي رحمة الله التي يشمل بها عباده المؤمنين الذين يخلصون له العبودية ، ويلتزمون خط الطاعة ، فلا ينحرفون تحت عوامل الإغراء أو القهر أو التهديد ، (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) لأن الأمر لله في كل شيء فإذا أراد شيئا تحقق ، (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين أحسنوا لله القول والعمل ، فأثابهم الله برحمته التي تتسع لكل خير في دنياهم في ما يمكّن لهم من الملك أو في ما يحلّ لهم من المشاكل ، (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) لأن أجر الدنيا زائل ،

٢٣١

مهما كان كبيرا وعظيما ، بينما يشمل أجر الآخرة كل حياة الإنسان في النعيم الخالد ، في رحاب الله التي لا نهاية زمنية لامتدادها.

وهذا ما ينبغي للمؤمنين أن يفكروا به ، كهدف كبير من أهداف تضحياتهم الكبرى ، وذلك بأن يحصلوا على ثواب الله في الآخرة ، لأنه الثواب الباقي ، ولا يجعلوا من ثواب الدنيا كل همّهم بل بعضا من ذلك ، فالإخلاص لله لا ينفي أن يطلب الإنسان الدنيا من الله ، كما يطلب الآخرة منه ، لأن سرّ العبودية هو أن تخضع لله ، باعتباره المرجع الوحيد لك في كل طلباتك ، دون فرق بين أن تكون طلباتك للدنيا أو للآخرة ، مع التأكيد على القيمة الكبيرة لثواب الآخرة مقابل ثواب الدنيا. وبذلك يحقق الإيمان العملي لحياة الإنسان التوازن بين حاجات الجسد ، وأشواق الروح ، ويحتوي تطلعاته ، في آفاق الدنيا ، ورحاب الآخرة ، فلا يعزله عن اهتمامات الدنيا ، شريطة أن تكون مرتبطة خطا وهدفا بالآخرة ، كقيمة تحكم الواقع لتبعث فيه الروح وتمنع عنه التجمد في نطاق المادة.

ولا بد للمؤمنين ـ من ناحية أخرى ـ أن يضعوا في حساباتهم بأن القرب من الله ، والتمتع بفيض رحمته وإحسانه ، يتوقف على أن يعيش الإنسان الإحسان في قوله وفي عمله ، لأن الله يجازي الإحسان بالإحسان ، فلا يمنع رحمته عن المحسنين.

* * *

٢٣٢

الآيات

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢)

* * *

معاني المفردات

(مُنْكِرُونَ) : لم يعرفوه.

(جَهَّزَهُمْ) : حمّلهم الجهاز ، وهو ما يعد من متاع وغيره ، والمراد به هنا الطعام الذي جاءوا من أجله.

(رِحالِهِمْ) : الرحال : جمع رحل ، وهو ما يوضع على ظهر الدابة كالسرج ، والمراد به هنا : أوعيتهم التي توضع فوق السرج ونحوه.

(انْقَلَبُوا) : رجعوا.

* * *

٢٣٣

السنوات العجاف

... ومرت الأيام .. وابتعد يوسف عن أهله .. وابتعدوا عنه .. وربما نسيهم بعد انقطاع أخبارهم عنه ، وربما نسوه بعد انقطاع أخباره عنهم .. وتحول الجميع لدى بعضهم البعض إلى ذكرى تغيب عن الفكر أمام ضغط الأحداث المتلاحقة.

وجاءت السنوات العجاف ، وأجدبت الأرض ، وقلّ النتاج أو انعدم ، وضاقت أحوال الناس في أرضهم ، وبدأوا يبحثون عن الطعام في مناطق أخرى لم يزحف إليها الجدب ، أو لم يترك أثره الكبير عليها. وكانت فلسطين التي يقيم فيها النبي يعقوب وأهله ، إحدى المناطق التي عرض عليها الجدب ، واشتد فيها الأمر على الناس ، وربما سمعوا أن عزيز مصر قد فتح خزائن الطعام للناس ، وأنه يوزعها بينهم بطريقة عادلة ، وقد كانت مصر الخصبة في أرضها ونيلها سوقا للمناطق القريبة منها. وهكذا أعدّ إخوة يوسف العدة للسفر إليها ، ليجلبوا منها الطعام إلى أهلهم ، وذلك بطريقة تجارية يستبدلون فيها بضاعة ببضاعة ، أو بنقد.

* * *

وجاء إخوة يوسف عليه‌السلام

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) لأنه كان المسؤول الأوّل عن توزيع الطعام ، بناء على الخطة الاقتصادية التي وضعها ، مما يفرض أن يكون المشرف على عملية التنفيذ ، فكان يستقبل القادمين للشراء ، ويتفاوض معهم على مقدار ما يطلبونه من طعام ، وما يدفعونه من سعر ، (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) لأنه كان صغيرا عند ما فارقوه ، وربما تغيّر الكثير من ملامحه الظاهرة ، وربما لكونهم لا يحتملون وجوده في هذه المواقع ، لأن طبيعة الظروف التي أحاطت به لا تسمح بذلك ، لا سيما وأن القافلة التي عثرت عليه

٢٣٤

باعته ، كعبد في أسواق النخاسة ، الأمر الذي جعلهم يستبعدون الفكرة حتى لو قربتها إلى أذهانهم بعض الملامح البارزة في وجهه. ومن المعلوم ، أن عملية الاستذكار ، تحتاج إلى حالة ذهنيّة معينة قادرة على ربط معطيات الماضي بالحاضر ، وإلا بقي الواقع مجرد حالة حيادية لا توحي إلّا بما يتحرك حولها من أحاسيس محدودة بالحاضر. أما بالنسبة ليوسف ، فقد كانت ملامحهم في ذهنه ، لأنهم كانوا كبارا عند ما فارقهم ، ولم يحدث في حياتهم تغيير يذكر ، يبعد الصورة البارزة لديه. لهذا كانت رؤيته لهم ، بمثابة الصدمة التي أعادته إلى الماضي ، وربّما يكون قد ساهم في ذلك أنهم كانوا قد ذكروا أسماءهم ، ومواقع بلادهم عند قدومهم ، فمن المتعارف لدى الناس ، سؤال الغرباء عن هويتهم وبلادهم.

وهكذا عرضوا على يوسف ، ما جاءوا لأجله فقدّم لهم كل ما يريدون ، وزاد لهم في الكيل ، وأكرم وفادتهم. وربما كان من الطبيعيّ ، أن يدور بينه وبينهم حديث عن حياتهم وعن أبيهم وأهلهم لاتصال ذلك باهتمامات يوسف ، فلا بد له أن يسأل ، بعد أن عرفهم ، عن التفاصيل التي تهمه من أمرهم ، ومن أمر من يحبهم ، بالطريقة التي لا تثير انتباههم واستغرابهم ، وقد يكون الحديث قد وصل بهم إلى ذكر أخ شقيق لهم وآخر غير شقيق عند ما حدثوه عن عددهم ، وعن أشياء أخرى لم يتعرض لها القرآن ، لأن أسلوبه ، في القصة ، يتناول المواقف المهمة في حركة الشخص أو القضية دون الدخول في التفاصيل الصغيرة.

* * *

طلب أخاه وعمّق الثقة معهم

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) وأرادوا أن يرحلوا إلى بلادهم ، وجاءوا

٢٣٥

ليودّعوه ، وعرف منهم أنّهم سيعودون من جديد ، ليأخذوا مقدارا آخر من الطعام ، لأن مشكلة فقدان الغذاء التي يعيشونها ستستمر لفترة طويلة ، (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) لأتعرف عليه ، كما تعرّفت عليكم ، ولأكرم وفادته كما أكرمت وفادتكم ، لأن هذا التعارف بيننا قد أوجد رابطة وثيقة ، لا بد لها أن تمتد إلى جميع أفراد العائلة ، (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) فقد أعطيتكم حقكم وافيا ، ولم أستغل حاجتكم إليّ ، لأنقص كيلكم ، كما يفعل المحتكرون ، (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) باستضافتي لكم في المنزل الرحب الذي وجدتم فيه كل إعزاز وإكرام ... (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) فهذا هو شرط استمرار التعاون بيننا ، فامتناعكم عن المجيء به إليّ ، لأتعرّف عليه ، يوحي بعدم الثقة بي ، ويدلّ على عدم احترامكم لطلباتي التي أحاول من خلالها توثيق الصلة بكم. لعلّ إخوة يوسف قد استغربوا هذا الطلب ، أو فهموه كدليل من دلائل المودّة التي يظهرها يوسف لهم ، وأثاروا الحديث معه ، حول صعوبة تنفيذ هذا الطلب ، لأن هذا الولد محبوب لدى أبيه إلى درجة عدم مقدرته على مفارقته ، وقد لا يثق بنا ، في المحافظة عليه ، لأنه أخ غير شقيق. ووعدوه بالتجربة لتحقيق طلبه (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) من أجل تنفيذ طلبك الهادف لتعميق الثقة بيننا ، واستمرار علاقتنا في المستقبل.

وأراد يوسف أن يؤكد الجو الحميم لعلاقته بهم ، ليدفعهم إلى العودة إليه ، بعد أن يؤكدوا طبيعة الصلة الوثيقة التي تربطه بهم لدى أهلهم ، (وَقالَ لِفِتْيانِهِ) الذين يساعدونه في إدارة عملية التجارة ، (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) وأرجعوها إليهم حتى يكون ما أخذوه مجانا (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) فيجدون فيها المفاجأة الكريمة التي توحي بالثقة ، وتدفع إلى العودة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلينا في سفرة جديدة.

* * *

٢٣٦

الآيات

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)

* * *

٢٣٧

معاني المفردات

(وَنَمِيرُ) : أي نجلب الميرة ، بكسر الميم ، وهي : الطعام.

(كَيْلَ بَعِيرٍ) : حمله.

(مَوْثِقاً) : عهدا.

(يُحاطَ بِكُمْ) : تغلبوا على أمركم.

* * *

أرسل معنا أخانا

... وعاد إخوة يوسف من مصر إلى بلادهم ، يحملون الطعام لأهلهم ، كما يحملون همّ إقناع أبيهم بإرسال أخيهم معهم إلى عزيز مصر ، ليتمكنوا من الاستمرار في التجارة الرابحة التي وجدوا فيها الحلّ لمشكلتهم الاقتصادية ، لأن توثيق العلاقة بالعزيز يسهل ذلك ، بينما يؤدي تعقيد العلاقة به ، إلى مزيد من الخسارة والحرمان. لقد كانوا يعيشون هذا الهمّ في نفوسهم ، لأنهم كانوا يعلمون أن أباهم لا يثق بأنهم سيحافظون على أخيهم ، فقد سبق أن وافقهم على خروج أخيهم يوسف معهم ، فجاءوا إليه في المساء ، يحملون قميصه الملطّخ بالدم الكاذب ، زاعمين أن الذئب قد أكله. ولكنهم اتفقوا على مواجهة الموضوع بحزم عاطفيّ معه ، مقتنعين بأنه سيخضع لهذا الطلب ، تحت تأثير الحاجة الناشئة عن الأزمة التي يعيشها الجميع.

٢٣٨

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ) واستراحوا إليه ، وأخذوا يحدثونه عمّا قالوه وما عملوه ، وما جاءوا به من الطعام ، وما لقوه من العزيز من حسن وفادة وجميل رعاية ، حتى إذا وصلوا إلى حديث العودة من جديد ، للحصول على ما يحتاجونه من الطعام مرّة ثانية ، بعد نفاد ما جاءوا به ، ذكروا له الشرط الصعب الذي اشترطه العزيز عليهم ، (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) في المرة الثانية ، إلا أن يكون معنا أخونا غير الشقيق ، ليكتمل عددنا أمام العزيز ، (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) الطعام الذي نحتاج إليه ، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للحصول على الكيل ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) في تأكيد يستهدف زرع الثقة في نفسه من خلال المواثيق التي يعطونها له ، لإذهاب القلق من نفسه.

* * *

الله خير حافظا

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) فقد أكدتم لي ما تحاولون تأكيده الآن بالأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ، وسقطت كل تأكيداتكم أمام المأساة التي لم تستطيعوا تقديم حجة قاطعة لي تثبت براءتكم منها في ما أقدمتم عليه ، أو في ما قصرتم به. ولكن ماذا أفعل أمام إلحاحكم الشديد ، في ظل ما نعيشه من أزمة خانقة ، لا تسمح لي بحرية اختيار ما أريده ، وما لا أريده. ولكن تعجّبي من هذا الشرط لا ينقضي ، فما علاقة العزيز بأخيكم ، وما دخل عملية الكيل التي هي عملية محض تجارية بهذا كله؟ فلأسلّم الأمر إلى الله ، فأرسله معكم ، مبتهلا إليه تعالى أن يحفظه من كيد الكائدين ، وبغي الظالمين ، فهو الملاذ في كل الأحوال ، (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فليس لنا إلا رحمته التي وسعت كل شيء ، منها وجودنا ومنها استمرار كل نعم الحياة حولنا.

* * *

٢٣٩

إعطاء المواثيق

وتمت المسألة بسلام ، وحصلوا على الموافقة ، التي أرادوها في شأن إرسال أخيهم معهم ، وبدأوا يفتحون الأكياس ، وهنا كانت المفاجأة ، فهذا هو متاعهم الذي دفعوه للعزيز بدلا عن الطعام الذي اشتروه منه بمثابة الحجة القاطعة على ما يؤكد الثقة بالعزيز ، وحسن إخلاصه لهم ، وأنه لا يريد بهم إلا خيرا ، (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) وما نريد أكثر من هذا الذي فاجأنا الآن ، ولم نكن على علم به عند ما فارقنا العزيز ، (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) فلننطلق على بركة الله من موقع الثقة ، بقلب قويّ مطمئن (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) ونجلب لهم الطعام ، (وَنَحْفَظُ أَخانا) بما نحفظ به أنفسنا من كل سوء ، (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) في ما نؤمله من كرم العزيز الذي شاهدناه ، (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) فقد كان القلق يفترس مشاعره ، ويأكل قلبه ، مما جعله يعيش الصراع بين الإذن لهم في اصطحابه معهم ، وبين الامتناع عن ذلك ، لأن تجربته السابقة معهم كانت حاضرة في ذهنه وقلبه وتوحي له بعدم الثقة بهم. إنه يبحث عن أساس للثقة ، لا مجال لتحصيله إلا بالكشف عن المستقبل من خلال الغيب ليحصل على الاطمئنان ، فطلب منهم أن يعطوه المواثيق على الالتزام بحمايته ، بكل ما يملكون من إمكانات ووسائل ، بحيث يستنفدون كل إمكاناتهم في هذا السبيل ، ولا يبقى لهم مجال لاستخدام أية وسيلة ممكنة إلا إذا كان هناك جمع كبير يحيط بهم مما لا يستطيعون الثبات أمامه ، وهذا ما يعذر به الناس في مثل هذه الأمور. وهكذا طلب منهم أن يحلفوا ، ويعطوا المواثيق والعهود على ذلك كله (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) فهو الشاهد على ذلك ، وهو الكفيل بإتمامه ، لأنه المهيمن على الأمر كله.

* * *

٢٤٠